فتح الباري لابن رجب

 [كتاب الاستسقاء]

16 -[باب
الجهر بالقراءة في الاستسقاء

(9/198)


1024 - ثنا أبو نعيم: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه، قال: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه، ثم صلى ركعتين، وجهر فيهما بالقراءة] .
الصواب.
فتبين بهذا: أن النعمان أخطأ في إسناده، فلا يبعد خطؤه في متنه - أيضا.
وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يخير بين أن يخطب قبل الصلاة وبعدها، اختارها جماعة من أصحابنا؛ لورود النصوص بكلا الأمرين.
قالَ بعض أصحابنا: والأولى للإمام أن يختار الأرفق بالناس، في كل وقت
بحسبه.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يخطب، ولكن يدعو؛ لقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في التضرع والتكبير، وصلى ركعتين.
خرجه الترمذي وغيره.
وظاهر حديث عبد الله بن يزيد: يدل على أنه لم يزد على الدعاء - أيضا -، وعلى ذلك حمله الإمام أحمد في رواية المروذي.

(9/198)


وحديث عائشة الذي ذكرناه في ((أبواب الاستسقاء)) : يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفتح خطبته بالحمد والتكبير، ثم شرع في الدعاء، واستفتحه بتلاوة أول سورة الفاتحة، ثم بكلمات من الثناء على الله عز وجل، إلى أن نزل، وأنه كان في أول خطبة قاعداً على المنبر، وقد ثبت أنه دعا قائما في حديث عبد الله بن يزيد، فهذا القدر هو المروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يرو عنه أزيد منه في الدعاء الاستسقاء.
وروى حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس، قال: جاء أعرأبي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ: يا رسول الله، لقد جئتك من عند قوم لا يتزود لهم راع، ولا يخطر لهم فحل، فصعد المنبر، فحمد الله، ثم قال: ((اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً طبقاً مريعاً غدقاً عاجلاً، غير راث)) ثم نزل، فما يأتيه أحد من وجه إلا قال: قد أحييتنا.
خرجه ابن ماجه.
وروي عن حبيب –مرسلا، وهو أشبه.
وخرج الطبراني من حديث أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثم استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه، ثم جثا على ركبتيه، ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم
دعا.

(9/199)


وإسناده ضعيف.
وقد تقدم عن عمر وعبد الله بن يزيد الأنصاري، أنهما لم يزيدا على الاستغفار.
واختلف القائلون بأنه يخطب – وهم الجمهور -: هل يخطب خطبة واحدة، أو خطبتين؟ على قولين:
أحدهما: يخطب خطبة واحدة، وهو قول ابن مهدي وأحمد وأبي يوسف ومحمد.
والثاني: أنه يخطب خطبتين، بينهما جلسة كالعيد، وهو قول الليث ومالك والشافعي، وروي عن الفقهاء السبعة، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.
وقالت طائفة: يخير بين الأمرين، وهو قول ابن جرير الطبري، وحكي مثله عن أبي يوسف ومحمد –أيضا.
واختلفوا: بمإذا تستفتح الخطبة؟
فقالت طائفة: بالحمد لله، وحكى عن مالك وأبي يوسف ومحمد، وهو قول طائفة من أصحابنا، وهو الأظهر.
وقد سبق في ((الجمعة)) توجيه ذلك.
ومذهب مالك: ليس في خطبة الاستسقاء تكبير -: ذكره في ((تهذيب
المدونة)) .

(9/200)


وقالت طائفة: يفتتحها بالتكبير كخطبة العيدين، وهو قول أكثر أصحابنا، وطائفة من الشافعية، ونقل أنه نص الشافعي.
وقد تقدم من حديث عائشة ما يشهد له.
وقالت طائفة: يستفتحها بالاستغفار، وهو قول أبي بكر بن جعفر من أصحابنا، وأكثر أصحاب الشافعي.
قال أبو بكر –من أصحابنا –: يستفتحها بالاستغفار، ويختمها به، ويكثر من الاستغفار بين ذلك.
وهو منصوص الشافعي، ونص على أنه يختمها بقوله: استغفر الله لي ولكم.
وأما الثاني – وهو الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء -: فحديث ابن أبي ذئب عن الزهري الذي خرجه البخاري –صريح بذلك.
قال الإمام أحمد –في رواية محمد بن الحكم -: كنت أنكره، حتى رأيت في رواية معمر عن الزهري كما قال ابن أبي ذئب.
يعني: أنه جهر بالقراءة.
وحديث معمر، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من رواية عبد الرزاق، عنه.
ولا اختلاف بين العلماء الذين [يرون] صلاة الاستسقاء، أنه يجهر فيها بالقراءة، وقد تقدم عن عبد الله بن يزيد الخطمي، أنه فعله بمشهد من الصحابة.
وأكثر العلماء على أنه يقرأ فيهما بما يقرأ في العيدين، وهو قول الثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
قال الشافعي: وإن قرأ {إِنَّا

(9/201)


أَرْسَلْنَا نُوحاً} [نوح:1] كان حسناً.
وقد قال ابن عباس: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الاستسقاء ركعتين، كما كان يصلي في العيد.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وصححه
الترمذي. وقد روي عن ابن عباس، أنه كان يفعل كذلك.
وخرج الطبراني من حديث أنس – مرفوعا -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيهما ((سبح)) و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
وإسناده لا يصح؛ فيهِ مجاشع بن عمرو، متروك الحديث.
وروى عبد الرزاق بأسناده، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرا في ركعتي الاستسقاء بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى.
واختار هذا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا.

(9/202)


17 - باب
كيف حول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهره إلى الناس؟

(9/203)


1025 - حدثنا آدم: نا بن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه قالَ: رأيت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خرج يستسقي، فحول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة
يدعو، ثُمَّ حول رداءه، ثُمَّ صلى بنا ركعتين، جهر فيهما بالقراءة.
ظاهر الحديث: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? دعا مستقبل القبلة، وأنه حول رداءه بعد ذلك، وقد سبق الكلام في وقت تحويل الرداء.
وظاهر الحديث: يستدل به أنه ليس في الاستسقاء خطبة، بل دعاء مجرد.
وقد خرج البخاري – فيما تقدم – من حديث شعيب، عن الزهري، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا قائما، ثم توجه إلى القبلة.

(9/203)


وهذا صريح في أنه ابتدأ الدعاء مستقبل الناس، ثم أتمه مستقبل القبلة.
وأما من يقول: إنه يخطب، فإنه يقول: إذا أنهى خطبته ودعا استقبل القبلة، وحول ظهره إلى الناس فدعا.
وأكثرهم قالوا: يستقبل القبلة في أثناء خطبته.
وقال الشافعية: يكون ذلك في أثناء الخطبة الثانية؛ لأن عندهم يسن لها خطبتان، كما تقدم.
وإنما استقبل القبلة في الاستسقاء للدعاء دون خطبة الجمعة؛ لأن خطبة الجمعة خطاب للحاضرين وموعظة لهم فيستقبلهم بها، والدعاء تابع لذلك، ولو كانَ
للاستسقاء.
وأما الاستسقاء المجرد، فإنه إنما يقصد منه الدعاء، والدعاء المشروع إسراره دون إعلانه، وإخفاؤه دون إظهاره، فلذلك شرع إسراره في الاستسقاء وتولية الظهر إلى الناس، واستقبال القبلة؛ لأن الدعاء إلى القبلة أفضل.
وقد كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستقبل القبلة إذا استنصر على المشركين في يوم بدر وغيره.
وأيضا؛ فإن استدبار الناس في الدعاء واستقبال القبلة أجمع لقلب الداعي؛ حيث لا يرى أحداً من الناس، وادعى إلى حضوره وخشوعه في الدعاء، وذلك أقرب إلى إجابته.

(9/204)


18 - باب
صلاة الاستسقاء ركعتين

(9/205)


1026 - حدثنا قتيبة: نا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عمه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى، فصلى ركعتين، وقلب رداءه.
في الحديث: دليل على الصلاة للاستسقاء، وقد تقدم –أيضا - في حديث عائشة وابن عباس.
وجمهور العلماء على أنه تشرع صلاة الاستسقاء.
وخالف فيه طائفة من علماء اهل الكوفة، منهم: النخعي، وهو قول أبي
حنيفة، وقالوا: إنما يستحب في الاستسقاء الدعاء والاستغفار خاصة.
وهؤلاء لم تبلغهم سنة الصلاة، كما بلغ جمهور العلماء.
وفيه: دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان، وهذا لا اختلاف فيه بين من يقول: إنه يشرع للاستسقاء صلاة.
ولكن اختلفوا: هل تصلى بتكبير كتكبير صلاة العيد، أم بغير تكبير كسائر الصلوات، فتستفتح بتكبيرة الإحرام، ثم يقرأ بعدها؟ على قولين.

(9/205)


أحدهما: أنها تصلى كما تصلى العيد بتكبير قبل القراءة وقد روي عن ابن عباس، وعن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن حزم، وهو قول الشافعي وأحمد – في ظاهر مذهبه – وأبي يوسف ومحمد.
والثاني: تصلى بغير تكبير زائد، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وأحمد –في رواية – وإسحاق وأبي ثور وأبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي.
قال أبو إسحاق البرمكي من أصحابنا: يحتمل أن هذه الرواية عن أحمد قول قديم رجع عنه.
وحكي عن داود: إن شاء صلي بتكبير زائد، وإن شاء صلى بتكبيرة الإحرام فقط.
واستدل من قال: يصلي بتكبير بظاهر حديث ابن عباس: ((وصلى ركعتين كما يصلي في العيد)) ، وقد سبق ذكره.
وقد روي عنه صريحاً بذكر التكبير، لكن إسناده ضعيف.

(9/206)


خرجه الدارقطني والحاكم في ((المستدرك)) –وصححه - والبزار في ((مسنده)) وغيرهم، من رواية محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الاستسقاء، كبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] ، وكبر فيها خمس تكبيرات.
ومحمد بن عبد العزيز الزهري هذا، متروك الحديث، لا يحتج بما يرويه.
وروى يزيد بن عياض، حدثني أبو بكر بن عمرو بن حزم وابناه –عبد الله ومحمد - ويزيد بن عبد الله بن أسامة وابن شهاب، كلهم يحدثه عن عبد الله بن يزيد، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى –فذكر الحديث - قال: ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فكبر في الركعة الأولى سبعاً، وفي الآخرة خمساً، يبدأ بالتكبير قبل القراءة في الركعتين كليهما.
ويزيد بن عياض جعدبة المدني، متروك الحديث، لا يحتج به.
وقد روي خلاف هذا، من رواية عبد الله بن حسين بن عطاء، عن

(9/207)


شريك ابن أبي نمر، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الاستسقاء، في كل ركعة تكبيرة، وخطب قبل الصلاة، وقلب رداءه لما دعا.
خرّجه أبو القاسم البغوي.
وخرّجه الترمذي في ((كتاب العلل)) –مختصراً -، وقال: سألت البخاري عنه، فقال: هذا خطأ، وعبد الله بن حسين منكر الحديث؛ روى مالك وغيره، عن شريك، عن أنس، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى، ليس فيهِ هذا.
يشير البخاري إلى حديث الاستسقاء في الجمعة، وهذا المتن غير ذلك المتن؛ فإن هذا فيهِ ذكر صلاة الاستسقاء والخطبة لها وقلب الرداء في الدعاء، لكنه غير محفوظ عن شريك، عن أنس.
ووقت صلاة الاستسقاء وقت صلاة العيد، وقد تقدم حديث عائشة في خروج النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها حين بدا حاجب الشمس، وأنه قعد على المنبر ودعا، ثم صلى بعد ذلك.
وذكر ابن عبد البر أن الخروج لها في أول النهار عند جماعة العلماء، إلا أبا بكر بن حزم؛ فإنه قالَ: الخروج إليها عندَ زوال الشمس.
وكأنه ألحقها بالجمعة.
ولا يفوت وقتها بفوات وقت العيد، بل تصلى في جميع النهار.
قال بعض أصحابنا: إلا أنه لا تصلى في أوقات النهي بغير خلاف،

(9/208)


إذ لا حاجة إلى ذلك، ووقتها متسع.
ومن أصحابنا من حكى وجهاً آخر بجواز صلاتها في وقت النهي، إذا جوزنا فعل ذوات الأسباب فيه، وهو ضعيف.
وكذا قال الشافعي في ((الأم)) ، قال: إذا لم يصل للاستسقاء قبل الزوال يصلها بعد الظهر وقبل العصر.
ومراده: أنه لا يصلى بعد العصر في وقت النهي.
ولأصحابه في ذلك وجهان.
ومن أصحابه من قال: وقتها وقت صلاة العيد.
ومنهم من قال: أول وقتها وقت العيد، ويمتد إلى أن يصلى العصر.
وهذا موافق لنص الشافعي كما تقدم.
ومنهم من قال: الصحيح أنها لا تختص بوقت، بل يجوز وتصح في كل وقت من ليل ونهار، إلا أوقات الكراهة –على أصح الوجهين -؛ لأنها لا تختص بيوم ولا تختص بوقت كصلاة الإحرام والاستخارة.
وهذا مخالف لنص الشافعي، لما علم من سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في صلاة الاستسقاء؛ فإنهم كانوا يخرجون نهاراً لا ليلا، وجمع الناس لصلاة الاستسقاء ليلا مما يشق عليهم، وهو سبب لامتناع حضور أكثرهم، فلا يكون ذَلِكَ مشروعاً بالكلية.
وهذا بخلاف صلاة الإحرام والاستخارة، فإنه لا يشرع لهم الاجتماع، فلا يفوت بفعلهما ليلا شيء من مصالحهما.

(9/209)


19 - باب
الاستسقاء في المُصلى

(9/210)


1027 - حدثنا عبد الله بن محمد: أنا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر: سمع عباد بن تميم، عن عمه،: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلى يستسقي، واستقبل القبلة، فصلى ركعتين، وقلب رداءه.
قال سفيان: وأخبرني المسعودي، عن أبي بكر، قال: جعل اليمين على
الشمال.
الخروج لصلاة الاستسقاء إلى المصلى مجمع عليه بين العلماء، حتى وافق الشافعي عليه - مع قوله: إن الأفضل في العيد أن يصلى في الجامع إذا وسعهم.
وذلك لأن الاستسقاء يجتمع له الخلق الكثير، فهو مظنة ضيق المسجد عنهم، ويحضره النساء والرجال وأهل الذمة والبهائم والأطفال، فلا يسعهم غير الصحراء.

(9/210)


20 - باب
استقبال القبلة في الاستسقاء

(9/211)


1028 - حدثنا محمد - وهو ابن سلام -: نا عبد الوهاب: نا يحيى بن سعيد: أخبرني أبو بكر بن محمد، أن عباد بن تميم أخبره، أن عبد الله بن زيد الأنصاري أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يصلي، وأنه لما دعا - أو أراد أن يدعو - استقبل
القبلة، وحول رداءه.
وقد سبق هذا المعنى في كثير من الروايات، وأنه حول ظهره في الدعاء إلى الناس واستقبل القبلة، ودعا، وسبق الكلام على معنى ذلك.
وخرج البخاري في ((الدعاء)) من ((كتابه)) هذا، من حديث عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، قال: خرج رسول الله إلى هذا المصلى
يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة، وقلب رداءه.
وفي حديث عائشة: ثم اقبل على الناس ونزل.
وفيه: دليل على أنه يُقبل على الناس بعد ذلك وقبل نزوله.

(9/211)


21 - باب
رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء

(9/212)


1029 - وقال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر بن أبي اويس، عن سلمان بن بلال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس بن مالك، قال: أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه [يدعو] ، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعون. قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فاتى الرجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشق المسافر، ومنع الطريق.

(9/212)


1030 - وقال الأويسي: حدثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد وشريك، سمعا أنساً، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.
هكذا ذكر البخاري تعليقاً.

(9/212)


وخرجه البيهقي من رواية أبي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الترمذي: نا أيوب بن سليمان بن بلال –فذكره، إلا أنه قال في آخره: ((لثق المسافر، ومنع الطريق)) .
كذا قرأته بخط البيهقي، وقد ضبب على لفظة ((لثق)) بخطه، ووجدتها –أيضا - ((لثق)) من رواية أبي إسماعيل الترمذي في غير كتاب البيهقي.
وأما الرواية التي في ((صحيح البخاري)) هي ((بشق)) –بالباء.
قال في ((المطالع)) : كذا قيده الاصيلي، وذكر عن بعضهم أنه قال: ((بشق)) –بكسر الباء – تأخر وحبس. وقال غيره: ملَّ. وقيل: ضعف.
وقيل: حبسَ. وقيل: هو مشتق من ((الباشق)) ، وهو طائر لا ينصرف إذا كثر المطر.
وسئل أبو محمد بن حزم الظاهري عن هذه اللفظة، فقال في جوابه: هي لفظة قد أعيتنا قديماً، وما رأيت من يعرفها. ولقد أخبرني بعض إخواننا، أنه سأل عنها جماعة ممن نظن بهم علم مثل هذا، فما وجد فيه شيئاً، وأكثر ما وجدنا في هذه اللفظة ما ذكره صاحب ((العين)) فقال: وأما ((بشق)) ، فلو أشتق هذا الفعل من اسم ((الباشق))
جاز، و ((الباشق)) طائر، وهذا كلام لا يحصل منه على كثير فائدة.
وذكر أن السائل ذكر في سؤاله أنه قد قيل: إنه ((نشق)) - بالنون -، وأن اللحياني ذكر في ((نوادره)) أن معنى ((نشق)) - بالنون -: كلَّ.

(9/213)


قال ابن حزم: ولقد كان هذا حسناً، إذا صح، لو وافق الرواية، وروايتنا بالباء. انتهى ما ذكره.
والمنقول عن اللحياني في ((نوادره)) ، أنه قال: قد نشق فلان في حبالي،
ونشب، وعلق، واستورط، وارتبط، واستبرق واترنبق وانربق في معنى واحد.
وعن غيره، أنه قال: الصواب ((نشق)) –بالنون - قال: وهو مشتق من النشقة، وهي العقدة التي تكون على يد البعير من الصيد، فكأنه قال: تقيد المسافر.
وقال الخطابي في ((الأعلام)) : ((بشق)) ليس بشيء إنما هو ((لثق)) ، من
اللثوق، وهو الوحل، لثق الطريق والثوب: إذا أصابه ندى المطر، وبكى الرجل حتى لثقت لحيته، أي: اخضلت، ويحتمل أن يكون ((مشق)) ، أي: صار منزله زلقاً، ومنه مشق الخط، والميم والباء متقاربان. انتهى ما ذكره.
والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب: أن المأمومين يرفعون أيديهم إذا رفع الإمام يده، ويدعون معه.
وممن قال: إن الناس يدعون ويستسقون من الإمام: مالك وأحمد.

(9/214)


وقال أصحاب الشافعي: إن سمعوا دعاء الإمام أمنوا عليه، وإن لم يسمعوا دعوا.
وكذا قالوا في قنوت المأموم خلف الإمام.
وأما مذهب أحمد، فإن لم يسمع المأموم قنوت إمامه المشروع دعا.
وإن سمع، فهل يؤمن، أو يدعو، أو يخير بينهما، أو يتابعه في الثناء، ويؤمن على دعائه؟ حكي عنه فيهِ روايات.

(9/215)


22 - باب
رفع الإمام يده في الاستسقاء

(9/216)


1031 - حدثنا محمد بن بشار: نا يحيى وابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شي من دعائه إلا في
الاستسقاء، وإنه كان يرفع حتى يرى بياض إبطيه.
وقد سبق في الباب الماضي، في الرواية التي علقها عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع في دعائه يوم الجمعة بالاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه.
ولا يوجد ذلك في كل النسخ، وقد ذكره – تعليقا – في ((كتاب الأدعية)) في آخر ((صحيحه)) .
وروى معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن بركة، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى حتى رأيت – أو رئي – بياض إبطيه 0 قال معتمر: أراه في الاستسقاء.
خرجه ابن ماجه.
وقد رواه بعضهم، فلم يذكر: ((بركة)) في إسناده.
والصواب ذكره -: قاله الدارقطنى.

(9/216)


وبركة، هو: المجاشعي.
قال أبو زرعة: ثقة.
وقد تقدم حديث عائشة في الاستسقاء، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يرفع حتى يرى بياض إبطيه.
وقول أنس: ((كان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء)) ، في معناه قولان:
أحدهما: أن أنسا اخبر عما حفظه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد حفظ غيره عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رفع يديه في الدعاء في غير الاستسقاء – أيضا.
وقد ذكر البخاري في ((كتاب الأدعية)) : ((باب: رفع الأيدي في الدعاء)) :
وقال أبو موسى، دعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه.
وقال ابن عمر: رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، وقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) .
ثم ذكر رواية الأويسي تعليقاً، وقد ذكرناها في الباب الماضي.
والثاني: أن أنساً أراد أنه لم يرفع يديه هذا الرفع الشديد حتى يرى بياض إبطيه، إلا في الاستسقاء.
وقد خرّج الحديث مسلم، ولفظه: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لايرفع يديه في شىء من دعائه الا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه. ومع هذا؛ فقد رأه غيره رفع يديه هذا الرفع في غير الاستسقاء – أيضا.

(9/217)


وقد خرّج البخاري في ((الأدعية)) من حديث أبي موسى، قال: دعا النبي? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء فتوضأ، ثم رفع يديه، وقال: ((اللهم اغفر لعبيد أبي عامر)) ورأيت بياض إبطيه.
وخرّجه مسلم –أيضا.
وخرّجه مسلم من حديث شعبه، عن ثابت، عن أنس، قال: رايت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الدعاء، حتى يرى بياض إبطيه.
ولم يذكر في هذه الروايه الاستسقاء، لكن في روايه خرجها البيهقي: ((يعني: في الاستسقاء)) .
[0 0 0 0 0 0] في هذا الحديث: قال شعبة: فأتيت علي بن زيد، فذكرت ذلك له، فقال: إنما ذلك في الاستسقاء. قلت: أسمعته من أنس؟
قالَ: سبحان الله 0 قلت: أسمعته من أنس؟ قالَ: سبحان الله.
وخرّج الإمام أحمد من حديث سهل بن سعد، قالَ: ما رأيت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهرا يديه قط يدعو على منبر ولا غيره، ما كانَ يدعو إلا يضع يديه حذو منكبيه، ويشير بإصبعه إشارة.
وخرّج أبو يعلى الموصلي بإسناد ضعيف، عن أبي برزة الأسلمي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه في الدعاء حتى رئي بياض إبطيه.
وخرّج مسلم من حديث ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(9/218)


يوم بدر استقبل القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) ، فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداءه عن منكبيه – وذكر الحديث.
قال الوليد بن مسلم في ((كتاب الدعاء)) : نا عبد الله بن العلاء، قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان: لم نحفظ عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رفع يديه كل الرفع إلا في ثلاث مواطن: عشية عرفة، وفي الاستسقاء، والانتصار.
ولا أعلم أحدا من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء، كما سنذكره في موضعه – إن شاء الله سبحانه
وتعالى.
وانما اختلفوا في صفة الرفع، على حسب اختلاف الروايات عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك في الاستسقاء.
وقد روي، عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع:
أحدها: الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء.
روي عامر بن خارجة بن سعد، عن أبيه، عن جده سعد، أن قوما شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قحط المطر، فقال: ((اجثوا على الركب، وقولوا: يا رب، يا رب)) ورفع السبابة إلى السماء، فسقوا حتى أحبوا أن يكشف عنهم.
خرّجه الطبراني.
وخرّجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) ، وعنده: عن عامر بن خارجة، ... عن جده سعد.
وترجم عليه ((سعد أبو خارجة)) يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص.
[.............................................................] .
كل الرفع إلا في ثلاث مواطن: عشية عرفة، وفي الاستسقاء، والانتصار.
ولا أعلم أحداً من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء، كما سنذكره في موضعه - إن شاء الله سبحانه
وتعالى.
وإنما اختلفوا في صفة الرفع، على حسب اختلاف الروايات عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذَلِكَ في الاستسقاء.
وقد روي، عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع:
أحدها: الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء.
روى عامر بن خارجة بن سعد،؟ عن أبية، عن جده سعد، أن قوماً شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قحط المطر، فقالَ: ((اجثوا على الركب، وقولوا: يا رب، يا رب)) ورفع السبابة إلى السماء، فسقوا حتَّى أحبوا أن يكشف عنهم.

(9/219)


خرجه الطبراني.
وخرجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) ، وعنده: عن عامر بن خارجة، عن جده سعد.
وترجم عليهِ ((سعد أبو خارجة)) ، يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص
[. . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .] .
والإشارة بالإصبع، تارة تكون في الدعاء، كما روي عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يفعله في دعائه على المنبر كما تقدم في ((كتاب الجمعة)) .
وقد تقدم قريباً حديث سهل بن سعد في ذَلِكَ.
وتاره تكون في الثناء على الله، كما الله، كما في التشهد، وكما أشار النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإصبعه بعرفة، وقال: ((اللَّهُمَّ، اشهد)) ، وكما أشار بإصبعه لما ركب راحلته، وقال: ((اللَّهُمَّ، أنت الصاحب في السفر)) .
وروي عن أبي هريرة، أنه قالَ: إذا دعا أحدكم فهكذا - ورفع إصبعه المشيرة - وهكذا - ورفع يديه جميعاً.
خرجه الوليد بن مسلم في ((كتاب الدعاء)) .
وروى عن ابن عباس، قالَ: والاستغفار: أن يشير بإصبع واحدة.
روي عنه مرفوعا وموقوفا، ذكره أبو داود.
وروى عن عائشة، قالت: إن الله يحب أن يدعا هكذا - وأشارت بالسبابة.

(9/220)


وروي عنها - مرفوعا.
وعن ابن الزبير، قالَ: إنكم تدعون أفضل الدعاء، هكذا - وأشار بإصبعه.
وعن ابن سيرين، قالَ: إذا أثنيت على الله، فأشر بإصبع واحدة.
وعن ابن سمعان، قالَ: بلغنات أنه الإخلاص.
قالَ حرب: رأيت الحميدي يشير بالسبابة - يعني: في الدعاء -، ويقول: هذا الدعاء، ويقول: هذا السؤال.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن المصلي إذا قنت لا يرفع يديه في دعاء القنوت، بل يشير بإصبعه.
ذكره الوليد بن مسلم في ((كتابه)) ، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ويزيد بن أبي مريم وابن حبان وإبراهيم بن ميمون.
ونقل ابن منصور، عن إسحاق بن راهويه، قالَ: إن شاء رفع يديه، وإن شاء أشار بإصبعه.
النوع الثاني: رفع اليدين وبسطهما، وجعل بطونهما إلى السماء.
وهذا هوَ المتبارد فهمه من حديث أنس في رفع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه في دعاء الاستسقاء يوم الجمعة على المنبر.
وخرجه أبو داود من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، قالَ: أخبراني من رأي النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو عندَ أحجار الزيت باسطا كفيه.
يعني: في الاستسقاء.

(9/221)


وقد خرج أبو داود وابن ماجه، عن ابن عباس - مرفوعا -: ((إذا سألتم الله فسلوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها)) .
وإسناده ضعيف، وروى مرفوعا.
وروي - أيضا - عن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين وغيرهم.
وروي حرب، عن الحميدي، قالَ هذا هوَ السؤال.
النوع الثالث: أن يرفع يديه، ويجعل ظهورهما إلى القبلة، وبطونهما مما يلي وجهه.
وخرج أبو داود من حديث محمد بن إبراهيم التيمي، عن عمير مولى آبي اللحم، أنه رأى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي عندَ أحجار الزيت، قائما يدعو، يستسقى، رافعا يديه قبل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه.
وخرجه الإمام أحمد، وزاد: ((مقبلا بباطن كيفه إلى وجهه)) .
وخرجه ابن حبان - بهذه الزيادة.

(9/222)


وخرجه جعفر الفريابي من وجه آخر، عن عمير، أنه رأى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائما يدعو، رافعا كفيه قبل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه، مقبلا ببطن كفيه إلى وجهه.
وخرج الإمام أحمد، من حديث خلاد بن السائب، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه.
وفي رواية لهُ - أيضا -: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جعل باطن كفيه إليه وإذا استعاذ جعل ظاهر هما إليه.
وفي إسناده اختلاف على ابن لهعية.
وخرجه جعفر الفرابي، وعنده - في رواية لهُ -: عن خلاد بن السائب، عن أبيه، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا دعا جعل راحته إلى وجهه.
وذكر الوليد بن مسلم، عن ابن سمعان، قالَ: بلغنا أن رفع اليدين إلى المنكبين دعاء، وأن قلبهما والاستقبال ببطونهما وجه الإنسان تضرع، وأن رفعهما إلى الله جدا ابتهال.
وعن أبي عمرو، عن خصف الجزري، قالَ: رفع اليدين - يعني يكفيه -
تضرع، وهكذا - يعني: قلبهما مما يلي وجهه - رهبة.
النوع الرابع: عكس الثالث، وهو أن يجعل ظهورهما مما يلي وجه الداعي.

(9/223)


قالَ الجوزجاني: نا عمرو بن عاصم: نا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى ودعا هكذا - يقبل ببياض كفية على القبلة، وظاهر هما إلى وجهه.
ثُمَّ قالَ: وفي هذا بيان أنه قلب كفية، وجعل ظاهر هما إلى وجهه.
وقد تقدم في حديث خلاد بن السائب هذه الصفة - أيضا.
وروى عن ابن عباس، أن هذا هوَ الابتهال.
خرجه أبو داود.
وعنه قالَ: هوَ استجارة.
وروي عن أبي هريرة، أنه الاستجارة - أيضا.
خرجه الوليد بن مسلم.
وروي عن ابن عمر، قالَ: إذا سأل أحدكم ربه، فليجعل باطن كفيه إلى
وجهه، وإذا استعاذ فليجعل ظاهرهما إلى وجهه.
خرجه جعفر الفريابي.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كانَ يدعو إذا رفع يديه حذو منكبيه، ظهورهما مما يلي وجهه.
النوع الخامس: أن يقلب كفيه، ويجعل ظهورهما مما يلي السماء، وبطونهما مما يلي الأرض، مع مد اليدين ورفعهما إلى السماء.
خرج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء.

(9/224)


وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي، بسط يديه، وجعل ظاهر هما مما يلي السماء.
وخرجه أبو داود، وعنده: استسقى - يعني: ومد يديه -، وجعل بطونهما مما يلي الأرض، حتَّى رأيت بياض إبطيه.
وفي رواية: وهوَ على المنبر.
خرجها البيهقي.
وخرج أبو داود من رواية عمر بن نبهان، تكلم فيهِ.
وخرج الإمام أحمد من رواية بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدري، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقفا بعرفة يدعو، هكذا، ورفع يده حيال ثندوتيه، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض.
وفي رواية لهُ - أيضا -: وجعل ظهر كفيه مما يل وجهه، ورفعهما فوق
ثندوتيه، وأسفل من منكبيه.
وبشر بن حرب، مختلف فيهِ.
وقد تأول بعض المتأخرين حديث أنس على أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقصد

(9/225)


قلب كفيه، إنما حصل لهُ من شدة رفع يديه انحاء بطونهما إلى الأرض.
وليس الأمر كما ظنه، بل هوَ صفة مقصود لنفسه في رفع اليدين في الدعاء.
روى الوليد بن مسلم بإسناده، عن ابن سيرين، قالَ: إذا سألت الله فسل ببطن كفيك، وإذا استخرت الله، فقل هكذا - ووجه يديه إلى الأرض -، وقال: لا تبسطهما.
وروى الإمام أحمد، عن عفان، أن حماد بن سلمة وصف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه بعرفة، ووضع عفان وكفيه مما يلي الأرض.
وقال حرب: رأيت الحميدي مد يديه، وجعل بطن كفيه إلى الأرض، وقال: هكذا الابتها.
وحماد بن سلمة والحميدي من أشد الناس تشددا في السنة، وردا على من خالفها من الجهمية والمعتزلة ونحوهم.
وقد ذهب مالك إلى رفع اليدين في الاستسقاء على هذا الوجه:
ففي ((تهذيب المدونة)) في ((كتاب الصَّلاة)) : ضعف مالك رفع اليدين عد الجمرتين، واستلام الحجر، وبعرفات، والموافق، وعند الصفا والمروة، وفي المشعر، ووالاستسقاء، وقد رئي مالك رافعا يديه في الاستقاء، حين عزم عليهم الإمام، وقد جعل بطونهما مما يلي الأرض، وقال إن كانَ الرفع فهكذا.
قالَ ابن القاسم: يريد في الاستسقاء في مواضع الدعاء.

(9/226)


وكذا ذكره أصحاب الشافعي:
ففي ((شرح المهذب)) في ((الاستسقاء)) : قالَ الرافعي وغيره: قالَ العلماء: السنة لكل من الدعا لرفع بلاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإن دعا لطلب شيء جعل بطن كفيه إلى السماء.
وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا في كتابه ((الشافي)) في ((كتاب الاستسقاء)) في ((باب: القول في رفع اليدين في الدعاء وصفته)) ، ثُمَّ روى فيهِ حديث قتادة، عن أنس الذي خرجه البخاري في الدعاء وصفته)) ، ثُمَّ حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقى هكذا - ومد يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتَّى بياض إبطيه.
ولم يذكر في الرفع وصفته غير ذَلِكَ، وهذا يدل على أنه علي أنه يرى أن هذا هوَصفته رفع اليدين في الاستسقاء، أو مطلقا؛ لكن مع رفع اليدين إلى السماء والاجتهاد في رفعهما، إلا أن يرى منه بياض الابطين.

(9/227)


23 - باب
ما يقول إذا أمطرت
وقال ابن عباس {كصيب} [البقرة: 19] المطر.
وقال غيره: صاب وأصاب يصوب.

(9/228)


1032 - حدثنا محمد بن مقتل أبو الحسن المروزني: أنا عبد الله - هوَ: ابن المبارك -: أنا عبيد الله، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا رأى المطر قالَ: ((صيبا نافعا)) .
تابعه: القاسم بن يحيى، عن عبيد الله.
ورواه الأوزاعي وعقيل، عن نافع.
أما ذكر المتابعات على هذا الإسناد؛ لا ختلاف وقع فيهِ:
فإنه روي عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر: ((نافع)) .
والصحيح: ذكر: ((نافع)) فيهِ.
وقد رواه - أيضا - يحيى القطان وعبدة بن سليمان، عن عبيد الله كذلك -: ذكره الدارقطني في ((علله)) .
فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا

(9/228)


عنهما، فكيف لم يذكر البخاري متابعتهما لابن المبارك، وعدل عنه إلى متابعة القاسم بن يحيى؟
وأما عقيل، فرواه عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.
وروه - أيضا - أيوب، عن القاسم، عن عائشة.
خرجه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ولفظ حديثه: ((اللَّهُمَّ صيبا هنيئا)) .
وأما الأوزاعي، فقد رواه عن نافع، عن القاسم، عن عائشة، كما ذكره البخاري، ولفظ حديثه: ((اللَّهُمَّ اجعله صيبا هنيئا)) .
وقد خرج حديثه كذلك الإمام أحمد وابن ماجه.
وفي رواية ابن ماجه: أن الأوزاعي قالَ: ((أخبرني نافع)) ، كذا خرجه من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين، عنه.
وقد روي التصريح بالتحديث فيهِ عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي - أيضا.
ورواه إسماعيل بن سماعة، عن الأوزاعي، عن رجل، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.
وقال البابلتي: عن الأوزاعي، عن محمد بن الوليد

(9/229)


الزبيدي، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.
وقال عقبة بن علقمة: عن الأوزاعي، عن الزهري، عن نافع عن القاسم، عائشة.
قالَ الدارقطني: وهو غير محفوظ.
وقال عيسى بن يونس وعباد بن جويرية: عن الأوزاعي، عن الزهري عن القاسم، عن عائشة - من غير ذكر: ((نافع)) .
وكذا روي عن ابن المبارك، عن الأوزاعي.
قالَ الدارقطني: فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا عن الأوزاعي، فهوَ غريب عن الزهري.
وخرجه البيهقي من رواية الوليد بن مسلم: نا الأوزاعي: حدثني نافع ثُمَّ قالَ: كانَ ابن معين يزعم أن الأوزاعي لم يسمع من نافع شيئا.
ثُمَّ خرجه من طريق الوليد مزيد: نا الأوزاعي: حدثني رجل، عن نافع - فذكره.
قالَ: وهذا يشهد لقول ابن معين.
قلت: وقد سبق الكلام على رواية الأوزاعي عن نافع في ((باب: حمل العنزة بين يدي الإمام يوم العيد)) ؛ فإن البخاري خرج حديثا للأوزاعي عن نافع مصرحا فيهِ بالسماع.

(9/230)


وقد روي هذا الحديث عن عائشة من وجه آخر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود ووالنسائي وابن ماجه من حديث المقدم بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، أن النَّبيّ، كانَ إذا أمطر قالَ: ((اللَّهُمَّ صيبا هنيئا)) - لفظ أبي دواد.
ولفظ النسائي: ((اللَّهُمَّ اجعله سيبا نافعا)) .
ولفظ ابن ماجه: ((اللَّهُمَّ، سيبا نافعا)) - مرتين أو ثلاثا.
وفي رواية لابن أبي الدنيا في ((كتاب المطر)) : ((اللَّهُمَّ سقيا نافعا)) .
وخرج مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن عطاء، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقول إذا رأى المطر: ((رحمة)) .
وقد أشار البخاري إلى تفسير قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صيبا هنيئا)) ، فذكر عن ابن عباس، أن الصيب هوَ المطر.
وقد خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ((كتاب المطر)) من رواية هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس.
وقال غيره: هوَ المطر الشديد.
وقد ذكر البخاري عن بعضهم، أن الفعل الماضي منه: ((صاب وأصاب)) ، والمضارع منه: ((يصوب)) .
وهذا عجيب؛ فإن ((أصاب)) إنما تقال

(9/231)


في ماضي ((يصيب)) ، من الإصابة التي هي ضد الخطإ.
وأما ((صاب يصوب)) ، فنعمناه: نزل من علو إلى سفل.
وأما رواية من روى ((سيبا)) بالسين، فيجوز أن تكون السين مبدلة من
الصاد.
وقيل: بل هوَ بسكون الياء، معناه: العطاء.
وروي عن محمد بن أسلم الطوسي، أنه رجح هذه الرواية؛ لأن العطاء يعم المطر وغيره من أنواع الخير والرحمة وفي هذه الأحاديث كلها: الدعاء ببأن يكون النازل من السماء نافعا، وذلك سقيا الرحمة، دون العذاب.
وروي ابن أبي الدنيا بإسناده، عن عبد الملك بن جابر بن عتيك، أن رجلا من الأنصار كانَ قاعداً عندَ عمر في مطر، فأكثر الأنصار الدعاء بالاستسقاء، فضربه عمر بالدرة، وقال: ما يدريك يكون في السقيا ألا تقول: سقيا وادعة، نافعة، تسع الأموال والأنفس.

(9/232)


24 - باب
من تمطر [في المطر] حتَّى يتحار على لحيته
خرج فيهِ:

(9/233)


1033 - حديث: الأوزاعي: نا إسحاق بن عبد الله: نا أنس، قالَ: أصاب الناس سنة على النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فذكر الحديث، وقد تقدم في ((كتاب الجمعة)) بتمامه، وفيه:
ثُمَّ لم ينزل - يعني: النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منبره حتَّى رأيت المطر يتحادر على لحيته.
خرجه من طريق ابن المبارك، عن الأوزاعي.
وفي الاستدال بهذا الحديث على التمطر نظر؛ فإن معنى التمطر: أن يقصد المستسقي أو غيره الوقوف في المطر يصيبه، ولم يعلم أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد الوقوف في ذَلِكَ اليوم على منبره حتَّى يصيبه المطر، فلعله إنما وقف لإتما الخطبة خاصة.
وفي الاستمطار أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري:
فخرج مسلم، من رواية جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قالَ - قالَ أنس -: أصابنا ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مطر، فحسر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(9/233)


ثوبه، حتَّى أصابه من المطر، فقلنا: يارسول الله، لم صنعت هذا؟ قالَ ((لأنه حديث عهد بربه)) .
وخرج ابن أبي االدنيا، من رواية الربيع بن صبيح، عن زيد الرقاشي، عن أنس، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلقي ثيابه أول مطره، ويتمطر.
والرقاشي، ضعف جدا.
وروى بإسناده، عن جابر الجعفي، عن عبد الله بن نجي، قالَ: كانَ علي - رضي الله عنه - إذا مطرت السماء خرج فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: ((بركة نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء)) .
وبإسناده، عن عبد الله بن مؤمل، عن ابن أبي مليكة، قالَ: كانَ ابن عباس يتمطر، يقول: يا عكرمة، أخرج الرحل، أخرج كذا، أخرج كذا، حتَّى يصيبه
المطر.
وبإسناده، عن وكيع، عن أم غراب، عن نباتةة، قالَ: كانَ عثمان بن عفان يتمطر.
وبإسناده، عن أبي الأشعر، قالَ: رأيت أبا حكيم إذا كانت أول مطر

(9/234)


تجرد، ويقول: إن عليا كانَ يفعله، ويقول، أنه حديث عهد بالعرش.
وهذا يدل على أن عليا كانَ يرى أن المطر ينزل من البحر الذي تحت العرش.
وحديث العباس بن عبد المطلب، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذكر السحاب والمزن
والعنان، وبعد ما بين السماء والأرض، وبعد ما بين السموات بعضهما من بعض، وأن فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله، مثل ما بين سماء إلى سماء - شهد ذَلِكَ.
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.
وقال: صحيح الإسناد.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وكذلك قاله عكرمة وخالد بن معدان وغيرهما من السلف: أالمطر ينزل من تحت العرش.
وروي عن ابن عباس من وجوه ما يدل عليهِ.
وأما من قالَ: أن المطر كله من ماء البحر؛ فإنه ما لا علم لهُ به.
فإن استدل بإنه يشاهد اغتراف السحاب من البحر، فقد حكم حكما كليا بنظر جزئي، ومن أين لهُ أن كل السحاب كذلك؟
وقد خرج ابن أبي الدنيا بإسناده، عن خالد بن يزيد: منه من

(9/235)


السماء، فلا ما يستقيه الغيم من البحر، فيعذبه الرعد والبرق، فإما ما يكون من البحر، فلا يكون لهُ نبات، وأما النبات فما كانَ من ماء السماء، وقال إن شئت أعذبت ماء البحر، فأمر بقلال من ماء، ثُمَّ وصف كيف يصنع حتَّى تعذب.
ونص الشافعي وأصحابنا على استحباب التمطر في أول مطرة تنزل من السماء في السنة.
وحديث أنس الذي خرجه البخاري إنما يدل على التمطر بالمطر النازل
بالاستسقاء، وإن لم يكن أول مطرة في تلك السنة.

(9/236)


25 - باب
إذا هبت الريح

(9/237)


1034 - حديثا سعيد بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر: أخبرني حميد، أنه سمع أنس بن مالك يقول: كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذَلِكَ في وجه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إنما كانَ يظهر في وجه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخوف من اشتداد الريح؛ لأنه كانَ يخشى أن تكون عذابا أرسل إلى أمته.
وكان شدة الخوف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أمته شفقة عليهم، كما وصفة الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128] .
ولما تلا عليهِ ابن مسعود: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] بكى.
ولما تلا قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية [المائدة: من الآية118] بكى، وقال: ((اللَّهُمَّ، أمتي، أمتي)) ، فأرسل الله جبريل يقول لهُ: ((إن الله يقول: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)) .
وكان يقول: ((شيبتني هود وأخواتها)) .
وجاء في رواية مرسلة: ((قصفن علي الأمم)) .
يشير إلى أن شيبه منها

(9/237)


ما ذكر من هلاك الأمم قبل أمته وعذابهم.
وكان عندَ لقاء العدو يخاف على من معه من المؤمنين، ويستغفر لهم، كما فعل يوم بدر، وبات تلك الليلة يصلي ويبكي ويستغفر لهم، ويقول: ((اللَّهُمَّ، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)) .
وكل هذا من خوفه وشفقته من اشتداد الريح:
وقد جاء في رويات متعددة: التصريح بسبب خوفه من اشتداد الريح:
ففي ((الصحيحين)) من حديث سليمان بن يسار، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذَلِكَ في وجهه، فقلت: يارسول الله: أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا؛ رجاء أن يكون فيهِ المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك
الكراهية؟ فقالَ: ((يا عائشة، يؤمني أن يكون فيهِ عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد العذاب، فقالوا {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: من الآية24] )) .
وخرجا - أيضا - من رواية ابن جريح، عن عطاء، عن عائشة، قالت كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه، فعرفته عائشة ذَلِكَ، فقالَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وما أدري لعله كما قالَ قوم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الاحقاف: من الآية24] الآية)) .

(9/238)


وزاد مسلم - في أوله -: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عصفت الريح قالَ: ((اللَّهُمَّ، أني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) .
وخرجه النسائي، ولفظه: ((كانَ إذا رأى ريحا)) بدل: ((مخيلة)) .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث جعفر بن محمد، عن عطاء، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كانَ يوم الريح والغيم عرف ذَلِكَ في وجهه، فأقبل
وأدبر، فإذا مطر سر به، وذهبت عنه ذَلِكَ. قالت عائشة: فسألته، فقالَ: ((إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي)) .
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هوَ فيهِ، وإن كانَ صلاته، حتَّى يستقبله، فيقول: ((اللَّهُمَّ، إنا نعوذ بك من شر ما أرسل)) ، فإن أمطر قالَ: ((اللَّهُمَّ سقيا نافعا)) - مرتين أو ثلاثا -، فإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذَلِكَ.
ولفظه لابن ماجه.
وخرجه أبو داود، ولفظه: كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل، وإن كانَ في الصَّلاة، ثُمَّ يقول: ((اللَّهُمَّ، أني أعوذ بك من شرها)) .
وخرجه أبو داود، ولفظه: كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل، وإن كانَ في صلاة، ثُمَّ يقول: ((اللَّهُمَّ، إني أعوذ بك من شرها)) .

(9/239)


وخرجه ابن السني، ولفظه: كانَ إذا رأى في السماء ناشئا، غبارا أو ريحا، استقبله من حيث كانَ، [وإن كانَ في الصَّلاة] تعوذ بالله من شره.
وكذا خرجه ابن أبي الدينا.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في ((اليوم والليلة)) وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبيه هريرة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقالوا: اللَّهُمَّ، إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيهِا، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك منشر هذه الريح، وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) .
وقال: حسن صحيح.
وخرجه النسائي في ((اليوم والليلة)) مرفوعا وموقوفا علي أبي كعب - رضي الله عنه -.
وفي الباب: أحاديث أخر متعددة.

(9/240)


وروي عن ابن مسعود، قالَ: لا تسبوا الريح؛ فإنها بشر ونذر ولواقح، ولكن استعيذوا بالله من شر ما أرسلت به.
وعن ابن عباس، قالَ: لا تسبوا الريح؛ فإنها تجئ بالرحمة، وتجئ بالعذاب، وقولوا: اللَّهُمَّ، اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا.
خرجهما ابن أبي الدنيا.
وخرج - أيضا - بلإسناده، عن علي، أنه كانَ إذا هبت الريح قالَ: اللَّهُمَّ، إن كنت أرسلتها رحمة فارحمني فيمن ترحم، وإن كنت أرسلتها عذابا فعافني فيمن تعافي.
وبإسناده، عن ابن عمر، أنه كانَ يقول إذا عصفت الريح: شدوا التكبير؛ منتقع اللون، فقالَ: مالك يا أمير المؤمنين؟ قالَ: ويحك، وهل هلكت أمة إلا بالريح؟

(9/241)


26 - باب
قول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور))

(9/242)


1035 حدثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس،
أن النَّبيّ صلى الله عليهِ وسلم قالَ: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور))
وخرجه مسلم من طريق شعبة - أيضا 0ومن طريق الأعمش، عن مسعود بن مالك،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس 0 عن النَّبيّ صلى الله عليةوسلم الأحد بمثله 0
وهذا مما يدل على أن الريح تأتي تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب 0
وخرج الحاكم من حديث جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يدعو: ((اللَّهُمَّ، أعوذ بك من شر الريح، ومن شر ما تجيء به الريح، ومن ريح الشمال؛ فإنها الريح العقيم)) .
ومن حديث سلمة بن الأكوع رفعه - إن شاء الله -، أنه كان إذا اشتدت
الريح تقول: " اللهم، لقحا لا عقيما ".

(9/242)


وروينا عن شريح، قال: ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح أو برء سقيم.
وفي " صحيح مسلم "، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] كان في سفر، فهبت ريح شديدة،
فقال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " هذه الريح لموت منافق
عظيم النفاق "، فوجدوا قد مات في
ذلك اليوم عظيم من المنافقين. وهو رفاعة بن التابوت.

(9/243)


27 - باب ما قيل في الزلازل والآيات
فيه حديثان:
الأول:

(9/244)


1036 - نا أبو اليمان: أنا شعيب: أنا
أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن
أبي هريرة، قال: قال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر
الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل القتل -،
[حتى يكثر فيكم المال فيفيض] ".
هذا قطعة من حديث طويل، قد خرجه بتمامه في " كتاب الفتن ".
وقبض العلم، قد سبق الكلام عليه بما فيه
كفاية.
وتقارب الزمان، فسر بقصر الأعمار، وفسر بقصر الأيام في زمن الدجال.
وقد روي في ذلك أحاديث
متعددة، الله أعلم بصحتها.
وأما كثرة الزلازل، فهو مقصود البخاري في هذا الباب من الحديث.
والظاهر: أنه
حمله على الزلازل المحسوسة، وهي ارتجاف الأرض
وتحركها.
ويمكن حمله على الزلازل المعنوية، وهي كثرة
الفتن المزعجة الموجبة
لارتجاف القلوب.
والأول أظهر؛ لأن هذا يغني عنه ذكر ظهور الفتن.

(9/244)


وكأن البخاري
ذكر هذا الباب استطرادا لذكر الرياح واشتدادها، فذكر بعده
الآيات والزلازل.
وقيل: إنه أشار إلى أن الزلازل لا يصلى لها؛ فإن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ذكر ظهورها
وكثرتها، ولم
يأمر بالصلاة لها، كما أمر به في كسوف الشمس والقمر، وكما
أنه لم يكن يصلي للرياح إذا اشتدت، فكذلك الزلازل
ونحوها من الآيات.
وقد اختلف العلماء في الصلاة للآيات:
فقالت طائفة: لا يصلى لشيء منها سوى كسوف
الشمس والقمر، وهو قول
مالك والشافعي.
وقد زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه صلى لها
، هو
ولا أحد من الصحابة.
وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، قالت:
زلزلت
الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، وابن عمر يصلي، فلم يدر
بها، ولم يوافق أحدا يصلي فدرى بها،
فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم،
لقد عجلتم. قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين
ظهرانيكم.
خرجه البيهقي.
وخرجه حرب الكرماني، من رواية أيوب، عن نافع - مختصرا.
وروي أيضا من
رواية ليث، عن شهر، قال: زلزلت المدينة على

(9/245)


عهد
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فقال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " إن الله يستعتبكم فاعتبوه ".
وهذا مرسل ضعيف.
وقالت طائفة، يصلى لجميع الآيات في البيوت فرادى، وهو قول سفيان
وأبي حنيفة وأصحابه.
وكذلك إسماعيل بن سعيد الشالنجي، عن أحمد، قال: صلاة الآيات
وصلاة الكسوف
واحد.
كذا نقله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتابه " الشافي " من طريق
الجوزجاني، عن الشالنجي، عن
أحمد.
ونقله - أيضا - من طريق الفضل بن زياد وحبيش بن مبشر، عن أحمد -
أيضا.
والذي نقله
الجوزجاني في كتابه " المترجم "، عن إسماعيل بن سعيد،
قال: سألت أحمد عن صلاة كسوف الشمس والقمر
والزلازل؟ قال: تصلى
جماعة، ثمان ركعات وأربع سجدات، وكذلك الزلزلة.
قال: وبذلك قال أبو أيوب -
يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة.
وقال: ابن أبي شيبة يرى فيها الخطبة وجماعة.
وقد نقل أبو
بكر في " الشافي " هذا - أيضا - من طريق الجوزجاني.
وخرج الجوزجاني من حديث عبد الله بن الحارث بن
نوفل، قال:

(9/246)


صلى
بنا ابن عباس في زلزلة كانت، فصلى بنا ست ركعات في ركعتين، فلما انصرف
التفت إلينا
وقال: هذه صلاة الآيات.
فالمنصوص عن أحمد إنما يدل على الصلاة للزلزلة خاصة، وهو الذي عليه
عامة
أصحابنا، وخصوه بالزلزلة الدائمة التي يتمكن من الصلاة لها مع وجودها.
وروي عن ابن عباس، أنه صلى
للزلزلة بعد سكونها وانقضائها.
وحكى بعض أصحاب الشافعي قولا له: أنه يصلى للزلزلة.
ومنهم من حكاه في جميع الآيات.
وحكى ابن عبد
البر، عن أحمد وإسحاق وأبي ثور: الصلاة للزلزلة
والطامة والريح الشديدة.
وهذا يدل على استحبابها لكل آية،
كالظلمة في النهار، والضياء المشبه
للنهار بالليل، سواء كان في السماء أو انتثار الكواكب، وغير ذلك.
وهو
اختيار ابن أبي موسى من أصحابنا، وظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز في
" الشافي " - أيضا.
وممن روي عنه،
أنه يصلي في الآيات: ابن عباس.
وفي " المسند " و" سنن أبي داود "، عنه، أنه سجد لموت بعض أزواج
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، وقال: سمعت النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: " إذا رأيتم آية فاسجدوا ".

(9/247)


وروي عن عائشة، قالت: صلاة الآيات
ست ركعات وأربع سجدات.
وروي عنها - مرفوعا.
خرجه الجوزجاني من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة،
عن عطاء، عن
عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقوم في صلاة
الآيات، فيركع ثلاث
ركعات، ويسجد سجدتين، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات،
ثم يسجد سجدتين.
واستدل به على الصلاة للزلزلة.
ولكن رواه وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، فوقفه على عائشة،
وهو
الصواب.
وخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المطر "، من رواية مكحول، عن أبي صخر
زياد بن صخر، عن
أبي الدرداء، قال: كان النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إذا كانت ليلة ريح كان
مفزعه إلى المسجد، حتى تسكن الريح، وإذا حدث في
السماء حدث من كسوف
شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة، حتى ينجلي.
وهو منقطع، وفي إسناده: نعيم بن
حماد، وله مناكير.
وخرج أبو داود من رواية عبيد الله بن النضر، قال: أخبرني أبي،
قال:

(9/248)


كانت ظلمة على
عهد أنس بن مالك. قال: أتيت أنس بن مالك، فقلت
يا أبا حمزة: هل كان يصيبكم هذا على عهد النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ؟ فقال
: معاذ الله، إن
كانت الريح تشتد فنبادر المسجد مخافة القيامة.
وبوب عليه: " باب: الصلاة عند الظلمة ".
وهو دليل على الصلاة عند اشتداد الريح - أيضا.
وأبو داود، من أجل أصحاب الإمام أحمد.
ثم بوب على
السجود عند الآيات، وذكر فيه حديث ابن عباس المتقدم.
وظاهره: يدل على أن الآيات يسجد عندها سجودا مفردا
، كسجود الشكر
من غير صلاة.
وذكر الشافعي، أنه بلغه عن عباد، عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن
علي، أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات: خمس ركعات
وسجدتين في ركعة، [وركعة] وسجدتين
في ركعة.
قال الشافعي: ولو ثبت هذا الحديث عندنا لقلنا به.
قال البيهقي: هو ثابت عن ابن عباس.
ثم ذكر بنحو ما
تقدم.
وله طرق صحيحة، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس.
وروى حرب: نا إسحاق، نا جرير،
عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
علقمة، قال: إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء فافزعوا إلى الصلاة.

(9/249)


وخرجه
البيهقي من رواية حبيب بن حسان، عن الشعبي، عن علقمة،
قال: قال عبد الله: إذا سمعتم هادا من السماء،
فافزعوا إلى الصلاة.
وخرجه ابن عدي من رواية حبيب بن حسان، عن إبراهيم والشعبي،
عن علقمة، عن عبد
الله، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " إذا فزعتم من أفق من آفاق
السماء، فافزعوا إلى الصلاة ".
وقال: حبيب بن حسان
، قد اتهم في دينه، ولا بأس برواياته.
قلت: الصحيح: رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة - من قوله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروى حرب بإسناده، عن أبي الجبر، قال: أظلمت يوما نهارا، حتى
رأينا الكواكب
، فقام تميم بن حذلم، فصلى، فأتاه هني بن نويرة، فسأله ما
صنع؟ فأمره أن يرجع إلى بيته فيصلي.
واعلم؛ أن الشغل بالصلاة في البيوت فرادى عند الآيات أكثر الناس
على
استحبابه، وقد نص عليه الشافعي وأصحابه.
كما يشرع الدعاء والتضرع عند ذلك؛ لئلا يكون عند ذلك
غافلا.
وإنما محل الاختلاف: هل تصلى جماعة، أم لا؟ وهل تصلى ركعة
بركوعين كصلاة الكسوف، أم لا؟
وظاهر كلام مالك وأكثر أصحابنا:

(9/250)


أنه لا تسن الصلاة للآيات جماعة ولا
فرادى.
وفي " تهذيب المدونة ":
أنكر مالك السجود للزلزلة.
ولا وجه لكراهة ذلك، إلا إذا نوى به الصلاة لأجل تلك الآية الحادثة دون
ما إذا نوى
به التطوع المطلق.
وقد روي عن طائفة من علماء أهل الشام، أنهم كانوا يأمرون عند الزلزلة
بالتوبة والاستغفار
، ويجتمعون لذلك، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم
ونهاهم، واستحسن ذلك الإمام.
وروي عن عمر بن عبد
العزيز، أنه كتب إلى أهل الأمصار: إن هذه الرجفة
شيء يعاتب الله به العباد، وقد كنت كتبت إلى أهل بلد كذا وكذا
أن يخرجوا يوم
كذا وكذا، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل؛ فإن الله يقول: (قد أفلح من
تزكى) [الأعلى: 14] ، وقولوا كما قال أبوكم آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 23] ، وقولوا كما قال نوح: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) [هود، 47] ،
وقولوا كما قال موسى:
(رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) [القصص: 16] ، وقولوا كما قال ذو النون:
(لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) [الأنبياء: 87] .
وقال أبو بكر الخلال في " كتاب العلل "
: نا أبو بكر المروذي، قال:
سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يقول: سألني إنسان عن الرجفة، فكتبت
له هذا
الحديث - وقال: ما أحسنه -: أنا أبو المغيرة، قال: أصاب

(9/251)


الناس
رجفة بحمص، سنة أربع وتسعين، ففزع
الناس إلى المسجد، فلما صلى أيفع
بن عبد الكلاعي صلاة الغداة، قام في الناس، فأمرهم بتقوى الله، وحذرهم
وأنذرهم، ونزع القوارع من القرآن، وذكر الذين أهلكوا بالرجفة قبلنا، ثم
قال: والله، ما أصابت قوما قط قبلكم إلا
أصبحوا في دارهم جاثمين،
فاحمدوا الله الذي عافاكم ودفع عنكم، ولم يهلكم بما أهلك به الظالمين قبلكم،
وكان أكثر
دعائه: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحانه الله،
ولا حول ولا قوة إلا بالله، واستغفروا الله، ويقول:
يا أيها الناس، عليكم
بهؤلاء الكلمات؛ فإنهن القرآن، وهي الباقيات الصالحات.
ثم إن أيفع قال لأبي ضمرة
القاضي: قم في الناس، فقام فصنع كما صنع،
أيفع، فلما قضى موعظته انصرف، ثم صنع ذلك دبر الصلوات
ثلاثة أيام،
فاستحسن ذلك المسلمون.
ومما يتعلق بالزلزلة: هل يجوز الخروج منها والهرب إلى الصحراء؟
قال الأوزاعي: لا بأس به؛ كل يعلم أنه ليس يسبق قدر الله من فر ومن
جلس، قال: والجلوس أحب إلي.
خرجه حرب، من رواية الوليد بن مسلم، عنه.
قال حرب: وسألت إسحاق بن راهويه، عن الرجل يكون في
بيته،
فتصيبه الزلزلة: هل يقوم فيخرج من البيت؟ قال: إن فعل فهو أحسن.
وقد صنف في هذه المسألة أبو
القاسم ابن عساكر الحافظ الدمشقي مصنفا،
ولم يذكر في ذلك أثرا عمن تقدم من العلماء، لكنه حكى عن

(9/252)


بعض من في
زمانه، أنه استحب الفرار منها.
واستدل بحديث مرور النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بحائط مائل، فأسرع، وقال: " أكره موت
الفوات ".
وهذا حديث مرسل،
خرجه أبو داود في " مراسيله ".
وقد روي مسندا، ولا يصح.
ورد أبو القاسم على هذا القائل قوله، وألحق
الفرار منها بالفرار من
الطاعون.
وفي ذلك نظر؛ لأن الفرار من الطاعون لا يتيقن به النجاة، بل الغالب فيه
عدم النجاة، وأما الخروج من المساكن التي يخشى وقوعها بالرجفة فيغلب على
الظن منه السلامة، فهو كالهرب من
النار والسيل ونحوهما.
والحديث المرسل الذي ذكرناه يشهد له. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإنما جاء النهي عن
الخروج من الرجفة إلى الدجال، إذا حاصر المدينة،
فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة.
الحديث الثاني:

(9/253)


1037 - نا محمد بن المثنى: نا حسين بن الحسن: نا ابن عون، عن

(9/253)


نافع،
عن ابن عمر
، قال: اللهم، بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا: وفي نجدنا. قال:
اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا. وقالوا:
وفي نجدنا. قال: هناك الزلازل والفتن،
وبها يطلع قرن الشيطان.
هكذا خرجه البخاري هاهنا موقوفا.
وحسين بن الحسن بصري، من آل مالك بن يسار، أثنى عليه الإمام أحمد،
وقال: كان يحفظ عن ابن عون.
وخرجه البخاري في " الفتن " من رواية أزهر السمان - مرفوعا.
وكذا رواه
عبد الرحمن بن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -
أيضا.
خرج حديثه الإمام أحمد.
وكذا رواه أبو
فروة الرهاوي يزيد بن سنان - على ضعفه -: نا أبو رزين،
عن أبي عبيد - صاحب سليمان -، عن نافع، عن
ابن عمر - مرفوعا.
وقد روي - أيضا - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
ذكره
الترمذي في آخر " كتابه " - تعليقا.
ورواه - أيضا - بشر بن حرب، عن ابن عمر، عن النبي

(9/254)


[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .

خرجه
الإمام أحمد - أيضا.
والاستدلال بهذا الحديث على أن لا صلاة للزلزلة بعيد، والاستدلال
بالحديث الذي قبله -
أيضا -؛ لأن هذا إنما سيق لذم نجد وما يحدث فيه، كما
أن الذي قبله سيق لذم آخر الزمان، وما يحدث فيه، دون
أحكام ما ذكر من
قبض العلم وتقارب الزمان وكثرة الهرج.
وأحكام هذه الحوادث مذكورة في مواضع أخر.
فلا يدل السكوت
عنه هاهنا على شيء من أحكامها بنفي ولا إثبات، فكذلك
يقال في أحكام الزلازل. والله أعلم.

(9/255)


28 - باب قول الله عز وجل: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة: 82]
قال ابن عباس: شكركم
قال آدم بن أبي إياس في " تفسيره ": نا هشيم، عن جعفر بن إياس، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
في قوله: (وتجعلون رزقكم) أي: شكركم
) أنكم تكذبون (قال: هو قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا.
قال ابن عباس: وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم به كافرا، يقولون: مطرنا
بنوء كذا وكذا.
ثم خرج في سبب
نزولها من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن
عباس.
وقد خرجه مسلم في " صحيحه " من رواية عكرمة بن
عمار: حدثني
أبو زميل: حدثني ابن عباس، قال: مطر الناس على عهد رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ،
فقال رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : "
أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة
وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا "،
فنزلت هذه الآية (فلا أقسم بمواقع النجوم) - حتى بلغ (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) . وروى عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن

(9/256)


علي، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) قال
: " شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، ونجم كذا وكذا ".
خرجه الإمام أحمد والترمذي.
وقال: حسن غريب، لا نعرفه - مرفوعا - إلا من حديث إسرائيل، عن
عبد الأعلى. ورواه سفيان عن عبد الأعلى - نحوه -، ولم يرفعه.
ثم خرجه من طريق سفيان - موقوفا على علي.
وكان سفيان ينكر على من رفعه.
وعبد الأعلى هذا، ضعفه الأكثرون. ووثقه ابن معين.

(9/257)


وخرج القاضي إسماعيل في كتابه " أحكام
القرآن " كلام ابن عباس بالإسناد
المتقدم، عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس كان يقرؤها: (وتجعلون
شكركم) ، تقولون: على ما أنزلت من الغيث والرحمة، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا. قال: فكان ذلك كفرا منهم لما أنعم الله عليهم.
قال البخاري - رحمه الله -:

(9/258)


1038 - نا إسماعيل: حدثني مالك، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلاة الصبح بالحديبية
على إثر سماء كانت من الليل، فلما
انصرف النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أقبل على الناس، فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ "
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال:
مطرنا بفضل الله ورحمته،
فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء
كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ".
قوله: " على
إثر سماء "، أي: مطر كان من الليل.
والعرب تسمي المطر سماء؛ لنزوله من السماء، كما قال بعضهم:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه،
وإن كانوا غضابا

(9/258)


وقوله: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " - وفي بعض الروايات:
" الليلة "، وهي تدل على
أن الله تعالى يتكلم بمشيئته واختياره.
كما قال الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما إذا شاء.
وقوله: " أصبح من
عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله
ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: بنوء كذا
وكذا، فذلك
كافر بي مؤمن بالكوكب ".
يعني: أن من أضاف نعمة الغيث وإنزاله إلى الأرض إلى الله عز وجل
وفضله ورحمته، فهو مؤمن بالله حقا، ومن أضافه إلى الأنواء، كما كانت
الجاهلية تعتاده، فهو كافر بالله، مؤمن
بالكوكب.
قال ابن عبد البر: النوء في كلام العرب: واحد أنواء النجوم، وبعضهم
يجعله الطالع، وأكثرهم
يجعله الساقط، وقد تسمى منازل القمر كلها أنواء،
وهي ثمانية وعشرون.
وقال الخطابي، النوء واحد الأنواء،
وهي الكواكب الثمانية والعشرون
التي هي منازل القمر، كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل ببعض تلك الكواكب مطروا
،
فجعل النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سقوط المطر من فعل الله دون غيره، وأبطل قولهم. انتهى.
وقال غيره: هذه الثمانية
وعشرون منزلا تطلع كل ثلاثة عشر يوما

(9/259)


منزل
صلاة الغداة بالمشرق، فإذا طلع رقيبه من المغرب؛ فسميت أنواء
لهذا المعنى.
وهو من الأضداد، يقال: ناء إذا طلع، وناء إذا غرب، وناء فلان إذا
قرب، وناء إذا بعد.
وقد أجرى الله
العادة بمجيء المطر عند طلوع كل منزل منها، كما أجرى
العادة بمجيء الحر في الصيف، والبرد في الشتاء.
فإضافة نزول الغيث إلى الأنواء، إن اعتقد أن الأنواء هي الفاعلة لذلك،
المدبرة له دون الله عز وجل، فقد كفر بالله
، وأشرك به كفرا ينقله عن ملة
الإسلام، ويصير بذلك مرتدا، حكمه حكم المرتدين عن الإسلام، إن كان قبل
ذلك
مسلما.
وإن لم يعتقد ذلك، فظاهر الحديث يدل على أنه كفر نعمة الله.
وقد سبق عن ابن عباس، أنه جعله كفرا
بنعمة الله عز وجل.
وقد ذكرنا في " كتاب: الإيمان " أن الكفر كفران: كفر ينقل عن الملة،
وكفر دون ذلك، لا
ينقل عن الملة، وقد بوب البخاري عليه هنالك.
فإضافة النعم إلى غير المنعم بها بالقول كفر للمنعم في نعمه، وإن
كان
الإعتقاد يخالف ذلك.
والأحاديث والآثار متظاهرة بذلك.
وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " ألم تروا
إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها
كافرين، يقولون: الكوكب وبالكوكب ".

(9/260)


وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " إن الله
عز وجل ليبيت القوم بالنعمة، ثم يصبحون وأكثرهم بها كافر، يقولون: مطرنا
بنوء كذا وكذا ".
وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " لو أمسك الله القطر عن
الناس سبع سنين،
ثم أرسله، كفرت طائفة منهم، فقالوا: هذا من نوء
المجدح ".

(9/261)


وروى [أبو] الدرداء، قال: مطرنا على عهد
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ذات ليلة،
فأصبح رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ورجل يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فقال رسول الله
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " قلما
أنعم الله على قوم نعمة، إلا أصبح كثير منهم بها كافرين ".
وفي " صحيح مسلم "، عن أبي مالك الأشعري، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال:
" أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في
الأنساب،
والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ".
وخرج البخاري في " صحيحه "، من رواية ابن عيينة، عن عبيد الله:
سمع
ابن عباس يقول: " خلال من خلال الجاهلية: الطعن في الأنساب،
والنياحة "، ونسي الثالثة. قال سفيان: ويقولون
: إنها " الاستسقاء بالأنواء ".

(9/262)


وروي عن ابن عباس - مرفوعا - من وجه آخر ضعيف.
وخرج ابن حبان في "
صحيحه " - معناه - من حديث أبي هريرة - مرفوعا.
وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
سمع رجلا في
بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] :
" كذبت، بل هو سقي الله عز وجل، ورزقه ".
وذكر مالك، أنه بلغه عن أبي هريرة، أنه كان يقول: مطرنا
بنوء الفتح،
ثم يتلو هذه الآية:) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) [فاطر: 2] .
وذكر الشافعي
، أنه بلغه، أن عمر سمع شيخا يقول - وقد مطر الناس -:
أجاد ما أقرى المجدح الليلة، فأنكر ذلك عمر عليه.

(9/263)


وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن سلم العلوي، قال: كنا عند أنس،
فقال رجل: إنها لمخيلة للمطر. فقال أنس:
إنها لربها لمطيعة.
يشير أنس إلى أنه لا يضاف المطر إلى السحاب، بل إلى أمر الله ومشيئته.
وذكر ابن عبد
البر، عن الحسن، أنه سمع رجلا يقول: طلع سهيل،
وبرد الليل، فكره ذلك، وقال: إن سهيلا لم يأت قط بحر
ولا برد.
قال: وكره مالك أن يقول الرجل للغيم والسحابة: ما أخلقها للمطر.
قال: وهذا يدل على أن القوم
احتاطوا، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه
أدنى متعلق من كلام الجاهلية في قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا. انتهى.
واختلف الناس في قول القائل: " مطرنا بنوء كذا وكذا " من غير اعتقاد أهل
الجاهلية: هل هو مكروه، أو محرم؟
فقالت طائفة: [هو] محرم، وهو قول أكثر أصحابنا، والنصوص تدل
عليه، كما تقدم.
وقال طائفة: هو مكروه، وهو قول الشافعي وأصحابه، وبعض أصحابنا.
فأما إن قال: " مطرنا في بنوء كذا وكذا "،
ففيه لأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنه يجوز، كقوله: " في وقت كذا وكذا "، وهو قول القاضي
أبي

(9/264)


يعلى وغيره.
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال للعباس - رضي الله عنه -،
وهو يستسقي: يا عباس، كم بقي من
نوء الثريا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن
أهل العلم بها يزعمون أنها تعترض بالأفق بعد وقوعها سبعا، فما مضت
تلك
السبع حتى أغيث الناس.
رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن ابن المسيب،
قال:
حدثني من لا أتهم، عن عمر - فذكره.
والوجه الثاني: أنه يكره، إلا أن يقول مع ذلك: " برحمة الله عز وجل "
،
وهو قول أبي الحسن الآمدي من أصحابنا.
واستدل للأول بما ذكر مالك في " الموطإ "، أنه بلغه، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
كان
يقول: " إذا نشأت بحريتها فشاءمت، فتلك عين غديقة ".
وهذا من البلاغات لمالك التي قيل، إنه لا يعرف
إسنادها.
وقد ذكره الشافعي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن إسحاق بن
عبد الله، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]-
مرسلا -، قال: " إذا نشأت بحرية، ثم استحالت
شامية، فهو أمطر لها ".
قال ابن عبد البر: ابن أبي يحيى؛
مطعون عليه متروك.
وإسحاق، هو: ابن أبي فروة، ضعيف - أيضا - متروك.
وهذا لا يحتج به أحد من

(9/265)


أهل العلم.
قلت: وقد
خرجه ابن أبي الدنيا من طريق الواقدي: نا عبد الحكيم بن
عبد الله بن أبي فروة: سمعت عوف بن الحارث: سمعت
عائشة تقول:
سمعت النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: " إذا أنشأت السحابة بحرية، ثم تشاءمت، فتلك عين " -
أو قال: " عام
غديقة ".
يعني: مطرا كثيرا.
والواقدي: متروك - أيضا.
والمعنى: أن السحابة إذا طلعت بالمدينة من
جهة البحر، ثم أخذت إلى
ناحية الشام، جاءت بمطر كثير، وهو الغدق.
قال تعالى: (لأسقيناهم ماء غدقا) [الجن: 16] .
وقيده ابن عبد البر: " غديقة " بضم الغين بالتصغير.
ومن هذا المعنى: قول الله عز وجل
(فالحاملات وقرا) [الذاريات: 2] ،
وفسره علي بن أبي طالب وابن عباس ومن بعدهما بالسحاب.
قال
مجاهد: تحمل المطر.

(9/266)


29 - باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله
وقال أبو هريرة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " خمس لا يعلمهن إلا الله
".
حديث أبي هريرة هذا، قد خرجه في " كتاب: الإيمان " في حديث سؤال
جبريل النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] عن الإسلام
والإيمان والإحسان، وأنه تلا عند ذلك هذه الآية:
(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) [لقمان: 34] الآية، وقد تقدم ذكره
والكلام عليه.

(9/267)


1039 - حدثنا محمد بن يوسف: نا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن
ابن
عمر، قال: قال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " مفتاح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله، لا يعلم أحد
ما يكون في غد [إلا الله] ،
ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس
ما تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد
متى يجيء
المطر.
قد سبق في الباب المشار إليه: الإشارة إلى اختصاص الله بعلم هذه
الخمس، التي هي مفاتح
الغيب، التي قال فيها: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) [الأنعام: 59] .

(9/267)


وهذه الخمس المذكورة في
حديث ابن عمر، ليس فيها علم الساعة، بل
فيها ذكر متى يجيء المطر، بدل الساعة.
وهذا مما يدل على أن
علم الله الذي استأثر به دون خلقه لم ينحصر في
خمس، بل هو أكثر من ذلك، مثل علمه بعدد خلقه، كما قال: (وما تسقط
من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس) [الأنعام: 59] .
ومثل استئثاره بعلمه بذاته وصفاته وأسمائه، كما قال:
(ولا يحيطون به علما) [طه: 110] .
وفي حديث ابن مسعود - في ذكر أسمائه -: " أو استأثرت به في
علم الغيب
عندك ".

(9/268)


وإنما ذكرت هذه الخمس لحاجة الناس إلى معرفة اختصاص الله بعلمها،
والعلم بمجموعها مما اختص الله بعلمه، وكذلك العلم القاطع بكل

(9/269)


فرد فرد من أفرادها.
وأما الاطلاع على شيء يسير من أفرادها
بطريق غير قاطع، بل يحتمل الخطأ
والإصابة فهو غير منفي؛ لأنه لا يدخل في العلم الذي اختص الله به، ونفاه
عن غيره.
وتقدم - أيضا - أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أوتي علم كل شيء، إلا هذه الخمس.
فأما اطلاع الله سبحانه له على
شيء من أفرادها، فإنه غير منفي - أيضا -،
وهو داخل في قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا
(26) إلا من ارتضى من رسول) [الجن: 26، 27] الآية.
ولكن علم الساعة مما اختص الله به، ولم يطلع عليه غيره، كما تقدم في
حديث سؤال جبريل للنبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، وكذلك جملة العلم بما في غد.
وقد قالت جارية
بحضرته [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : وفينا نبي يعلم ما في غد، فنهاها النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
عن قول ذلك.
وقد خرجه البخاري في " النكاح ".
وأما العلم بما في الأرحام، فينفرد الله تعالى بعلمه، قبل أن يأمر ملك
الأرحام بتخليقه وكتابته، ثم بعد ذلك قد يطلع
الله عليه من يشاء من خلقه،
كما أطلع عليه ملك الأرحام.
فإن كان من الرسل فإنه يطلع عليه علما يقينا، وإن
كان من غيرهم من
الصديقين والصالحين، فقد يطلعه الله تعالى عليه ظاهرا.
كما روى الزهري، عن عروة،
عن عائشة، أن أبا بكر لما حضرته الوفاة
قال لها - في كلام ذكره -: إنما هو أخواك وأختاك. قالت:

(9/270)


فقلت هذا أخواي، فمن أختاي؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، فإني أظنها جارية.
ورواه هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنها
قالت له عند ذلك: إنما هي
أسماء؟ فقال: وذات بطن بنت خارجة، أظنها جارية.
ورواه هشام، عن أبيه: قد
ألقي في روعي، أنها جارية، فاستوصي بها
خيرا. فولدت أم كلثوم.
وأما علم النفس بما تكسبه غدا، وبأي
أرض تموت، ومتى يجيء المطر،
فهذا على عمومه لا يعلمه إلا الله.
وأما الاطلاع على بعض أفراده، فإن كان
بإطلاع من الله لبعض رسله، كان
مخصوصا من هذا العموم، كما أطلع النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] على كثير من الغيوب المستقبلة،
وكان يخبر بها.
فبعضها يتعلق بكسبه، مثل إخباره أنه يقتل أمية بن خلف، وأخبر سعد بن
معاذ بذلك أمية بمكة
، وقال أمية: والله، ما يكذب محمد.
وأكثره لا يتعلق بكسبه، مثل إخباره عن الصور المستقبلة في أمته وغيرهم
،
وهو كثير جدا.
وقد أخبر بتبوك، أنه " تهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد "،
وكان كذلك.
والاطلاع على هبوب بعض الرياح نظير الاطلاع على نزول بعض الأمطار في
وقت معين.

(9/271)


وكذلك إخباره [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ابنته فاطمة في مرضه، أنه مقبوض من مرضه.
وقد روي عنه [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، أنه قال: " ما بين قبري
ومنبري روضة من رياض
الجنة ".
خرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري، والنسائي من
حديث أم سلمة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
وهو دليل على أنه علم موضع موته ودفنه.
وقد روي عنه، أنه قال: " لم يقبض نبي إلا دفن حيث يقبض ".
خرجه ابن ماجه وغيره.
وأما إطلاع غير الأنبياء على بعض أفراد ذلك فهو - كما تقدم
- لا يحتاج إلى
استثنائه؛ لأنه لا يكون علما يقينا، بل ظنا غالبا، وبعضه وهم، وبعضه حدس
وتخمين، وكل
هذا ليس بعلم، فلا يحتاج إلى استثنائه مما انفرد الله سبحانه
وتعالى بعلمه، كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(9/272)