كشف المشكل من
حديث الصحيحين كشف الْمُشكل من حَدِيث عدي بن حَاتِم
الطَّائِي
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم سِتَّة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة.
421 - / 514 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِذا
رميت بالمعراض فخرق فكله، وَإِن أَصَابَهُ بِعرْض فَلَا
تَأْكُله ".
المعراض: نصل عريض لَهُ ثقل ورزانة، فَإِذا أصَاب بحده قطع
فذكى، وَإِذا أصَاب بعرضه وقذ فَكَانَت ميتَة. والخرق:
الطعْن، والخارق من السِّهَام مَا أصَاب الْغَرَض وَأثر
فِيهِ.
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط فِي إِبَاحَة الصَّيْد ثَلَاثَة
أَشْيَاء: أَهْلِيَّة الصَّائِد، وصلاحية الْآلَة،
وَكَيْفِيَّة الِاصْطِيَاد. فَأَما الْأَهْلِيَّة فَأن
يكون الصَّائِد من أهل الذَّكَاة كَالْمُسلمِ والكتابي.
فَأَما الْآلَة فنوعان: جوارح وَغير جوارح، فالجوارح
نَوْعَانِ: حَيَوَان ومحدد، فالحيوان نَوْعَانِ: أَحدهمَا
يصيد بنابه كَالْكَلْبِ والفهد والنمر، وَالثَّانِي
بمخلابه كالبازي والصقر وَالْعِقَاب والشاهين. وَإِنَّمَا
يُبَاح صيدهن بعد التَّعْلِيم، وَيعلم التَّعْلِيم بِأَن
(1/440)
يُرْسِلهُ فيسترسل، ويدعوه فَيرجع،
وَيشْتَرط فِي تَعْلِيم ذِي الناب أَلا يَأْكُل مَا
أمْسكهُ وَلَو مرّة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف
وَمُحَمّد: حد تَعْلِيم سِبَاع الْبَهَائِم أَن تصيد وَلَا
تَأْكُل ثَلَاث مَرَّات. وَأما ذَوُو المخلاب فَلَا
يشْتَرط فِي تعليمهن ترك الْأكل؛ لِأَنَّهُنَّ يعلمن
بِالْأَكْلِ، وذوو الناب يعلمن بترك الْأكل، فَإِن أكل ذُو
الناب من صَيْده بعد تعلمه لم يحرم مَا يقدم من صيوده
خلافًا لأبي حنيفَة، وَهل يحرم مَا أكل مِنْهُ؟ فِيهِ عَن
أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: فَإِذا
أدْرك الصَّيْد وَفِيه حَيَاة فَمَاتَ قبل أَن يذكيه،
فَإِن كَانَ ذَلِك قبل الْقُدْرَة على تذكيته أُبِيح،
وَإِن أمكنه فَلم يذكه لم يبح، وَهَذَا قَول مَالك
وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُبَاح فِي
الْمَوْضِعَيْنِ.
فَأَما الْكَلْب الْأسود فعندنا أَنه لَا يُبَاح صَيْده
وَإِن كَانَ معلما؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمر بقتْله، وَالْأَمر بِالْقَتْلِ يمْنَع ثُبُوت
الند وَيبْطل حكم الْفِعْل، فَيصير وجوده كَالْعدمِ.
وَأما الْجَارِح من المحدد فَكل مَا رمي بِهِ الصَّيْد
فجرحه وأنهر دَمه، إِلَّا السن وَالظفر فَإِنَّهُ لَا
يُبَاح الصَّيْد بهما، فَإِن رمى الصَّيْد بمحدد فَقتله
بثقله وَلم يجرحه لم يحل، وَهَذَا الْمشَار إِلَيْهِ فِي
هَذَا الحَدِيث بقوله: " وَإِن أَصَابَهُ بِعرْض فَلَا
تَأْكُله " لِأَنَّهُ إِذا أَصَابَهُ بعرضه فَإِنَّمَا
أَصَابَته خَشَبَة السهْم لَا حديدها الَّذِي يسيل الدَّم.
فَإِن نصب منجلا أَو سكينا فجرح
(1/441)
الصَّيْد فَقتله حل. وَقَالَ الشَّافِعِي:
لَا يحل.
وَأما غير الْجَوَارِح كالشبكة والفخ فَإِنَّهُ إِذا حصل
فِيهَا الصَّيْد لم يبح أكله حَتَّى يدْرك وَبِه حَيَاة
مُسْتَقِرَّة فيذكى.
وَأما كَيْفيَّة الِاصْطِيَاد فَيشْتَرط فِيهَا ثَلَاثَة
أَشْيَاء: أَحدهمَا: التَّسْمِيَة، فَإِن أَتَى بغَيْرهَا
من الْأَذْكَار لم يجز. وَأما إِن ترك التَّسْمِيَة فَعَن
أَحْمد أَربع رِوَايَات. إِحْدَاهُنَّ: لَا يحل الْأكل
سَوَاء نسي أَو تعمد، وَهَذَا قَول الشّعبِيّ وَأبي ثَوْر
وَدَاوُد. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: إِن تَركهَا
عَامِدًا لم يحل وَإِن نسي حل، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة
وَالثَّوْري وَمَالك. وَالثَّالِثَة: إِن نَسِيَهَا على
السهْم حل الْأكل، فَأَما على الْكَلْب والفهد فَلَا.
وَالرَّابِعَة: يحل الْأكل سَوَاء تَركهَا عَامِدًا أَو
سَهوا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي.
وَقَوله: " فَإِن خالطها كلاب " وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا
يدْرِي أكلبه الَّذِي سمى عَلَيْهِ عقر هَذَا الصَّيْد أم
غَيره، وَالْأَصْل الْحَظْر.
وَقَوله: " فَإِن أَخذ الْكَلْب ذَكَاة " أَي قَائِم مقَام
الذَّكَاة.
وَقَوله: " فَإِن وجدته غريقا فِي المَاء فَلَا تَأْكُل،
فَإنَّك لَا تَدْرِي المَاء قَتله أم سهمك " اعْلَم أَنه
إِذا كَانَت الْجراحَة غير مُوجبَة ثمَّ وجد فِي المَاء
فَإِنَّهُ لَا يحل أكله قولا وَاحِدًا، فَإِن كَانَت
مُوجبَة قد وَقعت فِي مقتل، فَهَل يحل أم لَا؟ على
رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، فَإِن قُلْنَا بِرِوَايَة
الْمَنْع فَهِيَ على وفْق الحَدِيث، وَإِن قُلْنَا
بِالْجَوَازِ كَانَ الْمَنْع من الحَدِيث
(1/442)
مَحْمُولا على أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا على
مَا إِذا لم تكن الْجراحَة فِي مقتل، وَإِمَّا على الْوَرع
وَإِن كَانَت فِي مقتل.
وَقد جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: " يَرْمِي
الصَّيْد فيقتفر أَثَره الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة " أَي
يتبع.
422 - / 515 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " مَا مِنْكُم من
أحد إِلَّا سيكلمه ربه لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان ".
الترجمان: الْمعبر عَن الْإِنْسَان.
قَوْله: " فَينْظر أَيمن مِنْهُ وأشأم مِنْهُ " يَعْنِي:
عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله. " وتلقاء وَجهه " بَين
يَدَيْهِ وَهُوَ مَا يلاقي وَجهه.
والشق هَاهُنَا نصف الشَّيْء، وَقد يَقع على الْمَشَقَّة،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِلَّا بشق الْأَنْفس} [النَّحْل: 7]
.
وأشاح بِمَعْنى أعرض، وَقَالَ أَبُو عبيد: أشاح بِمَعْنى
حذر من الشَّيْء وَعدل عَنهُ، وَأنْشد:
(إِذا سمعن الرز من رَبَاح ... شايحن مِنْهُ أَيّمَا شياح)
وأشاح: إِذا جد فِي قتال أَو غَيره، قَالَ عبيد:
(قطعته غدْوَة مشيحا ... وصاحبي بازل خبوب)
(1/443)
وَمعنى الحَدِيث: حذر كَأَنَّهُ ينظر إِلَى
النَّار حِين ذكرهَا فَأَعْرض لذَلِك، وَيجوز أَن يكون
أَرَادَ الْجد فِي كَلَامه، وَالْأول أشبه بِالْمَعْنَى.
والظعينة قد فسرناها فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: فَأَيْنَ دعار طَيء. الدعار جمع داعر: وهم قطاع
الطَّرِيق، وأصل الْكَلِمَة من الْفساد، لِأَن الدعارة
والدعر الْفساد. قَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ:
والعامة تَقول: هم الذعار بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة،
وَإِنَّمَا هُوَ بِالدَّال، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْعود
الدعر، وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِي بِكَثْرَة دخانه، قَالَ
ابْن مقبل:
(باتت حواطب ليلى يلتمسن لَهَا ... جزل الجذا غير خوار
وَلَا دعر)
فَإِن ذهب بهم إِلَى معنى الْفَزع جَازَ أَن يُقَال
بِالذَّالِ.
وَقَوله: الَّذين سعروا الْبِلَاد: أَي ملئوها شرا
وَفَسَادًا، وَهُوَ مستعار من اسْتعَار النَّار: وَهُوَ
توقدها والتهابها.
وَقَوله: " لتفتحن كنوز كسْرَى " الْكُنُوز جمع كنز، قَالَ
الزّجاج: هُوَ فِي اللُّغَة المَال المدفون المدخر.
وَأما كسْرَى فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ: هُوَ اسْم أعجمي، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ
خسرو، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، قَالَ عدي:
(1/444)
(أَيْن كسْرَى كسْرَى الْمُلُوك أَبُو
ساسان ... أم أَيْن قبله سَابُور)
وَقَالَ عَمْرو بن حسان:
(وكسرى إِذْ تقسمه بنوه ... بأسياف كَمَا اقتسم اللحام)
وكسرى بِكَسْر الْكَاف أفْصح من كسْرَى بِفَتْحِهَا،
وَالنّسب إِلَيْهِ كسروي بِفَتْح الْكَاف، وَيجمع كسورا
وأكاسر وأكاسرة.
وهرمز: اسْم أعجمي.
وَأما كَثْرَة المَال فِي آخر الزَّمَان فلكثرة الْفتُوح
وانتشار الْإِسْلَام.
423 - / 516 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: لما نزلت:
{حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط
الْأسود} [الْبَقَرَة: 187] عَمَدت إِلَى عقال أسود
وَإِلَى عقال أَبيض.
العقال هَاهُنَا الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير.
وَقد جَاءَ هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة أُخْرَى وَفِيه: "
إِن وِسَادك إِذن لَعَرِيض " وَظَاهر هَذَا اللَّفْظ عرض
الوساد لما تَحْتَهُ. وَفِي لفظ: " إِنَّك لَعَرِيض
الْقَفَا " لِأَن عرض الوساد على قدر عرض الْقَفَا، وَفِي
هَذَا كِنَايَة عَن البلادة؛ فَإِن المستثقل فِي النّوم
عِنْدهم بليد والمتيقظ خَفِيف النّوم. ومقصود الحَدِيث:
أَنَّك مَا فهمت. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ
بِهَذَا القَوْل: إِن نومك إِذن لطويل، فكنى بالوساد عَن
النّوم؛ لِأَن النَّائِم يتوسد، وَالْعرض فِي مثل هَذَا
(1/445)
يُرَاد بِهِ السعَة وَالْكَثْرَة. وَقَالَ
الْخطابِيّ: وَقد يتَأَوَّل هَذَا على أَن من يَأْكُل
حَتَّى يسفر يَدُوم لَهُ عرض قَفاهُ وَلحم بدنه فَلَا
ينهكه الصَّوْم. وَقد قيل: إِنَّمَا أشكل على عدي
لِأَنَّهُ لم يكن نزل (من الْفجْر) قَالَ سهل بن سعد: نزلت
هَذِه الْآيَة وَلم ينزل (من الْفجْر) فَكَانَ رجال إِذا
أَرَادوا الصَّوْم ربط أحدهم فِي رجلَيْهِ الْخَيط الْأسود
وَالْخَيْط الْأَبْيَض، وَلَا يزَال يَأْكُل حَتَّى
يتَبَيَّن لَهُ رئيهما، فَنزل قَوْله تَعَالَى: (من
الْفجْر) فَعَلمُوا إِنَّمَا يَعْنِي بذلك اللَّيْل
وَالنَّهَار.
424 - / 517 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا دِرْعِي ومغفري "
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس: درع الْحَدِيد
مُؤَنّثَة، وَدرع الْمَرْأَة قميصها مُذَكّر. وَأما المغفر
فجنة للرأس فِي الْحَرْب من حَدِيد أَيْضا، وَسمي مغفرا
لِأَنَّهُ يستر الرَّأْس.
وَقَوله فِي الْيَمين: فليكفرها وليأت الَّذِي هُوَ خير.
ظَاهره يدل
(1/446)
على جَوَاز التَّكْفِير قبل الْحِنْث،
وَسَوَاء كفر بِالْمَالِ أَو بالصيام، وَهَذَا مَذْهَب
أَحْمد وَمَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز
تَقْدِيمهَا بالصيام وَيجوز بِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: لَا يجوز أصلا، وَإِن قدمهَا لم يجزه، وَمن حجَّة
أبي حنيفَة أَن الْوَاو للْجمع لَا للتَّرْتِيب، وَأَن
الْكَفَّارَة إِذا وَجَبت لأجل الْحِنْث.
425 - / 518 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رجلا خطب
فَقَالَ: من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد، وَمن يعصهما فقد
غوى، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " قل:
وَمن يعْص الله وَرَسُوله ".
إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ لِأَن جمع الِاثْنَيْنِ بِلَفْظ
وَاحِد يدل على التَّسَاوِي، فَأَرَادَ مِنْهُ الْفرق
لتعظيم الْعَظِيم.
والغواية: الضلال.
(1/447)
كشف الْمُشكل من مُسْند جَابر بن سَمُرَة
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله مائَة حَدِيث وَسِتَّة
وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة وَعِشْرُونَ.
426 - / 519 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِذا
هلك كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده، وَإِذا هلك قَيْصر فَلَا
قَيْصر بعده ".
وَأما كسْرَى فقد ذَكرْنَاهُ فِي الْمسند الَّذِي قبل
هَذَا. وَأما قَيْصر فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ قَالَ: قَيْصر اسْم أعجمي، وَهُوَ اسْم لملك
الرّوم، كَمَا أَن تبعا للْعَرَب، وكسرى للْفرس،
وَالنَّجَاشِي للحبشة، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب
قَدِيما، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(بَكَى صَاحِبي لما رأى الدَّرْب دونه ... وأيقن أَنا
لاحقان بقيصرا)
وَقَالَ جرير:
(1/448)
(إِذا افْتَخرُوا عدوا الصبهبذ مِنْهُم ...
وكسرى وَآل الهرمزان وقيصرا)
وَهَذَا الحَدِيث يشكل على من سمع أَن كسْرَى لما قتل ملك
وَلَده ثمَّ ملك بعده جمَاعَة، وَكَذَلِكَ قَيْصر،
وَالَّذِي يزِيل الْإِشْكَال أَن كسْرَى وَقَيْصَر كَانَا
فِي ملك ثَابت، فَلَمَّا زَالا تزلزل ملكهمَا وَمَا زَالَ
إِلَى انمحاق وانقراض وَمَا خلفهمَا مثلهمَا، وَهَذَا
كَمَا يُقَال للْمَرِيض: هَذَا ميت، وَالْمعْنَى أَنه قريب
من الْمَوْت وَأَن أَحْوَاله تحمله إِلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: قدرُوا صِحَة هَذَا فِي كسْرَى، فَكيف
بقيصر ومملكة الرّوم إِلَى الْيَوْم بَاقِيَة؟ فقد أجَاب
عَن هَذَا أَبُو الْوَفَاء بن عقيل فَقَالَ: كَانَت
الْعَرَب بَين هذَيْن الْملكَيْنِ كالكرة يلعبان بهم،
ويحملون إِلَيْهِمَا الْهَدَايَا، فَلَمَّا جَاءَ
الْإِسْلَام صَارَت كلمة الْعَرَب الْعليا، فَلَا كسْرَى
وَلَا قَيْصر من حَيْثُ الْمَعْنى، إِنَّمَا هُوَ اسْم
فارغ من الْمَعْنى.
427 - / 520 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " يكون بعدِي
اثْنَا عشر أَمِيرا كلهم من قُرَيْش " وَفِي رِوَايَة: "
لَا يزَال أَمر النَّاس مَاضِيا مَا وليهم اثْنَا عشر رجلا
كلهم من قُرَيْش ". وَفِي رِوَايَة: " لَا يزَال الدّين
قَائِما حَتَّى تقوم السَّاعَة أَو يكون عَلَيْكُم اثْنَا
عشر خَليفَة كلهم من قُرَيْش " وَفِي رِوَايَة: " لَا
يزَال هَذَا الدّين عَزِيزًا منيعا إِلَى اثْنَي عشر
خَليفَة كلهم من قُرَيْش ".
هَذَا الحَدِيث قد أطلت الْبَحْث عَنهُ، وطلبته مظانه،
وَسَأَلت عَنهُ،
(1/449)
فَمَا رَأَيْت أحدا وَقع على الْمَقْصُود
بِهِ، وَأَلْفَاظه مُخْتَلفَة لَا أَشك أَن التَّخْلِيط
فِيهَا من الروَاة، وَبقيت مُدَّة لَا يَقع لي فِيهِ
شَيْء، ثمَّ وَقع لي فِيهِ شَيْء فسطرته، ثمَّ رَأَيْت
أَبَا سُلَيْمَان الْخطابِيّ قد أَشَارَ إِلَى مَا وَقع
لي، ثمَّ وَقع إِلَيّ كَلَام لأبي الْحُسَيْن بن
الْمُنَادِي على هَذَا الحَدِيث على وَجه آخر، ثمَّ وَقع
لي حَدِيث يدل على وَجه ثَالِث، وَهَاهُنَا أذكر الْوُجُوه
الثَّلَاثَة:
أما الْوَجْه الأول الَّذِي وَقع لي ثمَّ رَأَيْت من
كَلَام الْخطابِيّ مَا يُوَافقهُ: فَهُوَ أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا يكون بعده
وَبعد أَصْحَابه، لِأَن حكم أَصْحَابه مُرْتَبِط بِحكمِهِ،
فَأخْبر عَن الولايات الْوَاقِعَة بعد ذَلِك وَأَنَّهَا
تتمّ لأربابها فِي هَذِه الْمدَّة ثمَّ تنْتَقل
الْإِمَارَة، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مُدَّة
ولَايَة بني أُميَّة فَيكون مُرَاده بقوله: " لَا يزَال
الدّين " يَعْنِي الْولَايَة وَالْملك إِلَى أَن يذهب
اثْنَا عشر خَليفَة ثمَّ تنْتَقل الْإِمَارَة، وَهَذَا على
شرح الْحَال فِي استقامة السلطنة لَا على طَرِيق الْمَدْح
لولاية بني أُميَّة. فَأول الْقَوْم يزِيد بن مُعَاوِيَة،
ثمَّ ابْنه مُعَاوِيَة بن يزِيد - وَلَا يذكر ابْن الزبير
لكَونه معدودا فِي الصَّحَابَة، وَلَا مَرْوَان بن الحكم
لكَونه بُويِعَ لَهُ بعد بيعَة ابْن الزبير، وَكَانَ ابْن
الزبير أولى مِنْهُ فَكَانَ هُوَ فِي مقَام غَاصِب - ثمَّ
عبد الْملك، ثمَّ الْوَلِيد، ثمَّ سُلَيْمَان، ثمَّ عمر بن
عبد الْعَزِيز، ثمَّ يزِيد بن عبد الْملك، ثمَّ هِشَام بن
عبد الْملك، ثمَّ الْوَلِيد ابْن يزِيد، ثمَّ يزِيد بن
الْوَلِيد بن عبد الْملك، ثمَّ إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد،
ثمَّ مَرْوَان بن مُحَمَّد، فَهَؤُلَاءِ اثْنَا عشر. ثمَّ
خرجت الْخلَافَة مِنْهُم وانتقلت إِلَى بني الْعَبَّاس
صلوَات الله عَلَيْهِ. وَمِمَّا يُقَوي هَذَا القَوْل مَا
(1/450)
روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " تَدور
رحى الْإِسْلَام لخمس وَثَلَاثِينَ، أَو سِتّ
وَثَلَاثِينَ، أَو سبع وَثَلَاثِينَ، فَإِن يهْلكُوا فسبيل
من هلك، وَإِن يقم لَهُم دينهم يقم لَهُم سبعين عَاما "
وَرَوَاهُ الْخطابِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَيْضا،
فَقَالَ فِيهِ: " يقم لَهُم سبعين عَاما " فَقَالُوا: يَا
رَسُول الله، سوى الثَّلَاث وَالثَّلَاثِينَ؟ قَالَ: " نعم
".
قلت: وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ - وَقيل سِتّ
وَثَلَاثِينَ - قتل عُثْمَان، فَيمكن أَن يُرِيد بدوران
الرَّحَى استقامة الْأَمر، وَيُمكن أَن يُرِيد بذلك زَوَال
الاسْتقَامَة بِدَلِيل أَنه فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: "
إِن رحى الْإِسْلَام ستزول بعد خمس وَثَلَاثِينَ سنة، أَو
سِتّ وَثَلَاثِينَ، أَو سبع وَثَلَاثِينَ " وَذكر
الزَّوَال أبين، وَالْمعْنَى: تَزُول الرَّحَى عَن
استقرارها. فَإِن كَانَت الرِّوَايَة سنة خمس فَفِيهَا قدم
أهل مصر وحصروا عُثْمَان، وَإِن كَانَت سنة سِتّ فَفِيهَا
خرج طَلْحَة وَالزُّبَيْر إِلَى الْجمل، وَإِن كَانَت سنة
سبع فَفِيهَا كَانَت صفّين، فتغيرت الْأَحْوَال فِي هَذِه
الْأَشْيَاء ثمَّ استقام الْملك إِلَى انْقِرَاض ملك بني
أُميَّة وعادت الْفِتَن.
وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: " إِن رحى الْإِسْلَام ستزول
بعد خمس وَثَلَاثِينَ سنة، فَإِن يصطلحوا فِيمَا بَينهم
يَأْكُلُوا الدُّنْيَا سبعين عَاما رغدا، وَإِن يقتتلوا
يركبُوا سنَن من كَانَ قبلهم " وَقَالَ الْخطابِيّ:
قَوْله:
(1/451)
" تَدور رحى الْإِسْلَام " كِنَايَة عَن
الْحَرْب، شبهها بالرحى الَّتِي تطحن الْحبّ لما يكون
فِيهَا من تلف الْأَرْوَاح. قَالَ: وَقَوله: يقم لَهُم
دينهم: أَرَادَ بِالدّينِ هَاهُنَا الْملك، قَالَ زُهَيْر:
(لَئِن حللت بجو فِي بني أَسد ... فِي دين عَمْرو وحالت
بَيْننَا فدك)
يُرِيد فِي ملك عَمْرو وولايته. قَالَ الْخطابِيّ: وَيُشبه
أَن يكون أَرَادَ بِهَذَا ملك بني أُميَّة وانتقاله
عَنْهُم إِلَى بني الْعَبَّاس، فَكَانَ مَا بَين
اسْتِقْرَار الْملك بيي أُميَّة وَظُهُور الوهن فِيهِ
نَحوا من سبعين سنة.
قلت: وَيدل على هَذَا مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو مَنْصُور عبد
الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد قَالَ: أخبرنَا
أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أَنبأَنَا
أَبُو سعيد الْمَالِينِي قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن عدي
قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر المطيري قَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن السكن قَالَ: حَدثنَا
إِسْمَاعِيل بن ذؤاد - بغدادي - قَالَ: حَدثنَا ذؤاد بن
علبة عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم من أبي الطُّفَيْل
عَامر بن وَاثِلَة عَن عبد الله ابْن عَمْرو قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا ملك اثْنَا
عشر من بني كَعْب ابْن لؤَي كَانَ النقف والنقاف إِلَى
يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ ذؤاد: قَالَ لي عبد الله بن
عُثْمَان وَأَنا أَطُوف مَعَه: وَرب هَذِه البنية، لقد
حدثتك كَمَا حَدثنِي أَبُو الطُّفَيْل.
وَأخْبرنَا عبد الْحق بن عبد الْخَالِق قَالَ: أخبرنَا
مُحَمَّد بن مَرْزُوق
(1/452)
قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ
بن ثَابت قَالَ: أَخْبرنِي عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن
الرزاز قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان النجاد قَالَ:
قرئَ على الْحسن بن مكرم وَأَنا أسمع قَالَ: قَرَأنَا على
قيس بن مُحَمَّد الْبَصْرِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن
مَنْصُور عَن ربعي عَن الْبَراء بن نَاجِية عَن عبد الله
بن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: " تَدور رحى الْإِسْلَام فِي خمس وَثَلَاثِينَ أَو
سِتّ وَثَلَاثِينَ أَو سبع وَثَلَاثِينَ، فَإِن يهْلكُوا
فسبيل من يهْلك، وَإِن يقم لَهُم دينهم يقم لَهُم سبعين
عَاما " قلت: يَا رَسُول الله، مِمَّا مضى أَو مِمَّا
بَقِي؟ قَالَ: مِمَّا بَقِي. قَالَ الْخَطِيب: قَوْله: "
تَدور رحى الْإِسْلَام " مثل يُرِيد بِهِ أَن هَذِه
الْمدَّة إِذا انْتَهَت حدث فِي الْإِسْلَام أَمر عَظِيم
يخَاف لذَلِك على أَهله الْهَلَاك، يُقَال لِلْأَمْرِ إِذا
تغير واستحال: قد دارت رحاه، وَهَذَا - وَالله أعلم -
إِشَارَة إِلَى انْقِضَاء مُدَّة الْخلَافَة. وَقَوله: "
يقم لَهُم دينهم " أَي ملكهم وسلطانهم، وَالدّين: الْملك
وَالسُّلْطَان، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ
ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك} [يُوسُف: 76] وَكَانَ
بَين مبايعة الْحسن بن عَليّ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان
إِلَى انْقِضَاء ملك بني أُميَّة من الْمشرق نَحْو من
سبعين سنة.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي الَّذِي ذكره أَبُو الْحُسَيْن
بن الْمُنَادِي فِي هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ قَالَ فِي
قَوْله: " يكون بعدِي اثْنَا عشر خَليفَة " قَالَ: هَذَا
إِنَّمَا يكون بعد موت الْمهْدي الَّذِي يخرج فِي أَوَاخِر
الزَّمَان. قَالَ: وَقد وجدنَا فِي كتاب " دانيال ": إِذا
مَاتَ الْمهْدي ملك خَمْسَة رجال وهم من ولد
(1/453)
السبط الْأَكْبَر - يَعْنِي ابْن الْحسن بن
عَليّ، ثمَّ يملك بعدهمْ خَمْسَة رجال من ولد السبط
الْأَصْغَر، ثمَّ يُوصي آخِرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط
الْأَكْبَر فَيملك، ثمَّ يملك بعده وَلَده، فَيتم بذلك
اثْنَا عشر ملكا كل وَاحِد مِنْهُم إِمَام مهْدي. قَالَ
ابْن الْمُنَادِي: وَوجدنَا فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن
ابْن عَبَّاس أَنه ذكر الْمهْدي فَقَالَ: اسْمه مُحَمَّد
بن عبد الله، وَهُوَ رجل ربعَة مشرب حمرَة، يفرج الله بِهِ
عَن هَذِه الْأمة كل كرب، وَيصرف بعدله كل جور، ثمَّ يَلِي
الْأَمر بعده اثْنَا عشر رجلا خمسين وَمِائَة، فستة من ولد
الْحسن، وَوَاحِد من ولد عقيل بن أبي طَالب، وَخَمْسَة من
ولد الْحُسَيْن، ثمَّ يَمُوت فَيفْسد الزَّمَان وَيعود
الْمُنكر. قَالَ: وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار: يكون اثْنَا
عشر مهديا، ثمَّ ينزل روح الله فَيقْتل الدَّجَّال. قَالَ:
وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بقوله " لَا مهْدي إِلَّا عِيسَى "
يَعْنِي لَا نَبِي يظْهر سواهُ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنه أَرَادَ وجود اثْنَي عشر
خَليفَة فِي جَمِيع مُدَّة الْخلَافَة إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة يعلمُونَ بِالصَّوَابِ وَإِن لم تتوال أيامهم،
فقد يكون الرجل عادلا، وَيَأْتِي بعده من يجور، ثمَّ
يَأْتِي بعد مُدَّة من يعدل، فَيتم عدل الاثْنَي عشر إِلَى
يَوْم الْقِيَامَة. وَيدل على هَذَا الْوَجْه مَا أخبرنَا
بِهِ أَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَزاز
قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد ابْن عَليّ بن ثَابت
قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن عمر الْمُقْرِئ قَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الشَّافِعِي قَالَ: حَدثنَا
معَاذ بن الْمثنى قَالَ:
(1/454)
حَدثنَا مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا يحيى بن
أبي يُونُس قَالَ: حَدثنَا أَبُو بَحر أَن أَبَا المجلد
حَدثهُ وَحلف عَلَيْهِ: أَنه لَا تهْلك هَذِه الْأمة
حَتَّى يكون فِيهَا اثْنَا عشر خَليفَة كلهم يعْمل
بِالْهدى وَدين الْحق، مِنْهُم رجلَانِ من أهل بَيت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعِيش أحدهم
أَرْبَعِينَ سنة والأخر ثَلَاثِينَ سنة.
وَأما الْأَسْلَمِيّ فَهُوَ مَاعِز.
والعصبة والعصابة: الْجَمَاعَة.
وَالْبَيْت الْأَبْيَض قصر كسْرَى، وَكَانَ مَبْنِيا
بالجص، وَكَانَت فِيهِ أَمْوَال عَظِيمَة، فروينا فِي
الْفتُوح أَن سعد بن أبي وَقاص خَاضَ بِأَصْحَابِهِ دفتيه
وَهِي تطفح - إِلَى ولد كسْرَى، فَمَا بلغ المَاء إِلَى
حزَام الْفرس، وَمَا ذهب للْمُسلمين شَيْء، إِلَّا أَن
قدحا وَقع وَأَخذه رجل برمحه من المَاء، فَعرفهُ صَاحبه
فَأَخذه، ووجدوا قبابا مَمْلُوءَة سلالا فِيهَا آنِية
الذَّهَب وَالْفِضَّة، ووجدوا كافورا فظنوه ملحا فعجنوا
بِهِ فوجدوا مرارته فِي الْخبز، فَكَانَ فِي بيُوت
أَمْوَال كسْرَى ثَلَاثَة آلَاف ألف ألف ثَلَاث مَرَّات.
428 - / 521 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" لينتهين أَقوام يرفعون أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء فِي
الصَّلَاة أَو لَا يرجع إِلَيْهِم ".
لما كَانَ الْمَأْخُوذ على المتعبد فِي الصَّلَاة أَن
يخشع، والخشوع: التذلل والتواضع، ناسب هَذَا الْوَعيد سوء
الْأَدَب.
(1/455)
429 - / 522 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: "
مَالِي أَرَاكُم رافعي أَيْدِيكُم كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل
شمس، اسكنوا فِي الصَّلَاة " ثمَّ خرج علينا فرآنا حلقا
فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكُم عزين؟ ".
الشَّمْس جمع شموس: وَهُوَ من الدَّوَابّ الَّذِي لَا
يكَاد يسْتَقرّ. وَقد احْتج بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة
بِهَذَا الحَدِيث فِي مَنعهم رفع الْيَدَيْنِ فِي
الرُّكُوع وَعند الرّفْع مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُم فِيهِ
حجَّة؛ لِأَنَّهُ قد رُوِيَ مُفَسرًا بعد حديثين، قَالَ
جَابر: صلينَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَكُنَّا إِذا سلمنَا قُلْنَا بِأَيْدِينَا: السَّلَام
عَلَيْكُم، السَّلَام عَلَيْكُم، فَنظر إِلَيْنَا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " مَا شَأْنكُمْ
تشيرون بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس؟ إِذا
سلم أحدكُم فليلتفت إِلَى صَاحبه وَلَا يُومِئ بِيَدِهِ "
فَبَان بِهَذَا أَنه لَيْسَ لرفع الْأَيْدِي للتكبير.
وَالْحلق جمع حَلقَة: وَهِي الْجَمَاعَة المستديرة.
قَالَ الْفراء: والعزون الْحلق، الْجَمَاعَات، وَاحِدهَا
عزه، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عزين جمع عزة، مثل ثبة
وثبين، فَهِيَ جماعات فِي تَفْرِقَة. وَقيل: الأَصْل فِي
الِاسْم أَن كل جمَاعَة كَانَ اعتزاؤها وَاحِدًا فَهِيَ
عزة.
وَقَوله: " وتتراصون فِي الصَّفّ " أَي تتضامون فِيهِ.
(1/456)
430 - / 523 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث:
أتوضأ من لُحُوم الْإِبِل؟ قَالَ: " نعم، فَتَوَضَّأ من
لُحُوم الْإِبِل " قَالَ: أُصَلِّي فِي مرابض الْغنم؟
قَالَ: " نعم ". قَالَ: أُصَلِّي فِي مبارك الْإِبِل؟
قَالَ: " لَا ".
فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب الْوضُوء على من أكل
لحم الْجَزُور، وَبِه قَالَ من الصَّحَابَة جَابر بن
سَمُرَة رَاوِي هَذَا الحَدِيث، وَمن الْفُقَهَاء يحيى بن
يحيى، وَابْن رَاهَوَيْه، وَدَاوُد، وَهُوَ أظهر
الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، خلافًا لأبي
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. فَأَما إِذا شرب من لَبنهَا أَو
أكل من كَبِدهَا أَو طحالها فَهَل ينْتَقض وضوءه؟ فِيهِ
رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.
ومرابض الْغنم: مَوَاضِع ربوضها. ومبارك الْإِبِل: مَوضِع
بروكها، والبرك فِي اللُّغَة الصَّدْر، وَإِنَّمَا قيل:
برك الْبَعِير لوُقُوعه على صَدره، وَالْمرَاد بمباركها
أَمَاكِن إِقَامَتهَا. وَظَاهر هَذَا أَن الصَّلَاة فِيهَا
لَا تصح، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد،
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: تكره وَتَصِح، وَبِه قَالَ
أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ.
431 - / 525 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " ثمَّ يسلم على
أَخِيه من على يَمِينه وشماله ".
عندنَا أَنه يَنْوِي بِالسَّلَامِ الْخُرُوج من الصَّلَاة،
فَيحمل هَذَا الْكَلَام
(1/457)
على معنى: ثمَّ يسلم كَمَا يسلم على
أَخِيه: وَعند أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ:
يَنْوِي السَّلَام على الْمَلَائِكَة والمأمومين. وَنحن
نقُول: مَتى نوى هَذَا وَلم ينْو الْخُرُوج من الصَّلَاة
كره لَهُ، إِلَّا أَن أَحْمد نَص على أَنَّهَا لَا تبطل.
وَقَالَ ابْن حَامِد: تبطل، وَاخْتلف أَصْحَابنَا: هَل تجب
نِيَّة الْخُرُوج من الصَّلَاة؟ على وَجْهَيْن.
432 - / 526 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " إِن الله
تَعَالَى سمى الْمَدِينَة طابة ".
قَالَ ابْن فَارس: طابة وطيبة من الطّيب، وَذَلِكَ
أَنَّهَا طهرت من الشّرك، وكل طَاهِر طيب، وَلذَلِك يُسمى
الِاسْتِنْجَاء استطابة، لِأَن الْإِنْسَان تطيب نَفسه من
الْخبث.
433 - / 527 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: رَأَيْت ماعزا
حِين جِيءَ بِهِ وَهُوَ أعضل.
الأعضل: الْكثير اللَّحْم، مَأْخُوذ من العضلة: وَهِي
اللحمة الصلبة فِي العصب.
والأخر: على فعل الْمُدبر المتخلف، وَهَذَا يُقَال فِي
السب والشتم: أبعد الله الْأُخَر.
فرجمه: أَي ضربه بِالرَّجمِ، وَالرَّجم: الْحِجَارَة،
وَفِي الحَدِيث:
(1/458)
" لَا ترجموا قَبْرِي " أَي لَا تدعوا
عَلَيْهِ الْحِجَارَة، دَعوه مستويا.
وَقَوله: " خلف أحدهم " أَي بَقِي بَعدنَا.
وَقَوله: " لَهُ نبيب كنبيب التيس " نبيبه صَوته عِنْد
السفاد.
وَقَوله: " يمنح أحدهم " أَي يُعْطي " الكثبة " وَهِي
الْقَلِيل من اللَّبن.
وَقَوله: " لأنكلنه عَنْهُن " النكال: الْعقُوبَة،
وَالْمعْنَى لأعاقبنه ليرْجع عَنْهُن.
وَقَوله فَرده مرَّتَيْنِ - وروى: أَرْبعا. من روى أَرْبعا
فقد زَاد، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مُقَدّمَة.
وَعِنْدنَا أَنه لَا يجب حد الزِّنَا إِلَّا
بِالْإِقْرَارِ أَربع مَرَّات. وَقَالَ مَالك
وَالشَّافِعِيّ: إِذا أقرّ مرّة وَاحِدَة حد. وَأَبُو
حنيفَة يوافقنا فِي الْأَرْبَع إِلَّا أَنه يَقُول:
يحْتَاج الْإِقْرَار أَن يكون فِي أَرْبَعَة مجَالِس
مُتَفَرِّقَة، فَلَو أقرّ عَن يَمِين الْحَاكِم ويساره
وأمامه ووراءه كَانَت أَرْبَعَة مجَالِس، وَعِنْدنَا أَنه
يَصح الْإِقْرَار فِي مجْلِس وَاحِد. فَأَما إِذا ثَبت
الزِّنَا بالشهود فعندنا أَن الْمجْلس الْوَاحِد شَرط فِي
اجْتِمَاع الشُّهُود وَأَدَاء الشَّهَادَة، فَإِذا جمعهم
مجْلِس وَاحِد سَمِعت شَهَادَتهم وَإِن جَاءُوا
مُتَفَرّقين، ووافقنا أَبُو حنيفَة وَمَالك أَن الْمجْلس
الْوَاحِد شَرط لكنهما قَالَا: هُوَ شَرط فِي مجيئهم
مُجْتَمعين، فَإِن جَاءُوا مُتَفَرّقين فِي مجْلِس وَاحِد
حدوا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ الْمجْلس الْوَاحِد
شرطا فِي اجْتِمَاعهم وَلَا فِي مجيئهم، وَمَتى شهدُوا
بِالزِّنَا مُتَفَرّقين وَجب الْحَد على الزَّانِي، فَإِذا
لم يكمل عدد الشُّهُود فَإِنَّهُم قذفة يحدون عندنَا وَعند
أبي حنيفَة وَمَالك، خلافًا لأحد
(1/459)
قولي الشَّافِعِي: إِنَّهُم لَا يحدون.
434 - / 529 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: كَانَ يخْطب
قَائِما ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم فيخطب.
أما خطْبَة الْجُمُعَة فَإِنَّهَا شَرط فِي صِحَة
الْجُمُعَة عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء خلافًا لداود، وَأما
الْقيام فِي الْخطْبَتَيْنِ وَالْجُلُوس بَينهمَا فَسنة
عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد، وَعند الشَّافِعِي أَن
ذَلِك شَرط فِي صِحَّتهَا فَلَا تجزي مَعَ الْقُدْرَة على
الْقيام، وَإِن ترك الْقعُود بَينهمَا لم تجز الْخطْبَة،
فَإِن كَانَ مَرِيضا خطب جَالِسا وَفصل بَين
الْخطْبَتَيْنِ بسكته.
435 - / 530 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَت صلَاته
قصدا وخطبته قصدا.
الْقَصْد: بَين الطول وَالْقصر.
436 - / 533 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: كَانَ بِلَال
يُؤذن إِذا دحضت الشَّمْس.
يَعْنِي زَالَت.
437 - / 535 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: كَانَ إِذا
صلى الْفجْر
(1/460)
جلس فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تطلع الشَّمْس
حسناء.
الَّذِي قرأناه على مَشَايِخنَا حسناء على وزن فعلاء،
وَإِنَّمَا تظهر حَسَنَة إِذا أخذت فِي الِارْتفَاع،
فَحِينَئِذٍ يتكامل ضوءها وَيحسن. ورأيته بِخَط أبي عبد
الله الْحميدِي: حسنا منونا، يُرِيد: طلوعا حسنا. وَفِي
فعله هَذَا فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: الْجُلُوس للذّكر
فَإِنَّهُ وَقت شرِيف، وَقد جَاءَت أَحَادِيث كَثِيرَة فِي
الذّكر فِي ذَلِك الْوَقْت. وَالثَّانيَِة: أَنه لما تعبد
الْإِنْسَان لله عز وَجل قبل طُلُوع الشَّمْس لَازم مَكَان
التَّعَبُّد إِلَى أَن تَنْتَهِي حركات الساجدين للشمس
إِذا طلعت.
438 - / 536 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: صليت مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعِيدَيْنِ بِغَيْر
أَذَان وَلَا إِقَامَة.
إِنَّمَا كَانَ هَذَا لأحد أَمريْن: إِمَّا لتمييز مَا
هُوَ فرض عَن غَيره، كَمَا أَن صَلَاة الْكُسُوف لما
كَانَت سنة نُودي لَهَا: الصَّلَاة جَامِعَة، لتمييز
الْفَرَائِض العينية. وَالثَّانِي: أَن الْأَذَان
وَالْإِقَامَة للإعلام بِالصَّلَاةِ، والعيد إِنَّمَا
يُقَام فِي الصَّحرَاء لَا عِنْد الْبيُوت، فَالَّذِينَ
يقصدونها قد خَرجُوا والمتأخرون لَا يسمعُونَ الْأَذَان
فِي أغلب الْمَوَاضِع، فَلم يكن فِيهِ فَائِدَة.
439 - / 537 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: صلى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ابْن الدحداح.
اسْم هَذَا الرجل ثَابت بن الدحداح، وَيُقَال الدحداحة،
ويكنى
(1/461)
أَبَا الدحداح، وَهُوَ من الْأَنْصَار،
وَقد اخْتلف الروَاة فِي مَوته، فَقَالَ بَعضهم: قتل يَوْم
أحد فِي المعركة. وَقَالَ آخَرُونَ: بل جرح وبرأ ثمَّ
مَاتَ على فرَاشه مرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من الْحُدَيْبِيَة، وَهَذَا أصح لهَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: ثمَّ أُتِي بفرس عري - أَي عُرْيَان، وَكَذَلِكَ
معرورى.
فعقله رجل: أَي أمْسكهُ لَهُ حَتَّى رَكبه، فَجعل يتوقص
بِهِ. قَالَ أَبُو عبيد: التوقص أَن يقصر عَن الخبب ويمرح
عَن الْعُنُق وينقل قوائمه نقل الخبب، غير أَنَّهَا أقرب
قدرا فِي الأَرْض.
والعذق بِفَتْح الْعين: النَّخْلَة، وبكسرها: الكباسة،
وَالْمرَاد هَاهُنَا الكباسة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " مُعَلّق
أَو مدلى ".
والرداح: الثقيل بِحمْلِهِ، وَمِنْه امْرَأَة رداح: إِذا
كَانَت ثَقيلَة الْأَوْرَاك.
وَكَانَ هَذَا الرجل لما نزل قَوْله تَعَالَى: {من ذَا
الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} [الْبَقَرَة: 245] تصدق
ببستان لَهُ فِيهِ سِتّمائَة نَخْلَة، وَكَانَ أَهله
فِيهِ، فجَاء فَقَالَ: يَا أم الدحداح، اخْرُجِي فقد
أَقْرَضته رَبِّي عز وَجل، فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: " كم من عذق رداح فِي الْجنَّة لأبي
الدحداح " فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أعَاد ذَلِك
عِنْد موت هَذَا الرجل.
440 - / 538 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أُتِي
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل قتل نَفسه
بمشاقص فَلم يصل عَلَيْهِ.
(1/462)
المشاقص جمع مشقص، وَاخْتلفُوا فِيهِ،
فَقَالَ قوم: هُوَ سهم فِيهِ نصل عريض، وَقَالَ قوم: هُوَ
اسْم لنصل السهْم إِذا كَانَ طَويلا، فَإِن كَانَ عريضا
فَهُوَ المعبلة.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الإِمَام لَا يُصَلِّي
على من قتل نَفسه، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل
خلافًا للباقين.
441 - / 540 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " أَلا إِنِّي
فرط لكم على الْحَوْض، كَأَن الأباريق فِيهِ النُّجُوم ".
وَقد سبق بَيَان الفرط وَأَنه الْمُتَقَدّم إِلَى المَاء.
والأباريق جمع إبريق، وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ قَالَ: الإبريق فَارسي مُعرب، وترجمته من
الفارسية أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا أَن يكون طَرِيق المَاء،
أَو صب المَاء على هينة، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب
قَدِيما، قَالَ عدي بن زيد:
(ودعا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا
إبريق)
وَأما شبه الأباريق بالنجوم لكثرتها، وَإِنَّمَا كثرت
فِيهِ لِئَلَّا يقف شَارِب لانتظار آخر
442 - / 541 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين:
كَأَنَّمَا أخرج يَده من
(1/463)
جونة عطار.
الجونة: وعَاء يَجْعَل فِيهِ الطّيب وَغَيره وَجَمعهَا
جون.
وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن كَثْرَة اسْتِعْمَال رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للطيب.
443 - / 542 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضليع الْفَم.
أَي وَاسع الْفَم، وَالْعرب تمدح بذلك لأجل التَّمَكُّن من
الْكَلَام.
وَقَوله: أشكل الْعين، قد فسر فِي الحَدِيث أَنه طَوِيل
شقّ الْعين. وَقد قيل: الشكلة فِي الْعين حمرَة فِي
سوادها، وَقيل: حمرَة فِي بياضها.
وَقَوله: منهوس الْعقب، وَقد فسر فِي الحَدِيث أَنه قَلِيل
لحم الْعقب، وَفِي الْعقب لُغَتَانِ: كسر الْقَاف
وتسكينها. قَالَ الْأَصْمَعِي: الْعقب اسْم لما أصَاب
الأَرْض من مُؤخر الرجل إِلَى مَوضِع الشرَاك.
444 - / 543 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شمط مقدم
رَأسه ولحيته، وَكَانَ إِذا ادهن لم يتَبَيَّن، وَإِذا شعث
رَأسه تبين.
(1/464)
قد سبق معنى الشمط، وَأَنه اخْتِلَاط
الْبيَاض بِالسَّوَادِ.
والشعث: تلبد شعر الرَّأْس وتغيره إِذا بعد عَنهُ الدّهن
والمشط.
قَوْله: وَرَأَيْت الْخَاتم، كَانَ الْخَاتم غُدَّة من
اللَّحْم عَلَيْهَا شَعرَات. أخبرنَا عمر بن أبي الْحسن
البسطامي قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن أبي مَنْصُور الخليلي
قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد الْخُزَاعِيّ قَالَ:
أخبرنَا الْهَيْثَم بن كُلَيْب الشَّاشِي قَالَ: حَدثنَا
أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة
قَالَ: حَدثنَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن الْجَعْد بن عبد
الرَّحْمَن قَالَ: سَمِعت السَّائِب بن يزِيد يَقُول: ذهبت
بِي خَالَتِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن ابْن أُخْتِي وجع، فَمسح
رَأْسِي، ودعا لي بِالْبركَةِ، وَقمت وَرَاء ظَهره
فَنَظَرت إِلَى الْخَاتم بَين كَتفيهِ فَإِذا هُوَ مثل زر
الحجلة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحدثنَا سعيد بن يَعْقُوب
الطَّالقَانِي قَالَ: حَدثنَا أَيُّوب بن جَابر عَن سماك
بن حَرْب عَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: رَأَيْت الْخَاتم
بَين كَتِفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُدَّة
حَمْرَاء مثل بَيْضَة الْحَمَامَة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ:
أخبرنَا أَبُو عَاصِم قَالَ: حَدثنَا عزْرَة بن ثَابت
قَالَ: حَدثنِي علْبَاء بن أَحْمَر قَالَ: حَدثنِي أَبُو
زيد بن أَخطب قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: " يَا أَبَا زيد، ادن
(1/465)
مني فامسح ظَهْري " فمسحت ظَهره فَوَقَعت
أصابعي على الْخَاتم، ثمَّ قلت: وَمَا الْخَاتم؟ قَالَ
شَعرَات مجتمعات.
وَقَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: كَانَ الْخَاتم بضعَة
نَاشِزَة.
(1/466)
كشف الْمُشكل من مُسْند سُلَيْمَان بن صرد
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خَمْسَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
445 - / 544 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كنت
جَالِسا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجلان
يستبان وَأَحَدهمَا قد احمر وَجهه وَانْتَفَخَتْ أوداجه.
الْأَوْدَاج جمع ودج، وَإِنَّمَا هما ودجان، وهما العرقان
اللَّذَان يقطعهما الذَّابِح، وَأما ذكرهمَا بِلَفْظ
الْجمع فَلَا يَخْلُو أَن يكون على لُغَة من يُوقع الْجمع
على التَّثْنِيَة، كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكُنَّا لحكمهم
شَاهِدين} [الْأَنْبِيَاء: 78] أَو لِأَن كل قِطْعَة من
الودج تسمى ودجا، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: " كَانَ أَزجّ
الحواجب ".
قَوْله: " أعوذ بِاللَّه " معنى أعوذ: ألجأ وألوذ. وَقد
سبق معنى الشَّيْطَان.
(1/467)
وَفِي الرَّجِيم قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه
الملعون، قَالَه قَتَادَة. وَالثَّانِي: أَنه فعيل
بِمَعْنى مفعول، مثل قَتِيل بِمَعْنى مقتول، فَهُوَ
المرجوم، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، فَإِنَّمَا يرْجم
بالنجوم.
وَقد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث أَنه يَنْبَغِي أَن يلجأ
إِلَى الله تَعَالَى من الشَّيْطَان الَّذِي يغري بالسب
وَيُقَوِّي الْغَضَب للنَّفس.
446 - / 540 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَنه قَالَ حِين
أجلى الْأَحْزَاب عَنهُ: " الْآن نغزوهم وَلَا يغزونا،
نَحن نسير إِلَيْهِم ".
أجلى الْأَحْزَاب: انصرفوا.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على صدق نبوة نَبينَا عَلَيْهِ
اسلام؛ لِأَن الْقَوْم بعد غزَاة الْأَحْزَاب لم يَأْتُوا
لقِتَال، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يخرج إِلَيْهِم، وَخرج لفتح مَكَّة فَدَخلَهَا
قاهرا.
(1/468)
كشف الْمُشكل من مُسْند عُرْوَة الْبَارِقي
هَذَا الرجل يُقَال لَهُ عُرْوَة بن الْجَعْد، وَيُقَال:
ابْن أبي الْجَعْد. وَفِي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ خلق
كثير على هَذَا الْفَنّ، فَمن الصَّحَابَة أَوْس بن أَوْس
الثَّقَفِيّ، وَيُقَال: ابْن أبي أَوْس، وَبشر بن
أَرْطَأَة، وَيُقَال ابْن أبي أَرْطَأَة، وَعبد الرَّحْمَن
بن عميرَة، وَيُقَال: ابْن أبي عميرَة، وَعبد الرَّحْمَن
بن عَلْقَمَة، وَيُقَال ابْن أبي عَلْقَمَة. وَفِي
التَّابِعين من بعدهمْ خلق كثير قد أحصيتهم فِي كتابي
الْمُسَمّى بالتلقيح.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثَلَاثَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد:
447 - / 546 - " الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا
الْخَيْر " وَقد فسرناه فِي مُسْند جرير، وَقد رَوَاهُ
البرقاني فَزَاد فِيهِ: " الْإِبِل عز لأَهْلهَا، وَالْغنم
بركَة " وَذَلِكَ لِأَن الْعَرَبِيّ يشرف قدره بَينهم
بِكَثْرَة مَاله، وأنفس أَمْوَالهم عِنْدهم الْإِبِل،
وَالْبركَة فِي الْغنم من جِهَة أَلْبَانهَا
وَأَوْلَادهَا.
(1/469)
|