فتح الباري لابن رجب

بسم الله الرحمن الرحيم

14 - أبواب الوتر

1 - باب
ما جاء في الوتر

فيه أربعة أحاديث:
الحديث الأول:

(9/96)


990 - حدثنا عبد الله بن يوسف: انا مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر، أن رجلاً سأل النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعه واحدة، توتر له ما قد صلى)) .

(9/96)


991 - وعن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر، حتى يأمر ببعض حاجته.

(9/96)


وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) –يعني: ركعتين ركعتين.
والمراد: انه يسلم في كل ركعتين، وبذلك فسره ابن عمر.
أخرجه مسلم في ((صحيحه)) .
ويدل بمفهومه على أن صلاة النهار ليست كذلك، وأنه يجوز أن تصلى أربعا.
وقد كان ابن عمر –وهو راوي الحديث – يصلي بالنهار أربعا، فدل على أنه عمل بمفهوم ما روى.
فروى يحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمر، عن نافع، أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار ((بأربعٍ)) ، لا يفصل بينهن.
وبهذا رد يحيى بن معين وغيره الحديث المروي، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) .

(9/97)


خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، من رواية شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن علي الازدي، عن ابن عمر.
وقد أعله الترمذي، بأن شعبة اختلف عليه في رفعه ووقفه.
وذكر الإمام أحمد: أن شعبة كان يتهيبه.
وأعله ابن معين وغيره، بأن أصحاب ابن عمر الحفاظ رووا كلهم، عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) ، من غير ذكر النهار، أكثر من خمسة عشر نفسا، فلا يقبل تفرد علي الازدي بما يخالفهم.
وأعله الإمام أحمد وغيره بأنه روي عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالنهار أربعاً، فلو كان عنده نص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخالفه.

(9/98)


وتوقف أحمد –في رواية، عنه – في حديث الأزدي.
وقال - مرة -: إسناده جيد، ونحن لا نتقيه.
وقد روي، عن ابن عمر موقوفاً عليه - أيضاً - ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) .
وروي عنه - مرفوعاً - من وجه آخر.
وقيل: إنه ليس بمحفوظ.
قاله الدارقطني وغيره.

(9/100)


وذكر مالك، أنه بلغه، أن ابن عمر كان يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين.
قلت: من يقول: لا مفهوم لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة والليل مثنى مثنى)) يقول: إن ذكر الليل إنما كان جوابا لسؤال سائل، سأل عن صلاة الليل، ومثل هذا يدفع أن يكون له مفهوم معتبر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد بوب البخاري في ((أبواب صلاة التطوع)) على أن ((صلاة النهار مثنى
مثنى)) ، ويأتي الكلام فيه في موضعه – إن شاء الله تعالى.
والكلام هنا في صلاة الليل.
وهذا الحديث: يدل على أن التطوع بالليل كله مثنى مثنى، سوى ركعة الوتر، فإنها واحدة.
وقد عارض هذا حديث عائشة الذي خرجه مسلم، خرجه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل

(9/101)


ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس في شيء منهن، إلا في آخرهن.
وقد تكلم في حديث هشام هذا غير واحد.
قال ابن عبر البر: قد أنكر مالك. وقال: مذ صار هشام إلى العراق أتانا عنه ما لم يعرف منه.
وقد أعله الأثرم، بأن يقال في حديثه: ((كان يوتر بواحدة)) ، كذا رواه مالك وغيره عن الزهري.
ورواه عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، وفي حديثهما: ((يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة)) .
وقد خرجه مسلم من طريقهما – أيضا.
وكذا رواه ابن أبي ذئب والأوزاعي، عن الزهري.
خرج حديثهما أبو داود 0
قال الأثرم: وقد روى هذا الحديث عن عائشة غير واحد، لم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه، من سرد الخمس.
ورواه القاسم، عن عائشة، في حديثه: ((يوتر بواحدة)) .
ولم يوافق هشاماً على قوله إلا ابن إسحاق، فرواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة – بنحو رواية

(9/102)


هشام.
وخرجه أبو داود من طريقه كذلك.
ورواه - أيضا - سعد بن هشام، عن عائشة، واختلف عليه فيه:
فخرجه مسلم من رواية قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أنه سال عائشة عن وتر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: كان يصلي تسع ركعات، لا يجلس إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثُمَّ ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يقعد، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني.
وفي رواية له: أن قتادة اخبره سعد بن هشام بهذا، وكان جاراً له.
وقد خرّجه أبو داود بلفظ آخر، وهو: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ثمان ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس فيذكر الله، ثم يدعو، ثم يسلم تسليماً، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة، فتلك إحدى عشرة ركعة.
وفي هذه الرواية: أنه كان يصلي الركعتين جالساً قبل الوتر، ثم يوتر بعدها بواحدة.
وهذا يخالف ما في رواية مسلم.
ورواه سعد بن هشام، عن عائشة، واختلف عليه في لفظه:

(9/103)


فروي عنه: الوتر بتسعٍ، وروى عنه: بواحدة.
ورواه أبان عن قتادة بهذا الإسناد، ولفظه: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث، ولا يقعد إلا في آخرهن.
قال الإمام أحمد: فهذه الرواية خطأ.
يشير إلى إنها مختصرة من رواية قتادة المبسوطة.
وقد روي في هذا المعنى من حديث ابن عباس وأم سلمة.
وقد تكلم الأثرم في إسنادهما.
وطعن البخاري في حديث أم سلمة بانقطاعه، وذكر أن حديث ابن عمر في الوتر بركعة أصح من ذلك.
وكذلك الروايات الصحيحة عن ابن عباس في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة بات عند خالته ميمونة، يدل عليه: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل ركعتين وأوتر بواحدة.
فلهذا رجحت طائفة حديث ابن عمر وابن عباس، وقالوا: لا يصلي بالليل إلا مثنى مثنى، ويوتر بواحدة.
وهذه طريقة البخاري والأثرم.
وقال ابن عبد البر: هو قول أهل الحجاز، وبعض أهل العراق 0
ثم حكى عن مالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد، أن صلاة الليل مثنى مثنى.
قال: وقال أبو حنيفة في صلاة الليل: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستاً وثمانياً، ولا تسلم إلا في آخرهن.
وقال الثوري والحسن بن حي: صلاة الليل ما شئت، بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن.

(9/104)


وحكى الترمذي في ((كتابه)) أن العمل عند أهل العلم على أن صلاة الليل مثنى مثنى.
قال: وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وحكاه ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وعمار، وعن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وسعيد بن جبيرٍ وحماد ومالك والأوزاعي.
وحكي عن عطاء، أنه قال: في صلاة الليل والنهار: يجزئك التشهد.
وهذا يشبه ما حكاه ابن عبد البر، عن الثوري والحسن بن حي.
وهو مبني على أن السلام ليس من الصلاة، وأنه يخرج منها بدونه، كما سبق ذكره.
وقد روي عن النخعي نحوه.
ومذهب سفيان الذي حكاه أصحابه أنه لا بأس أن يصلي بالليل والنهار أربعا أو ستا أو أكثر من ذلك، لا يفصل بينهنً إلا في آخرهن.
قال: وإذا صلى بالليل مثنى، فهو أحب إليّ.
وحمل هؤلاء كلهم قول عائشة: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي أربعا، ثم أربعا)) على أنه كان لا يسلم بينها، وسيأتي حديثها بذلك –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وحمله الآخرون على أنه كان يفصل بينها بسلام.
وهذا

(9/105)


كله في التطوع المطلق في الليل، فأما الوتر فاختلفوا فيه على أقوال:
أحدها: أنه ركعة واحدة، مفصولة مما قبلها، على مقتضى حديث ابن عمر، وبعض ألفاظ حديث عائشة.
قال ابن المنذر: [روينا عن ابن عمر، أنه] يقول: الوتر ركعة. ويقول: كان ذلك وتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر.
قالَ: وممن روينا عنه: الوتر ركعة: عثمان وسعد وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية وأبو موسى وابن الزبير وعائشة، وفعله معاذ القاري، ومعه رجال من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا ينكر ذلك منهم أحد.
وبه قال ابن المسيب وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق [أبو ثور، غير أن مالكاً والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق] رأوا أن يصلي ركعتين، ثم يسلم، ثم يوتر بركعة. انتهى.
وذكر الزهري وغيره: أن عمل المدينة كان على ذلك إلى زمن الخير.
وممن قال الوتر: ركعة –أيضاً -: فقهاء أهل الحديث، سليمان بن داود الهاشمي أبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم.
والأفضل

(9/106)


عندهم: أن يصلي ركعة يوتر بها بعد ركعتين.
أما إن اقتصر على ركعة يوتر بها، ففي كراهته قولان:
أحدهما: أنه يكره. وهو قول أحمد –في أكثر الروايات، عنه.
ويستثني من ذلك من يستيقظ قرب الفجر، ويخاف أن يطلع عليه الفجر، فيوتر بواحدة.
وهو قول إسحاق، قال: إلا من عذر مرض أو سفر.
وكذا قال أبو بكر من أصحابنا.
قال أحمد: إنما جاء الوتر بركعة بعد تطوع مثنى.
وقال سفيان: إن خشي الفجر فأوتر بواحدة أجزأه، والثلاث أحب إلينا.
ومذهب مالك: لابد أن يكون قبل ركعة الوتر شفع يسلم بينهما في الحضر والسفر.
وقال مجاهد: ما أحب إن يكون وتري إلا على صلاة.
وروى ابن عبد البر، بإسناد فيه نظر، عن عثمان بن محمد بن ربيعة، عن الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن البتيراء، أن يصلي الرجل ركعة واحدة، يوتر بها.
وعثمان هذا، قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم.
وقبله في

(9/107)


الإسناد من لا يعرف.
وقد روي هذا –مرسلاً.
خرجه سعيد بن منصور، من حديث محمد بن كعب القرظي –مرسلاً.
والقول الثاني: لا يكره.
وروي عن سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى، ومعاوية أنهم فعلوه.
وعن ابن عباس، أنه صوب فعل معاوية.
وقال أحمد –في رواية الشالنجي -: لا بأس به.
وهو قول الشافعي.
واختلف أصحابه: هل الركعة المفردة أفضل من ثلاث موصولة؟ على وجهين
لهم.
ومنهم من قالَ: المنفردة افضل من إحدى عشرة موصولة.
وقال الأوزاعي: حدثني المطلب بن عبد الله المخزومي، قال: أتى ابن عمر رجل، فقال: كيف أوتر؟ قالَ: أوتر بواحدة. قالَ: إني أخشى أن يقول الناس: إنها البتيراء. قالَ: سنة الله ورسوله – يريد: هذه سنة الله ورسوله.
المطلب، لم يسمع من ابن عمر.

(9/108)


وروى ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي منصور مولى سعد ابن أبي وقاص، قال: سألت ابن عمر عن الوتر، فقال: وتر الليل واحدة، بذلك أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: يا أبا عبد الرحمن، إن الناس يقولون: البتيراء؟ قالَ: يا بني، ليس تلك البتيراء، إنما البتيراء إن يصلي الرجل الركعة التامة في ركوعها وسجودها وقيامها، ثُمَّ يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا قياماً، فتلك البتيراء.
خرجهما البيهقي.
وأجاز أحمد وأصحابه وإسحاق: أن يوتر بثلاث موصولة، وأن يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن، وبتسع لا يجلس إلا في الثامنة، ولا يسلم ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يسلم؛ لما جاء في حديث عائشة المتقدم.
وجعلوا هذه النصوص خاصة، تخص عموم حديث صلاة الليل مثنى مثنى، وقالوا - في التسع والسبع والخمس -: الأفضل أن تكون بسلام واحد؛ لذلك.
فأما الوتر بسبع، فنص أحمد على أنه لا يجلس إلا في آخرهن.
ومن أصحابنا من قالَ: يجلس عقيب السادسة بتشهد، ولا يسلم.
وقد اختلف ألفاظ حديث عائشة في ذلك.
فأما الوتر بإحدى عشرة، فيكون بست تسليمات، وإن صلاه بتسليمة

(9/109)


واحدة، وتشهد عقب العاشرة، ولم يسلم جاز -: قاله بعض [....] .
ومنهم من حكى في الجميع وجهين:
أحدهما: أن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين، وصححه غير واحد من أصحابنا.
والثاني: الأفضل سرد الجميع بسلام واحد، ولا يجلس إلا في آخر الاشفاع، فيتشهد، ثم يصلي ركعة ويسلم.
ومذهب إسحاق: أن أوتر بإحدى عشرة ركعة في كل ركعتين.
و [يجوز] عند أصحابنا أن يتطوع بأربع، وبأكثر من أربع، بسلام واحد، وحكوه عن أكثر العلماء، إلا عن محمد بن الحسن وزفر، فإنهما قإلا: لا بد أن يتشهد عقيب كل ركعتين.
وفي صحة التنفل بالإشفاع، كثلاث ركعات، وخمس ركعات، وسبع في غير صلاة الوتر عن أحمد روايتان.
ومذهب الشافعي وأصحابه: أنه يجوز أن يصلي بسلام واحد، ما شاء من الركعات، من واحدة إلى ما لانهاية له بالليل والنهار، وإن كان الأفضل أن يسلم فيهما في كل ركعتين، والوتر وغيره.
ونص الشافعي في ((الإملاء)) على أنه يجوز له أن يصلي عدداً لا يعلمه، ثم يسلم، كما روى عن أبي ذر أنه فعله.
ولأصحابه وجه: أنه

(9/110)


لا يجوز الزيادة على ثلاثة عشر ركعة بتسليمة واحدة؛ لأنه أكثر المنقول في الوتر، هوَ ضعيف عندهم.
فإن صلى ركعة واحدة تشهد عقيبها وسلم، وإن صلى أكثر من ذلك فله أن يقتصر على تشهد في آخر الركعات –وإن كثرت -، ويسلم عقيبه بغير خلاف عندهم، إلا في وجه ضعيف لا يعبأ به.
وإن أراد الزيادة على تشهد واحد، ففيه أوجه لهم:
أحدها: أن له أن يتشهد في كل ركعتين، وإن كثرت التشهدات، ويتشهد في الأخيرة، وله أن يتشهد في كل أربع، أو ثلاث أو ست، أو غير ذلك.
ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة؛ لأنه اختراع صورة في الصَّلاة لا عهد بها.
والثاني: لهُ أن يتشهد في كل ركعتين، وفي كل ركعة. وضعفه المحققون منهم.
والثالث: لا يجلس إلا في الأخيرة، وغلطوه –أيضا.
والرابع: لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال في الصلاة الواحدة، ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من ركعتين، أن كان العدد شفعاً، وإن كان وتراً لم يجز بينهما أكثر من ركعة.
قال صاحب ((شرح

(9/111)


المهذب)) : وهو قوي، وظواهر السنة تقتضيه.
وهذا كله في النوافل المطلقة، فأما في الوتر بخصوصه، فهل يجوز أن يزاد فيه على
تشهدين؟ فيهِ وجهان:
أصحهما –عندهم -: لا يجوز؛ لأنه خلاف المروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن النوافل المطلقة لا حصر لركعاتها وتشهداتها، بخلاف الوتر.
وذهبت طائفة إلى أنها لا تجوز الزيادة على ركعتين بتسليمة واحدة، ولا زياد الوتر على
ركعة.
وهو الذي رجحه الأثرم، وقال لم يصح في الوتر بثلاث فما زاد من غير تسليم حديث واحد، ولا أكثر منه.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوتر بثلاث ركعات بتشهدين من غير تسليم كالمغرب لا يجوز زيادته ولا نقصه.
وروي الوتر بثلاث عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وحكاه الحسن، عن عمر وأبي بن كعب.
وهو منقطع عنهما.
وروى الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمان بن يزيد، قال: قال عبد الله بن مسعود: الوتر بثلاث كوتر النهار المغرب.
قال البيهقي: هو صحيح عن ابن مسعود، ورفعه رجل ضعيف

(9/112)


عن الأعمش 0 وكذا قال الدارقطني: إن رفعه لا يصح.
وروي - أيضا - عن أنس بن مالك.
وهو قول ابن المسيب، وأبي العالية ومكحول والنخعي وعمر بن عبد العزيز.
وقال الأوزاعي: إن فصل فحسن، وإن لم يفصل فحسن.
وأجاز أحمد الفصل وتركه، والفصل عنده أحسن، وقال: الأحاديث فيه أقوى وأكثر وأثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك مذهب الشافعي، كما سبق.
ولأصحابنا وجه: أن الوتر بثلاث موصولة بتشهد واحد.
وروي عن عطاء، أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس فيهن، ولا يتشهد إلا في آخرهن.
وروى البخاري في ((تاريخه)) بإسناده، عن إسماعيل بن زيد بن ثابت، أن زيدا كان يوتر بخمس، لا يسلم إلا في الخامسة، وكان أبي يفعله.
قال البيهقي: كذا وجدته ((أبي)) مقيداً.
يعني: بالتشديد، يريد: ابن أبي بن كعب.
وروى وكيع، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، قال: قالَ عبد الله: الوتر سبع أو خمس، ولا أقل من ثلاث.
وروي عن عراك، عن أبي هريرة، قال: لا توتروا بثلاث؛ تشبهوا

(9/113)


بالمغرب ولكن أوتروا بخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة أو أكثر من ذَلِكَ.
وروي، عنه - مرفوعاً.
خرجه الحاكم، وصححه.
وفي رفعه نكارة.
وقال أبو أيوب الأنصاري: أوتر بخمس، أو بثلاث، أو بواحدة.
خرجه النسائي وغيره - موقوفا.
وخرجه أبو داود والنسائي –أيضا - وابن ماجه مرفوعاً.
والموقوف أصح عند أبي حاتم والنسائي والأثرم وغيرهم.

(9/114)


وقال ابن سيرين: كانوا يوترون بخمسٍ، وبثلاثٍ، وبركعة، ويرون كل ذلك حسناً.
خرجه الترمذي.
قال: وقال سفيان: إن شئت أوترت بخمسٍ، وإن شئت أوترت بثلاث، وإن شئت أوترت بواحدة. قال: والذي استحب أن يوتر بثلاث.
وحكى أصحاب سفيان، عنه، أنه إن شاء أوتر بخمسٍ، أو سبع، أو تسعٍ، أو إحدى عشرة، لا يسلم إلا في آخرهن، إذا فرغ.
ومن العلماء من قال: الوتر ثلاث عشرة، وهو قول بعض الشافعية، ووجه لأصحابنا.
ولو زاد على ذلك لم يجز ولم يصح وتره عند جمهور الشافعية.
ولهم وجه آخر: بصحته وجوازه.
وهذا إذا كان الجميع بسلام واحد، أو نوى بالجميع الوتر.
وروى الشافعي بإسناده، عن كريب، عن ابن عباس، قال: هي واحدة، أو خمس، أو سبع، أو أكثر من ذلك، الوتر ما شاء.
وقد كره قوم الوتر بثلاث، وقالوا: لا يكون إلا سبع أو خمس.

(9/115)


فروى شعبة، عن الحكم، قالَ: قلت لمقسم: إني أسمع الأذان فأوتر بثلاث، ثم أخرج إلى الصلاة؛ خشية أن تفوتني؟ قالَ: أن ذَلِكَ لا يصلح إلا بخمس، إلا سبع. فسألته عمن؟ فقالَ: عن الثقة، عن الثقة، عن عائشة وميمونة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد.
وروى الشافعي بإسناده، عن ابن مسعود، أنه كان يوتر بخمس أو سبع.
[و] بإسناد منقطع عنه، أنه كان يكره أن يكون ثلاثا تترى، ولكن خمساً أو سبعا.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى)) يدل على أن هذه الركعة الواحدة جعلت مجموع ما صلى قبلها وتراً، فيكون الوتر هو مجموع صلاة الليل الذي يختم بوتر.
وهذا قول إسحاق بن راهويه 0 واستدل بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوتروا يا أهل القرآن)) ، وإنما أراد صلات الليل..

(9/116)


وقالت طائفة: الوتر هو الركعة الأخيرة، وما قبله فليس منه.
وهو قول طائفة من أصحابنا، منهم: الخرقي وأبو بكر وابن أبي موسى.
وفي كلام أحمد ما يدلُّ عليه.
ومن أصحابنا من قال: الجميع وتر.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن فاته الوتر، وقلنا: يقضيه: هل يقضي ركعة واحدة؟ أو ثلاث ركعات؟ على روايتين، عنه.
ويحسن أن يكون مأخذهما أن الوتر: هل هو الركعة الواحدة، وما قبله تنفل مطلق؟ أو الوتر مجموع الثلاث؟
وإلى هذا أشار أبو حفص البرمكي من أصحابنا.
وقد نقل الأثرم وغيره، عن أحمد، أنه إذا قضى الوتر بعد طلوع الفجر فإنه يقضي ثلاث ركعات.
وقال: لم يرد التطوع، وإنما أراد الوتر.
وهذا ظاهر في أن المجموع وتر، ويحتمل أن يكون مراده أن الركعتين قبل الوتر متأكدة تابعة للوتر، فتقضي معه في أوقات النهي –أيضا.
وقد تقدم عن المالكية، أن ما قبل الوتر هو شفع له.
وقاله بعض أصحابنا – أيضا.
وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح: أن أصحاب الشافعي اختلفوا في ذلك على أوجه:

(9/117)


أحدها: أن من أوتر بثلاث ينوي بالركعتين مقدمة الوتر، وبالأخيرة الوتر -: قاله أبو محمد الجويني.
والثاني: أنه ينوي بالركعتين سنة الوتر وبالثالثة الوتر -: حكاه الروياني.
قال: وفي هذين الوجهين تخصيص للوتر بالركعة الأخيرة، والثاني يشعر بأن للوتر سنة، ولا عهد لنا بسنة لها سنة هي صلاة.
وفي الوجهين أن الركعتين قبل الوتر لهما تعلق بالوتر.
والثالث: أن ينوي بما قبل الركعة الأخيرة التهجد أو قيام الليل، وفي هذا قطع لذلك عن الوتر.
قال: وما اتفقت عليه هذه الوجوه من تخصيص الوتر بالركعة المفردة على وفق قول الشافعي في رواية البويطي -: الوتر ركعة واحدة.
وقال الماوردي: لا يختلف قول الشافعي: أن الوتر ركعة واحدة.
ويشهد للوجه الثالث حديث ابن عمر: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة)) .
والرابع: أنه ينوي بالجميع الوتر -: قاله القاضي أبو الطيب الطبري، واختاره الروياني.
ويشهد له: قول الشيخ أبي إسحاق وغيره: أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة.
وفي بعض كلام الشافعي إيماء إليه.
قال: وهو المختار؛ لأن فيهِ

(9/118)


جمعا بين الأحاديث كلها؛ إذ الواحدة الأصل في الإيتار، وبها يصير ما قبلها وتراً.
واستدل برواية من روى: ((توتر له ما قد صلى)) ، كما خرجه البخاري، وبأن نافعا ذكر عن ابن عمر، أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر فإنه يدل على أن الجميع من الوتر.
ورواية من روى: ((فأوتر بواحدة)) فيها محذوف، تقديره: فأوتر ما مضى من صلاتك بواحدة، كما صرح به في الرواية الأخرى.
قالَ: ويلي هذا الوجه في القوة الوجهان الأولان، وأبعدها الثالث. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي ((شرح المهذب)) : الصحيح المنصوص – يعني: عن الشافعي في ((الأم)) و ((المختصر)) -: أن الوتر يسمى تهجداً.
وفيه وجه: أنه لا يسمى تهجدا بل الوتر غير التهجد.
وهذا هو الذي ذكره بعض أصحابنا.
وينبغي أن يكون مبنياً على القول بأن الوتر هو الركعة المنفردة وحدها، فأما إن قلنا: الوتر الركعة بما قبلها، فالوتر هو التهجد، وإن لم ينو به الوتر.
وقد كان ابن عمر يفصل بين الركعة التي يوتر بها وما قبلها بكلام، كما في رواية البخاري.
واستحب أحمد أن يكون عقيبها، ولا يؤخرها عما قبلها. وقال: كان ابن عمر يستحب أن يتكلم بينهما بالشيء، ثم يقوم فيوتر بركعة 0وقال: هذا عندنا ثبت، ونحن نأخذ به.
وينبغي أن يكون الاختلاف في تسمية ما قبل الركعة الأخيرة

(9/119)


وتراً مختصاً بما إذا كانت الركعات مفصولة بالتسليم بينها، فأما إن أوتر بتسع، أو بسبع، أو بخمس، أو ثلاث بسلام
واحد، فلا ينبغي التردد في أن الجميع وتر.
ويدل عليه: ما خرجه مسلم، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ن يوتر في ذلك بخمس، ولا يجلس إلا في آخرهن.
فجعلت الوتر الخمس الموصولة بسلام واحد، دون ما قبلها.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر -: ((فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما صلى)) –وفي رواية تأتي فيما بعد: ((فاركع ركعة واحدة)) - يدل على أن الأفضل تأخير الوتر الإمام آخر الليل. ويأتي الكلام فيه فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
ويدل على أن الوتر مأمور به.
وهل الأمر به للوجوب، أم لتأكد الاستحباب؟ فيهِ قولان مشهوران.
وأكثر العلماء على أنه للاستحباب، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وروي عن علي بن أبي طالب وعبادة بن الصامت.
وروي عن أبي أيوب الأنصاري، أنه واجب.
وعن معاذ، من وجه منقطع.
وهو قول أبي

(9/120)


حنيفة وأصحابه، أبي بكر بن جعفر من أصحابنا، ذكره في ((كتاب التنبيه)) .
وكذا قال في صلاة التراويح، مع أنه صرح في ((كتاب الشافي)) بأن الوتر ليس بواجب، وليس هو بفرض كالصلوات الخمس بغير خلاف.
وقد سبق الكلام في ذلك في ((كتاب الإيمان)) عند ذكر حديث طلحة، أن أعرابيا سال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام، فذكر له الصلوات الخمس فقالَ: هل علي غيرها؟ قالَ: ((لا، إلا أن تتطوع)) .
وذكرنا قول من قال: أن الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم، وأنه يرجع إلى القول بوجوب قيام شيء من الليل على أن أهل القرآن خاصة.
وعن الحسن وابن سيرين: لابد من قيام الليل، ولو قدر حلب شاة.
وعن عبيدة السلماني.
وفيه حديث مرفوع، ولا يصح.
ومن المتأخرين من قال: من صلى بالليل تهجدا وجب عليه أن يوتره، ويجعل آخره وترا؛ لحديث ابن عمر، ومن لم يتهجد فلا وتر عليهِ.
وقال أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء؛ هوَ سنة سنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال – في رواية جعفر بن محمد: هوَ رجل سوء، لا شهادة لهُ.

(9/121)


فاختلف أصحابنا في وجه ذلك:
فمنهم من حمله على أنه أراد أنه واجب، كما قاله أبو بكر ابن جعفر، وهو بعيد؛ فإن أحمد صرح بأنه سنة.
ومنهم من قال: أراد إن داوم على تركه أو أكثر منه؛ فإنه ترد شهادته بذلك؛ لما فيه من التهاون بالسنن المؤكدة. وكذا حكم سائر السنن الرواتب، وهذا قول المحققين من أصحابنا.
ومنهم من قال: هو يدل على أن ترك المستحبات المؤكدة يلحق بها إثم دون إثم ترك الفرائض.
وقال القاضي أبو يعلى: من داوم على ترك السنن الرواتب أثم.
وهو قول إسحاق بن راهويه، قال في ((كتاب الجامع)) : لا يعذب أحد على ترك شيء من ترك النوافل، وقد سن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنناً غير الفرائض التي فرضها الله، فلا يجوز لمسلم أن يتهاون بالسنن التي سنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مثل الفطر والأضحى والوتر والأضحية، وما أشبه ذلك؛ فإن تركها تهاوناً بها فهوَ معذب، إلا أن يرحمه الله، وإني لأخشى في ركعتي الفجر والمغرب؛ لما وصفهما الله في كتابه وحرض عليها، قالَ: {فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [قّ: 40] ، وقال: {فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] .
وقال سعيد بن جبير: لو تركت الركعتين بعد المغرب لخشيت أن لا يغفر لي. انتهى.
الحديث الثاني:

(9/122)


992 - حديث: ابن عباس، أنه بات عند ميمونة وهي خالته.
فذكر الحديث في وضوء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلاته بالليل ركعتين ركعتين ست مرات.
ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح.
وقد خرّجه في ((الوضوء)) في ((باب: القراءة بعد الحدث)) ، عن إسماعيل، عن مالك.
وخرجه هاهنا، عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك.
وقد خرجه أبو داود، عن القعنبي، وقال القعنبي: ست مرات –يعني: لفظة: ((الركعتين)) .
قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في إسناده، ولا في لفظه.
وقد خرجه البخاري في أواخر ((كتاب العلم)) ، في ((باب: السمر في العلم)) ، من حديث شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى قبل أن ينام أربع ركعات، ثم نام، ثم لما قام من الليل صلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم خرج إلى الصلاة.

(9/123)


وهذا قد يشعر بأنه أوتر بخمس لم يسلم إلا في آخرهن.
وخرّجه في ((أبواب الصفوف)) –أيضا - بنحوه.
وخرّجه فيها –أيضا - من رواية كريب، فقال فيه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ.
وخرّج أبو داود من حديث يحيى بن عباد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس –في هذا الحديث -، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوتر بخمس لم يجلس بينهن.
وخرّجه أبو داود من حديث محمد بن قيس الأسدي، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفيه: ثم صلى سبعاً أو خمسا، أوتر بهن، لم يجلس إلا في آخرهن.
ورده الأثرم بمخالفته الروايات الكثيرة الصحيحة عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوتر تلك الليلة بركعة بعد أن صلى قبلها ركعتين، ثم ركعتين ستاً أو خمساً.
وفي رواية مالك: أن اضطجاع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قبل ركعتي الفجر.
وأكثر الروايات تدل على خلاف ذلك، كرواية سلمة بن كهيل، عن كريب، ورواية عبد ربه بن سعيد، عن مخرمة، عن كريب.
وكلاهما مخرجة في ((الصحيحين)) .
وكذلك رواية بكير بن الأشج، عن

(9/124)


كريب.
وهي مخرجة في ((صحيح مسلم)) .
لكن رواه الضحاك بن عثمان، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، وقال في حديثه: أنه صلى إحدى عشرة ركعة، ثم احتبى حتى أني لأسمع نفسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين.
خرجه مسلم.
وهذا يوافق [رواية] مالك، إلا أنه يخالفها في ذكر الاحتباء دون الاضطجاع.
ورواه سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة –بنحو رواية مالك - أيضاً.
خرّجه أبو داود والنسائي.
وقد روي في هذا الحديث، عن ابن عباس، أن النَّبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى تلك الليلة ثمان ركعات، ثم أوتر بثلاث –من وجوه غير قوية.
خرّجه أبو داود من بعضها.
وخرّج مسلم من رواية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، وذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى تلك الليلة ست ركعات، ثم أوتر بثلاث، ثم أذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة.
وخرجه أبو داود، وزاد فيه: أنه صلى ركعتي الفجر حين طلع الفجر.
فعلى هذه الرواية: تكون كل صلاته إحدى عشرة ركعة.

(9/125)


وأكثر الروايات تدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثلاث عشرة ركعة.
لكن رواية مالك وسعيد بن أبي هلال، فيهما: أن الثلاث عشرة بدون ركعتي الفجر.
وكذلك رواه الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن كريب، عن ابن عباس.
خرج حديثه النسائي.
وذكر الإمام حمد، أن الأعمش وهم في إسناده.
وأكثر الروايات تدل على أن ركعتي الفجر من الثلاث عشرة، ورواية الضحاك عن مخرمة مصرحة بذلك.
وقد خرّجها مسلم.
وخرّج البخاري –أيضا - ذلك من رواية شريك بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس وكذلك خرّج أبو داود، من رواية ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس –فذكر الحديث، فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] .
وفي رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس التي خرجها البخاري، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى قبل نومه أربعا، ثم بعد قيامه من نومه خمساً، ثم صلى ركعتين.
فهذه إحدى عشرة ركعة.
والظاهر: أن الركعتين بعد الخمس هما ركعتا الفجر.

(9/126)


وخرّجه أبو داود، وعنده: أن نومه كان قبل الركعتين، ثم صلى الركعتين، ثم خرج فصلى الغداة.
وهو يدل على ما قلناه 0.
وخرّجه النسائي، وعنده: أنه صلى خمسا، ثم ركعتين، ثم نام، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة.
فعلى هذه الرواية: صلاته ثلاث عشرة ركعة.
وكل هذه الروايات: من رواية شعبة، عن الحكم.
الحديث الثالث:

(9/127)


993 - ثنا يحيى بن سليمان: ثنا ابن وهب: أخبرني عمرو، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت)) .
قال القاسم: ورأينا: أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلاً لواسع، أرجو أن لا يكون بشيء منه باس.
هذه الروية بمعنى رواية نافع، عن ابن عمر المتقدمة.
وما ذكره القاسم بن محمد يدل على أنه يجوز الوتر بركعة واحدة، وبثلاث ركعات، وأنه أدرك أناسا يوترون بثلاث.
وقد سبق الكلام في قدر الوتر بما فيه كفاية.

(9/127)


الحديث الرابع:

(9/128)


994 - ثنا أبو اليمان: انا شعيب، عن الزهري: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته - تعني: بالليل -، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للصلاة.
كذا روى شعيب، عن الزهري هذا الحديث.
ورواه عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري –بمعناه -، وفي حديثهما: أنه كان فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
خرّجه مسلم من طريقهما.
وخرّجه أبو داود من طريق الأوزاعي وابن أبي ذئب، عن الزهري - بنحوه أيضاً.
وخرّج ابن ماجه من طريق الأوزاعي وحده.
وخرّجه النسائي من طريق عقيل، عن الزهري –بمعناه.

(9/128)


ورواه مالك، عن الزهري، ولفظه: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها أضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين.
خرجه مسلم.
وخرجه البخاري فيما بعد، في ((ما يقرأ في ركعتي الفجر)) - مختصرا -، ولفظه: كانَ يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين.
كذا خرّجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.
ولفظ: ((ثلاث عشرة)) غريب، وإنما هو في ((الموطأ)) كما خرجه مسلم: ((إحدى عشرة)) .
وكذا خرّجه الترمذي وغيره من طريق مالك.
واسقط البخاري منه: ذكر: ((الاضطجاع)) ؛ لأن مالكاً خالف أصحاب ابن شهاب فيهِ، فإنه جعل الاضطجاع بعد الوتر، وأصحاب ابن شهاب كلهم جعلوه بعد ركعتي الفجر.
وهذا مما عده الحفاظ من أوهام مالك، منهم: مسلم في ((كتاب التمييز)) .
وحكى أبو بكر الخطيب مثل ذلك عن العلماء.
وحكاه ابن عبد البر عن أهل الحديث، ثم قال: يمكن أن يكون ذلك صحيحاً، وأن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مرة يضطجع قبل ركعتي الفجر، ومرة بعدها.

(9/129)


وعضده برواية مالك، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، كما سبق.
وقد عضد ذلك أحاديث آخر:
منها: رواية أبي سلمة، عن عائشة: ما ألفى رسول الله، السحر الأعلى في بيتي إلا نائماً.
خرّجاه في ((الصحيحين)) ، ولفظه لمسلم.
وخرّجه مسلم، وزاد فيه: ((يعني: بعد الوتر)) .
وفي رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينام قبل الوتر – أيضا - وأن عائشة سألته عن ذلك، فقال: ((أن عيني تنامان، ولا ينام قلبي)) وهذا يدل على أن وقت نومه كان يختلف.
كذا في رواية مالك، عن المقبري، عن أبي سلمة.
وقد خرّجها البخاري – فيما بعد.
ورواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن المقبري، فذكر في حديثه: أنه كان ينام بعد العشاء، ثم يقوم فيصلي أربعا، ثم ينام، ثم يقوم فيصلى أربعا، ثم ينام، ثم يقوم فيصلي ثلاثا، يوتر بواحدة، ثم يضطجع ما شاء الله، حتى إذا سمع النداء قام فصلى ركعتين، حتى يأتيه المؤذن، فيخرج إلى الصلاة.
خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) .
وفي ((الصحيحين)) – أيضا - عن الأسود، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينام أول الليل، ويقوم آخره، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كان به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج.

(9/130)


وهذا لفظ البخاري.
وزاد مسلم – في رواية -: ((ثم صلى الركعتين)) .
وفي رواية غيرهما: أنه كان يوتر، ثم ينام.
وخرج النسائي من حديث سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين جالسا، ثم يضع جنبه، وربما جاء بلال فآذنه قبل أن يغفى، وربما أغفى، وربما شككت أغفى أم لا.
قالت: فما زالت تلك صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرّجه أبو داود – مختصرا.
وروى الإمام أحمد: نا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: نا أبي، عن أنس ابن سيرين، قال: قلت لابن عمر: ركعتا الفجر، أطيل فيهما القراءة؟ فقالَ: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بركعة، ثم يضع رأسه، فإن شئت قلت: نام، وإن شئت قلت: لم ينم، ثم يقوم إليهما والأذان في أذنيه، فأي طول يكون ثم؟
وخرّجه في ((الصحيحين)) من طريق حماد، عن أنس بن سيرين - مختصرا.
وقد استحب طائفة من السلف الفصل بين صلاة الليل والنهار

(9/131)


بالاضطجاع
بينهما.
روى وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن القاسم ابن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: اضطجع ضجعة بعد الوتر.
وعن عاصم بن رجاء، عن أبيه، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي الدرداء، قال: مر بي أبو الدرداء من آخر الليل وأنا اصلي، فقال: افصل بضجعة بين صلاة الليل وصلاة النهار.
يعني: يعني بعد الوتر، قبل الركعتين.
فهذه رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة.
وقد سبق أن هشام بن عروة رواه، عن أبيه، عن عائشة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر منها بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن.
وقد خرجه مسلم - بمعناه.
وفي رواية عن هشام، أنه كان يصلي قبل هذه الخمس ثمان ركعات،

(9/132)


يجلس في كل ركعتين ويسلم.
ورواه ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ثلاث عشرة ركعة، بركعتيه قبل الصبح، يصلي ستا مثنى مثنى، ويوتر بخمس، لا يقعد بينهن إلا في آخرهن.
خرّجه أبو داود.
وذكر البيهقي في ((كتاب المعرفة)) ، عن الشافعي، أنه اختار حديث الزهري، من غير أن يضيق غيره؛ لفضل حفظ الزهري على حفظ غيره؛ ولموفقته رواية القاسم، عن عائشة، ورواية الجمهور عن [ابن] عمر وابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: وبهذا النوع من الترجيح ترك البخاري رواية هشام في الوتر، ورواية سعد بن هشام، عن عائشة في الوتر، فلم يخرج واحدة منهما في ((صحيحه)) ، مع كونهما من شرطه في سائر الروايات.
ثم ذكر بإسناده، عن أبي معين، قال: الزهري اثبت في عروة من هشام بن عروة في عروة 0
وخرّج مسلم من حديث عراك، عن عروة عن عائشة، أن رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، بركعتي الفجر.
وقد روى هذا المعنى، عن عائشة: أبو سلمة والقاسم بن محمد ومسروق.
وقد خرّج البخاري أحاديثهم، وتأتى - فيما بعد.
ولفظه

(9/133)


حديث مسروق، عنده: قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة.
وخرّج مسلم من حديث عبد الله بن شقيق، عن عائشة، أن النبي، كان يصلي في بيتها بعد العشاء ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر.
ففي هذه الرواية: أن الإحدى عشرة التي كان يصليها بالليل منها ركعتان بعد العشاء، قبل أن ينام.
وقد تقدم في رواية عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، عن عروة عن عائشة ما يشهد لذلك –أيضا.
وقد روي عنها، أن الإحدى عشرة ركعة منها ركعتان كان يصليهما بعد الوتر.
روى ذلك عنها: أبو سلمة وسعد بن هشام.
وسنذكر حديثهما فيما بعد – أن شاء الله سبحانه وتعالى.
وفي حديث سعد، عنها: أنه كان يصلي إحدى عشرة، ثم لما أسن واخذ اللحم صلى تسعاً.
خرّجه مسلم.
وخرّج أبو داود من رواية أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم أنه

(9/134)


صلى إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين، ثم قبض حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات.
وخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل تسع ركعات.
وحسنه الترمذي.
وفي إسناده: اختلاف عن الأعمش.
وقد روي عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل تسع ركعات، فلما كثر لحمه وسن صلى سبع ركعات.
خرّجه النسائي.
ورواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن أم سلمة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع.
خرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي، وحسنه.

(9/135)


أبو معاوية، مقدم على أصحاب الأعمش، إلا أن الدارقطني قال: من قال فيه: ((عن عمارة بن عمير)) فهو أشبه بالصواب من قول من قال: ((عمرو بن مرة)) .
وقال الأثرم: اضطرب الأعمش في إسناده وفي متنه. قال: ويحيى الجزار، لم يلق عائشة، ولا أم سلمة.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة: بكم كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر؟ قالت: بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشرة وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة، ولا بأنقص من سبع، وكان لا يدع ركعتين قبل الفجر.
ففي هذه الرواية: أن مجموع صلاة الليل تسمى وتراً، وأنه كان يوتر بثلاث عشرة سوى ركعتي الفجر، ولعلها أدخلت في ذلك الركعتين بعد صلاة العشاء حتى توافق سائر الروايات عنها 0
وأما إطالة السجود المذكور في حديث عائشة الذي خرجه، فقد بوب عليه في ((أبواب قيام الليل)) ، واعاد فيه الحديث، ويأتي الكلام على معناه هنالك –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

(9/136)


2 - باب
ساعات الوتر

وقال أبو هريرة: أوصاني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوتر قبل النوم.
حديث أبي هريرة هذا، قد أسنده في ((أبواب صلاة الضحى)) من رواية شعبة: ثنا الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة، قال: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ، وصلاة الضحى، ونوم على وتر0.
وخرّجه مسلم، وزاد فيه: عن عباس الجريري وأبي شمر الضبعي كلاهما، عن أبي عثمان.
وخرّجاه - أيضا - من رواية أبي التياح، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة - بنحوه، وفي حديثه: وأن أوتر قبل أن أنام.
وخرجه مسلم وحده من رواية أبي رافع الصائغ، عن أبي هريرة، عن النَّبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل حديث أبي عثمان، عنه.
وله طرق كثيرة جدا، عن أبي هريرة، قد ذكرت كثيرا منها في ((كتاب شرح الترمذي)) .

(9/137)


وذكر الحافظ أبو موسى المديني، أنه رواه عن أبي هريرة قريب من سبعين رجلا.
وفي متنه –أيضا – اختلاف، إلا أن المحفوظ منه: ذكر هذه الخصال الثلاث المذكورة في رواية أبي عثمان.
وقد روي عن أبي الدرداء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاه بهذه الخصال الثلاث –أيضا.
خرّجه مسلم في ((صحيحه)) .
وروي –أيضا - عن أبي ذر، أن النَّبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاه بها.
خرّجه الإمام أحمد والنسائي.
وخرّج ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب، أن النبي، قال: ((لا تنم إلا على وتر)) .
وخرّجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وهو قطعة من حديث، خرج بعضه أبو داود –أيضا.
وقال على بن المديني: إسناده مجهول.
وخرج الإمام أحمد بإسناد فيه انقطاع، عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يوتر بعد العشاء بركعة، يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((الذي لا ينام حتى يوتر حازم)) .
وخرّج البزار بإسناد ضعيف جداً، عن علي بن أبي طالب: نهاني

(9/138)


رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنام إلا على وتر.
وخرّج ابن عدي بإسناد ضعيف، عن عمار بن ياسر، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوتر قبل أن تنام)) .
وروى الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة الخزاعي: ثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي: أخبرني نافع بن ثابت، عن ابن الزبير، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات، وأوتر بسجدة، ثم نام حتى يصلي بعد صلاته بالليل.
نافع، هو ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير، ورواياته عن جده ابن الزبير منقطعة –في ظاهر كلام البخاري وأبي حاتم.
خرّج البخاري في هذا الباب حديثين:
الأول:

(9/139)


995 - نا أبو النعمان: نا حماد بن زيد: نا أنس بن سيرين، قال: قلت لابن عمر: أرأيت ركعتين قبل صلاة الغداة، أطيل فيهما القراءة؟ قالَ: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، ويصلي الركعتين قبل صلاة الغداة، وكان الأذان بأذنيه. قالَ حماد: أي: سرعة.
وخرّجه مسلم – بمعناه.
وخرّجه من حديث شعبة، عن أنس بن

(9/139)


سيرين، وزاد فيه: ويوتر بركعة من آخر الليل.
وخرّجه الإمام أحمد من حديث حبيب بن الشهيد، عن أنس بن سيرين، وفيه: فإذا خشي الصبح أوتر بركعة.
وقد تقدم لفظه بتمامه.
وقد تقدم حديث نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) .
خرج مسلم من حديث أبي مجلز: سمعت ابن عمر يحدث، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الوتر ركعة من آخر الليل)) .
وفي رواية – أيضا -: سألت ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ركعة من آخر الليل)) ، وسألت ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ركعة من آخر الليل)) .
الحديث الثاني:

(9/140)


996 - نا عمر بن حفص: نا أبي: نا الأعمش: نا مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كل الليل أوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانتهى وتره إلى السحر.
((مسلم)) ، هو: ابن صبيح أبو الضحى، وصُبيح بضم الصاد.
وخرّجه مسلم – أيضا – من طريق الأعمش، ولفظه: ((من كل الليل

(9/140)


قد
أوتر)) - الحديث.
وخرّجه من حديث سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى، كما خرجه البخاري – أعني: ((كل الليل أوتر)) –، إلا أنه قال: ((فانتهى وتره إلى آخر الليل)) .
وخرّجه أيضا من رواية أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عائشة، قالت: من كل الليل أوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أول الليل، وأوسطه، وآخره، فانتهى وتره إلى السحر 0
وهذه الرواية تصرح بأن المراد: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يوتر أحيانا من أول الليل، وأحيانا من وسطه، وأحيانا من آخره، وأنه ليس المراد: أن وتره وقع في كل ساعة ساعة من الليل، أو في كل جزء جزء منه.
وروي هذا الحديث عن عائشة –بمعناه – من رواية ربيعة الجرشي، وعبد الله بن أبي قيس عنها، وغضيف بن الحارث، ويحيى بن يعمر.

(9/141)


وروي عن علي من رواية أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: من كل الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أوله، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر.
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وخرّجه أحمد –أيضا – من رواية أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي – بنحوه.
وقال علي بن المديني: هو إسناد كوفي حسن.
وروي عن عبد خير، عن علي – بنحوه – أيضا.
وخرّج الإمام أحمد –أيضا – بإسناد جيد، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره.
وخرّج الإسماعيلي في ((مسند عمر)) من رواية أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن الحارث بن معاوية، قال: سألت عمر عن الوتر في أول الليل، أو في وسطه، أو في آخره؟ فقالَ عمر: كل ذَلِكَ قد عمل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن ائت أمهات المؤمنين فسلهن عن ذَلِكَ؛ فإنهن أبصر بما كان يصنع من ذلك، فأتاهن فسألهن، فقلن له: كل ذلك قد عمل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبض وهو يوتر من آخر الليل.
أبو بكر بن أبي مريم، ضعيف.

(9/142)


وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه حسن الوتر من أول الليل ومن آخره.
كما خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: ((أي حين توتر؟)) قالَ: أول الليل بعد العتمة 0 قالَ: ((فأنت يا عمر؟)) قال: آخر الليل. قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أما أنت يا أبا بكر فقد أخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فقد أخذت بالقوة)) .
وخرّجه أبو داود من حديث عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – نحوه.
وإسناده ثقات، إلا أن الصواب عند حذاق الحفاظ: عن ابن رباح – مرسلا.
وقد روي هذا الحديث من رواية ابن عمر وعقبة بن عامر وغيرهما، بأسانيد لينة.
ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب - مرسلا -، وهو من أجود

(9/143)


المراسيل.
كذا رواه الزبيدي وغيره عن الزهري.
ورواه بعضهم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.
والصواب إرساله -: قاله الدارقطني.
ورواه مسعر، عن سعد بن إبراهيم، واختلف عنه: فقيل: عن مسعر، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري.
وقيل: عنه، عن سعد، عن أبي سلمة – مرسلا.
وقيل: عنه، عن سعد، عن ابن المسيب، عن أم سلمة.
والظاهر: أنه غير ثابت.
وخرّجه ابن مردويه من هذا الوجه، وفي حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أما أنت يا أبا بكر، كما قال القائل: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل 0 وأما أنت يا عمر، فتأخذ – أو تعمل - عمل الأقوياء)) .

(9/144)


ورواه وكيع في ((كتابه)) عن معسر، عن ابن المسيب –مرسلا -، وزاد فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر: ((أنت مثل الذي قال: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل)) .
وهذه الرواية أصح 0 والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن المسيب – مرسلا – بهذه الزيادة – أيضا.
والكلام في وقت الوتر في مسألتين:
إحداهما:
في وقت جوازه.
فذهب أكثر أهل العلم إلى أن أول وقته من بعد صلاة العشاء، فلو أوتر من قبل صلاة العشاء لم يقع موقعا وأمر بإعادته.
ولو كان ناسيا، أو ظانا أنه قد صلى العشاء، مثل أن يصلي العشاء محدثا ناسيا، ثم يتوضأ ويصلي الوتر، ثم يذكر بعد الصلاة أنه صلى العشاء ناسيا، فإنه يقضي القضاء ثم الوتر.
هذا قول جمهور العلماء، منهم: الثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد..
وقال أبو حنيفة: وقته وقت العشاء؛ فإنه واجب عنده، ويجب الترتيب بينهما، بشرط الذكر ويسقط بالسهو، فلا يعيد الوتر – عنده – في الصورة المذكورة.

(9/145)


وكذلك مذهب سفيان، إذا صلى الوتر ناسيا للعشاء، ثم ذكر، أنه يصلي العشاء ولا يعيد الوتر.
وللشافعية وجهان آخران:
أحدهما: أن وقته يدخل بدخول وقت العشاء، ويجوز فعله قبل صلاة العشاء، تعمد ذلك أو لم يتعمد.
والثاني: أن وقته لا يدخل إلا بعد العشاء وصلاة أخرى، فإن كان وتره بأكثر من ركعة صح فعله بعد صلاة العشاء، وإن أوتر بركعة لم يصح حتى يتقدمه نفل بينه وبين صلاة العشاء.
واستدل لقول الجمهور بحديث خارجة بن حذافة، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي – وغربه – والحاكم - وصححه.
وقال الأثرم: ليس بقوي.
وخرّجه الإمام أحمد بإسناد جيد، عن أبي بصرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى أن يطلع

(9/146)


الفجر)) .
وبإسناد فيه انقطاع، عن معاذ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((زادني ربي صلاة، هي الوتر، ووقتها بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر)) .
وأما آخر وقته، فذهب الأكثرون إلى أنه يخرج وقته بذهاب الليل، فإذا طلع الفجر صار فعله قضاء، وما دام الليل باقيا، فإن وقته باق.
ولا نعلم في ذلك خلافا، إلا ما ذكره القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه ((شرح المذهب)) ، أنه إذا أخره حتى خرج وقت العشاء المختار – وهو نصف الليل، أو ثلثه – صار قضاء.
وهذا قول ساقط جدا؛ لأن صلاة العشاء لا تصير قضاء بتأخيرها حتَّى يخرج وقتها المختار، وإن قيل: إن تأخيرها إليه عمدا لا يجوز، كما سبق ذكره في ((المواقيت)) ، فكيف يصير تأخير الوتر إلى ذَلِكَ الوقت قضاء؟ وأما إذا خرج الليل بطلوع الفجر، فإنه يذهب وقت أدائه عند جمهور العلماء، ويصير قضاء حينئذ.
وهو قول الشافعي وأحمد - في المشهور عنهما -، وقول أبي حنيفة والثوري.
وروي عن عمر وابن عمر وأبي موسى وأبي الدرداء وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي.
حتى قال

(9/147)


النخعي: لأن يدركني الفجر وأنا أتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر.
ويدل عليه: حديث: ((فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) ، وسيأتي حديث: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا)) . وخرّج مسلم من طرق، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف صلاة الليل؟ قالَ: ((مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فصل ركعة، واجعل آخر صلاتك وترا)) .
وخرّجه من طريق ابن أبي زائدة، عن عاصم الأحوال، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((بادروا الصبح بالوتر)) .
وهذا لعله رواه بالمعنى من الحديث الذي قبله.
وخرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن أبي زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((بادروا الصبح بالوتر)) .
وصححه الترمذي.
وقد ذكر الدارقطني وغيره: أن ابن أبي زائدة تفرد بهذا الحديث

(9/148)


بالإسنادين.
وذكر الأثرم: أنه ذكر لأبي عبد الله – يعني: أحمد بن حنبل – حديث ابن أبي زائدة هذا من الوجهين، فقال: في الإسناد الأول: عاصم، لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئا، ولم يروه إلا ابن أبي زائدة، وما أدري. فذكر له الإسناد الثاني، فقال أحمد: هذا أراه اختصره من حديث: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة)) ، وهو بمعناه. قالَ: فقلت له: روى هذين أحد غيره؟ قالَ: لا.
قلت: والظاهر أنه اختصر حديث عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر أيضا -، كما اختصر حديث عبيد الله، عن نافع، عنه. والله أعلم.
وخرج مسلم – أيضا – من حديث ابن جريج: أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يقول: من صلى بالليل فليجعل صلاته وترا قبل الصبح، كذلك كان رسول الله يأمرهم.
خرجه، عن هارون بن عبد الله: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج – فذكره.
وخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق: أنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا طلع الفجر فقد ذهب [كل] صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل

(9/149)


طلوع الفجر)) .
وقال: تفرد به سليمان بن موسى على هذا اللفظ.
وذكر المروذي عن أحمد، أنه قال: لم يسمعه ابن جريج من سليمان بن موسى، إنما قال: ((قال سليمان)) . قيل له: إن عبد الرزاق قد قال: عن ابن جريج: أنا سليمان؟ فأنكره، وقال: نحن كتبنا من كتب عبد الرزاق، ولم يكن بها، وهؤلاء كتبوا عنه بأخرة.
وخرجه الحاكم من طريق محمد بن الفرج الأزرق: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: حدثني سليمان بن موسى: نا نافع، أن ابن عمر كان يقول: من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترا؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك، فإذا كانَ الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أوتروا قبل الفجر)) .
وقال: إسناد صحيح.
وهذه الرواية أشبه من رواية الترمذي؛ فإن فيها أن ذهاب كل صلاة الليل بطلوع الفجر، إنما هوَ من قول ابن عمر، واستدل لهُ بأمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(9/150)


بالوتر قبل الفجر.
ورواية ابن جريج التي صرح فيها بسماعه من نافع – كما خرجه مسلم - ليس فيها شيء مما تفرد به سليمان بن موسى، وسليمان مختلف في توثيقه.
وخرج مسلم –أيضا – من رواية يحيى بن أبي كثير: أخبرني أبو نضرة، أن أبا سعيد أخبرهم، أنهم سألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوتر، فقال: ((أوتروا قبل الصبح)) .
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: قال: ((الوتر بليل)) .
وخرجه ابن خزيمة والحاكم، من حديث قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له)) .
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وذهب طائفة إلى أن الوتر لا يفوت وقته حتى يصلي الصبح: فروي عن علي وابن مسعود، وقال: الوتر ما بين الصلاتين.
يريدان: صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وعن عائشة –معنى ذلك.

(9/151)


وممن روي عنه، أنه أوتر بعد طلوع الفجر: عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وحذيفة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وفضالة بن عبيد وغيرهم.
وقال أيوب وحميد الطويل: أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر.
وهو قول القاسم بن محمد وغيره.
وذكر ابن عبد البر: أنه لا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف في قولهم 0 قال: ويحتمل أن يكونوا قالوه فيمن نسيه أو نام عنه، دون من تعمده.
وممن ذهب إلى هذا: مالك والشافعي – في القديم – وأحمد – في رواية عنه – وإسحاق0
وقد ذكرنا – فيما تقدم - حديث أبي بصرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((صلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر)) .
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن عقبة بن عامر وعمرو بن العاص كلاهما، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال – في صلاة الوتر -: ((هي لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الشمس)) .

(9/152)


وقد حكى يحيى بن آدم، عن قوم، أن الوتر لا يفوت وقته حتى تطلع الشمس.
وظاهر هذا: أنه يوتر بعد صلاة الصبح، ما لم تطلع الشمس، وتكون أداء.
وفي ((المسند)) ، عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر عند الآذان.
وقد سبق ذكره في الصلاة إذا أقيمت الصلاة.
وفيه –أيضا – بإسناد فيه جهالة، عن علي، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نوتر هذه الساعة، ثم أمر المؤذن أن يؤذن أو يقيم.
وخرّج الطبراني من حديث أبي ذر، قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوتر بعد
الفجر.
وفي إسناده اختلاف.
وروي مرسلا.
والمرسل أصح عند أبي حاتم وأبي زرعة الرزايين.
وروى ابن جريج: أخبرني زياد بن سعد، أن أبا نهيك أخبره، أن أبا الدرداء خطب، فقال: من أدركه الصبح فلا وتر له 0 فقالت عائشة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدركه الصبح فيوتر.
خرّجه الطبراني.
وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه: كان يدركه بصبح

(9/153)


فيوتر.
وأبو نهيك، ليس بالمشهور. ولا يدرى: هل سمع من عائشة، أم لا؟
وقد روي عن أبي الدرداء خلاف هذا.
وخرّج الحاكم من رواية أبي قلابة، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: ربما رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر، وقد قام الناس لصلاة الصبح.
وقال: صحيح الإسناد.
وخرّج – أيضا – من رواية محمد بن فليح، عن أبيه، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر)) .
وقال: صحيح على شرطهما.
والبخاري يخرج بهذا الإسناد كثيرا.
وروى زهير بن معاوية، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن الأغر المزني، أن رجلا قال: يا رسول الله، أصبحت ولم أوتر؟ فقالَ: ((إنما الوتر بليل)) – ثلاث مرات أو أربعة -، ثُمَّ قالَ: ((قم فأوتر)) .

(9/154)


وخرجه البزار – مختصرا، ولفظه: ((من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له)) .
ورواه وكيع في ((كتابه)) عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة – مرسلا.
وهو أشبه.
وروى وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – مثله -، إلا أنه قال: عن الوتر حتى أصبحت.
وفي المعنى –أيضا – عن أبي سعيد الخدري – مرفوعا – من وجهين، لا يصح واحد منهما.
وروى أيوب بن سويد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع، عن ابن عباس، أنه بات عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، فصلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل يسلم من كل ركعتين، فلما انفجر الفجر قام فأوتر بركعة، ثم ركع ركعتي الفجر، ثم اضطجع.
خرّجها الطبراني وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وحمله: إنما أوتر بعد طلوع الفجر الأول.

(9/155)


ثم خرج من رواية عباد بن منصور، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، أنه بات ليلة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فذكر الحديث، وفيه [فذكر] فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان عليه من الليل، مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، فلما طلع الفجر الأول، قام فصلى تسع ركعات، يسلم في كل ركعتين، وأوتر بواحدة، وهي التاسعة، ثم أمسك حتى إذا أضاء الفجر جدا قام فركع ركعتي الفجر، ثم نام.
قلت: وكلا الحديثين إسناد ضعيف. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلى تقدير صحة هذه الأحاديث، أو شيء منها، فقد تحمل على أن الوتر يقضى بعد ذهاب وقته، وهو الليل، لا على أن ما بعد الفجر وقت له.
والمشهور عن أحمد: أن الوتر يقضى بعد طلوع الفجر، ما لم يصل الفجر، وإن كان لا يتطوع عنده في هذا الوقت بما لا سبب له. وفيما له سبب عنه فيه خلاف، فأما الوتر فإنه يقضى في هذا الوقت.
ومن الأصحاب من يقول: لا خلاف عنه في ذلك، منهم: ابن أبي موسى
وغيره.

(9/156)


وحكي للشافعي قول كذلك: أنه يقضي الوتر ما لم يصل الفجر.
وقال أبو بكر – من أصحابنا -: يقضي ما لم تطلع الشمس.
وهذا القول يرجع إلى أن الوتر يقضيه من نام عنه أو نسيه.
وقد اختلف العلماء في قضاء الوتر إذا فات:
فقالت طائفة: لا يقضى، وهو قول أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد وإسحاق، وأحد قولي الشافعي.
وحكاه أحمد عن أكثر العلماء.
ويروى عن النخعي، أنه لا يقضى بعد صلاة الفجر، وعن الشعبي.
وقالت طائفة: يقضى، وهو قول الثوري والليث بن سعد، والمشهور عن الشافعي، ورواية عن أحمد.
والصحيح عند أصحاب الشافعي: أن الخلاف في قضاء الوتر والسنن الرواتب سواء.
ومنهم من قال: يقضي ما يستقل بنفسه كالوتر، دون ما هو تبع كالسنن الرواتب.
والمنصوص عن أحمد وإسحاق: أنه يقضي السنن الرواتب دون الوتر، إذا صلى الفجر ولم يوتر.
ونص عليه في رواية غير واحد من أصحابه.

(9/157)


واستدل من قال: لا يقضي الوتر بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا نام أو شغله مرض أو غيره عن قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة.
خرجه مسلم من حديث عائشة.
فدل على أنه كان يقضي التهجد دون الوتر.
ويجاب عن هذا: بأنه يحتمل أنه كان إذا كان له عذر يوتر قبل أن ينام، فلم يكن يفوته الوتر حينئذ.
هذا في حال المرض ونحوه ظاهر، وأما في حال غلبة النوم فيه نظر.
وخرج النسائي حديث عائشة، ولفظه: كان إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك نوم [غلبه عنه] أو وجع، صلى من النهار ثلاث عشرة ركعة.
فإن كانت هذه الرواية محفوظة دلت على أنه كان يقضي الوتر.
واستثنى إسحاق أن يكون نام عن الوتر وصلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فقال: يقضي الوتر، ثم يصلي سنة الفجر، ثم يصلي المفروضة.
وقد ورد في هذا حديث، ذكرناه في قضاء الصلوات.
وخرجه النسائي من حديث محمد بن المنتشر، عن أبيه، أنه كان في منزل عمرو بن شرحبيل، فأقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إني كنت أوتر. وقال: سئل عبد الله: هل بعد الأذان وتر؟ قالَ: نعم،

(9/158)


وبعد الإقامة، وحدث عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنَّهُ نام عن الصَّلاة حتَّى طلعت الشمس، ثُمَّ صلى.
فإن كان مراده: أنه نام عن الوتر فذاك، وإن كان مراده: أنه نام عن الفريضة ثم قضاها، فيكون مراده إلحاق القضاء الوتر بالقياس.
وكذا روي عن ابن عمر، أنه قاس قضاء الوتر على قضاء الفرض.
وأخذه بعضهم من عموم قوله: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) .
خرجه مسلم. وقد سبق في موضعه.
فيدخل في عمومه الوتر.
وجاء في حديث التصريح به، من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا ذكره)) .
خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
وخرجه الترمذي –أيضا - من رواية عبد الله بن زيد بن اسلم، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من نام عن وتره فيصله إذا أصبح)) .
وقال: هذا أصح.
وذكر: أن عبد الله بن زيد ثقة، وأخاه عبد الرحمن ضعيف.

(9/159)


ولكن خرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد –مرفوعاً.
وقال الحاكم: صحيح على شرطهما.
وخرجه الدارقطني من وجه آخر، عن زيد –كذلك.
لكنه إسناد ضعيف.
ورده بعضهم بأن أبا سعيد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوتروا قبل أن تصبحوا)) ، وهذا يخالفه وليس كذلك؛ فإن الأمر بالإيتار قبل الصبح أمر بالمبادرة إلى أدائه في وقته، فإذا فات وخرج وقته، ففي هذا أمر بقضائه، فلا تنافي بينهما.
وفي تقييد الأمر بالقضاء لمن نام او نسيه يدل على أن العامد بخلاف ذلك، وهذا متوجه؛ فإن العامد قد رغب عن هذه السنة، وفوتها في وقتها عمداً، فلا سبيل لهُ بعد ذَلِكَ إلى استدراكها، بخلاف النائم والناسي.
وممن روي عنه الأمر بقضاء الوتر من النهار: علي وابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن والشعبي وحماد.
وهو قول الشافعي –في صحيح عنه - وأحمد –في رواية.
والأوزاعي، إلا أنه قال: يقضيه نهاراً وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة، ولا يقضيه بعد ذلك؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة.

(9/160)


وعن سعيد بن جبير، قالَ: يقضيه من الليل القابلة.
وظاهر هذا: أنه لا يقضيه إلا ليلاً؛ لأن وقته الليل، فلا يفعل بالنهار.
المسألة الثانية:
في وقت أفضل الوتر.
قد كان كثير من الصحابة يوتر من أول الليل، منهم: أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعائذ بن عمرو وأنس ورافع بن خديج وأبو هريرة وأبو ذر وأبو الدرداء.
وهؤلاء الثلاثة أوصاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فتمسكوا بوصيته.
ومنهم من كان يفعل ذلك خشية من هجوم الموت في النوم؛ فإنهم كانوا على نهاية من قصر الأمل.
وذهب طائفة إلى أن الوتر قبل النوم افضل، وهو أحد الوجهين للشافعية.
وهو مقتضى قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا في كتابه ((شرح المذهب)) ، حيث ذكر أن وقت الوتر تابع لوقت العشاء، وأنه يخرج وقته بخروج وقت العشاء المختار.
وقال أبو حفص البرمكي من أصحابنا –في شهر رمضان خاصة لمن

(9/161)


صلى التراويح خلف الإمام -: فإن الأفضل أن لا ينصرف المأموم حتى ينصرف إمامه.
ونقل مهنا، عن أحمد، أنه كان يوتر قبل أن ينام، وقال: هو أحوط، وما يدريه؟ لعله لا ينتبه.
وهذا يدل على أن الأخذ بالاحتياط أفضل.
وروى شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: النوم على وتر خير.
وقال عمر: الأكياس يوترون أول الليل، والأقوياء يوترون آخر الليل.
خرجهما وكيع.
وقد سبق هذا المعنى مرفوعاً من وجوه.
والكيس: هو الحذر الحازم المحتاط لنفسه، الناظر إلى عواقب الأمور.
وممن كان يقدم الوتر: ابن المسيب والشعبي.
وكان أكثر من السلف يوتر في آخر الليل، منهم: عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم.
وروى وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن ابن سيرين، قال: ما يختلفون أن الوتر من آخر الليل أفضل.
واستحبه النخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد –في المشهور عنه - وإسحاق، إن قوي

(9/162)


ووثق بنفسه القيام من آخر الليل، فأما من ليس كذلك فالأفضل في حقه أن يوتر قبل النوم.
وروي هذا المعنى عن عائشة.
واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث أبي سفيان، عن جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فان صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك افضل)) .
وفي رواية له: ((محضورة)) .
وخرجه –أيضا - من رواية ابي الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –بنحوه.
وحمل بعض هؤلاء أحاديث الأمر بالوتر قبل النوم على من خاف أن لا يقوم آخر الليل.
وهذا بعيد جداً في حق أولئك الصحابة، الذين أمروا بالوتر قبل النوم، مع ما عرف من شدة اجتهادهم، وكثرة تهجدهم.
ومنهم من حمله على بيان الجواز، وعدم الكراهة.
ومنهم من أشار إلى نسخة.
وروى الإسماعيلي في ((مسند علي)) بإسناد مجهول، عن السدي، عن الربيع بن خثيم، قال: خرج علينا على حين يبلج الصبح، فقال: إن جبريل أتى نبيكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره أن يوتر أول الليل، فأوتر كما أمره الله، ثم أتاه فأمره أن يوتر وسطاً من الليل، فأوتر كما أمره الله، ثم أتاه

(9/163)


فأمره أن يوتر هذه الساعة، فقبض نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يوتر من هذه الساعة، أين السائلون عن الوتر، نعم ساعة الوتر.
وحديث عائشة: ((أنه انتهى وتره الى السحر)) قد يشعر بذلك، وأنه ترك الوتر من أول الليل ووسطه، واستقر عمله على الوتر من آخر، وإنما كان ينتقل من الفاضل إلى الأفضل وعلى هذا: فهل الأفضل الوتر إذا خشي طلوع الفجر، كما دل عليه حديث ابن عمر، وكان ابن عمر يفعل ذلك، ويوتر من السحر.
قال الثوري: كانوا يحبون أن يؤخروا الوتر آخر الليل، وقد بقي عليهم من الليل شيء.
وقال إسحاق: [كانوا] يستحبون أن يوتروا آخر الليل، وأن يوتروا وقد بقي من الليل نحو مما ذهب منه من صلاة المغرب، واستدل بقول عائشة: ((فانتهى وتره الى السحر)) .
نقله عنه حرب.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن الأعمش، عن إبراهيم، أنه بات عند عبد الله ابن مسعود، فسئل: أي ساعة أوتر؟ قالَ: إذا بقي من الليل مثل ما مضى إلى صلاة المغرب.
وعن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس –بنحوه.

(9/164)


ومعنى ذلك: أنه يوتر وقد بقي من الليل قبل طلوع الفجر مقدار ما يصلي فيه صلاة المغرب، بعد دخول الليل وغروب الشمس.
والمراد: أنه لا يوتر إلا في ليل محقق بقاؤه.
وهو معنى قول النخعي: الوتر بليل، والسحور بليل.
فجعل وقته كوقت السحور بل أشد؛ فإنه قالَ لأن يدركني الفجر وأنا اتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر.
وكان علي بن أبي طالب يرخص في تأخير الوتر حتى ينشق الفجر، وربما روي عنه أنه أفضل.
وقد سبق عن طائفة من السلف نحوه.
وهؤلاء، منهم من رخص في تأخير السحور –أيضا -، كما يأتي في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
ولأصحابنا وجه شاذ: أن الوتر في الليل كله، سواء في الفضل.

(9/165)


3 - باب
في إيقاظ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهله بالوتر

(9/166)


997 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، ثنا هشام: ثنا أبي، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد ان يوتر أيقظني فأوترت.
قد سبق هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه في ((باب: الصلاة خلف النائم)) .
وقد دل هذا الحديث على إيقاظ النائم بين يدي المصلي.
لكن هل كان إيقاظها لتوتر أو لتتنحى عن قبلته في الوتر؟
قد وردت أحاديث تدل على الثاني، قد سبق ذكرها في ((باب: من قالَ: لا يقطع الصَّلاة شيء)) .
وروى الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فإذا انصرف قال لي: ((قومي فأوتري)) .
خرّجه الإمام أحمد.
فإن كان إيقاظها للايتار استدل به على إيقاظ النائم للصلاة، لا سيما إذا تضايق وقتها؛ فإن ايتار النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقر في آخر عمره على أنه كانَ في السحر، كما سبق في الباب الماضي.

(9/166)


وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان للصلاة بالليل والذكر والدعاء، ففي سائر السنة كان إيقاظه لهم للوتر خاصة؛ فإنه من آكد السنن الرواتب.
وإن كانَ إيقاظها لتتنحى عن قبلته في الوتر، استدل به على الرخصة في الصَّلاة إلى النائم في النفل المطلق دون النفل المعين المؤكد، فالفرض أولى.
وقد أشار إليه الإمام أحمد، كما سبق ذكره في موضعه.
وعلى التقديرين، فيستدل به على ان من له من يوقظه للوتر في آخر الليل لا يكره له ان ينام قبل ان يوتر، ولو كان امرأة أو صبياً، ممن يغلب عليه النوم؛ فان قولها: ((فأوترت)) يدل على أنها كانت تؤخر الوتر إلى ذَلِكَ الوقت، وتنام قبله.

(9/167)


4 - باب
ليجعل آخر صلاته وتراً

(9/168)


998 - حدثنا مسدد: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله: حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) .
وخرّجه مسلم.
وخرّج –أيضا - من حديث الأسود، عن عائشة، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر.
وخرّجه أبو داود –مطولاً.
جعل الوتر آخر صلاة الليل يستفاد منه فوائد عديدة.
فمنها: تأخير الوتر إلى آخر الليل؛ فان صلاة وسط الليل وآخر الليل أفضل من صلاة أوله، فتأخير الوتر يتسع به وقت الصَّلاة في وسط الليل وآخره.
ومنها: أنه لا ينبغي التنفل في الليل بوتر غير الوتر الذي يقطع عليه صلاة الليل، كما لا ينبغي التنفل في النهار بوتر –أيضا -، حتى تكون صلاة المغرب وتره.
فروى الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون: أنا هشام، عن محمد –هو: ابن
سيرين -، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((صلاة المغرب وتر النهار، فاوتروا صلاة الليل)) .

(9/168)


قال الدارقطني: رواه أيوب، عن نافع وابن سيرين، عن ابن عمر - موقوفاً. ورواه مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر – موقوفاً.
ورفعه بعضهم عن مالك.
وهذا قد يستدل به على جواز الوتر، بعد طلوع الفجر، ويكون ايتاراً لصلاة الليل، وان كان بعد خروج الليل، كما يوتر صلاة النهار بالمغرب، وإنما يفعل بعد خروج النهار.
فهذا يدل على ان لا وتر لصلاة النهار غير صلاة المغرب، ولا وتر لصلاة الليل غير الوتر المأمور به، فمن تطوع في ليل أو نهار بوتر غير ذلك، فقد زال ايتاره لصلاته، وصارت صلاته شفعاً.
وفي صحة التطوع بشفع في الليل والنهار عن أحمد روايتان. والصحة قول الشافعي، وعدم الصحة قول أبي حنيفة. وقد ذكرنا ما يستدل به للمنع.
واستدل الشافعي ومن وافقه بان عمر دخل المسجد، فصلى ركعة، ثم قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص.
وقد يعارض ذلك بالحديث المرفوع والموقوف: ((صلاة الليل والنهار مثنى
مثنى)) .
واستدلوا –أيضا - بأن جماعة نقضوا وترهم

(9/169)


بركعة.
وهذا استدلال مردود؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قد أنكره عليهم غيرهم من الصحابة.
والثاني: أنهم إنما نقضوه لتصير صلاتهم شفعاً، ثم يوترون.
ومن تطوع بركعة في الليل، من غير نقض، ثم أوتر لم يبق لوتره فائدة؛ فإنه صار وتره شفعاً.
ونحن نذكر هاهنا مسألة نقص الوتر:
وهي: إذا أوتر الإنسان من الليل، ثم أراد أن يصلي:
فقال كثير من الصحابة: يصلي ركعة واحدة فيصير بها وتره الماضي شفعاً، ثم يصلي ما أراد، ثم يوتر في آخر صلاته 0
وهؤلاء اخذوا بقوله: ((اجعلوا آخر صلاتكم وتراً)) ، ولهذا روى ابن عمر هذا الحديث، وهو كان ينقض وتره، فدل على أنه فهمه منه.
وروي عن أسامة بن زيد وغير واحد من الصحابة، حتى قال أحمد: وروي ذلك عن اثني عشر رجلاً من الصحابة.
وممن روي ذلك عنه، منهم: عمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وابن عباس –في رواية -، وهو قول عمرو بن ميمون وابن سيرين وعورة ومكحول.
وأحمد –في رواية اختارها أبو بكر وغيره.

(9/170)


قال ابن أبي موسى: هي الأظهر عنه.
وقول إسحاق، قال إسحاق: وإن لم يفعل ذلك لم يكن قد عمل بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) .
وهو –أيضا - وجه للشافعية.
ورد بعضهم هذا القول بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا وتران في ليلة)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) ، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحسنه الترمذي.
وقالوا: هذا يؤدي إلى ثلاثة أوتار، فيكون منهيا عنه.
وقال الأكثرون: لا ينقض وتره، بل يصلي مثنى مثنى.
وهو قول ابن عباس –في المشهور عنه – وأبي هريرة وعائشة وعمار وعائذ بن عمرو وطلق بن علي ورافع بن خديج.
وروي عن سعد.

(9/171)


ورواه ابن المسيب، عن أبي بكر الصديق.
وفي رواية، عنه: أن الصديق ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاقره عليه، ولم ينكره.
خرجه حرب الكرماني.
ورواه خلاس، عن عثمان، ولم يسمع منه.
وهو قول علقمة وطاوس وسعيد بن جبير وأبي مجلز والشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد –في رواية عنه وصححها بعض أصحابنا.
واستدلوا بحديث: ((لا وتران في ليلة)) ، وقد تقدم، وبقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا قام أحدكم من الليل يصلي، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين)) .
خرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
وهو عام فيمن كان أوتر قبل ذلك، ومن لم يوتر.
واستدلوا –أيضا - بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ركعتين بعد وتره، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وبأن النقض يفضي إلى التطوع بالأوتار المعددة، وهو مكروه أو محظور.
وقد روي عن عائشة، أنها قالت: ذاك يلعب بوتره.
قال أحمد: كرهته عائشة، وأنا أكرهه.
وعن أحمد: أنه مخير بين الأمرين؛ لأنهما جميعاً مرويان عن الصحابة.
وقد روي عن علي، أنه خير بين الأمرين.
خرجه الشافعي بأسناد عنه، فيه ضعيف.

(9/172)


وخرج الطبراني: نا مقدام بن داود: نا عبد الله بن يوسف: نا ابن لهيعة، عن عياش بن عباس القتباني، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العتمة، ثم يصلي في المسجد قبل أن يرجع إلى بيته سبع ركعات، يسلم في الأربع في كل ... ثنتين، ويوتر بثلاث، يتشهد في الأوليين من الوتر تشهده في التسليم، ويوتر بالمعوذات، فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين ويرقد، فإذا انتبه من نومه صلى ركعتين –وذكرت الحديث، ولم تذكر أنه أوتر في آخر الليل.
وهو غريب جداً، ومنكر؛ مخالف جميع الروايات الصحيحة عن عائشة.
ومقدام بن داود، من فقهاء مصر، ولم يكن في الحديث محموداً قالَ ابن يونس: تكلموا فيهِ. وقال النسائي: ليس بثقة.
ويتصل بهذا: الكلام على حكم الصلاة بعد الوتر:
وقد كرهه طائفة من السلف. ومستندهم: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) ، وما أشبهه.
وروى عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، أنه كره الصلاة بعد الوتر. وكان أبو مجلز لا يصلي بعد الوتر إلا ركعتين.

(9/173)


وقال قيس بن عباد: إذا أوترت ثم قمت فاقرأ وأنت جالس.
وظاهر هذا: أنه يقرا من غير صلاة.
وأما الأكثرون، فلم يكرهوا الصلاة بعد الوتر. ولكن اختلفوا في نقضه – كما سبق.
ومذهب مالك: إذا أوتر قي المسجد، ثم أراد أن يتنفل بعده تربص قليلا، وإن انصرف بعد وتره إلى بيته تنفل ما أحب.
نقله في ((تهذيب المدونة)) .
واستحب أحمد أن يكون بين وتره وبين صلاته بعد الوتر فصل.
قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يوتر، ثم يصلى بعد ذلك؟ قالَ: لا بأس به، يصلي مثنى مثنى. قالَ: وأحب أن يكون بينهما ضجعة أو نوم أو عمل أو شيء. قلت: ضجعة من غير نوم؟ فما أدري ما قالَ.
وروى المروذي، عن أحمد - في الرجل يصلي شهر رمضان، يقوم فيوتر بهم، وهو يريد يصلي بقوم آخرين -: يشتغل بينهما بشيء، يأكل أو يشرب أو يجلس.
قال أبو حفص البرمكي: وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة، ويشتغل بينهما بشيء؛ ليكون فصلا بين وتره وبين الصَّلاة الثانية، وهذا إذا كانَ يصلي بهم في موضعه، فإما إن كانَ موضع آخر، فذهابه فصل، ولا يعيد الوتر ثانية؛ لأنه لا وتران في ليله 0 انتهى.

(9/174)


والمنصوص عن أحمد خلاف ذلك:
قال – في رواية صالح - في رجل أوتر مع الإمام، ثم دخل بيته -: يعجبني أن يكون بعد ضجعة أو حديث طويل واختلفت الرواية عن أحمد في التعقيب في رمضان، وهو: أن يقوموا في جماعة في المسجد، ثم يخرجون منه، ثم يعودون إليه فيصلون جماعة في آخر الليل.
وبهذا فسره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره من أصحابنا. فنقل المروذي وغيره، عنه: لا بأس به، وقد روي عن أنس فيه.
ونقل عنه ابن الحكم، قالَ: أكرهه، أنس يروى عنه أنه كرهه، ويروى عن أبي مجلز وغيره أنهم كرهوه، ولكن يؤخرون القيام إلى آخر الليل، كما قال عمر.
قال أبو بكر عبد العزيز: قول محمد بن الحكم قول له قديم، والعمل على ما روى الجماعة، أنه لا بأس به. انتهى.
وقال الثوري: التعقيب محدث.
ومن أصحابنا من جزم بكراهيته، إلا أن يكون بعد رقدة، أو يؤخره إلى بعد نصف الليل، وشرطوا: أن يكون قد اوتروا جماعة في قيامهم الأول، وهذا قول ابن حامد والقاضي وأصحابه. ولم يشترط أحمد ذلك.
وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ.
وكره الحسن أن يأمر الإمام الناس بالتعقيب؛ لما فيهِ من المشقة عليهم، وقال: من كانَ فيهِ قوة

(9/175)


فليجعلها على نفسه، ولا يجعلها على الناس.
وهذه الكراهة لمعنى آخر غير الصلاة بعد الوتر.
ونقل ابن المنصور، عن إسحاق بن راهويه، أنه إن أتم الإمام التراويح في أول الليل كره له أن يصلي بهم في آخره جماعة أخرى؛ لما روي عن أنس وسعيد بن جبير من كراهته. وإن لم يتم بهم في أول الليل وآخر تمامها إلى آخر الليل لم يكره.
فأما صلاة ركعتين بعد الوتر، فقد رويت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة، ولم يخرج البخاري منها شيئاً.
لكنه خرج من حديث عراك، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي بعد العشاء ثمان ركعات، وركعتين جالساً، وركعتين بين النداءين.
ولم تذكر الوتر في هذه الرواية، ولا بد منه.
والظاهر: أن الركعتين اللتين صلاهما جالسا كانتا بعد وتره، ويحتمل أن يكون قبله.
فقد خرج مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.
وخرج –أيضا - من رواية زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام،

(9/176)


عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع ركعات - وذكرت صفتها -، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، صنع في الركعتين مثل صنيعه الأول.
وفي رواية لأبي داود في هذا الحديث: كان يصلي ثمان ركعات، لا يسلم إلا في آخرهن، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة.
فعلى هذه الرواية: تكون صلاته ركعتين جالسا قبل الوتر، لا بعده.
وخرج أبو داود –أيضا - من رواية بهز بن حكيم، عن زرارة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع، يسلم في التاسعة تسليمة شديدة، ثم يقرأ وهو قاعد بأم
الكتاب، ويركع وهو قاعد، ثم يقرأ في الثانية، فيركع ويسجد وهو قاعد، ثم يدعو ما شاء أن يدعو، ثم يسلم.
وهذه الرواية تخالف رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنه كان إذا أراد أن يركع
قام.
وخرج أبو داود من رواية علقمة بن وقاص، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع ركعات، ثم اوتر بسبع ركعات، وركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر، فقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم سجد.

(9/177)


وخرجه مسلم، ولفظه: عن علقمة، قال: قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركعتين وهو جالس؟ قالت: يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام
فركع.
وقد روي عن عائشة، من وجوه أخر.
وخرج النسائي من حديث شعبة، عن الحاكم: سمعت سعيد بن جبير يحدث، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى من الليل خمس ركعات، ثم ركعتين، ثم نام، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصَّلاة.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ميمون المرئي، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس.
وخرجه الترمذي إلى قوله: ((ركعتين)) .
وذكر العقيلي أن ميموناً تفرد برفعه، وغيره يرويه موقوفا على أم سلمة.
وفيه –أيضا - عن أبي أمامة وأنس وثوبان وغيرهم.

(9/178)


واختلف العلماء في الركعتين بعد الوتر؟
فمنهم من استحبها وأمر بها، ومنهم: كثير بن ضمرة وخالد بن معدان.
وفعلها الحسن جالساً.
وتقدم عن أبي مجلز، أنه كان يفعلها.
ومن أصحابنا من قال: هي من السنن الرواتب.
وفي حديث سعد بن هشام ما يدل على مواظبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما.
ومن هؤلاء من قال: الركعتان بعد الوتر سنة له، كسنة المغرب بعدها، ولم يخرج بذلك المغرب عن أن يكون وتراً لها.
ومن العلماء من رخص فيهما، ولم يكرههما، هذا قول الأوزاعي وأحمد.
وقال: ارجوا إن فعله أن لا يضيق، ولكن يكون ذلك وهو جالس، كما جاء في الحديث. قيل له: تفعله أنت؟ قالَ: لا.
وقال ابن المنذر: لا يكره ذَلِكَ.
ومن هؤلاء من قال: إنما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك أحيانا لبيان الجواز فقط.
وحكي عن طائفة كراهة ذلك، منهم قيس بن عبادة ومالك والشافعي.
فأما مالك، فلم يعرف هاتين الركعتين بعد الوتر -: ذكره عنه ابن المنذر.

(9/179)


وأما الشافعي، فحكي عنه أنه قال: أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نجعل آخر صلاتنا بالليل وتراً، فنحن نتبع أمره، وأما فعله فقد يكون مختصا به.
وأشار البيهقي إلى أن هاتين الركعتين تركهما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فعلهما، وانتهى أمره إلى أن جعل آخر صلاته بالليل وتراً.
وهذا إشارة إلى نسخهما، وفيه نظر.
وإذا كان مذهب الشافعي أنه لا تكره الصلاة بعد الوتر بكل حال، فكيف تكره هاتان الركعتان بخصوصهما، مع ورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة بها؟
وقد ذكر بعض الناس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي ركعتين بعد وتره جالساً، لما كانَ يوتر من الليل ويجعل الركعتين جالسا كركعة قائمًا، فيكون كالشفع لوتره، حتَّى إذا قام ليصلي من آخر الليل لم يحتج إلى نقضه بعد ذَلِكَ.
وربما استأنسوا لذلك بحديث ثوبان: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال: ((إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ، وإلا كانتا له)) .
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) .
وهذا القول مردود؛ لوجهين:
أحدهما: أن حديث عائشة يدل –لمن تأمله - على أن هذا كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله في وتره من آخر الليل، لا من أوله، وكذلك حديث ابن عباس.

(9/180)


وثانيهما: أن صلاته جالساً لم تكن كصلاة غيره من أمته على نصف صلاة
القائم.
يدل عليه: ما خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن عمرو، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجدته يصلي جالساً، فقلت: حُدّثتُ يا رسول الله، إنك قلت:
((صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة)) ، وأنت تصلي قاعداً؟ قالَ: ((أجل؛ ولكني لست كأحد منكم)) .
وأما حديث ثوبان، فتأوله بعضهم على أن المراد: إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين.
وكأنه يريد أنه لا يقتصر في وتره في السفر على ركعة واحدة، بل يركع قبلها ركعتين، فيحصل له بهما نصيب من صلاة الليل، فإن لم يستيقظ من آخر الليل كان قد اخذ بحظ من الصلاة، وإن استيقظ صلى ما كتب له، وهذا متوجه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يصلي في السفر صلاته من الليل قبل أن ينام.
ففي ((المسند)) من حديث شرحبيل بن سعد، عن جابر، أنه كان مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فصلى العتمة –وجابر إلى جنبه -، ثم صلى بعدها ثلاث عشرة سجدة.
وشرحبيل، مختلف فيه.

(9/181)


5 - باب
الوتر على الدابة

(9/182)


999 - حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن سعيد بن يسار، أنه قالَ: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة. قال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال
عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح فنزلت فأوترت. قالَ عبد الله: أليس لك في رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة؟ فقلت: بلى؛ والله. قال فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر على البعير.
هذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه متعددة، قد خرجاه في ((الصحيحين)) من هذا الوجه، ومن حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه.
وخرجه البخاري من حديث نافع، ومسلم من حديث عبد الله بن دينار.
وهذا مما استدل به على أن الوتر غير واجب، وأنه ملتحق بالنوافل؛ فإنه لو كانَ واجبا لألحق بالفرائض، ولم يفعل على الدابة جالساً، مع القدرة على القيام.

(9/182)


وقد اختلف العلماء في جواز الوتر على الراحلة:
فذهب أكثرهم إلى جوازه، ومنهم: ابن عمر، وروي عن علي وابن عباس، وهو قول سالم وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.
وقال الثوري: لا بأس به، وبالأرض أحب إلي.
وكذا مذهب مالك:
في ((تهذيب المدونة)) : أن المسافر إذا كان له حزب، فليوتر على الأرض، ثم يتنفل في المحمل بعد الوتر.
وهذا يدل على أن تقديم الوتر على الأرض على قيام الليل أفضل من تأخيره مع على الراحلة.
ومنع من الوتر على الراحلة من يرى أن الوتر واجب، وهو قول أبي حنيفة.
وقال النخعي: كانوا يصلون الفريضة والوتر بالأرض.
وحكى ابن أبي موسى – من أصحابنا – عن أحمد في جواز صلاة ركعتي الفجر على الراحلة روايتين، دون الوتر.
وحكي عن بعض الحنفية، أنه لا يفعل الوتر ولا ركعتا الفجر على الراحلة.
وروى الإمام أحمد: ثنا إسماعيل: ثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، أن ابن عمر كان يصلي على راحلته تطوعاً، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض.
ولعله فعله استحباباً، وإنما أنكر [على] من لا يراه جائزاً.

(9/183)


وروى محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن
عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قالَ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على راحلته حيث توجهت به تطوعا، فإذا أراد أن يصلي الفريضة أو يوتر أناخ فصلى بالأرض.
قال ابن جوصا في ((مسند الأوزاعي من جمعه)) : لم يقل أحد من أصحاب الأوزاعي: ((أو يوتر)) غير محمد بن مصعب وحده.
وخرجه من طرق كثيرة عن الأوزاعي، ليس في شيء منها: ذكر الوتر.
ومحمد بن مصعب، قال يحيى: ليس حديثه بشيء. وقال ابن حبان: ساء حفظه فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به.

(9/184)


6 - باب
الوتر في السفر

(9/185)


1000 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء، صلاة الليل، إلا الفرائض، ويوتر على راحلته.
الوتر في السفر مستحب كالوتر في الحضر، وقد كان ابن عمر يوتر في سفره.
وروى وكيع، عن شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس وابن عمر، أنهما قالا: الوتر في السفر سنة.
وقال مجاهد: لا يترك الوتر في السفر إلا فاسق.
وروى وكيع - أيضا - عن خالد بن دينار، عن شيخ، قال: صحبت ابن عباس في سفر، فلا أحفظ أنه أوتر.
وهذا إسناد مجهول.
وقوله: ((لم أحفظ)) لا يدل على أنه لم يوتر.
والوتر تابع لصلاة الليل، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته بالليل وتراً.
وإنما اختلف العلماء في فعل السنن الرواتب في السفر؛ لأنها تابعة للفرائض، والفرائض تقصر في السفر تخفيفاً، فكيف يحذف شطر

(9/185)


المفروضة ويحافظ على سننها؟
ولهذا قالَ ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي.
وقد روي، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في السفر ركعتي الفجر والمغرب؛ لأن فريضتهما لا تقصر.
وهو من مراسيل أبي جعفر محمد بن علي.
ونص عليه أحمد –في رواية المروذي -، أنه لا يدع في السفر ركعتي الفجر والمغرب.

(9/186)


7 - باب
القنوت قبل الركوع وبعده
لم يبوب البخاري على القنوت إلا في عقب أبواب الوتر، وهذا يدل على أنه يرى القنوت في الوتر، إما دون غيره من الصلوات أو مع غيره منها.
وخرج فيه حديث أنس بن مالك من طرق أربعة.
الطريق الأول:

(9/187)


1001 - ثنا مسدد: نا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح؟ قالَ: نعم. فقيل: أو قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً.
هذا الحديث –بهذا اللفظ -: يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح، وأنه قنت بعد الركوع، وأنه قنت يسيراً.
وقوله: ((يسيراً)) يحتمل أن يعود إلى القنوت، فيكون المراد: قنت قنوتاً يسيراً، ويحمتل أنه يعود إلى زمانه، فيكون المعنى: قنوته زماناً يسيراً، فيدل على أنه لم يدم
عليه، بل ولا كان غالب أمره، وإنما كان مدة يسيرة فقط.

(9/187)


ويدل عليه: ما روى علي بن عاصم: أخبرني خالد وهشام، عن محمد بن سيرين: حدثني أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا في الغداة، بعد الركوع، يدعو.
وقد خرجه أبو داود، وعنده: بدل ((يسيراً)) : ((يسراً)) أو ((يسر)) .
وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنما تدل على أنه اسر بالقنوت، ولم يجهر به.
الطريق الثاني:

(9/188)


1002 - ثنا مسدد: ثنا عبد الواحد: ثنا عاصم، قال: سألت أنس بن مالك، عن القنوت؟ فقالَ: قد كانَ القنوت. قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله. قلت: فإن فلانا أخبرني عنك، أنك قلت: بعد الركوع؟ فقال: كذب، إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الركوع شهرا، أراه كان بعث قوما، يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد، فقنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا يدعو عليهم.
وخرّجه – أيضا – في ((المغازي)) عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد،
[عن] عاصم، بأتم من هذا.
وخرّجه في أواخر ((الجهاد)) من طريق ثابت بن يزيد، عن عاصم:

(9/188)


سألت أنساً عن القنوت، [قال] : قبل الركوع، فقلت: إن فلانا يزعم أنك قلت: بعد الركوع؟ قالَ: كذب، ثُمَّ حدث عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قنت شهراً بعد الركوع –فذكره.
وخرّجه في ((الأحكام)) من طريق عباد بن عباد، عن عاصم. وفي ((الدعاء)) من طريق أبي الأحوص، عن عاصم –مختصراً، في القنوت شهراً، ولم يذكر فيه
:
((قبل)) .
وخرجه مسلم من رواية أبي معاوية، عن عاصم، عن أنس، قال: سألته عن القنوت قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ فقالَ: قبل الركوع. قلت: فإن ناسا يزعمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع؟ فقال: إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا، يدعو على أناس قتلوا أناسا من أصحابه، يقال لهم: القراء.
وخرجه من طرق أخرى، عن عاصم، عن أنس –في قنوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا
فقط.
وليس في شيء من هذه الروايات: مدوامة القنوت، كما في رواية عبد الواحد بن زياد التي خرجها البخاري، مع أنه لا دلالة فيها على ذلك –على تقدير أن تكون محفوظة –؛ فإنه ليس فيها تصريح بأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هوَ الذي كانَ يقنت قبل الركوع، فيحتمل أن يريد أن مدة قنوت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت شهرا بعد الركوع، وكان غيره من الخلفاء يقنت قبل الركوع، ولعله

(9/189)


يريد قنوت عمر، لما كانَ يبعث الجيوش إلى بلاد الكفار، فكان يقنت ويستغفر لهم.
ولكن روى الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم، عن أنس، قال: قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح يدعو على احياء من احياء العرب، وكان قنوته –قبل الركوع.
ولكن هذه الرواية شاذه منكرة، لا يعرج عليها.
وأبو جعفر الرازي، اسمه: عيسى بن ماهان، قد وثقه يحيى وغيره؛ فإنه من أهل الصدق ولا يتعمد الكذب، ولكنه سيئ الحفظ؛ فلذلك نسبه ابن معين إلى الخطإ والغلط مع توثيقه له.
وقال ابن المديني: هو يخلط مثل موسى بن عبيدة. وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي في الحديث. وقال أبو زرعة: يهم كثيراً. وقال الفلاس: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق سيئ الحفظ. وقال ابن خراش: سيئ الحفظ صدوق. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
وقد روى أبو جعفر هذا، عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال: ما زال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت حتى فارق الدنيا.
خرجه الإمام أحمد وغيره.

(9/190)


وهذا - أيضا - منكر.
قال أبو بكر الأثرم: هو حديث ضعيف، مخالف للأحاديث.
يشير إلى أن ما ينفرد به أبو جعفر الرازي لا يحتج به، ولا سيما إذا خالف
الثقات.
وقد تابعه عليه: عمرو بن عبيد الكذاب المبتدع، فرواه عن الحسن، عن أنس - بنحوه.
وتابعه - أيضا -: إسماعيل بن مسلم المكي، وهو مجمع على ضعفه، فرواه عن الحسن، عن أنس.
وقد خرج حديثه البزار، وبين ضعفه.
وروي –أيضا - ذلك عن أنس من وجوه كثيرة، لا يثبت منها شيء، وبعضها موضوعة.
وروى خليد بن دعلج، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في صلاة الفجر بعد الركوع، وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته، ثم طلب إليه المهاجرون والأنصار تقديم القنوت قبل الركوع.
خليد بن دعلج، ضعيف، ولا يعتمد.
وقد روى مصعب بن المقدام، عن عاصم الأحول، عن أنس، قال: قنت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً قبل الركوع.
وروى الحسن بن الربيع، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا في صلاة الفجر، يدعو على خيبر.

(9/191)


قال عاصم: سألت أنساً عن القنوت؟ قالَ: هوَ قبل الركوع.
وهاتان الروايتان: تدل على أن القنوت قبل الركوع كانَ شهرا، بخلاف رواية عبد الواحد، عن عاصم.
وروى قيس بن الربيع، عن عاصم، قال: قلنا لأنس: إن قوماً يزعمون أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يقنت بالفجر؟ قالَ: كذبوا؛ إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا واحداً، يدعو على حي من أحياء المشركين.
فهذه تعارض رواية أبي جعفر الرازي، عن عاصم، وتصرح بأن مدة القنوت كلها تزد على شهر.
وليس قيس بن الربيع بدون أبي جعفر الرازي، وإن كان قد تكلم فيه؛ لسوء حفظه –أيضا - فقد أثنى عليهِ أكابر، مثل: سفيان الثوري وابن عيينة وشريك وشعبة وأبي حصين.
وأنكر شعبة على القطان كلامه فيه، وأنكر ابن المبارك على وكيع كلامه فيه.
وقال محمد الطنافسي: لم يكن قيس عندنا بدون سفيان، إلا أنه استعمل، فأقام على رجل حداً، فمات، فطفئ أمره.
وقال يعقوب بن شيبة: هو عند جميع أصحابنا صدوق وكتابه صالح، إنما حفظه فيه شيء.
وقال ابن عدي: رواياته مستقيمة، وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار، والقول فيه ما قال شعبة: أنه لا بأس به.

(9/192)


وقد توبع قيس على روايته هذه:
فروى أبو حفص ابن شاهين: ثنا أحمد بن محمد بن سعيد –هو: ابن عقده الحافظ -: ثنا الحسن بن علي بن عفان: ثنا عبد الحميد الحماني، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقنت إلا شهراً واحداً حتى مات.
وابن عقده، حافظ كبير، إنما أنكر عليه التدليس، وقد صرح في هذا
بالتحديث.
وعبد الحميد الحماني، وثقه ابن معين وغيره، وخرج له البخاري.
وخرج البيهقي من حديث قبيصة، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، قال: إنما قنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً. فقلت: كيف القنوت؟ قالَ: بعد الركوع.
وهذه تخالف رواية من روى عنه القنوت قبل الركوع.
وأما القنوت شهرا، فقد سبق أن البخاري خرجه من رواية عباد بن عباد.
وخرجه مسلم من رواية ابن عيينة، وغير واحد، كلهم عن عاصم.
وهو المحفوظ عن سائر أصحاب أنس.
فتبين بهذا: أن رواية عاصم الأحول عن أنس –في محل القنوت، والإشعار بدوامه - مضطربة متناقضة.
وعاصم نفسه، قد تكلم فيه القطان، وكان يستضعفه، ولا يحدث

(9/193)


عنه.
وقال: لم يكن بالحافظ.
وقد حدث عاصم، عن حميد بحديث، فسئل حميد عنه، فأنكره ولم يعرفه.
وحينئذ؛ فلا يقضى برواية عاصم، عن أنس، مع اضطرابها على روايات بقية أصحاب أنس، بل الأمر بالعكس.
وقد أنكر الأئمة على عاصم روايته عن أنس القنوت قبل الركوع:
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله –يعني: أحمد بن حنبل -: يقول أحمد في حديث أنس: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول؟ قالَ: ما علمت أحدا يقوله غيره: قالَ أبو عبد الله: خالفهم عاصم كلهم.
يعني: خالف أصحاب أنس.
ثم قال: هشام، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت [بعد] الركوع. والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس. وأيوب، عن محمد: سألت أنساً. - وحنظلة السدوسي، عن أنس -: أربعة أوجه.
وقال أبو بكر الخطيب في ((كتاب القنوت)) : أما حديث عاصم الأحول، عن أنس، فإنه تفرد بروايته، وخالف الكافة من أصحاب أنس، فرووا عنه القنوت بعد الركوع، والحكم للجماعة على الواحد.
كذا قاله الخطيب في القنوت قبل الركوع، فأما في دوام القنوت، فإنه جعله أصلا اعتمد عليه، ويقال له فيه

(9/194)


كما قال هو في محل القنوت، فيقال: إن أصحاب أنس إنما رووا عنه إطلاق القنوت أو تقييده بشهر، ولم يرو عن أنس دوام القنوت من يوثق بحفظه.
وأما القنوت قبل الركوع، فقد رواه عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، كما خرج البخاري عنه من طريقه في ((السير)) ، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقد حمل بعض العلماء المتأخرين حديث عاصم، عن أنس في القنوت قبل الركوع على أن المراد به: إطالة القيام، كما في الحديث: ((أفضل الصلاة طول
القنوت)) .
والمراد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل القيام قبل الركوع للقراءة، وإنما أطال القيام بعد الركوع شهرا حيث دعا على من قتل القراء، ثم تركه.
وقد صح عن ابن عمر مثل ذلك.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يقنت في الفجر، ولا في الوتر، وكان إذا سئل عن القنوت، قال: ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن.
ورواه يحيى بن سعيد، عن عبيد الله – أيضا.
الطريق الثالث:

(9/195)


1003 - ثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة، عن التيمي، عن ابن مجلز، عن

(9/195)


أنس بن مالك، قال: قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا، يدعو على رعل وذكوان.
وخرجه في ((المغازي)) من رواية ابن المبارك، عن سليمان التيمي، وزاد فيه: ((بعد الركوع)) .
وزاد –أيضا - فيه: ((ويقول: عصية عصت الله ورسوله)) .
وكذلك خرجه مسلم من رواية المعتمر بن سلمان التيمي، عن أبيه، وزاد فيه: ((في صلاة الصبح)) .
الطريق الرابع:

(9/196)


1004 - ثنا مسدد: ثنا إسماعيل: أنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: كان القنوت في المغرب والفجر.
وخرجه – فيما تقدم - في ((باب: فضل اللهم ربنا ولك الحمد)) ، عن عبد الله بن أبي الأسود، عن إسماعيل –وهو: ابن علية -، به - أيضا.
وليس في هذا الحديث أن ذلك كان من فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في عهده، فيحتمل أنه اخبر عما كان في زمن بعض خلفائه، والله أعلم.
وقد روي حديث القنوت عن أنس من طرق أخرى، وقد خرجه البخاري في ((السير)) و ((المغازي)) من بعضها.

(9/196)


طريق آخر:
قال البخاري: ثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا عبد العزيز، عن أنس، قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم: رعل وذكوان، فقتلوهم، فدعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً عليهم في صلاة الغداة، وذلك بدء
القنوت، وما كنا نقنت.
قال: وسأل رجل أنساً عن القنوت: بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة؟ قالَ: بل عندَ فراغ من القراءة.
ولكن؛ ليس في هذه الرواية تصريح بأن قنوت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ قبل الركوع، إنما هوَ من فتيا أنس. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد تقدم عنه ما يخالف ذلك، وما يوافقه، فالروايات عن أنس في محل القنوت مختلفة.
وفي هذه الرواية التصريح بأن هذا كان بدأ القنوت، وأنهم لم يقنتوا قبله، والتصريح بأن القنوت كان شهرا، ولا شك أن هذا القنوت ترك بعد ذلك ولم يقل أنس: إنه استمر القنوت بعد الشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
طريق آخر:
قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير: ثنا مالك، عن إسحاق [بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: دعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على لادين قتلوا أصحابه ببئر ثلاثين صباحاً حين يدعوا على رعل ولحيان، وعصية عصت الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أنس: فأنزل الله تعالى لنبيه في الذين قتلوا - أصحاب بئر معونة -
قراناً، حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا، فقد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه]

(9/197)