فتح الباري لابن
رجب [كتاب السهو]
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفرض
(9/385)
1224 - حدثنا عبد الله
بن يوسف: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن
الأعرج، عن عبد الله بن بحينة، أنه قال: صلى لنا رسول الله
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
ركعتين من
بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى
صلاته ونظرنا
تسليمه، كبر قبل
التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم.
(9/385)
1225 - حدثنا عبد الله بن يوسف: نا مالك،
عن يحيى بن سعيد
، عن
عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بحينة، أنه قال: إن
رسول الله
(9/385)
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قام
من
اثنتين من الظهر، لم
يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين، ثم سلم
بعد ذلك.
قد خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق في "
أبواب التشهد "، من حديث
شعيب، عن الزهري، ومن حديث جعفر بن ربيعة، عن الأعرج.
وفي حديثهما:
أن ذلك كان في صلاة الظهر.
وقد أجمع العلماء على أن من ترك التشهد الأول من الصلاة
الرباعية أو
المغرب،
وقام إلى الثالثة سهوا، فإن صلاته صحيحة، ويسجد للسهو.
وقد روي ذلك عن خلق من الصحابة، بأنهم فعلوه.
وروي عن عمر، أنه تشهد مرتين، فقضى التشهد الأول في تشهده
الأخير.
روى سفيان الثوري: حدثني أبي،
عن الحارث بن شبيل، عن عبد الله
ابن شداد، قال: قام عمر في الركعتين فمضى، فلما سلم في آخر
صلاته سجد
سجدتين، وتشهد مرتين.
وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج: قال عطاء: إذا قام في قعود،
فإذا
فرغ من صلاته
سجد سجدتي السهو، وتشهد
(9/386)
تشهدين.
وإن كان ترك التشهد الأول عمدا، ففي بطلان صلاته اختلاف،
ذكرناه في
التشهد.
وإذا كان ساهيا فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يستمر سهوه حتى يقرأ في الركعة الثالثة، فإنه
يستمر ولا
يرجع
إلى السجود عند جمهور العلماء.
وروي عن الحسن، أنه يجلس للتشهد، وإن قرأ، ما لم يركع.
وهذا
يدل على أن التشهد الأول عنده واجب متأكد.
الحالة الثانية: أن لا يستمر قائما، فقال الجمهور: له أن
يرجع.
وقال أحمد: يجب أن يرجع، بناء على قوله: إن هذا التشهد
واجب.
ويسجد للسهو، وإن رجع، عند جمهور
العلماء، وهو [قول]
عبد الرحمن بن أبي ليلى والشافعي وأحمد.
وروي عن النعمان بن بشير، وعن أنس بن
مالك، أنهما فعلاه.
وروي عن أنس، أنه فعله، وقال: هو السنة.
رواه سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس.
قال
الدارقطني: لم يقله عن يحيى غيره. قال: وزيادة الثقة
مقبولة.
وقال طائفة: إذا رجع لم يسجد للسهو، وهو قول
علقمة
(9/387)
والأوزاعي،
وهو أحد قولي الشافعي.
وحكي عن بعض أصحابنا - أيضا - وهو ابن حامد -، أنه إذا
رجع قبل أن
يستتم قائما لم يسجد.
وقال مالك: إذا فارقت أليته الأرض وناء للقيام لم يرجع،
ويسجد
للسهو.
وقال حسان بن عطية: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى.
وعند أبي حنيفة: إن كان إلى القعود أقرب عاد
فجلس وتشهد، وإن كان
إلى القيام أقرب لم يقعد، ويسجد للسهو.
الحالة الثالثة: أن يستتم قائما ولا يقرأ، وفيه
قولان:
أحدهما: لا يجوز أن يجلس، وحكي عن علقمة والضحاك وقتادة،
وهو
قول أبي حنيفة والأوزاعي ومالك
والشافعي وأحمد - في رواية -، وهي
المذهب عند ابن أبي موسى.
وممن كان لا يجلس إذا استتم قائما: سعد
بن أبي وقاص وعقبة بن عامر
وابن الزبير وغير واحد من الصحابة.
(9/388)
والثاني: أن له أن يرجع، ما لم يشرع في
القراءة، وهو قول النخعي
وحماد والثوري - مع قوله بكراهة الرجوع.
وروي نحوه عن الأوزاعي - أيضا -، وهو قول أحمد - في
المشهور، عنه
عند أكثر أصحابه -، ووجه
لأصحاب الشافعي، وحكاه ابن عبد البر عن مالك
والشافعي.
واستدلوا بأن القراءة هي المقصود الأعظم من القيام
، من لم يأت به فلم
يأت بالمقصود من القيام، فكأنه لم يوجد القيام تاما.
وفي هذا نظر.
وحكى ابن عبد البر
عن جمهور العلماء القائلين بأنه لا يرجع إذا تم قيامه:
أنه إذا رجع لم تفسد صلاته؛ لأن الأصل ما فعله، وترك
الرجوع له رخصة.
وحكى عن بعض المتأخرين أنه تفسد صلاته. قال: وهو ضعيف.
كذا قال.
ومذهب
الشافعي عند أصحابه: أنه إن رجع عالما بالحال بطلت صلاته.
والجمهور على كراهة الرجوع، وإن لم تفسد به
الصلاة عند من يرى ذلك،
وإنما حكي الخلاف في كراهته عن أحمد.
وقوله: " إن الرجوع هو الأصل، وتركه
رخصة "، ليس كما قال، بل
الأصل أن من تلبس بفرض أنه يمضي فيه، ولا يرجع إلا إلى ما
هو فرض
مثله،
فأما إن رجع من فرض إلى سنة، فليس هو الأصل، وإنما ي
(9/389)
جيء الرجوع
على قول من يقول: إن التشهد واجب،
وابن عبد البر لا يرى ذلك.
واستدل من لم يجوز الرجوع بما روى جابر الجعفي، عن المغيرة
بن
شبيل، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة
بن شعبة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
، قال:
" إذا قام أحدكم فلم يستتم قائما فليجلس، وإذا استتم قائما
فلا يجلس، ويسجد
سجدتي السهو ".
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وجابر الجعفي، ضعفه الأكثرون.
وهذا كله في
قيامه من التشهد الأول في الصلاة المفروضة، كما بوب عليه
البخاري، فإن كانت صلاته نفلا، وكان نوى ركعتين،
ثم قام إلى ثالثة نهارا،
فهو مخير، إن شاء أتمها أربعا - وهو أفضل؛ لأن صلاة أربع
بالنهار لا كراهة
فيها،
وبذلك يصون عمله عن الإلغاء، فكان أولى -، وإن شاء رجع
وتشهد
وسجد للسهو، هذا قول أصحابنا وجمهور
العلماء.
ومن الشافعية من قال: الأفضل أن يرجع؛ لئلا يزيد على
ركعتين.
(9/390)
وروي عن مالك: الأفضل
السجود، ما لم يركع في الثالثة.
وعنه: ما لم يرفع رأسه من ركوعها، ثم يكون المضي أفضل.
ومتى أتمها
أربعا، فعند أصحابنا: إن كان قد تشهد عقيب الركعتين لم
يسجد، وإلا سجد.
وحكي عن مالك والأوزاعي
والشافعي: يسجد لتأخيره السلام عن هذا
التشهد.
وإن كان ذلك في صلاة الليل، فإنه يرجع ولا يتمها أربعا،
ويسجد
للسهو -: نص عليه أحمد.
فإن أتمها أربعا، ففي بطلان صلاته وجهان، بناء على الوجهين
في صحة
تطوعه
بالليل بأربع.
وحكي عن مالك والشافعي: أن الأفضل أن يمضي فيها.
وقال الأوزاعي ومالك - في رواية -:
إن كان قد ركع في الثالثة لم
يرجع، وإلا رجع.
وعن مالك رواية: أنه يراعي الرفع في الركوع، كما سبق عنه.
وقال الثوري - في رجل صلى تطوعا ركعتين، فسها فقام في
الثالثة -: كان
الشعبي يقول: يمضي ويجعلها
أربعا.
وقال الثوري: وأحب إلي أن يجلس ويسلم.
(9/391)
2 - باب إذا صلى خمسا
(9/392)
1226 - حدثنا أبو الوليد: نا شعبة، عن
الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة،
عن عبد الله، أن رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -] صلى الظهر خمسة، فقيل له: أزيد في الصلاة؟
قال: " وما ذاك؟ " قالوا: صليت
خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم.
وقد خرجه البخاري في " أبواب استقبال القبلة " - فيما مضى
-، من
رواية
منصور، عن إبراهيم بهذا الإسناد، بسياق مطول، وفي حديثه:
قال
إبراهيم: " لا أدري زاد أو نقص ".
وذكر
في الحديث: أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-] سجد سجدتين، ثم سلم.
وزاد في آخر الحديث: " وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر
الصواب،
فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين ".
وخرجه مسلم من رواية الأعمش، عن إبراهيم، به،
ولفظه: صلى
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فزاد
أو نقص - قال إبراهيم: الوهم مني - فقيل: يا رسول
الله: أزيد في الصلاة
شيء؟ قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا
نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس "، ثم تحول
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فسجد
سجدتين.
وقد اتفقت الروايات عن إبراهيم في هذا الحديث: أن النبي [-
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لما
(9/392)
ذكر
بسهوه
لم يزد على أن سجد سجدتين.
وهذا يدل على أنه كان سهوه بزيادة ولا بنقص، فإنه لو كان
سهوه بنقص
لأتى بما نقص من صلاته ثم سجد، فلما
اقتصر على سجدتي السهو دل على أن
صلاته كانت قد تمت، وأن السهو كان في الزيادة فيها.
ولكن رواه أبو
بكر الحنفي، عن مسعر، عن منصور، وقال في حديثه:
ثم قام النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ،
فأتم صلاته، وسجد سجدتين بعد ما سلم.
وذكر إتمامه صلاته زيادة [غير] محفوظة، لم يقلها غير أبي
بكر
الحنفي، وهو ثقة يتفرد بغرائب، ولم يتابع
على هذه الزيادة.
وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سويد النخعي، عن علقمة، عن
ابن مسعود، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-]
صلى بهم الظهر خمسا، فلما انفتل توشوش القوم
بينهم. فقال: " ما شأنكم؟ " قالوا: يا رسول الله، هل زيد
في
الصلاة؟
قال: " لا "، قالوا، فإنك قد صليت خمسا، فانفتل، ثم سجد
سجدتين، ثم
سلم، ثم قال: " إنما أنا بشر
مثلكم، أنسى كما تنسون ".
خرجه مسلم.
وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد -: " فإذا نسي أحدكم
فليسجد
سجدتين ".
(9/393)
وخرجه مسلم - أيضا - من طريق أبي بكر
النهشلي، عن عبد الرحمن بن
الأسود، عن أبيه، عن
عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله [- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] خمسا،
فقلنا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: " وما ذاك؟ "
قالوا
: صليت
خمسا. قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسى
كما تنسون "،
ثم سجد سجدتي السهو.
وإلى هذا الحديث ذهب جمهور أهل العلم، وأنه إذا صلى رباعية
خمسا
أو أكثر من ذلك
، أو المغرب أربعا أو أكثر، أو الفجر ثلاثا أو أكثر، ثم
ذكر بعد
سلامه أنه يسجد سجدتي السهو، وتجزئه صلاته.
وروي ذلك عن علقمة والحسن وعطاء والزهري والنخعي، وهو قول
مالك
والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد
وإسحاق وأبي ثور، وفقهاء أهل الحديث
جملة.
وقالت طائفة: إن لم يكن قعد بعد الركعة الأخيرة من صلاته
قدر
التشهد
فسدت صلاته، وعليه الإعادة، وإن كان قعد عقيب انقضاء صلاته
قدر التشهد
أجزأه، وهو قول جماعة من
الكوفيين، منهم: حماد
(9/394)
وأبو حنيفة والثوري.
وقالوا: إذا لم يذكر حتى سجد في الخامسة، ولم يكن قعد عقيب
الرابعة
تحولت صلاته نفلا، وشفعها بسادسة.
ولو لم يشفعها جاز عند أبي حنيفة وأصحابه إلا عند زفر؛
فإنه لا
بد أن
يشفعها؛ لأنه بتلبسه بالخامسة لزمه إتمام ما شرع فيه من
النفل.
وإن كان جلس عقيب الرابعة، ثم ذكر بعد
تمام الخامسة ضم إليها ركعة
أخرى، وكانت الركعتان نافلة.
واختلف الحنفية: هل تجزئانه من سنة الصلاة بعدها
، أو لا؟
واستدل الجمهور بحديث ابن مسعود، وقد روي عنه أنه عمل
بمقتضاه،
وكذلك عمل به علقمة راوية
عنه، وهما أعلم بمدلول ما روياه.
والظاهر: أنه لم يكن قعد عقيب الرابعة؛ لأنه قام إلى
الخامسة معتقدا أنه
قام
عن ثالثة، ولأن هذا زيادة في الصلاة من جنسها سهوا، فلا
تبطل به
الصلاة، كما لو ذكر قبل أن يسجد في الخامسة، فإن هذا قد
وافقوا عليه، وأن
صلاته لا تبطل بذلك، وأنه يرجع
فيتشهد ويسلم، وتجزئه صلاته، ولا فرق
في هذا بين صلاة وصلاة.
وحكي عن قتادة والأوزاعي: أن من صلى
المغرب أربعا، ثم ذكر، أنه
يأتي بخامسة، يقطعها على وتر.
وروى جابر، الجعفي، عن الشعبي
(9/395)
وسالم والقاسم
وعطاء - في رجل
صلى المغرب أربعا -، قالوا: يعيد.
قال أحمد: إنما يرويه جابر.
يعني: أنه تفرد به،
وهو ضعيف مشهور.
وذهب بعض المالكية إلى أن من زاد في صلاته مثل نصفها سهوا،
أن
صلاته تبطل. ورد
ابن عبد البر ردا بليغا.
وروى زياد بن عبيد الله الزيادي، عن حميد، عن أنس، أن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
صلى الظهر ست
ركعات.
وروى ابن وهب في " مسنده "، عن معاوية بن صالح، عن أبي
الزاهرية،
أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى الظهر
سبع ركعات، وعليه حلة حرير، أهداها له أكيدر
دومة، فلما انصرف نزعها، وقال: " إني نظرت إليها،
(9/396)
فألهتني
عن صلاتي ".
وهذا مرسل.
وفي الحديث: دليل على أنه يسجد للسهو، إذا لم يذكره إلا
بعد السلام،
وإن
كان قد تكلم بينهما، وبهذا قال علقمة وعطاء والثوري
والشافعي وإسحاق
وأحمد.
لأن السجود مرسل هنا، منقول بعد السلام، فلا يمنع الكلام
فعله،
كالتكبير في أيام التشريق، هكذا علله بعض
أصحابنا.
ويقتضي ذلك: أنه لا يمنع السجود فيه إن تكلم بعد ذكره
عمدا.
وفي بعض روايات حديث ابن مسعود
ما يدل على ذلك، وأن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -]
تكلم بعد تذكيرهم له بزيادته، ثم سجد.
وقال أبو حنيفة: متى تكلم لم يسجد؛
لأن الكلام ينافي الصلاة.
واختلفوا: هل يعتبر أن لا يطول الفصل بين السلام من الصلاة
والسجود،
أم لا؟ وفيه
قولان:
أحدهما: يعتبر ذلك، فإن طال الفصل امتنع السجود؛ لأن سجود
السهو
تكملة للصلاة، فلا يبنى عليها
مع طول الفصل، كسائر أفعال الصلاة، وهذا
قول الشافعي - في أصح قوليه، وهو الجديد منهما -
(9/397)
وأحمد - في
إحدى
الروايتين.
واعتبر - أيضا - ألا يكون خرج من المسجد، وعليه أكثر
أصحابه.
ومنهم من لم يعتبره،
وهو قول الشافعي وأصحابه، وهو رواية أخرى من
أحمد، ومذهب الثوري وغيره من العلماء.
والثاني: لا
يعتبر قرب الفصل، بل يسجد وإن طال الفصل، وهو قول
الضحاك ويحيى بن سعيد والثوري ومكحول والأوزاعي
والحسن بن حي
والشافعي - في قوله الآخر - وأحمد - في الرواية الأخرى.
لأنه جبران، يفعل بعد التحلل من
العبادة، فيجوز فعله بعد طول الزمان
كجبران الحج.
وقال مالك: إن كان السجود بعد السلام جاز فعله إذا ذكره
، وإن طال
الزمان، وإن كان قبل السلام لم يفعله إلا مع قرب الفصل،
فإن تباعد أعاد
الصلاة؛ لأنه جزء من الصلاة.
وروى ابن وهب، عن مالك، أنه يفعله مطلقا، وإن طال الزمان،
ما لم
ينتقض وضوؤه.
وعن ابن شبرمة
والحكم: يسجد ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج أعاد
الصلاة.
وقال أبو حنيفة: يسجد ما لم يخرج من المسجد
(9/398)
أو يتكلم.
وقال عطاء: يسجدهما ما لم يتم، ولو اتكأ، ثم ذكر، جلس
فسجد،
وإن قام فليصل ركعتين، ولا
يسجد للسهو.
وقال الليث بن سعد: يسجد ما لم ينتقض وضوؤه.
وعن الحسن وابن سيرين: يسجد ما لم
يصرف وجهه عن قبلته، فإن صرفه
لم يسجد.
وحديث ابن مسعود صريح في رد هذا، وقد سبق القول فيه في "
أبواب
استقبال القبلة ".
وللشافعية وجه: أنه لا يسجد مع قرب الفصل - أيضا -؛ لفوات
محله،
وهو قبل
السلام عندهم.
قال بعضهم: وهذا غلط؛ لمخالفته للسنة.
قالوا: وهل يكون هذا السجود عائدا إلى حكم الصلاة
؟ فيه وجهان.
ولهما فوائد:
منها: لو تعمد الكلام في هذا السجود والحديث، فإن قيل: إنه
عائد إلى
الصلاة
بطلت صلاته، وعلى الآخر لا تبطل.
ومنها: إن قيل: عائد إلى الصلاة، لم يكبر الافتتاح، ولم
يتشهد، بل
يسلم بعد السجود، وعلى الآخر يكبر للافتتاح.
وفي تشهده وجهان، أصحهما: لا يتشهد؛ لأنه لم يصح فيه عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
شيء.
قالوا: ويسلم على
الصحيح، سواء تشهد أو لا؛ للأحاديث الصحيحة
المصرحة بأنه [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد
ثم سلم.
ومذهب الثوري إذا أحدث في
سجدتي السهو لم تبطل صلاته،
(9/399)
وليست
بمنزلة الصلاة.
واستدل طائفة بهذا الحديث على من زاد في صلاته
سهوا، فإنه يسجد لذلك
بعد السلام؛ لأن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-] سجد بعد السلام، وهذا قول مالك وأبي ثور ورواية
عن أحمد.
وحكي عن أحمد: أن زيادة عدد الركعات خاصة يسجد لها بعد
السلام
مطلقا - وهو الذي حكاه الترمذي في " جامعه "
عن أحمد، وحكى
القاضي أبو يعلى في ذلك روايتين - لو ذكر قبل السلام، أنه
يسلم ثم يسجد
بعد السلام.
وقد
ذهب إليه بعض أهل الحديث.
والذي عليه جمهور العلماء: أن النبي [- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إنما سجد في حديث ابن مسعود
بعد
سلامه؛ لأنه لم يشعر بسهوه إلا بعد السلام من صلاته، فكان
سجوده بعد
السلام؛ فإنه إنما سلم ظانا أن صلاته لا
زيادة فيها، وإنما علم بالزيادة فيها بعد
ذلك.
وقد صرح الإمام أحمد بهذا المعنى في رواية حرب، وغيره.
وسيأتي القول في محل سجود السهو فيما بعد - إن
شاء الله تعالى.
(9/400)
3 - باب
إذا سلم في الركعتين أو في ثلاث سجد [سجدتين]
مثل سجود الصلاة أو أطول
(9/401)
1227 -
حدثنا آدم: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن
أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله [- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] الظهر
أو العصر، فقال له ذو اليدين:
الصلاة يا رسول الله، نقصت؟ فقال النبي [- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لأصحابه: " أحق ما يقول؟ "
قالوا
: نعم. فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين.
قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين،
(9/401)
فسلم وتكلم،
ثم صلى ما بقي، وسجد سجدتين، وقال: هكذا فعل النبي [-
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
بوب البخاري هذا الباب، على أن
من سلم من نقص ركعتين أو ركعة من
صلاته، فإنه يأتي بما بقي عليه، ويسجد سجدتين مثل سجود
الصلاة أو
أطول، وتجزئه صلاته.
ولم يخرج الحديث من الرواية التي فيها: " وسجد سجدتين مثل
سجوده
أو أطول "،
وإنما خرجها فيما بعد من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة.
وهذه الرواية المخرجة في هذا الباب من أهل
المدينة، رواها سعد بن
إبراهيم الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي [-
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، [و] عن
عروة، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
ولعل البخاري إنما صدر طرق حديث أبي هريرة برواية
المدنيين؛ لأن هذه
الرواية فيها متابعة لرواية البصريين
في ذلك السجود للسهو، وإن كانت رواية
البصريين فيها زيادة ذكر طول السجود.
وقد ذكر النسائي: أنه لا يعلم
أحدا ذكر عن أبي سلمة في هذا
الحديث: " ثم سجد سجدتين " غير سعد بن إبراهيم.
(9/402)
ثم خرجه من طريق عمران
بن أبي أنس ويحيى بن أبي كثير والزهري، عن
أبي سلمة، عن أبي هريرة - ولم يذكر فيه سوى قضاء الركعتين.
وخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة - ولم
يتم
لفظ الحديث، بل اختصره.
وقال أبو
داود: رواه يحيى بن أبي كثير وعمران بن أبي أنس، عن أبي
سلمة - والعلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه - عن
أبي هريرة - ولم يذكروا: أنه
سجد السجدتين.
ورواه ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، وقال فيه:
" ولم
يسجد للسهو ".
قلت: قد خرجه الإمام أحمد، عن حجاج، عن ابن أبي ذئب - فذكر
الحديث، وقال في
آخره - قال ابن أبي ذئب: قال الزهري: سألت أهل
العلم بالمدينة، فما أخبرني أحد أن النبي [- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلاهما.
يعني: سجدتي السهو.
فرجعت رواية نفي السجود إلى الزهري، ورواية الزهري بذلك
(9/403)
غير معروفة
[ولا] مشهورة.
وقد روى
الزهري هذا الحديث عن سعيد وأبي سلمة وعبيد الله بن
عبد الله، عن أبي هريرة.
خرجه أبو داود من طريق
الأوزاعي، عنه بهذا الإسناد، وفي حديثه:
ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك.
وخرجه أبو داود
والنسائي من رواية صالح بن كيسان، عن الزهري،
عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة - مرسلا.
قال
الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - وأبو سلمة
وأبو بكر بن الحارث بن هشام وعبيد الله بن
عبد الله.
وخرجه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه " من طريق معمر،
عن
الزهري، عن أبي سلمة وأبي
بكر بن سليمان، عن أبي هريرة.
وخرج النسائي من طريق الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن
سعيد
وأبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن أبي حثمة، عن أبي
هريرة،
عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، أنه لم
يسجد يومئذ قبل
التسليم ولا بعده.
(9/404)
وخرجه مالك في " الموطأ " عن الزهري، عن
سعيد وأبي سلمة
وأبي بكر بن أبي حثمة -
مرسلا.
واختلف على الأوزاعي في وصله عن الزهري وإرساله.
وقد أنكر هذا على الزهري غير واحد من الأئمة.
وعده مسلم بن الحجاج في " كتاب التمييز " من أوهام الزهري؛
لصحة
الروايات بخلاف روايته، وأن النبي [- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد
للسهو يومئذ.
قلت: الذي يظهر - والله أعلم -: أن الزهري روى هذا الحديث
عن
سعيد وأبي سلمة وغيرهما،
من غير ذكر سجود السهو بنفي ولا إثبات، وأن
الزهري أتبع ذلك بقوله من عنده: " لم يسجد النبي [- صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يومئذ للسهو
".
فهذا مما أرسله الزهري [وأدرجه] في الحديث، فمن اقتصر على
هذا
القدر من حديث الزهري ووصله فقد وهم؛ لأنه أسند المدرج
بانفراده.
وقد ذكر الزهري أنه لم
يخبره بالسجود أحد من أهل العلم بالمدينة،
فكان ينفي السجود لهذا، وهذا بمجرده لا يبطل رواية الحفاظ
الأثبات
للسجود.
(9/405)
وقد روي عن الزهري، أنه حمل ترك السجود
للسهو في هذه القصة على
أحد وجهين:
أحدهما: أنه
قال: كان هذا قبل أن يشرع سجود السهو.
فروى عنه معمر، أنه قال: كان هذا قبل بدر، ثم استحكمت
الأمور.
والثاني: أنه كان يرى أنه لم يسجد يومئذ للسهو؛ لأن الناس
يقنوا النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] حتى استيقن.
وكلا الوجهين
ضعيف.
أما الأول؛ فلأن أبا هريرة شهد هذه القصة، وكان إسلامه بعد
بدر بكثير،
وسيأتي بسط ذلك فيما بعد -
إن شاء الله تعالى.
وأما الثاني؛ فمضمونه أنه إنما يسجد للسهو إذا استدام
الشك، فأما إذا
تيقن الأمر، وعمل عليه
، فإنه لا يسجد، وإن كان قد زاد في الصلاة، وهذا
مذهب غريب.
نعم؛ لو شك في شيء من صلاته، ثم زال
شكه قبل السلام، وتبين أنه
لم يزد في صلاته ولم ينقص، فهنا يستحب السجود ولا يجب -:
نقله ابن
منصور،
عن أحمد وإسحاق.
وقال أصحابنا: الصحيح من مذهبنا ومذهب الشافعي: أنه لا
(9/406)
يسجد إلا أن
يكون قد فعل قبل
زوال شكه ما يجوز أن يكون زائدا، فإنه يسجد.
وفي المذهبين وجه آخر: لا يسجد بحال؛ لأن السجود إنما يشرع
[من]
زيادة أو نقص أو تجويزهما، ولم يوجد شيء من ذلك.
وهذا قول سفيان الثوري.
وقد روي عن أبي
هريرة، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
سجد للسهو في هذه القصة من
وجوه أخر:
فروى ذلك مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن
أبي أحمد، عن أبي هريرة - فذكر هذا الحديث
، وقال فيه: فأتم رسول الله
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] [ما] بقي من
الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم.
وقد خرجه
مسلم من هذا الوجه.
رواه - أيضا - الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر بن
ربيعة، عن
ابن مالك،
عن أبي هريرة، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -] سجد يوم ذي اليدين سجدتين
بعد السلام.
خرجه النسائي.
ورواه - أيضا -
عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس الهفاني،
(9/407)
قال:
حدثني أبو هريرة - بهذا الحديث -، وذكر فيه: أن النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] [سلم] ثم
سجد سجدتي السهو وهو جالس، ثم سلم.
خرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه ".
وروى السجود - أيضا - في هذه القصة: عمران بن حصين، عن
النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
فروى خالد الحذاء، عن أبي
قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن
حصين، قال: سلم رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -] في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام
فدخل
الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول
الله،
فخرج مغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، [ثم] سجد
سجدتي
السهو، ثم سلم.
خرجه مسلم.
وفي رواية له - أيضا -: فخرج غضبان، حتى انتهى إلى الناس،
فقال: " أصدق هذا؟ " قالوا: نعم، فصلى
ركعة، ثم سلم، ثم سجد
سجدتين، ثم سلم.
وهذه الرواية تدل على أن الخروج من المسجد لا يمنع البناء
على
(9/408)
الصلاة
لمن سلم من نقص في صلاته، فلأن لا سجود السهو فبمجرده
أولى.
وفي رواية لمسلم: أن الرجل الذي
قال للنبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، كان
اسمه الخرباق،
وكان في يده طول.
فمن الناس من قال: هو ذو اليدين المذكور في حديث
أبي هريرة.
وقال طائفة: هما رجلان، وواقعتان متعددتان، ونص على ذلك
الإمام
أحمد.
وقد دل هذا
الحديث - من جميع طرقه - على أن من سلم من نقص
ركعة فأزيد من صلاته ناسيا، ثم ذكر قريبا، أنه يبني على
ما مضى من صلاته،
ولا يلزمه إعادتها، وهو قول جمهور أهل العلم.
فإن هذا إنما زاد في صلاته سلاما ناسيا،
والسلام مشروع في الصلاة، لكنه
أتى به قبل محله، فلا تبطل به الصلاة، كما لو زاد سجدة
سهوا.
ووافق على ذلك أكثر من يقول: إن كلام
الساهي يبطل الصلاة، كأبي
حنيفة وأحمد - في رواية.
واختلف عن سفيان الثوري.
فروى عنه كذلك، هو
المشهور عنه.
وروى يعلى بن عبيد، عنه، أنه إذا سلم ساهيا قطع صلاته؛
لأنه تكلم في
صلاته ساهيا.
حكاه
(9/409)
أصحابه عنه في كتبهم.
وحكاه ابن عبد البر عن بعض أصحاب أبي حنيفة - أيضا.
وكذلك روى عبد
الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، ثم قال: إلا أن
يكون النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صنع
الذي يقولون.
يعني: سلم [ثم]
بنى على صلاته، فتوقف في ذلك حيث لم يكن
الحديث عنده.
واختلفوا: هل يشترط للبناء على ما مضى من
الصلاة أن يذكر مع
قرب الفصل، أو لا يشترط ذلك، بل يبني ولو ذكر بعد طول
الفصل؟ على
قولين:
أحدهما: لا يبني إلا مع قرب الفصل، فإن طال الفصل بطلت
الصلاة
واستأنفها، وهذا [قول] أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد وأبي خيثمة
وسليمان بن داود الهاشمي.
والثاني: يبني ولو طال الفصل، وهو قول مكحول والأوزاعي
ويحيى
الأنصاري والحسن بن حي.
ونقل صالح
وغيره، عن أحمد ما يدل على ذلك - أيضا.
(9/410)
وقال الليث: يبني ما لم ينتقض وضوؤه الذي
صلى به تلك الصلاة.
وفي حديث عمران بن حصين ما يدل على البناء مع طول الفصل.
والله أعلم.
واختلفوا - أيضا -: هل
يبني مع عمله عملا كثيرا ينافي الصلاة مثله،
أو لا يبني معه؟ وفيه خلاف عن الشافعي وأحمد، سبق ذكره؛
وأن
العمل
الكثير مع السهو: هل تبطل به الصلاة، أم لا؟
وفي حديث أبي هريرة وعمران بن حصين: ما يدل على
أنه يبني مع
[ذلك] كثرة العمل في هذه الحال سهوا.
واختلفوا: هل يبني، وإن خرج من المسجد، أو لا يبني
إلا مع كونه في
المسجد؟ وفيه خلاف سبق ذكره في تأخير سجود السهو نسيانا.
واختلفوا: هل يبني مع تكلمه
في هذه الحال، أم كلامه يقطع البناء
ويستأنف مع الصلاة؟
فقالت طائفة: إن تكلم بطلت صلاته، واستأنفها،
وهو قول النخعي
والثوري وأبي حنيفة، وروي عن الحسن وعطاء، وهو رواية عن
(9/411)
قتادة، وعن
أحمد اختارها
كثير من أصحابه.
لكن أحمد لم يقل: إن الكلام في الصلاة نسخ، وإنما قاله
طائفة من
أصحابه، موافقة للكوفيين.
واستدلوا بقول
الزهري: كان هذا - يعني: قصة ذي اليدين - قبل بدر،
ثم استحكمت الأمور بعد.
وقد ذكر الزهري في روايته
: أن [الذي] كلم النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-] هو ذو الشمالين
ابن عمر حليف بني زهرة.
كذا في " مسند أحمد " و" صحيح ابن
حبان ".
وكذا خرج النسائي أنه ذو الشمالين بن عمرو.
وكذا سماه عمران بن أبي أنس في روايته، عن أبي
سلمة، عن أبي هريرة:
ذا الشمالين.
وهذه متابعة للزهري.
قالوا: ذو الشمالين قتل يوم بدر، وتحريم الكلام
إنما شرع بعد ذلك.
وروى محمد بن أبي السري، عن عبد العزيز بن عبد الصمد
(9/412)
العمي، عن
أيوب، عن ابن
سيرين والحسن، عن أبي هريرة، أن النبي [- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد بعد
السلام والكلام قبل النسخ، فنسخ، وثبت السجدتان.
والمراد: أنه نسخ السجود بعد الكلام، وصار الكلام مبطلا
تعاد معه
الصلاة.
ومحمد بن أبي السري، ليس
بالحافظ.
ولعل هذا من تصرف بعض الرواة بالمعنى عنده.
وكل من قال هذا، قال: إن كلام الناسي يبطل الصلاة.
وقال طائفة أخرى: بل يبني، وإن تكلم في هذه الحال، إذا ظن
تمام
صلاته؛ فإنه إنما تكلم ناسيا الصلاة، وهذا قول
الشافعي وأحمد - في رواية
عنه.
قالوا: إن قصة السهو كانت بعد تحريم الكلام، فلم ينسخ، بل
دلت على
أن
كلام الناسي مستثنى من عموم الكلام المبطل للصلاة، كما أن
الأكل في
الصيام ناسيا معفو عنه لا يبطل به الصيام.
واستدلوا على تأخر قصة ذي اليدين، بأن أبا هريرة شهدها،
وأبو هريرة إنما
أسلم عام خيبر، وممن ذكر ذلك:
الشافعي وأحمد.
وشهدها عمران بن حصين، وإنما أسلم بعد بدر، فيما قيل.
وشهدها معاوية بن حديج،
وحديثه مخرج في " كتاب النسائي " وغيره،
ومعاوية بن
(9/413)
حديج ممن تأخر إسلامه، حتى قيل: إنه أسلم
قبل موت
النبي،
بشهرين.
وهذا كله بعد تحريم الكلام في الصلاة؛ فإنه كان إما بمكة
قبل الهجرة،
أو عقيب الهجرة قبل
بدر، كما دل عليه حديث ابن مسعود، وقد سبق الكلام
على ذلك.
قالوا: وقول الزهري: " إن ذلك كان قبل بدر
" وهم منه، وكذلك قوله:
" إن [الذي] كلم النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-] ذو الشمالين "، وإنما هو ذو اليدين.
قالوا: وقد بقي ذو
اليدين بعد النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ،
وأما المقتول ببدر، فهو ذو
الشمالين، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد، وأنكر أحمد أن يكون
ذو اليدين
قتل ببدر.
وذهب طائفة إلى أنهما واحد.
وهؤلاء ذهبوا إلى أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وروي عن
ابن عباس
وابن الزبير.
وروي عن الزبير
بن العوام بإسناد منقطع.
وهو قول الشعبي وعروة وعطاء والحسن وقتادة - في رواية عنهم
- وعمرو
ابن دينار
والشافعي وأحمد - في رواية - وإسحاق وأبي خيثمة وغيرهم من
فقهاء
الحديث.
(9/414)
فعلى هذه المقالة: إنما تكلم
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بعد سلامه
نسيانا؛ لظنه أن صلاته
قد تمت.
وخرج الطبراني من رواية معلى بن مهدي: حدثنا حماد
بن زيد، عن
أيوب وابن عون وهشام وسلمة بن علقمة، عن محمد، عن أبي
هريرة، أن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] تكلم في
الصلاة ناسيا، فبنى على ما صلى.
وهذا مروي بالمعنى، مختصرا من قصة ذي اليدين.
واختلفت الرواية عن
أحمد: هل يختص كلام الساهي بما كان من مصلحة
الصلاة؛ لحال كلام النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -] وأصحابه في قصة ذي اليدين، أم
يعم ما كان
لمصلحة الصلاة وغيره؟ .
ورجح طائفة من المتأخرين من أصحابنا اختصاصه بما كان
لمصلحة الصلاة؛ لأن الرخصة إنما وردت في؛ ولأنه إذا كان
لمصلحة الصلاة، وفعله ساهياً، فهو شبيه بالسلام من الصلاة
ساهياً، وهو غير مبطل عند جمهور العلماء كما تقدم.
واختلف أصحابنا: هل محل الخلاف إذا سلم من صلاته، يظن أنها
(9/415)
قد تمت، ثم تكلم حينئذ؛ لأن هذه هي الصورة
التي وردت فيها الرخصة، وهي التي يقع فيها كلام الساهي
غالباً، أم تعم ذلك وغيره لمن تكلم في صلب صلاته ساهياً؟
وفيه طريقان للأصحاب 0
وأكثر [كلام الإمام] أحمد يدل على الأول.
وقد ذكرنا - فيما تقدم - أن أحمد لم يقل: إن حديث ذي
اليدين نسخ، كما يقوله غيره، وإنما اختلفت الرواية عنه: هل
كان ذلك خاصاً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وبمن كلمه، أو هو عام، أم يختص بعده بالإمام دون المأموم؟
فروي عنه، أنه كانَ خاصاً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ومن كلمه.
وهذه الرواية اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه.
فأما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد
يقول: إنه كان مخصوصاً بجواز الكلام في الصلاة لمصلحتها،
إما سهواً أو مطلقاً.
وأما المجيبون له، فقد صرح بأن إجابتهم للنبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت واجبة، فلا تبطل صلاتهم
بذلك، وكلام ذي اليدين له بقوله: ((قصرت الصلاة، أم
(9/416)
نسيت؟)) كانَ في وقت يجوز فيهِ قصر
الصَّلاة، فكان - أيضا - يظن أن صلاتهم تمت، وهذا لايوجد
بعدهم.
وأما قول ذي اليدين بعد ذلك: ((بل نسيت يا رسول الله)) -
وفي رواية: ((قد كان بعض ذلك)) ، فقد تكلم وهو عالم أن
صلاتهم لم تتم، لكنه لم يعلم أنهم في الصلاة، وأن البناء
يجوز لهم على ما مضى، بل قد يكون ظن أن ما مضى من الصلاة
بطل ولغي، وأنهم الآن ليسوا في صلاة، وربما كان تكلم غير
ذي اليدين من الصحابة لذلك؛ فإن جواز البناء إنما علم من
فعل النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ،
لا قبله.
لكن هذا يقع للناس كثيراً، فهل حكم هذا حكم من تكلم يظن
أنه ليس في
صلاة، فهو كالساهي، أم لا؟
الظاهر: أن هذا ملحق بالجاهل بأنه في صلاة، يعذر في كلامه،
بخلاف الصائم، إذا جهل الوقت فاكل يظنه ليلاً، فتبين أنه
نهاراً.
وحكوا الخلاف عن أحمد، في كل من تكلم وهو يعتقد أنه ليس في
صلاة، وأنه خرج منها، يكون جاهلاً بأن [عمل] كلامه يبطل
الصلاة.
ولأصحابنا وجهان فيمن أكل [في] الصيام ما لا يعتقد أنه
يفطره، هل
(9/417)
يفطربه، أم لا؟ وهو - أيضا - جاهل.
ولهم وجهان فيمن أكل ناسيا، فظن أنه أفطر، وأنه لا يلزمه
الإمساك، ثُمَّ
جامع، هل عليه كفارة بجماعه، أم لا؟
وحكى ابن المنذر، أنه لا كفارة عليهِ عندَ جمهور العلماء؛
لأنه لم يتعمد افساد الصوم.
وللشافعية فيهِ وجهان - أيضا.
وكلامهم يدل على أنه يفطر بذلك؛ فإن الجهل لايعذر به في
الصوم، ويعذر به في الصَّلاة، فإذا سلم من صلاته، يظن أنها
تمت، ثُمَّ علم أنها لم تتم، وظن أن صلاته بطلت، فتكلم،
فهوَ كالجاهل.
وكذا إذا سلم الإمام ناسيا، والماموم يعلم، فتكلم ظاناً أن
صلاته بطلت
بالسلام، فأحمد جعل هذا الحكم خاصاً بالنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - في رواية عنه.
وجعله - في رواية أخرى عنه - عاما للأمة في حق كل من تكلم
وهو يظن أن صلاته قد تمت، خاصة كما يقوله الشافعي.
وفرق - في رواية أخرى عنه - بين الإمام والمأموم؛ لأن
الإمام لايسأل عن تمام صلاته إلا وهو شاك، والمأموم إنما
يجيب وهو عالم بأن صلاته لم تتم، بخلاف حال الصحابة مع
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن بعضهم
تكلم وهو يظن أن الصَّلاة قد تمت؛ لاحتمال قصرها عنده،
وبعضهم تكلم مجيباً للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وكلا الأمرين لا يوجد في حق من بعدهم.
ولكن يوجد في حق من بعدهم من يظن أن صلاتهم قد تمت
كالإمام، ومن يظن أن صلاته تبطل بالسلام نسياناً، فيتكلم
حينئذ، جاهلا بأنه في صلاة.
(9/418)
وخرج أبو داود من حديث حماد بن زيد، عن
أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: صلى النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى
ركعتين، ثم سلم - وذكر الحديث، وفيه: قال: ((أصدق ذو
اليدين؟)) .
فاومئوا - أي: نعم - وذكر الحديث.
وذكر أن حماد بن زيد تفرد بقوله: ((فأومئوا)) .
وقول إسحاق بن راهويه في هذا كقول أحمد، بالتفريق بين
الإمام والمأمومين.
قال: إنما تكلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-؛ لأنه ظن تمأم صلاته، وذو اليدين ظن أن الصَّلاة قصرت
وتمت، والصحابة اجابوا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ لأن اجابته بالكلام عليهم واجبة، لم يجدوا من
ذَلِكَ بداً.
قالَ: وإن تكلم الإمام اليوم، وهو شاك في تمام صلاته،
واستثبت من معه، جاز لهُ ذَلِكَ، ولو كانوا قدو نبهوه
بالتسبيح، ولا يجوز لهم أن يتكلموا إذا علموا أن صلاتهم لم
تتم، وتبطل به صلاتهم.
روى كل ذلك حرب وابن منصور، عن إسحاق.
ونقل ابن قرة الزبيدي، عن مالك، أن من تكلم في صلاته بعد
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعاد صلاته؛
لأن الصحابة تكلموا وهم يظنون أن الصَّلاة قد
(9/419)
قصرت، فلا يجوز ذَلِكَ اليوم.
وإلى هذه الرواية ذهب ابن كنانة من أصحابه.
وذكر الحارث بن مسكين وابن وضاح أن سائر أصحاب مالك خالفوا
ابن القاسم فيما رواه عن مالك.
وقالت طائفة: حديث ذي اليدين يتخرج على أن الكلام لمصلحة
الصلاة لا يبطلها، عمداً ولا سهواً، وهو قول الأوزاعي
وأيوب وحماد بن زيد وربيعة.
ومالك - في المشهور عنه -: نقله ابن القاسم، عنه.
وهو رواية عن أحمد.
وروي عنه، اختصاصه بالإمام.
ومذهب مالك: اختصاصه بالإمام والمأموم، دون المنفرد.
وروي هذا المعنى عن ابن الزبير وغيره من المتقدمين.
ويستدل له بأن في حديث معاوية بن حديج - الذي يأتي ذكره -:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً
أن يقيم الصلاة.
وكذا رواه عبيد بن عمير - مرسلاً.
وهذا يدل على أن إقامة الصلاة والأمر بها لايبطل البناء
على ما مضى من
الصلاة.
(9/420)
وادعى قوم: أن هذا كان من خصائص النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهذا رواية عن
مالك وأحمد، قد سبق ذكرها.
وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة، وأن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[سلم] من ركعتين، وأن الذي كلم
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو ذي اليدين.
ومن حديث عمران بن الحصين، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم من ثلاث ركعات، وأن الذي كلمه هو
الخرباق.
خرجه مسلم.
وقد نص أحمد على أنهما حديثان، وليسا بقصة واحدة -: نقله
عنه علي بن سعيد.
وروى - أيضا - معاوية بن حديج، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوما، فسلم، وقد بقيت من الصلاة
ركعة، فادركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعة، فرجع فدخل
المسجد، وأمر بلالاً فأقام، فصلى للناس ركعة. قال: فأخبرت
بذلك الناس، فقالوا: تعرف الرجل؟ قلت: لا، الا أن أراه،
فمر بي، فقلت: هوَ هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم.
وقال: صحيح حسن الإسناد.
وفي رواية. أنه المغرب.
(9/421)
وقد أنكر الإمام أحمد أن يكون لمعاوية بن
حديج صحبة، وأثبته البخاري والأكثرون.
قال ابن حبان: هذا يدل على أن هذه ثلاثة أحوال متباينة في
ثلاث صلوات، لا في صلاة واحدة.
ورجح ابن عبد البر وغيره أنها صلاة واحدة، وأن اختلفت بعض
الروايات فيها.
وهذا أشبه. والله أعلم.
وعلى القول بأن الكلام نسياناً أو جاهلاً لايبطل الصلاة،
إنما هو في اليسير، فأما إن كثر وطال، ففيه وجهان.
والمنصوص عن [أحمد] ، أنه يبطل حينئذ -: نقله عنه أبو داود
وغيره.
وكذلك لأصحاب الشافعي وجهان - أيضا.
والمنصوص، عنه: أنه
(9/422)
يبطل - أيضا -: نقله عنه البويطي.
قال: الشافعي: لا يشك مسلم أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل
الصلاة، وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله،
ولم يقبل
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذي
اليدين؛ إذ سأل غيره، ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من
لم يسمع كلامه، فيكونون مثله - يعني: مثل ذي اليدين -،
واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه، ولو سمع النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد عليهِ، فلما سمع
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد عليهِ
كانَ في معنى ذي اليدين، من أنه لم يدر: أقصرت الصَّلاة أم
نسي النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجابه،
ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه.
ثم قال: فلما قبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تناهت الفرائض فلا يزداد فيها، ولا ينتقص منها
أبداً.
قال: فهذا فرق ما بيننا وبينه، إذا كان أحدنا إماما اليوم.
وفي حديث أبي هريرة المخرج في هذا الباب فوائد كثير جداً،
يطول
استقصاؤها، ولكن نشير إلى بعضها إشارة:
فمنها: أن اليقين لا يزال بالشك؛ فإن ذا اليدين كان على
يقين من أن صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما صلى النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين احتمل أن يكون
قصرت الصلاة، واحتمل أن يكون ناسياً، فسأل النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقصرت الصلاة أم نسيت؟
ومنها: أن انفراد الواحد من بين الجماعة بشيء لايمكن في
مثله أن
(9/423)
ينفرد بعلمه عنهم، يتوقف في قوله، حتَّى
يتابعه عليهِ غيره.
وهذا اصل جهابذة الحفاظ: ((أن القول قول الجماعة دون
المنفرد عنهم بزيادة ونحوها)) ، لاسيما أن كانوا زيادة
الثقة مقبولة مطلقاً، وليس ذلك بشيء، فإذا توبع على قوله
اعتمد عليه.
ومنها: أنه قد استدل به بعض من لايقبل خبر الواحد المنفرد
به، حتى يتابع
عليه.
ورد ذلك الإمام أحمد، وفرق بينهما بأن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سلم من صلاته؛ لأنه كانَ
يعتقد اعتقاداً جازماً أنه أتم صلاته، فلذلك توقف في قول
ذي اليدين وحده، دون بقية الجماعة الذين شهدوا الصَّلاة.
وأما خبر الواحد الثقة الذي ليس له معارض أقوى منه، فإنه
يجب قبوله؛ لأدلة دلت على ذَلِكَ، وقد يتوقف فيهِ احياناً؛
لمعارضته بما يقتضي التوقف فيهِ، كما توقف النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قول ذي اليدين حتى
توبع عليه.
(9/424)
ومنها: أنه يستدل به على أن الحاكم إذا نسي
حكمه، فشهد عليه شاهدان، أنفده وأمضاه، وأن لم يذكره، وهو
قول مالك وأحمد.
وعند أبي حنيفة والشافعي: لاينفذه حتى يذكر حكمه به.
وفيه فوائد أخر، تتعلق بسجود السهو، ياتي ذكرها فيما بعد -
إن [شاء الله] تعالى.
(9/425)
4 - باب
من لم يتشهد في سجدتي السهو وسلم
أنس بن مالك، والحسن، ولم يتشهدا.
وقال قتادة: لا يتشهد؟
أما المروي عن أنس
[...........................................] .
وأما المروي عن الحسن، فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن رجل،
عن
الحسن، قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم.
وأما قتادة، قال: يتشهد في سجدتي السهو ويسلم.
وعن عبد الله بن كثير، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى، أنه وهم في صلاته، فسلم، فسجد سجدتي السهو،
ثم سلم مرة أخرى.
قال شعبة: فسألت الحكم وحماداً، فقالا: يتشهد في سجدتي
(9/426)
السهو.
وعن ابن جريج، عن عطاء، قال: ليس في سجدتي السهو تشهد.
قلت: أجعل نهضتي قيامي؟ قالَ: بل اجلس، فهوَ أحب إلي،
وأوفى لها.
وهذا يدل على أن مراده: السجود بعد السلام، أنه لا يتشهد
لهُ، ولا يسلم
منه.
وروى عبد الرزاق بإسناده، عن النخعي، أنه كان يتشهد ويسلم.
وعن الثوري، عن خصيف، عن [أبي] عبيدة، عن عبد الله، أنه
تشهد في سجدتي السهو.
وحاصل الأمر: أنه قد اختلف في التشهد، وفي التسليم في سجود
السهو:
فأما التشهد: فروي ثبوته عن ابن مسعود والشعبي والنخعي
وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وقتادة - وفي رواية -
والحكم وحماد ويزيد بن قسيط والثوري والليث والأوزاعي وأبي
حنيفة.
وروي عن ابن سيرين، قال: أحب إلي أن يتشهد.
(9/427)
وروي [....] عن أنس والحسن وعطاء وابن
سيرين.
وحكاه البخاري عن قتادة.
وهذا كله في السجود بعد السلام.
وأما السجود قبله، فلا يتشهد فيه عند أحد من العلماء، إلا
رواية عن مالك، رواها عنه ابن وهب.
وروي عن ابن مسعود من وجه فيه انقطاع، ومختلف في لفظه، وفي
رفعه
ووقفه.
وحديث ابن بحينة يدل على أنه تشهد بعده؛ لأنه قالَ: ((سجد
قبل السلام)) ، ولم يتشهد بعده، وإن سجد بعد السلام تشهد
بعده، ثُمَّ سلم.
وحكي للشافعي قول آخر: أنه لايتشهد.
وحكي قول ثالث: أنه يتشهد ثم يسجد، ثم يسلم.
واختار الجوزجاني: أنه لا يتشهد في الموضعين، لا قبل
السلام، ولا بعده.
وقد روي عن عمر بن الخطاب وعطاء: أن من نسي التشهد الأول
يسجد بعد صلاته [و] تشهد تشهدين، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وأما التسليم، فروي فعله عن ابن مسعود وعمران بن حصين،
(9/428)
وعلقمة والشعبي والنخعي وعبد الرحمن بن أبي
ليلى والقاسم وسالم وقتادة والحكم وحماد.
وهو قول الثوري وأبي حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.
ثم قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق: يسلم
تسليمتين.
وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع.
وقال النخعي: يسلم تسليم الجنازة.
يعني: واحدة.
وقاله بعض الحنفية – أيضا.
وقد حكى البخاري، عن أنس والحسن، أنهما سلما.
وحكى غيره، عنهما، أنهما لم يسلما.
وقد تقدم عن الحسن، أنه قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم -،
وعن عطاء.
(9/429)
وروى الربيع بن صبيح، عن عطاء، قال: فيها
تشهد وتسليم.
وروي عن عطاء: إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل.
وهذا كله في السجود بعد السلام، وأما السجود قبل السلام
فإنه يعقبه السلام من ... الصلاة، فلا يحتاج إلى تسليم
آخر.
قال البخاري - رحمه الله -:
(9/430)
1228 - ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن
أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من اثنتين
فقال له ذو اليدين: اقصرت الصلاة أم نسيت يارسول الله؟
فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((أصدق ذو اليدين؟)) ، فقال الناس: نعم، فقام رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى اثنتين أخرتين، ثم
[سلم، ثم] كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع.
(9/430)
حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد، عن سلمة بن
علقمة: قلت لمحمد: في سجدتي السهو تشهد؟ قالَ: ليس في حديث
أبي هريرة.
رواية ابن سيرين عن أبي هريرة، إنما فيها ذكر السجدتين، كل
سجدة ورفع منها
بتكبير.
وقد خرجه البخاري كذلك بتمامه في الباب الآتي، من حديث
يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن سيرين.
وكذلك خرجه مسلم، من حديث ابن عيينة وحماد بن زيد، عن
أيوب، عن ابن سيرين.
وكذلك هو في ((الموطأ)) عن أيوب بتمامه.
وكذلك خرجه الترمذي من طريق مالك.
وفي رواية مسلم، قال –يعني: ابن سيرين -: واخبرت عن عمران
بن حصين، أنه قالَ: ((ثم سلم)) .
وهكذا خرجه البخاري في ((باب: تشبيك الأصابع [في] المسجد))
(9/431)
من طريق ابن عون، عن ابن سيرين، بسياق تام،
وفي آخره: ((فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت عن عمران بن
حصين، قالَ: ((ثُمَّ سلم)) .
وهذا يدل على أن ذكر السلام ليس - أيضا – في حديث أبي
هريرة، إنما هو في حديث عمران بن حصين.
وإنما رواه ابن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن
أبي المهلب، عن عمران -: قاله الإمام أحمد.
ورواه كذلك عن يحيى القطان، عن أشعث، عن ابن سيرين.
وخرج الطبراني، من رواية معاوية بن عبد الكريم الضال، عن
ابن سيرين، عن أبي هريرة حديث السهو بطوله، وفيه: فقام
فصلى الركعتين، ثم سجد سجدتين، وهو جالس، ثم سلم.
هذه الزيادة غير محفوظة في حديث أبي هريرة، إنما ذكرها ابن
سيرين بعد حديث أبي هريرة بلاغاً عن عمران بن حصين.
وخرجه مسلم من طريق الثقفي وابن علية، عن خالد الحذاء، عن
أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(9/432)
وروى محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا
أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي
المهلب، عن عمران بن حصين، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد،
ثم سلم.
خرجه أبو داود والترمذي.
وقال: حديث حسن غريب.
وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.
وقال: صحيح على شرطهما.
وضعفه آخرون، وقالوا: ذكر التشهد فيه غير محفوظ، منهم:
محمد بن يحيى الذهلي والبيهقي، ونسبا الوهم إلى أشعث.
وأشعث، هو: ابن عبد الملك الحمراني، ثقة.
وعندى؛ أن نسبة الوهم إلى الأنصاري فيهِ أقرب، وليس هوَ
بذاك
(9/433)
المتقن جداً في حفظه، وقد غمزه ابن معين
وغيره.
ويدل على: أن يحيى القطان رواه عن أشعث، عن ابن سيرين، عن
خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران في السلام
خاصة، كما رواه عنه الإمام أحمد -: ذكره ابنه عبد الله،
عنه في ((مسائله)) .
فهذه رواية يحيى القطان – مع جلالته وحفظه واتقانه -، عن
أشعث، إنما فيها ذكر السلام فقط.
وخرجه النسائي، عن محمد بن يحيى بن عبد الله، عن الأنصاري،
عن اشعث، ولم يذكر التشهد.
فإما أن يكون الأنصاري اختلف عليه في ذكره، وهو دليل على
أنه لم يضبطه، وإما أن يكون النسائي ترك ذكر التشهد من
عمد؛ لأنه استنكره.
وقد روى معتمر بن سليمان، وهشيم، عن خالد الحذاء حديث
(9/434)
عمران ابن حصين، وذكرا فيهِ: أن النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعة، ثُمَّ تشهد
وسلم، ثُمَّ سجد سجدتي السهو، ثُمَّ سلم.
فهذا هو الصحيح في حديث عمران، ذكر التشهد في الركعة
المقضية، لا في سجدتي السهو.
وأشار إلى ذلك البيهقي.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
التشهد في سجود السهو، من حديث ابن مسعود، وله طرق:
أجودها: رواية خصيف عن أبي عبيدة، عنه، مع الاختلاف في رفع
الحديث، ووقفه أشبه، أو مع الاختلاف في ذكر السجود فبل
السلام وبعده.
وروي من وجوه أخر، لا يثبت منها شيء.
وروي –أيضاً - من حديث عائشة – مرفوعاً.
خرجه الطبراني.
وإسناده ساقط.
وقال الجوزجاني: لانعلم في شيء من فعل الرسول - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجدتي السهو قبل السلام
وبعده، أنه يتشهد بعدهما.
وقال – أيضا -:
(9/435)
ليس في التشهد في سجود السهو سنة قائمة
تتبع.
وقال ابن المنذر: السلام في سجود السهو ثابت عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجه، وثبت عنه
أنه كبر فيهما أربع تكبيرات.
وفي ثبوت التشهد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيهما نظر.
وخرج أبو داود في ((سننه)) من حديث سلمة بن علقمة، عن
محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بحديث السهو، وفي آخره: قلت لمحمد: يعني
التشهد؟ قالَ: لم أسمع في التشهد، وأحب إلي أن يتشهد.
وهذه الرواية: تدل على أن رواية اشعث عنه في التشهد لا اصل
لها؛ لأن ابن سيرين أنكر أن يكون سمع في التشهد شيئاً.
والرواية التي ساقها البخاري من رواية سلمة بن علقمة، عن
ابن سيرين، إنما فيها أنه قال: ((ليس في حديث أبي هريرة))
–يعني: التشهد.
وقد بقي من فوائد حديث أبي هريرة أحكام، لم يتقدم ذكرها:
فمنها: أن الإمام إذا سها، ولم يتيقن سهوه، فذكره
المامومون، فإن ذكر سهوه عمل بذكره، بغير خلاف بين
العلماء.
وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(9/436)
((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت
فذكروني)) .
وأما إن لم يذكر سهوه حين ذكروه، فظاهر حديث أبي هريرة يدل
على أنه يرجع إلى قول المأمومين، إذا لم يتيقن أنه على
[الصواب] يقينا، وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية
بن حديج.
وقد بوب البخاري على ذلك في ابواب الإمامة: ((باب: هل ياخذ
الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .
وخرج فيهِ حديث أبي هريرة، من طريق ابن سيرين، ومن طريق
أبي سلمة.
وبهذا قال جمهور اهل العلم، وهو قول عطاء وأبي حنيفة
والثوري ومالك – في رواية – وأحمد وغيرهم.
واختلفوا: هل يجب الرجوع إلى قولهم، أم يستحب؟
فقالَ أبو حنيفة: يجب.
وهو ظاهر أحمد. وروي عنه، أنه يستحب الرجوع إليهم، وله أن
يبني على يقين نفسه، أو يتحرى، كما لو كان منفردا.
وقال ابن عقيل من أصحابنا: إنما يرجع إلى قول المأمومين،
إذا قلنا: إن الإمام يتحرى، ولا يعمل بيقين نفسه؛ فإن أكثر
ما يفيد قولهم غلبة
(9/437)
الظن، فيكون الرجوع إليهم من باب التحرى،
فأما إذا قلنا: يعمل باليقين، لم يلتفت إليهم.
وجمهور أصحابنا على خلاف هذا، وأنه يرجع اليهم على كلا
القولين؛ فإن قول اثنين فصاعدا من المأمومين حجة شرعية،
فيجب العمل بها، وإن لم يوجب العلم، كسائر الحجج الشرعية
التي يجب العمل بها من البيات وغيرها، وإنما محل الخلاف في
التحري بالأمارات المجردة عن حجة شرعية.
وقال الشافعية ومالك – في رواية أخرى -: لا يرجع الإمام
إلى قول المأمومين، إذا لم يذكر ما ذكروه به، بل يبني على
يقين نفسه.
ولأصحابهما قول آخر: إنه يرجع إليهم، إذا كثروا؛ لبعد
اتفاقهم على الخطإ، فأما الواحد والاثنان، فلا.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجب الرجوع إلى قول واحد من
المأمومين؛ لأنه خبر ديني، فهوَ كالإخبار بالقبلة ونحوها.
وكذا قال إسحاق: يرجع إلى قول واحد.
(9/438)
ومذهب مالك وأحمد: لا يرجع إلى قول واحد من
المامومين، بل إلى ما زاد على الواحد؛ لحديث أبي هريرة؛
فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتف
بقول ذي اليدين حتى سال غيره، فلما اخبروه عمل بقولهم،
ولأن انفراد الواحد من بين المامومين بالتنبيه على السهو،
مع اشتراكهم جميعا في الصلاة يوجب ريبة، فلذلك احتاج إلى
قول آخر يعضده.
وقد تقدم القول في هذا بابسط من هذا الكلام في ((باب: هل
ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .
ومنها: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كانَ قد وقع منه في هذه الصَّلاة سلام من نقص وقيام ومشي
وكلام، وكل واحد من هذه سبب يقتضي السجود بانفراده، ولم
يسجد إلا سجدتين.
وكذلك حديث ابن بحينة، فإن فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك التشهد الأول والجلوس له، ويقتضي
ذلك ترك التكبيرة للقيام منه، وقد سجد سجدتين.
فدل على أن السهو إذا تعدد، لم يوجب أكثر من سجدتين.
وهذا قول جمهور العلماء، إذا كان من جنس واحد، وإنما خالف
فيه الأوزاعي.
(9/439)
ويدل على الاكتفاء بسجود واحد، وإن تعدد
السهو: أنه شرع تأخر السجود إلى آخر الصلاة، فدل على أنه
يكتفى به لجميع ما يتجدد في الصلاة من السهو، إذ لو كان
لكل سهو سجود، لشرع السجود عقب كل سهو عنده.
ومنها: أنه سجد للسهو بعد السلام، وسنذكره هذه المسألة
مستوفاة فيما بعد – أن شاء الله تعالى.
(9/440)
5 - باب
يكبر في سجدتي السهو
وفيه حديثان:
الأول:
(9/441)
1229 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا يزيد بن
إبراهيم، عن محمد، عن أبي
هريرة، قال: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إحدى صلاتي العشي –قال محمد: وأكثر ظني العصر – ركعتين،
ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها،
وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس،
فقالوا: قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا اليدين، فقال: أنسيت، أم قصرت؟
فقالَ: ((لم أنس، ولم
تقصر)) . قالَ: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين، ثُمَّ سلم،
ثُمَّ كبر، ثُمَّ سجد مثل سجوده أو اطول، ثُمَّ رفع رأسه
فكبر، ثُمَّ وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده
(9/441)
أو أطول، ثُمَّ رفع رأسه فكبر.
((صلاتا العشي)) : هما الظهر والعصر؛ لأنهما بعد زوال
الشمس، وذلك زمن العشي.
وأكثر ظن ابن سيرين، أنها العصر.
وفي رواية ابن عون، عنه، أنه قال: سماها أبو هريرة،
ونسيتها أنا.
وروي مجزوماً بذلك.
خرجه الإمام أحمد.
وفي هذه الرواية: أنه قام من مكانه الذي صلى فيه إلى مقدم
المسجد، ووضع يده على الخشبة.
وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أنه شبك أصابعه.
وقد خرجها البخاري – فيما مضى.
وأما هيبة أبي بكر وعمر أن يكلماه، مع قربهما منه،
واختصاصهما به، فلشدة معرفتهما بعظمته وحقوقه، وقوة
المعرفة توجب الهيبة، كما أن اشد الناس معرفة بالله أشدهم
لهُ خشية وهيبة وإجلالا، كما كان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك.
((وسرعان الناس)) ، وهم الذين أسرعوا الخروج من المسجد،
فظنوا أن الصلاة قصرت، فتحدثوا بذلك.
وهذا يدل على أنه لم يخف ذلك على
(9/442)
عامة من كان في المسجد أو كلهم.
وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام إلى خشبة فاتكأ عليها، وشبك بين
أصابعه، ووضع خده على ظهر كفه، كأنه غضبان.
والظاهر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان في حال الصلاة مشغول البال بأمر أوجب له ذلك الغضب،
وهو الذي حمله على أن صلى ركعتين وسلم، ولم يشعر بذلك.
وقوله: ((ورجل يدعوه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ذا اليدين)) ، فيه: دليل على أنه يجوز دعاء
الإنسان بغير اسمه، ولا سيما إذا كان ليس من الألقاب
المكروهة، وربما كان يدعى بذلك من باب الفكاهة والمزاح،
كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل:
((ياذا الأذنين)) .
وقوله: ((لم أنس ولم تقصر)) وهكذا في رواية ابن عون – أيضا
-، عن ابن سيرين.
وزعم بعضهم: أن مراده: نفي مجموع الأمرين، يعني: لم يجتمع
القصر
والنسيان، ولم يرد نفي أحدهما بانفراده.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو كانَ
(9/443)
كذلك لكان ذاكراً لنسيانه حينئذ، مثبتاً
لهُ؛ فإن القصر منتف قطعاً، فيكون مثبتا لنسيانه حينئذ،
ولو كانَ حينئذ ذاكراً لنسيانه لم يحتج إلى قول ذي اليدين
لهُ، ولا لاستشهاده بالناس على صدقه؛ فإن في رواية ابن
عون: فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) ، قالوا: نعم.
ولو كانَ لنسيانه حينئذ لما تكلم، فإنه كانَ يكون متكلماً
وهوعالم بأنه في صلاة أو حكمها، وإنما قالَ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لم أنس ولم تقصر)) باعتبار ما
كانَ في اعتقاده، بأنه أتم صلاته، ولم ينس منها شيئاً،
فإنه إنما سلم من ركعتين لاعتقاده أنه أتمها. فقوله: ((لم
أنس)) إخبار عن حاله التي كانَ عليها في الصَّلاة، وهي
مستمرة إلى حين تكلم بهذا.
وقد صح عنه، أنه قال: ((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون،
فإذا نسيت فذكروني)) .
ولعلهم امتنعوا من تذكيره في هذه الصلاة بالتسبيح؛ لأنهم
كانوا علي رجاء منه أن يقوم من التشهد إلى الركعتين
الباقيتين، وإنما تيقنوا تركه لهما بسلامه، وكانوا حينئذ
غير متيقنين لسهوه، فإنه كن يحتمل عندهم أن تكون الصلاة قد
قصرت، فلذلك لم يسبحوا به عند سلامه.
وقول ذي اليدين: ((قد نسيت)) ، إنما جزم به لنفي النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر
(9/444)
الصلاة، مع على الناس بأنه إنما صلى ركعتين
فقط، فتعين أن يكون ترك الركعتين نسياناً.
والمقصود من هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما سجد سجدتي السهو كبر فيها أربع تكبيرات،
كبر في كل سجدة تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع منه.
الحديث الثاني:
(9/445)
1230 - حدثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن
شهاب، عن الاعرج، عن عبد الله بن بحينة الاسدي – حليف بني
عبد المطلب -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته
سجد سجدتين، يكبير في كل سجدة وهو جالس، قبل أن يسلم،
وسجدهما الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس.
تابعه: ابن جريج، عن ابن شهاب، في التكبير.
هذا الحديث؛ خرجه مسلم عن قتيبة، كما خرجه البخاري.
وخرجه النسائي من طريق ابن وهب: أخبرني عمرو ويونس والليث،
عن ابن شهاب – فذكره بهذا اللفظ – أيضا.
(9/445)
ورواه مالك، عن ابن شهاب، وقال في حديثه:
((فكبر ثم سجد سجدتين)) .
وهو مخرج في ((الصحيحين)) من طريق مالك.
وخرجه البخاري من طريق شعيب، عن الزهري - أيضا - كذلك.
وأما متابعة ابن جريج لليث بن سعد في ذكر التكبير:
فخرج الإمام أحمد، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج: أخبرني
ابن شهاب – فذكر الحديث، وفيه: ((فلما صلى الركعتين
الاخريين، وانتظر الناس أن يسلم كبر، فسجد، ثم كبر فسجد،
ثم سلم)) .
وخرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريج – أيضا -،
وعنده: يكبر في كل سجدة.
ورواه الأوزاعي، عن الزهري، فذكر في حديثه أربع تكبيرات،
لكل سجدة تكبيرتين، تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع، كما في
حديث أبي هريرة المتقدم.
والعمل على هذا عند أهل العلم، أنه يكبر في كل سجدة تكبيرة
للسجود وتكبيرة للرفع منه.
وبه قال عطاء والشافعي وأحمد وغيرهم.
ولا فرق في ذلك بين السجود قبل السلام وبعده.
ومن الشافعية من قال في السجود بعد السلام: يكبر تكبيرة
الإحرام، ثم يكبر للسجود، كقولهم في سجدة التلاوة، كما
سبق.
(9/446)
وقد دل حديث ابن بحينة على السجود قبل
السلام، وحديث أبي هريرة على السجود بعد السلام.
وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية بن حديج، وقد سبق
ذكرهما.
وقد اختلف العلماء في محل سجود السهو، على ستة أقوال:
أحدهما: أنه كله بعد السلام.
قال ابن المنذر: روي ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن
مسعود وعمار وأنس وابن الزبير وابن عباس، وبه قال الحسن
والنخعي وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأصحاب
الرأي.
يعني: أبا حنيفة وأصحابه.
قال: ويجزئ عندهم أن يسجدهما قبل السلام.
قلت: وممن قال: يسجد بعد السلام -: قتادة.
وروي عن عمران بن حصين – أيضا.
والقول الثاني: أن كله قبل السلام.
قال ابن المنذر: روي عن أبي هريرة، وبه قال مكحول والزهري
ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي. انتهى.
وحكي رواية عن أحمد.
وقيل: إنه لم يوجد بها نص عنه.
(9/447)
وقد ذكر القاضي في ((كتابه شرح المذهب)) :
إن سلم من نقص ركعة تامة فأكثر، فإنه يسجد له بعد السلام،
رواية واحدة، ولم نجد عن أحمد فيه خلافاً.
وأسنده الترمذي في ((كتابه)) عن أبي هريرة [و] السائب
القارئ.
وذكر الشافعي، أن أخر فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - السجود قبل السلام، وأنه ناسخ لما
عداه.
وروي عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: سجد رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجدتي السهو قبل
السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام.
ومطرف هذا، ضعيف.
وغاية هذا، أنه من مراسيل الزهري، وهي من أوهى المراسيل.
(9/448)
وسجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قبل السلام وبعده، إن كان في صورتين، أمكن
العمل بهما معا، وإن كان في صورة واحدة، دل على جواز
الأمرين، والعمل بهما جميعاً، والنسخ لا يصار إليه مع
إمكان الجمع، ولو توجه.
وادعى جماعة منهم، أن سجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعد السلام في حديث أبي هريرة كان سهوا، حيث
كانت تلك القصة تضمنت أنواعا من السهو.
وهذا قول ساقط جداً، فان السهو كان قبل إعلام النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحال، وأما بعد
إعلامه، فلو تطرق السهو إلى فعله لم يحتج به كله، وقد
اجتمعت الأمة على الاحتجاج به، كيف؛ وقد رواه عمران بن
حصين ومعاوية بن حديج وغير واحد، وقد قيل: إنها وقائع
متعددة، كما سبق.
والقول الثالث: أن كان السهو من نقصان من الصلاة، فان
سجوده قبل السلام، وان كان من زيادة فيها، فان سجوده بعد
السلام؛ لئلا يجتمع في الصَّلاة زيادتان، وهو قول مالك
والشافعي – في القديم – وأبي ثور.
وهو رواية عن أحمد.
والشك – على هذه الرواية – عنده كالنقص، يسجد له قبل
السلام -: نص عليه أحمد.
(9/449)
ونقل حرب، عن إسحاق، مثل هذا القول، إلا
أنه قال في الشك: يسجد له بعد السلام، ويبني على اليقين.
وهو قول مالك.
وروي هذا المعنى عن ابن مسعود:
رواه إسحاق بن راهويه، عن عتاب بن بشير، عن خصيف، عن أبي
عبيدة، عن ابن مسعود، قال: كل شيء في الصلاة من نقصان من
ركوع أو سجود أو غير
ذلك، فسجدتا السهو قبل التسليم، وما كان من زيادة، سجدها
بعد التسليم.
وعتاب هذا، مختلف فيه.
وقد رواه غيره، عن خصيف، بغير هذا اللفظ.
روى الطبراني في هذا المعنى حديثين مرفوعين، من حديث
عائشة، في إسناده علي بن ميمون، وهو متروك الحديث.
(9/450)
وأهل هذه المقالة جمعوا بهذا بين حديثي ابن
بحينة وحديث أبي هريرة، وما في معناه؛ فان في حديث أبي
هريرة، وما في معناه؛ كان قد وقع في تلك الصلاة زيادة
كبيرة سهواً من سلام وكلام وعمل، فلذلك سجد بعد السلام،
وحديث ابن بحينة، فيه: انه سجد قبل السلام؛ لترك التشهد
الأول، فيلحق بالأول كل زيادة، وبالثاني كل نقصنٍ.
ويشهد لذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صلى الظهر خمساً، فسجد له بعد السلام، كما في حديث ابن
مسعود، وقد سبق.
لكن قد ذكرنا – فيما تقدم – أنه لا دلالة فيه؛ فإن
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما علم
بسهوه بعد أن سلم، فكان سجوده بعد السلام ضرورة، لا عن
قصد.
القول الرابع: أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في
موضعين:
أحدهما: من سلم من نقص ركعة تامة فأكثر من صلاته سهواً،
فإنه يأتي بما
فاته، ويسجد بعد السلام، كما في حديث أبي هريرة وعمران بن
حصين وغيرهما.
والثاني: إذا شك في عدد الركعات، وعمل بالتحري، فإنه يسجد
له بعد
السلام، كما في حديث ابن مسعود، ويأتي ذكره – إن شاء الله.
وما عدا هذين الموضعين، فإنه يسجد له قبل السلام، إلا أن
لا يذكر سهوه إلا بعد أن يسلم، فإنه يسجد له بعد السلام
ضرورة، كما في حديث ابن مسعود المتقدم.
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وعليه عامة أصحابه، ووافقه
عليه طائفة من أهل الحديث، منهم: سليمان بن داود الهاشمي،
وأبو
(9/451)
خيثمة وابن المنذر.
وفي هذا عمل بجميع الأحاديث كلها على وجهها.
غير أن ترك التشهد الأول قد روي عن المغيرة، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سجد له بعد السلام،
ولكن حديث ابن بحينة أصح منه، فأخذ أحمد بأصح الحديثين
فيما اختلفت الرواية فيه بعينه.
وقد قال طائفة من أصحابنا: إن القياس أن يكون السجود كله
قبل السلام؛ لأنه تتمة الصَّلاة، كما في حديث عثمان بن
عفان، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قالَ: ((إياي وأن يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم، من صلى
منكم فلم يدر أشفع أم وتر، فليسجد سجدتين؛ فإنهما من تمام
صلاته)) .
خرجه الإمام أحمد.
وإذا كانت السجدتان من تمام الصلاة، فتكون قبلها، ولكن
إنما ترك ذلك في تلك الصورتين لورود النص فيهما، فما
عداهما باق على الأصل.
وقد أشار أحمد إلى هذا المعنى بعينه – في رواية ابن بدينا.
ومن المتأخرين من قال: بل القياس يقتضي التفريق بين هاتين
الصورتين وغيرهما؛ فان من سلم من نقص فقد زاد في صلاته
زيادة، لو
(9/452)
تعمدها لبطلت صلاته، فيكون السجود بعد
السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، ويكون السجود هنا
بمنزلة صلاة مستقلة، جبر بها النقص الداخل في صلاته، وهو
إرغام الشيطان.
وأما من شك وتحرى وبنى على غالب ظنه، فإنه قد أتم صلاته
ظاهراً، فيسجد بعد السلام سجدتين زائدتين على صلاته، كما
سماها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((إرغأما للشيطان)) ؛ فإنه قصد تنقيص صلاته، فأتمها وزاد
عليها زيادة أخرى.
وأما إذا بنى على اليقين، فإنه يحتمل الزيادة في صلاته
احتمالاً ظاهراً، والزيادة هنا من جنس الصلاة بخلاف
الزيادة في صورة السلام من النقص، فكانت السجدتان كركعة
تشفع له صلاته؛ لئلا تكون صلاته وتراً، فيسجد قبل السلام.
وهذا كله قد أشار إليه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في كلامه وتعليله، كما سيأتي لفظ الأحاديث
فيهِ.
ومن هنا: يتبين أن من صلى خمساً ساهياً، وذكر قبل سلامه،
أنه يسجد حينئذ قبله، حتى لا يسلم عن وتر.
لكن يقال: فلو ذكر أنه صلى ركعتين زائدتين كان الحكم كذلك،
مع أنه لم يسلم عن وتر.
القول الخامس: كالقول الرابع: إن ما فيه نص عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه يتبع نصه، وما
ليس فيه، فإن كان نقصاً في الصلاة فسجوده قبل السلام، وإن
كان زيادة فسجوده بعده.
(9/453)
وهذه رواية ابن منصور، عن إسحاق بن راهويه.
والقول السادس: أن ورود بعض النصوص بالسجود قبل السلام،
وبعضها بالسجود بعده يدل على جواز كلا الأمرين، من غير
كراهة، فيعمل بهما في الجواز.
وأهل هذه المقالة لهم قولان:
أحدهما: أنهما سواء في الفضل، وحكي ذلك قولا للشافعي، كما
سيأتي ذكره.
والقول الثاني: أنهما سواء في الجواز، وإن كان بعضهما أفضل
من بعض.
وقد حكى ابن المنذر، عن أهل الرأي، أنهم يرون السجود قبل
السلام جائزاً، والسجود بعده أفضل.
وكذلك حكى ابن عبد البر اختلاف العلماء في محل السجود، ثم
قال: كل هؤلاء يقولون: لو سجد بعد السلام فيما فيه السجود
قبله فيما لم يضره، وكذلك لو سجد قبله فيه السجود بعده لم
يضره، ولم يكن عليه شيء.
وقال الماوردي - من الشافعية – في كتابه ((الحاوي)) : لا
خلاف بين الفقهاء – يعني: جميع العلماء – أن سجود السهو
جائز قبل السلام
(9/454)
وبعده، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى:
هل هو قبل السلام، أو بعده.
ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك.
وكذلك صرح بهذا طوائف من الحنفية والمالكية والشافعية، ومن
أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب في ((خلافيهما))
وغيرهما من بعد.
وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية: ومن وجب عليه سجود سهو
بعد السلام، فسجده قبل السلام، رجوت أن يجزئه.
وأنكر ذلك طوائف أخرون من أصحابنا والشافعية، وقالوا: إنما
الاختلاف في محل السجود في وجوبه عند من يراه واجباً، وفي
الاعتداد به وحصول السنة عند من يراه سنة.
وهذا ظاهر على قواعد أحمد وأصحابه؛ لأنهم يفرقون في بطلان
الصَّلاة بترك سجود السهو عمداً، بين ما محله قبل السلام
وما محله بعده، فيبطلون الصَّلاة بترك السجود الذي محله
قبل السلام، دون الذي محله بعده، ولو كانَ ذَلِكَ على
الأولوية لم يكن لهُ أثر في إبطال الصَّلاة.
وقال القاضي أبو يعلى الصغير من أصحابنا: لو كان عليه سجود
بعد السلام، فسجده قبله: هل يجزئه، ويعتد به؟ على وجهين.
ولم يذكر حكم ما لو سجد بعد السلام، لما قبله.
(9/455)
وظاهر كلامه: أنه لا يجزئه بغير خلاف.
وهذه – أيضا – طريقة أبي المعالي الجويني من الشافعية ومن
اتبعه، فإنه حكى في المسألة طريقين لأصحابه.
أحدهما:
إن في المسألة ثلاثة أقوال – يعني: للشافعية -:
الصحيح فيها: أنه قبل السلام، فإن أخره لم يعتد به.
الثاني: أن كان السهو زيادة، فحمله بعد السلام وإن كان
نقصاً فقبله، ولا يعتد به بعده.
والثالث: إن شاء قدمه، وإن شاء أخره.
والطريق الثاني:
يجزئ التقديم والتأخير، وإنما الأقوال في بيان الأفضل:
ففي قول: التقديم أفضل.
وفي قول: التقديم والتأخير سواء في الفضيلة.
وفي قول: إن كان زيادة فالتأخير أفضل، وإلا فالتقديم.
قال: ووجه هذه الطريقة: صحة الأخبار في التقديم والتأخير.
قال: والطريقة المشهورة الأولى، ويجعل الخلاف في الأجزاء
والجواز، كما
سبق.
(9/456)
6 - باب
إذا لم يدر كم صلى - ثلاثاً أو أربعا -
سجدة سجدتين وهو جالس.
(9/457)
1231 - ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام
الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط
حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضى الأذان أقبل، فإذا ثوب بها
أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه،
يقول: أذكر كذا وكذا – مالم يكن يذكر – حتى يظل الرجل إن
يدري كم صلى، فإذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثا أو أربعا
-، فليسجد سجدتين وهو جالس)) .
((يخطر)) بضم الطاء عند الأكثر، والمراد: أنه يمر، فيحول
بين المرء وما يريد من نفسه، من إقباله على صلاته.
وروي ((يخطر)) – بكسر الطاء -، يعني:
(9/457)
تحرك، فيكون المعنى: حركته بالوسوسة.
وقوله: ((حتى يظل الرجل)) ، هكذا الرواية المشهورة بالظاء
القائمة المفتوحة، والمراد: يصير، كما في قوله تعالى:
{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} [النحل: 58] .
وروى بعضهم ((يضل)) بالضاد المكسورة، من الظلال، يعني: انه
ينسى ويتحير.
وقوله: ((إن يدري)) ، (أن) بفتح الهمزة، حكاه ابن عبد البر
عن الأكثرين، وقال: معناه: لايدري.
وقال القرطبي: ليست هذه الرواية بشيء، إلا مع رواية:
((الضاد)) ، فتكون: ((أن)) مع الفعل بتأويل المصدر مفعول
((ضل)) إن، بأسقاط حرف الجر، أي يضل عن درايته وينسى عدد
ركعاته.
قال: وفيه بعد، ورجح أن الرواية: ((إن)) بكسر الهمزة،
يعني: ما يدري.
قلت: أما وقوع ((إن)) المكسورة نافية فظاهر، وأما ((أن))
المفتوحة، فقد ذكر بعضهم أنها تأتى نافية – أيضا -، وأنكره
أخرون.
فعلى قول من أثبته، لا فرق بين أن تكون الرواية هاهنا
بالفتح أو بالكسر.
وقوله: ((فإذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثاً أو أربعا -،
فليسجد
سجدتين)) ، ليس في هذا الحديث سوى الأمر بسجود السهو عند
الشك، من غير أمر بعمل بيقين أو تحر.
(9/458)
وروي عن أبي هريرة، أنه أفتى بذلك.
قال عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه: سالت أبا
هريرة، فقلت: شككت في صلاتي. قال: يقولون: اسجد سجدتين
وأنت جالس.
وهذا كله، ليس فيه بيان انه يتحرى أو يبني على اليقين، ولا
بد من العمل بأحد الأمرين، وكلاهما قد ورد في أحاديث أخر،
تقضي على هذا الحديث المجمل.
وقد روي من حديث أبي هريرة التحري، بالشك في رفعه ووقفه.
فروى شعبة، عن ابن إدريس الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة –
قال شعبة: قلت: عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؟ قالَ: أحسبه، أكبر علمي، أنه قالَ: عن
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ:
((لا يصلي أحدكم وبه شيء من الخبث)) ، وقال في الوهم:
((يتحرى)) .
وروي في حديث أبي هريرة ذكر السجود قبل السلام في هذا، من
رواية ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -:
((إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته، فيدخل بينه وبين نفسه،
حتى لا يدري زاد أو نقص، فإذا كان ذلك، فليسجد سجدتين قبل
أن يسلم، ثم يسلم)) .
خرجه أبو داود وابن ماجه.
وخرجه ابن ماجه – أيضا – من رواية ابن إسحاق – أيضا -:
اخبرني سلمة بن صفوان بن سلمة، [عن أبي سلمة] ، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –
بنحوه -، وقال: ((فليسجد سجدتين
(9/459)
قبل أن يسلم)) .
وخرجه أبو داود من طريق ابن أخي الزهري، عن الزهري، بهذا
الإسناد، ولفظه: ((فليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم)) .
وخرجه الدارقطني من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي
كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي، - فذكره،
وقال: - بعد قوله: ((فليسجد سجدتين وهو جالس)) -: ((ثم
يسلم)) .
وذكر في ((العلل)) أن سليمان وعلي بن المبارك وهشاما
والأوزاعي وغيرهم رووه، عن يحيى، ولم يذكروا فيه: التسليم
قبل ولا بعد.
قال: وكذلك قال الزهري، عن أبي سلمة.
ولم يذكر رواية ابن إسحاق وابن أخي الزهري، عن الزهري،
وذكر رواية ابن إسحاق، عن سلمة بن صفوان بن سلمة، كما رواه
عكرمة
(9/460)
بن عمار، عن يحيى.
قال: وهما ثقتان، وزيادة الثقة مقبولة.
قال: ورواه فليح بن سليمان، عن سلمة بن صفوان، وقال فيه:
((وليسلم، ثم ليسجد سجدتين)) ، بخلاف رواية ابن إسحاق.
قلت: أما ابن إسحاق، فمضطرب في حديث الزهري خصوصاً، وينفرد
عنه بما لا يتابع عليه، وروايته عن سلمة بن صفوان، قد
خالفه فيها فليح، كما ترى.
ورواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، كثيرة
الاضطراب عند يحيى القطان وأحمد وغيرهما من الأئمة.
ففي ثبوت هذه الزيادة نظر. والله تعالى أعلم.
وقد روي من غير حديث أبي هريرة البناء على اليقين والتحري.
فأما الأول:
فخرجه مسلم، من طريق سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن
عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا شك أحدكم في
صلاته، فلا يدري كم صلى ثلاثا أو أربعا، فليطرح الشك،
وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فان كان
صلى خمساً، شفعن له صلاته، وان كان صلى إتمأما لأربع،
كانتا ترغيما للشيطان)) .
(9/461)
وخرجه – أيضا – من رواية داود بن قيس، عن
زيد بن أسلم، به – بمعناه.
وخرجه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون،
وهشام بن سعد بن سليمان وغيرهم، عن زيد بن أسلم – كذلك.
وكذلك رويناه من حديث عبد الله بن صالح، عن الليث، عن ابن
عجلان، عن زيد بن أسلم – بهذا الإسناد.
والمعروف من رواية ابن عجلان: أنه لم يذكر في حديثه: ((قبل
السلام)) .
وكذا رواه أبو غسان وغيره، عن زيد بن أسلم.
ورواه مالك في ((الموطأ)) والثوري ويعقوب، عن زيد بن أسلم،
عن عطاء – مرسلاً.
ووصله الوليد بن مسلم وغيره، عن مالك.
وليس بمعروف عنه
(9/462)
وصله.
ووصله بعضهم عن الثوري – أيضا.
ولعل البخاري ترك تخريجه؛ لإرسال مالك والثوري لهُ.
وحكم جماعة بصحة وصله، منهم: الإمام أحمد والدارقطني.
وقال أحمد: اذهب إليه. قيل له: إنهم يختلفون في إسناده.
قال: إنما قصر به مالك، وقد أسنده عدة، فذكر منهم: ابن
عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة.
ورواه الدراوردي وعبد الله بن جعفر وغيرهما، عن زيد بن
أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ذكره الدارقطني.
وقال: القول قول من قال: عطاء، عن أبي
(9/463)
سعيد.
وله شاهد عن أبي سعيد من وجه أخر، من رواية عكرمة بن عمار،
عن يحيى بن أبي كثير: حدثني هلال بن عياض: حدثني أبو سعيد
الخدري، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم، فلا يدري زاد أو نقص،
فليسجد سجدتين وهو جالس)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديث حسن.
وخرجه النسائي، وزاد في رواية له: ((ثم يسلم)) .
وشيخ يحيى بن أبي كثير، مختلف في اسمه، وحاله.
وروى ابن إسحاق، عن مكحول، عن كريب، عن ابن عباس، عن
عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا سها
(9/464)
أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أم
ثنتين، فليبن على واحدة فان لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً،
فليبن على ثنتين، فإن لم يدر صلى ثلاثا أو أربعا، فليبن
على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم)) .
خرج الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وله علة ذكرها ابن المديني.
قال: وكان عندي حسناً، حتى وقفت على علته، وذلك أن ابن
إسحاق سمعه من مكحول مرسلا، وسمع إسناده من حسين بن عبد
الله بن عبيد الله بن عباس، عن مكحول. قال: يضعف الحديث من
هاهنا.
يعني: من جهة حسين الذي يرجع إسناده إليه.
وخرجه الإمام أحمد، عن ابن علية، عن ابن إسحاق – كما ذكره
ابن المديني.
وكذا رواه عبد الله بن نمير وعبد الرحمن المحاربي، عن ابن
إسحاق، عن مكحول – مرسلاً – وعن حسين عن مكحول – متصلاً.
(9/465)
ورواه حماد بن سلمة وغيره، عن ابن إسحاق،
عن مكحول – مرسلاً.
ذكره الدارقطني.
وخرجه الإمام أحمد – أيضا - من رواية إسماعيل بن مسلم، عن
الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عبد
الرحمن بن عوف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وإسماعيل، هو: المكي، ضعيف جداً.
وقد قيل: إنه توبع عليه، ولا يصح، وإنما مرجعه إلى إسماعيل
-: ذكره الدارقطني.
روى أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن
سليمان بن بلال، عن عمر بن محمد بن زيد، عن سالم، عن أبيه،
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا
لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثا أو أربعا – فليركع ركعتين،
يحسن ركوعهما
وسجودهما، ثم ليسجد سجدتين)) .
خرجه الحاكم.
وقال: صحيح على شرطهما.
والبخاري يخرج من هذه النسخة كثيراً، ولكن هذا رواه مالك
في
(9/466)
((الموطإ)) ، عن عمر بن محمد، عن سالم، عن
أبيه، - موقوفاً.
قال الدارقطني: رفعه غير ثابت.
وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعه.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه،
أنه قال: إذا شك الرجل في صلاته، فلم يدر ثلاثا صلى أم
أربعا، فليبن على أتم ذلك في نفسه، وليس عليه سجود.
قال: فكان الزهري يقول: يسجد سجدتي السهو وهو جالس.
وأما الثاني: وهو التحري:
فقد خرجه البخاري في ((أبواب استقبال القبلة)) ، من رواية
جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فذكر الحديث،
وقال في آخره -: ((وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرى
الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين)) .
وخرجه مسلم – أيضا.
وخرجه من طرق أخرى، عن منصور، وفي بعضها: ((فلينظر أحرى
ذلك للصواب)) .
وفي رواية: ((فليتحرى أقرب ذلك إلى الصواب)) .
وفي رواية: ((فليتحرى الذي يرى أنه صواب)) .
(9/467)
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي،
وزادوا فيه: ((ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو)) .
وقد رواه جماعة من ثقات أصحاب منصور، عنه، بهذا الزيادة.
وخرجه ابن ماجه، وعنده: ((ويسلم ويسجد سجدتين)) – بالواو.
قال الإمام أحمد – في رواية الأثرم -: وحديث التحري ليس
يرويه غير منصور، إلا أن شعبة روى عن الحكم، عن أبي وائل،
عن عبد الله – موقوفاً – نحوه، قال: وإذا شك أحدكم فليتحر.
وخرجه النسائي كذلك.
وقد روي عن الحكم – مرفوعاً.
قال الدارقطني: الموقوف عن الحكم أصح.
وقد روي عن ابن مسعود التحري من وجه آخر، مختلف فيه:
فروى خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كنت في صلاة،
فشككت في ثلاث أو أربع، وأكثر ظنك على أربع، تشهدت، ثم
سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهدت – أيضا -،
ثم تسلم)) .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وذكر أبو داود، أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي لفظه – أيضا.
(9/468)
وقال أحمد: حديث اليقين أصح في الرواية من
التحري.
وقال في حديث التحري: هو صحيح، وري من غير وجه.
ويظهر من تصرف البخاري عكس هذا؛ لأنه خرج حديث التحري دون
اليقين.
وخرج مسلم الحديثين جميعاً.
وقد دلت هذه الأحاديث على أن من شك في عدد صلاته، فإنه ليس
عليه
إعادتها، ولا تبطل صلاته بمجرد شكه، بل يسجد سجدتي السهو
بعد بنائه على يقينه أو تحريه، وهو قول جمهور العلماء.
وروي عن طائفة، أن من شك في صلاته فإنه يعيدها.
رواه همام بن منبه وابن سيرين، عن ابن عمر.
وهو خلاف رواية ابنه سالم ومولاه نافع وعبد الله بن دينار
ومحارب بن دثار وغيرهم، كلهم رووا، عن ابن عمر، أنه يسجد
ولا يعيد.
وقد سبق عن ابن عمر رواية أخرى، أنه لا يسجد.
وذكر عطاء، انه سمع ابن عباس يقول: إن نسيت الصلاة
المكتوبة فعد لصلاتك. وأنه بلغه عن ابن عمر وابن عباس، أنه
إذا شك أعاد مرة
(9/469)
واحدة، ثم لا يعيد، ويبني على أحرى ذلك في
نفسه، ويسجد سجدتين بعد ما يسلم.
وكذلك قال طاوس: يعيد مرة، ثم لا يعيد.
وقال النخعي: أحب إلي أن أعيد، إلا أن أكون أكثر النسيان،
فأسجد للسهو.
وهو قول أبي حنيفة والثوري.
ورويت الإعادة مع الشك مطلقاً عن الشعبي وشريح ومحمد ابن
الحنفية.
وأما جمهور العلماء، فعلى أنه لا يعيد الصلاة.
لكن اختلفوا: هل يبني على الأقل – وهو اليقين -، أو يبني
على غالب ظنه؟
فقالت طائفة: يبني على غالب ظنه.
روي عن ابن مسعود، وهو قول الكوفيين كالنخعي وأبي حنيفة
والثوري – في رواية – والحسن بن حي.
وحكاه ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث.
وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي: يتحرى، فإن قام فلم يدر كم
صلى، استأنف.
(9/470)
والتحري قول أحمد – في رواية عنه.
وعلى هذه الرواية، فهل ذلك عام في المنفرد والإمام، أم خاص
بالإمام؟ على روايتين فيهِ.
وظاهر مذهبه: أنه يختص بالإمام؛ لأنه يعتمد على غلبة ظنه
بإقرار المأمومين ومتابعتهم لهُ من غير نكير، فيقوى الظن
بذلك.
واستدل هؤلاء بأحاديث تحري الصواب.
وأما حديث إطراح الشك، والبناء على ما استيقن، فحملوه على
الشك
المساوي، أو الأضعف.
فأما غلبة الظن، فقالوا: لا يسمى شكا عند الإطلاق، كما
يدعيه أهل الأصول ومن تبعهم، وإن كان الفقهاء يطلقون عليه
اسم الشك في مواضع كثيرة.
وقالت طائفة: بل يبني على اليقين، وهو الأقل.
وروي عن عمر وعلي وابن عمر، وعن الحسن والزهري، وهو قول
مالك والليث والثوري – في رواية – والشافعي وأحمد – في
رواية عنه – وإسحاق.
وعن الثوري، قال: كانوا يقولون: إن كان أول ما شك، فإنه
يبني على
اليقين، وإن ابتلي بالشك – يعني: أنه يتحرى -، وإن زاد به
الشك ورأى انه من الشيطان، لم يلتفت إليه.
وهؤلاء استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم في البناء
على ما استيقن.
وأما أحاديث التحري، فمنهم من تكلم فيها، حتى اعل حديث ابن
(9/471)
مسعود المرفوع المخرج في ((الصحيحين)) ، من
رواية منصور، عن إبراهيم، عن علقمة،
عنه، بأنه روي موقوفاً، من طريق الحكم، عن أبي وائل، عنه،
كما فعل النسائي وغيره.
وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن النخعي، عن
علقمة، عن ابن مسعود – موقوفاً.
وهذا قد يتعلق به من يدعي أن هذه الرواية في أخر الحديث
مدرجة من قول ابن مسعود.
ومنهم من حمل تحري الصواب على الرجوع إلى اليقين، ومنهم:
الشافعي وأصحابه وسليمان الهاشمي والجوزجاني وابن عبد البر
وغيرهم.
وفي بعض ألفاظ الحديث ما يصرح بخلاف ذلك، كما تقدم.
وحمل أحمد – في ظاهر مذهبه –التحري على الإمام؛ لأن عمله
بغالب ظنه، مع إقرار المأمومين لهُ واتباعهم إياه يقوي
ظنه، فيصير كالعمل باليقين، بخلاف المنفرد، فإنه ليس عنده
إمارة تقوي ظنه.
وقد نص أحمد، أنه يجوز للإمام إذا شك أن يلحظ ما يفعله
المأمومون خلفه، من قيام أو قعود، وغير ذلك، فيتبعهم فيه.
ومن متأخري أصحابنا من قال: يحمل الأمر بالتحري على من قدر
(9/472)
عليه، بوجود إمارات توجب له غلبة الظن، ولا
يختص ذلك بالإمام، بل المنفرد إذا كان عنده أمارة يتحرى
بها عمل بها، فإن لم يكن عند المصلي أمارة توجب ترجيح أحد
الأمرين، فقد استوى عنده الأمران، فيطرح الشك حينئذ، ويعمل
باليقين.
وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد.
وهاهنا مسلك أخر: وهو حمل الأمر بالتحري على الرخصة
والجواز، وحمل الأمر بإطراح الشك والبناء على [ما] استيقن
على الأفضل والاحتياط، فيجوز للمصلي إذا شك العمل بكلا
الأمرين، ويكون الأفضل الأخذ بالاحتياط.
وصرح بهذا القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب ((أحكام
القرآن)) ، وتبعه عليه جماعة من أصحابنا.
وهذه المسألة ترجع إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر،
وللمسالة أقسام قد ذكرناها مستوفاة في كتاب ((القواعد في
الفقه)) .
وحملت طائفة أحاديث البناء على اليقين على من لم يعتبر
الشك، ولم تلزمه أحاديث العمل بغلبة الظن على من لزمه
الشك، وصار له عادة ووسواساً، فلا يلتفت إليه حينئذ، بل
يجعل وجوده كالعدم، ويبني على غالب ظنه.
وذكر ابن عبد البر أن هذا تفسير الليث وابن وهب للحديث،
وأنه
(9/473)
مذهب مالك – أيضا.
يعني: أن الشك إذا لزم صاحبه وصار وسواسا، لم يلتفت إليه.
وهو قول الثوري، وروي عن القاسم بن محمد، وصرح به أصحابنا
– أيضا.
وعلى هذا؛ يحمل حديث الأمر لمن شك في صلاته بان يسجد
سجدتين، من غير ذكر تحر ولا يقين.
ولهذا ذكر في أول الحديث تلبيس الشيطان عليه، حتى لا يدري:
كم صلى.
وعليه يحمل – أيضا – ما روي عم بعض المتقدمين: أن سجدتي
السهو تكفي من شك في صلاته. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما محل السجود للشك، فقد تقدم ذكره في الباب الماضي،
واختلاف العلماء فيه، وأن أحمد يعمل بالأحاديث كلها في
ذلك.
فإن شك وتحرى، سجد بعد السلام، وإن بنى على اليقين سجد
قبله.
وهو قول أبي خيثمة زهير بن حرب – أيضا.
وذكرنا المعنى في ذلك فيما تقدم - أيضا.
ومذهب إسحاق، أنه يبني على اليقين، ويسجد بعد السلام -:
نقله عنه
حرب.
ولعله حمل تحري الصواب في حديث ابن مسعود على الأخذ
باليقين، كما تقدم عن جماعة أنهم قالوه.
وفي ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسوسة
الشيطان للمصلى، وأمره بالسجود إذا لم يدر كم صلى، يدل على
أنه لا يسجد بمجرد وسوسة الصلاة، إذا لم
(9/474)
يشك في عدد صلاته.
وعلى هذا جمهور العلماء، وحكاه بعضهم إجماعا.
وحكى إسحاق، عن الحسن بن علي، أنه سجد في الصلاة عن غير
سهو ظهر منه، وقال: إني حدثت نفسي.
وروي عن أحمد، أنه سجد للسهو في صلاته، وقال: إني لحظت ذلك
الكتاب.
وهذا خلاف المعروف من مذهبه.
وحكى أحمد، عن ابن عباس، قال: إن استطعت أن لا تصلي صلاة
إلا سجدت بعدها سجدتين [فافعل] .
وفي أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسجود
السهو في حديث أبي هريرة وابن مسعود المتفق عليهما: دليل
على أن سجود السهو واجب، إذا كان لما يبطل الصلاة تعمده.
واختلف العلماء في وجوب سجود السهو:
فذهب إلى وجوبه كثير من العلماء، منهم: الحكم وابن شبرمة
وأبو حنيفة – فيما حكاه الكرخي، عنه – والثوري وأحمد
وإسحاق.
لكن أحمد إنما يوجبه إذا كان لما يبطل عمدة الصلاة خاصة،
فأما ما لا يبطل الصلاة عمده، كترك السنن وزيادة ذكر في
غير محله، سوى السلام،
(9/475)
فليس بواجب عنده؛ لأن السجود من أجله ليس
بواجب فعله أو تركه، فجبرانه أولى، فأما ما يجب فعله أو
تركه، فيجب جبرانه بالسجود كجبرانات الحج.
وحكي عن مالك وأبي ثور: إن كان من نقصان وجب؛ لأن محله قبل
السلام، فيكون من جملة أجزاء الصَّلاة، بخلاف ما محله بعد
السلام؛ لأن محله بعد التحلل من الصلاة.
وقال الشافعي: هو سنة بكل حال.
وحكي رواية عن أحمد، وتأولها بعض أصحابه.
واستدل لذلك، بأنه روي في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم:
((فإن كانت صلاته تامة، كانت الركعة نافلة والسجدتان)) .
وأجيب: بأن المراد بالنافلة الزيادة على آخر الصلاة، كما
في حديث عثمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أنه توضأ، وقال: ((من توضأ هكذا غفر له ما
تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة)) .
خرجه مسلم.
وأراد بالنافلة: زيادة في حسناته؛ حيث كانَ الوضوء مكفرا
للذنوب.
(9/476)
فمن قالَ: إن سجود السهو سنة، لم تبطل
الصَّلاة بتركه بحال، وهو قول الشافعي وعبد الملك المالكي.
وكذلك مذهب أبي حنيفة، لكنه عنده: إذا فعل وقع موقع الفرض،
والتحق
به، وإن كان بعد السلام حين لو أحدث فيه أو خرج الوقت بطلت
الصلاة المتقدمة.
واختلفت الرواية عن أحمد: هل تبطل الصلاة بترك السجود
للسهو عنه روايتان:
أحدهما: إن تركه عمدا، وكان محله قبل السلام بطلت الصلاة،
وإن كان محله بعد السلام لم تبطل، وإن كان تركه نسياناً لم
تبطل بكل حال.
وحكي مثله عن أبي ثور.
لأن ما محله قبل السلام – وهو واجب – هو كالجزء من الصلاة،
بخلاف ما محله بعد السلام، فإنه خارج عن الصلاة، فهو
كالأذان، عند من يقول بوجوبه، لا يبطل الصلاة تركه.
والرواية الثانية: إذا نسيه حتى طال الفصل أعاد الصلاة.
وهذا يدل على أن تركه يبطل الصلاة بكل حال، وهو قول الحكم
وابن شبرمة؛ لأنه سجود واجب في الصَّلاة أو لأجلها، فهوَ
كسجود صلب الصَّلاة.
(9/477)
وكذلك قال مالك، فيما قبل السلام.
وقال فيما بعده: لايبطل تركه مطلقا.
وروي عن مالك: اختصاص البطلان فينا قبل السلام بترك
الأفعال دون الأقوال.
ومذهب الثوري: أن سجود السهو واجب، وليس هو من صلب الصلاة،
فمن ضحك فيه أو أحدث، فلا شيء عليه.
ولكنه قال، فيمن سلم وهو يرى أنه ينبغي أن يسجد [في]
صلاته: أعاد الصلاة؛ لأنه أدخل في صلاته زيادة.
يعني به: السلام.
وهذا يدل على تفريقه بين سجود السهو الذي قبل السلام
وبعده، كقول أحمد.
وكذلك قال الليث، فيمن نسي سجود السهو الذي قبل السلام،
فلم يذكره حتى صلى صلاة أخرى، أنه يعيد الصلاة التي نسي
سجودها، فإن كان السجود بعد السلام سجد سجدتي السهو، ولم
يعد صلاته.
نقله عنه ابن وهب في ((كتاب سجود السهو)) له، ووافقه عليه.
(9/478)
7 - باب
[السهو] في الفرض والتطوع
وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره.
قد تقدم أن الإمام أحمد حكى عن ابن عباس، أنه قال: إن
استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين فافعل.
وحمله أحمد على سجود السهو.
ومن الناس من حمله على [أنه] أراد به تصلي بعد كل مفروضة
ركعتين.
وهذا على عمومه لا يصح؛ فإن الفجر والعصر لايصلى بعدهما.
وقد بوب النسائي على ((السجود بعد الفراغ من الصَّلاة)) ،
وخرج فيهِ: حديث عائشة: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة
(9/479)
العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يوتر
بواحدة، ويسجد سجدة قدر ما يقرا أحدكم خمسين آية قبل أن
يرفع رأسه.
وقد تقدم هذا الحديث بلفظ: ((ويسجد السجدة)) .
والمراد: أنه مقدار السجدة الواحدة من سجوده بالليل، لا
أنه يسجد بعد وتره سجدة واحدة.
وأما حكم السهو في الوتر، فحكمه حكم السهو في سائر
الصلوات.
ومذهب الثوري وأبي حنيفة، إذا صلى الوتر أربعاً، أنه إن
قعد في الثالثة قدر التشهد أجزاه، وسجد سجدتي السهو، وإن
لم يكن جلس بعد الثالثة أعاد الوتر، كقولهم في صلاة
المغرب، كما تقدم حكاية مذهبهم في ذلك.
ومذهب مالك في ((تهذيب المدونة)) : ومن شفع وتره ساهياً
سجد بعد
السلام، واجتزأ بوتره، يعمل في السنن كما يعمل في الفرائض،
ومن لم يدر جلوس في الشفع أو في الوتر سلم وسجد بعد
السلام، ثم أوتر بواحدة، وإن لم يدر أفي الأولى هو جالس أو
في الثانية، أو في الوتر، أتى بركعة، وسجد بعد السلام، ثم
أوتر. انتهى.
(9/480)
ففرق بين أن يتحقق الزيادة، فيسجد للسهو،
ويجتزئ بوتره، وبين أن يشك فيها، فيبني على اليقين، ويسجد
للسهو، ثم يوتر.
وقد روي عن ابن عباس، أنه يسجد في التطوع:
قال حرب الكرماني: نا يحيى بن عبد الحميد: حدثنا ابن
المبارك، عن يعقوب بن القعقاع، عن عطاء، عن ابن عباس، قال:
إذا اوهم في التطوع، سجد سجدتي
السهو.
وهذا قول جمهور العلماء.
وللشافعي قول قديم، أنه لايسجد في التطوع.
وروي عن ابن سيرين.
وعن ابن المسيب – في رواية – عنه منقطعة.
وروي عنه من وجه متصل خلافه.
وقال عطاء: لابأس أن لا يسجد للسهو في التطوع.
وعنه، أنه قال: لا يعيد التطوع إذا شك فيه، وبني على أحرى
ما عنده، وسجد.
وهذا بناء على قوله: إن الشاك في الفريضة يعيد صلاته.
وسئل عطاء، عمن سها قبل الوتر: أيسجد بعد الوتر؟ قالَ:
نعم.
(9/481)
ولعله أراد أنه سها قبل الركعتين قبل
الوتر، إذا صلى الوتر ثلاثا متصلة [...........] أنه أراد
أن الركعة التي يوتر بها لا يسجد فيها للسهو حتَّى يتم
وتره، وإن كانت مفصولة بالسلام بينهما؛ لأن الجميع يشملها
اسم واحد، وهو الوتر، فيكون السجود للسهو بعد كمالها
وتمامها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري:
(9/482)
1232 - نا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن
ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن أحدكم إذا
قام يصلي، جاء الشيطان فلبس عليه، حتى لا يدري كم صلى،
فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) .
مراده من هذا الحديث في هذا الباب: أمر النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسجود السهو لمن صلى ولبس
الشيطان عليه صلاته، ولم يفرق بين أن تكون صلاته فريضة أو
نافلة، والأفعال نكرات، والنكرات في سياق الشرط تعم، كما
تعم في سياق النفي. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولأن النفل ينقص بالسهو، فشرع جبره بالسجود له، كما يجبر
الحج، فرضه ونفله.
وإنما يشرع للسهو في النفل بركعة تامة فأكثر، فأما صلاة
(9/482)
الجنازة فليس فيها سجود سهو؛ لأنه لا سجود
فيها بالكلية، وكذلك سجود التلاوة ليس فيهِ سجود
سهو، لأن المشروع للتلاوة سجدة واحدة، ولا يجبر بأكثر من
أصله.
والله أعلم.
(9/483)
8 - باب
إذا كلم وهو يصلي فأشار برأسه أو استمع
(9/484)
1233 - حديثا يحيى بن سلمان: نا ابن وهب:
أخبرني عمرو، عن بكير، عن كريب.
فذكر حديثاً قد ذكرناه بتمامه في ((باب: ما يصلى بعد العصر
من الفوائت)) ، وفيه:
أن أم سلمة قالت: دخل علي – يعني: رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – وعندي نسوة من [بني حرام من]
الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، وقولي
له: تقول لك أم سلمة: يارسول الله، سمعتك تنهى عن هاتين
الركعتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه،
ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه،، فلما انصرف قال:
((يابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، أنه أتاني
ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر،
فهما هاتان)) .
(9/484)
وخرجه في ((المغازي)) – أيضا – بهذا
الإسناد، ثم قال: ((وقال بكر بن
مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكر – فذكر نحوه)) .
ومقصوده بهذا الباب: أن المصلي يجوز أن يكلم في صلاته،
ويستمع لمن كلمه، ويشير بيده أو برأسه؛ فإن النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر على أم سلمة
إرسالها الجارية إليه؛ لتكلمه وهو يصلي، بل أشار إليها
فاستأخرت عنه، ثم أجاب عن سؤالها بعد الصلاة.
وقد اختلف السلف في هذا: فمنهم من رخص فيه. ومنهم من كرهه.
قال عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن ثابت، عن أبي
رافع، قال: رأيت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وأن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو قائم يصلي.
وعن ابن جريج، عن عطاء، في الرجل كان يصلي، فيمر به رجل،
فيقول له: فعلت كذا وكذا؟ [...........] قالَ: ليتم صلاته،
ثُمَّ ليسجد سجدتي السهو.
قالَ: وقلت لعطاء: أتكره كل شيء من الإيماء في المكتوبة،
حتَّى أن
(9/485)
يمر بي إنسان وأنا في المكتوبة، فقالَ:
صليت الصَّلاة؟ كرهت أن أشير إليه برأسي، فأقول: نعم؟
قالَ: أكره كل شيء من ذَلِكَ.
فقيل لهُ: فإن كانَ في التطوع؟ فقال: إن كان شيئاً لابد
منه، وأحب إلي أن لا تفعل.
قال: وقال إنسان لعطاء: يأتيني إنسان وأنا في المكتوبة،
فيخبرني الخبر، فأسمع إليه؟ قالَ: ما أحبه، وأخشى أن يكون
سهواً، إنما هي المكتوبة، فتفرغ لها حتَّى تفرغ منها.
ففرق عطاء بين المكتوبة وغيرها، فكرهه في المكتوبة، وقال
في التطوع: إن كان شيئاً لابد منه، وأحب إلي أن لايفعل، لم
يكرهه.
(9/486)
9 - باب
الإشارة في الصلاة
قاله كريب، [عن أم سلمة] ، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث كريب، عن أم سلمة، هو الذي خرجه في الباب الذي قبله.
ثم خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الأول:
(9/487)
1234 - حدثنا قتيبة: ثنا يعقوب بن عبد
الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلغه، أن بني عمرو بن عوف كان
بينهم شيء، فخرج يصلح
بينهم، في أناس معه - فذكر الحديث بطوله.
وقد تقدم قريباً بنحو سياقه، عن قتيبة، عن عبد العزيز بن
أبي حازم، عن أبيه، عن سهل.
فالحديث؛ رواه قتيبة، عن عبد العزيز بن
(9/487)
أبي حازم، وعن يعقوب بن
عبد الرحمن، كلاهما عن أبي حازم، عن سهل.
والمقصود من [هذا الحديث] : أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء يشق الصفوف، حتى قام في الصف،
فالتفت أبو بكر فرآه، فأشار إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يأمره أن يصلي، فاستدل البخاري
بإشارة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أبي
بكر على جواز الإشارة في الصلاة.
وليس في الحديث تصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان عند إشارته إلى أبي بكر في الصلاة، بل كان
قائما في الصف، فيحتمل أنه كان كبر للصلاة، ويحتمل أنه لم
يكن كبر.
ولا يقال: لو لم يكن كبر لأمره بالقول دون الإشارة؛ لأن
حديث أنس في كشف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الستارة يوم الإثنين، والناس خلف أبي بكر في
صلاة الفجر، فيهِ: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أشار إليهم أن أتموا، ثُمَّ أرخى الستر، ولم يكن حينئذ
في صلاة.
وكذلك في حديث عائشة، في مرض النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما صلّي أبو بكر، وخرج النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين رجلين، فأشار إلى
أبي بكر أن صلّ، وتأخر أبو بكر، وقعد النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى
جنبه.
وقد خرج البخاري ذلك كله في ((أبواب الإمامة)) .
ولعل المعنى في ذلك: أن الإشارة إلى المصلي بما يفعله في
صلاته أقل لشغل باله من خطابه بالقول، لما يحتاج إلى تفهم
القول بقلبه، والإصغاء إليه بسمعه،
(9/488)
والإشارة إليه يراها ببصره، وما يراه ببصره
قد يكون أقل إشغالا له مما يسمعه بأذنه. والله سبحانه
وتعالى أعلم.
الحديث الثاني:
(9/489)
1235 - نا يحيى بن سليمان: نا ابن وهب: نا
الثوري، عن هشام، عن
فاطمة، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة، وهي
تصلي قائمة، والناس قيام، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت
برأسها إلى السماء. فقلت: آية؟ فقالت برأسها: أي نعم.
هذا قطعة من حديث صلاة الكسوف، وقد سبق في مواضع مطولا
ومختصراً.
والإشارة فيه، من فعل عائشة وهي تصلي خلف النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس ذلك بمرفوع.
الحديث الثالث:
(9/489)
1236 - نا إسماعيل: حدثني مالك، عن هشام،
عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: صلى رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته - وهو شاك - جالساً،
وصلى وراءه قوم قيام، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف
قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا
رفع فارفعوا)) .
وقد سبق هذا الحديث في ((أبواب الإمامة)) - أيضا.
وسبق هناك من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس - معناه -، غير
أنه لم يذكر فيه: ((أشار إليهم أن أجلسوا)) .
وقد رواه معمر، عن الزهري، وذكر فيه هذه الزيادة.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه - أيضا - هو وأبو داود، بهذا الإسناد: أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير في الصلاة.
وقد قيل: إنه مختصر من هذا الحديث.
(9/490)
وفي الإشارة في الصلاة أحاديث أخر، سبق
بعضها في ((باب: رد السلام في الصلاة)) ، وبعضها في
((أبواب المرور بين يدي المصلي)) ..
وأكثر العلماء على أن الإشارة في الصلاة لا بأس بها، روي
ذلك عن عائشة، وفعله ابن عمر وسعيد بن جبير وغيرهما.
وقال الحسن: لابأس بالإيماء في الصلاة.
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهما.
لكن فعله من غير حاجة من باب العبث، وهو مكروه في الصلاة.
وسئل النخعي، عن الإشارة في الصلاة، فقال: إن في الصلاة
لشغلاً.
وكذا قال الثوري.
وكرهه عطاء خصوصاً في المكتوبة، وقد تقدم قوله في ذلك.
وكره الإشارة في الصلاة، بما ليس شأن الصلاة، منهم: أبو
زرعة الرازي وأبو بكر الأثرم.
وقد روي عن عائشة، أنها كانت تشير في الصلاة بما ليس من
شأن الصلاة.
وعن أوس بن أوس وغيره.
وروى ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن
(9/491)
الحبلي، عن
عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يصلي، فأشارت إليه بثوبه، فأشار إليها - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اغسليه.
خرجه الجوزجاني.
وهو إسناد ضعيف.
وإن صح، فإنما فيه إباحة الإشارة في الصلاة بما فيه مصلحة
دينية، وليس دنيوياً محضاً.
وروى ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس، عن أبي
غطفان، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: ((التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، من
أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد لها)) .
يعني: الصلاة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وخرجه البزار، ولفظه: ((فليعد صلاة أفسدت)) .
وقال أبو داود: هذا الحديث وهم.
وقال أحمد - في رواية ابن
(9/492)
هانئ -: لا يثبت هذا الحديث، إسناده ليس
بشيء.
وقال - في رواية غيره -: لا أعلم رواه غير ابن إسحاق.
وقال أبو زرعة الرازي: هو عندي ليس بذاك الصحيح، ولم يروه
غير ابن إسحاق.
وقال الأثرم: ليس بقوي الإسناد.
وقال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجل
مجهول، وآخر الحديث زيادة في الحديث، لعله من قول ابن
إسحاق.
يعني: أن آخره مدرج، ليس هو من تمام الحديث المرفوع.
وهذا هو الظاهر.
وهذا يدل على أن أبا غطفان هذه ليس هو المري الذي خرج له
مسلم، بل هو غيره.
وابن إسحاق، مدلس، ولم يصرح بسماعه من يعقوب بن عتبة،
فلعله دلسه عن ضعيف.
(9/493)
|