كشف المشكل من
حديث الصحيحين (56) كشف الْمُشكل من مُسْند سهل بن أبي
حثْمَة
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة. 644 / 763 - فَمن الْمُشكل فِي
الحَدِيث الأول: انْطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن
مَسْعُود إِلَى خَيْبَر وَهِي يَوْمئِذٍ صلح، فتفرقا،
فَأتى محيصة إِلَى عبد الله بن سهل وَهُوَ يَتَشَحَّط فِي
دَمه قَتِيلا. أَي يضطرب فِيهِ. [15] وَقَوله: " كبر " أَي
ليَتَكَلَّم الْأَكْبَر. [15] وَقَوله: " فتبرئكم يهود "
أَي تحلف بِالْبَرَاءَةِ من قَتله. [15] وَقَوله: فعقله
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي أعْطى دِيَته.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: عقلت الْمَقْتُول: أَعْطَيْت
دِيَته. وعقلت عَن فلَان: إِذا لَزِمته دِيَة فأعطيتها
عَنهُ. قَالَ الْأَصْمَعِي: كلمت القَاضِي أَبَا يُوسُف
عِنْد الرشيد فِي هَذَا فَلم يفرق بَين عقلته وعقلت عَنهُ
حَتَّى فهمته. قَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أعطَاهُ من سهم الغارمين
على معنى الْحمالَة فِي إصْلَاح ذَات الْبَين، إِذْ لَا
مصرف لمَال الصَّدقَات فِي الدِّيات.
(2/176)
[15] وَقَوله: برمتِهِ. أَي يسلم إِلَى
أَوْلِيَاء الْقَتِيل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرمة:
الْحَبل الْبَالِي، وأصل هَذَا أَن رجلا دفع إِلَى رجل
بَعِيرًا بِحَبل فِي عُنُقه، فَقيل ذَلِك لكل من دفع
شَيْئا بجملته. [15] وَقَوله: فوداه: أَي أدّى دِيَته.
[15] والمربد: موقف الأبل، واشتقاقه من ربد: أَي أَقَامَ،
والمربد أَيْضا: مَوضِع يلقى فِيهِ التَّمْر كالجرين. [15]
وَاعْلَم أَن الْقسَامَة مِمَّا حكم بِهِ الْجَاهِلِيَّة،
وَأول من قضى بهَا الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، فأقرها
الْإِسْلَام. وَأول قسَامَة كَانَت فِي الْإِسْلَام فِي
بني هَاشم، ثمَّ ثنت هَذِه الْقِصَّة والقسامة مَعْمُول
بهَا. [15] وَعِنْدنَا أَنه يبْدَأ فِيهَا بأيمان المدعين.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يبْدَأ بأيمان الْمُدعى عَلَيْهِم.
وَإِذا حلف الْوَلِيّ فِي الْقسَامَة وَجب الْقصاص عندنَا،
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي " الْجَدِيد ":
لَا يجب عَلَيْهِ الْقصاص بِحَال. وَعِنْدنَا أَنه لَيْسَ
للْوَلِيّ أَن يقسم على أَكثر من وَاحِد. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يجوز أَن يَدعِي على جمَاعَة.
وَعِنْدنَا أَن الْقسَامَة تجب وَإِن لم يكن بالقتيل أثر.
وَعَن أَحْمد: لَا يجب حَتَّى يكون بِهِ أثر كَقَوْل أبي
حنيفَة. واللوث الَّذِي تجب مَعَه الْقسَامَة هُوَ
الْعَدَاوَة الظَّاهِرَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:
الِاعْتِبَار بِوُجُود الْقَتِيل فِي مَحَله وَبِه أثر.
وَإِذا كَانَ المدعون جمَاعَة قسمت الْأَيْمَان عَلَيْهِم
بِالْحِسَابِ وجبر
(2/177)
الْكسر، خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي:
يحلف كل وَاحِد مِنْهُم خمسين يَمِينا. وَاخْتلفت
الرِّوَايَة عَن أَحْمد هَل يخْتَص الْيَمين بالوارث من
الْعصبَة أم لَا؟ فَروِيَ عَنهُ: يخْتَص، وَعنهُ: لَا
يخْتَص، كَقَوْل مَالك. [15] وَعِنْدنَا أَنه لَا مدْخل
للنِّسَاء فِي أَيْمَان الْقسَامَة بِحَال خلافًا
للأكثرين، إِلَّا أَن مَالِكًا قَالَ: لَا يدخلن إِلَّا
فِي الْخَطَأ. [15] والقسامة تجب عندنَا فِي قتل العبيد
أَيْضا، خلافًا لمَالِك. وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
645 - / 764 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: نهى عَن بيع
الثَّمر بِالتَّمْرِ، وَرخّص فِي بيع الْعَرَايَا، وَنهى
عَن الْمُزَابَنَة. [15] والْحَدِيث قد شرحناه فِي مُسْند
زيد بن ثَابت. والمزابنة: هِيَ بيع الثَّمر فِي رُؤُوس
النّخل بِالتَّمْرِ.
646 - / 765 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: صَلَاة الْخَوْف،
وَأَنه صلاهَا يَوْم ذَات الرّقاع. [15] غزَاة ذَات
الرّقاع كَانَت فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة.
وَأما تَسْمِيَتهَا بِذَات الرّقاع فَفِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا أَن أَقْدَام الصَّحَابَة نقبت أَي تقرحت وورمت،
فلفوا على أَرجُلهم الْخرق، فسميت غَزْوَة ذَات الرّقاع.
وَهَذَا قد تقدم من قَول أبي مُوسَى فِي مُسْنده.
وَالثَّانِي: أَنه جبل فِيهِ
(2/178)
حمرَة وَسَوَاد وَبَيَاض كَانُوا ينزلون
فِيهِ، ذكره مُحَمَّد بن سعد فِي " الطَّبَقَات ". [15]
وَالصَّلَاة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الحَدِيث هِيَ
الْمُعْتَمد عَلَيْهَا عندنَا وَعند الشَّافِعِي فِي
صَلَاة الْخَوْف، وَعَن مَالك رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا:
مثل قَوْلنَا. وَالثَّانيَِة: أَن الإِمَام يسلم وَلَا
ينْتَظر الطَّائِفَة الْأُخْرَى. وَأما أَبُو حنيفَة
فَإِنَّهُ يعْتَمد على مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث
ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى
بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة والطائفة الْأُخْرَى
مُوَاجهَة الْعَدو، ثمَّ انصرفوا فَقَامُوا فِي مقَام
أُولَئِكَ، فجَاء أُولَئِكَ فصلى بهم رَكْعَة أُخْرَى ثمَّ
سلم، ثمَّ قَامَ هَؤُلَاءِ فقضوا ركعتهم، وَقَامَ
هَؤُلَاءِ فقضوا ركعتهم. [15] وَهَذِه الصَّلَاة
الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث سهل إِنَّمَا تجوز بأَرْبعَة
شَرَائِط: أَحدهمَا: أَن يكون الْعَدو مُبَاح الْقَتْل.
وَالثَّانِي: أَن يكون فِي غير جِهَة الْقبْلَة.
وَالثَّالِث: أَن لَا يُؤمن هجومه. وَالرَّابِع: أَن يكون
فِي الْمُصَلِّين كَثْرَة يُمكن تفريقهم طائفتين، كل
طَائِفَة ثَلَاثَة فَأكْثر، فتجعل طَائِفَة بِإِزَاءِ
الْعَدو وَطَائِفَة خَلفه تصلي. وَأما إِذا كَانَ الْعَدو
فِي جِهَة الْقبْلَة وهم بِحَيْثُ لَا يخفى بَعضهم على
بعض، وَلَا يخَاف الْمُسلمُونَ كمينا وَفِيهِمْ كَثْرَة
فَإِنَّهُ يقفهم خَلفه صفّين فَصَاعِدا، وَيحرم بهم
أَجْمَعِينَ، فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد فِي الرَّكْعَة
الأولى سجدوا كلهم إِلَّا الصَّفّ الأول الَّذِي يَلِيهِ
فَإِنَّهُ يقف فيحرسهم، فَإِذا قَامُوا إِلَى الثَّانِيَة
سجد الَّذين حرسوا وَلَحِقُوا بِهِ فصلوا أَجْمَعِينَ،
فَإِذا سجد فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة حرس الصَّفّ
(2/179)
الَّذِي سجد مَعَه فِي الرَّكْعَة الأولى،
فَإِذا جلس سجد الَّذين حرسوه ولحقوه، وَتشهد بِالْجَمِيعِ
وَيسلم. فَإِذا اشْتَدَّ الْخَوْف والتحم الْقِتَال صلوا
رجَالًا وركبانا إِلَى الْقبْلَة وَغَيرهَا، إِيمَاء وَغير
إِيمَاء على قدر طاقتهم، فَإِن احتاجوا إِلَى الْكر والفر
والطعن وَالضَّرْب فعلوا وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِم.
(2/180)
(57) كشف الْمُشكل من مُسْند ظهير بن رَافع
[15] وَهُوَ بَدْرِي. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حديثان، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
647 - / 766 وَهُوَ قَوْله: لقد نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن أَمر كَانَ بِنَا رافقا: سَأَلَني "
كَيفَ تَصْنَعُونَ بمحاقلكم؟ " فَقلت: نؤاجرها على الرّبيع
والأوسق من التَّمْر أَو الشّعير. قَالَ: " لَا تَفعلُوا،
ازرعوها، أَو أزرعوها أَو أمسكوها ". [15] والمحاقل:
الْمزَارِع. [15] وَالربيع: النَّهر الصَّغِير، وَجمعه
أربعاء، وَمثله الْجَدْوَل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة كَانُوا
يكرون الأَرْض بِشَيْء مَعْلُوم، ويشترطون بعد ذَلِك على
مكتريها مَا ينْبت على الْأَنْهَار، فَنهى عَن ذَلِك. [15]
وَقَوله: نهى عَن كِرَاء الأَرْض يَعْنِي. على هَذَا
الْوَجْه، رُبمَا ينْبت بَعْضهَا، فَرُبمَا لم ينْبت مَا
اشترطوه، وَرُبمَا نبت وَلم ينْبت غَيره. وَيحْتَمل أَن
يكون نهى عَن كِرَاء الأَرْض ليرتفق بعض النَّاس من بعض،
وَلذَلِك ندبهم إِلَى أَن يمنح الْإِنْسَان أَخَاهُ أرضه
ليزرعها فينتفع بذلك.
(2/181)
(58) كشف الْمُشكل من مُسْند رَافع بن خديج
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ثَمَانِيَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا
فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة.
648 - / 767 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كُنَّا
أَكثر الْأَنْصَار حقلا، فَكُنَّا نكرِي الأَرْض على أَن
لنا هَذِه وَلَهُم هَذِه، فَرُبمَا أخرجت هَذِه وَلم تخرج
هَذِه، فنهانا عَن ذَلِك؛ فَأَما الْوَرق فَلم ينهنا.
وَفِي رِوَايَة: كَانَ النَّاس يؤاجرون بِمَا على
الماذيانات، وأقبال الجداول، وَأَشْيَاء من الزَّرْع. وَقد
سبق بَيَان الحقل. وَالْوَرق: الْفضة. [15] والماذيانات:
الْأَنْهَار الْكِبَار، الْوَاحِد ماذيان، كَذَلِك تسميها
الْعَجم وَلَيْسَت بعربية والسواقي دون الماذيانات. [15]
والجدول: النَّهر الصَّغِير. وأقبال الجداول: أوائلها
وَمَا اسْتقْبل مِنْهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ينْبت
عَلَيْهَا من العشب. كَانَ يشْتَرط على الْمزَارِع
(2/182)
أَن يَزْرَعهَا خَاصَّة لرب المَال سوى
الشَّرْط على الثُّلُث وَالرّبع، وَهَذِه الْأَشْيَاء لَا
يدْرِي أتسلم أم تعطب، فَهِيَ فِي حيّز الْمَجْهُول.
والمزارع: كل مَا يَتَأَتَّى زراعته من الأَرْض. [15]
وَقَوله: كُنَّا لَا نرى بالْخبر بَأْسا. الْخَبَر بِكَسْر
الْخَاء، ذكره أَبُو عبيد فَقَالَ: الْخَبَر
وَالْمُخَابَرَة: الْمُزَارعَة بِالنِّصْفِ وَالثلث
وَالرّبع وَأَقل أَو أَكثر. وَكَانَ أَبُو عبيد يَقُول:
لهَذَا يُسَمِّي الأكار خَبِيرا، لِأَنَّهُ يخابر الأَرْض.
وَالْمُخَابَرَة هِيَ المؤاكرة، وَسمي الأكار لِأَنَّهُ
يؤاكر الأَرْض. وَقَالَ غَيره: أصل هَذَا من خَيْبَر؛
لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرها فِي
أَيْديهم على النّصْف، فَقيل: خابرهم: أَي عاملهم فِي
خَيْبَر. [15] وَاعْلَم أَن الْمُزَارعَة بِبَعْض مَا تخرج
الأَرْض إِذا كَانَ مَعْلُوما عندنَا جَائِزَة، وَهُوَ
قَول الثَّوْريّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَمَالك: لَا تصح بِحَال. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا
تجوز فِي الأَرْض الْبَيْضَاء وَتجوز إِذا كَانَ فِي
الأَرْض نخل أَو كرم تبعا لَهما.
649 - / 768 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كُنَّا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الحليفة، فَأصَاب
النَّاس جوع، فَأَصَابُوا إبِلا وَغنما، وَكَانَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أخريات الْقَوْم، فعجلوا
وذبحوا ونصبوا الْقُدُور، فَأمر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بالقدور فأكفئت. [15] أكفئت بِمَعْنى كبت:
يُقَال: كفأت الْقدر: إِذا كببتها لتفرغ مَا فِيهَا.
(2/183)
وَهَذَا لأَنهم أخذُوا مغنما لم يقسمهُ
بَينهم، فعاقبهم بِهَذَا. [15] قَوْله: فَعدل: ماثل وساوى.
يُقَال: عدلت كَذَا بِكَذَا: أَي ماثلت بِهِ. [15] فند
بعير: أَي ذهب فِي الأَرْض. [15] والبهائم جمع بَهِيمَة،
قَالَ الزّجاج: إِنَّمَا قيل لَهَا بَهِيمَة لِأَنَّهُمَا
أبهمت عَن أَن تميز، وكل حَيّ لَا يُمَيّز فَهُوَ
بَهِيمَة. [15] قَالَ أَبُو عبيد: والأوابد. الَّتِي قد
توحشت ونفرت من النَّاس. وتأبدت الدَّار تأبدا، وأبدت تأبد
وتأبد أبودا: إِذا خلا مِنْهَا أَهلهَا وخلفتهم الْوَحْش
فِيهَا. [15] والمدى جمع مدية: وَهِي الشَّفْرَة. [15]
وأنهر الدَّم: أساله وصبه بِكَثْرَة، وَهُوَ تَشْبِيه
لجَرَيَان الدَّم من الْعُرُوق بجريان المَاء فِي النَّهر.
[15] وَقَوله: " أما السن فَعظم "، إِن قَالَ قَائِل: قد
عرف هَذَا، فَمَا فَائِدَته؟ وَإِذا كَانَ الظفر مدى
الْحَبَشَة فَلم يمْتَنع الذّبْح بِهِ؟ وَلَو أَن مُسلما
ذبح بمدية حبشِي جَازَ؟ [15] فَالْجَوَاب أَن قَوْله: "
أما السن فَعظم " يدل على أَنه قد كَانَ متقررا فِي عرفهم
أَلا يذبحوا بِعظم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يقطع الْعُرُوق
كَمَا يَنْبَغِي. وَأما الْحَبَشَة فقد جرت عَادَتهم
بِاسْتِعْمَال الْأَظْفَار مَكَان المدى فتنزهق النَّفس
خنقا لَا ذبحا.
(2/184)
650 - / 769 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: "
الْحمى من فَور جَهَنَّم " وَفِي لفظ: " من فيح جَهَنَّم
فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". الْفَوْر والفيح والفوح:
اشتداد حرهَا وَقُوَّة غليانها، يُقَال: فاحت الْقدر تفيح:
إِذا غلت. [15] وَقَوله: " أبردوها " أَي قابلوا حرهَا
بِبرد المَاء وصبه على المحموم. [15] فَإِن قيل: فَنحْن
نجد عُلَمَاء الطِّبّ يمْنَعُونَ من اغتسال المحموم.
وَيَقُولُونَ: لَا يجوز مُقَابلَة الْأَشْيَاء بأضدادها
بَغْتَة، وَالرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول
إِلَّا حِكْمَة وَحقا، وَقد ذكر عَن بعض من ينْسب إِلَى
الْعلم أَنه حم فاغتسل، فاختفت الْحَرَارَة فِي بدنه،
فَزَاد مَرضه، فَأخْرجهُ الْأَمر إِلَى أَشْيَاء أحْسنهَا
التَّكْذِيب بِالْحَدِيثِ. [15] وَالْجَوَاب: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا خَاطب بِهَذَا
أَقْوَامًا كَانُوا يعتادون مثل هَذَا فِي مثل تِلْكَ
الأَرْض، والطب يَنْقَسِم: فشيء مِنْهُ بِالْقِيَاسِ كطب
اليونانيين، وَشَيْء مِنْهُ تجارب كطب الْعَرَب، وَالْعرب
تستشفي بأَشْيَاء لَا توَافق غَيرهم. وَقد قَالَ أَبُو
سُلَيْمَان الْخطابِيّ: تبريد الحميات الصفراوية بسقي
المَاء الْبَارِد وَوضع أَطْرَاف المحموم فِيهِ من أَنْفَع
العلاج وأسرعه إِلَى إطفاء نارها، وعَلى هَذَا الْوَجْه
أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتبريد الْحمى
بِالْمَاءِ دون الانغماس فِيهِ. قَالَ: وَبَلغنِي عَن ابْن
الْأَنْبَارِي أَنه كَانَ يَقُول: معنى قَوْله: "
فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ " أَي تصدقوا بِالْمَاءِ عَن
الْمَرِيض يشفه الله عز وَجل، لما رُوِيَ أَن أفضل
الصَّدَقَة سقِِي المَاء. قلت: هَذَا كُله
(2/185)
تكلّف فِي الْجَواب يردة مَا سَيَأْتِي فِي
مُسْند أَسمَاء بنت أبي بكر: أَنَّهَا كَانَت إِذا أتيت
بِالْمَرْأَةِ قد حمت تَدْعُو لَهَا، أخذت المَاء فصبته
بَينهَا وَبَين جيبها، وَقَالَت كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا أَن نبردها بِالْمَاءِ.
وَأخْبرنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر الْبَزَّار قَالَ:
أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن عمر الْبَرْمَكِي قَالَ: أخبرنَا
أَبُو مُحَمَّد بن ماسي قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُسلم
الْكَجِّي قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الله
الْأنْصَارِيّ قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل ابْن مُسلم
الْمَكِّيّ عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الْحمى قِطْعَة من
النَّار فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُم بِالْمَاءِ الْبَارِد "
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حم
دَعَا بقربة من مَاء فأفرغها على قرنه فاغتسل. [15]
فَهَذَا على خلاف مَا قَالَه الْخطابِيّ وَابْن
الْأَنْبَارِي. وَالصَّحَابَة أعرف بمقصود الرَّسُول فِي
خطابه، وَإِنَّمَا الْوَجْه مَا أَخْبَرتك بِهِ من عادات
الْعَرَب فِي بِلَادهمْ. وَقد قَالَ إِبْرَاهِيم
الْحَرْبِيّ فِي قَوْله: " فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ "
قَالَ: هَذَا لأهل الْمَدِينَة، لَو كَانَ رجل بخراسان فِي
الشتَاء كَانَ يصب عَلَيْهِ المَاء، فَهَذَا يصدق مَا ذهبت
إِلَيْهِ.
651 - / 770 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: كُنَّا نصلي
الْمغرب مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَيَنْصَرِف أَحَدنَا وَإنَّهُ ليبصر مواقع نبله. مواقع
النبل إِنَّمَا يكون فِي الْمَكَان المكشوف والصحراء،
وَكَانُوا
(2/186)
يصلونَ الْمغرب مَعَ الْغُرُوب فيتهيأ
لذَلِك إبصار مواقع النبل، وَكَذَلِكَ كَانُوا يقدمُونَ
الْعَصْر فِي أول وَقتهَا فيتهيأ مَا وَصفه فِي الحَدِيث
الَّذِي يَلِيهِ.
652 - / 772 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
أعْطى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة - قد
عدهم - مائَة مائَة من الْإِبِل، وَأعْطى عَبَّاس بن مرداس
دون ذَلِك، فَقَالَ:
(أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبيد ... بَين عُيَيْنَة
والأقرع)
(وَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس ... يَفُوقَانِ مرداس فِي
مجمع)
(وَمَا كنت دون امْرِئ مِنْهُمَا ... وَمن تخْفض الْيَوْم
لَا يرفع)
[15] فَأَتمَّ لَهُ مائَة. [15] هَذَا الْعَطاء كَانَ
يَوْم حنين، وَكَانَ السَّبي يَوْمئِذٍ سِتَّة آلَاف رَأس،
وَالْإِبِل أَرْبَعَة وَعشْرين ألف بعير، وَالْغنم أَكثر
من أَرْبَعِينَ ألف شَاة، وغنم أَرْبَعَة آلَاف أُوقِيَّة
فضَّة، فَأعْطى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا
سُفْيَان بن حَرْب مائَة من الْإِبِل، وَأَرْبَعين
أُوقِيَّة، وَأعْطى ابْنه يزِيد مثله، وَابْنه مُعَاوِيَة
مثله، وَحَكِيم بن حزَام مائَة من الْإِبِل، ثمَّ سَأَلَهُ
فَأعْطَاهُ مائَة
(2/187)
أُخْرَى، وَأعْطى النَّضر بن الْحَارِث
مائَة من الْإِبِل، وَصَفوَان بن أُميَّة، والْحَارث بن
هِشَام، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَقيس بن عدي، وَحُوَيْطِب
ابْن عبد الْعُزَّى، وَأسيد بن جَارِيَة، والأقرع بن
حَابِس، وعلقمة بن علاثة، وعيينة بن حصن، وَالْعَبَّاس بن
مرداس، وَمَالك بن عَوْف، كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ مائَة من
الْإِبِل، وَأعْطى الْعَلَاء بن جَارِيَة، ومخرمة بن
نَوْفَل، وَسَعِيد بن يَرْبُوع، وَعُثْمَان بن وهب،
وَهِشَام بن عَمْرو، كل وَاحِد خمسين بَعِيرًا،
فَهَؤُلَاءِ الَّذين أَعْطَاهُم من الْمُؤَلّفَة يتألفهم
بالعطاء على الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ كَانَ كالمتزلزل فِي
قُلُوبهم، غير أَن أَكثر هَؤُلَاءِ قوي الْإِيمَان فِي
قلبه فَخرج عَن حد التَّأْلِيف وَبَقِي عَلَيْهِ الِاسْم.
[15] وَقَول الْعَبَّاس: أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبيد.
العبيد اسْم فرسه. وَقَوله وَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس.
يَعْنِي أَبَوي عُيَيْنَة والأقرع، فعيينة بن حصن، والأقرع
بن حَابِس. ويفوق بِمَعْنى يرْتَفع. فَالْمَعْنى: مَا
كَانَ أبي دون أبويهما. وَلَا أَنا دونهمَا، وَكَأَنَّهُ
ضج خوفًا من نقص مرتبته لَا لأجل المَال، وَلِهَذَا قَالَ:
وَمن تخْفض الْيَوْم لَا يرفع.
653 - / 773 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قدم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وهم يأبرون النّخل،
فَقَالَ: " لَعَلَّكُمْ لَو لم تَفعلُوا كَانَ خيرا "
فَتَرَكُوهُ، فنفضت أَو نقصت. [15] يأبرون: يُلَقِّحُونَ.
والإبار: تلقيح النّخل. ونخلة مأبورة ومؤبرة.
(2/188)
[15] ونفضت: أَي نفضت مَا حملت من التَّمْر
فِي مبادئ الْحمل. ونقصت بالصَّاد: أَي عَمَّا كَانَت
تحمل. وَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أعرض عَن
الْأَسْبَاب إقبالا على الْمُسَبّب، ثمَّ عرف تَأْثِير
الْأَسْبَاب فَقَالَ: " إِنَّمَا أَنا بشر " وَقد ذكرنَا
هَذَا فِي مُسْند طَلْحَة.
654 - / 774 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: حرم رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَين لابتيها. [15] وَقد سبق
بَيَان هَذَا، وَأَن اللابة الْحرَّة: وَهِي أَرض فِيهَا
حِجَارَة سود، وَالْمَدينَة بَين لابتين.
(2/189)
|