كشف المشكل من حديث الصحيحين

 (74) كشف الْمُشكل من مُسْند سَلمَة بن الْأَكْوَع
[15] وَاسم الاكوع سِنَان بن عبد الله بن قُشَيْر، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد، وَقَالَ غَيره: هُوَ سَلمَة بن عَمْرو بن الْأَكْوَع، والأكوع جده فنسب إِلَيْهِ. [15] وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي سِتَّة وَتسْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثُونَ.
794 - / 948 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّانِي: غزونا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هوَازن، فَبينا نَحن نتضحى مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] قَالَ أَبُو عبيد: أَي نتغدى، وَاسم ذَلِك الْغَدَاء الضحاء، وَإِنَّمَا سمي بذلك لِأَنَّهُ يُؤْكَل فِي الضحاء، والضحاء ارْتِفَاع النَّهَار الْأَعْلَى، وَهُوَ مَمْدُود مُذَكّر. وَالضُّحَى مُؤَنّثَة مَقْصُورَة، وَهِي حِين تشرق الشَّمْس. [15] قَوْله: إِذْ جَاءَ رجل: كَانَ هَذَا الرجل جاسوسا لِلْعَدو.

(2/296)


[15] وَقَوله: ثمَّ انتزع طلقا. الطلق بِفَتْح اللَّام: قيد من جُلُود يُقيد بِهِ الْبَعِير، وكل حَبل مفتول فَهُوَ طلق. والطلق فِي غير هَذَا: الشوط. يُقَال: عدا طلقا أَو طلقين. [15] والجعبة: الَّتِي يَجْعَل فِيهَا السِّهَام، وَهِي الكنانة أَيْضا. [15] وَقَوله: وَفينَا ضعفة. أَي ضعفاء. ورقة من الظّهْر. أَي: وَفِي إبلنا قله. [15] والناقة الورقاء لَوْنهَا لون الرماد، وَكَذَلِكَ الْبَعِير الأورق. وَسميت الْحَمَامَة وَرْقَاء للونها.
795 - / 950 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن سَلمَة كَانَ يتحَرَّى مَوضِع الْمُصحف يسبح فِيهِ. [15] كَأَنَّهُ قد كَانَ هُنَاكَ مَوضِع مصحف. ويسبح بِمَعْنى يُصَلِّي. وَإِنَّمَا كَانَ يتحَرَّى ذَلِك الْموضع لأَنهم زادوا فِي الْمَسْجِد، فَكَأَنَّهُ كَانَ يطْلب مَوضِع الْحَائِط الأول.
796 - / 953 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يُؤذن من كَانَ أكل فليصم بَقِيَّة يَوْمه، وَمن لم يكن أكل فليصم فَإِن الْيَوْم عَاشُورَاء. [15] اعْلَم أَن صَوْم بعض النَّهَار لَيْسَ بِصَوْم، غير أَن الْإِمْسَاك لاحترام الْوَقْت وَبَيَان تَعْظِيمه، كَمَا يُؤمر القادم فِي رَمَضَان، وَالْحَائِض إِذا

(2/297)


طهرت أَن تمسك، وَمن لَا مَاء لَهُ وَلَا تُرَاب أَن يُصَلِّي على حَاله. وَهَذَا كَانَ قبل فرض رَمَضَان، فَلَمَّا فرض رَمَضَان اشتغلوا بِهِ عَن غَيره، فَصَارَ مَا سواهُ نفلا.
797 - / 954 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خَيْبَر، فسرنا لَيْلًا، فَقَالَ رجل من الْقَوْم لعامر بن الْأَكْوَع: أَلا تسمعنا من هنياتك. فَنزل يَحْدُو. [15] الهنيات هَاهُنَا: الأراجيز. [15] وَقَوله: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا. قد بَينا معنى اللَّهُمَّ فِي أول الْكتاب. [15] وَقَوله: عولوا علينا. أَي أجلبوا، من العويل. يُقَال: أعولت وعولت. [15] فَأَما قَول الرَّسُول: " يرحمه الله " فَإِنَّهُ كَانَ لَا يسْتَغْفر لإِنْسَان يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتشْهد. وَهَذَا مَذْكُور فِي آخر هَذَا الْمسند. [15] وَمعنى وَجَبت: وَجَبت لَهُ الشَّهَادَة. [15] وَلَوْلَا: بِمَعْنى هلا. [15] أمتعنا بِهِ: أَي بِبَقَائِهِ. وَالَّذِي قَالَ هَذَا عمر بن الْخطاب، وَهُوَ مُبين فِي آخر هَذَا الْمسند. [15] والمخمصة: المجاعة. [15] وَقَوله: واكسروا قدروها: كَانُوا قد طبخوا لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، فَأَرَادَ بِكَسْر الْقُدُور التَّغْلِيظ فِي التَّحْرِيم، كَمَا أَمر.

(2/298)


يشق الزقاق فِي الْخمر. [15] وَقد دلّ هَذَا على أَن التَّغْلِيظ على أَصْحَاب الْمُنكر جَائِز إِذا كَانَ سَببا لحسم المُرَاد، فَأَما إِذا قبلوا قَول الْحق فَإِن اللين أولى، وَلِهَذَا لما رَآهُمْ قد اسْتَجَابُوا لمراده أجَاز غسل الْأَوَانِي فَقَالَ: " أوذاك ". [15] فَإِن قيل: قد نهى عَن إِضَاعَة المَال. فَالْجَوَاب: أَن إِضَاعَة الشَّيْء الْخَاص للْمصْلحَة الْعَامَّة حسن، كتحريق مَال الغال. [15] وذباب السَّيْف: طرفه الَّذِي يضْرب بِهِ. [15] وقفلوا بِمَعْنى رجعُوا من غزاتهم. [15] وَقَوله: رَآنِي شاحبا: أَي متغير اللَّوْن. يُقَال: شحب وشحب بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا. [15] وَقَوله: ليهابون الصَّلَاة عَلَيْهِ. يَعْنِي الدُّعَاء لَهُ. [15] وَقَوله: مَاتَ بسلاحه. كَأَنَّهُمْ ظنوه فِي مقَام من قتل نَفسه، وَهَذَا غلط.
798 - / 956 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: خرجت قبل أَن يُؤذن بِالْأولَى. يَعْنِي: الظّهْر. واللقاح من النوق: الْحَوَامِل، الْوَاحِدَة لاقح ولقوح. [15] وَقَوله: يَا صَبَاحَاه، يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنهم كَانُوا يغيرون وَقت الصَّباح، وأنشدوا:

(2/299)


(نَحن صبحنا عَامِرًا فِي دارها ... )
[15] فَكَأَن الْقَائِل: يَا صَبَاحَاه يَقُول: قد رهقنا الْعَدو. وَالثَّانيَِة: لما كَانَ الْأَعْدَاء يتراجعون عَن الْقِتَال فِي اللَّيْل فَإِذا جَاءَ النَّهَار عاودوه، كَانَ قَول الْقَائِل: يَا صَبَاحَاه، بِمَعْنى: قد جَاءَ وَقت الصَّباح فتأهبوا للقاء [15] وَقَوله: مَا بَين لابتي الْمَدِينَة. قد بَينا فِيمَا تقدم أَن اللابة جمعهَا لوب: وَهِي الْحِجَارَة السود. [15] قَوْله: ثمَّ اندفعت على وَجْهي: أَي أسرعت الْعَدو. [15] والرضع: اللئام، والراضع: اللَّئِيم. وَالْمعْنَى: الْيَوْم يَوْم هَلَاك الرضع. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: اصل هَذَا أَن رجلا كَانَ يرضع الْغنم وَالْإِبِل وَلَا يحلبها لِئَلَّا يسمع صَوت الْحَلب، فَقيل ذَلِك لكم لئيم. [15] وَقَوله: وَقد حميت الْقَوْم المَاء: أَي منعتهم مِنْهُ. [15] قَوْله: " ملكت فَأَسْجِحْ " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي سهل. يُقَال خد أسجح: أَي سهل. [15] وَقَوله: " فَإِن الْقَوْم يقرونَ فِي قَومهمْ " من الْقرى والضيافة. وَالْمعْنَى أَنهم قد وصلوا إِلَى قَومهمْ. وَسَيَأْتِي فِي الحَدِيث الْخَامِس من أَفْرَاد مُسلم بَيَان هَذَا، وَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّهُم الْآن ليفرون فِي أَرض غطفان " فَقَالَ: نحر لَهُم فلَان جزورا، فَلَمَّا كشطوا جلدهَا

(2/300)


رَأَوْا غبارها فَقَالُوا: أَتَاكُم الْقَوْم، فَخَرجُوا هاربين. وَقد صحف هَذَا جمَاعَة فَقَالَ بَعضهم: يقرونَ بِفَتْح الْيَاء وَضم الرَّاء، وَفَسرهُ بِأَنَّهُم يجمعُونَ المَاء وَاللَّبن. وَقَالَ آخَرُونَ: يغرون بالغين الْمُعْجَمَة، وَهَذَا تَصْحِيف مِمَّن لَا يعرف الحَدِيث.
799 - / 957 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: على أَي شَيْء بايعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: على الْمَوْت. [15] الْمَعْنى: على أَلا يَفروا وَلَو آل الْأَمر إِلَى الْمَوْت.
800 - / 959 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: لما نزلت: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة} [الْبَقَرَة: 184] كَانَ من أَرَادَ أَن يفْطر ويفتدي حَتَّى نزلت: {فليصمه} . [15] على هَذَا التَّفْسِير يكون الْمَعْنى يُطِيقُونَ صَوْمه وَلَا يصومونه.
801 - / 961 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: أَن الْحجَّاج قَالَ: يَا ابْن الْأَكْوَع، أرتددت على عقبيك؟ تعربت؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن لي فِي البدو. [15] وَمعنى تعربت: عدت أَعْرَابِيًا بعد صُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَلِك فسر بعض الْعلمَاء وَكَذَلِكَ سمعناه من أشياخنا. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي. تعزبت بالزاي: أَي بَعدت عَن الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَات بلزومك الْبَادِيَة. يُقَال: رجل عزب: أَي بعيد عَن النِّسَاء.

(2/301)


802 - / 962 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: إِبَاحَة الْمُتْعَة، قد بَينا نسخهَا فِي مُسْند عمر بن الْخطاب.
803 - / 963 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " من تَقول عَليّ مَا لم أقل " أَي من تكلّف أَن يَقُول عَليّ.
804 - / 964 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ إِذا أُتِي بِجنَازَة قَالَ: " هَل عَلَيْهِ دين؟ هَل ترك شَيْئا " إِلَى أَن جِيءَ بِرَجُل عَلَيْهِ ثَلَاثَة دَنَانِير، فَقَالَ: " صلوا على صَاحبكُم ". [15] أعلم أَن هَذَا كَانَ فِي أول الْأَمر، وَفَائِدَته تَعْظِيم أَمر الدّين، ثمَّ نسخ هَذَا بِمَا سَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: أَنه قَالَ لما فتح الله الْفتُوح، قَالَ: " من ترك دينا فعلي ".
805 - / 965 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: خفت أزواد الْقَوْم وأملقوا، فَقَالَ: " نَاد فِي النَّاس يَأْتُوا بِفضل أَزْوَادهم، فَدَعَا على الطَّعَام وبرك عَلَيْهِ ". [15] الإملاق: الْفقر. [15] وَفضل الأزواد: مَا فضل مِنْهَا. والأزواد جمع زَاد.

(2/302)


[15] وبرك: دَعَا بِالْبركَةِ.
806 - / 966 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مر على نفر ينتضلون. النضال: الرَّمْي.
807 - / 967 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: فنفث فِيهِ ثَلَاث نفثات. النفث: النفخ بِغَيْر ريق. قَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي: قَالَ اللغويون: تَفْسِير نفث: نفخ نفخا لَيْسَ مَعَه ريق، قَالَ ذُو الرمة:
(وَمن جَوف مَاء غرمض الْحول فَوْقه ... مَتى يحس مِنْهُ مائح الْقَوْم يتفل)

808 - / 969 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم: فجمعنا تزوادنا. [15] التزواد: الزَّاد، وَالتَّاء فِيهِ مَفْتُوحَة، وَقد حَدثنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أمْلى علينا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ التبريزي قَالَ: أمْلى عَليّ أَبُو الْعَلَاء المعري قَالَ: الْأَشْيَاء الَّتِي جَاءَت على وزن " تفعال " على

(2/303)


ضَرْبَيْنِ: مصَادر وَأَسْمَاء. فَأَما المصادر فالتلقاء والتبيان، وهما فِي الْقُرْآن. وَقَالُوا: التنضال من المناضلة، فَمنهمْ من يَجعله مصدرا، وَمِنْهُم من يَجعله اسْما على تفعال. وَيُقَال: جَاءَنَا لتيفاق الْهلَال، كَمَا يُقَال: لتوفاقه ولميفاقه، فَمنهمْ من يَجعله اسْما، وَمِنْهُم من يَجعله مصدرا. وَأما الْأَسْمَاء فالتنبال وَهُوَ الْقصير. وَيُقَال: رجل تيتاء أَي عذيوط، وَيُقَال بالضاد أَيْضا. وتيراك: مَوضِع. وتعشار: مَوضِع. وتقصار: قلادة قَصِيرَة فِي الْعُنُق. وتيغار: حب مَقْطُوع، أَي جابية. وتمراد: برج صَغِير للحمام. وتمساح: من دَوَاب المَاء مَعْرُوف، رجل تمساح: أَي كَذَّاب. وتمتان، وَاحِد التمانين: وَهِي خيوط يضْرب بهَا الْفسْطَاط. وَرجل تكلام. كثير الْكَلَام. وتلقام: كثير اللقم. وتلعاب: كثير اللّعب. والتمثال وَاحِد التماثيل. وتجفاف الْفرس مَعْرُوف. وترباع: مَوضِع. وترعام: اسْم شَاعِر. وترياق فِي معنى درياق وطرياق ذكره ابْن دُرَيْد فِي بَاب " تفعال ". قَالَ أَبُو الْعَلَاء: وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون على " فعيال ". وَمضى تهواء من

(2/304)


اللَّيْل بِمَعْنى هوي. وناقة تضراب: وَهِي الْقَرِيبَة الْعَهْد بقرع الْفَحْل. وتلفاق: ثَوْبَان يخاط أَحدهمَا بِالْآخرِ. [15] فَأَما ربضة العنز، فَإِن العنز وَاحِدَة المعزى. وربضتها مَكَانهَا الَّذِي تربض فِيهِ وتأوي إِلَيْهِ، وَمِنْه قيل لمحلة كل قوم ربض لأَنهم يأوون إِلَيْهَا. [15] والإداوة مفسرة فِي مُسْند أبي بكر. والنطفة: شَيْء يسير من المَاء. [15] وندغفقه: نَصبه صبا شَدِيدا لكثرته. وَيُقَال: فلَان فِي عَيْش دغفق: أَي وَاسع.
809 - / 970 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: غزونا وعلينا أَبُو بكر، فَأمرنَا فعرسنا ثمَّ شن الغازة. [15] التَّعْرِيس: نزُول الْمُسَافِرين من آخر اللَّيْل يقعون فِيهِ وقْعَة ثمَّ يرتحلون. [15] وَشن الْغَارة: أرسلها وبثها وَأمر أَصْحَابه بهَا. [15] والعنق من النَّاس: الْجَمَاعَة. [15] والقشع مُفَسّر فِي الحَدِيث بالنطع، ذكره ابْن قُتَيْبَة بِفَتْح الْقَاف، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الزَّاهِد: هُوَ بِكَسْر الْقَاف.
810 - / 971 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: فَقدمت فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل فأرميه لَهُم، فَقبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْضَة من تُرَاب ثمَّ اسْتقْبل بهَا

(2/305)


وُجُوههم فَقَالَ: " شَاهَت الْوُجُوه ". [15] قَوْله: فأعلو ثنية: أَي فعلوت. والثنية: طَرِيق مُرْتَفع بَين جبلين. وَكَذَلِكَ قَوْله فأرميه: أَي فرميته. وشاهت الْوُجُوه: قبحت.
811 - / 972 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قعد رَسُول الله على جبا الرَّكية فَجَاشَتْ. [15] الجبا مَفْتُوح الْجِيم مَقْصُور غير مَهْمُوز: وَهُوَ مَا حول الْبِئْر. والركية: الْبِئْر، وَجَمعهَا ركايا. [15] وَقَوله: فَجَاشَتْ: أَي تحرّك المَاء فِيهَا حَرَكَة غليان. [15] والحجفة والدرقة: نَوْعَانِ مِمَّا يستجن بِهِ فِي الْحَرْب. وَقَوله: واسونا اصلح: أَي اتَّفقُوا مَعنا عَلَيْهِ وشاركونا فِيهِ. وَمِنْه الْمُوَاسَاة. [15] وَقَوله: وَكنت تبيعا لطلْحَة: أَي خَادِمًا لَهُ أتبعه وأكون مَعَه. [15] وَقَوله: كسحت شَوْكهَا: أَي قطعته. يُقَال: كسحت الْبَيْت: إِذا قشرت مَا فَوق أرضه مِمَّا يُؤْذِي النَّازِل بِهِ. [15] قَوْله: قتل ابْن زنيم. مَا نَحْفَظ من الصَّحَابَة من يُقَال لَهُ ابْن زنيم غير شَخْصَيْنِ: سَارِيَة بن زنيم بن عَمْرو بن عبد الله بن جَابر، وَهُوَ الَّذِي قَالَ عمر: يَا سَارِيَة الْجَبَل. وَأَخُوهُ أنس بن زنيم.

(2/306)


قَوْله: اخترطت السَّيْف: أَي سللته من غمده. [15] وَقَوله: وَأخذت سِلَاحهمْ فَجَعَلته ضغثا فِي يَدي. الضغث: الحزمة والباقة من الشَّيْء كالبقل وَمَا أشبهه. قَالَه الزّجاج. وَالْمعْنَى جعلت سِلَاحهمْ فِي يَدي مثل الضغث والعبلات بِفَتْح الْبَاء: حَيّ من قُرَيْش ينسبون إِلَى أم من يُقَال لَهُ عبلة. [15] والمجفف من الْخَيل: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ التجافيق: وَهِي كل مَا يمْنَع وُصُول الْأَذَى إِلَيْهِ، فَهُوَ مثل المدجج من الرِّجَال: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ السِّلَاح التَّام. [15] وَقَوله: " يكن لَهُم بَدْء الْفُجُور " بدؤه: ابتداؤه. " وثناه " ثَانِيه، وَقد يمد. [15] وَالظّهْر: الركاب وَمَا يستعد للْحَمْل وَالرُّكُوب من الْإِبِل. [15] وَقَوله: أنديه. قَالَ أَبُو عبيد: التندية: أَن يُورد الرجل فرسه المَاء حَتَّى يشرب، ثمَّ يردهُ إِلَى المرعى سَاعَة يرتعي، ثمَّ يُعِيدهُ إِلَى المَاء. قَالَ الْأَصْمَعِي: وَالْإِبِل فِي ذَلِك مثل الْخَيل. واختصم حَيَّان من الْعَرَب فِي مَوضِع: فَقَالَ أحد الْحَيَّيْنِ: مسرح بهمنا، ومخرج نسائنا، ومندى خَيْلنَا، قَالَ الشَّاعِر يصف بَعِيرًا:
(قريبَة ندوته من محمضه ... )

(2/307)


[15] يَعْنِي الْموضع الَّذِي يندو فِيهِ. فَإِذا أردْت أَن الْفرس يفعل ذَلِك هُوَ وَلم تَفْعَلهُ أَتَت بِهِ قلت: قد ندا يندو ندوا. والندوة والمندى وَاحِد: وَهُوَ الْموضع الَّذِي ترعى فِيهِ بعد السَّقْي. قَالَ الْأَزْهَرِي: وللتندية معنى آخر: وَهُوَ تضمير الْفرس وإجراؤه حَتَّى يسيل عرقه، وَيُقَال لذَلِك الْعرق إِذا سَالَ: الندى. [15] والأكمة: مَوضِع مُرْتَفع من الأَرْض. [15] وَقَوله: فَألْحق رجلا مِنْهُم: أَي فلحقت. [15] قَوْله: خُذْهَا، يَعْنِي الرَّمية، [15] وَقَوله: فأعقربهم: أَي فأعقرهم. [15] والآرم: الْأَعْلَام. [15] وَقَوله: وَجَلَست على قرن. الْقرن: جبيل صَغِير مُنْفَرد. [15] والبرح: الشدَّة، يُقَال: برح فِي الْأَمر: إِذا اشْتَدَّ، وتباريح [الشوق] : توهجه، والبارح: الرّيح الْآتِيَة بِالتُّرَابِ فِي شدَّة هبوب. [15] وَقَول الأخرم لسَلمَة: لَا تحل بيني وَبَين الشَّهَادَة، يعلمك قُوَّة إِيمَان الصَّحَابَة وَشدَّة يقينهم. [15] وَقَوله: حَتَّى يعدلُوا: أَي حَتَّى عدلوا. [15] وَقَوله: فحليتهم: أَي طردتهم. وَأَصله الْهَمْز، يُقَال: حلأت الرجل عَن المَاء: إِذا منعته الْوُرُود، وَرجل محلأ: أَي مذود عَن المَاء

(2/308)


[15] ونغض الْكَتف: فَرعه. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أبي ذَر. [15] وَقَوله: وأرذوا فرسين: أَي تركوهما لفرارهم. وَبَعْضهمْ يَقُول: أردوا بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة، وَفَسرهُ بِأَنَّهُم عرضوهما للردى، وَلَيْسَ بِشَيْء. [15] والمذقة: من اللَّبن: الممذوق بِمَاء. والمذق خلط المَاء بِاللَّبنِ. [15] وَقَوله " إِنَّهُم الْآن يقرونَ " أَي يضافون ويطعمون من الْقرى. [15] وَقَوله: فطفرت: أَي وَثَبت. [15] وربطت عَلَيْهِ: أَي تَأَخَّرت عَنهُ شرفا أَو شرفين: أَي قدرا من الْمسَافَة ثمَّ إِنِّي رفعت: أَي زِدْت فِي الْعَدو. حَتَّى ألحقهُ: أَي لحقته. [15] فأصكه: أَي صككته. والصك: الضَّرْب على الْوَجْه خَاصَّة. قَالَ بعض الْعلمَاء: الصَّك ضرب الشَّيْء بالشَّيْء العريض. [15] وَاعْلَم أَن الْعَرَب تفرق فِي الضَّرْب، فَتَقول للضرب بِالرَّاحِ على مقدم الرَّأْس: صفع. وعَلى الْقَفَا: صقع. وعَلى الْوَجْه: صك. وعَلى الخد ببسط الْكَفّ. لطم. وبقبضتها: لكم. وبكلتا الْيَدَيْنِ: لدم. وعَلى الذقن والحنك. وهز. وعَلى الْجنب وخز. وعَلى الصَّدْر والبطن بالكف: وكز. وبالركبة: زبن. وَبِالرجلِ: ركل.

(2/309)


[15] وَقَوله: يخْطر بِسَيْفِهِ: أَي يهزه ويتبختر معجبا بِنَفسِهِ، متعرضا للمبارزة. [15] وَقَوله: شاكي السِّلَاح: أَي شائك السِّلَاح. [15] والبطل: الشجاع، يُقَال: بَطل بَين البطولة والبطالة. [15] والمغامر: المخاصم. ويروى: مغاور: أَي مقَاتل. [15] وَقَوله: ذهب يسفل لَهُ: أَي يحط يَده إِلَى أَسْفَل. [15] والأكحل: عرق. [15] وَقَوله: فَكَانَت فِيهَا نَفسه: أَي مَاتَ بذلك. [15] وَقَوله: أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي حيدرة: لما ولد عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام سَمَّاهُ أَبوهُ عليا، وسمته أمه أسدا باسم أَبِيهَا، فغلب عَلَيْهِ عَليّ، فَذكر مَا سمته بِهِ أمه لمناسبة مَا بَين الْحَرْب وصولة الْأسد. والحيدرة من أَسمَاء الْأسد، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنا الْأسد. [15] وَقَوله: كريه المنظرة. وَالْهَاء فِي حيدرة والمنظرة للاستراحة، فهما زائدتان. [15] وَأما السندرة، فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ شَجَرَة يصنع فِيهَا الْقَيْسِي والنبل. فَيحمل أَن يكون أَرَادَ مكيالا يتَّخذ من هَذِه الشَّجَرَة، سمي باسمها كَمَا يُسمى الْقوس نبعة باسم الشَّجَرَة الَّتِي أخذت مِنْهَا. فَإِن كَانَ كَذَلِك فَإِنِّي أَحسب الْكَيْل بهَا كَيْلا جرفا. قلت: وَظَاهر الحَدِيث يدل على أَن الَّذِي ولي قتل مرحب عَليّ

(2/310)


عَلَيْهِ السَّلَام. وَقد حكى مُحَمَّد بن سعد أَن مُحَمَّد بن مسلمة قتل مرْحَبًا يَوْمئِذٍ، ودفق عَلَيْهِ عَليّ بعد أَن أثْبته مُحَمَّد.
814 - / 973 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رجلا أكل بِشمَالِهِ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كل بيمينك " قَالَ: لَا أَسْتَطِيع. قَالَ: " لَا اسْتَطَعْت " مَا مَنعه إِلَّا الْكبر. [15] وَالْمعْنَى أَنه كَانَ لَا يحتفل للطعام وَلَا يُبَالِي فيتناوله باليسرى. وَيَنْبَغِي للعاقل أَن يعرف قدر مَا جعل قواما لَهُ.
813 - / 975 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: عدنا رجلا موعوكا، فَوضعت يَدي عَلَيْهِ فَقلت: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رجلا أَشد حرا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَلا أخْبركُم بأشد حرا مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة؟ هاذينك الرجلَيْن المقفيين ". [15] كَأَن الْإِشَارَة إِلَى رجلَيْنِ من الْمُنَافِقين انْطَلقَا. والمنطلق يرى قَفاهُ لَا وَجهه. آخر مَا فِي مسانيد الْمُتَقَدِّمين بعد الْعشْرَة

(2/311)


وَأول مسانيد المكثرين
(75) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن الْعَبَّاس
[15] ولد فِي الشّعب وَبَنُو هَاشم محصورون فِيهِ قبل خُرُوجهمْ مِنْهُ بِيَسِير، وَذَلِكَ قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، وَرَأى جِبْرِيل مرَّتَيْنِ، ودعا لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحكمة وَالْفِقْه والتأويل، فَكَانَ حبر الْأمة، وَكَانَ يُسمى الْبَحْر لغزارة علمه. [15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف حَدِيث وسِتمِائَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِائَتَا حَدِيث وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا.
814 - / 977 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَجود النَّاس، وَكَانَ أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان حِين يلقاه جِبْرِيل. [15] الْجُود: كَثْرَة الْإِعْطَاء. وَإِنَّمَا كثر جوده عَلَيْهِ السَّلَام فِي رَمَضَان لخمسة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنه شهر فَاضل، وثواب الصَّدَقَة يتضاعف فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَات. قَالَ الزُّهْرِيّ: تَسْبِيحَة فِي رَمَضَان خير من

(2/312)


سبعين فِي غَيره. وَالثَّانِي: أَنه شهر الصَّوْم، فإعطاء النَّاس إِعَانَة لَهُم على الْفطر والسحور. وَالثَّالِث: أَن إنعام الْحق يكثر فِيهِ، فقد جَاءَ فِي الحَدِيث: أَنه يُزَاد فِيهِ رزق الْمُؤمن، وَأَنه يعْتق فِيهِ كل يَوْم ألف عَتيق من النَّار. فَأحب الرَّسُول أَن يُوَافق ربه عز وَجل فِي الْكَرم. وَالرَّابِع: أَن كَثْرَة الْجُود كالشكر لترداد جِبْرِيل إِلَيْهِ فِي كل لَيْلَة. وَالْخَامِس: أَنه لما كَانَ يدارسه الْقُرْآن فِي كل لَيْلَة من رَمَضَان زَادَت معاينته الْآخِرَة، فَأخْرج مَا فِي يَدَيْهِ من الدُّنْيَا.
815 - / 978 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: خرج رَسُول الله فِي رَمَضَان حَتَّى بلغ الكديد فَأفْطر. [15] الكديد بِفَتْح الْكَاف اسْم مَاء بَين عسفان وقديد. [15] وَقَوله: فَصبح مَكَّة: أَي جاءها صباحا. [15] وَقَوله: وَقد صَامَ فِي السّفر وَأفْطر. دَلِيل على أَن من صَامَ أَجْزَأَ عَنهُ، خلافًا لداود. [15] والغدير: مستنقع المَاء. وَإِنَّمَا سمي غديرا لِأَن السَّيْل غَادَرَهُ: أَي تَركه فِي الأَرْض المنخفضة الَّتِي تمسكه. [15] والظهيرة: وَقت اشتداد الْحر. ونحرها: اشتدادها. وَنحر كل شَيْء أَوله.

(2/313)


[15] وَقَوله: فَكَانَ أَصْحَابه يتبعُون الأحدث فالأحدث من أمره. من كَلَام الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا دَرَجه الرَّاوِي فِي الحَدِيث وَلم يبين. وَقد بَين ذَلِك معمر بن رَاشد وَمُحَمّد بن إِسْحَق عَن الزُّهْرِيّ.
816 - / 979 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: استفتى سعد بن عبَادَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نذر كَانَ على أمه، توفيت قبل أَن تقضيه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اقضه عَنْهَا ". [15] هَذَا الحَدِيث يدل على أَن صَوْم النّذر يَقْضِيه الْوَلِيّ عَن الْمَيِّت. وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد، وَالْقَدِيم من قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَدَاوُد: لَا يصام عَنهُ. والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم. [15] وَأما المخرف فَهُوَ الْبُسْتَان الَّذِي تخترف مِنْهُ الثِّمَار. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ جنى النّخل، وَجمعه مخارف، وَإِنَّمَا سمي مخرفا لِأَنَّهُ يخْتَرف مِنْهُ: أَي يجتنى. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هَذَا غلط؛ لِأَن جنى النّخل مخروف، فَأَما المخرف فَإِنَّهُ النّخل نَفسه. فَقَوله: إِن لي مخرفا. يُرِيد نخلا. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن ثَوَاب القربات إِذْ فعلت للْمَيت وصل إِلَيْهِ.
817 - / 980 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: لما حضر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ".

(2/314)


[15] اخْتلف الْعلمَاء فِي الَّذِي أَرَادَ أَن يكْتب لَهُم على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن ينص على الْخَلِيفَة بعده. وَالثَّانِي: أَن يكْتب كتابا فِي الْأَحْكَام يرْتَفع مَعَه الْخلاف، وَالْأول أظهر. [15] وَقَوله: حسبكم كتاب الله: أَي يكفيكم. قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا ذهب عمر إِلَى أَنه لَو نَص بِمَا يزِيل الْخلاف لبطلت فَضِيلَة الْعلمَاء، وَعدم الِاجْتِهَاد. قلت: وَهَذَا غلط من الْخطابِيّ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن مضمونه أَن رَأْي عمر أَجود من رَأْي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: أَنه لَو نَص على شَيْء أَو أَشْيَاء لم يبطل الِاجْتِهَاد، لِأَن الْحَوَادِث أَكثر من أَن تحصر، وَإِنَّمَا خَافَ عمر أَن يكون مَا يَكْتُبهُ فِي حَالَة غَلَبَة الْمَرَض الَّذِي لَا يعقل مَعهَا القَوْل، وَلَو تيقنوا أَنه قَالَ مَعَ الْإِفَاقَة لبادروا إِلَيْهِ. وَهُوَ معنى قَوْلهم: هجر. وَإِنَّمَا قَالُوهُ استفهاما، أَي: أتراه يهجر: أَي يتَكَلَّم بِكَلَام الْمَرِيض الَّذِي لَا يدْرِي بِهِ؟ [15] واللغط: اخْتِلَاط الْأَصْوَات. [15] والرزية: من الرزء. والرزء: الْمُصِيبَة. [15] وَقَوله: " فَالَّذِي أَنا فِيهِ خير " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا قد كَانَ يعانيه فِي مَرضه مِمَّا أعد لَهُ من الْكَرَامَة. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: فَإِن امتناعي من أَن أكتب لكم خير مِمَّا تدعونني إِلَيْهِ من الْكِتَابَة. فَأَما جَزِيرَة الْعَرَب فقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر.

(2/315)


[15] وَقَوله: " أجيزوا الْوَفْد " أَي أعطوهم. والجائزة: الْعَطاء.
818 - / 981 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " أَقْرَأَنِي جِبْرِيل على حرف فراجعته، فَلم أزل أستزيده حَتَّى انْتهى إِلَى سَبْعَة أحرف ". [15] قَالَ الزُّهْرِيّ: بَلغنِي أَن تِلْكَ الأحرف إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمر الَّذِي يكون وَاحِدًا لَا يخْتَلف فِي حَلَال وَلَا حرَام. [15] وَقد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر. وَبِمَا حكيناه هُنَالك عَن أبي عبيد ينْكَشف معنى قَول الزُّهْرِيّ هَاهُنَا.
819 - / 982 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَقبلت رَاكِبًا على أتان وَقد ناهزت الْحلم، فَنزلت وَأرْسلت الأتان ترتع. [15] الأتان: الْحمار. [15] وناهزت الشَّيْء: قربت مِنْهُ. [15] وترتع: تتسع فِي المرعى.
820 - / 983 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: مر بِشَاة ميتَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هلا انتفعتم بإهابها " وَفِي لفظ: " فدبغتموه فانتفعتم بِهِ ". [15] الْحَيَوَان عندنَا على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: مَا لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي نَجَاسَته حَيا وَمَيتًا، وَهُوَ الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهَا، فَهَذَا لَا يطهر جلده، قولا وَاحِدًا. وَالثَّانِي: مَا لَا يخْتَلف

(2/316)


الْمَذْهَب فِي طَهَارَته حَال الْحَيَاة، وَهُوَ مَا يحل أكله، فَفِي طَهَارَة جلده بالدباغ إِذا مَاتَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه لَا يطهر، وَهُوَ قَول طَاوس وَسَالم بن عبد الله، وَالثَّانيَِة: يطهر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَعَن مَالك كالروايتين. [15] وَالثَّالِث: مَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي طَهَارَته حَيا على رِوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَا لَا يحل أكله غير الْكَلْب وَالْخِنْزِير والمتولد مِنْهُمَا، فَهَذَا إِنَّمَا يطهر جلده بالدباغ على الرِّوَايَة الَّتِي تَقول إِنَّه طَاهِر. وَقَالَ الشَّافِعِي: كل الْجُلُود تطهر إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَدَاوُد: وَجلد الْخِنْزِير. وَإِذا قلت: لَا تطهر جُلُود الْميتَة أجبنا عَن هَذَا الحَدِيث بِثَلَاثَة أجوبة: أَحدهَا: الطعْن وَإِن كَانَ فِي الصِّحَاح. قَالَ أَحْمد: لم يَصح عِنْدِي فِي الدّباغ حَدِيث، وأصحها حَدِيث ابْن عكيم، وَالْجرْح مقدم على التَّعْدِيل. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم. قد اضْطَرَبُوا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: فَتَارَة يجعلونه سَمَاعا لِابْنِ عَبَّاس عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، وَتارَة عَن مَيْمُونَة، وَتارَة عَن سَوْدَة. وَالثَّانِي: أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن عكيم. قَالَ الْأَثْرَم: حَدِيث ابْن عكيم أثبت الْأَحَادِيث؛ لِأَنَّهُ كَأَن نَاسخ لما قبله، أَلا ترَاهُ يَقُول: قبل مَوته بِشَهْر. ويؤكد

(2/317)


هَذَا أَنه يَقْتَضِي الْحَظْر، والحظر مقدم على الْإِبَاحَة. وَالثَّالِث: أَنه يَجعله على الِانْتِفَاع بِهِ فِي اليابسات. وَلنَا رِوَايَة فِي جَوَاز ذَلِك. [15] فَأَما الإهاب فَإِنَّهُ اسْم للجلد. وَقيل: هُوَ الْجلد قبل أَن يدبغ، وَجمعه أهب على فعل. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: إِنَّمَا يُقَال الإهاب لجلد مَا يُؤْكَل لَحْمه.
821 - / 984 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: كَانَ أهل الْكتاب يسدلون أشعارهم، فسدل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناصيته. [15] سدلت وأسبلت وَأرْسلت بِمَعْنى. والناصية: مقدم شعر الرَّأْس.
822 - / 986 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: طَاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع على بعير يسْتَلم الرُّكْن بمحجن. [15] والمحجن: الْعَصَا المعوجة الطّرف.
823 - / 986 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: رَأَيْت اللَّيْلَة فِي الْمَنَام ظلة تنطف السّمن وَالْعَسَل، وَأرى النَّاس يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِم، فالمستكثر والمستقل. [15] والظلة: السحابة، وكل شَيْء أظلك من فَوْقك فَهُوَ ظلة.

(2/318)


[15] وتنطف: تقطر. يُقَال: نطف ينطف بِضَم الطَّاء وَكسرهَا، والمصدر النطف بِفَتْحِهَا، ويتكففون: أَي يَأْخُذُونَ بأكفهم. [15] وَالسَّبَب الْوَاصِل: الْحَبل الْمَمْدُود. [15] وَقَوله: " اعبرها " يُقَال: عبرت الرُّؤْيَا وعبرتها، أعبرها عبرا وتعبيرا. قَالَ الزّجاج: وَالْمعْنَى خبرت بآخر مَا يؤول إِلَيْهِ أمرهَا. واشتقاقه من عبر النَّهر: وَهُوَ شاطىء النَّهر. فَتَأْوِيل عبرت النَّهر: بلغت إِلَى عبره: أَي إِلَى شطه: وَهُوَ آخر عرضه. [15] وَقَوله: " أصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا " فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَوضِع الْخَطَأ أَنه عبر السّمن وَالْعَسَل بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ حَقه أَن يعبر كل وَاحِد مِنْهُمَا بِشَيْء، قَالَ بعض الْعلمَاء: كَانَ يَنْبَغِي أَن يعبرهما بِالْكتاب وَالسّنة. وَحكى أَبُو بكر الْخَطِيب عَن بعض الْعلمَاء قَالَ: أهل الْعلم بِعِبَارَة الرُّؤْيَا يذهبون إِلَى أَنَّهُمَا شَيْئَانِ، كل وَاحِد مِنْهُمَا غير صَاحبه، من أصلين مُخْتَلفين، وَأَبُو بكر ردهما إِلَى أصل وَاحِد وَهُوَ الْقُرْآن. وَمن الْحجَّة لمن قَالَ هَذَا مَا أَنبأَنَا بِهِ ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن واهب بن عبد الله عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: رَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم كَأَن فِي إِحْدَى إصبعي سمنا وَفِي الْأُخْرَى عسلا وَأَنا ألعقهما، فَلَمَّا أَصبَحت ذكرت ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: " تقْرَأ الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاة

(2/319)


وَالْفرْقَان " فَكَانَ يقرؤهما. وَالثَّانِي: أَن الْخَطَأ تَفْسِيره بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا بعد، لقَوْله: " أصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا " وَإِنَّمَا الْإِشَارَة إِلَى تَعْبِير الرُّؤْيَا. [15] وَفِي قَوْله: " لَا تقسم " دَلِيل على أَن أمره بإبرار الْمقسم خَاص المُرَاد، وَيحْتَمل مَنعه إِيَّاه الْجَواب ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن التَّعْبِير الَّذِي صَوبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعضه وَخَطأَهُ فِي بعضه كَانَ من جِهَة الظَّن لَا من قبل الْوَحْي، فَظن رَسُول يجوز أَن يَقع فِيهِ الْخَطَأ. كَمَا ظن أَنهم لَو تركُوا تلقيح النّخل لم يضر. ذكر هَذَا القَوْل أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّانِي: أَنه علم غيب، فَجَاز أَن يخْتَص بِهِ ويخفيه عَن غَيره. وَالثَّالِث: أَنه لما أقدم أَبُو بكر على تَعْبِير الرُّؤْيَا وَلم يصبر للإستفادة من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنعه الإفادة الثَّانِيَة، كالعقوبة للْفِعْل الأول. [15] وَقَوله: " من رأى رُؤْيا فليقصها " أَي ليذكرها على مَا رَآهَا. يُقَال: فلَان يقص الحَدِيث: أَي يذكرهُ على مَا نَقله.
824 - / 989 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " لَيْسَ لنا مثل السوء. الَّذِي يعود فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ". [15] الْمَعْنى: لَا يصلح ضرب الْمثل الْقَبِيح لنا، إِنَّمَا يضْرب لغيرنا، وَهَذَا تَقْدِيم الِاعْتِذَار عَمَّا يستوحش.

(2/320)


825 - / 990 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر التلاعن عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ عَاصِم بن عدي فِي ذَلِك قولا ثمَّ انْصَرف. [15] يشبه أَن يكون ذَلِك القَوْل مَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود من قَوْلهم: إِن وجد رجل مَعَ امْرَأَته رجلا فَقتله، أتقتلونه؟ [15] وَقَول عَاصِم: مَا ابْتليت بِهَذَا. أَي بشكوى هَذَا الرجل إِلَيّ. إِلَّا بِقَوْلِي: أَي: بِمَا قلته. [15] وَقَوله: سبط الشّعْر. يُقَال: شعر سبط وسبط: إِذا كَانَ سهلاً غير متجعد. والجعد المنثني. فَإِذا زَادَت جعودة الشّعْر فَهُوَ القطط. [15] والخدل: الممتلىء الْأَعْضَاء الدَّقِيق الْعِظَام. [15] والآدم: الأسمر. [15] وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود اسْم هَذَا الرجل الَّذِي قذف امْرَأَته. [15] وَقَوله: كَانَت تظهر السوء: يَعْنِي الْقَبِيح، يُشِير بذلك إِلَى الزِّنَا.
826 - / 991 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: لَو أَن النَّاس غضوا من الثُّلُث إِلَى الرّبع، فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " وَالثلث كثير ". [15] غضوا بِمَعْنى نَقَصُوا. وَمِنْه غض الْبَصَر. وعَلى فلَان فِي هَذَا غَضَاضَة. وَالْمرَاد الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ خَافَ من قَوْله: " وَالثلث كثير " أَن يكون قد كره ذَلِك الْمِقْدَار.

(2/321)


827 - / 993 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: انخسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] انخسفت بِمَعْنى انكسفت. وَقد قيل: الخسوف للقمر والكسوف للشمس، فعلى هَذَا يكون مستعارا. وَقيل: إِذا ذهب بَعْضهَا فَهُوَ الْكُسُوف، وَإِذا ذهب الْجَمِيع فَهُوَ الخسوف. [15] وَقد ذكرت صَلَاة الْكُسُوف فِي هَذَا الحَدِيث. وَذكر فِي كل رَكْعَة ركوعان، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقد رُوِيَ عَن أَحْمد فِي كل رَكْعَة أَربع ركوعات، وَهُوَ مَذْكُور فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: صَلَاة الْكُسُوف كَهَيئَةِ صَلَاتنَا، ثمَّ ندعوا حَتَّى تنجلي. [15] وَالسّنة عندنَا فِي صَلَاة كسوف الشَّمْس الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ. وَهَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر فِي صَلَاة الخسوف بقرَاءَته. وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: يسر بِالْقِرَاءَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس: فحزرنا قِرَاءَته. فَلَو كَانَ جهر لاستغني عَن الحزر، وَالْجَوَاب أَن عَائِشَة أَثْبَتَت، وَقَول الْمُثبت مقدم. وَمن الْجَائِز أَن يكون ابْن عَبَّاس قد كَانَ فِي آخر الصُّفُوف فَلم يسمع، فَاحْتَاجَ إِلَى الحزر، ثمَّ قد يكون قَرِيبا فيشاغل بِالسَّمَاعِ عَن معرفَة مِقْدَار التِّلَاوَة. [15] وَالْمُسْتَحب فِي خُسُوف الْقَمَر أَن يصلوا جمَاعَة كَمَا يصلونَ فِي

(2/322)


كسوف الشَّمْس. وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك لَيْسَ فِي خُسُوف الْقَمَر صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، بل يصلونَ فِي بُيُوتهم فُرَادَى كَهَيئَةِ صَلَاتنَا. وَلَا يسن فِي الكسوفين خطْبَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ الشَّافِعِي: يسْتَحبّ أَن يخْطب بعد الصَّلَاة خطبتين كَمَا يخْطب لصَلَاة الْعِيد. [15] وتجلت بِمَعْنى انكشفت وَظَهَرت. [15] وَقَوله: " تناولت شَيْئا فِي مقامك " الْمقَام بِفَتْح الْمِيم: مَوضِع الْإِقَامَة، وَرُبمَا استعملوا هَذِه اللَّفْظَة لهَذِهِ. [15] وتكعكع بِمَعْنى تَأَخّر وَلم يتَقَدَّم. وَيُقَال: تكعكع وكع، وتكأكأ: إِذا جبن عَن الْإِقْدَام. [15] وَقَوله: " فَلم أر منْظرًا أفظع " أَي أهول. يُقَال: أفظع الْأَمر فَهُوَ فظيع ومفظع: إِذا كَانَ شَدِيدا هائلا. وَفِي الْكَلَام إِضْمَار " مِنْهُ ". قَالَ طَلْحَة يَوْم الْجمل: لم أر كَالْيَوْمِ مصرع شيخ أضيع. والعشير: الصاحب وَالزَّوْج والمعاشر، وَكله من الْعشْرَة.
828 - / 994 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل عرقا أَو لَحْمًا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ. الْعرق: الْعظم الَّذِي يُؤْخَذ عَنهُ اللَّحْم فَيبقى عَلَيْهِ بَقِيَّة مِنْهُ، وَجمعه

(2/323)


عراق، وَهُوَ جمع نَادِر وَتقول: عرقت اللَّحْم وتعرقته واعترقته: إِذا أخذت عَنهُ اللَّحْم بأسنانك. [15] وَالْمرَاد من هَذَا الحَدِيث أَنه نَاسخ لقَوْله: " توضؤوا مِمَّا مست النَّار " وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة إِن شَاءَ الله.
829 - / 995 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: قَالَت الْمَرْأَة: إِن فَرِيضَة الله فِي الْحَج أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يَسْتَطِيع أَن يثبت على الرَّاحِلَة، أفحج عَنهُ؟ قَالَ: " نعم ". [15] أَرَادَت هَذِه الْمَرْأَة أَن أَبَاهَا أسلم على الْكبر، وَمن أدْركهُ الْكبر أَو الزَّمن وَلم يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة وَجب عَلَيْهِ عندنَا أَن يَسْتَنِيب من يحجّ عَنهُ إِذا قدر على المَال، سَوَاء كَانَ لَهُ مَال قبل عذره أَو طَرَأَ بعد عذره وَلَا يلْزمه، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك: العضب يسْقط الْحَج بِكُل حَال، وَلَا يلْزم الْإِنْسَان أَن يَسْتَنِيب فِي الْحَج. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تجب الِاسْتِنَابَة إِلَّا على من اسْتَقر الْوُجُوب فِي ذمَّته، فَإِذا تقدم العضب على الْوُجُوب لم يجب. وَاعْلَم أَنه إِذا حج هَذَا النَّائِب وَقع عَن المستنيب، وَهُوَ قَول مَالك

(2/324)


وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَقع الْحَج على الْحَاج تَطَوّعا وَلَا يَقع على المستنيب إِلَّا ثَوَاب النَّفَقَة. وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على هَذَا، فَإِن عوفي المستنيب من العضب لم يلْزمه الْحَج خلافًا لأبي حنيفَة.
830 - / 996 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: وَقد أنقذ الإشفى فِي كفها. الأشفى مَقْصُورَة، وَهِي حَدِيدَة يخرز بهَا. والعامة تَقول: الشفى.
831 - / 997 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: أَنه قَالَ يَوْم فتح مَكَّة: " لَا هِجْرَة، وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة ". [15] قَوْله: " لَا هِجْرَة " إِنَّمَا وَجَبت الْهِجْرَة لمعنيين: أَحدهمَا: نصْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ كَانَ فِي قلَّة، فَوَجَبَ على النَّاس النفير إِلَيْهِ لنصره على أعدائه. وَالثَّانِي: لاقتباس الْعلم وَفهم الدّين. وَكَانَ أعظم الْمخوف عَلَيْهِم مَكَّة، فَلَمَّا فتحت أَمن الْمُسلمُونَ وانتشر الدّين، فَقيل للنَّاس: قد انْقَطَعت الْهِجْرَة وَبقيت نِيَّة المجاهدة، وَكُونُوا مستعدين، فَإِذا دعيتم إِلَى عَدو فانفروا. [15] وَقَوله: " لم تحل إِلَّا سَاعَة من نَهَار " أَي حل لي فِيهَا إِرَاقَة الدَّم، وَلم يرد بِهِ حل الصَّيْد وَقطع الشّجر. وَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَنَّهَا فتحت عنْوَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: فتحت صلحا. [15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن جنى ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم، فروى الْمروزِي

(2/325)


عَن أَحْمد أَنه إِذا قتل أَو قطع يدا أَو أقنى حدا فِي غير الْحرم ثمَّ دخله لم يقم عَلَيْهِ الْحَد، وَلم يقْتَصّ مِنْهُ، وَلَكِن لَا يُبَايع وَلَا يشارى وَلَا يؤاكل حَتَّى يخرج. فَإِن فعل شَيْئا من ذَلِك فِي الْحرم استوفى مِنْهُ. وروى عَنهُ حَنْبَل أَنه إِن قتل خَارج الْحرم ثمَّ دخله لم يقتل، وَإِن كَانَت الْجِنَايَة دون النَّفس أقيم عَلَيْهِ الْحَد، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يُقَام عَلَيْهِ جَمِيع ذَلِك فِي النَّفس وَمَا دونهَا. [15] وَقَوله: " لَا يعضد شوكه " أَي لَا يكسر. والعضد: قطع الشّجر بالمعضد: وَهُوَ كالسيف يمتهن فِي قطع الشّجر. وَيُسمى مَا قطع من الشّجر إِذا عضدت العضيد والعضد. [15] وَقَوله: " وَلَا ينفر صَيْده " أَي لَا يزعج عَن مَكَانَهُ، فَإِنَّهُ إِذا تعرض لَهُ بالاصطياد نفر. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِذا كَانَ أَيْضا فِي ظلّ شَجَرَة لم ينفره الرجل ليستظل بهَا. [15] وَقَوله: " وَلَا تلْتَقط لقطته إِلَّا من عرفهَا " عندنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَن لقطَة الْحرم لَا يحل أَن يَأْخُذهَا إِلَّا من يعرفهَا أبدا وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهَا كَسَائِر اللقط. وَعَن الشَّافِعِي كالروايتين. فعلى الرِّوَايَة الأولى الْأَمر فِي اللّقطَة ظَاهر، وعَلى الثَّانِيَة يكون الْفرق بَين لقطَة الْحرم وَغَيره أَن لقطَة غير الْحرم إِذا كَانَت يسيره لم يجب تَعْرِيفهَا بِخِلَاف لقطَة الْحرم، فَإِنَّهُ يجب تَعْرِيفهَا وَإِن قلت. وفقهه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن سَاكِني مَكَّة يَحْتَاجُونَ إِلَى الْيَسِير لشدَّة فَقرهمْ. وَالثَّانِي: أَن يكون ذَلِك التَّخْصِيص لتعظيم الْمَكَان، فَإِن الْحَسَنَة تضَاعف بهَا، والسيئة أَيْضا.

(2/326)


[15] قَوْله: " وَلَا يخْتَلى خلاه " الخلا بِالْقصرِ: الْحَشِيش الرطب، الْوَاحِدَة خلاة. فَإِذا مددته فَهُوَ الْمَكَان الْخَالِي. وَكَانَ الشَّافِعِي يَقُول: لَا يحتش فِي الْحرم، فَأَما الرَّعْي فَلَا بَأْس. [15] وَقَوله: " لمن ينشدها " أَي يعرفهَا. والمنشد: الْمُعَرّف. وَقد ذهب بَعضهم إِلَى معنى لَو صَحَّ فِيهِ اللَّفْظ لَكَانَ حسنا، فَقَالَ: المنشد: صَاحب اللّقطَة، وَالْمعْنَى: لَا تحل لقطتهَا إِلَّا لِرَبِّهَا. قَالَ أَبُو عبيد: لَا يجوز فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال للطَّالِب منشد، إِنَّمَا المنشد الْمُعَرّف، والطالب هُوَ الناشد. [15] والإذخر: نَبَات مَعْرُوف. والقين: الْحداد. وَقد اسْتدلَّ بَعضهم على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحكم بِاجْتِهَادِهِ، بقول الْعَبَّاس فِي أثْنَاء الْكَلَام: إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِلَّا الْإِذْخر " وَلم ينْتَظر الْوَحْي. قَالَ ابْن عقيل: هَذَا اسْتِدْلَال أبله، فَإِن الْوَحْي كَانَ أقرب إِلَى قلبه من الِاسْتِثْنَاء إِلَى لِسَانه، وَإِنَّمَا هَذَا قَول من يظنّ أَن قطع الْمسَافَة بِالْوَحْي كَقطع الْمسَافَة بالكلف. أَو لَيْسَ الْقُدْرَة الْمنزلَة للإلهام إِلَى قلبه الْكَرِيم أَو الْوَحْي على لِسَان الْملك هِيَ الَّتِي أحضرت عرش بلقيس قبل ارتداد الطّرف؟ فَهَذِهِ الْغَفْلَة عَن مِقْدَار سرعَة الإيحاء. ثمَّ إِنَّمَا يشكل هَذَا على من لم يعلم مَادَّة جِبْرِيل، فيستبعد صعُود جسم ونزوله، وَلَو فطنوا أَن الْمَلَائِكَة فِي الْحَقِيقَة كاشفة تَنْتَشِر وتنقبض، بَيْنَمَا جِبْرِيل ظهر

(2/327)


ناشرا جناحيه من الْمشرق إِلَى الْمغرب، تصور فِي صُورَة دحْيَة، وحوته الْحُجْرَة، وَدخل تَحت العباءة، وَتدْخل الْمَلَائِكَة إِلَى ضيق اللحود. وَقد وجدنَا شُعَاع الشَّمْس سَاعَة تطلع من الْمشرق إِلَى الْمغرب فِي وَقت وَاحِد، وَلَو رفعت إجانة عَن مِصْبَاح انبسط فِي الْآفَاق، وآكد من هَذَا مَا نرَاهُ فِي نفوسنا حِين نرفع الجفن عَن الْعين فنرى الأفلاك ونجومها إدراكا لَهَا بالشعاع المنبعث من عيوننا إِلَى ذَلِك الْمحل الْأَعْلَى قَاطعا لتِلْك المساحة، فَلَا يَخْلُو جِبْرِيل أَن يكون من جنس تِلْكَ الْأَنْوَار، أَو يكون قد جعلت فِيهِ من سرعَة الْحَرَكَة مَا جعل فِي الْأَنْوَار. [15] والعضاه: شجر ذُو شوك كالطلح. يُقَال: أَرض عضهة: إِذا كَانَت كَثِيرَة العضاه. وبعير عضه: إِذا كَانَ يَأْكُل الْعضَاة.
832 - / 998 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: " وَمَا يعذبان فِي كَبِير ". [15] فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا أَن هَذَا لَيْسَ من الْكَبَائِر، فَإِنَّهَا قد عدت فِي أَحَادِيث، فَيكون الْمَعْنى التحذير من الْكَبَائِر؛ لِأَنَّهُ إِذا وَقع الْعَذَاب فِي الْقَبْر على مَا لَيْسَ من الْكَبَائِر فَكيف بالكبائر؟ وَالثَّانِي: أَنه لَيْسَ المُرَاد أَن هَذَا لَيْسَ بكبير فِي بَاب الدّين، وَلكنه لَيْسَ بكبير على فَاعله، إِذْ النثرة من الْبَوْل لَا تشق، وَترك النميمة سهل. والنميمة: أَن ينْقل الْإِنْسَان ذكرا قبيحا عَن شخص إِلَى شخص. وَيُقَال للنمام: قَتَّات وديبوب، وتلاع، وقساس، ونمال.

(2/328)


[15] وَقَوله: " لَا يسْتَتر من بَوْله " أَي لَا يَجْعَل بَينه وَبَينه مَا يستره مِنْهُ. وَمن روى: " لَا يستنزه " فَالْمَعْنى: لَا يتباعد، وَمَكَان نزيه: خَال من الأنيس. [15] والعسيب من النّخل كالقضيب من الشَّجَرَة. وَإِنَّمَا غرس عسيبا رطبا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يظْهر عَلَيْهِمَا بركَة مَمَره. فَكَأَنَّهُ سَأَلَ لَهما التَّخْفِيف، فَجعل رُطُوبَة العسيب حدا لمُدَّة التَّخْفِيف. وَهَذَا سَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر، أدرجه مُسلم فِي مُسْند أبي الْيُسْر، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنِّي مَرَرْت بقبرين يعذبان، فَأَحْبَبْت بشفاعتي أَن يرفه عَنْهُمَا مَا دَامَ هَذَا الغصنان رطبين " وَهَذَا كَانَ لبركة شَفَاعَته. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند الْعَبَّاس أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عمك أَبُو طَالب كَانَ يحوطك وَيفْعل، فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك؟ قَالَ: " نعم، وجدته فِي غَمَرَات من النَّار فَأَخْرَجته إِلَى ضحضاح ". فَأَما مَا يحْكى عَن الرافضة أَنهم يجْعَلُونَ مَعَ الْمَيِّت سعفة رطبَة فَلَا وجد لَهُ.
833 - / 999 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نسجد على سَبْعَة أَعْضَاء: الْجَبْهَة، وَالْيَدَيْنِ، والركبتين، وَالرّجلَيْنِ. [15] عندنَا أَنه يجب السُّجُود على هَذِه الْأَعْضَاء، وَهُوَ قَول مَالك، وَأحد قولي الشَّافِعِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَا يجب إِلَّا على الْجَبْهَة،

(2/329)


وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن يسْجد على أَنفه دون جَبهته. فعندنا أَنه لَا يجْزِيه، رِوَايَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجْزِيه. فَأَما إِذا سجد على جَبهته دون أَنفه فَهَل يجْزِيه، عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه يجْزِيه، وَهِي الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، وَبهَا قَالَ أَكثر الْفُقَهَاء. [15] وَاعْلَم أَن بدن الْإِنْسَان سَبْعَة أَعْضَاء: يَدَاهُ، وَرجلَاهُ، وَرَأسه، وظهره، وبطنه. فَأمر بِوَضْع هَذِه الْأَعْضَاء على الأَرْض ذلا لخالقه، فَحصل الْمَقْصُود من الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ، فَبَقيَ الظّهْر والبطن، فَلَو وَقع على بَطْنه فَاتَ ذل الظّهْر، وَلَو اسْتلْقى على ظَهره فَاتَ ذل بَاقِي الْأَعْضَاء. فَكَانَ السُّجُود جَامعا لذل الْبَطن وَالظّهْر. [15] وَقَوله: وَلَا نكفت الثِّيَاب: أَي لَا نضمها ونجمعها من الانتشار، قَالَ تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا} [المرسلات: 25] وَالْمعْنَى أَنَّهَا تضم أَهلهَا أَحيَاء على ظهرهَا وأمواتا فِي بَطنهَا. يُقَال: اكفت هَذَا إِلَيْك: أَي ضمه. وَكَانُوا يسمون بَقِيع الْغَرْقَد كفتة. لِأَنَّهُ مَقْبرَة للموتى. وَالْمرَاد أَن لَا تَقِيّ شعورنا وثيابنا عِنْد السُّجُود التُّرَاب صِيَانة لَهَا، بل نرسلها حَتَّى تقع على الأَرْض، فتسجد مَعَ الْأَعْضَاء. [15] وَقَوله: معقوص أَي مضفور. وعقص الشّعْر: ضفره وفتله. [15] وَقَوله: وَهُوَ مكتوف: أَي مربوط مشدود.
834 - / 1000 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس، أما الَّذِي نهى عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ الطَّعَام أَن يُبَاع حَتَّى يقبض. وَلَا

(2/330)


أَحسب كل شَيْء إِلَّا مثله. وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه " قلت لِابْنِ عَبَّاس: كَيفَ ذَاك؟ قَالَ: دَرَاهِم بِدَرَاهِم، وَالطَّعَام مرجاً. [15] اعْلَم أَن القبوض تخْتَلف، فَمِنْهَا مَا يكون بِالْيَدِ، وَمِنْهَا بِالتَّخْلِيَةِ بَينه وَبَين المُشْتَرِي، وَمِنْهَا بِالنَّقْلِ من مَوْضِعه، وَمِنْهَا بِأَن يكتال، وَذَاكَ يكون فِيمَا يُكَال. فَإِذا بيع الطَّعَام وَهُوَ صبرَة فَقَبضهُ نَقله من مَكَانَهُ، فَإِن بيع بِالْكَيْلِ لم يجز للْمُشْتَرِي أَن يَبِيعهُ دون أَن يُعِيد الْكَيْل عَلَيْهِ. وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن الْكَيْل قد يخْتَلف، فَرُبمَا حصل فِي الْكَيْل الثَّانِي زِيَادَة فَكَانَت للْبَائِع، أَو نقص فَكَانَ التَّمام عَلَيْهِ. [15] وَكَذَلِكَ الْمَوْزُون والمذروع الْمَعْدُود. وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَة فِي الْمكيل وَالْمَوْزُون كَقَوْلِنَا، وَفِي المذروع يجوز رِوَايَة وَاحِدَة. وَله فِي الْمَعْدُود رِوَايَتَانِ. [15] وَأما قَول ابْن عَبَّاس: وَالطَّعَام مرجأ، فَإِنَّهُ تَأَول هَذَا على السّلف، وَذَلِكَ أَن يَشْتَرِي الرجل من الرجل طَعَاما بِمِائَة إِلَى أجل، ثمَّ يَبِيعهُ مِنْهُ قبل قَبضه مِنْهُ بِمِائَة وَعشْرين، فَهَذَا غير جَائِز، لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِير بيع دَرَاهِم بِدَرَاهِم وَالطَّعَام غَائِب.
835 - / 1001 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: أَنه خرج إِلَى أَرض تهتز زرعا فَقَالَ: " لمن هَذِه؟ " فَقَالُوا: اكتراها فلَان. فَقَالَ " أما إِنَّه لَو منحها إِيَّاه كَانَ خيرا لَهُ من أَن يَأْخُذ عَلَيْهَا أجرا مَعْلُوما ".

(2/331)


[15] هَذَا الحَدِيث مُبين فِي مُسْند رَافع بن خديج. ومنحة الأَرْض: إِبَاحَة الزَّرْع فِيهَا من غير أُجْرَة.
836 - / 1002 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: وَقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة، وَلأَهل نجد قرن الْمنَازل، وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم، قَالَ: " هن لَهُنَّ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ من غير أهلهن، فَمن كَانَ دونهن فمهله من أَهله ". [15] اعْلَم أَن المُرَاد من هَذِه الْمَوَاقِيت الصَّلَاة، فَإِنَّهُ لَو صلى قبل الْمِيقَات لم يجز، فَأَما إِذا جَاوز الْمِيقَات محلا ثمَّ أحرم فَعَلَيهِ دم، سَوَاء عَاد إِلَى الْمِيقَات أَو لم يعد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن عَاد ملبيا سقط الدَّم. وَقَالَ الشَّافِعِي: يسْقط بِكُل حَال إِلَّا أَن يعود بعد الطّواف. فَأَما إِذا عَاد إِلَى الْمِيقَات غير محرم فَأحْرم مِنْهُ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. [15] وَقرن بتسكين الرَّاء، وَرُبمَا فتح الرَّاء من لَا يعرف من الْفُقَهَاء وطلبة الحَدِيث. [15] وَقَوله: " فهن لَهُنَّ " أَي هَذِه الْمَوَاقِيت لهَذِهِ الْبلدَانِ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ لَو جَاءَ الْمدنِي من الشَّام أحرم من الْجحْفَة، وَلَو جَاءَ الشَّامي من قبل ذِي الحليفة أحرم مِنْهَا. وَاعْلَم أَن الْمَوَاقِيت خَمْسَة، وَالْمَذْكُور مِنْهَا فِي هَذَا الحَدِيث أَرْبَعَة، وَقد بقى ذَات عرق، فروى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث عَائِشَة

(2/332)


أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت لأهل الْعرَاق ذَات عرق. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَالصَّحِيح أَن عمر بن الْخطاب وَقتهَا لأهل الْعرَاق بعد أَن فتحت الْعرَاق.
837 - / 1003 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: احْتجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم. [15] الْحجامَة للْمحرمِ جَائِزَة عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء. وَقَالَ مَالك: لَا يحتجم إِلَّا من ضَرُورَة. [15] وَاعْلَم أَن الْخَوْف على الْمحرم من الْحجامَة لأجل قطع الشّعْر، فَإِن احْتجم فِي مَوضِع لَا شعر فِيهِ فَلَا بَأْس بِهِ، فَإِن حلق دون ثَلَاث شَعرَات فَفِي كل شَعْرَة مد من طَعَام، وَعَن أَحْمد أَيْضا: قَبْضَة من طَعَام. وَعَن الشَّافِعِي ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: مد. وَالثَّانِي: ثَلَاث دَرَاهِم. وَالثَّالِث. دِرْهَم. وَأما إِن حلق ثَلَاث شَعرَات فَعَلَيهِ دم. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: فِي أَربع شَعرَات دم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب الدَّم إِلَّا فِي حلق ربع الرَّأْس فَصَاعِدا. وَقَالَ مَالك: يجب فِيمَا يحصل بزواله إمَاطَة الْأَذَى. وَاتفقَ الْعلمَاء على تَسَاوِي حكم شعر الرَّأْس وَالْبدن، مَا خلا دَاوُد فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تجب الْفِدْيَة إِلَّا بحلق الرَّأْس.

(2/333)


838 - / 1005 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: شهِدت الصَّلَاة يَوْم الْفطر مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر، فكلهم يُصليهَا قبل الْخطْبَة. [15] أما تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة فَيحْتَمل ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون ذَلِك للْخلاف بَين مَا هُوَ فرض عين كَالْجُمُعَةِ وَمَا هُوَ فرض كِفَايَة. وَالثَّانِي: لِأَن النَّاس يهتمون بِالْفطرِ أَو بالأضاحي، فَقدمت الصَّلَاة لِئَلَّا ينشغلوا عَنْهَا. وَالثَّالِث: أَن الْخَطِيب يبين لَهُم مَا يخرجُون فِي الْفطر، وبماذا يضحون، وَذَلِكَ يفْتَقر إِلَى الْحِفْظ، فَأخر لِئَلَّا يتفكر الْحَافِظ لَهُ قبل الصَّلَاة فِي الصَّلَاة. فَأَما خطْبَة الْجُمُعَة فَلَا تزيد على الموعظة الَّتِي فِي الصَّلَاة من جِنْسهَا. [15] وَقَوله: فَجعلْنَ يلقين الفتخ وَالْخَوَاتِيم. قَالَ عبد الرَّزَّاق: الفتخ: الخواتيم الْعِظَام كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: خَوَاتِيم لَا فصوص لَهَا. وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: الفتخ: خَوَاتِيم كن يلبسنها فِي أَصَابِع الرجلَيْن، وأنشدنا لامْرَأَة العجاج، قَالَ: ضمهَا إِلَيْهِ العجاج وَقبلهَا فَقَالَت:
(وَالله لَا تخدعني بِالضَّمِّ ... )

(وَلَا بتقبيل وَلَا بشم ... )

(إِلَّا بزعزاع يسلي همي ... )

(2/334)


(يسْقط مِنْهُ فتخي فِي كمي ... )
[15] قَالَ: وَكَانَت أكمام الْعَرَب وَاسِعَة، فَلذَلِك قَالَت هَذَا. [15] وَالْخَوَاتِيم جمع خَاتم، وَفِيه أَربع لُغَات: خَاتم بِفَتْح التَّاء وبكسرها، وخاتام، وخيتام. [15] والقرط والخرص: الْحلقَة الصَّغِيرَة من الْحلِيّ تجْعَل فِي الْأذن. [15] والسخاب: خيط ينظم فِيهِ خرز ويلبسه الْجَوَارِي وَالصبيان، وَجمعه سخب. [15] وَأما كَون الْعِيد لَا يُؤذن لَهُ فقد سبق بَيَان الْمَعْنى فِي هَذَا، وَأَن الْعِيد يصلى فِي الصَّحرَاء، وَالْأَذَان لمن لم يحضر، والمصلون للعيد قد حَضَرُوا، وَمن لم يحضر لم يسمع الْأَذَان، فَلَا فَائِدَة فِيهِ.
839 - / 1006 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَامَ يتهجد. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تهجد بِمَعْنى سهر، وهجد بِمَعْنى نَام. قَالَ لبيد:
(قَالَ هجدنا فقد طَال السرى ... ... ... ... ... ... ... . .)

(2/335)


[15] أَي نومنا. قَالَ الْأَزْهَرِي: المتهجد: الْقَائِم إِلَى الصَّلَاة من النّوم، وَقيل لَهُ متهجد لإلقاته الهجود عَن نَفسه، كَمَا يُقَال تحرج وتأثم. وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي أَن اللغويين يَقُولُونَ: هُوَ من حُرُوف الأضداد. يُقَال للنائم هاجد ومتهجد، وللساهر أَيْضا كَذَلِك. [15] وَقَوله: " أَنْت قيم السَّمَوَات " أَي الْقَائِم بمصالحها، وَفِي لفظ: " قيام السَّمَوَات " وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند أبي بن كَعْب. [15] وَقَوله: " أَنْت نور السَّمَوَات وَالْأَرْض " أَي بك حصل نورها وهداية أَهلهَا. [15] قَوْله: " والساعة حق " يَعْنِي الْقِيَامَة. سميت سَاعَة لِأَنَّهَا تكون فِي سَاعَة. [15] وَقَوله: " لَك أسلمت، وَعَلَيْك توكلت " أَي وثقت بتدبيرك: " وَإِلَيْك أنبت " أَي رجعت عَمَّا تكره. " فَاغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا قدمت من الذُّنُوب وَمَا أخرت مِنْهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: اغْفِر لي الْقَدِيم والْحَدِيث. وَالثَّانِي: فَاغْفِر لي مَا قدمت مِمَّا يَنْبَغِي أَن يُؤَخر، وَمَا أخرت مِمَّا يَنْبَغِي أَن يقدم. [15] وَقَوله: " وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا قد نَسِيته من الزلل. وَالثَّانِي: مَا هُوَ خطأ عنْدك وَأَنا لَا أعلم أَنه خطأ.

(2/336)


840 - / 1007 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: " ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر ". [15] قَالَ الْخطابِيّ: بِأَهْلِهَا: أَي بذوي السِّهَام الَّذين يَرِثُونَ، فَمَا بَقِي فَالْأولى رجل: أَي لأَقْرَب رجل من الْعصبَة. وَالْوَلِيّ. الْقرب. وَإِنَّمَا قَالَ " ذكر " ليعلم أَن الْعصبَة إِذا كَانَ عَمَّا أَو ابْن عَم أَو من كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا وَكَانَ مَعَه أُخْت، أَنَّهَا لَا تَرث شَيْئا.
841 - / 1008 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " لَا تلقوا الركْبَان ". [15] تلقي الركْبَان: أَن يخرج إِلَيْهِم قبل أَن يقدموا فيشتري مِنْهُم السّلْعَة رخيصة وهم لَا يعْرفُونَ سعر الْبَلَد. فَنهى عَن ذَلِك لما فِيهِ من الخديعة والغبن. [15] وَقَوله: " وَلَا يبع حَاضر لغَائِب " قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: لَا يتربص بسلعته لَا أَن يَبِيعهُ بِسعْر يَوْمه فيرتفق النَّاس بذلك، فَإِذا جَاءَهُ الحضري قَالَ لَهُ: أَنا أتربص بسلعتك حرم النَّاس ذَلِك الرِّفْق. قَالَ: وَقَالَ: إِنَّمَا يحرم عَلَيْهِ ذَلِك فِي بلد ضيق الرِّفْق.
842 - / 1009 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(2/337)


احْتجم وَأعْطى الْحجام أجره، واستعط. اسْم هَذَا الَّذِي حجمه نَافِع، ويكنى أَبَا طيبَة. [15] والضريبة: مَا يضْرب على العَبْد من خراج يُؤَدِّيه. وَلما خفف عَنهُ الدَّم ناسب هَذَا أَن يكلم مَوْلَاهُ ليخفف من خراجه. وَقد قَالَ الْعلمَاء: لَا يكره إِعْطَاء الْحجام، إِنَّمَا يكره للحجام الْأَخْذ. [15] وَقَوله: استعط. الاستعاط: تَحْصِيل الدّهن أَو غَيره فِي أقْصَى الْأنف، سَوَاء كَانَ بجذب النَّفس أَو بالتفريخ فِيهِ.
843 - / 1010 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ فِي الذّبْح وَالْحلق وَالرَّمْي والتقديم وَالتَّأْخِير فَقَالَ: " لَا حرج ". [15] اعْلَم أَن هَذِه الْأَفْعَال مترتبة، ومحلها كلهَا يَوْم النَّحْر، فأولها الرَّمْي، ثمَّ الذّبْح، ثمَّ الْحلق، ثمَّ الطّواف. والحرج: الضّيق، ويعبر بِهِ عَن الْإِثْم لِأَنَّهُ فِي معنى الضّيق. [15] وَهَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس مُخْتَصر. وَقد ضَبطه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ يَوْمئِذٍ أحفظ من ابْن عَبَّاس، وَفِي حَدِيثه: أَن رجلا قَالَ: لم أشعر فنحرت قبل أرمي، فَقَالَ: " ارْمِ، وَلَا حرج ". فَقَالَ آخر: لم أشعر فحلقت قبل أَن أذبح، فَقَالَ: " اذْبَحْ وَلَا حرج ". [15] وَعِنْدنَا أَنه إِذا قدم الحلاق على الرَّمْي أَو على النَّحْر جَاهِلا بمخالفة

(2/338)


السّنة فِي ذَلِك فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ عَالما بذلك، فَهَل يجب عَلَيْهِ دم؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَقد حمل من لَا يرى وجوب الدَّم قَوْله: " وَلَا حرج " على نفي الْإِثْم، وَاللَّفْظ عَام فِي الْإِثْم والفدية.
844 - / 1011 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: رخص للحائض أَن تنفر إِذا حَاضَت. [15] هَذَا مُفَسّر فِي تَمام الحَدِيث: وَهُوَ أَن تكون قد حَاضَت بعد الطّواف الْفَرْض، فتنفر وتترك طواف الْوَدَاع. ويحتج بِهَذَا من يرى أَن طواف الْوَدَاع لَيْسَ بِوَاجِب، وَهُوَ قَول مَالك، وَأحد قولي الشَّافِعِي. وَعِنْدنَا أَنه وَاجِب يلْزم بِتَرْكِهِ دم، وَلَا يمْتَنع أَن يكون رخص لَهُ لِئَلَّا تطول عَلَيْهَا الْإِقَامَة مَعَ إِيجَاب الدَّم عَلَيْهَا.
845 - / 1012 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يرَوْنَ أَن الْعمرَة فِي أشهر الْحَج من أفجر الْفُجُور فِي الأَرْض، وَكَانُوا يسمون الْمحرم صفر، وَيَقُولُونَ: إِذا برأَ الدبر، وَعَفا الْأَثر، وانسلخ صفر، حلت الْعمرَة لمن اعْتَمر. الْفُجُور: الْخُرُوج عَن الْحق. [15] وَقَوْلهمْ: برأَ الدبر. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يحْتَمل أَن يَكُونُوا أَرَادوا:

(2/339)


إِذا برأَ الدبر من ظُهُور الْإِبِل، لِأَنَّهَا إِذا انصرفت عَن الْحَج دبرت ظُهُورهَا. [15] وَقَوْلهمْ: وَعَفا الْأَثر: أَي امحى، وغطاه مَا نبت. وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: وَعَفا الْوَبر: أَي كثر نَبَاته. [15] وَقَوله: فَقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبِيحَة رَابِعَة. يَعْنِي رَابِعَة من ذِي الْحجَّة وَهَذَا مَذْكُور فِي الحَدِيث. [15] والإهلال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. [15] وَقَوله: فَأَمرهمْ أَن يجعلوها عمْرَة. وَذَلِكَ بفسح نِيَّة الْحَج وَقطع أَفعاله، وَأَن يَجْعَل الْإِحْرَام للْعُمْرَة، فَإِذا فرغ من أَعمال الْعمرَة حل ثمَّ أحرم من مَكَّة ليَكُون مُتَمَتِّعا. [15] وَهَذَا إِذا لم يسق الْهَدْي، فَإِن سَاقه لم يجز لَهُ الْفَسْخ، لِأَنَّهُ لَو فسخ الْحَج احْتَاجَ إِلَى أَن يشرع فِي أَفعَال عمْرَة وَلَا يحل مِنْهَا إِلَّا بِالْحلقِ، وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رءوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي محلّة} [الْبَقَرَة: 196] . وَإِنَّمَا أَمر أَصْحَابه بِالْفَسْخِ ليَقَع الْخلاف بَين حجهم وَحج الْمُشْركين، فَإِن الْمُشْركين كَانُوا لَا يرَوْنَ الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، وَكَانَ يحب مخالفتهم، وَقد قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّمَا أَمرهم بِالْفَسْخِ ليتمتعوا، وتأسف على التَّمَتُّع. وَقَالَ ابْن عقيل: وَهَذَا يبعد عِنْدِي أَن يكون الله عز وَجل فَوت نبيه فِي حجَّته الْإِحْرَام بهَا على الْوَجْه الْأَفْضَل.

(2/340)


[15] وَهَذَا الحَدِيث نَص فِي جَوَاز فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. وَقد رَوَاهُ جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه إِنَّمَا أَمر أَصْحَابه أَن يفسخوا الْحَج إِلَى الْعمرَة، وتأسف هُوَ على كَونه لَا يُمكنهُ الْفَسْخ لأجل الْهَدْي، فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جَابر وَغَيره. وَقد نَص أَحْمد على جَوَاز ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد: لَا يجوز فسخ الْحَج بِحَال. وَإِنَّمَا تأسف عَلَيْهِ السَّلَام على سوق الْهَدْي لِئَلَّا يُخَالف فعله فعل أَصْحَابه، فيظن المُنَافِقُونَ أَنه غير مُتبع فِي فعله، فَأَرَادَ أَن يكون الْأَمر وَاحِدًا. [15] وَقَوله: " فَإِن الْعمرَة قد دخلت فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " فِي تَفْسِير هَذَا أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. وألفاظ الحَدِيث تشهد لهَذَا الْمَعْنى. وَالثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى تدَاخل النُّسُكَيْنِ، فيجزي عَنْهُمَا طواف وَاحِد وسعي وَاحِد. وَالثَّالِث: أَن الْعمرَة قد دخلت فِي وَقت الْحَج وشهوره، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يرَوْنَ ذَلِك. وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى سقط فرض الْعمرَة بِالْحَجِّ، وَهَذَا قَول من لَا يرى وجوب الْعمرَة.
846 - / 1013 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل ". [15] الْفِقْه: الْفَهم، وَقد سبق هَذَا. [15] وَاخْتلف الْعلمَاء فِي معنى التَّأْوِيل، فَذهب أَكثر القدماء إِلَى أَنه بِمَعْنى التَّفْسِير.

(2/341)


[15] وَقَالَ آخَرُونَ: بل التَّفْسِير إِخْرَاج الشَّيْء عَن مقَام الخفاء إِلَى مقَام التجلي، والتأويل نقل الْكَلَام عَن وَضعه الْأَصْلِيّ إِلَى مَا يحْتَاج فِي إثْبَاته إِلَى دَلِيل لولاه مَا ترك ظَاهر اللَّفْظ، فَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلك: آل الشَّيْء إِلَى كَذَا: أَي صَار إِلَيْهِ. [15] وَأما الْحِكْمَة فقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. [15] وَالْكتاب: الْقُرْآن.
847 - / 1015 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: أَنا مِمَّن قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْمزْدَلِفَة فِي ضعفة أَهله. [15] وَقد سبق تَفْسِير الْمزْدَلِفَة: وَهِي الْمَكَان الَّذِي يقرب إِلَى مَكَّة. وحد الْمزْدَلِفَة مَا بَين المأزمين ووادي محسر. والمأزمان: المضيقان. [15] والضعفة جمع ضَعِيف. وَإِنَّمَا قدم الضِّعَاف لِئَلَّا يحطمهم النَّاس، فَإِن النَّاس يبيتُونَ بِمُزْدَلِفَة، فَإِذا طلع الْفجْر دفعُوا. [15] وَعِنْدنَا أَنه يجوز الدّفع من مُزْدَلِفَة بعد نصف اللَّيْل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز حَتَّى يطلع الْفجْر. فَأَما إِذا دفع قبل نصف اللَّيْل فعندنا أَن عَلَيْهِ دَمًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا دم عَلَيْهِ، وَيتَخَرَّج لنا مثله.

(2/342)


848 - / 1016 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: " وتوق كرائم أَمْوَالهم ". أَي نفائسها.
849 - / 1017 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: " لَا يخلون رجل بِامْرَأَة إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم. [15] عِلّة هَذَا النَّهْي ظَاهِرَة، وَهُوَ أَن الطباع تَدْعُو إِلَى مَا جبلت عَلَيْهِ، وَالْحيَاء يكف مَعَ مُشَاهدَة الْخلق، فَإِذا كَانَت الْخلْوَة عدم الْحيَاء الْمَانِع، فَلم يبْق إِلَّا الْمَانِع الديني. وَالْإِنْسَان يجْرِي مَعَ طبعه من غير تكلّف، ويعاني مُخَالفَة هَوَاهُ حفظا للدّين بِكُل كلفة، فالطبع كالمنحدر، وَالتَّقوى كالمداد، وَقد تضعف قُوَّة هَذَا الَّذِي يمد، أَو يشْتَد جَرَيَان المنحدر. ثمَّ لَو قَدرنَا السَّلامَة من الْفُجُور ففكر النَّفس فِي تَصْوِير ذَلِك لَا ينفكان مِنْهُ أَو أَحدهمَا، فَحسن الزّجر عَن ذَلِك. [15] وَأما السّفر فَإِن الْمَرْأَة إِذا خلت عَن محرم كَانَت كَأَنَّهَا فِي خلْوَة، وَلَا يُؤمن عَلَيْهَا من جِهَة ميل طبعها إِلَى الْهوى وَعدم الْمحرم المدافع عَنْهَا. وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْمَرْأَة إِذا لم تَجِد الْمحرم لم يلْزمهَا الْحَج، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَقَول أبي حنيفَة. وَهل الْمحرم من شَرَائِط الْوُجُوب أم من شَرَائِط الْأَدَاء، فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا تحصنت الْمَرْأَة بنسوة ثِقَات وَكَانَ الطَّرِيق آمنا لَزِمَهَا الْخُرُوج وَإِن لم يساعدها محرم.

(2/343)


850 - / 1018 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: إِن رفع الصَّوْت بِالذكر حِين ينْصَرف النَّاس من الْمَكْتُوبَة كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] الْإِشَارَة بِهَذَا الذّكر بعد الصَّلَاة أَن يُرَاد بِهِ الدُّعَاء وَالتَّسْبِيح وَالتَّكْبِير. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: مَا كُنَّا نَعْرِف انْقِضَاء صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ.
851 - / 1091 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: بت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل فَتَوَضَّأ من شن معلقَة. [15] أما مَيْمُونَة فَهِيَ زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي مَيْمُونَة بنت الْحَارِث ابْن حزن الْهِلَالِيَّة، وَأُخْتهَا لبَابَة بنت الْحَارِث وتكنى أم الْفضل، وَهِي أم عبد الله بن عَبَّاس. [15] والشن: الْقرْبَة البالية. [15] وَقَوله: فجعلني عَن يَمِينه. وَهَذَا لِأَن الْقَائِم عَن الْيَسَار فِي حكم الْفَذ. [15] والنفخ هَاهُنَا بِمَعْنى الغطيط. [15] واستن: اسْتعْمل السِّوَاك. [15] وَقَوله: يمسح النّوم عَن وَجهه: أَي يمسح أثر النّوم. [15] وشحمة الْأذن: مَا لَان من أَسْفَلهَا، وَهُوَ مُعَلّق القرط. [15] وَقَوله: فَتحدث مَعَ أَهله. يدل على حسن المعاشرة للأهل وَنفي الانقباض وَسُوء الْخلق، وَفِيه رد لطريقة أهل العبوس من جهلة

(2/344)


المتزهدين، فَإِن الحَدِيث يُوجب الْأنس وَيرْفَع الوحشة ويطيب النُّفُوس. وَرُبمَا قَالَ بعض الْجُهَّال: الحَدِيث يضيع الزَّمَان. وَالْجَوَاب: أَنه كَانَ حَدِيثا مُبَاحا وَقصد بِهِ إيناس المعاشر أثيب الْأنس على الْقَصْد، وَلم يضع الزَّمَان. [15] وَقَوله: فَأطلق شناقها. قَالَ أَبُو عبيد: الشناق: الْخَيط وَالسير الَّذِي تعلق بِهِ الْقرْبَة على الوتد. يُقَال مِنْهُ: أشنقتها إشناقا: إِذا علقتها وَيُقَال: أشنقت النَّاقة: إِذا مددتها بزمامها إِلَيْك كَمَا تكبح الْفرس. وَقَالَ أَبُو زيد: شنقت النَّاقة شنقا. وَقَالَ الزّجاج: يُقَال: شنقت الْقرْبَة وأشنقتها، وشنقت الدَّابَّة وأشنقتها. [15] وَأما طلبه للنور فَلِأَنَّهُ سَبَب الْهِدَايَة. وَالْمعْنَى: اللَّهُمَّ اهدني وأرشدني، لِأَن نور الطَّرِيق يمْنَع الضلال. [15] وَقَوله: أبقيه يُقَال: أبقيت فلَانا أبقيه: إِذا رصدته وراعيته. [15] وَقَوله: وَسبع فِي التابوت: أَي سَبْعَة أَشْيَاء مَكْتُوبَة عِنْدِي فِي التابوت، وَهُوَ نَحْو الصندوق. يَقُول: قد نسيتهَا وَهِي عِنْدِي مَكْتُوبَة. وَقد جَاءَ فِيمَا بعد مِنْهَا: عصبي، ولحمي، وَدمِي، وشعري، وبشري. [15] والغليم تَصْغِير غُلَام. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: يذهب عوام النَّاس إِلَى أَن الْغُلَام وَالْجَارِيَة: العَبْد وَالْأمة خَاصَّة،

(2/345)


وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا الْغُلَام وَالْجَارِيَة الصغيران. قَالَ: وَقد قيل: الْغُلَام: الطار الشَّارِب. وَيُقَال لِلْجَارِيَةِ غلامة أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر:
( ... ... ... ... . . ... تهان لَهَا الغلامة والغلام)
وَقد يُقَال للكهل أَيْضا غُلَام، قَالَ ليلى الأخيلية تمدح الْحجَّاج:
( ... ... ... ... . . غُلَام ... إِذا هز الْقَنَاة سَقَاهَا)
[15] وَكَأن قَوْلهم للطفل غُلَام على معنى التفاؤل: أَي سيصير غُلَاما. وَقَوْلهمْ للكهل غُلَام: أَي الَّذِي كَانَ مرّة غُلَاما. وَهُوَ " فعال " من الغلمة، وَهِي شدَّة شَهْوَة النِّكَاح. وَقَالَت امْرَأَة ترقص بِنْتا لَهَا:
(وَمَا علتي أَن تكون جاريه ... )

(حَتَّى إِذا مَا بلغت ثمانيه ... )

(زوجتها عتبَة أَو مُعَاوِيه ... )

(أختَان صدق ومهور غاليه ... )
[15] والغليظ: صَوت يسمع من تردد النَّفس كَهَيئَةِ صَوت المختنق. والخطيب قريب مِنْهُ، والغين وَالْخَاء متقاربتا الْمخْرج. [15] والذؤابة: الشّعْر المنسدل من وسط الرَّأْس إِلَى مَا انحدر عَنهُ.

(2/346)


والعضد: مَا بَين الْمرْفق والمنكب. [15] ويعدلني: يصرفني عَن مقَامي إِلَى الْجَانِب الْأَيْمن، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فسواك فعدلك} [الإنفطار: 7] على قِرَاءَة من خفف: إِلَى صرفك إِلَى أَي الصُّور شَاءَ.
852 - / 1020 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: " لَو أَن أحدكُم إِذا أَرَادَ أَن يَأْتِي أَهله قَالَ: بِسم الله ". [15] المُرَاد بالإتيان هَاهُنَا الْجِمَاع، وَفِي تِلْكَ الْحَال للهوى غَلَبَة تشغل عَن الذّكر، وَإِذا تشاغل الْإِنْسَان بِالذكر فِي غير وقته الْمُعْتَاد أَو مَعَ مَا يضاده نظر الْمَذْكُور إِلَيْهِ، فأعاذه من الْعَدو وَأجَاب دعاءه. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى " لم يضرّهُ الشَّيْطَان "؟ أتراه: لَا يوقعه قطّ فِي زلَّة؟ وَكَيف يكون هَذَا وَلم يسلم الأكابر من هَذَا؟ فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى دفع ضَرَر الشَّيْطَان حفظه من إغوائه وإضلاله بالْكفْر والزيغ، وَيحْتَمل أَن يكون حفظه من الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش. وَيحْتَمل أَن يكون توفيقه للتَّوْبَة إِذا زل.
853 - / 1021 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور ". [15] الصِّبَا: ريح لينَة تَأتي من نَاحيَة الشرق، ويقابلها الدبور. وَجَاء

(2/347)


فِي التَّفْسِير: أَن ريح الصِّبَا هِيَ الَّتِي حملت ريح يُوسُف قبل البشير إِلَى يَعْقُوب، فإليها يستريح كل محزون. قَالَ أَبُو صَخْر الْهُذلِيّ:
(إِذا قلت هَذَا حِين أسلو يهيجني ... نسيم الصِّبَا من حَيْثُ يطلع الْفجْر)

854 - / 1022 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: " أما إِبْرَاهِيم فانظروا إِلَى صَاحبكُم، وَأما مُوسَى فجعد آدم على جمل أَحْمَر مَخْطُوم بخلبة ". [15] وَقَوله: " انْظُرُوا إِلَى صَاحبكُم " يَعْنِي أَنه يشبهني. [15] والجعد: الشّعْر المنقبض. والسبط: السهل. [15] والآدم: الأسمر. [15] والخطام: سمي بذلك لِأَنَّهُ على الخطم وَهُوَ الْأنف. والخلب: الليف يفتل مِنْهُ الحبال للخطم وَغَيرهَا. [15] وَقَوله: " كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة وَمن الزط " وهم قوم معروفون. [15] والمربوع: الْمُتَوَسّط بَين الطول وَالْقصر: وَهُوَ الربعة أَيْضا. [15] وَقَوله: {فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه} [السَّجْدَة: 23] المرية: الشَّك. وللمفسرين فِي معنى هَذِه الْآيَة أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَاء مُوسَى ربه، رَوَاهُ ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: من لِقَاء مُوسَى لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قَتَادَة، وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة وَمُجاهد. وَالثَّالِث: من لِقَاء الْأَذَى كَمَا لقى مُوسَى، قَالَه الْحسن.

(2/348)


وَالرَّابِع: من تلقي مُوسَى كتاب الله بِالرِّضَا وَالْقَبُول، فَتكون الْهَاء للْكتاب، وَهُوَ قَول السّديّ. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: أضيف الْمصدر إِلَى ضمير الْكتاب، وَالْمعْنَى: من لِقَاء مُوسَى الْكتاب. وَفِي ذَلِك مدح لَهُ على امْتِثَال مَا أَمر بِهِ، وتنبيه على الْأَخْذ بِمثل هَذَا الْفِعْل. [15] والثنية: طَرِيق مُرْتَفع بَين جبلين. [15] والجؤار: رفع الصَّوْت. [15] وهرشى ولفت: موضعان.
855 - / 1024 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: " فَلَا يمسح يَده حَتَّى يلعقها أَو يلعقها ". [15] قد ذكرنَا وَجه الْحِكْمَة فِي مُسْند كَعْب بن مَالك.
856 - / 1025 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه أَن يرملوا ثَلَاثَة أَشْوَاط ويمشوا بَين الرُّكْنَيْنِ، ليرى الْمُشْركُونَ جلدهمْ. الرمل كالهرولة والخبب، وَهُوَ فَوق الْمَشْي وَدون الْإِسْرَاع. [15] والأشواط: الدورات فِي الطّواف

(2/349)


[15] وَالْجَلد: الْقُوَّة. وَإِنَّمَا اقْتصر على ثَلَاثَة أَشْوَاط لطفا بهم. وَهَذَا مِمَّا زَالَ سَببه وَبَقِي حكمه. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على التجلد خوفًا من شماتة الْأَعْدَاء.
857 - / 1026 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعشاء حَتَّى رقد النِّسَاء وَالصبيان، ثمَّ خرج يَقُول: " أَنه للْوَقْت لَوْلَا أَن أشق على أمتِي ". [15] أعتم بِمَعْنى أَخّرهَا. يُقَال: عتم اللَّيْل إِذا مضى مِنْهُ صدر. وعتم الْقَوْم: صَارُوا وَقت الْعَتَمَة. وَالْعَتَمَة: ظلمَة اللَّيْل. ووقتها بعد غيبوبة الشَّفق. [15] فَأَما قَوْله: " إِنَّه للْوَقْت " فَإِنَّهُ يَعْنِي وَقت الْفَضِيلَة ". [15] وَقَوله: " لَيْسَ أحد من أهل الأَرْض اللَّيْلَة ينتظرها غَيْركُمْ " هَذَا مِمَّا اطلع عَلَيْهِ فقاله عَن مطالعة الْغَيْب.
858 - / 1028 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: قَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس: مَا هَذِه الْفتيا الَّتِي تشغفت النَّاس: أَن من طَاف بِالْبَيْتِ فقد حل؟ فَقَالَ: سنة نَبِيكُم وَإِن رغمتم. [15] الْفتيا: جَوَاب السُّؤَال. [15] وَقَوله: تشغفت النَّاس. هَذِه الْكَلِمَة ترى على سِتَّة أوجه: [15] أَحدهَا: تشغفت أَي حلت شغَاف قُلُوبهم فشغلتها. وَالثَّانِي

(2/350)


تشعبت بِالنَّاسِ: أَي تَفَرَّقت بهم. وَالثَّالِث: شعبت النَّاس. وَالرَّابِع: شعبت، بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، ومعناهما فرقتهم. وَالْخَامِس: شغبت: أَي أوجبت الشغب وَالِاخْتِلَاف بَينهم. والشغب هَاهُنَا هيجان الشَّرّ والمنازعة. وَالسَّادِس: أَن هَذَا الْأَمر قد تفشغ النَّاس، وَالْمعْنَى: تفشغ فيهم: أَي كثر، يُقَال تفشغ فِي رَأسه الشيب: أَي كثر وانتشر. قَالَ الْأَصْمَعِي: تفشغ الشَّيْء: فَشَا وَكثر. [15] وَقَوله: وَإِن رغمتم، قد بَينا هَذَا فِي مُسْند أبي ذَر. وَكَانَ الأَصْل: ون رغم أنف فلَان: أَي وَإِن الْتَصق بالرغام: وَهُوَ التُّرَاب، ثمَّ حذف هَاهُنَا ذكر الْأنف لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال. [15] فَأَما قَوْله: من طَاف بِالْبَيْتِ فقد حل. اعْلَم أَنه الْحَج لَهُ تحللان: الأول يحصل بِاثْنَيْنِ من ثَلَاثَة: وَهِي الرَّمْي والحلاق وَالطّواف. وَالثَّانِي يحصل بالثالث إِذا قُلْنَا إِن الحلاق نسك وَهُوَ الصَّحِيح، وَإِن قُلْنَا لَيْسَ بنسك حصل التَّحَلُّل الأول بِوَاحِد من اثْنَيْنِ: الرَّمْي وَالطّواف، وَحصل الثَّانِي بِالْآخرِ. فَإِذا تحلل الْحل الأول أُبِيح لَهُ جَمِيع الْمَحْظُورَات إِلَّا الْجِمَاع فِي الْفرج، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد. وَظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا أَنه لَا يُبَاح لَهُ جملَة الِاسْتِمْتَاع ودواعيه. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يُبَاح الْجِمَاع فِي الْفرج، وَفِي دواعيه قَولَانِ. [15] وَقد بَينا آنِفا أَن أول الْأَشْيَاء الرَّمْي، ثمَّ الذّبْح، ثمَّ الْحلق، ثمَّ

(2/351)


الطّواف. فَيحمل كَلَام ابْن عَبَّاس على التَّحَلُّل الأول، فَإِنَّهُ بعد الطّواف، أَو على من رمى وَحلق ثمَّ طَاف.
859 - / 1029 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: " عمْرَة فِي رَمَضَان تقضي حجَّة، أَو حجَّة معي ". [15] الْمَعْنى: تفي بهَا وَتقوم مقَامهَا. وَفِي لفظ: " تعدل حجَّة " وَقد بَينا أَن ثَوَاب الْأَعْمَال يزِيد بِزِيَادَة شرف الْوَقْت، أَو خلوص الْقَصْد، أَو حُضُور قلب الْعَامِل. وَقد ذكرنَا عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: تَسْبِيحَة فِي رَمَضَان خير من سبعين فِي غَيره.
860 - / 1030 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: " لَو أَن لِابْنِ آدم مثل وَاد مَالا لأحب أَن لَهُ إِلَيْهِ مثله ". قد سبق بَيَان هَذَا، وَذكرنَا أَن أحب الْأَشْيَاء إِلَى الْآدَمِيّ نَفسه، وَقد جعل المَال قواما لَهَا، فَهُوَ يحب الازدياد من سَبَب بَقَائِهَا.
861 - / 1031 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: قَالَ عَطاء: خرجنَا مَعَ ابْن عَبَّاس فِي جَنَازَة مَيْمُونَة بسرف فَقَالَ: هَذِه زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا رفعتم نعشها فَلَا تزعزعوا وَلَا تزلزلوا. [15] كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تزوج مَيْمُونَة بِهَذَا الْموضع الَّذِي اسْمه سرف، وَقضى الله سُبْحَانَهُ أَنَّهَا مَاتَت ودفنت هُنَاكَ.

(2/352)


[15] والزعزعة: التحريك بِشدَّة وعنف. وَيُقَال للسير إِذا جد: هَذَا سير زعزع، وَكَذَلِكَ الزلزلة: اضْطِرَاب شَدِيد بحركة قَوِيَّة. [15] وَقَوله: كَانَ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع نسْوَة. إِشَارَة إِلَى اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُن. وَهن: عَائِشَة وَحَفْصَة وَسَوْدَة وَأم سَلمَة ومَيْمُونَة وَزَيْنَب بنت جحش وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة. [15] وَقَوله: كَانَ لَا يقسم لوَاحِدَة. فِي هَذَا الحَدِيث عَن عَطاء أَنه قَالَ: بلغنَا أَنَّهَا صَفِيَّة. وَقَالَ غَيره: إِنَّمَا هِيَ سَوْدَة؛ لِأَنَّهَا وهبت يَوْمهَا لعَائِشَة.
862 - / 1032 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ التحصيب بشي، إِنَّمَا هُوَ منزل نزله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] التحصيب: نزُول المحصب، وَهُوَ الشّعب الَّذِي يخرج مِنْهُ إِلَى الأبطح فِي طَرِيق منى. وكل مَوضِع جعلت فِيهِ الْحَصْبَاء - وَهِي صغَار الْحِجَارَة - فَهُوَ محصب. وَأَرَادَ: النُّزُول فِيهِ لَيْسَ بنسك من مَنَاسِك الْحَج، وَإِنَّمَا نزل فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتِّفَاقًا غير قصد.
863 - / 1033 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خرج من الْبَيْت ركع رَكْعَتَيْنِ فِي قبل الْكَعْبَة وَقَالَ: " هَذِه الْقبْلَة ". [15] قَوْله: فِي قبل: أَي فِي مقابلتها ومواجهتها. [15] وَقَوله: " هَذِه الْقبْلَة " فِي الْإِشَارَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا إِلَى الْكَعْبَة. ثمَّ فِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه تَقْرِير لحكم الِانْتِقَال عَن

(2/353)


بَيت الْمُقَدّس، وَالثَّانِي: الْإِشَارَة إِلَى وَجه الْبَيْت فِي حق حاضره، بِخِلَاف الْغَائِب فَإِنَّهُ يجْتَهد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى وَجه الْكَعْبَة، فَيكون التَّعَلُّم للْإِمَام أَن يسْتَقْبل الْبَيْت من وَجهه وَإِن كَانَت الصَّلَاة إِلَى جَمِيع جهاته جَائِزَة.
864 - / 1034 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: مكث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة، وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ. [15] والمكث: الْإِقَامَة. وَهَذَا مِقْدَار مَا أَقَامَ بِمَكَّة بعد أَن أُوحِي إِلَيْهِ. [15] وَقَوله: وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ. وَهُوَ الصَّحِيح فِي مِقْدَار عمره. وَقد رُوِيَ مثل هَذَا عَن مُعَاوِيَة وَأنس وَعَائِشَة. وَعَن أنس أَنه قَالَ: توفّي على رَأس سِتِّينَ. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه توفّي وَهُوَ ابْن خمس وَسِتِّينَ. وكل هَذِه الْأَطْرَاف فِي الصَّحِيح. فَأَما خمس وَسِتُّونَ فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه من أَفْرَاد مُسلم، والمتفق عَلَيْهِ عَن ابْن عَبَّاس مَا قدمنَا. وَالثَّانِي: أَنه إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ يرى قبل النُّبُوَّة من النُّور وَيسمع من الصَّوْت. وَهَذَا مُبين فِي الحَدِيث. وَمن قَالَ سِتِّينَ قصد أعشار السّني، وَالْإِنْسَان قد يَقُول: عمري خَمْسُونَ سنة، وَلَعَلَّه قد زَاد عَلَيْهَا، لِأَن الزِّيَادَة لما لم تبلغ عشرا لم يذكرهَا. [15] وَأما قَول ابْن عَبَّاس: لبث بِمَكَّة عشرا يوحي إِلَيْهِ. فَلهُ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه ذكر العقد وَترك مَا زَاد عَلَيْهِ كَمَا بَينا. وَالثَّانِي: أَنه لما أُوحِي إِلَيْهِ استسر بِالنُّبُوَّةِ ثَلَاث سِنِين حَتَّى نزل عَلَيْهِ (فَاصْدَعْ بِمَا

(2/354)


تُؤمر} [الْحجر: 94] . فَأَنْذر حِينَئِذٍ، فَحسب ابْن عَبَّاس مَا ظهر. [15] وَأما الْبضْع فَهُوَ الْقطعَة من الشَّيْء، وَالْعرب تسْتَعْمل ذَلِك فِي الْعدَد من الثَّلَاث. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: قلت لعروة: ابْن عَبَّاس [يَقُول] : بضع عشرَة سنة، فغفره. أَي دَعَا لَهُ بالمغفرة، فَقَالَ: غفر الله لَهُ. والغفر: ستر الذَّنب بِالْعَفو عَنهُ.
865 - / 1035 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: أَنه لما قدم الْمَدِينَة فَرَأى الْيَهُود يَصُومُونَ عَاشُورَاء فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " قَالُوا: نجى الله فِيهِ مُوسَى فصامه. فَقَالَ: " أَنا أَحَق بمُوسَى مِنْكُم " فصامه وَأمر بصيامه. [15] اعْلَم أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتبع طَرِيق الْأَنْبِيَاء فِيمَا لم يشرع لَهُ مثله أَو خِلَافه، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {فبهداهم اقتده} [الْأَنْعَام: 90] فصَام عَاشُورَاء قبل فرض رَمَضَان، لِأَنَّهُ لما قدم الْمَدِينَة لم يكن عَلَيْهِ فرض رَمَضَان، وَإِنَّمَا قدم فِي ربيع الأول، فَأَقَامَ إِلَى أَن جَاءَ عَاشُورَاء، فَرَآهُمْ يصومونه فصامه. فَلَمَّا جَاءَ شعْبَان من السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فرض رَمَضَان، فصامه وَترك عَاشُورَاء، فَبَان من هَذِه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَامَ تسع رمضانات.
866 - / 1036 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: " إِنَّكُم ملاقوا الله حُفَاة عُرَاة غرلًا ".

(2/355)


[15] الغرل: جمع أغرل: وَهُوَ الَّذِي لم يختتن. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي: أغرل وأرغل وأقلف وأغلف بِمَعْنى. وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري: لَا تلتقي الرَّاء مَعَ اللَّام فِي الْعَرَبيَّة إِلَّا أَربع كَلِمَات: أرل: وَهُوَ اسْم جبل وورل: وَهِي دَابَّة مَعْرُوفَة. وجرل: وَهُوَ ضرب من الْحِجَارَة. والغرلة: وَهِي الغلفة. [15] وَالْمرَاد أَنهم يعادون كَمَا خلقُوا، ويبقون على تِلْكَ الْحَال؛ لِأَن لَذَّة جماع الأقلف تزيد على لَذَّة جماع المختون. قَالَ ابْن عقيل: وَذَلِكَ أَن بشرة حَشَفَة الأقلف موقاة بالغلفة، فَتكون بَشرَتهَا أرق، وَمَوْضِع الجس كلما كَانَ أرق كَانَ الجس أصدق، كراحة الْكَفّ إِذا كَانَت مرفهة من الْأَعْمَال صلحت للجس، وَإِذا كَانَت يَد قصار أَو نجار خشنت فخفي فِيهَا الجس. قَالَ: فَلَمَّا أبانوا فِي الدُّنْيَا تِلْكَ الْبضْعَة لأَجله أَعَادَهَا ليذيقها من حلاوة فضلَة ونعيم جنته. والسر فِي الْخِتَان مَعَ كَون الغلفة معفوا عَمَّا تحتهَا من النَّجس أَنه سنة إِبْرَاهِيم، حَيْثُ بلي بالترويع بِذبح الْوَلَد، فَأحب أَن يَجْعَل لكل وَاحِد من مِلَّته ترويعا بِقطع عُضْو وإراقة دم وَلَده، ويبتلي أَوْلَادهم بِالصبرِ على إيلام الْآبَاء لَهُم، فَتكون هَذِه الْحَالة مظهرة للصبر وَالتَّسْلِيم من الْآبَاء وَالْأَوْلَاد، أُسْوَة بإبراهيم. [15] وَقَوله: " أول من يكسى إِبْرَاهِيم " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ كالعريان من النَّفس وَالْمَال وَالْولد، فَأسلم نَفسه إِلَى النيرَان، وَولده إِلَى القربان، وَمَاله للضيفان، فشرف بابتدائه بالكسوة. [15] وَقَوله: " لم يزَالُوا مرتدين " قد بَينا فِي مُسْند سهل بن سعد أَن

(2/356)


الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْمُرْتَدين وَالْمُنَافِقِينَ. وَقد قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ معنى الارتداد الرُّجُوع عَن الدّين، إِنَّمَا هُوَ التَّأَخُّر عَن بعض الْحُقُوق اللَّازِمَة، وَالتَّقْصِير فِيهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَه فِيهِ بعد من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن قَوْله: " مرتدين على أَعْقَابهم " يعْطى الْكفْر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمرَان: 144] أَي رجعتم إِلَى الْكفْر. وَالثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَدِيث آخر: " فَأَقُول بعدا لَهُم وَسُحْقًا " وَلَا يَقُول هَذَا للْمُسلمين، لِأَن شَفَاعَته للمذنبين.
867 - / 1037 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: بَيْنَمَا رجل وَاقِف مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة، إِذْ وَقع من رَاحِلَته فأوقصته أَو فأقعصته. وَقَالَ بَعضهم: فوقصته. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اغسلوه بِمَاء وَسدر، وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تحنطوه، وَلَا تخمروا رَأسه ". [15] الوقص بِسُكُون الْقَاف: كسر الْعُنُق، يُقَال: وقصت عُنُقه فَهِيَ موقوصة، ووقصت بفلان نَاقَته: أَي كسرت عُنُقه. قَالَ أَبُو عبيد: وَيُقَال للرجل إِذا كَانَ مائل الْعُنُق قصيرها: أوقص، وَمن هَذَا حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: أَنه قضى فِي القارصة والقامصة والواقصة بِالدِّيَةِ أَثلَاثًا. وَتَفْسِيره: أَن ثَلَاث جوَار كن يلعبن، فركبت إِحْدَاهُنَّ صاحبتها فقرصت الثَّالِثَة المركوبة فقمصت، فَسَقَطت الراكبة، فوقصت عُنُقهَا، فَجعل عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام القارصة ثلث الدِّيَة،

(2/357)


وعَلى القامصة الثُّلُث، وَأسْقط الثُّلُث لِأَنَّهُ حِصَّة الراكبة لِأَنَّهَا أعانت على نَفسهَا. [15] وَأما الإقعاص فَهُوَ الْقَتْل عَاجلا، يُقَال: ضربه فأقصعه: أَي قَتله مَكَانَهُ. وَقد روى بَعضهم فِي هَذَا الحَدِيث: فأقصعته بِتَقْدِيم الصَّاد، وَهُوَ غلط وَإِن كَانَ لَهُ وَجه على بعد، يُقَال: قصع الْبَعِير بجرته: إِذا هشمها بأضراسه وطحنها، وَالْمَحْفُوظ مَا سبق. [15] وَقَوله: " وَلَا تحنطوه " لِأَن فِي الحنوط طيبا. " وَلَا تخمروا رَأسه " أَي لاتغطوه. [15] والملبي من التَّلْبِيَة. والملبد من التلبيد. وَكَانَ الْمحرم يَجْعَل فِي رَأسه صمغا أَو عسلا ليجمع الشّعْر ويتلبد فَلَا يتخلله التُّرَاب، وَلَا يَقع فِيهِ الدبيب، وَلَا يُصِيبهُ الشعث. [15] وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن الْمحرم يبْعَث على شعث الْإِحْرَام. وَقد دلّ أَيْضا على أَن الْمَوْت لَا يقطع حكم الْإِحْرَام، وَأَنه إِذا مَاتَ الْمحرم لم يخمر رَأسه وَلم يقرب طيبا، وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يبطل إِحْرَامه وَيفْعل بِهِ مَا يفعل بِغَيْر الْمحرم إِذا مَاتَ. وَلَا خلاف أَنه لَا يُطَاف بِهِ، وَلَا تلْزمهُ الْفِدْيَة فِي مَاله إِذا لبس الْمخيط.
868 - / 1038 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: قلت لِابْنِ عَبَّاس:

(2/358)


أَلِمَنْ قتل مُؤمنا مُتَعَمدا من تَوْبَة؟ قَالَ: لَا. فتلوت عَلَيْهِ: {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} إِلَى قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} [الْفرْقَان: 68 - 69] فَقَالَ: هَذِه آيَة مَكِّيَّة نسختها آيَة مَدَنِيَّة. {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} [النِّسَاء: 93] . [15] وَيصْلح أَن يُجَاب ابْن عَبَّاس عَن قَوْله هَذَا بِأَن هَذِه الْآيَة المدنية عَامَّة قد دَخلهَا التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ لَو قَتله وَالْقَاتِل كَافِر ثمَّ أسلم انهدرت عَنهُ الْعقُوبَة فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة، فَإِذا كَانَت من الْعلم الْمَخْصُوص فَأَي دَلِيل صلح للتخصيص وَجب الْعَمَل بِهِ. وَمن أَسبَاب التَّخْصِيص أَن يكون قَتله مستحلا فيخلد لَا ستحلاله لِأَنَّهُ يكفر بذلك. وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهَا إِنَّمَا نزلت فِي حق مُسلم ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام وَقتل مُسلما، وَقد أجَاب قوم بِجَوَاب آخر فَقَالُوا: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم إِن جازاه، وَلَيْسَ من ضَرُورَة الْوَعيد وُقُوعه. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله: {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} [النِّسَاء: 48] وَالْوَجْه مَا قُلْنَاهُ.
869 - / 739 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} [الشُّعَرَاء: 214] صعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّفَا فَجعل يُنَادي. [15] الْعَشِيرَة: الرَّهْط الأدنون. والبطون: دون الْقَبِيلَة. [15] وَقَوله: " يَا بني فهر، يَا بني عدي " فهر هُوَ مَالك بن النَّضر، من

(2/359)


أجداد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وعدي هُوَ ابْن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر. [15] وَقَوله: تَبًّا لَك: أَي هَلَاكًا. والتباب: الخسران. وَمعنى: {تبت يدا أبي لَهب} خسرت يَدَاهُ {وَتب} [المسد: 1] أَي خسر هُوَ. وَقَالَ الْفراء: الأول دُعَاء وَالثَّانِي خبر كَمَا تَقول للرجل: أهْلكك الله وَقد أهْلكك. وجعلك الله صَالحا وَقد جعلك. [15] وَأما تَخْصِيص ذَلِك بِالْيَدِ فعلى عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يعبرون بِبَعْض الشَّيْء عَن جَمِيعه كَقَوْلِه: {ذَلِك بِمَا قدمت يداك} [الْحَج: 10] وَإِنَّمَا خصت الْيَد بِالذكر لِأَن الرِّبْح والخسران يكونَانِ بالمعاملة وَالْبيع، وَالْيَد هِيَ الآخذة المعطية. [15] فَأَما أَبُو لَهب فَهُوَ عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلقَائِل أَن يَقُول: مَا السِّرّ فِي أَن الله تَعَالَى كناه وَفِي الكنية نوع تَعْظِيم؟ وَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قد قيل: إِن اسْمه عبد الْعُزَّى، فَكيف يذكرهُ الله تَعَالَى بِهَذَا الِاسْم وَفِيه معنى الشّرك. وَالثَّانِي: أَن كثيرا من النَّاس اشتهروا بكناهم وَلم تعرف أَسمَاؤُهُم. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: خبرني غير وَاحِد عَن الْأَصْمَعِي أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء وَأَبا سُفْيَان بن الْعَلَاء اسماهما كناهما، وَإِن كَانَ اسْم أبي لَهب كنيته فَإِنَّمَا ذكره بِمَا لَا يعرف إِلَّا بِهِ. [15] وَقَوله: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله} أَي مَا يُغني. قَالَ ابْن مَسْعُود: قَالَ أَبُو لَهب: إِن كَانَ مَا يَقُول ابْن أخي حَقًا فَأَنا أفتدي بِمَالي وَوَلَدي. فَقَالَ الله عز وَجل: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب} فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المُرَاد

(2/360)


بِكَسْبِهِ وَلَده. [15] وَقَوله: يَا صَبَاحَاه. مُفَسّر فِي مُسْند سَلمَة بن الْأَكْوَع. [15] وَقَوله: {وجعلناكم شعوبا وقبائل} [الحجرات: 13] الشعوب. جمع شعب: وَهُوَ الْحَيّ الْعَظِيم مثل مُضر وَرَبِيعَة. والقبائل دونهَا كبكر من ربيعَة وَتَمِيم من مُضر.
870 - / 1040 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: أَن بُرَيْدَة بن الْحصيب قَالَ: " لَا رقية إِلَّا من عين أَو حمة ". [15] قَوْله: " من عين " أَي من إِصَابَة الْعين. وَقَوله: " أَو حمة " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْحمة سم الْحَيَّات والعقارب وَمَا أشبههَا من ذَوَات السمُوم، والعامة تذْهب إِلَى أَن حمة الْعَقْرَب شَوْكهَا وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا الْحمة سمها، والشوكة هِيَ الإبرة. وَسَيَأْتِي فِي مَوَاضِع من المسانيد الرُّخْصَة فِي الرّقية. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث عَوْف بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لَا بَأْس بالرقى مَا لم يكن شرك ". والمسند من هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُفَسّر فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.

(2/361)


871 - / 1041 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعالج من التَّنْزِيل شدَّة، وَكَانَ مِمَّا يُحَرك بِهِ شَفَتَيْه، فَأنْزل الله {لَا تحرّك بِهِ لسَانك} [الْقِيَامَة: 16] تَفْسِير هَذَا أَنه كَانَ يُحَرك شَفَتَيْه بِمَا قد سَمعه من جِبْرِيل قبل إتْمَام جِبْرِيل الْوَحْي، مَخَافَة أَن يذهب عَنهُ جِبْرِيل وَمَا حفظ. فَقيل لَهُ: {لَا تحرّك بِهِ} أَي الْقُرْآن {لسَانك لتعجل بِهِ} أَي بِأَخْذِهِ {إِن علينا جمعه وقرآنه} أَي علينا جمعه وضمه فِي صدرك. {فَإِذا قرأناه} أَي إِذا فرغ جِبْرِيل من قِرَاءَته {فَاتبع قرآنه} قَالَ ابْن عَبَّاس: فاستمع وأنصت.
872 - / 1042 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: أَهْدَت خَالَتِي أم حفيد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمنا وَأَقِطًا وأضبا. [15] أم حفيد أسلمت وبايعت وروت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيَأْتِي اسْمهَا فِي هَذَا الحَدِيث حفيدة، وَكَذَلِكَ فِي مُسْند خَالِد بن الْوَلِيد، وَإِنَّمَا هِيَ أم حفيد بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، أُخْت أم الْفضل الَّتِي هِيَ أم ابْن عَبَّاس. [15] والأقط: شَيْء يصنع من اللَّبن فيجفف. [15] والأضب جمع ضَب. أخبرنَا موهوب بن أَحْمد وَمُحَمّد بن أبي مَنْصُور بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا قَالَا: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا الْعَزِيز بن عَليّ الْأَزجيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن

(2/362)


المخلص قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن السكرِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي سعيد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عبد الله الطوسي عَن أبي عبيد قَالَ: قَالَ أَبُو زيد: الضَّب حِين يخرج من بيضته حسل، ثمَّ غيداق، ثمَّ مطبخ، ثمَّ يكون ضباً مدْركا. قَالَ أَبُو عبيد: وَقَالَ الْأَحْمَر: هُوَ حسل، ثمَّ مطبخ ثمَّ خضرم ثمَّ ضَب. قَالَ الطوسي: وَأَخْبرنِي الْأَسدي عَن أبي فصيح قَالَ: تَجِيء الضبة إِلَى الْمَكَان فتبيض عشْرين بَيْضَة تصفها صفا، ثمَّ تَدعه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ تَأتي فِي الْوَقْت الَّذِي قد آن لَهُ أَن يخرج فتكشف عَنهُ فتأكله إِلَّا مَا أفلت مِنْهُ، فَلذَلِك قيل: " أعق من ضَب ". قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن أبي سعد: وحَدثني مُحَمَّد بن عبد الله بن يَعْقُوب قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْحسن اللحياني وَقَالَ: الضَّب أطول دَابَّة عمرا، تعيش ثَلَاثمِائَة سنة، يُقَال: " لَا آتِيك سنّ الحسل " لطول عمره. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وحَدثني مُحَمَّد ابْن أبي بشر الدينَوَرِي قَالَ: أنشدنا الْعَبَّاس بن الْفرج:
(فَلَو كَانَ هَذَا الضَّب لَا ذَنْب لَهُ ... وَلَا كشية، مَا مَسّه الدَّهْر لَا مس)

(وَلكنه من أجل ذنيبه ... وكشيته دبت إِلَيْهِ الدهارس)
[15] الكشية: لحْمَة صفراء تملأ جَوف الضَّب. وأنشدوا:
(وَأَنت لَو ذقت الكشى بالأكباد ... )

(2/363)


(لما تركت الضَّب يعدو بالواد ... )
[15] وَقد كَانَ جمَاعَة من الْعَرَب يحبونَ أكل الضَّب ويربونه. وَإِنَّمَا عافه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بَين من قَوْله: " إِنَّه لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه ". [15] وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على ترك مَا تعافه النَّفس من المطاعم، وَاتِّبَاع مَا تميل إِلَيْهِ. وحكماء الْأَطِبَّاء يَقُولُونَ: مَا تميل النَّفس إِلَيْهِ أصلح مِمَّا لَا تميل إِلَيْهِ إِلَّا أَن يكون فِيهِ فرط رداءة، وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى جبل النَّفس على الْميل إِلَى مَا يصلحها والنفور عَمَّا يؤذيها. فلولا أَنه خلق فِيهَا شَهْوَة الْمطعم لما أكلت، ولكان ترك الْأكل سَببا للهلاك، لكنه جعل الشَّهْوَة باعثا ليحصل الْمَقْصُود من تنَاول الْغذَاء. وَقد يحْتَاج الْبدن إِلَى الحامض تَارَة فتشتهيه النَّفس، وَإِلَى الحلو، وَإِلَى فنون المطاعم، فَوضع تِلْكَ الشَّهْوَة لاخْتِلَاف النَّفْع، وَهَذَا الْقدر جَهله كثير من المتزهدين، فمنعوا النَّفس مِمَّا تؤثره، وَذَلِكَ سعي فِي إبِْطَال حَقّهَا، ورد لحْمَة الْوَاضِع، وسعي فِي تنقيص قوى النَّفس أَو تلفهَا. وَرُبمَا ظن بعض جهالهم أنني أحث بِهَذَا الْكَلَام على تنَاول الشَّهَوَات مُطلقًا، وَإِنَّمَا أُشير إِلَى أَخذ مِقْدَار الْحَاجة مِمَّا يصلح الْبدن لَا إِلَى الشره، فليفهم هَذَا. [15] والمحنوذ: المشوي، وَيُقَال لَهُ حنيذ، كَمَا يُقَال للمطبوخ طبيخ، وللمقتول قَتِيل، قَالَ الْفراء: هُوَ مَا حفرت الأَرْض ثمَّ غممته. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ المشوي بِالْحِجَارَةِ المحماة.

(2/364)


[15] وَقَوله: " فأجدني أعافه " أَي أكرهه. يُقَال: عاف يعاف عيافا. وَقد بَين سَبَب كراهيته، وللعادة والمألوف أثر. [15] وَقَوله: دَعَانَا عروس. المُرَاد بالعروس الرجل المتزوج. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: تذْهب الْعَامَّة إِلَى أَن الْعَرُوس يَقع على الْمَرْأَة خَاصَّة دون الرجل، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يُقَال: رجل عروس وَامْرَأَة عروس، وَلَا يسميان عروسين إِلَّا أَيَّام الْبناء، قَالَ الشَّاعِر:
( ... ... ... ... وَهَذَا عروسا بِالْيَمَامَةِ خَالِد)
[15] وَمن أمثالهم: " كَاد الْعَرُوس يكون أَمِيرا " وَيُقَال لَهما أَيْضا عرسان فِي كل وَقت، قَالَ الراجز:
(أَنْجَب عرس جمعا وعرس ... )
[15] وَقَوله: فَقرب إِلَيْهِم خوان: الخوان مَعْرُوف، يتْرك عَلَيْهِ الطَّعَام وَقت الْأكل. وَقيل لثعلب: أَيجوزُ أَن يُقَال: إِنَّمَا سمي خوانًا لِأَنَّهُ يتخون مَا عَلَيْهِ: أَي ينتقص؟ فَقَالَ: مَا يبعد.

(2/365)


873 - / 1043 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَوْلَاد الْمُشْركين فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين إِذْ خلقهمْ ". [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى: لَو أبقاهم. يُرِيد: فَلَا تحكموا عَلَيْهِم بِكفْر آبَائِهِم إِذا لم يبلغُوا فيكفروا، وَلَا تحكموا عَلَيْهِم بميثاق الْفطْرَة الَّتِي ولدُوا عَلَيْهَا، لأَنهم لم يبلغُوا فيؤمنوا. [15] قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَوْلَاد الْمُشْركين على خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: الْوَقْف فيهم، لِأَن طَرِيق إِثْبَات ذَلِك النَّص، وَلَا نَص، وَهَذَا اخْتِيَار أبي بكر الْأَثْرَم، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا ينزلون جنَّة وَلَا نَارا، وَيُقَال فيهم كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين " فاستدل بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور وَبِحَدِيث عَائِشَة قَالَت: مَاتَ صبي من الْأَنْصَار فَقلت: عُصْفُور من عصافير الْجنَّة، فَقَالَ النَّبِي: " أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة. إِن الله خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهَا لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم. وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهَا لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ". [15] وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم فِي النَّار. روى عبد الله بن الْحَارِث عَن خَدِيجَة أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَوْلَادهَا من أزواجها فِي الْجَاهِلِيَّة. فَقَالَ: " فِي النَّار " فَقَالَت: بِغَيْر عمل؟ فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين " وَسَأَلته عَن أَوْلَادهَا مِنْهُ، فَقَالَ: " فِي الْجنَّة " فَقَالَت: بِغَيْر عمل؟ فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ". وروى يحيى بن

(2/366)


المتَوَكل عَن بهية عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَو شِئْت لأسمعتك تضاغيهم فِي النَّار ". قَالَ الْأَثْرَم: وَحَدِيث خَدِيجَة لَيْسَ بِالْقَوِيّ، لِأَنَّهُ مُرْسل، لِأَن خَدِيجَة توفيت فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلم يلقها أحد من التَّابِعين، وَحَدِيث بهية إِسْنَاده واه. [15] وَالثَّالِث: أَنهم يمْتَحنُونَ فِي الْقِيَامَة بِنَار تأجج لَهُم. روى عَليّ بن زيد عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يُؤْتى بالمعتوه والهالك فِي الفترة والمولود، فتؤجج لَهُم نَار، وَيبْعَث إِلَيْهِم رَسُول فَيَقُول: ردوهَا، فيردها من كَانَ فِي علم الله سعيدا، فَتكون عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وتحبس عَنْهَا من كَانَ فِي علم الله شقيا، وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِشَيْء، فَإِن عَليّ بن زيد لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ أَحْمد وَيحيى: لَيْسَ بِشَيْء. [15] وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنهم خدم أهل الْجنَّة لحَدِيث نقل وَلَا يثبت. [15] وَالْخَامِس: أَنهم بَين الْجنَّة وَالنَّار، إِذا لَا طَاعَة لَهُم وَلَا مَعْصِيّة. وَكَانَ ابْن عقيل ينصر أَنهم لَا يُعَذبُونَ، ويحتج بقوله: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} [الْأَنْعَام: 164] وَقَوله: {لَا ظلم الْيَوْم} [غَافِر: 17] قَالَ: وَهَذَا يُعْطي أَن الظُّلم الْمُؤَاخَذَة بِغَيْر كسب، وَلَا صنع للطفل وَلَا كسب، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك} [طه: 134] وَبِقَوْلِهِ: {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون} [الْأَعْرَاف: 173] وَبِقَوْلِهِ: {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} [النِّسَاء: 165] قَالَ: فَكَمَا أَنه لَا يعذب

(2/367)


بَالغا لم تأته الرسَالَة، لَا يعذب مَجْنُونا وطفلا لم تأته الرسَالَة، وَهَذَا يخبر أَنه لَا يعذب إِلَّا بعد الْإِرْسَال، فللأطفال أَن يحتجوا ويقولوا: مَا جَاءَنَا من رَسُول. فَإِن قَالَ قَائِل: أَنا أعذبكم بِمُطلق الْمَشِيئَة، أفْضى إِلَى أَن يكون الاعتلال بالرسل لَيْسَ باعتلال وَلَا احتجاج، لِأَنَّهُ قد أبْطلهُ بتعذيب من لم يُرْسل إِلَيْهِ، وَلَا فعل مَا يسْتَحق بِهِ الْجَزَاء. وَمن يُقيم الْحجَّة للعدل بِتِلْكَ الْإِقَامَة لَا يعود بتعذيب بِغَيْر حجَّة، وحوشي من الِاخْتِلَاف فِي أَقْوَاله، والتحريف فِي أَفعاله.
874 - / 1044 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: كَانَ يَصُوم حَتَّى يَقُول الْقَائِل: لَا يفْطر، وَيفْطر حَتَّى يَقُول الْقَائِل: لَا يَصُوم. [15] إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عدل عَمَّا شهد أَنه أفضل الصّيام، وَهُوَ صِيَام دَاوُد؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الظَّاهِر من هَذَا الْفِعْل أَنه قد كَانَ يَصُوم بِقدر مَا يفْطر، فَهَذَا مثل صَوْم دَاوُد. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ فِي مقَام هُوَ أَعلَى المقامات، وَهُوَ الرِّضَا بالأقدار، فَكَانَ يتقلب فِيمَا يقلبه الْحق عز وَجل فِيهِ من غير اخْتِيَار لنَفسِهِ، فَإِذا ألهمه الصَّوْم أَو لم يقدر لَهُ مَا يَأْكُل قَالَ: " إِنِّي إِذن صَائِم ".

875 - / 1045 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: مَا قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْجِنّ وَمَا رَآهُمْ. [15] هَذَا كُله يضاد مَا سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: أَتَانِي دَاعِي الْجِنّ فَذَهَبت مَعَه، فقرات عَلَيْهِم الْقُرْآن. وَرفع هَذَا

(2/368)


الْإِشْكَال من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يقدم حَدِيث ابْن مَسْعُود لِأَنَّهُ مُثبت وَابْن عَبَّاس يَنْفِي، وَقَول الْمُثبت مقدم. وَالثَّانِي: أَن يكون حَدِيث ابْن عَبَّاس مُتَقَدم، بِدَلِيل أَنه وصف فِيهِ تحير الشَّيَاطِين لوُقُوع الشهب، وَإِنَّمَا وَقعت عِنْد المبعث، وَحَدِيث ابْن مَسْعُود فِي حَال أُخْرَى بعد ذَلِك. وَيدل على أَنَّهُمَا حالتان أَن فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: جَاءُوا وَهُوَ لَا يعلم، فَأُوحي إِلَيْهِ {أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} . وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: استدعوه فحضرهم. [15] قَوْله: وَقد حيل بَين الشَّيَاطِين وَبَين خبر السَّمَاء، وَأرْسلت عَلَيْهِم الشهب. اخْتلف الْعلمَاء: هَل كَانَت الشَّيَاطِين ترمى بالنجوم قبل مبعث نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا لم ترم حَتَّى بعث، وَظَاهر هَذَا الحَدِيث يدل على ذَلِك، ويقويه قَوْله تَعَالَى: {فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا} [الْجِنّ: 19] وَقد اسْتدلَّ الزّجاج على صِحَّته: أَن قَالَ: لم يُوجد فِي شعر شعراء الْعَرَب الَّذين يمثلون بالبرق والأشياء المسرعة ذكر الْكَوَاكِب المنقضة، فَلَمَّا حدثت بعد مولد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتعْملت الشُّعَرَاء ذكرهَا، فَقَالَ ذُو الرمة.
(كَأَنَّهُ كَوْكَب فِي إِثْر عفرية ... مُسَوَّم فِي سَواد اللَّيْل منقضب)
[15] وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه قد كَانَ قبل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدَلِيل مَا سَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: بَينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس فِي نفر من أَصْحَابه إِذْ رمي بِنَجْم فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: " مَا كُنْتُم تَقولُونَ إِذا كَانَ مثل هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة؟ " قَالَ: كُنَّا نقُول: يَمُوت عَظِيم أَو

(2/369)


[15] يُولد عَظِيم. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الشَّيَاطِين كَانَت لَا تحجب عَن السَّمَوَات، فَلَمَّا ولد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام منعت من ثَلَاث سماوات، فَلَمَّا ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منعت من السَّمَاوَات كلهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: قد كَانَ يرْمى بالنجوم قبل مبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنهَا غلظت حِين بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا مَذْهَب ابْن قُتَيْبَة. قَالَ: وعَلى هَذَا وجدنَا الشّعْر الْقَدِيم، قَالَ بشر بن أبي خازم:
(وَالْعير يرهقها الْغُبَار وجحشها ... ينْقض خلفهمَا انقضاض الْكَوْكَب)
[15] وَقَالَ أَوْس بن حجر، وَهُوَ جاهلي:
(فانقض كالدري يتبعهُ ... نقع يثور تخاله طنبا)
[15] قلت: وَقد ذكر فِي شعره انقضاض الْكَوْكَب الأفوه الأودي، وَأُميَّة ابْن أبي الصَّلْت، وعَوْف بن الخرع وَغَيرهم، إِلَّا أَن الَّذِي أميل إِلَيْهِ أَنه لم ترم بِالشُّهُبِ إِلَّا قبيل مولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ اسْتمرّ ذَلِك وَكثر حَتَّى بعث، وَكَانَ ذَلِك من التأسيس لأَمره والتفخيم لشأنه كَمَا جرى على أَصْحَاب الْفِيل، وكما انْبَعَثَ المَاء من تَحت خف رَاحِلَة عبد الْمطلب حِين خرج هُوَ وَجَمَاعَة إِلَى الكاهن ليشير إِلَى أحدهم بالتخصيص بزمزم. وعَلى هَذَا يحمل شعر بشر بن أبي خازم، فَإِنَّهُ قد أدْرك الْفجار وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أدْرك الْفجار، وَأُميَّة أدْرك النُّبُوَّة وَكَذَلِكَ أشعار البَاقِينَ، فَإِنَّهَا قيلت قبل مولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا حجَّة فِي أشعار

(2/370)


المخضرمين لما بَينا من أَن ذَلِك كالتأسيس لأمر للنبوة، وَمَا يُمكن أحدا أَن يَأْتِي بِبَيْت شعر من أشعار الْجَاهِلِيَّة القدماء فِي انقضاض الْكَوْكَب مَعَ كَونهم قد شبهوا السرعة بِكُل شَيْء وَلم يذكرُوا الْكَوْكَب فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي هَذَا، وَقد ذكر نَحْو مَا ذكرته أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: أيزول الْكَوْكَب إِذا رجم بِهِ؟ قُلْنَا: قد يُحَرك الْإِنْسَان يَده أَو حَاجِبه فتضاف تِلْكَ الْحَرَكَة إِلَى جَمِيعه، فَرُبمَا فضل شُعَاع من الْكَوْكَب فَأحرق، وَيجوز أَن يكون ذَلِك الْكَوْكَب يفنى ويتلاشى، وَالله أعلم. [15] وَقَوله: أخذُوا نَحْو تهَامَة. سميت تهَامَة لشدَّة حرهَا. وَقيل لشدَّة رِيحهَا.
876 - / 1047 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: قلت لِابْنِ عَبَّاس: سُورَة التَّوْبَة. فَقَالَ: هِيَ الفاضحة. [15] اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة لَهَا تِسْعَة أَسمَاء: أَحدهَا سُورَة التَّوْبَة، وَالثَّانِي بَرَاءَة، وَهَذَانِ مشهوران. وَالثَّالِث: سُورَة الْعَذَاب، قَالَه حُذَيْفَة. الرَّابِع: المقشقشة، قَالَه ابْن عمر. وَالْخَامِس: سُورَة البحوث، لِأَنَّهَا بحثت عَن سرائر الْمُنَافِقين، قَالَه الْمِقْدَاد بن الْأسود.

(2/371)


وَالسَّادِس: الفاضحة، لِأَنَّهَا فضحت الْمُنَافِقين، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالسَّابِع: المثيرة، لِأَنَّهَا أثارت مخازي الْمُنَافِقين ومثالبهم، قَالَه قَتَادَة. وَالثَّامِن: المبعثرة، لِأَنَّهَا بعثرت أَخْبَار النَّاس وكشفت عَن سرائرهم، قَالَه ابْن إِسْحَق. وَالتَّاسِع: الحافرة، لِأَنَّهَا حفرت عَن قُلُوب الْمُنَافِقين، قَالَه الزّجاج.
877 - / 1048 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: إِذا حرم الرجل امْرَأَته فَهُوَ يَمِين يكفرهَا. وَفِي لفظ: لَيْسَ بِشَيْء. [15] اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن قَالَ لزوجته: أَنْت عَليّ حرَام، فَذهب أَبُو بكر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة إِلَى أَنه يَمِين، وَعَن أَحْمد مثله، وَذهب عُثْمَان بن عَفَّان إِلَى أَنه ظِهَار، وَهُوَ الْمَنْصُور من مَذْهَب أَحْمد. فَإِن قَالَ: نَوَيْت بِهِ الْيَمين أَو الطَّلَاق لم يقبل فِي رِوَايَة، وَيقبل فِي الْأُخْرَى. وَعَن أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة أَنه طَلَاق. وَقَالَ مَالك: هُوَ طَلَاق ثَلَاث فِي حق الْمَدْخُول بهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يرجع إِلَى نِيَّته، فَإِن لم ينْو فَهُوَ يَمِين وَيكون موليا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يرجع إِلَى نِيَّته إِلَّا أَن يَنْوِي الْيَمين فَإِنَّهُ يكون يَمِينا، وَيجب كَفَّارَة يَمِين، وَالثَّانِي: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَعَلِيهِ يحمل قَول ابْن عَبَّاس: لَيْسَ بِشَيْء. وَيحْتَمل لَيْسَ بِشَيْء يثبت التَّحْرِيم.

(2/372)


878 - / 1050 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: سقيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زَمْزَم فَشرب وَهُوَ قَائِم. [15] هَذَا لَا يعدو ثَلَاثَة أَحْوَال: إِمَّا أَن يكون مَنْسُوخا بنهيه عَن الشّرْب قَائِما. وَإِمَّا لتبيين الْجَوَاز، لِأَن نَهْيه عَن ذَلِك نهي كَرَاهَة. وَإِمَّا لعذر. وَفِي تَمام الحَدِيث أَن عِكْرِمَة قَالَ: كَانَ على بعيره، وَهَذَا قَاعد.
879 - / 1051 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: مر على قبر منبوذ فامهم وَصفهم خَلفه. [15] المنبوذ هَاهُنَا: الْمُفْرد عَن الْقُبُور. وَقد رَوَاهُ قوم: على قبر منبوذ، بِكَسْر الرَّاء مَعَ الْإِضَافَة، وفسروه باللقيط، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن فِي بعض الْأَلْفَاظ: أَتَى قبرا مَنْبُوذًا. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على جَوَاز إِعَادَة الصَّلَاة على الْمَيِّت لمن لم يصل، وَالصَّلَاة على الْقَبْر خلافًا لأبي حنيفَة.
880 - / 1052 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: أنهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل - أَنه كَانَ حمولة النَّاس فكره أَن تذْهب حمولتهم، أَو حرمت فِي يَوْم خَيْبَر - لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة؟ .

(2/373)


[15] الحمولة بِفَتْح الْحَاء: الْإِبِل الَّتِي تحمل الأثقال، فَهَذَا اسْمهَا كَانَ عَلَيْهَا حمل أَو لم يكن. وكل شَيْء حمل عَلَيْهِ من الدَّوَابّ كالخيل وَالْبِغَال وَالْحمير فَإِنَّمَا سمي حمولة تَشْبِيها بِالْإِبِلِ. فَأَما الحمولة بِضَم الْحَاء فالأحمال بِعَينهَا. [15] وَقد كشف هَذَا الْإِشْكَال الَّذِي وَقع لِابْنِ عَبَّاس قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّهَا رِجْس ".
881 - / 1053 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: " من هم بِالْحَسَنَة فَلم يعملها كتبهَا الله لَهُ عِنْده حَسَنَة، وَلَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك ". [15] قد بَينا فِيمَا سبق أَن مِقْدَار الْجَزَاء على الْحَسَنَة مَعْلُوم الْقدر عِنْد الله عز وَجل فَهُوَ يثيب المحسن بذلك الثَّوَاب عشر مَرَّات، فَهَذَا الرَّاتِب، ثمَّ يُزَاد الْإِنْسَان على قدر إخلاصه وَصدقه وحضوره إِلَى مَا لَا يعلم النَّاس حَده، فَإِذا هم الْإِنْسَان بِالْحَسَنَة فَلم يعملها، فاهتمامه بِالْحَسَنَة حَسَنَة، فَلذَلِك تكْتب. وَإِذا هم بِالسَّيِّئَةِ فَلم يعملها فالغالب أَنه إِنَّمَا تَركهَا خوفًا من الْعقَاب، فخوفه حَسَنَة، فَلذَلِك تكْتب، فَخرج الْكَلَام مخرج الْغَالِب. فَأَما إِذا لم يتَمَكَّن من الْمعْصِيَة فَإِنَّهُ لَا يُسمى تَارِكًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتْرك مَا يقدر عَلَيْهِ، غير أَنه يسامح فِي همته، إِذْ الاهتمام تردد، فَإِن صَارَت المهمة عَزِيمَة أخرجته إِلَى الْإِصْرَار فأثم. [15] وَقَوله: " لَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك " يَعْنِي أَن حلمه عَظِيم، وفضله عَظِيم، فَمن هلك بعد ذَلِك فَهُوَ الْهَالِك من قبل تَقْصِيره ومساكن تفريطه.

(2/374)


882 - / 1054 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: " اطَّلَعت فِي الْجنَّة فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا الْفُقَرَاء ". قد شرحناه فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
883 - / 1055 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: " من رأى من أميره شَيْئا فليصبر عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ فميتة جَاهِلِيَّة ". [15] الْمُفَارقَة هَاهُنَا فِي قبُول الْإِمَامَة، وَذكر الشبر على سَبِيل الْمثل. [15] وَالْميتَة مَكْسُورَة الْمِيم: يَعْنِي بهَا الْحَالة الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، فَهِيَ كالقعدة والجلسة وَالركبَة، وَإِنَّمَا يُرَاد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الْحَال والهيئة. وَأما الْميتَة بِفَتْح الْمِيم فَهِيَ الْحَيَوَان الْمَيِّت، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الْحل ميتَته ". [15] والجاهلية: عَادَة الْقَوْم قبل الْإِسْلَام، فَإِنَّهُم كَانُوا يعْملُونَ بواقعاتهم وَلَا يلتفتون إِلَى مشرع.
884 - / 1056 وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: " أعوذ بعزتك ". [15] قَالَ الزّجاج: الْعِزَّة: المنعة وَشدَّة الْغَلَبَة، وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم: ارْض عزاز، قَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا. فَتَأْوِيل

(2/375)


الْعِزَّة الْغَلَبَة والشدة الَّتِي لَا يتَعَلَّق بهَا إذلال، قَالَت الخنساء:
(كَأَن لم يَكُونُوا حمى يتقى ... إِذْ النَّاس إِذْ ذَاك من عز بزا)
[15] أَي: من قوي وَغلب سلب. وَيُقَال: قد اسْتعزَّ على الْمَرِيض: أَي اشْتَدَّ وَجَعه.
885 - / 1058 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: " لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى " وَنسبه إِلَى أَبِيه. [15] وَقد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. وَأَبوهُ اسْمه مَتى.
886 - / 1059 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: " من لم يجد إزارا فليلبس سَرَاوِيل، وَمن لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ ". [15] الْإِشَارَة إِلَى الْمحرم، فَإِذا لم يجد الْإِزَار جَازَ أَن يلبس السَّرَاوِيل وَلَا تجب عَلَيْهِ فديَة بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: إِن لبس السَّرَاوِيل وَجَبت عَلَيْهِ الْفِدْيَة. وَقد اخْتلف أَصْحَاب أبي حنيفَة هَل يجوز لَهُ لبسه. فَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يجوز لبسه حَتَّى يفتقه. وَقَالَ الرَّازِيّ: يجوز ويفتدي، وَهُوَ قَول أَصْحَاب مَالك، وهم يَقُولُونَ لنا: نَحن نقُول بِجَوَاز اللّبْس، فَمَا

(2/376)


الدَّلِيل على نفي الْكَفَّارَة؟ فَالْجَوَاب: إِن إِذن الشَّرْع الْمُطلق مُؤذن بِنَفْي التَّبعَات، فمدعي التبعة يفْتَقر إِلَى الدَّلِيل. فَإِن قَالُوا: يفتقه، فقد زَالَ عَنهُ اسْم السَّرَاوِيل. [15] وَأما إِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ فَيجوز لَهُ لبس الْخُفَّيْنِ من غير فديَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز لَهُ لبسهما على صفتهما، بل بقطعهما اسفل الْكَعْبَيْنِ، فَإِن لبسهما افتدى، وذهبوا إِلَى حَدِيث ابْن عمر. وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
887 - / 1060 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم. [15] قد خُولِفَ ابْن عَبَّاس فِي هَذَا. وَسَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث يزِيد بن الْأَصَم عَن مَيْمُونَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال. وروى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث يزِيد بن الْأَصَم عَن مَيْمُونَة قَالَت: تزَوجنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن حلالان بسرف. وَمَعْلُوم أَن مَيْمُونَة أعلم بشأنها من غَيرهَا. وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: وهم ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم. وَيحْتَمل قَوْله: وَهُوَ محرم، أَي فِي شهر حرَام، قَالَ الشَّاعِر:

(2/377)


(قتلوا ابْن عَفَّان الْخَلِيفَة محرما ... ) أَي فِي شهر حرَام.
888 - / 1061 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع بَين الظّهْر وَالْعصر، وَالْمغْرب وَالْعشَاء من غير خوف وَلَا سفر. [15] وَهَذَا يحمل على أَنه قد كَانَ مطر أَو وَحل وَقد قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: لَعَلَّه فِي لَيْلَة مطيرة. وَقَالَ أَبُو الشعْثَاء جَابر بن زيد رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس: عَسى. إِلَّا أَنه قد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ: من غير خوف وَلَا مطر، فَهَذَا يحمل على أَنه لأجل الوحل. وَعِنْدنَا يجوز الْجمع لأَجله خلافًا للشَّافِعِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون لأجل الْمَرَض، وَعِنْدنَا يجوز خلافًا للشَّافِعِيّ أَيْضا. [15] وَفِي لفظ: صليت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمانياً جَمِيعًا، وَسبعا جَمِيعًا. يَعْنِي الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء. وَيحْتَمل أَن يكون الْجمع تَأْخِير الصَّلَاة إِلَى آخر وَقتهَا، وَتَقْدِيم الثَّانِيَة إِلَى أول وَقتهَا، وعَلى هَذَا يخرج قَول ابْن عَبَّاس: أَرَادَ أَلا يحرج أمته: أَي لَا يضيق عَلَيْهَا الْوَقْت. [15] وَفِي رِوَايَة: جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السّفر. وَهَذَا جَائِز عندنَا وَعند الشَّافِعِي، خلافًا لأبي حنيفَة، فَإِن كَانَ السّفر قَصِيرا لم يجز

(2/378)


الْجمع، خلافًا لمَالِك. [15] وَقَول الرَّاوِي: فحاك فِي صَدْرِي: أَي أثر، فَقَالَ: مَا يحيك كلامك فِي قلبِي: أَي مَا يُؤثر.
889 - / 1062 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيد على ابْنة حَمْزَة، فَقَالَ: " لَا تحل لي: وَقَالَ: " يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من الرَّحِم ". [15] الْمَعْنى: أُرِيد أَن يَتَزَوَّجهَا، وَكَانَ حَمْزَة أَخَاهُ من الرضَاعَة، أرضعتهما ثويبة. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
890 - / 1063 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَيْمُونَة كَانَا يغتسلان من إِنَاء وَاحِد. وَفِي رِوَايَة كَانَ يغْتَسل بِفضل مَيْمُونَة. [15] أما اغتسالهما من إِنَاء وَاحِد مَعًا فَلَا خلاف فِي جَوَازه. وَأما مَا رُوِيَ من اغتساله بفضلها فَإِنَّهُ مَرْوِيّ بِالشَّكِّ والتردد، قَالَ فِيهِ عَمْرو بن دِينَار: أَكثر علمي وَالَّذِي يخْطر على بالي أَن أَبَا الشعْثَاء أَخْبرنِي عَن ابْن عَبَّاس بِهَذَا. ثمَّ هُوَ مَحْمُول على أَنه اغْتسل بِمَا أفضلته مَعَ حُضُوره وَقت اسْتِعْمَالهَا، وَاسْتِعْمَال ذَلِك جَائِز لَهُ بِالْإِجْمَاع. فَأَما إِذا خلت بِهِ فالمنصور من الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد أَنه لَا يجوز لَهُ التَّوَضُّؤ بفضلها. وَفِي

(2/379)


الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَن ذَلِك مَكْرُوه، فَإِن تَوَضَّأ أَجزَأَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: يجوز لَهُ التَّوَضُّؤ بِهِ. [15] وَقَول عَمْرو بن دِينَار: يخْطر على بالي. البال: الْقلب، وَقَول النَّاس: مَا أُبَالِي بِكَذَا: أَي مَا أشغل بِهِ بالي، والبال يُقَال بِمَعْنى الْحَال، يُقَال: مَا بالك؟ أَي: مَا حالك؟
891 - / 1064 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين: خَطَبنَا ابْن عَبَّاس فِي يَوْم ذِي ردغ، فَأمر الْمُؤَذّن لما بلغ: حَيّ على الصَّلَاة، قَالَ: قل: الصَّلَاة فِي الرّحال، فَنظر بَعضهم إِلَى بعض كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ: إِنَّهَا عَزمَة. [15] الردغ: المَاء والطين. وَقَالَ أَبُو عبيد: الردغة بِفَتْح الرَّاء وَالدَّال وبالهاء: هِيَ المَاء والطين والوحل، وَجَمعهَا رداغ. [15] وَقَوله: إِنَّهَا عَزمَة. يَعْنِي صَلَاة الْجُمُعَة، وَلم تذكر، وَلَكِن قَوْله خَطَبنَا، قد دلّ عَلَيْهَا. [15] وَقَوله: كرهت أَن أحرجكم. أَي أضيق عَلَيْكُم. [15] والدحض: الزلق. يُقَال: مَكَان دحض: أَي زلق.
892 - / 1065 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: عَن أبي جَمْرَة

(2/380)


قَالَ: كنت أترجم بَين ابْن عَبَّاس وَبَين النَّاس. [15] أما أَبُو جَمْرَة فَهُوَ بِالْجِيم الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة، واسْمه نصر بن عمرَان الضبعِي. ويروي عَن ابْن عَبَّاس أَبُو حَمْزَة بِالْحَاء وَالزَّاي. قد ذكرنَا ذَلِك لِئَلَّا يشْتَبه. [15] وَقَوله: كنت أترجم: أَي أخبر النَّاس بقول ابْن عَبَّاس وَأخْبرهُ بقَوْلهمْ. [15] وقلوه: غير خزايا. الخزايا: جمع خزيان يُقَال: خزي الرجل يخزى خزاية: إِذا استحيا من فعل فعله على خلاف الصَّوَاب. الندامى جمع نادم، وَكَانَ الْقيَاس أَن يَقُول: وَلَا نادمين، وَلَكِن أخرجه على وزن الْكَلَام الأول وَهُوَ قَوْله خزايا، كَمَا قَالُوا: " إِنَّه ليَأْتِينَا بالغدايا والعشايا " يُرِيدُونَ غَدَاة، وَهِي تجمع على الغدوات، لكنه لما قرنه بالعشايا أخرجه على وَزنهَا. وَإِنَّمَا مدحهم بِهَذَا لأَنهم أَتَوا مُسلمين طَوْعًا، فَلم يصبهم حَرْب تؤذيهم، وَلَا سبي يخزيهم. [15] وَقَوله: أَتَيْنَا من شقة بعيدَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الشقة: السّفر. وَقَالَ الزّجاج: الشقة: الْغَايَة الَّتِي تقصد. [15] وَقَوله: فمرنا بِأَمْر فصل: أَي بَين وَاضح ينْفَصل بِهِ المُرَاد من غَيره ويرتفع الْإِشْكَال.

(2/381)


[15] وَقَوله " وَأَن تُؤَدُّوا الْخمس من الْمغنم " اعْلَم أَن أَرْبَعَة أَخْمَاس الْغَنِيمَة لأهل الْحَرْب خَاصَّة، وَأما الْخمس الْخَامِس فينقسم على خَمْسَة أسْهم: سهم للرسول، وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى، وَسَهْم لِلْيَتَامَى، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم لأبناء السَّبِيل. [15] وَقَوله: ونهاهم عَن الدُّبَّاء والحنتم. أَي عَن الانتباذ فِي هَذِه الْأَشْيَاء. والدباء الْقرعَة. والحنتم الحناتم: الجرار. والمزفت: الَّذِي قد طلي بالزفت: وَهُوَ القار. والنقير: أصل النَّخْلَة ينقر فيتخذ مِنْهَا مَا ينتبذ فِيهِ. وَإِنَّمَا نَهَاهُم عَن هَذِه الْأَوَانِي لِأَن الشَّرَاب قد يغلي فِيهَا وَيصير مُسكرا وَلَا يعلم بِهِ، لَا أَنَّهَا تحرم شَيْئا. وَكَذَلِكَ خلط البلح بالزهو يُوجب تعاونهما الاشتداد، وكل هَذِه الْأَشْيَاء مَكْرُوهَة مَا لم توجب اشتداداً، فَإِذا حدثت بهَا شدَّة حرمت. [15] وَقَوله للأشج. الْأَشَج لقب، واسْمه الْمُنْذر، وَقيل: قيس. [15] والأناة: التأني والتثبت وَترك العجلة إِلَى أَن يَتَّضِح الصَّوَاب.
893 - / 1066 - وَفِي الحَدِيث التسعين: سَأَلت ابْن عَبَّاس عَن الْمُتْعَة فَأمرنِي بهَا. [15] الْمُتْعَة هَاهُنَا مُتْعَة الْحَج، وَقد بيناها فِي مُسْند سعد. [15] وَالْهَدْي: مَا أهْدى إِلَى الْبَيْت، وَفِيه لُغَتَانِ: هدي بِإِسْكَان الدَّال،

(2/382)


[15] وهدي بِكَسْرِهَا وَتَشْديد الْيَاء. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَصله مشدد فَخفف وَإِنَّمَا يكون الْهَدْي من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. [15] وَقَوله: أَو شرك فِي دم. عندنَا أَنه لَا يجوز أَن يشْتَرك السَّبْعَة فِي الْبَدنَة وَالْبَقَرَة، سَوَاء كَانَ هديهم تَطَوّعا أَو وَاجِبا، وَسَوَاء اتّفقت جِهَات قربهم أَو اخْتلفت، وَكَذَلِكَ إِن كَانَ بَعضهم مُتَطَوعا وَبَعْضهمْ عَن وَاجِب، أَو كَانَ بَعضهم متقربا وَبَعْضهمْ يُرِيد اللَّحْم، نَص على هَذَا أَحْمد، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانُوا متقربين صَحَّ الِاشْتِرَاك، وَإِن كَانَ بَعضهم يُرِيد اللَّحْم وَبَعْضهمْ يُرِيد الْقرْبَة لم يَصح الِاشْتِرَاك. وَقَالَ مَالك: لَا يَصح الِاشْتِرَاك فِي الْهَدْي الْوَاجِب، فَإِن كَانُوا متطوعين صَحَّ الِاشْتِرَاك.
894 - / 1067 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: كَانَت صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث عشرَة رَكْعَة. [15] الْإِشَارَة إِلَى قيام اللَّيْل. وَهَذِه الثَّلَاث عشرَة مِنْهُنَّ رَكْعَة الْوتر، وَهَذَا أَكثر مَا رُوِيَ فِي عدد الرَّكْعَات اللواتي كَانَ يصليهن بِاللَّيْلِ. وَسَيَأْتِي فِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة أَنه كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل تسع رَكْعَات. وعنها: أَنه مَا كَانَ يزِيد على إِحْدَى عشرَة رَكْعَة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَأكْثر مَا رُوِيَ عَنهُ ثَلَاث عشرَة مَعَ الْوتر. وَأَقل مَا نقل تسع رَكْعَات. قلت: وَسَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(2/383)


بِاللَّيْلِ، فَقَالَت: سبع، وتسع، وَإِحْدَى عشرَة. وَهَذَا غير مَا قَالَه التِّرْمِذِيّ.
895 - / 1068 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: طرف فِي ذكر إِسْلَام أبي ذَر. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْنده.
896 - / 1069 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين: فربا الرجل ربوة شَدِيدَة. [15] الربوة: تتَابع النَّفس، وَأَصله الانتفاخ.
897 - / 1070 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين: نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يَأْكُل مِنْهُ أَو يُؤْكَل، وَحَتَّى يُوزن. [15] الْوَزْن هَاهُنَا بِمَعْنى الحزر، وَهُوَ الْخرص، وَإِنَّمَا يخرص إِذا اشْتَدَّ وَصلح للْأَكْل، فَحِينَئِذٍ يُؤمن عَلَيْهِ العاهة غَالِبا.
898 - / 1071 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين، فَقَالَ: " من أسلف فِي تمر فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم ". [15] السّلف: السّلم، وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه لَا يجوز إِلَى الْأَجَل

(2/384)


الْمَجْهُول، كقدوم الْحَاج، وَوقت الْحَصاد، وَهَذَا لَيْسَ بِمَعْلُوم، فَإِنَّهُ قد يتَقَدَّم ويتأخر. وَقد دلّ الحَدِيث على جَوَاز السّلم فِي الشَّيْء الْمَعْدُوم حَال السّلم، خلافًا لأبي حنيفَة.
899 - / 1072 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] لما طعن عمر جعل يألم، فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس - وَكَأَنَّهُ يجزعه: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَا كل ذَلِك. [15] يجزعه: يزِيل جزعه. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم} [سبأ: 23] أَي أزيل عَنْهَا الْفَزع. [15] وَقَوله: من أَجلك وَأجل أَصْحَابك. يَعْنِي الْإِمَارَة. [15] وطلاع الأَرْض: مَا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس.
900 - / 1073 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: صَلَاة الْخَوْف. [15] وَهِي تكون إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة، وَقد ذكرنَا فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة تَقْسِيم صَلَاة الْخَوْف فأغنى عَن الْإِعَادَة.
901 - / 1074 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: وَكِتَابكُمْ تَقْرَءُونَهُ مَحْضا لم يشب. [15] الْمَحْض: الْخَالِص. والشوب: الَّذِي يخلط بِهِ غَيره. وَالْمعْنَى: لم يُبدل.

(2/385)


902 - / 1075 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: كتب إِلَى قَيْصر: فَإِن توليت فَعَلَيْك إِثْم اليريسيين. [15] أما قَيْصر فقد تكلمنا على هَذَا الِاسْم فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة. [15] وَأما قَوْله: " إِثْم اليريسيين " فَكَذَا يرويهِ المحدثون: اليرسيين، بياء أولى وياءين فِي آخر الْكَلِمَة. قَالَ الْخطابِيّ: كَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ: اليريسيين. وَالْيَاء مبدلة فِيهِ عَن الْهمزَة، وَهُوَ فِي سَائِر الرِّوَايَات: الأريسيين. وَأما أهل اللُّغَة فَيَقُولُونَ: الأريسيين بياء وَاحِدَة غير مُشَدّدَة، وَهِي لُغَة شامية. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الأريس: الأكار، وَيجمع الأريسين بتَخْفِيف، وَقد أرس يأرس أرسا: إِذا صَار أريسا. وَقَالَ لنا ابْن الخشاب: إِنَّمَا هُوَ الأريسين بتَشْديد الرَّاء وبياء وَاحِدَة بعد السِّين. وَالْمعْنَى: إِنَّك إِن لم تسلم كَانَ عَلَيْك إِثْم الزراعين والأجراء الَّذين هم أَتبَاع لَك وخدم. [15] فَإِن قيل: فَمَا وَجه كِتَابَته عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى قَيْصر وكسرى وَأمره مَعَ قومه مَا انبرم، فضلا عَن بَقِيَّة الْعَرَب؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل فَقَالَ: هَذَا يدل على أَنه كَانَ مدفوعا إِلَى الْكِتَابَة من جِهَة من إِلَيْهِ حفظ الْعَاقِبَة، وَإِلَّا فَذَاك لَا يصدر عَن رَأْي من لَهُ رَأْي، لكنه اطلع على العواقب، ووثق بالمرسل، وَهَذَا من أقوى الْأَدِلَّة على صدقه عَلَيْهِ السَّلَام.

(2/386)


903 - / 1076 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث بكتابه إِلَى كسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مزقه، فحسبت أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يمزقوا كل ممزق. [15] أما كسْرَى فقد تكلمنا فِي هَذَا الِاسْم فِي مُسْند عدي بن حَاتِم. وَقَوله: أَن يمزقوا: أَي يتفرق أَمرهم وَيَنْقَطِع ملكهم.
904 - / 1077 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: تقدمين على فرط صدق، على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أبي بكر. [15] الفرط: الْمُتَقَدّم، وَقد سبق بَيَانه فِي مَوَاضِع. وإضافته إِلَى الصدْق مدح لَهُ كَقَوْلِه: {أَن لَهُم قدم صدق} [يُونُس: 2] . [15] وَقَوله: وَهِي مغلوبة. أَي قد غلبها الْمَرَض فأضعفها عَن التَّصَرُّف. [15] وَقَوْلها: إِن اتَّقَيْت: تَعْنِي إِن خلصت لي التَّقْوَى فَمَا أُبَالِي بِالْمرضِ. [15] وللمفسرين فِي قَوْله: {نسيا منسيا} خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى لَيْتَني لم أكن شَيْئا، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه دم حَيْضَة ملقاة، قَالَه مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة، وَقَالَ الْفراء: المنسي: مَا تلقيه الْمَرْأَة من خرق اعتلالها. وَقَالَ ابْن

(2/387)


الْأَنْبَارِي: هِيَ خرق الْحيض تلقيها فَلَا تذكرها وَلَا تطلبها. وَالثَّالِث: أَنه السقط، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة وَالربيع. وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى: لَيْتَني لَا لَا يدرى من أَنا، قَالَه قَتَادَة. وَالْخَامِس: أَنه الشَّيْء التافه يرتحل عَنهُ الْقَوْم فيهون عَلَيْهِم، فَلَا يرجعُونَ إِلَيْهِ، قَالَه ابْن السَّائِب. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ مَا نسي من إداوة وعصي فَلَا يرجع إِلَيْهِ لاحتقار صَاحبه إِيَّاه.
905 - / 1078 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " فسبحاني أَن أَتَّخِذ صَاحبه ". [15] أَي تنزهت عَمَّا يعاب.
906 - / 1079 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " أبْغض النَّاس إِلَى الله ثَلَاثَة: ملحد فِي الْحرم، ومبتغ فِي الْإِسْلَام سنة جَاهِلِيَّة، ومطلب دم امرىء بِغَيْر حق ليهريق دَمه ". [15] الملحد: المائل عَن الاسْتقَامَة. وَفِي المُرَاد بالإلحاد فِي الْحرم خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه الظُّلم، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ عمر بن الْخطاب: احتكار الطَّعَام بِمَكَّة إلحاد بظُلْم. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ عمل سَيِّئَة. وَالثَّانِي: أَنه الشّرك، رَوَاهُ ابْن طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ الْحسن وَقَتَادَة. وَالثَّالِث: الشّرك وَالْقَتْل، قَالَه عَطاء. وَالرَّابِع: أَنه استحلال مَحْظُورَات الْإِحْرَام، رُوِيَ عَن عَطاء

(2/388)


أَيْضا. وَالْخَامِس: استحلال الْحَرَام تعمدا، قَالَه ابْن جريج. [15] وَقَوله: " ومبتغ فِي الْإِسْلَام " المبتغي: الطَّالِب. وَالْمرَاد أَنه يعْمل وَهُوَ مُسلم بعادات الْجَاهِلِيَّة. [15] وَالْمطلب: الطَّالِب. ويهريق بِمَعْنى يريق.
907 - / 1081 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " كَأَنِّي بِهِ أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا ". يَعْنِي الْكَعْبَة الفحج: تبَاعد مَا بَين الفخذين، يُقَال: رجل أفحج، وَامْرَأَة فحجاء، وَالْجمع فحج. وَهَذَا من نعوت الْحَبَشَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: " يخرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة " فَذكره بِلَفْظ التصغير، لِأَن فِي سوق الْحَبَشَة دقة وخموشة. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا السِّرّ فِي حراسة الْكَعْبَة من أَصْحَاب الْفِيل فِي الْجَاهِلِيَّة وَلم تحرس فِي الْإِسْلَام مِمَّا صنع بهَا الْحجَّاج والقرامطة حِين سلبوها ثِيَابهَا وقلعوا الْحجر، وَمِمَّا يصنع بهَا فِي آخر الزَّمَان؟ فَالْجَوَاب: أَن حبس الْفِيل كَانَ علما لنبوة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودليلا على نبوته، لِأَن أَهله كَانُوا عمار الْبَيْت وسكان الْوَادي، فصين ليعرفوا نعْمَة الَّذِي حفظه بِلَا قتال، فَلَمَّا ظهر نَبِي مِنْهُم تأكدت الْحجَّة عَلَيْهِم بالأدلة الَّتِي شوهدت بالبصر قبل الْأَدِلَّة الَّتِي ترى بالبصائر، وَكَانَ حكم الْحس غَالِبا على الْقَوْم، فأروا آيَة تدل على وجود النَّاصِر. وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول: فقد كَانُوا يقرونَ بالإله؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَار من جِهَة أَن مدعي

(2/389)


الشَّرِيك مَعَ الْقوي الْقَادِر لَا يعرف الْقَادِر، فَلَمَّا ظهر الدّين وقويت حججه كَانَ مَا جرى وَيجْرِي على الْكَعْبَة ابتلاء لِلْخلقِ، كَمَا سلط الْكفَّار على الْأَنْبِيَاء لينْظر إِيمَان الْمُؤمنِينَ، هَل يثبت أَو يتزلزل.
908 - / 1082 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن نَفرا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مروا بِمَاء فيهم لديغ أَو سليم. [15] السَّلِيم: اللديغ. وَفِي تَسْمِيَته بذلك قَولَانِ: أَحدهمَا التفاؤل بالسلامة. وَالثَّانِي: أَنه أسلم لما بِهِ. [15] وَقَوله: فَإِن فِي المَاء. أَي فِي النازلين على المَاء. [15] وَقَوله: على شَاءَ. الْمَعْنى: أَنه لم يقْرَأ حَتَّى ضمنت لَهُ الشَّاء. وَهَذَا الحَدِيث يحْتَج بِهِ من يرى جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على الْقرب كالأذان وَالصَّلَاة وَتَعْلِيم الْقُرْآن وَغير ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَعند أبي حنيفَة لَا يجوز ذَلِك، وَهُوَ الْمَنْصُور من الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد. وعَلى هَذَا يكون تَأْوِيل الحَدِيث على أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يَكُونُوا لكَوْنهم نزلُوا بهم فَمَا أضافوهم، فاستجازوا أَخذ ذَلِك، لِأَن للضيف حَقًا، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند عقبَة بن عَامر. [15] وَيَأْتِي فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنهم استضافوهم فَلم يضيفوهم، وَأَنَّهُمْ استباحوا أَخذ الْأُجْرَة لكَوْنهم كفَّارًا، وَجعلُوا الرّقية حجَّة.

(2/390)


909 - / 1083 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن عَبَّاس: أَلا تعْجبُونَ لِابْنِ الزبير قَامَ فِي أمره هَذَا فَقلت: لأحاسبن نَفسِي لَهُ حسابا مَا حاسبته لأبي بكر وَعمر. [15] الْمَعْنى: لأناقشن نَفسِي فِي معونته والذب عَنهُ. [15] وَقَوله: ابْن عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَاهُنَا المُرَاد بهَا صَفِيَّة، فَإِن عبد الله بن الزبير ابْن ابْنهَا فنسبه إِلَيْهَا. وَإِنَّمَا قَالَ: ابْن أبي بكر، لِأَنَّهُ ابْن أَسمَاء بنت أبي بكر. وَإِنَّمَا قَالَ: ابْن أخي خَدِيجَة لِأَن الْعَوام وَخَدِيجَة ابْنا خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، وَهُوَ ابْن أَخِيهَا، فأضافه إِلَى جده. [15] وَقَوله: وَأَبوهُ حوارِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي ناصره. [15] وَقَوله: ذَات النطاق، سَيَأْتِي شَرحه فِي مُسْند عَائِشَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [15] وَقَوله: يتعالى عَليّ: أَي يترفع عَليّ. ويربيني: أَي يكون رَبًّا عَليّ وأميرا. [15] وَقَوله: بَنو عمي يُرِيد أَن عبد الْملك من بني عبد شمس، وَعبد شمس أَخُو هَاشم. [15] وَقَوله: كتب بني أُميَّة محلين. أَي محلين مَا حرم الله، يَعْنِي مستبيحين الْقِتَال فِي الْحرم.

(2/391)


[15] وَقَوله: فآثر التويتات والأسامات والحميدات. يَعْنِي قوما من بني أَسد بن عبد الْعُزَّى، من قرَابَته، فَكَأَنَّهُ صغرهم وحقرهم. فتويت وَحميد وَأُسَامَة من بني عبد الْعُزَّى. [15] وَقَوله: برز يمشي القدمية. قَالَ أَبُو عبيد: يَعْنِي: المتبختر، وَإِنَّمَا هَذَا مثل، وَلم يرد بِهِ الْمَشْي بِعَيْنِه، وَلكنه أَرَادَ بِهِ: ركب معالي الْأُمُور وسعى فِيهَا وَعمل بهَا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: مَشى فلَان القدمية واليقدمية: أَي تقدم بهمته وأفعاله. [15] وَقَوله: لوى بِذَنبِهِ، يَعْنِي ابْن الزبير، أَي أَنه لم يبرز للمعروف ويبدي لَهُ صفحته، وَلكنه راغ عَن ذَلِك وَتَنَحَّى.
910 - / 1085 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: قَالَ ابْن عَبَّاس: {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كذبُوا} [يُوسُف: 110] ذهب بهَا هُنَاكَ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء، فَبلغ هَذَا عَائِشَة فَقَالَت: معَاذ الله، مَا وعد الله وَرَسُوله من شَيْء قطّ إِلَّا علم أَنه كَائِن قبل أَن يَمُوت، وَلَكِن لم يزل الْبلَاء بالرسل حَتَّى خَافُوا أَن يكون من مَعَهم يكذبونهم، وَكَانَت تقْرَأ: {كذبُوا} مُشَدّدَة. [15] وَأما قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل} فَمَعْنَاه: يئسوا من تَصْدِيق قَومهمْ. [15] وَأما {كذبُوا} فَقَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر بِالتَّشْدِيدِ، وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة فِي الظَّن قَولَانِ: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى التَّرَدُّد فِي

(2/392)


الشَّيْء، فَيكون الْمَعْنى: ظن الرُّسُل لقُوَّة الْبلَاء وَتَأْخِير النَّصْر أَن قَومهمْ الْمُؤمنِينَ قد كذبوهم بِمَا وعدوا بِهِ من النَّصْر حَتَّى استيأس الرُّسُل مِمَّن كذبهمْ من قَومهمْ، وظنوا أَن أتباعهم قد كذبوهم. وَهَذَا الَّذِي أشارت إِلَيْهِ عَائِشَة هُوَ فقه مِنْهَا وَفهم، ويبينه قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله} فَيَقُول الرَّسُول: {أَلا إِن نصر الله قريب} [الْبَقَرَة: 214] . وَالثَّانِي: أَن الظَّن بِمَعْنى الْيَقِين، كَقَوْلِه تَعَالَى: {الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم} [الْبَقَرَة: 46] {إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه} [الحاقة: 20] فَيكون الْمَعْنى: تَيَقّن الرُّسُل أَن قَومهمْ الْكفَّار قد كذبوهم. وَهَذَا قَول الْحسن وَعَطَاء وَقَتَادَة. [15] وَقَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ {كذبُوا} خَفِيفَة، فَيكون الظَّن هَاهُنَا بِمَعْنى الشَّك والتردد، وَيكون فِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا مَا حكيناه عَن ابْن عَبَّاس، وَقد فسره أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ فَقَالَ: يحْتَمل أَن يُقَال: إِن الرُّسُل عِنْد امتداد الْبلَاء وإبطاء النَّصْر دخلتهم الرِّيبَة حَتَّى توهموا أَن مَا جَاءَهُم من الْوَحْي كَانَ حسبانا مِنْهُم ووهما، فارتابوا بِأَنْفسِهِم وظنوا عَلَيْهَا الْغَلَط، كَقَوْلِك: كذب سَمْعِي وبصري. وَقد كَانَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بداية الْوَحْي يرتاب بِنَفسِهِ، ويشفق أَن يكون [الَّذِي] يتراءاه أمرا غير موثوق بِهِ، إِلَى أَن ثَبت الله عز وَجل قلبه، وَسكن كَذَلِك جأشه، ومرجع الْأَمر أَن الرِّيبَة ترجع إِلَى الوسائط الَّتِي هِيَ مُقَدمَات الْوَحْي لَا إِلَى الْوَحْي. قلت: وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه

(2/393)


قَالَ يَوْمًا: " اللَّهُمَّ أَرِنِي آيَة لَا أُبَالِي من كَذبَنِي بعْدهَا " فقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يطْلب قُوَّة الدَّلِيل على مَا هُوَ فِيهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: ظن قَومهمْ أَن الرُّسُل قد كذبُوا فِيمَا وعدوا بِهِ من النَّصْر. [15] وَقَرَأَ أَبُو رزين وَمُجاهد وَالضَّحَّاك: {كذبُوا} بِفَتْح الذَّال وَالْكَاف، وَالْمعْنَى: ظن قَومهمْ أَيْضا أَنهم قد كذبُوا. [15] وَمَا ذهبت إِلَيْهِ عَائِشَة عَلَيْهَا السَّلَام أصح وَأقوى، لِأَن مَا ثَبت عِنْد الْأَنْبِيَاء ثَبت بالبرهان، وَحصل بِهِ الْيَقِين، وَالْيَقِين لَا يقبل التَّرَدُّد.
911 - / 1086 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فِي الْعَسَل، والحجم الشِّفَاء ". [15] وَقَالَ ابْن عَبَّاس: " الشِّفَاء فِي ثَلَاثَة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نَار، وَأَنا أنهى أمتِي عَن الكي " وَرفع الحَدِيث. [15] هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة قد تَضَمَّنت أصُول الْأَدْوِيَة، وَالَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُشِير إِلَيْهِ فِي الطِّبّ يَنْقَسِم إِلَى مَا عرفه من طَرِيق الْوَحْي، وَإِلَى مَا عرفه من عادات الْعَرَب، وَإِلَى مَا يُرَاد مِنْهُ التَّبَرُّك، كالاستشفاء بِالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نهى عَن الكي لمشقته. وَقد تكلما على ذَلِك فِي مُسْند

(2/394)


عمرَان بن حُصَيْن.
912 - / 1087 وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يطوف بِالْكَعْبَةِ بزمام أَو غَيره، فَقَطعه. الزِّمَام للناقة كالرسن للدابة. [15] والخزامة: حَلقَة من شعر تجْعَل فِي أحد جَانِبي المنخرين. [15] وَقد تضمن هَذَا الحَدِيث النَّهْي عَن الابتداع فِي الدّين وَإِن قصدت بِهِ الطَّاعَة.
913 - / 1088 وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن قَوْله: {لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قَالَ سعيد ابْن جُبَير: قربى آل مُحَمَّد. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: عجلت. إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن بطن من قُرَيْش إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِ قرَابَة، فَقَالَ: إِلَّا أَن تصلوا مَا بيني وَبَيْنكُم من الْقَرَابَة. [15] اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمُشْركين كَانُوا يُؤْذونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة، فَنزلت. وَالثَّانِي: أَنه لما قدم الْمَدِينَة كَانَت تنوبه نَوَائِب، وَلَيْسَ فِي يَده سَعَة، فَجمعت لَهُ الْأَنْصَار مَالا وأتوه بِهِ، فَنزلت، وَالْقَوْلَان عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَن الْمُشْركين قَالُوا بَينهم: أَتَرَوْنَ مُحَمَّدًا يسْأَل عَمَّا يتعاطاه أجرا، فَنزلت، قَالَه قَتَادَة.

(2/395)


وَالْهَاء فِي (عَلَيْهِ) كِنَايَة عَمَّا جَاءَ بِهِ من الْهدى. [15] وَفِي الِاسْتِثْنَاء قَولَانِ: أَحدهمَا: من الْجِنْس، فَيكون على هَذَا سَائِلًا أجرا. وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى ابْن عَبَّاس فِيمَا رَوَاهُ عَن الضَّحَّاك، ثمَّ قَالَ: نسخت بقوله: {قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد} [سبأ: 47] وَهَذَا مَذْهَب مقَاتل. وَالثَّانِي: أَنه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، لِأَن الْأَنْبِيَاء لَا يسْأَلُون عَن تبليغهم أجرا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لكني أذكركم الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين فَلَا يتَوَجَّه النّسخ أصلا. [15] وَفِي المُرَاد بالقربى خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن معنى الْكَلَام إِلَّا أَن تودوني لقرابتي مِنْكُم. وَلم يكن بطن من قُرَيْش إِلَّا وَله فيهم قرَابَة، وَهَذَا مَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: إِن الْمَعْنى: إِلَّا أَن تودوا قَرَابَتي، قَالَه على بن الْحُسَيْن وَسَعِيد بن جُبَير وَالسُّديّ. وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى: إِلَّا أَن تودوا إِلَى الله تَعَالَى بِمَا يقربكم إِلَيْهِ من الْعَمَل، قَالَه الْحسن وَقَتَادَة. وَالرَّابِع: إِلَّا أَن تودوني كَمَا تودون قرابتكم، قَالَه ابْن زيد. وَالْخَامِس: إِلَّا أَن تودوا قرابتكم وتصلوا أَرْحَامكُم. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ، وَالْأول أصح.
914 - / 1089 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: قَالَ ابْن عَبَّاس: ثَلَاث من خلال الْجَاهِلِيَّة: الطعْن فِي الْأَنْسَاب، والنياحة، وَنسي الرَّاوِي الثَّالِثَة. قَالَ سُفْيَان: وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا الاسْتِسْقَاء بالأنواء.

(2/396)


[15] أما الطعْن فِي الْأَنْسَاب فَهُوَ نوع (الْقَذْف، وَأما النِّيَاحَة فتجمع بَين الاستغاثة على الْقدر وَالْكذب فِي ذكر محَاسِن الْمَيِّت، وَإِظْهَار الْجزع والحث عَلَيْهِ. وَأما الاسْتِسْقَاء بالأنواء فقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند زيد ابْن خَالِد الْجُهَنِيّ.
915 - / 1090 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْت فَوجدَ فِيهِ صُورَة إِبْرَاهِيم وَصُورَة مَرْيَم، فَقَالَ: " أما هم فقد سمعُوا أَن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ صُورَة. هَذَا إِبْرَاهِيم مُصَور فَمَاله يستقسم ". [15] قد ذكرنَا فِي هَذَا الحَدِيث لفظين: أَحدهمَا يدل على أَنهم صوروا هَذِه الصُّور فِي حيطان الْبَيْت، وَهُوَ قَوْله: فَأمر بهَا فمحيت. وَاللَّفْظ الثَّانِي: يحْتَمل أَن يَكُونُوا صوروا لَهَا كِتَابَة كَمَا يصور الجص، وَيحْتَمل أَن يَكُونُوا جعلوها على هَيْئَة الْأَصْنَام مُفْردَة، وَهُوَ قَوْله: فأخرجوا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل فِي أَيْدِيهِمَا الأزلام. [15] والاستقسام: طلب علم مَا قسم للمستقسم، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تستقسم بالأزلام. وَقد فسرنا الأزلام فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص. [15] وَفِي قَوْله: " قَاتلهم الله " ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لعنهم الله، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: قَتلهمْ، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة. وَالثَّالِث: عاداهم الله، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.

(2/397)


[15] وَقَوله: لم يصل فِيهِ. مَحْمُول على أول دُخُوله إِلَيْهِ، وَإِلَّا فقد ثَبت أَنه صلى فِي الْبَيْت.
916 - / 1091 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ السَّعْي بِبَطن الْوَادي بَين الصَّفَا والمروة سنة، إِنَّمَا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ: لَا نجيز الْبَطْحَاء إِلَّا شدا. [15] قَالَ الزّجاج: الصَّفَا فِي اللُّغَة: الْحِجَارَة الصلبة الصلدة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا، وَهُوَ جمع واحده صفاة. والمرة: الْحِجَارَة اللينة وهما جبلان معروفان. [15] والبطحاء: مَكَان متسع. [15] والشد: الْعَدو. [15] وَفِي السَّعْي عَن أَحْمد ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: أَنه ركن فِي الْحَج، لَا يَنُوب عَنهُ الدَّم، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالثَّانيَِة: أَنه لَيْسَ بِرُكْن، فَيجب بِتَرْكِهِ دم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَالثَّالِثَة: أَنه تطوع، نقلهَا الْمَيْمُونِيّ. وَهَذَا الحَدِيث يدل عَلَيْهَا.
917 - / 1092 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: انْطلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة بَعْدَمَا ترجل وادهن.

(2/398)


[15] التَّرَجُّل: تَسْرِيح الشّعْر. [15] والمزعفرة: الَّتِي تشبع بالزعفران. [15] وَقَوله: الَّتِي تردغ على الْجلد. كَذَا وَقع، وَصَوَابه: تردغ الْجلد: أَي تصبغه، وينفض صبغها عَلَيْهِ. وأصل الردغ فِي هَذَا الصَّبْغ والتأثير، وَيُقَال: ثوب رديغ: أَي مصبوغ، وردغه بالزعفران صبغه. [15] وَقَوله: أهل. الإهلال رفع الصَّوْت بالتلبيه.
918 - / 1093 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: يطوف الرجل بِالْبَيْتِ مَا كَانَ حَلَالا حَتَّى يهل بِالْحَجِّ، فَإِذا ركب إِلَى عَرَفَة فَمن تيَسّر لَهُ هَدْيه من الْإِبِل أَو الْبَقر أَو الْغنم، فَمَا تيَسّر لَهُ من ذَلِك. [15] إِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْمُتَمَتّع، فَإِنَّهُ إِذا قضى عمرته طَاف مَا شَاءَ، فَإِذا أهل بِالْحَجِّ فَعَلَيهِ مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي.
919 - / 1094 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أَبَا بكر على الْحَج يخبر النَّاس بمناسكهم، ويبلغهم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَتَوا عَرَفَة من قبل ذِي الْمجَاز، فَلم يقرب الْكَعْبَة،

(2/399)


وَلَكِن شمر إِلَى ذِي الْمجَاز، وَذَلِكَ أَنهم: اسْتَمْتعُوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج. [15] هَذَا الحَدِيث كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن أَبَا بكر ابْتِدَاء بِمَوْسِم عَرَفَة لينادي ب " بَرَاءَة " وَيَقُول: لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك. [15] 920 / 1095 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: قلت لِابْنِ عَبَّاس: اسجد فِي (ص) ؟ فَقَرَأَ: {فبهداهم اقتده} [الْأَنْعَام:] وَفِي لفظ: لَيست من عزائم السُّجُود، وَقد رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد فِيهَا. [15] اخْتلف الْفُقَهَاء فِي هَذِه السَّجْدَة، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك هِيَ من سُجُود التِّلَاوَة وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيست بِسَجْدَة، وَعَن أَحْمد كالمذهبين، والمنصور مِنْهُمَا كَقَوْل الشَّافِعِي.
921 - / 1096 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل الْقصاص، وَلم تكن فيهم الدِّيَة. [15] قد فسر هَذَا سعيد بن جُبَير فَقَالَ: كَانَ حكم الله على أهل التَّوْرَاة أَن يقتل قَاتل الْعمد وَلَا يُعْفَى عَنهُ وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ دِيَة، فَرخص الله لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن شَاءَ الْمَقْتُول عمدا قتل، وَإِن شَاءَ عَفا، وَإِن شَاءَ أَخذ الدِّيَة.

(2/400)


رنمة الشَّاة. [15] اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي العتل على سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا أَنه العاتي الشَّديد الْمُنَافِق، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: المتوفر الْجِسْم، قَالَه الْحسن. وَالثَّالِث: الشَّديد الأشر، قَالَه مُجَاهِد. وَالرَّابِع: الْقوي فِي كفره، قَالَه عِكْرِمَة. وَالْخَامِس: الأكول الشروب الْقوي الشَّديد، قَالَه عبيد بن عُمَيْر. وَالسَّادِس: الشَّديد الْخُصُومَة بِالْبَاطِلِ، قَالَه الْفراء. وَالسَّابِع: الغليظ الجافي، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. [15] وَفِي الزنيم أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الدعي فِي قُرَيْش وَلَيْسَ مِنْهُم، رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الزنيم هُوَ الملصق فِي الْقَوْم وَلَيْسَ مِنْهُم، وَبِه قَالَ الْفراء وَأَبُو عُبَيْدَة وَابْن قُتَيْبَة. قَالَ حسان:
(وَأَنت زنيم نيط فِي آل هَاشم ... كَمَا نيط خلف الرَّاكِب الْقدح الْفَرد)
[15] وَالثَّانِي: أَنه الَّذِي يعرف بِالشَّرِّ كَمَا تعرف الشَّاة بزنمتها، رَوَاهُ سعيد ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَنه الَّذِي لَهُ زنمة مثل زنمة الشَّاة، قَالَه ابْن عَبَّاس، نعت فَلم يعرف حَتَّى قيل لَهُ زنيم فَعرف، وَكَانَت لَهُ زنمة فِي عُنُقه يعرف بهَا، قَالَ الزّجاج: والزنمتان المعلقتان عِنْد حلق المعزى. وَالرَّابِع: انه الظلوم، رَوَاهُ الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس. [15] وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصّفة على ثَلَاثَة أَقْوَال:

(2/401)


أَحدهَا: أَنه الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَمُقَاتِل وَالْجُمْهُور. قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا نعلم أَن الله تَعَالَى بلغ من ذكر عُيُوب أحد مَا بلغه من ذكر عُيُوب الْوَلِيد، لِأَنَّهُ وصف بِالْحلف والمهانة وَالْعَيْب للنَّاس وَالْمَشْي بالنميمة وَالْبخل وَالظُّلم وَالْإِثْم والجفاء والدعوة، فَألْحق بِهِ عارا لَا يُفَارِقهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَالثَّانِي: أَنه الْأَخْنَس بن شريق، قَالَه عَطاء وَالسُّديّ. وَالثَّالِث: أَنه الْأسود بن عبد يَغُوث. قَالَه مُجَاهِد.
923 - / 1099 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: {لتركبن طبقًا عَن طبق} [الانشقاق: 19] حَالا بعد حَال. قَالَ: هَذَا نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله. [15] اعْلَم أَن الْقُرَّاء اخْتلفُوا فِي قِرَاءَة {لتركبن} فَقَرَأَ ابْن كثير وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِفَتْح التَّاء وَالْبَاء، وَفِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا: لتركبن سَمَاء بعد سَمَاء، قَالَه ابْن مَسْعُود وَالشعْبِيّ وَمُجاهد. وَالثَّانِي: لتركبن حَالا بعد حَال، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى السَّمَاء، وَالْمعْنَى أَنَّهَا تَتَغَيَّر ضروبا من التَّغْيِير، فَتَارَة كَالْمهْلِ، وَتارَة كالدهان، رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَيْضا. [15] وَقَرَأَ نَافِع وَعَاصِم وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر {لتركبن} بِفَتْح التَّاء وَضم الْبَاء، وَهُوَ خطاب لجَمِيع النَّاس، وَمَعْنَاهُ: لتركبن حَالا بعد حَال، ثمَّ

(2/402)


فِي معنى الْكَلَام خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: الشدائد والأهوال، ثمَّ الْمَوْت، ثمَّ الْبَعْث، ثمَّ الْعرض، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه الرخَاء بعد الشدَّة والشدة بعد الرخَاء، والغنى بعد الْفقر والفقر بعد الْغنى، وَالصِّحَّة بعد السقم والسقم بعد الصِّحَّة قَالَه الْحسن. وَالثَّالِث: أَنه كَون الْإِنْسَان رضيعا، ثمَّ فطيما، ثمَّ غُلَاما، ثمَّ شَابًّا، ثمَّ شَيخا، قَالَه عِكْرِمَة. وَالرَّابِع: أَنه تَغْيِير حَال الْإِنْسَان فِي الْآخِرَة بعد الدُّنْيَا، فيرتفع من كَانَ وضيعا، ويتضع من كَانَ رفيعا، قَالَه سعيد ابْن جُبَير. وَالْخَامِس: أَنه ركُوب سنَن من كَانَ قبلهم من الْأَوَّلين، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة. [15] وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو الجوزاء وَأَبُو الْأَشْهب {ليركبن} بِالْيَاءِ وَنصب الْبَاء، وَقَرَأَ أَبُو المتَوَكل وَأَبُو عمرَان وَابْن يعمر {ليركبن} بِالْيَاءِ وَرفع الْبَاء. [15] فَأَما (عَن) فَهِيَ بِمَعْنى بعد فِي قَول عَامَّة الْمُفَسّرين واللغويين.
924 - / 1100 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم} [الْأَنْفَال: 22] قَالَ: هم نفر من بني عبد الدَّار. [15] الدَّوَابّ: اسْم لكل حَيَوَان يدب. [15] والصم: جمع أَصمّ، والصمم: انسداد منافذ السّمع، وَهُوَ أَشد من الطرش. والبكم جمع أبكم: وَهُوَ الْأَخْرَس. وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي نفر من بني عبد الدَّار بن قصي، وَمَا كَانَ الْقَوْم صمًّا وَلَا بكما حَقِيقَة، وَلَكنهُمْ لما أَعرضُوا عَن سَماع مَا يهْدِيهم والتكلم بِمَا يَنْفَعهُمْ

(2/403)


كَانُوا كالصم الْبكم.
925 - / 1102 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعمت الله كفرا} [إِبْرَاهِيم: 28] هم قُرَيْش. [15] هَذِه النِّعْمَة أَن الله عز وَجل تفضل عَلَيْهِم بِأَن أسكنهم حرمه، وَبعث إِلَيْهِم رَسُولا من أنفسهم، فَأوجب عَلَيْهِم بذلك الشُّكْر، وَأول مقامات الشُّكْر الطَّاعَة، فبدلوا الشُّكْر كفرا، ودعوا قَومهمْ إِلَى الْكفْر، فَذَلِك قَوْله: {وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار} يَعْنِي دَار الْهَلَاك، ثمَّ فسر الدَّار بقوله: {جَهَنَّم} وَإِنَّمَا أحلوهم النَّار يَوْم بدر، لأَنهم لما قتلوا يَوْمئِذٍ على الْكفْر دخلُوا عقيب الْقَتْل النَّار.
926 - / 1103 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: أَنه كَانَت سُكْنى الْحول للمتوفى عَنْهَا زَوجهَا وَاجِبَة لقَوْله: {غير إِخْرَاج} [الْبَقر: 240] . [15] اعْلَم أَن هَذَا مِمَّا نسخ، كَقَوْلِه: كَانَ على الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَن تَعْتَد سنة وَالنَّفقَة عَلَيْهَا من مَاله، فنسخت السّنة بأَرْبعَة اشهر وَعشر، وَالنَّفقَة بِالْمِيرَاثِ.
927 - / 1104 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: قَرَأَ ابْن عَبَّاس {وعَلى الَّذين يطوقونه فديَة} [الْبَقَرَة: 184] قَالَ: لَيست بمنسوخة؛ هِيَ

(2/404)


للشَّيْخ الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة لَا يستطيعان أَن يصوما ويطعمان عَن كل يَوْم مِسْكينا. [15] معنى يطوقونه: يحملونه وَيُكَلِّفُونَهُ وَلَيْسوا مطيقين لَهُ، فَهَؤُلَاءِ يطْعمُون وَلَا يَصُومُونَ.
928 - / 1109 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: {يغلبوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَال: 65] . [15] لفظ هَذَا الْكَلَام لفظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْأَمر، وَالْمرَاد: يقاتلوا مِائَتَيْنِ، فَفرض على الرجل أَن يثبت لِرجلَيْنِ، فَإِن زادوا جَازَ لَهُ الْفِرَار.
929 - / 1110 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: {أَلا إِنَّهُم يثنون صُدُورهمْ} [هود: 5] فَسَأَلته عَنْهَا، قَالَ: كَانَ النَّاس يستحيون أَن يتخلوا فيفضوا إِلَى السَّمَاء أَبُو يجامعوا نِسَاءَهُمْ فيفضوا إِلَى السَّمَاء فَنزل ذَلِك فيهم. [15] اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة على خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا ذَكرْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق كَانَ يُجَالس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحلف أَنه يُحِبهُ، ويضمر خلاف مَا يظْهر لَهُ، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَنَّهَا نزلت فِي بعض الْمُنَافِقين، كَانَ إِذا مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثنى صَدره وظهره وطأطأ رَأسه وغطى وَجهه كَيْلا يرَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَه عبد الله بن شَدَّاد. وَالرَّابِع: أَن طَائِفَة من الْمُشْركين قَالُوا: إِذا غلقنا

(2/405)


أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عَدَاوَة مُحَمَّد، كَيفَ يعلم بِنَا، فَأخْبر الله تَعَالَى عَمَّا كتموه، ذكره الزّجاج. وَالْخَامِس: أَنَّهَا نزلت فِي قوم كَانُوا لشدَّة عداوتهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سمعُوا مِنْهُ الْقُرْآن حنوا صُدُورهمْ ونكسوا رؤوسهم وتغشوا ثِيَابهمْ ليبعد عَنْهُم صَوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يدْخل أسماعهم شَيْء من الْقُرْآن، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي. [15] وَمعنى يثنون: يعطفون ويطوون. ولماذا كَانُوا يثنونها؟ فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: حَيَاء من الله، وَهُوَ يخرج على مَا فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنهم كَانُوا يثنونها على عَدَاوَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: على الْكفْر، قَالَه مُجَاهِد. وَالرَّابِع: لِئَلَّا ليستمعوا كتاب الله، قَالَه قَتَادَة. وَالْخَامِس: إِذا ناجى بَعضهم بَعْضًا فِي أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن زيد. [15] فَأَما قِرَاءَة ابْن عَبَّاس (يثنوني) على " يفعوعل " فَهُوَ فعل للمصدر، وَمَعْنَاهُ. [15] الْمُبَالغَة فِي تثني الصُّدُور، كَمَا تَقول الْعَرَب: احلولي الشي يحلولي: إِذا بالغوا فِي وَصفه بالحلاوة، قَالَ عنترة:
(أَلا قَاتل الله الطلول البواليا ... وَقَاتل ذكرا كالسفين الخواليا)

(وقولك للشَّيْء الَّذِي لَا تناله ... إِذا مَا هُوَ احلولي: أَلا لَيْت ذَا ليا)

(2/406)


930 - / 1111 وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: قَالَ سعيد بن جُبَير: سلوني، فَإِنِّي قد أوشكت أَن أذهب. وَحدث عَن ابْن عَبَّاس: أول مَا اتخذ النِّسَاء الْمنطق من قبل أم إِسْمَاعِيل، اتَّخذت منطقا لتعفي أَثَرهَا على سارة. [15] وَقَوله: أوشكت أَن أذهب: أَي قربت من الْمَوْت. والوشيك: الْقَرِيب. [15] والمنطق: كل شَيْء شددت بِهِ وسطك، وَجمعه مناطق، وَهُوَ للنِّسَاء، ثوب يشددنه على الحقو. [15] وَمعنى: لتعفي أَثَرهَا: أَي تسحب طرف ذَلِك الثَّوْب على التُّرَاب فتمحو أثر خطواتها. وَهَذَا فعلته لما كَانَت عِنْدهَا. وَسبب ذَلِك أَن الْوَلَد كَانَ أَبْطَأَ على سارة، فَوهبت هَاجر لإِبْرَاهِيم، فَلَمَّا رزق مِنْهَا إِسْمَاعِيل غارت وَقَالَت: لَا تساكنيني فِي بلد، فَكَانَت هَاجر تقصد أَن تخفى على سارة، واتخذت الْمنطق، ثمَّ خرج بهَا إِبْرَاهِيم وبابنها وَهُوَ رَضِيع. [15] والدوحة: الشَّجَرَة الْعَظِيمَة. [15] والسقاء: إهَاب فِيهِ مَاء. [15] والشنة: الْقرْبَة الْخلقَة. [15] وقفى بِمَعْنى ولى وَذهب. [15] والبنية: مَوضِع الْبَيْت.

(2/407)


[15] وَقَوله: واستقبل بِوَجْهِهِ الْبَيْت، لِأَن الْبَيْت لم يكن حِينَئِذٍ قد بني. [15] وَقَوله: يتلوى. التلوي والتلبط: التمرغ والتقلب. [15] وَقَوله: ينشغ للْمَوْت. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس: النشغ مثل الشهيق عِنْد الشوق. والنواشغ: أعالي الْوَادي، الْوَاحِدَة ناشغة. [15] والمجهود: المشقوق عَلَيْهِ الَّذِي قد نَالَ جهدا، أَي مَا فِيهِ كلفة ومشقة. [15] وصه: أَمر بِالسُّكُوتِ. [15] والغواث والغياث والغوث: إِجَابَة المتسغيث. وَرُبمَا ضم عين الغواث بعض قرأة الحَدِيث. وَقَالَ لنا ابْن الخشاب: هُوَ بِالْفَتْح. [15] والعقب: مُؤخر الرجل. [15] وتحوضه: تجْعَل لَهُ كالحوض. [15] وتحفن: تجمع. وَقد رُوِيَ: تحفر: أَي ليجتمع المَاء فِي الحفرة. [15] والمعين: المَاء الظَّاهِر، وَهُوَ " مفعول " من الْعين؛ وَهَذَا لِأَن إِجْرَاء تِلْكَ الْعين كَانَ إنعاما مَحْضا لم يشبه كسب البشرية، فَلَمَّا دخل الْحَوْض وقف الإنعام ووكلت إِلَى تدبيرها. [15] وَقَوله: لَا تخافوا الضَّيْعَة: يَعْنِي الضّيَاع. والرابية: الْمَكَان الْمُرْتَفع.

(2/408)


[15] وكداء مَوضِع بِمَكَّة مَعْرُوف، بِفَتْح الْكَاف مَعَ الْمَدّ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة إِذا صعد فِيهِ الْآتِي من طَرِيق الْعمرَة، وَمَا هُنَالك انحدر بِهِ إِلَى الْمَقَابِر وَإِلَى المحصب. وَثمّ مَوضِع آخر يُقَال لَهُ كداً بِالْقصرِ وتنوين الدَّال، وَهُوَ أَسْفَل مَكَّة، يدْخل فِيهِ الدَّاخِل بعد أَن ينْفَصل من ذِي طوى، وَهُوَ بِقرب شعب الشافعيين عِنْد قيقعان، وَهُوَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فنزلوا أَسْفَل مَكَّة. وَهُنَاكَ مَوضِع ثَالِث يُقَال لَهُ كدي. مصغر، وَإِنَّمَا هُوَ لمن خرج من مَكَّة إِلَى الْيمن فِي طَرِيقه. وَلَيْسَ من هذَيْن المقدمين فِي شَيْء. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: هَكَذَا كَانَ شَيخنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْعَزِيز العذري يخبر بالأندلس عَن هَذِه الْمَوَاضِع عَن كل من لَقِي بِمَكَّة من أهل الْمعرفَة بمواضعها. وَكَانَ سَائِر مَشَايِخنَا هُنَالك يستفيدون ذَلِك مِنْهُ ويأخذونه عَنهُ. [15] والعائف: الَّذِي يتَرَدَّد ويحوم حول المَاء وَلَا يبرح. [15] والجري: الرَّسُول. والجري أَيْضا الْوَكِيل، سميا بذلك لِأَنَّهُمَا يجريان مجْرى الْمُرْسل وَالْمُوكل. [15] وَقَوله: وأنفسهم: أَي أعجبهم فرغبوا فِي مصاهرته. [15] وَقَوله: فَكَأَنَّهُ أنس شَيْئا: أَي وجد وَأبْصر أثر زائر. [15] والأكمة: مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَجَمعهَا أكم، ثمَّ تجمع على الأكام والإكام. [15] وَالْقَوَاعِد: أساس الْبَيْت، واحدتها قَاعِدَة، وَأما قَوَاعِد النِّسَاء

(2/409)


فواحدتها قَاعد. قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: حفر إِبْرَاهِيم فأبدى عَن قَوَاعِد، مَا يُحَرك الْقَاعِدَة دون ثَلَاثِينَ رجلا. قَالَ ابْن عَبَّاس: رفع الْقَوَاعِد الَّتِي كَانَت قَوَاعِد قبل ذَلِك.
931 - / 1114 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: حرم من النّسَب سبع، وَمن الصهر سبع، ثمَّ قَرَأَ: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] . هَذِه الْآيَة قد جمعت الْكل، فَمن أَولهَا إِلَى قَوْله: {وَبَنَات الْأُخْت} هن الْمُحرمَات من النّسَب، والباقيات هن الْمُحرمَات من الصهر.
932 - / 1115 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} [النِّسَاء: 33] قَالَ: وَرَثَة. وَقَوله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لما قدمُوا الْمَدِينَة يَرث الْمُهَاجِرِي الْأنْصَارِيّ دون رَحمَه، للأخوة الَّتِي آخى النَّبِي، فَلَمَّا نزلت: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} نسختها، ثمَّ قَالَ: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} إِلَّا النَّصْر والرفادة والنصيحة، وَقد ذهب الْمِيرَاث ويوصي لَهُ. [15] قلت: كَانَ جمَاعَة من الْمُحدثين يروون من حفظهم، فتقصر عبارتهم خُصُوصا الْعَجم، فَلَا يبين للْكَلَام رونق مثل هَذِه الْأَلْفَاظ فِي

(2/410)


هَذَا الحَدِيث وَتَحْقِيق هَذَا الحَدِيث وَبَيَانه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَقد سمينا من أحصينا من الْكل فِي كتَابنَا الْمُسَمّى بالتلقيح. فَكَانُوا يتوارثون بِتِلْكَ الْأُخوة ويرونها دَاخِلَة فِي قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} [الْأَنْفَال: 75] نسخ الْمِيرَاث بَين الْمُتَعَاقدين وَبَقِي النَّصْر والرفادة وَجَوَاز الْوَصِيَّة لَهُم. وَفِي رِوَايَة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {عاقدت أَيْمَانكُم} قَالَ: كَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يلْحق بِهِ الرجل فَيكون تَابعه، فَإِذا مَاتَ الرجل صَار لأقاربه الْمِيرَاث وَبَقِي تَابعه لَيْسَ لَهُ شَيْء، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم} فَكَانَ يعْطى من مِيرَاثه. ثمَّ أنزل الله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} [الْأَنْفَال: 75] فنسخ ذَلِك.
923 - / 1119 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: جمعت الْمُحكم فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قيل: وَمَا الْمُحكم؟ قَالَ: الْمفصل. [15] قد سبق بَيَان الْمفصل فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
934 - / 1120 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: هما واليان: وَال يَرث، ووال لَا يَرث، وَذَلِكَ الَّذِي يُقَال لَهُ الْمَعْرُوف. [15] الْإِشَارَة إِلَى قَوْله: {وَإِذا حضر الْقِسْمَة أولُوا الْقُرْبَى} [النِّسَاء: 8]

(2/411)


[15] وللمفسرين فِي المُرَاد بِهَذِهِ الْقِسْمَة قَولَانِ: أَحدهمَا: قسْمَة الْمِيرَاث بعد موت الْمَوْرُوث، فَيكون الْخطاب للوارثين، هَذَا قَول الْجُمْهُور. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَصِيَّة الْمَيِّت قبل مَوته، فَيكون مَأْمُورا بِأَن يعين لمن لَا يَرِثهُ شَيْئا، قَالَه ابْن زيد. وعَلى مَا ذكره ابْن عَبَّاس يكون الْمشَار بِأولى الْقُرْبَى إِلَى من يَرث وَمن لَا يَرث من الْقرَابَات، وَيكون قَوْله: {فارزقوهم} عَائِدًا على الْوَارِث. وَقَوله: {وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} عَائِدًا إِلَى من لَا يَرث. وَالْأَكْثَرُونَ من الْمُفَسّرين قَالُوا: المُرَاد بأولي الْقُرْبَى هَاهُنَا من لَا يَرث، وفسروا قَوْله: {فارزقوهم} فَقَالَ قوم: أعطوهم من المَال. وَقَالَ آخَرُونَ: أطعموهم، وَذَلِكَ على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب، وَذهب قوم إِلَى أَن ذَلِك وَاجِب فِي المَال، فَإِن كَانَ الْوَرَثَة كبارًا توَلّوا إعطاءهم، وَإِن كَانُوا صغَارًا تولى ذَلِك عَنْهُم ولي مَالهم. فَروِيَ عَن عبيده أَنه قسم مَال أَيْتَام فَأمر بِشَاة فاشتريت من مَالهم، وبطعام فَصنعَ، وَقَالَ: لَوْلَا هَذِه الْآيَة لأحببت أَن يكون من مَالِي. وَكَذَلِكَ فعل مُحَمَّد بن سِيرِين فِي أَيْتَام وليهم. وَقَالَ الْحسن وَالنَّخَعِيّ: يُعْطون من المَال وَيُقَال لَهُم عِنْد قسْمَة الْأَرْضين وَالرَّقِيق: بورك فِيكُم، وَهَذَا القَوْل الْمَعْرُوف. وَقد رُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَن هَذِه الْآيَة نسخت بقوله: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] وَهُوَ مَذْهَب سعيد بن الْمسيب وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة الضَّحَّاك فِي آخَرين.
935 - / 1121 وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَنه قَالَ فِي الْكَوْثَر: هُوَ الْخَيْر الَّذِي أعطَاهُ الله إِيَّاه.

(2/412)


[15] اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي الْكَوْثَر على سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه نهر فِي الْجنَّة. وَسَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه فسره بنهر فِي الْجنَّة. وَالثَّانِي: الْخَيْر الْكثير الَّذِي أعْطِيه نَبينَا، وَهَذَا الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: الْعلم وَالْقُرْآن، قَالَه الْحسن. وَالرَّابِع: النُّبُوَّة، قَالَه عِكْرِمَة. وَالْخَامِس: أَنه حَوْض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكثر النَّاس عَلَيْهِ، قَالَه عَطاء. وَالسَّادِس: أَنه كَثْرَة اتِّبَاعه وَأمته، قَالَه أَبُو بكر بن عَيَّاش. وَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَمد إِلَّا على القَوْل الأول، لِأَنَّهُ إِذا صَحَّ الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبْق لقَائِل قَول.
936 - / 1123 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْمِقْدَادِ: " إِذا كَانَ رجل مُؤمن يخفي إيمَانه مَعَ قوم كفار فأظهر إيمَانه فَقتلته، فَكَذَلِك كنت أَنْت تخفي إيمانك بِمَكَّة ". [15] قيل: سَبَب هَذَا القَوْل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث سَرِيَّة فِيهَا الْمِقْدَاد، فَلَمَّا أَتَوا الْقَوْم وجدوهم قد تفَرقُوا وَبَقِي رجل لَهُ مَال كثير، فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَأَهوى إِلَيْهِ الْمِقْدَاد فَقتله، فَلَمَّا قدمُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبرُوهُ بذلك، فَقَالَ: " يَا مقداد، أقتلت رجلا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله؟ فَكيف بِلَا إِلَه إِلَّا الله غَدا؟ " فَنزل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا} [النِّسَاء: 94] رَوَاهُ سعيد بن جُبَير عَن

(2/413)


ابْن عَبَّاس.
937 - / 1124 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: سُئِلَ ابْن عَبَّاس: مثل من أَنْت حِين قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: أَنا يَوْمئِذٍ مختون، وَكَانُوا لَا يختنون الرجل حَتَّى يدْرك. [15] قد بَينا أول هَذَا الْمسند أَنه ولد قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، فَيكون حِين قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن ثَلَاث عشرَة، وَقد يبلغ الصَّبِي لَهَا ولاثنتي عشرَة سنة.
938 - / 1125 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: أَنه دفع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَرَفَة، فَسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَاءه زجرا شَدِيدا وَضَربا لِلْإِبِلِ، فَقَالَ: " عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ، فَإِن الْبر لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ ". السكينَة بِمَعْنى السّكُون. وَالْبر: الطَّاعَة. والإيضاع: الْإِسْرَاع.
939 - / 1126 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: كَانَ يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن: " أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل شَيْطَان وَهَامة، وَمن كل عين لَامة ". [15] المُرَاد بِكَلِمَات الله قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه كَلَامه على الْإِطْلَاق، وَلَا نقص فِيهِ، إِذا كَلَام المخلوقين لَا يَخْلُو من نقص يعاب بِهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: تَمامهَا: فَضلهَا وبركتها، وَأَنه لَا تخفق مَعهَا طلبة.

(2/414)


وَالثَّانِي: أَنَّهَا أقضيته وعداته الَّتِي تتضمنها كَلِمَاته، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وتمت كلمت رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل} [الْأَعْرَاف: 137] فكلمته هِيَ قَوْله: {ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض} [الْقَصَص: 5] قَالَ الْخطابِيّ: وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يسْتَدلّ بقوله: " كَلِمَات الله التَّامَّة " على أَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق، وَيَقُول: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يستعيذ بمخلوق. [15] وَفِي الهامة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا كل نسمَة تهم بِسوء، قَالَه ابْن الْأَنْبَارِي. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَاحِدَة الْهَوَام، والهوام الْحَيَّات وكل ذِي سم يقتل. فَأَما مَاله سم إِلَّا أَنه لَا يقتل فَهِيَ السوام، كالعقرب والزنبور. وَأما مَا يُؤْذِي وَلَيْسَ بِذِي سم كالقنافذ والخنافس والفأر واليربوع فَهِيَ القوام. وَقد تقع الهامة على كل مَا يدب من الْحَيَوَان، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لكعب: " أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك؟ " يَعْنِي الْقمل. [15] وَقَوله: " من كل عين لَامة " قَالَ أَبُو عبيد: أَصْلهَا من أَلممْت إلماما، وَلم يقل ملمة، كَأَنَّهَا أَرَادَ أَنَّهَا ذَات لمَم. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: اللامة الملمة، وَهِي الْآتِيَة فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت. قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ لَامة وقياسها ملمة ليُوَافق لفظ هَامة فَيكون ذَلِك أخف على اللِّسَان. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: اللامة: ذَات اللمم، وَهِي كل دَاء وَآفَة تلم بالإنسان من جُنُون وخبل وَغير ذَلِك.

(2/415)


940 - / 1128 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: {وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف} [الْحَج: 11] . [15] قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: على شكّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل شَاك فِي شَيْء فَهُوَ على حرف لِأَنَّهُ قلق فِي دينه، على غير ثبات.
941 - / 1129 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: خرج رجل من بني سهم مَعَ تَمِيم الدَّارِيّ وعدي بن بداء، فَمَاتَ السَّهْمِي بِأَرْض لَيْسَ بهَا مُسلم، فَلَمَّا قدمُوا بِتركَتِهِ فقدوا جَاما من فضَّة مخوصا بِذَهَب، فَأَحْلفهُمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ وجد الْجَام بِمَكَّة، فَقَالُوا: ابتعناه من تَمِيم وعدي بن بداء، فَقَامَ رجلَانِ من أوليائه فَحَلفا لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَأَن الْجَام لصَاحِبِهِمْ، وَفِيهِمْ نزلت هَذِه الْآيَة: {شَهَادَة بَيْنكُم} [الْمَائِدَة: 106] . [15] اسْم هَذَا السَّهْمِي بزيل بن أبي مَارِيَة، مولى الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي، هَكَذَا ذكره ابْن مَاكُولَا: بزيل بالزاي، وَقد ذكره بعض الْمُفَسّرين بِالدَّال، وَلَيْسَ هَذَا قَول من يعرف علم الحَدِيث. وَكَانَ تَمِيم وعدي حِينَئِذٍ نَصْرَانِيين، فَأسلم تَمِيم، وَمَات عدي نَصْرَانِيّا. [15] والمخوص بِالذَّهَب: أَن يَجْعَل عَلَيْهِ صَفَائِح كالخوص تزينه. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِن الله عز وَجل أَرَادَ أَن يعرفنا كَيفَ نشْهد بِالْوَصِيَّةِ

(2/416)


عِنْد حُضُور الْمَوْت، فَقَالَ: {ذَوا عدل مِنْكُم} يَعْنِي عَدْلَيْنِ من الْمُسلمين. وَعلم أَن من النَّاس من يُسَافر فيصحبه فِي سَفَره أهل الْكتاب دون الْمُسلمين، ويحضره الْمَوْت فَلَا يجد من يشهده من من الْمُسلمين، فَقَالَ: {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} أَي من غير أهل ملتكم. فالذميان فِي السّفر خَاصَّة إِذا لم يُوجد غَيرهمَا تحبسونها من بعد الصَّلَاة - بعد صَلَاة الْعَصْر - إِن ارتبتم فِي شَهَادَتهمَا وخشيتم أَن يَكُونَا قد خَانا أَو بَدَلا، فَإِذا حلفا مَضَت شَهَادَتهمَا، فَإِن ظهر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا أَي حنثا فِي الْيَمين بكذب أَو خِيَانَة فآخران، أَي قَامَ فِي الْيَمين مقامهما رجلَانِ من قرَابَة الْمَيِّت، وهما الوليان، فيحلفان لقد ظهرنا على خِيَانَة الذميين وكذبهما، وَمَا اعتدينا عَلَيْهِمَا، ولشهادتنا أصح لكفرهما وإيماننا، فَيرجع على الذميين بِمَا اختانا، وينقض مَا مضى من الحكم بِشَهَادَتِهِمَا تِلْكَ.
942 - / 1130 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: {لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا} [مَرْيَم: 64] . [15] وللمفسرين فِي ذَلِك قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا بَين أَيْدِينَا الْآخِرَة، وَمَا خلفنا الدُّنْيَا، قَالَه سعيد بن الجبير. وَالثَّانِي: على عكس هَذَا، قَالَه مُجَاهِد.

(2/417)


943 - / 1131 وَفِي الحَدِيث السِّتين: قَالَ ابْن عَبَّاس: قضى مُوسَى أَكثر الْأَجَليْنِ وأطيبهما، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَالَ فعل. [15] اعْلَم أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام رأى طمع شُعَيْب [عَلَيْهِ السَّلَام] مُتَعَلقا بِالْفَضْلِ فَلم يقْض كرمه أَن يخيب الظَّن فِي كريم.
944 - / 1132 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: آخر آيَة نزلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة الرِّبَا. [15] وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وعطية وَمُقَاتِل فِي آخَرين: أَن آخر آيَة نزلت: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} [الْبَقَرَة: 281] قَالَ ابْن عَبَّاس: توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعْدهَا بِأحد وَثَمَانِينَ يَوْمًا. قَالَ ابْن جريج: توفّي بعْدهَا بتسع لَيَال. وَقَالَ مقَاتل: بِسبع لَيَال. وَهَذِه الْآيَة مُتَعَلقَة بآيَات الرِّبَا الَّتِي قبلهَا، فَكَأَن الْإِشَارَة إِلَى الْجَمِيع. [15] وَقد رُوِيَ عَن الْبَراء أَن آخر آيَة نزلت: {يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} [النِّسَاء: 176] قَالَ أبي بن كَعْب: آخر آيَة نزلت: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} آخر الْآيَة [التَّوْبَة: 128] .
945 - / 1133 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِابْنِ صياد: " لقد خبأت لَك خبيئا ". قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الدخ.

(2/418)


[15] وَقد سبق تفسر هَذَا، وَاسم ابْن صياد فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
946 - / 1134 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: كَانَ مُعَاوِيَة يسْتَلم الْأَركان، فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يسْتَلم هَذَانِ الركنان. فَقَالَ: لَيْسَ شَيْء من الْبَيْت مَهْجُورًا. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لم أر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين. [15] السّنة فِي حق الطَّائِف بِالْبَيْتِ أَن يبتدىء من الْحجر الْأسود فيستلمه بِيَدِهِ ويقبله وبحاذيه بِجَمِيعِ بدنه إِن أمكنه، وَإِلَّا استلمه وَقبل يَده، ثمَّ يَجْعَل الْبَيْت عَن يسَاره وَيَطوف، فَإِذا بلغ إِلَى الرُّكْن الْيَمَانِيّ استلمه وَقبل يَده وَلم يقبله. وَظَاهر كَلَام الْخرقِيّ أَنه يقبله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ استلام الرُّكْن الْيَمَانِيّ بمسنون. وَإِنَّمَا لم يسْتَلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّكْنَيْنِ الآخرين لِأَن الْحجر من الْبَيْت فَلَو استلمهما كَانَ تَقْرِير الْبَيْت وَإِخْرَاج الْحجر مِنْهُ.
947 - / 1135 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: أَن ابْن عَبَّاس أبي تَحْرِيم الْحمر الْأَهْلِيَّة وَقَرَأَ: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة [الْأَنْعَام: 145] . [15] اعْلَم أَنه لم يكن فِي الشَّرِيعَة محرم حِين نزُول هَذِه الْآيَة إِلَّا مَا ذكر فِيهَا، ثمَّ جَاءَ تَحْرِيم أَشْيَاء بعد ذَلِك، كَمَا أَنه قد كَانَ من أقرّ

(2/419)


بِالشَّهَادَتَيْنِ فَحسب فِي أول الْإِسْلَام دخل الْجنَّة، ثمَّ جَاءَت الْفَرَائِض وَالْحُدُود بعد ذَلِك، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى عَن الْحمر الْأَهْلِيَّة وَقَالَ: " إِنَّه رِجْس " وَقَالَ طَاوس وَمُجاهد: لَا أجد محرما مِمَّا كُنْتُم تستحلون فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَّا هَذَا.
948 - / 1136 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: " الْحمى من فيح جَهَنَّم، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". أَو قَالَ: " بِمَاء زَمْزَم ". [15] قد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند رَافع بن خديج. وَإِنَّمَا يذكر زَمْزَم للاستشفاء بِهِ تبركا.
949 - / 1137 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: أول جُمُعَة جمعت بعد جُمُعَة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس بجواثى من الْبَحْرين. [15] جواثى: اسْم قَرْيَة من قرى عبد الْقَيْس. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْجُمُعَة تُقَام فِي الْقرى، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تُقَام إِلَّا فِي الْأَمْصَار.
950 - / 139 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: " اشْتَدَّ غضب الله على من قَتله نَبِي فِي سَبِيل الله. اشْتَدَّ غضب الله على قوم دموا وَجه نَبِي الله ".

(2/420)


[15] اعْلَم أَن الْأَنْبِيَاء بعثوا بِالرَّحْمَةِ واللطف، فَلَا يقصدون بِالْقَتْلِ إِلَّا المبارز بالعناد، وَكَذَلِكَ لَا يبلغ أَذَى الْمُشرك إِلَى أَن يدمي وَجه نَبِي الله إِلَّا وَقد فاق فِي العناد، فصلح هَذَا أَن يُقَاتل بِشدَّة الْغَضَب عَلَيْهِ. وَقد كَانَت تدمية وَجه رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد، ويومئذ قتل أبي بن خلف. فَأَما تدمية وَجهه، فَإِنَّهُ لما فر النَّاس ثَبت صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عِصَابَة من أَصْحَابه عَددهمْ أَرْبَعَة عشر، فَجعل يَرْمِي عَن قوسه حَتَّى صَارَت شظايا، وَأُصِيبَتْ رباعيته وكلم فِي وجنته وَوَجهه، وعلاه ابْن قميئة بِالسَّيْفِ فَضَربهُ على شقَّه الْأَيْمن، فاتقاه طَلْحَة بن عبيد الله بِيَدِهِ فشلت إصبعه، وَحِينَئِذٍ قَالَ: " كَيفَ يفلح قوم دموا وَجه نَبِيّهم وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الله عز وَجل " فَنزلت: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} الْآيَة [آل عمرَان: 128] . [15] وَأما قَتله أبي بن خلف، فقد روى مُحَمَّد بن سعد عَن سعيد بن الْمسيب أَن أبي بن خلف أسر يَوْم بدر، فَلَمَّا افتدي من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن عِنْدِي فرسا أعلفها كل يَوْم فرق ذرة لعَلي أَقْتلك عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " بل أَنا أَقْتلك عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى " فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد أقبل يرْكض فرسه تِلْكَ حَتَّى دنا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاعْترضَ رجال من الْمُسلمين لَهُ ليقتلوه، فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " استأخروا، استأخروا " وَأقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ بِحَرْبَة فِي يَده فَرمى بهَا أبي بن خلف فَكسرت ضلعا من أضلاعه، فَرجع إِلَى أَصْحَابه ثقيلا فاحتملوه، وَطَفِقُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَا بَأْس، فَقَالَ لَهُم أبي: ألم يقل لي: " بل أَنا أَقْتلك إِن شَاءَ الله " فَمَاتَ بِبَعْض الطَّرِيق، فدفنوه، وَفِيه أنزلت:

(2/421)


{وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} [الْأَنْفَال: 17] .
951 - / 1141 وَفِي الحَدِيث السّبْعين: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} [الْإِسْرَاء: 60] قَالَ: هِيَ رُؤْيا عين أريها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس. [15] الْإِشَارَة بِهَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى مَا رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة من الْآيَات والعجائب. والفتنة: بِمَعْنى الاختبار؛ فَإِن قوما آمنُوا بِمَا قَالَ، وقوما كفرُوا. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: لَو كَانَ من رُؤْيَة الْعين لقَالَ الرُّؤْيَة، فَلَمَّا قَالَ الرُّؤْيَا دلّ على أَنه فِي النّوم. فقد أجَاب عَن هَذَا أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي قَالَ: الْمُخْتَار من هَذِه الرُّؤْيَا أَن تكون يقظة، وَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: رَأَيْت فلَانا رُؤْيَة، ورأيته رُؤْيا، إِلَّا أَن الرُّؤْيَة يقل اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، والرؤيا يكثر اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، وَيجوز كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْمَعْنيين.
952 - / 1142 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: عَن أبي الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: قطع على أهل الْمَدِينَة بعث فاكتتبت فِيهِ، فَلَقِيت عِكْرِمَة فنهاني أَشد النَّهْي ثمَّ قَالَ: أَخْبرنِي ابْن عَبَّاس أَن نَاسا من الْمُسلمين كَانُوا مَعَ الْمُشْركين يكثرون سَواد الْمُشْركين على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْتِي السهْم يَرْمِي بِهِ فَيُصِيب أحدهم فيقتله، أَو يضْرب فَيقْتل، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي}

(2/422)


أنفسهم} الْآيَة [النِّسَاء: 97] . [15] كَانَ ابْن الزبير قد استقصى على يزِيد، فَكَانَ يزِيد يَأْمر وُلَاة الْمَدِينَة وَغَيرهَا بِإِقَامَة الْبعُوث بقتاله.
953 - / 1143 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرضه وَقد عصب رَأسه بعصابة دهماء، فَذكر وَصيته بالأنصار. [15] الدهماء: السَّوْدَاء. والدهمة: السوَاد. وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: بعصابة دسماء. والدسماء: السَّوْدَاء. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْخلَافَة لَيست فِي الْأَنْصَار، لِأَنَّهُ وصّى بهم، وَلَو كَانَت فيهم لوصاهم.
954 - / 1144 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هَذِه وَهَذِه سَوَاء " يَعْنِي الْخِنْصر والإبهام. يَعْنِي فِي الدِّيَة. [15] قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هَذَا أصل فِي كل شَيْء من الْجِنَايَات لَا يضْبط فَيعلم قدره وَيُوقف على كميته، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك وَلم يكن اعْتِبَاره من طَرِيق الْمَعْنى كَانَ الحكم مُعْتَبرا فِيهِ من طَرِيق الِاسْم كالأصابع والأسنان، وَإِن اخْتلف جمَالهَا ومنافعها، وَمَعْلُوم أَن للإبهام من الْقُوَّة وَالْمَنْفَعَة مَا لَيْسَ للخنصر، ثمَّ جعلت دِيَتهمَا سَوَاء، وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنه لَا يضْبط وَلَا يُوقف على دقائق مَعَانِيه فَحمل الْأَمر على

(2/423)


الِاسْم، وَالله أعلم بالمصالح.
955 - / 1145 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: رَأَيْته عبدا - يَعْنِي زوج بَرِيرَة، كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يتبعهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة يبكي عَلَيْهَا. [15] الصَّحِيح فِي زوج بَرِيرَة أَنه كَانَ عبدا كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس، وَكَذَلِكَ روى عُرْوَة وَالقَاسِم عَن عَائِشَة. وَقد روى عَنْهُمَا الْأسود بن يزِيد أَنه كَانَ حرا، وَلَا يَصح لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن البُخَارِيّ يَقُول: قَول الْأسود مُنْقَطع، وَقَول ابْن عَبَّاس أصح. وَالثَّانِي: أَن عَائِشَة خَالَة عُرْوَة وعمة الْقَاسِم، وَكَانَا يدخلَانِ عَلَيْهَا بِلَا حجاب، فقولهما مقدم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه للقرب مِنْهَا أقدر على الاستثبات. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا اثْنَان. وَالثَّالِث: أَن قَوْله: كَانَ حرا، كَلَام الْأسود وَلَيْسَ يرويهِ عَن عَائِشَة. [15] وَلَا خلاف أَن الْأمة إِذا كَانَت تَحت عبد فعتقت أَن لَهَا الْخِيَار، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا إِذا كَانَت تَحت حر، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا خِيَار لَهَا. وَقَالَ أهل الرَّأْي: لَهَا الْخِيَار. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَالْأَصْل فِي الْمُكَافَأَة فِي النِّكَاح حَدِيث بَرِيرَة، فَإِنَّهُ لما كَانَ زَوجهَا عبدا فاستفادت الْحُرِّيَّة فضلته بهَا، فَكَانَ لَهَا الْخِيَار فِي الْمقَام والفراق.
956 - / 1146 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: قَالَ عِكْرِمَة: رَأَيْت رجلا عِنْد الْمقَام يكبر فِي كل خفض وَرفع وَإِذا وضع، فَأخْبرت

(2/424)


ابْن عَبَّاس فَقَالَ: أَو لَيْسَ تِلْكَ صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أم لَك؟ . [15] أما التَّكْبِيرَة الأولى لافتتاح الصَّلَاة فَلَا بُد مِنْهَا. فَأَما بَاقِي التَّكْبِيرَات فعندنا أَنَّهَا وَاجِبَة، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هِيَ سنة.
957 - / 1147 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: لعن المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء، والمتشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ. [15] اعْلَم أَن الله عز وَجل كرم الرجل بِكَوْنِهِ ذكرا، فَإِذا تشبه بِالنسَاء حط نَفسه عَن مرتبته، وَرَضي بخسة الْحَال، فاستوجب اللَّعْن. وَأما الْمَرْأَة إِذا تشبهت بِالرِّجَالِ فَإِن ذَلِك يُوجب مُخَالطَة الرِّجَال لَهَا ورؤيتها وَهِي عَورَة غير مستورة.
958 - / 1148 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: قد أحْصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحلق وجامع نِسَاءَهُ وَنحر هَدْيه حَتَّى اعْتَمر عَاما قَابلا. [15] اعْلَم أَن الْإِحْصَار على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: إحصار بعدو، وَلَا يكون لَهُ طَرِيق إِلَى الْبَيْت، فَهَذَا يذبح الْهَدْي فِي مَكَان إحصاره ويتحلل، فَإِن لم يجد هَديا صَامَ عشرَة أَيَّام ثمَّ تحلل. وَالثَّانِي: الْإِحْصَار بِالْمرضِ، وَذَهَاب النَّفَقَة أَو ضلال الطَّرِيق أَو الْخَطَأ فِي الْعدَد، فَهَذَا لَا يتَحَلَّل بل يُقيم على إِحْرَامه، فَإِن فَاتَهُ الْحَج تحلل بِفعل عمْرَة، فَإِن كَانَ شَرط فِي ابْتِدَاء إِحْرَامه أَن يحل مَتى مرض أَو

(2/425)


ضَاعَت نَفَقَته أَو أَخطَأ الطَّرِيق أَو الْعدَد، أَو حصره عَدو، أَو فَاتَهُ الْحَج، فَلهُ التَّحَلُّل إِذا وجد ذَلِك وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
959 - / 1149 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: أَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع عشرَة سنة يقصر الصَّلَاة، فَنحْن إِذا سافرنا وأقمنا تسع عشرَة قَصرنَا، وَإِذا زِدْنَا أتممنا. [15] اعْلَم أَن الْكَلَام لَيْسَ فِي إِقَامَة الْمُسَافِر، إِنَّمَا فِي نِيَّته، وَعِنْدنَا أَنه إِذا نوى إِقَامَة تزيد على أَرْبَعَة أَيَّام أتم، وَعَن أَحْمد أَنه إِذا نوى إِقَامَة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة أتم، وَلَا تخْتَلف الرِّوَايَة أَنه يحْتَسب بِيَوْم الدُّخُول وَيَوْم الْخُرُوج. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مَتى نوى خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: أَرْبَعَة أَيَّام غير أَيَّام الدُّخُول وَالْخُرُوج. [15] فَأَما ذكر التِّسْعَة عشر فرأي لِابْنِ عَبَّاس. وَهَذِه الْإِقَامَة كَانَت بِمَكَّة عَام الْفَتْح.
960 - / 1153 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المحاقلة والمزابنة. [15] قَالَ أَبُو عبيد: المحاقلة: بيع الزَّرْع وَهُوَ فِي سنبله بِالْبرِّ، وَهُوَ مَأْخُوذ من الحقل، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل الْعرَاق القراح. والمزابنة:

(2/426)


بيع الثَّمر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ. [15] وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْي فِي هَذَا لِأَنَّهُ من الْكَيْل، وَلَيْسَ يجوز شَيْء من الْكَيْل وَالْوَزْن إِذا كَانَا من جنس وَاحِد إِلَّا مثلا بِمثل ويدا بيد، وَهَذَا مَجْهُول لَا يعلم أَيهمَا أَكثر.
961 - / 1154 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: أُتِي عَليّ بزنادقة فاحرقهم. [15] قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: قَالَ ثَعْلَب: لَيْسَ زنديق من كَلَام الْعَرَب، وَإِنَّمَا تَقول الْعَرَب: رجل زندق وزندقي: إِذا كَانَ شَدِيد الْبُخْل، فَإِذا أَرَادَت الْعَرَب معنى مَا تَقول الْعَامَّة قَالُوا: ملحد، ودهري. فَإِذا أَرَادوا معنى السن قَالُوا: دهري. قَالَ ابْن دُرَيْد. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الزنديق فَارسي مُعرب، كَأَن أَصله عِنْده: زنده كرد، زنده: الْحَيَاة، وكرد: الْعَمَل، أَي يَقُول بدوام الدَّهْر. قَالَ أَبُو بكر قَالُوا: رجل زندقي. وزندقي لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب. قَالَ: وَسَأَلت الرياشي أَو غَيره عَن اشتقاق الزنديق فَقَالَ: يُقَال: رجل زندقي: إِذا كَانَ نظارا فِي الْأُمُور. قَالَ أَصْحَابنَا: والزنديق هُوَ الَّذِي يظْهر الْإِسْلَام ويبطن الْكفْر، وَهل تقبل تَوْبَته أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.

(2/427)


962 - / 1156 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: " لَو كنت متخذا خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل ". [15] قد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. [15] وَقَوله: " وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل " أَي هِيَ أَجود من اعْتِمَاد أَمر يصعب الْقيام بِهِ. [15] والخوخة: بَاب صَغِير. واختصاصه أَبَا بكر بِهَذَا تَفْضِيل عَظِيم، فَكَأَنَّهُ نبه على خِلَافَته. [15] وَفِيه: أنزلهُ أَبَا. يَعْنِي أَبَا بكر أنزل الْجد أَبَا.
963 - / 1157 وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: جَاءَت امْرَأَة ثَابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَت: إِنِّي مَا أَعتب عَلَيْهِ فِي خلق وَلَا دين، وَلَكِنِّي أكره الْكفْر فِي الْإِسْلَام. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَتردينَ عَلَيْهِ حديقته؟ " قَالَت: نعم، فَقَالَ: " أقبل الحديقة مِنْهَا وَطَلقهَا تَطْلِيقَة ". [15] اخْتلفُوا فِي اسْم هَذِه الْمَرْأَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: جميلَة، قَالَه ابْن عَبَّاس وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، ونسبها يحيى بن أبي كثير فَقَالَ: جميلَة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وكناها مقَاتل فَقَالَ: أم حَبِيبَة بنت عبد الله. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هِيَ جميلَة أُخْت عبد الله بن أبي. وَالثَّانِي: جميلَة بنت سهل. وَالثَّالِث: سهلة بنت حبيب، روى الْقَوْلَيْنِ

(2/428)


يحيى بن سعيد عَن عمْرَة. [15] وَأول خلع كَانَ فِي الْإِسْلَام خلع هَذِه الْمَرْأَة من ثَابت. [15] والحديقة: الْبُسْتَان. [15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل للزَّوْج أَن يَأْخُذ من الَّتِي تطلب الْخلْع أَكثر مِمَّا أَعْطَاهَا؟ فَقَالَ قوم مِنْهُم عمر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَالشَّافِعِيّ: يجوز. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم عَليّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَطَاوُس وَابْن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالزهْرِيّ وَأحمد بن حَنْبَل: لَا يجوز. [15] وَهل يجوز الْخلْع دون السُّلْطَان؟ قَالَ عمر وَعُثْمَان وَعلي وَجُمْهُور الْعلمَاء: يجوز. وَقَالَ الْحسن وَابْن سِيرِين وَقَتَادَة: لَا يجوز إِلَّا عِنْد السُّلْطَان.
964 - / 1158 وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد بِالنَّجْمِ وَسجد مَعَه الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنّ وَالْإِنْس. [15] وَقد سبق الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
965 - / 1159 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين: انتشل رَسُول الله

(2/429)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرقا من قدر ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ. [15] وَالْمعْنَى: أَخذه قبل تَمام النضج. والعرق: الْعظم عَلَيْهِ اللَّحْم. وَكَونه لم يتَوَضَّأ نسخ لقَوْله: " توضئوا مِمَّا مست النَّار ".
966 - / 1160 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، إِذا هُوَ بِرَجُل قَائِم، فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيل، نذر أَن يقوم فِي الشَّمْس وَلَا يقْعد، وَلَا يستظل، وَلَا يتَكَلَّم، ويصوم. فَقَالَ: " مره، فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه ". [15] أَبُو إِسْرَائِيل اسْمه قَيْصر العامري. وَلَيْسَ فِي جَمِيع الصَّحَابَة من يُشَارِكهُ فِي اسْمه وَلَا فِي كنيته، وَلَا لَهُ ذكر إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَقد ذكره المنيعي فَسَماهُ قشيرا. [15] وَمن نذر مَا لَا يجوز لَهُ لم يجز لَهُ أَن يفعل مَا نذر، وَيلْزمهُ أَن يكفر كَفَّارَة يَمِين.
967 - / 1161 وَفِي الحَدِيث التسعين: ذكر عِنْد عِكْرِمَة شَرّ الثَّلَاثَة.

(2/430)


[15] يَعْنِي الثَّلَاثَهْ إِذا ركبُوا على بَهِيمَة، وَهَذَا شَيْء تَقوله الْعَامَّة لَا أصل لَهُ، فَروِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم فاستقبلته أغيملة بني عبد الْمطلب، فَحمل وَاحِدًا بَين يَدَيْهِ وَآخر خَلفه.
968 - / 1162 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: " من تحلم بحلم لم يره كلف أَن يعْقد بَين شعيرتين وَلنْ يفعل. وَمن اسْتمع إِلَى حَدِيث قوم وهم لَهُ كَارِهُون صب فِي أُذُنه الآنك يَوْم الْقِيَامَة. وَمن صور صُورَة عذب وكلف أَن ينْفخ فِيهَا الرّوح وَلَيْسَ بنافخ ". [15] قَوْله: " من تحلم بحلم " أَي من زعم أَنه رأى مناما لم يره. وَهَذَا لما ذكر رُؤْيَة مَا لم يره، كلف فعل مَا لم يفعل، وَهُوَ العقد بَين شعيرتين. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: كذب الْكَاذِب فِي مَنَامه لَا يزِيد على كذبه فِي يقظته، فَلم زَادَت عُقُوبَته فِيمَا يتَعَلَّق بِالنَّوْمِ؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ فَقَالَ: قد صَحَّ الحَدِيث أَن الرُّؤْيَا جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة، والنبوة لَا تكون إِلَّا وَحيا، والكاذب فِي الرُّؤْيَا يَدعِي أَن الله تَعَالَى أرَاهُ مَا لم يره، وَأَعْطَاهُ جُزْءا من النُّبُوَّة لم يُعْطه، والكاذب على الله أعظم فِرْيَة مِمَّن كذب على الْخلق أَو على نَفسه. [15] والآنك: الرصاص القلعي. وَالْمرَاد بِهِ سد سَمعه عُقُوبَة لَهُ. [15] وَأما المصور فَإِنَّهُ شبه أَفعَال الْخَالِق وَلم يقدر على استتمام مَا شبه

(2/431)


بنفخ الرّوح، فَهُوَ يعذب لتشبهه فعل الْخَالِق، فَكيف بِمن يَدعِي تَشْبِيه ذَات الْخَالِق بذوات المخلوقين.
969 - / 1163 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشريك بن سَحْمَاء. . فَذكر الحَدِيث، وَأَنه شهد عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا شهِدت، فَلَمَّا كَانَت عِنْد الْخَامِسَة وقفوها وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجبَة. [15] وَقَوله: " إِنَّهَا مُوجبَة " الْمَعْنى أَن هَذِه المرات توجب عَذَاب الله. [15] وَقَوله: فتلكأت. أَي تباطأت عَن إتْمَام اللّعان. وَنَكَصت. النكوص: رُجُوع فِي توقف. [15] والكحل: سَواد الْعين خلقه، يُقَال من الْكحل: عين كحيلة، وَمن الْكحل: عين كحيل. [15] وَقَوله: سابغ الأليتين: السبوغ: التَّمام. [15] والخدلج والخدل بِمَعْنى وَاحِد: وَهُوَ الممتلىء السَّاقَيْن أَو الذراعين. [15] وَقَوله: " لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله " يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد} [النُّور: 8] " لَكَانَ لي وَلها شَأْن " يُشِير إِلَى الرَّجْم.
970 - / 1165 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يشرب من فِي السقاء. [15] إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك لخمسة معَان: أَحدهَا: أَنه رُبمَا كَانَت فِي

(2/432)


السقاء هَامة أَو قذاة فانتشرت فِي الْحلق. وَالثَّانِي: أَنه رُبمَا وَقع الشرق باندفاق المَاء. وَالثَّالِث: أَنه لَا يُمكن مص المَاء، بل يَقع العب الَّذِي يُؤْذِي الكبد. وَالرَّابِع: أَنه يُغير ريح السقاء. وَالْخَامِس: أَنه يتخايل الشَّارِب الثَّانِي رُجُوع شَيْء من فَم الأول فيستقذره.
971 - / 1166 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم بدر: " اللَّهُمَّ أنْشدك عَهْدك وَوَعدك. اللَّهُمَّ إِن تشأ لَا تعبد بعد الْيَوْم ". [15] أنْشدك بِمَعْنى أَسأَلك. قَالَ الزّجاج: يُقَال: نشدتك الله: أَي سَأَلتك بِاللَّه. وَقد تكلمنا على هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر.
972 - / 1168 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف بِالْبَيْتِ وَهُوَ على بعير، كلما أَتَى الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْء فِي يَده وَكبر. [15] اتّفق الْعلمَاء على أَن من طَاف رَاكِبًا من عذر جَازَ لَهُ. وَاخْتلفُوا فِيمَن طَاف رَاكِبًا من غير عذر: فَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يجْزِيه وَلَا دم عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَالْأُخْرَى لَا يجْزِيه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يجْزِيه وَعَلِيهِ دم.

(2/433)


973 - / 1169 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: عَلَيْهِ أَدَاة الْحَرْب. أَي آلَة الْحَرْب وَمَا يصلح لَهَا من السِّلَاح.
974 - / 1170 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا أسلمت النَّصْرَانِيَّة قبل زَوجهَا بساعة حرمت عَلَيْهِ. [15] وَهَذَا لِأَن الْإِسْلَام فرق بَينهمَا.
975 - / 1172 وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: حدث النَّاس كل جُمُعَة مرّة، فَإِن أَبيت فمرتين. [15] أعلم أَن كل شَيْء يكثر على النَّفس تمله، خُصُوصا المواعظ الَّتِي لاحظ للطبع فِيهَا إِلَّا أَن يكون مُجَرّد السماع. وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتخولهم بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَة السَّآمَة. [15] وَقَوله: واجتنب السجع فِي الدُّعَاء. وَهَذَا لِأَن الدُّعَاء يجب أَن يثيره صدق الْحَاجة، وَأَن يكون بذل وخشوع، واشتغال الْقلب بترتيب الْأَلْفَاظ يذهله عَن الْخُشُوع، فَإِذا وَقع الدُّعَاء مسجوعا عَن غير تكلّف يشغل فَلَا بَأْس بِهِ، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " أعوذ بك من عين لَا تَدْمَع، وَمن قلب لَا يخشع، وَمن دُعَاء لَا يسمع ".

(2/434)


976 - / 1173 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: ذكر فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. وَقد سبق. [15] وَقَوله: وَأشهر الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة: أَي وَبَعض ذِي الْحجَّة وَإِنَّمَا يذكر الشَّهْر كُله لِأَن الْحَج يكون فِيهِ.
977 - / 1174 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: " لَو خرج الَّذين يباهلون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجعوا لَا يَجدونَ أَهلا وَلَا مَالا ". [15] وَبَيَان هَذِه الْقِصَّة أَنه لما قدم أهل نَجْرَان من النَّصَارَى على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيهِمْ السَّيِّد وَالْعَاقِب، فناظراه فِي أَمر عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالا: كَيفَ تزْعم أَنه عبد الله؟ فَنزلت: {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب} [آل عمرَان: 59] وَذَلِكَ أَنهم استبعدوا خلق الْمَخْلُوق لَا من أَب، فَأَرَاهُم مخلوقا لَا من أَب وَلَا من أم، فَلَمَّا لم يلتفتوا إِلَى الدَّلِيل دعاهم إِلَى المباهلة. أخبرنَا عبد الله بن سعد قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَيُّوب قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْعَلَاء الوَاسِطِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الْفَارِسِي قَالَ: قَالَ الزّجاج: معنى الابتهال فِي اللُّغَة الْمُبَالغَة فِي الدُّعَاء، وَأَصله الالتعان، يُقَال: بهله الله: أَي لَعنه، وَمعنى لَعنه: باعده من رَحمته. وَإِنَّمَا أَمر بالمباهلة بعد إِقَامَة الْحجَّة. قَالَ الشّعبِيّ: وعدوه الْغَد للملاعنة، فَانْطَلقُوا إِلَى رجل مِنْهُم

(2/435)


عَاقل فَذكرُوا لَهُ ذَلِك فَقَالَ: إِن كَانَ نَبيا فَدَعَا عَلَيْكُم لَا يغضبه الله فِيكُم، وَإِن كَانَ ملكا فَظهر لَا يستبقيكم، فأدوا الْجِزْيَة.
978 - / 1175 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: حَدِيث مَاعِز وَقد سبق فِي مُسْند بُرَيْدَة.
979 - / 1176 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: خطبَته يَوْم النَّحْر، وَقَوله: " إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام " وَقد سبق فِي مُسْند أبي بكرَة.
980 - / 1177 وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن ". [15] فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَنه ينْزع الْإِيمَان مِنْهُ. قَالَ عِكْرِمَة: قلت لِابْنِ عَبَّاس: كَيفَ ينْزع الْإِيمَان مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه ثمَّ أخرجهَا، فَإِن تَابَ عَاد إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه. وَوجه هَذَا أَن الْمعْصِيَة تذهله عَن مُرَاعَاة الْإِيمَان، وَهُوَ تَصْدِيق الْقلب، فَكَأَنَّهُ ينسى من صدق بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه لَا يَزْنِي وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان.
981 - / 1180 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة: حَدِيث الْقسَامَة.

(2/436)


وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة، وَفِيه من الْغَرِيب: [15] أَشد عُرْوَة جوالقي. والجوالق كالغرارة يَجْعَل فِيهَا مَا يَجْعَل فِي الأوعية. [15] وَفِيه فَحَذفهُ بعصا: أَي رَمَاه بهَا. وَالْعرب تَقول: حذفه بالعصا، وقذفه بِالْحجرِ، ورشقه بِالنَّبلِ، ونضحه بِالْمَاءِ، ولفعه بالبعر. [15] وَفِيه: قتلني فِي عقال: أَي لأجل عقال: وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير، كالقيد للدابة. [15] وَفِيه قَول امْرَأَة: أحب أَن تجيز لي ابْني هَذَا بِرَجُل من الْخمسين. أَي تَأذن لي فِي ترك الْيَمين. وَقد رُوِيَ تجير بالراء: أَي تجيره من الْيَمين وتؤمنه مِنْهَا. [15] وَقَول: وَلَا تصبر يَمِينه حَيْثُ تصبر الْأَيْمَان. يَمِين الصَّبْر: هِيَ الَّتِي يلْزمهَا الْمَأْمُور بهَا وَيكرهُ عَلَيْهَا وَيقْضى عَلَيْهِ بِهِ. [15] وَفِيه: قَالَ ابْن عَبَّاس: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ مَا حَال الْحول وَمن البَاقِينَ عين تطرف. هَذِه كَانَت عَادَة الله عز وَجل عِنْد الْقَوْم قبل الشَّرِيعَة: أَن يهْلك من حلف بِهِ كَاذِبًا ليمتنعوا من الظُّلم.
982 - / 1182 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة: " نعمتان مغبون فيهمَا كثير من النَّاس: الصِّحَّة والفراغ ". [15] اعْلَم أَنه قد يكون الْإِنْسَان صَحِيحا وَلَا يكون متفرغا لِلْعِبَادَةِ لاشتغاله بِأَسْبَاب المعاش، وَقد يكون متفرغا من الأشغال وَلَا يكون صَحِيحا،

(2/437)


فَإِذا اجْتمعَا للْعَبد ثمَّ غلب عَلَيْهِ الكسل عَن نيل الْفَضَائِل فَذَاك الْغبن كَيفَ وَالدُّنْيَا سوق الرباح، والعمر أقصر، والعوائق أَكثر.
983 - / 1184 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: اللات والعزى. كَانَ اللات رجلا يلت سويق الْحَاج. [15] اعْلَم أَن هَذَا التَّفْسِير لَا يَقع على قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَأَن الْجُمْهُور يقرءُون: (اللات) خَفِيفَة، وَهُوَ اسْم صنم كَانَ لثقيف. وَكَانَت الْعَرَب تشتق لأصنامها من أَسمَاء الله تَعَالَى: فَقَالُوا من الله: اللات، وَمن الْعَزِيز: الْعُزَّى، وَمن المنان: مَنَاة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: كَانَ الْمُشْركُونَ يتعاطون " الله " اسْما لبَعض أصنامهم، فَصَرفهُ الله إِلَى اللات صِيَانة لهَذَا الِاسْم وذبا عَنهُ. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو رزين وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَمُجاهد وَالضَّحَّاك وَابْن يعمر وَالْأَعْمَش ورويس عَن يَعْقُوب: (اللات) بتَشْديد التَّاء، وَتَفْسِيره على مَا قَالَ ابْن عَبَّاس. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ يلت بتَشْديد التَّاء، وَتَفْسِيره على مَا قَالَ ابْن عَبَّاس. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ يلت السويق للْحَاج فَلَمَّا مَاتَ عكفوا على قَبره فعبدوه. وَقَالَ الزّجاج: كَانَ يلت السويق ويبيعه عِنْد ذَلِك الصَّنَم. فَسمى الصَّنَم اللات.
984 - / 1185 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة: " حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل ". [15] بمعى كافينا، وَمثله: حَسبك الله، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:

(2/438)


( ... ... ... ... ... ... ... . ... وخسبك من غنى شبع وري)
[15] وَقَالَ غَيره:
(وَإِذ لَا ترى فِي النَّاس حسنا يفوقنا ... وفيهن حسن لَو تَأَمَّلت محسب)
[15] وَالْوَكِيل: الْكَافِي، وَقيل: الرب، وَقيل: الْكَفِيل.
985 - / 1186 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة: " آلَيْت مِنْهُنَّ شهرا " يَعْنِي النِّسَاء. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر.
986 - / 1187 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: مَا ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا بَين الدفتين. [15] الْإِشَارَة إِلَى مَا بَين الدفتين إِلَى الْقُرْآن. وَيَعْنِي بالدفتين جَانِبي الْمُصحف. وَيحْتَمل هَذَا الحَدِيث شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: مَا ترك من الدُّنْيَا شَيْئا، إِنَّمَا ترك الْقُرْآن. وَالثَّانِي: مَا ترك من الْعَمَل مسطورا سوى الْقُرْآن.
987 - / 1188 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: {إِنَّهَا ترمي بشرر كالقصر} [المرسلات: 32] قَالَ ابْن عَبَّاس: كُنَّا نرفع الْخشب ثَلَاثَة أَذْرع أَو أقل للشتاء فنسميه الْقصر. {كَأَنَّهَا جمالات صفر} [المرسلات: 33] حبال السفن تجمع حَتَّى تكون كأوساط الرِّجَال.

(2/439)


[15] اعْلَم أَن قِرَاءَة الْجُمْهُور (كالقصر) بِإِسْكَان الصَّاد. وَفِي المُرَاد بذلك قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أحد الْقُصُور المبنية. وَالثَّانِي: أَنه أصُول النّخل وَالشَّجر، قَالَ الْحسن: بل هُوَ الجزل من الْخشب، واحده قصرة وَقصر، مثل وجمرة وجمر، وَتَمْرَة وتمر. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو رزين وَأَبُو الجوزاء وَمُجاهد: (كالقصر) بِفَتْح الصَّاد، وَفِي مَعْنَاهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا ذكرنَا عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: من فتح الصَّاد أَرَادَ أصُول النّخل المقطوعة المقلوعة. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَعْنَاق الْإِبِل، قَالَه الزّجاج. وَقَرَأَ سعد بن أبي وَقاص وَعَائِشَة وَعِكْرِمَة وَابْن يعمر بِفَتْح الْقَاف وَكسر الصَّاد. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَالنَّخَعِيّ بِضَم الْقَاف وَالصَّاد. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاء بِكَسْر الْقَاف وَفتح الصَّاد. وَقَالَ ابْن مقسم: كلهَا لُغَات بِمَعْنى وَاحِد. [15] وَأما (الجمالات) فَقَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر: (جمالات) بِالْألف وَكسر الْجِيم. وَقَرَأَ رويس عَن يَعْقُوب: (جمالات) بِضَم الْجِيم. وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ على التَّوْحِيد بِكَسْر الْجِيم. وَقَرَأَ أَبُو رزين وَحميد مثلهمَا، لكنهما ضما الْجِيم. قَالَ الزّجاج: من قَرَأَ (جمالات) بِالْكَسْرِ فَهُوَ جمع جمال، كَمَا تَقول: بيُوت وبيوتات، فَهُوَ جمع الْجمع، فَالْمَعْنى: كَأَن الشرارات كالجمال، وَمن قَرَأَ (جمالات) فَهُوَ جمع جمالة: وَهِي الْفلس من فلوس سفن الْبَحْر،

(2/440)


وَيجوز أَن يكون جمع جمل وجمال وجمالات. وَكَذَلِكَ تَفْسِير قِرَاءَة (جمالة) بِضَم الْجِيم. وَمن قَرَأَ (جمالة) فَهُوَ جمل وجماله كَمَا قيل حجر وحجارة، وَذكر وذكارة. [15] وَأما الصفر فَهِيَ هَاهُنَا السود، قَالَ الْفراء: الصفر: سود الْإِبِل، لَا ترى الْأسود من الْإِبِل إِلَّا وَهُوَ مشوب بصفرة، فَلذَلِك سمت الْعَرَب سود الْإِبِل صفرا، كَمَا سموا الظباء أدما لما يعلوها من الظلمَة فِي بياضها.
988 - / 1190 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: سبق مُحَمَّد الباذق. [15] والباذق بِفَتْح الذَّال: وَهُوَ نوع من الشَّرَاب كَانَ عِنْدهم، وَالْمعْنَى: سبق حكم مُحَمَّد فِي أَن مَا أسكر فَهُوَ حرَام.
989 - / 1191 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين [بعد الْمِائَة] : قَالَ ابْن عَبَّاس: من طَاف بِالْبَيْتِ فليطف من وَرَاء الْحجر، وَلَا تَقولُوا: الْحطيم، فَإِن الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ يحلف فيلقي سَوْطه أَو نَعله أَو قوسه. [15] وَقد سبق معنى الْحجر والحطيم فِي مُسْند مَالك بن صعصعة، وَذكرنَا أَنه هُوَ الْحطيم، وَبينا أَنه سمي حطيما لِأَنَّهُ محطوم الْحِجَارَة،

(2/441)


فكره ابْن عَبَّاس لَهُ هَذَا الِاسْم. [15] وَقَوله: فيلقي سَوْطه أَو نَعله. هَذَا شَيْء من مَذَاهِب الْجَاهِلِيَّة، فَكَأَنَّهُ قد كَانَ يحلف أَن يطوف فيلقي نَعله أَو سَوْطه كالنيابة عَن طَوَافه، فَكَأَنَّهُ أَمرهم بِالطّوافِ ونهاهم عَن مَذَاهِب الْجَاهِلِيَّة. [15] وَفِي رِوَايَة البرقاني: " فأيما صبي حج بِهِ أَهله فقد قَضَت حجَّته عَنهُ، وَإِذا بلغ فَعَلَيهِ حجَّة " أما حج الصَّبِي وَالْعَبْد فَإِنَّهُ حج صَحِيح، إِلَّا أَنَّهَا يعيدان بعد الْبلُوغ وَالْعِتْق.
990 - / 1192 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: [15] عَن أبي الطُّفَيْل: قلت لِابْنِ عَبَّاس: أَرَأَيْت هَذَا الرمل بِالْبَيْتِ ثَلَاثَة أطواف ومشي أَرْبَعَة أطواف، أسنة هُوَ؟ [15] أما الرمل فقد فسرناه فِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ من هَذَا الْمسند. وَقَوله: لَيْسَ بِسنة. جُمْهُور الْعلمَاء على خِلَافه. وَسُئِلَ عمر بن الْخطاب: فيمَ الرمل الْيَوْم؟ قَالَ: لَا نَدع شَيْئا كُنَّا نفعله على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد كَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يرى على من ترك الرمل دَمًا.

(2/442)


[15] وَأما الطّواف بِالْبَيْتِ رَاكِبًا من غير عذر أَو من عذر فقد سبق بَيَان حكمه فِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين من أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذَا الْمسند. [15] وَأما السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة فَإِنَّهُ ركن فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، فعلى هَذَا حكمه حكم الطّواف. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنه سنة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ وَاجِب يَنُوب عَنهُ الدَّم. وَأما أَبُو الطُّفَيْل فَسَيَأْتِي ذكره فِي مُسْنده إِن شَاءَ الله. [15] وَيدعونَ بِمَعْنى يدْفَعُونَ. ويكرهون: يضطرون إِلَى التنحي عَن الْمَكَان الَّذِي هم فِيهِ.
991 - / 1193 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: آخر سُورَة نزلت من الْقُرْآن جمعيا {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} [15] قد روينَا فِي حَدِيث الْبَراء أَن آخر سُورَة نزلت (بَرَاءَة) وَالَّذِي يَقُوله ابْن عَبَّاس أليق؛ لِأَن (بَرَاءَة) نزلت فِي سنة تسع، وَقد نزل بعْدهَا أَشْيَاء.
992 - / 1194 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا ". [15] الأيم: الَّتِي لَا زوج لَهَا. وَالْمرَاد بهَا هَاهُنَا من فقدت زَوجهَا،

(2/443)


إِمَّا بِطَلَاق أَو بِمَوْت. [15] قَوْله: " وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا ". وَجعل صمتها إِذْنا لموْضِع حيائها.
993 - / 1195 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أَبَا الصَّهْبَاء قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: هَات من هناتك، ألم يكن طَلَاق الثَّلَاث على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَاحِدَة؟ فَقَالَ: قد كَانَ ذَلِك، فَلَمَّا كَانَ فِي عهد عمر تتايع النَّاس فِي الطَّلَاق فَأَجَازَهُ عَلَيْهِم. وَفِي لفظ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الطَّلَاق على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وسنتين من خلَافَة عمر، طَلَاق الثَّلَاث وَاحِدَة، فَقَالَ عمر: إِن النَّاس قد استعجلوا فِي أَمر كَانَت لَهُم فِيهِ أَنَاة، فَلَو أمضيناه عَلَيْهِم فأمضاه عَلَيْهِم. [15] الهنات: خِصَال سوء مَكْرُوهَة، قَالَ ابْن فَارس: وَلَا يُقَال فِي الْخَيْر. وَلَعَلَّ أَبَا الصَّهْبَاء قد سمع من ابْن عَبَّاس أَن الطَّلَاق فِي الْحيض لَا يكره، أَو أَن جمع الثَّلَاث جَائِز، فَأَرَادَ الرَّد عَلَيْهِ. وَالَّذِي يظْهر من معنى الحَدِيث أَن قَوْله: كَانَ طَلَاق الثَّلَاث وَاحِدَة أَن يُوقع وَاحِدَة بعد وَاحِدَة، وَهَذَا طَلَاق السّنة: أَن يُوقع فِي كل طهر طَلْقَة، فَلَمَّا كَانَ فِي عهد عمر تتايع النَّاس فِي الطَّلَاق - أَي أَسْرعُوا فِيهِ وَلم ينتظروا الطُّهْر لإيقاعه، أَو جمعُوا الثَّلَاث بِكَلِمَة وَاحِدَة، فَأَجَازَهُ - أَي حكم بِوُقُوعِهِ. [15] والتتايع - بِالْيَاءِ قبل الْعين - لَا يكون إِلَّا فِي الشَّرّ

(2/444)


[15] وَقَوله: قد استعجلوا فِي أَمر كَانَت لَهُم فِيهِ أَنَاة. أَي رفق. وَهُوَ إِيقَاع الطقلة الْوَاحِدَة فِي الطُّهْر ثمَّ ينْتَظر الطُّهْر الثَّانِي لإيقاع ثَانِيَة. [15] فَلَو أمضيناه عَلَيْهِم، أَي تركنَا الْإِنْكَار عَلَيْهِم فِي هَذَا لِأَنَّهُ مُبَاح. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: لَا ينفر أحد حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ. النَّفر من الْحَج: الدّفع والانطلاق. وَالْإِشَارَة بِالْحَدِيثِ إِلَى طواف الْوَدَاع. ووهو عندنَا وَاجِب يلْزم بِتَرْكِهِ دم خلافًا لمَالِك وَأحد قولي الشَّافِعِي أَنه لَيْسَ بِوَاجِب. فَإِن طَاف وَلم يعقبه بِالْخرُوجِ لَزِمته الْإِعَادَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تلْزمهُ.
994 - / 1197 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " الْعين حق، وَلَو كَانَ شَيْء سَابق الْقدر سبقته الْعين، وَإِذا استغسلتم فَاغْسِلُوا ". [15] الْعين: نظر باستحسان يشوبه شَيْء من الْحَسَد، وَيكون النَّاظر خَبِيث الطَّبْع كذوات السمُوم فيؤثر فِي المنظور إِلَيْهِ، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ كل عاشق يُصِيب معشوقه بِالْعينِ. يُقَال: عنت الرجل: إِذا أصبته بِعَيْنِك، فَهُوَ معِين ومعيون، وَالْفَاعِل عائن. وَمعنى قَوْله: " الْعين حق " أَنَّهَا تصيب بِلَا شكّ عَاجلا، كَأَنَّهَا تسابق الْقدر. [15] وَقد أشكل إِصَابَة الْعين على قوم فاعترضوا على هَذَا الحَدِيث فَقَالُوا: كَيفَ تعْمل الْعين من بعد حَتَّى تمرض؟ وَالْجَوَاب: أَن طبائع النَّاس تخْتَلف كَمَا تخْتَلف طبائع الْهَوَام، وَقد بَينا فِيمَا تقدم من شرح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الأبتر وَذي الطفيتين: " أَنَّهُمَا يطمسان الْبَصَر ويسقطان الْحَبل " أَن ذَلِك يكون بِسم فصل من أعينهما فِي الْهَوَاء حَتَّى

(2/445)


أصَاب من رأينه، فَكَذَلِك الْآدَمِيّ. قَالَ ابْن السَّائِب: كَانَ فِي الْمُشْركين رجل يمْكث الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة لَا يَأْكُل، يرفع جَانب خبائه فتمر بِهِ النعم فَيَقُول: لم أر كَالْيَوْمِ إبِلا وَلَا غنما أحسن من هَذِه، فَمَا تذْهب إِلَّا قَرِيبا حَتَّى تسْقط مِنْهَا عدَّة , وَقَالَ الْأَصْمَعِي: رَأَيْت رجلا عيُونا كَانَ يَقُول: إِذا رَأَيْت الشَّيْء يُعجبنِي وجدت حرارة تخرج من عَيْني. [15] وَقد عرف أَن النَّاس من تلسعه الْعَقْرَب فتموت الْعَقْرَب. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَ المتَوَكل قد جِيءَ بأسود من بعض الْبَوَادِي يَأْكُل الأفاعي وَهِي أَحيَاء، ويتلقاها بالنهش من جِهَة رؤوسها، وَيَأْكُل ابْن عرس وَهُوَ حَيّ، ويتلقاه بِالْأَكْلِ من جِهَة رَأسه. وَأتي بآخر يَأْكُل الْجَمْر كَمَا يَأْكُلهُ الظليم. وفقراء الْأَعْرَاب الَّذين يبعدون عَن الرِّيف يَأْكُلُون الْحَيَّات وكل مادب ودرج من الحشرات. فَلَا يُنكر أَن يكون من النَّاس ذُو طبيعة ذَات سم وضرر، فَإِذا نظر إِلَى الشَّيْء يُعجبهُ فصل من عينه فِي الْهَوَاء شَيْء من السم فيصل إِلَى المرئي فيعله. وَمِمَّا يشبه هَذَا أَن الْمَرْأَة الطامث تَدْنُو من إِنَاء اللَّبن تسوطه فَيفْسد اللَّبن، وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا لشَيْء فصل عَنْهَا فوصل إِلَى اللَّبن، وَقد تدخل الْبُسْتَان فتضر بِكَثِير من الغروس من غير أَن تمسها، وَيفْسد الْعَجِين إِذا وضع فِي الْبَيْت الَّذِي

(2/446)


فِيهِ الْبِطِّيخ. وناقف الحنظل تَدْمَع عَيناهُ، وَكَذَلِكَ قَاطع البصل، والناظر إِلَى الْعين المحمرة، وَقد يتثاءب الرجل فيثاءب غَيره. [15] وَجَاء فِي الحَدِيث: أَن عَامر بن ربيعَة رأى سهل بن حنيف يغْتَسل فعانه وَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ، وَلَا جلد مخبأة، فلبط بِهِ - أَي صرع - حَتَّى مَا يعقل من شدَّة الوجع، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أتتهمون أحدا؟ " قَالُوا: نعم، عَامر بن ربيعَة. فأخبروه بقوله، فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل لَهُ فَفعل، فراح مَعَ الركب. [15] وَقد وصف الزُّهْرِيّ الْغسْل. فَقَالَ: يُؤْتى العائن بقدح، فَيدْخل كَفه فِيهِ فيمضمض ثمَّ يمجه فِي الْقدح، ثمَّ يغسل وَجهه فِي الْقدح، ثمَّ يدْخل يَده الْيُسْرَى فَيصب على مرفقه الْأَيْمن، ثمَّ يدْخل يَده الْيُمْنَى فَيصب على مرفقه الْأَيْسَر، ثمَّ يغسل دَاخل إزَاره، وَلَا يوضع الْقدح بِالْأَرْضِ، ثمَّ يصب على رَأس الرجل الَّذِي أُصِيب بِالْعينِ من خَلفه صبة وَاحِدَة. وَقد اخْتلفُوا فِي المُرَاد بداخلة إزارة: فَقَالَ أَبُو عبيد: كَانَ بَعضهم يذهب وهمه إِلَى المذاكير، وَبَعْضهمْ إِلَى الأفخاذ والورك، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا أَرَادَ بداخله إزَاره طرف إزَاره الدَّاخِل الَّذِي يَلِي جسده، وَهُوَ يَلِي الْجَانِب الْأَيْمن من الرجل، لِأَن المؤتزر إِنَّمَا يبْدَأ إِذا ائتزر بجانبه الْأَيْمن، فَذَلِك الطّرف يُبَاشر جسده، فَهَذَا الَّذِي يغسل.

(2/447)


995 - / 1198 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: صفة التَّشَهُّد. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
996 - / 1199 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن ضباعة أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِنِّي امْرَأَة ثَقيلَة، وَإِنِّي أُرِيد الْحَج، فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: " أَهلِي بِالْحَجِّ واشترطي أَن محلى حَيْثُ تحبسني ". [15] الإهلال بِالْحَجِّ: التَّلْبِيَة. وَمعنى هَذَا الِاشْتِرَاط أَنِّي أحل إِذا حَبَسَنِي الْمَرَض. وَلَا خلاف أَن الْمحصر بالعدو يتَحَلَّل، فَأَما الْمحصر بِالْمرضِ فَعِنْدَ أبي حنيفَة أَنه كالمحصر بالعدو، وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد لَا يُبَاح لَهُ التَّحَلُّل، إِلَّا عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد أَنه إِذا شَرط فِي ابْتِدَاء إِحْرَامه أَنه إِذا مرض تحلل جَازَ لَهُ التَّحَلُّل عِنْد وجود الشَّرْط. وَعند أبي حنيفَة وَمَالك أَن اشْتِرَاطه لَا تَأْثِير لَهُ. فَأَبُو حنيفَة يَقُول: لَا يحل لَهُ إِلَّا بِالْهَدْي، وَمَالك يَقُول: لَا يَسْتَفِيد التَّحَلُّل أصلا. والْحَدِيث حجَّة جلية؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْمَرَض يُبِيح لَهَا التَّحَلُّل لم يكن لاشتراطها معنى. فَإِن قَالُوا: فَائِدَة هَذَا الشَّرْط أَن لَا يلْزمهَا الْهَدْي، فلنا الحكم الْمُعَلق على الشَّرْط التَّحَلُّل، وَلم يجر للهدي ذكر، ثمَّ عنْدكُمْ إِن وجود هَذَا الشَّرْط كَعَدَمِهِ، وَإنَّهُ يجوز لَهَا التَّحَلُّل قبل الْهَدْي فَمَا قُلْتُمْ بِهِ.
977 - / 1200 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي الإقعاء

(2/448)


على الْقَدَمَيْنِ: هُوَ سنة. [15] قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الإقعاء: أَن يضع أليته على عَقِبَيْهِ وَيقْعد مستوفزا غير مطمئن إِلَى الأَرْض، وَكَذَلِكَ إقعاء السبَاع وَالْكلاب إِنَّمَا هُوَ أَن تقعد على مآخيرها وتنصب أفخاذها. قَالَ طَاوُوس: رَأَيْت العبادلة ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير يَفْعَلُونَ ذَلِك. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أهل مَكَّة يستعملون الإقعاء. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ لِبَنِيهِ: لَا تقتدوا بِي فِي الإقعاء، فَإِنِّي فعلته حِين كَبرت. وَيُشبه أَن يكون حَدِيث ابْن عَبَّاس مَنْسُوخا، لِأَنَّهُ قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرق أَنه قعد بَين السَّجْدَتَيْنِ مفترشا قدمه الْيُسْرَى.
988 - / 1203 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَن امْرَأَة رفعت صَبيا لَهَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: " نعم، وَلَك أجر. [15] هَذَا الحَدِيث صَرِيح فِي صِحَة حج الصَّبِي. وَعِنْدنَا أَن إِحْرَامه صَحِيح، فَإِن كَانَ مُمَيّزا صَحَّ إِحْرَامه بِإِذن وليه، وَإِن كَانَ غير مُمَيّز أحرم عَنهُ الْوَلِيّ وَصَارَ محرما بِإِحْرَام الْوَلِيّ، وَفعل عَنهُ مَا لَا يَتَأَتَّى فعله مِنْهُ، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. فَأَما نَفَقَة حجه وَمَا يلْزمه من كَفَّارَة إِذا ارْتكب مَحْظُورًا فَهَل هِيَ فِي مَاله أَو فِي مَال وليه؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَاخْتلف أَصْحَاب أبي حنيفَة: فَمنهمْ من قَالَ: لَا يَصح إِحْرَامه وَلَا حجه بِحَال. وَمِنْهُم من قَالَ: يَصح، وَلَكِن لَا يلْزم.

(2/449)


وَفَائِدَته أَنه ارْتكب مَحْظُورًا لم تلْزمهُ الْكَفَّارَة. وَلَا خلاف فِي وجوب الْإِعَادَة عِنْد الْبلُوغ.
999 - / 1204 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى خَاتمًا من ذهب فِي يَد رجل، فَنَزَعَهُ فطرحه، وَقَالَ: " يعمد أحدكُم إِلَى جَمْرَة من نَار فيجعلها فِي يَده " فَقيل للرجل بَعْدَمَا ذهب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خُذ خاتمك انْتفع بِهِ. قَالَ: لَا وَالله، لَا آخذه أبدا وَقد طَرحه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] إِنَّمَا جعل الْخَاتم جَمْرَة لِأَنَّهُ محرم اللّبْس، وَالْحرَام يَئُول بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّار، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} [النِّسَاء: 10] وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " من شرب فِي آنِية الْفضة إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم ". [15] وَرُبمَا نسب هَذَا الرجل بعض الْجُهَّال إِلَى التَّفْرِيط فِي ترك انتفاعه بالخاتم، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يخفى أَن الْمحرم لبسه لَا الِانْتِفَاع بِهِ، غير أَنه قد يتَعَلَّق الإبعاد بِعَين الشَّيْء، فخاف الرجل أَن يكون هَذَا من ذَاك الْجِنْس، مثل مَا تقدم من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: أَن امْرَأَة لعنت ناقتها، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " خُذُوا مَا عَلَيْهَا ودعوها، فَإِنَّهَا ملعونة " وَكَذَلِكَ لما ورد أَرض ثَمُود فعجنوا من بئارها أَمرهم بإلقاء الْعَجِين. فَلَمَّا جَازَ أَن يكون للشَّرْع فِي صُورَة الْأَمر سر، كَانَ الأولى

(2/450)


التَّمَسُّك بِظَاهِر اللَّفْظ. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على منع إِخْرَاج الْقيم فِي الزَّكَاة؛ لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ مُرَاده نفس مَا نَص عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِزَالَة النَّجَاسَة بِالْمَاءِ.
1000 - / 1206 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قَالَ كريب: رَأَيْت الْهلَال بِالشَّام لَيْلَة الْجُمُعَة، ثمَّ قدمت الْمَدِينَة فَأخْبرت ابْن عَبَّاس فَقَالَ: لَكنا رَأَيْنَاهُ لَيْلَة السبت. قلت: افلا تكتفي بِرُؤْيَة مُعَاوِيَة؟ قَالَ: لَا، هَكَذَا أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] اخْتلف الْفُقَهَاء فِيمَا إِذا رأى الْهلَال أهل بلد، فَهَل يلْزم جَمِيع الْبِلَاد الصَّوْم؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يلْزم، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يلْزم إِلَّا مَا قَارب ذَلِك الْبَلَد.
1001 - / 1207 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: فرض الله الصَّلَاة على نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَرْبعا، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة. [15] هَذَا يحْتَج بِهِ أَبُو حنيفَة، لِأَن عِنْده يتَعَيَّن الْقصر على الْمُسَافِر وَلَا يجوز لَهُ الْإِتْمَام. وَنحن نجيب عَن هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن: أَنه رَأْي ابْن عَبَّاس واجتهاده لَا رِوَايَته. وَالثَّانِي: أَن الصَّلَاة فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ فرض من يخْتَار الْقصر، وَعِنْدنَا أَن الْمُسَافِر مُخَيّر بَين الْقصر والإتمام، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وللخصم على هَذَا اعْتِرَاض، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: أجمعنا على أَن مَا زَاد على الرَّكْعَتَيْنِ لَا يجب على الْمُسَافِر،

(2/451)


بِدَلِيل أَنه يجوز لَهُ تَركه، وَلَا يجوز أَن يُقَال: الْوُجُوب مَوْقُوف على إِرَادَة العَبْد، فَإِن اخْتَار الْإِتْمَام وَجب، وَإِن لم يختره لم يجب؛ لِأَن هَذَا يُوجب تَفْوِيض الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَى اخْتِيَار العَبْد. وَالْجَوَاب: إِنَّمَا لم يجب مَا زَاد على الرَّكْعَتَيْنِ لِأَن الله تَعَالَى تصدق على الْمُسَافِر. فَإِن قيل: الصَّدَقَة تسْقط عَنهُ، وَإِن لم يقبل وأتى بِهِ أَتَى بِالْوَاجِبِ، وَصَارَ كمن عَلَيْهِ أَرْبَعَة دَرَاهِم فَقَالَ صَاحب الدّين: قد تَصَدَّقت عَلَيْك بِدِرْهَمَيْنِ، فَإِن قبل وَأدّى دِرْهَمَيْنِ كَانَت هِيَ الْوَاجِب، وَإِن لم يقبل وَأدّى الْأَرْبَعَة كَانَت الْوَاجِب. وَقَوْلهمْ: الْوُجُوب لَا يقف على اخْتِيَار العَبْد. قُلْنَا: إِنَّمَا خير فِي تعْيين قدر دون قدر كَمَا خير فِي كَفَّارَة الْيَمين. وَيدل على أَن الِاخْتِيَار إِلَى العَبْد قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " فاقبلوا صدقته " وَالنَّدْب إِلَى الْقبُول دَلِيل على ارتباطه بِاخْتِيَار الْمُكَلف. وَمثل هَذَا إِيجَاب الشَّرْع على الْمُصَلِّي أَن يقف فِي الصَّلَاة بِقدر الْقِرَاءَة، ثمَّ لَو مد الْقيام وَقع الْكل وَاجِبا. [15] وَأما قَوْله: صَلَاة الْخَوْف رَكْعَة، فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا يَقْتَدِي فِيهِ الْمَأْمُوم؛ لِأَنَّهُ يَقْتَدِي فِي رَكْعَة، وَيتم أُخْرَى، وَلَوْلَا هَذَا الْحمل كَانَ مُخَالفا للْإِجْمَاع.
1002 - / 1208 وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} [النَّجْم: 11] قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِه وَفِي لفظ: رَآهُ بفؤاده مرَّتَيْنِ. [15] اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي هَاء الْكِنَايَة فِي قَوْله: {وَلَقَد رَآهُ}

(2/452)


على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا ترجع إِلَى الله عز وَجل، وعَلى هَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس. وَقَوله: بِقَلْبِه وفؤاده، رَأْي من ابْن عَبَّاس حمل فِيهِ الْحَقِيقَة على الْمجَاز، لِأَن الرُّؤْيَة إِذا أطلقت فحقيقتها بالبصر. وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " رَأَيْت رَبِّي ". وَالثَّانِي: أَنَّهَا ترجع إِلَى جِبْرِيل، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود، فَلَا يحْتَاج على هَذَا القَوْل أَن يُقَال: رَآهُ بِقَلْبِه وَلَا بفؤاده.
1003 - / 1209 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات وملء الأَرْض ". [15] فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أُرِيد تَكْثِير الْحَمد فَضرب لَهُ مثل يَقْتَضِي الْكَثْرَة، كَقَوْلِه: " من لَقِيَنِي بقراب الأَرْض خَطَايَا لَقيته بقرابها مغْفرَة ". وَالثَّانِي: أَن يكون الْحَمد كَمَا قيل: كتب فَمَلَأ بالصحف السَّمَوَات وَالْأَرْض. [15] وَقَوله: " أهل الثَّنَاء وَالْمجد " الْمجد: الشّرف. [15] وَقَوله: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد " قَالَ أَبُو عبيد: لَا ينفع ذَا الْغنى مِنْك غناهُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ طَاعَتك وَالْعَمَل بِمَا يقربهُ مِنْك.
1004 - / 1210 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِيَمِين وَشَاهد.

(2/453)


[15] هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر وَابْن عَمْرو وَسعد بن عبَادَة وَجَابِر بن عبد الله وَأَبُو سعيد وَأَبُو هُرَيْرَة وَسَهل بن سعد وعامر بن ربيعَة والمغيرة وَأنس ابْن مَالك وَتَمِيم الدَّارِيّ وَعمارَة بن حَازِم وَعَمْرو بن حزم وَسَلَمَة بن قيس وبلال بن الْحَارِث وسرق وَزَيْنَب بنت ثَعْلَبَة العذري. وَهُوَ مَذْهَب أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَمُعَاوِيَة وَشُرَيْح وَسَعِيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وخارجة بن زيد وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود وَسليمَان بن يسَار وَأبي سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن وَالزهْرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن وَيحيى بن يعمر وَسليمَان بن حبيب وَمَكْحُول. وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَنه يجوز الحكم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين فِي المَال وَمَا يقْصد بِهِ المَال خلافًا لأبي حنيفَة. وَهل يقْضى بذلك فِي الْعتاق؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَلَا يقْضى بامرأتين وَيَمِين خلافًا لمَالِك. وَإِذا حكم الْحَاكِم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين فَرجع الشَّاهِد عَن شَهَادَته غرم جَمِيع المَال. وَقَالَ الشَّافِعِي: يغرم النّصْف. [15] 1005 / 1211 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: أهْدى الصعب بن جثامة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمَار وَحش. وَفِي لفظ: رجل وَحش، فَرده وَقَالَ: " لَوْلَا أَنا محرمون لقبلناه مِنْك ... ". [15] الرجل من أصل الْفَخْذ. والْحَدِيث مَحْمُول على أَنه صَاده لأَجله، خلافًا لأبي حنيفَة. وَفِيه وَجه آخر: وَهُوَ أَنه رد الصَّيْد لِأَنَّهُ لَا يجوز

(2/454)


للْمحرمِ تملك الصَّيْد، لَا بالهدية وَلَا بِالشِّرَاءِ.
1006 - / 1213 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: " من سمع سمع الله بِهِ وَمن راءى راءى الله بِهِ ". [15] سمع: عمد ليسمع النَّاس عَنهُ فعله الْحسن. سمع الله بِهِ: أَي أظهر عَنهُ مَا ينطوي عَلَيْهِ من قبح السريرة. تَقول: سَمِعت بالشَّيْء: إِذا أشعته فَفَشَا فِي الأسماع، وَسمعت بِالرجلِ: إِذا أشهرته وأفشيت الْقَبِيح عَنهُ. وعَلى نَحْو هَذَا: " من راءى راءى الله بِهِ ".
1007 - / 1215 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: " لَا تَتَّخِذُوا شَيْئا فِيهِ الرّوح غَرضا ". [15] الْغَرَض: المرمى.
1008 - / 1216 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: بَينا جِبْرِيل قَاعد عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع نقيضا من فَوْقه، فَرفع رَأسه فَقَالَ: " هَذَا بَاب من السَّمَاء فتح الْيَوْم لم يفتح قطّ، فَنزل مِنْهُ ملك، فَقَالَ: هَذَا ملك نزل إِلَى الأَرْض لم ينزل قطّ، فَسلم وَقَالَ: أبشر بنورين أُوتِيتهُمَا لم يؤتهما نَبِي قبلك: فَاتِحَة الْكتاب وخواتيم سُورَة الْبَقَرَة، لن تقْرَأ بِحرف مِنْهُمَا إِلَّا أَعْطيته ".

(2/455)


[15] النقيض: الصَّوْت. [15] قد يشكل هَذَا الحَدِيث فَيُقَال: كَأَن سُورَة " الْبَقَرَة " أوتيها نَبِي قبله، أَو " آل عمرَان " أَو غير ذَلِك من الْقُرْآن، فَكيف خص " الْفَاتِحَة " وخواتيم " الْبَقَرَة "؟ وَالْجَوَاب: أَن الْمَقْصُود مَا فيهمَا؛ فَإِن الْفَاتِحَة قد علمنَا فِيهَا سُؤال الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، وَقد وهب لِأُمَّتِنَا فِيهَا مَا لم يُوهب لمتقدمي الْأُمَم، وسلمت من أَوْصَاف المغضوب عَلَيْهِم وهم الْيَهُود، والضالين، وهم النَّصَارَى. وَآمَنت بِجَمِيعِ كتب الله وَرَسُوله، وَلم تفرق بَين رَسُول وَرَسُول كَمَا فرقت الْأُمَم قبلهَا فِي الْإِيمَان بالرسل، وَقَالَت: سمعنَا وأطعنا، وَقد قَالَ من قبلهَا: وعصينا، وعفي لَهَا عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وَلم يحمل عَلَيْهَا إصرا - وَهُوَ الثّقل - كَمَا حمل على من قبلهَا، وَلَا مَالا طَاقَة لَهَا بِهِ. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: فقد قَالَ: " افْتَرَقت أمة مُوسَى وَعِيسَى، وَسَتَفْتَرِقُ أمتِي " فَالْجَوَاب: أَن الْفرْقَة النَّاجِية من هَذِه الْأمة أَكثر من الْفرق الضَّالة من غَيرهَا، فَهَذِهِ الْأمة إِلَى السَّلامَة أقرب. وَإِذا أردْت اعْتِبَار الْأَحْوَال فَانْظُر إِلَى قوم مُوسَى، كَيفَ عرضت لَهُم غزَاة فِي الْعُمر فَقَالُوا: {اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} وَكَانَ أَصْحَاب نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام يستجيبون لَهُ مَعَ الْجراح والقرح. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لمُوسَى: {اجْعَل لنا إِلَهًا} وَهَؤُلَاء يَتْلُو أطفالهم {قل هُوَ الله أحد} وَقد سبق فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِنِّي

(2/456)


أَرْجُو أَن تَكُونُوا نصف أهل الْجنَّة ". وَقد روينَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أهل الْجنَّة مائَة وَعِشْرُونَ صفا، أمتِي مِنْهُم ثَمَانُون ".
1009 - / 1217 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: لما نزلت: {وَإِن تبدو مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} [الْبَقَرَة: 284] دخل قُلُوبهم مِنْهَا شَيْء لم يدْخل قُلُوبهم من شَيْء، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} الْآيَة [الْبَقَرَة: 286] . [15] اعْلَم أَن ابْن عَبَّاس يُشِير إِلَى النّسخ، وَقد صرح بِهِ فِي حَدِيث آخر. وَقد ذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لم ينْسَخ، ثمَّ انقسموا قسمَيْنِ: مِنْهُم من قَالَ: هُوَ عَام فِي جَمِيع المخفيات. ثمَّ انقسم هَؤُلَاءِ ثَلَاث فرق: ففرقة قَالَت: يُؤَاخذ بِهِ من يَشَاء ويغفره لمن يَشَاء، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَالْحسن. وَفرْقَة قَالَت: معنى الْمُؤَاخَذَة بِهِ اطلَاع العَبْد على فعله السيء، وَقد روى هَذَا الْمَعْنى عَليّ بن أبي طَالب عَن ابْن عَبَّاس. وَفرْقَة قَالَت: الْمُؤَاخَذَة بِهِ هُوَ مَا يُصِيب العَبْد فِي الدُّنْيَا من غم وحزن وأذى، وَهَذَا قَول عَائِشَة. وَأما الْقسم الثَّانِي فَإِنَّهُم قَالُوا: بل هُوَ خَاص فِي نوع من المخفيات، وَلَهُم فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه فِي الشَّهَادَة، قَالَ: معنى إِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم من كتمان الشَّهَادَة أَو تُخْفُوهُ، وَهَذَا الْمَعْنى فِي رِوَايَة مقسم عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه الشَّك وَالْيَقِين، قَالَه مُجَاهِد.

(2/457)


1010 - / 1218 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: أَن ضمادا سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلَاما فَقَالَ: لقد بلغ قَامُوس الْبَحْر. [15] قَالَ أَبُو عبيد: قاموسه: وَسطه، ولي فِي الْبَحْر مَوضِع أبعد غورا مِنْهُ، وَلَا المَاء أَشد انغماسا مِنْهُ فِي وَسطه. وأصل القمس الغوص. وَقد رَوَاهُ قوم: ناعوس الْبَحْر، وَهُوَ تَصْحِيف.
1011 - / 1219 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: قَالَ أَبُو البخْترِي: تراءينا الْهلَال، فَقَالَ بعض الْقَوْم: هُوَ ابْن ثَلَاث. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن لَيْلَتَيْنِ. فَقَالَ: أَي لَيْلَة رَأَيْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: لَيْلَة كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِن الله مده للرؤية ". [15] معنى الحَدِيث: لَا تنظروا إِلَى كبر الْهلَال وصغره، فَإِن تَعْلِيق الحكم على رُؤْيَته. " فَإِن أُغمي " يَعْنِي لَيْلَة رَمَضَان " فأكلموا الْعدة " أَي عدَّة شعْبَان. هَذَا الظَّاهِر، لقَولهم فِي أول الحَدِيث: أَهْلَلْنَا رَمَضَان. وَيحْتَمل: فَإِن أُغمي فِي آخِره فأكملوا عدَّة رَمَضَان.
1012 - / 1220 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: حَدِيث الرَّمْي بالنجوم. وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ من هَذَا الْمسند.

(2/458)


[15] وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب: يقرفون فِيهِ: أَي يزِيدُونَ ويضيفون إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. [15] وَمِنْه: " حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: خفف عَنْهَا الْفَزع. وَالْإِشَارَة إِلَى الْمَلَائِكَة يفزعون خوفًا من أَمر يطْرَأ عَلَيْهِم من أَمر الله عز وَجل.
1013 - / 1222 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: أَن نجدة الحروري كتب إِلَى ابْن عَبَّاس: هَل كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْزُو بِالنسَاء؟ وَهل كَانَ يضْرب لَهُنَّ بِسَهْم؟ وَهل كَانَ يقتل الصّبيان؟ وَمَتى يَنْقَضِي يتم الْيَتِيم؟ وَعَن الْخمس: لمن هُوَ؟ فَكتب إِلَيْهِ: قد كَانَ يَغْزُو بِالنسَاء فيداوين الْجَرْحى، ويحذين من الْغَنِيمَة، وَأما سهم فَلَا يضْرب لَهُنَّ: وَلم يكن يقتل الصّبيان. وَأما يتم الْيَتِيم، فلعمري إِن الرجل لتنبت لحيته وَإنَّهُ لضعيف الْأَخْذ ضَعِيف الْعَطاء، فَإِذا أَخذ لنَفسِهِ من صَالح مَا يَأْخُذ النَّاس فقد ذهب عَنهُ الْيُتْم. وَأما الْخمس فَإنَّا نقُول: هُوَ لنا، فَأبى علينا قَومنَا ذَلِك. وَقَالَ: لَوْلَا أَن يَقع فِي أحموقة مَا كتبت إِلَيْهِ. [15] يحذين: يُعْطين. [15] وَأما الْيُتْم فَإِنَّهُ يرْتَفع بِالْبُلُوغِ، وَإِنَّمَا يقف تَسْلِيم مَاله على إيناس الرشد. [15] وَأما الْخمس فَاعْلَم أَن الْغَنِيمَة إِذا حصلت عَن الْقِتَال بَدَأَ الإِمَام

(2/459)


بالأسلاب، فَأَعْطَاهَا للمقاتلين، ثمَّ أخرج مُؤنَة الْغَنِيمَة: وَهِي أُجْرَة الَّذين حملوها وجمعوها وحفظوها، ثمَّ أخرج خمسها فَقَسمهُ على خَمْسَة أسْهم: سهم لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ، يصرف فِي الْمصَالح وسد الثغور وأزراق الْجند وَغَيرهَا. وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى، وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْن عَبَّاس: فَأبى علينا قَومنَا، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ لبني هَاشم، فَقَالَ بَنو الْمطلب: وَلنَا. وَسَهْم لِلْيَتَامَى الْفُقَرَاء، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم لأبناء السَّبِيل. ثمَّ يعْطى النَّفْل بعد ذَلِك ويرضخ لمن لاسهم لَهُ من العبيد وَالنِّسَاء وَالصبيان، ثمَّ يقسم بَاقِي الْغَنِيمَة بَين من شهد الْوَقْعَة. [15] والأحموقة من الحماقة، فَكَأَنَّهُ خَافَ أَن يفعل شَيْئا بِجَهْل، فَعرفهُ الصَّوَاب.
1014 - / 1223 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " فَأَما السُّجُود فاجتهدوا فِي الدُّعَاء، فقمن أَن يُسْتَجَاب لكم ". [15] قمن مَفْتُوحَة الْمِيم، وَالْمعْنَى: جدير وحقيق وحري. قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال قمن، وَلَا يثنى وَلَا يجمع وَلَا يؤنث، لِأَنَّهُ مصدر سمي بِهِ، فَإِذا قلت قمن بِكَسْر الْمِيم ثنيت وجمعت وأنثت، لِأَنَّهُ اسْم. وَيُقَال قمين أَيْضا بِمَعْنى قمن. قَالَ قيس بن الخطيم:
(إِذا جَاوز الِاثْنَيْنِ سر فَأَنَّهُ ... بنث وتكثير الوشاة قمين)

(2/460)


1051 - / 1234 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَئِن بقيت إِلَى قَابل لأصومن التَّاسِع "، فَلم يَأْتِ الْعَام الْمقبل حَتَّى توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي رِوَايَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا رَأَيْت هِلَال الْمحرم فاعدد وَأصْبح يَوْم التَّاسِع صَائِما. قلت: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّد يَصُومهُ؟ قَالَ: نعم. [15] اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قدم الْمَدِينَة رأى الْيَهُود يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء، فصامه وَأمر بصيامه، فَلَمَّا نزلت فَرِيضَة رَمَضَان لم يَأْمُرهُم بِغَيْرِهِ، فَبَقيَ ذَلِك الْيَوْم يتَطَوَّع بصومه، فَأَرَادَ مُخَالفَة الْيَهُود فِي آخر عمره، فَمَاتَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] وَفِي قَوْله: " إِذا كَانَ الْعَام الْمقبل صمنا يَوْم التَّاسِع " أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون أَرَادَ صَوْم التَّاسِع عوضا عَن الْعَاشِر ليخالف الْيَهُود. وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ صَوْم التَّاسِع والعاشر ليخالفهم. وَالثَّالِث: أَن يكون كره صَوْم يَوْم مُفْرد فَأَرَادَ أَن يصله بِيَوْم آخر. وَالرَّابِع: أَن التَّاسِع هُوَ عَاشُورَاء، وَهَذَا مَذْهَب ابْن عَبَّاس كَمَا ذكرنَا، وَإِنَّمَا أَخذه ابْن عَبَّاس من أعشار أوراد الْإِبِل، وَالْعشر عِنْدهم تِسْعَة أَيَّام، وَذَلِكَ أَنهم يحسبون فِي الأظماء الْورْد، فَإِذا وردوا يَوْمًا وَأَقَامُوا فِي المرعى يَوْمَيْنِ ثمَّ أوردوا الْيَوْم الثَّالِث قَالُوا: أوردنا أَرْبعا، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم الثَّالِث، فَإِذا أَقَامُوا فِي الرَّعْي ثَلَاثًا ووردوا الْيَوْم الرَّابِع قَالُوا: أوردنا خمْسا، وعَلى هَذَا الْحساب، فعاشوراء على هَذَا الْقيَاس إِنَّمَا هُوَ الْيَوْم التَّاسِع.

(2/461)


1061 - / 1235 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمارا مَوْسُوم الْوَجْه، فَأنْكر ذَلِك وَقَالَ: وَالله لَا أُسَمِّهِ إِلَّا فِي أقْصَى شَيْء من الْوَجْه، وَأمر بحماره فكوي فِي جَاعِرَتَيْهِ، وَهُوَ أول من كوى الْجَاعِرَتَيْنِ. [15] قَالَ الزّجاج: الجاعرتان: مَوضِع الرقمتين من عجز الْحمار. وكشف هَذِه غَيره فَقَالَ: الجاعرتان: مضرب الْحَيَوَان بِذَنبِهِ على فَخذه.
1017 - / 1226 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ذكر الأنواء. [15] وَقد سبقت فِي مُسْند زيد بن خَالِد. [15] وَقَوله: {فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم} [الْوَاقِعَة: 75] وَفِي " لَا " قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا صلَة. وَالثَّانِي: أَنَّهَا على أَصْلهَا. ثمَّ فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا للنَّهْي. وَالتَّقْدِير: فَلَا تكذبوا وَلَا تجحدوا مَا ذكرته من النعم. وَالثَّانِي: أَنَّهَا رد لما يَقُوله الْكفَّار فِي الْقُرْآن إِنَّه سحر وَشعر، ثمَّ اسْتَأْنف الْقسم. [15] وَفِي " النُّجُوم " قَولَانِ: أَحدهمَا: نُجُوم السَّمَاء، فعلى هَذَا فِي مواقعها ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: انتشارها يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه الْحسن. وَالثَّانِي: منازلها، قَالَه عَطاء. وَالثَّالِث: مغيبها فِي الْمغرب، قَالَه

(2/462)


أَبُو عُبَيْدَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نُجُوم الْقُرْآن، قَالَه ابْن عَبَّاس، فعلى هَذَا سميت نجوما لنزولها مُتَفَرِّقَة. [15] وَقَوله: (مدهنون) قَالَ مُجَاهِد: ممالئون للْكفَّار على الْكفْر بِهِ. {وتجعلون رزقكم} أَي شكر رزقكم {أَنكُمْ تكذبون} وَذَلِكَ لقَولهم: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، فقد كفرُوا بالمنعم.
1018 - / 1227 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الْمُسلمُونَ لَا ينظرُونَ إِلَى أبي سُفْيَان وَلَا يُقَاعِدُونَهُ، فَقَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا نَبِي الله، ثَلَاثًا أعطنيهن. قَالَ: " نعم ". قَالَ: عِنْدِي أحسن الْعَرَب وأجمله، أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، أزَوّجكَهَا، قَالَ: " نعم ". قَالَ: وَمُعَاوِيَة تَجْعَلهُ كَاتبا بَين يَديك. قَالَ: " نعم ". [15] قَالَ: وَتُؤَمِّرنِي حَتَّى أقَاتل الْكفَّار كَمَا كنت أقَاتل الْمُسلمين. قَالَ: " نعم ". وَفِي هَذَا الحَدِيث وهم من بعض الروَاة لَا شكّ فِيهِ وَلَا تردد، وَقد اتهموا بِهِ عِكْرِمَة بن عمار رَاوِي الحَدِيث، وَقد ضعف أَحَادِيثه يحيى ابْن سعيد وَقَالَ: لَيست بصحاح، وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هِيَ أَحَادِيث ضِعَاف، وَلذَلِك لم يخرج عَنهُ البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا أخرج عَنهُ مُسلم، لِأَنَّهُ قد قَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ثِقَة. [15] وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن هَذَا وهم لِأَن أهل التَّارِيخ أَجمعُوا على أَن أم حَبِيبَة

(2/463)


كَانَت عِنْد عبد الله بن جحش، وَولدت لَهُ، وَهَاجَر بهَا وهما مسلمان إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ تنصر وَثبتت هِيَ على دينهَا، فَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّجَاشِيّ ليخطبها عَلَيْهَا، فَزَوجهُ إِيَّاهَا، واصدقها عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ سنة سبع من الْهِجْرَة، وَجَاء أَبُو سُفْيَان فِي زمن الْهُدْنَة فَدخل عَلَيْهَا، فتلت بِسَاط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى لَا يجلس عَلَيْهِ. وَلَا خلاف أَن أَبَا سُفْيَان وَمُعَاوِيَة أسلما فِي فتح مَكَّة سنة ثَمَان، وَلَا نَعْرِف أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَبَا سُفْيَان. وَقد أَنبأَنَا ابْن نَاصِر عَن أبي عبد الله الْحميدِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن سعيد الْحَافِظ قَالَ: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَا شكّ فِي وَضعه، والآفة فِيهِ من عِكْرِمَة بن عمار، وَلم يخْتَلف أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا قبل الْفَتْح بدهر وأبوها كَافِر. [15] وَأما كَون الْمُسلمين كَانُوا لَا ينظرُونَ إِلَيْهِ وَلَا يُقَاعِدُونَهُ فلأجل مالقوا من محاربته، ثمَّ مَا كَانُوا يثقون بِإِسْلَامِهِ، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، ثمَّ إِن الله ثَبت الْإِسْلَام فِي قلبه فقاتل الْمُشْركين وَبَالغ.
1019 - / 1228 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: لبيْك لَا شريك لَك، فَيَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " وَيْلكُمْ، قد قد " أَي حسبكم؛ لِأَنَّهُ علم أَنهم يَقُولُونَ بعد هَذَا: إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك.
1020 - / 1230 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: " إِذْ دبغ الإهاب فقد طهر ".

(2/464)


[15] يحْتَج بِهَذَا من يرى طَهَارَة جُلُود الْميتَة، وَهَذَا لَا يُمكن الْعَمَل بِإِطْلَاقِهِ إِلَّا عِنْد أبي يُوسُف وَدَاوُد، فَإِن الشَّافِعِي يَسْتَثْنِي جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَأَبا حنيفَة جلد الْخِنْزِير، فَإِذا لم يكن الْعَمَل عِنْدهمَا بِعُمُومِهِ حملناه على غير الْميتَة، وَيكون معنى طَهَارَته بالدبغ أَن إِزَالَة الأوساخ عَنهُ بدبغه أَجْزَأت عَن المَاء. وَإِن قُلْنَا: هُوَ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن عكيم فَلَا كَلَام. [15] وَقَوله: يُؤْتى بالسقاء يجْعَلُونَ فِيهِ الودك. فَنَقُول: من الْجَائِز أَن يكون من الْمَجُوس من أسلم أَو من أهل الْكتاب، فَيحْتَمل من ذبح أُولَئِكَ، فَيَنْبَغِي قَوْله: " دباغه طهوره " فَيكون مَعْنَاهُ. مَا ذكرنَا.
1021 - / 1231 وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: فِي ذكر الْخمر: " إِن الَّذِي حرم شربهَا حرم بيعهَا " فَفتح المزادتين حَتَّى ذهب مَا فِيهَا. [15] الْخمر نجسسة الْعين، فَلَا يَصح بيعهَا كالبول. [15] والمزاد: جلد مخروز على هَيْئَة مَا يحمل المَاء كالقربة والراوية.
1022 - / 1233 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: انْطلق سِنَان بن سَلمَة مُعْتَمِرًا وَانْطَلق مَعَه ببدنة يَسُوقهَا، فأزحفت عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ، فعي بشأنها إِن هِيَ أبدعت، كَيفَ يَأْتِي لَهَا. [15] أزحفت مَفْتُوح الْألف، قَالَ الزّجاج: وَيُقَال زحف الصَّبِي

(2/465)


وأزحف: إِذا لم يقدر على النهوض، مهزولا كَانَ أَو سمينا. [15] وَقَوله: فعي بشأنها. يُقَال: عي فلَان بِكَذَا وعيي بِهِ: إِذا تحير فَلم يدر كَيفَ الْمخْرج فِيهِ. [15] وأبدعت النَّاقة: أَي ظلعت وكلت فَلم تنهض، والظلع لِلْإِبِلِ كالعرج للْإنْسَان. [15] وَقَوله: لأستحفين: أَي لأستقصين فِي السُّؤَال عَنهُ. والحفي بالشَّيْء: المعني بِهِ والمستقصي فِي الْبَحْث عَنهُ. [15] وَقَوله: أَصبَحت: يَعْنِي انقادت. [15] والبطحاء: الْمَكَان المتسع المنفسح، وَكَذَلِكَ الأبطح والبطيحة. [15] وَقَوله: على الْخَبِير سَقَطت: أَي على من يعلم بَاطِن هَذَا الْأَمر وَقعت. [15] وَقَوله: اصبغ نعلها فِي دَمهَا: أَي اغمسه فِيهِ والطخه بِهِ، ثمَّ اجْعَلْهُ على صفحتها ليَكُون ذَلِك عَلامَة يعرف بِهِ النَّاظر أَنَّهَا هَدِيَّة فيأكلها الْفُقَرَاء. [15] وَقَوله: وَلَا تَأْكُل مِنْهَا. عندنَا أَنه لَا يجوز الْأكل من جَمِيع الدِّمَاء الْوَاجِبَة إِلَّا من هدي التَّمَتُّع وَالْقرَان. وَعَن أَحْمد: يَأْكُل من الْجَمِيع إِلَّا النّذر وَجَزَاء الصَّيْد، وَبِه قَالَ مَالك، وَزَاد: وفدية الْأَذَى. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يَأْكُل من جَمِيع الدِّمَاء الْوَاجِبَة.

(2/466)


1023 - / 123 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس: كَيفَ أُصَلِّي إِذا كنت بِمَكَّة إِذا لم أصل مَعَ الإِمَام؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ، سنة أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله. [15] الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى قصر الْمُسَافِر للصَّلَاة. وَقد سبق الْبَيَان أَنه إِذا نوى إِقَامَة تزيد على أَرْبَعَة أتم. وَعَن أَحْمد: إِذا نوى اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة أتم. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي ذَلِك الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين من أَفْرَاد البُخَارِيّ فِي هَذَا الْمسند.
1024 - / 1235 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر بِذِي الحليفة، ثمَّ دَعَا بناقته فأشعرها فِي صفحة سنامها الْأَيْمن وسلت الدَّم عَنْهَا وقلدها نَعْلَيْنِ، ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ على الْبَيْدَاء أهل بِالْحَجِّ. [15] قَالَ أَبُو عبيد: إِشْعَار الْحَج أَن تطعن فِي أسنمتها فِي أحد الْجَانِبَيْنِ بمبضع أَو نَحوه بِقدر مَا يسيل الدَّم. وأصل الْإِشْعَار الْعَلامَة، وَإِنَّمَا يفعل هَذَا بِالْهَدْي ليعلم أَنه قد جعل هَديا. وإشعار الْهَدْي وتقليدها سنة عِنْد أَكثر الْعلمَاء، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يكره الْإِشْعَار، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. فَإِن قيل: هَذَا مثلَة. قُلْنَا: هَذَا اعْتِرَاض على الشَّرْع فَلَا يقبل، ثمَّ إِنَّمَا تكون الْمثلَة بِقطع عُضْو من الْحَيَوَان الْحَيّ. وسبيل الْإِشْعَار سَبِيل الكي والوسم ليعرف بذلك الْمَالِك، وَكَذَلِكَ الْإِشْعَار ليعلم أَنَّهَا بَدَنَة فتتميز وتصان.

(2/467)


[15] وَفِي صفة الْإِشْعَار لنا ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: أَنه شقّ صفحة سنامها الْأَيْمن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَالثَّانيَِة: شقّ سنامها الْأَيْسَر، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد. وَالثَّالِثَة: أَنه مُخَيّر فِيهَا. [15] وَقَوله: وسلت عَنْهَا الدَّم بِيَدِهِ: أَي أماطه بإصبعه، وأصل السلت الْقطع، يُقَال: سلت الله أَنفه: أَي جدعه. [15] وَأما التَّقْلِيد فمسنون أَيْضا، وَعِنْدنَا أَنه يُمَيّز تَقْلِيد الْغنم أَيْضا خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك. [15] وَقَوله: فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ على الْبَيْدَاء أهل بِالْحَجِّ: أَي علت بِهِ فَوق الْبَيْدَاء. قَالَ الْخَلِيل: أَتَيْنَا أَبَا ربيعَة الْأَعرَابِي وَهُوَ فَوق سطح فَقَالَ: اسْتَووا واصعدوا. [15] وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أفضل وَقت الْإِحْرَام، فَروِيَ عَن أَحْمد أَن الْأَفْضَل أَن يحرم عقيب رَكْعَتَيْنِ. وَعنهُ: أَن الْإِحْرَام عقيب الصَّلَاة وَحين تستوي بِهِ رَاحِلَته على الْبَيْدَاء سَوَاء. وَقَالَ مَالك: الْأَفْضَل حِين تستوي بِهِ رَاحِلَته على الْبَيْدَاء. وَقَالَ الشَّافِعِي قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا كَقَوْلِنَا الأول وَالثَّانِي: إِذا سَارَتْ بِهِ رَاحِلَته. [15] وَأما الإهلال فَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ.
1025 - / 1237 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: نهى عَن كل

(2/468)


ذِي نَاب من السبَاع، وَعَن كل ذِي مخلب من الطير. [15] المخلب للصائد من الطير وللسباع أَيْضا الظفر، وَسمي مخلبا لِأَنَّهَا تخلب بِهِ. والخلب: الشق وَالْقطع.
1026 - / 1238 وَقد سبق الْكَلَام فِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّامِن.
1028 - / 1239 إِلَّا أَن فِي الثَّامِن أَنه شرب من زبيب قد جعل فِي مَاء يَوْمه وَلَيْلَته، فَلَمَّا أصبح أَمر بِمَا بَقِي مِنْهُ فأهريق. وَهَذَا لِأَنَّهُ اشْتَدَّ أَو قَارب. [15] وَفِي رِوَايَة: كَانَ ينقع لَهُ الزَّبِيب فيشربه الْيَوْم وَغدا وَبعد الْغَد إِلَى مسَاء الثَّالِثَة، ثمَّ يَأْمر بِهِ فيسقى أَو يراق. وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا لم يشْتَد وَلم يتكامل لَهُ ثَلَاثَة أَيَّام، فَأَما إِذا تَيَقّن اشتداده فَإِنَّهُ يراق وَلَا يسقى أحدا.
1028 - / 1240 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: فحطأني حطأة. [15] الحطء: الدّفع. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى ضَرَبَنِي بِيَدِهِ مبسوطة، وَمثله لطخني، يُقَال: حطأني: أَي دفعني. وَقَول الرَّاوِي: وقفدني: وَهُوَ حطأني، إِلَّا أَنه بالتواء رسغ الْكَفّ إِلَى الْجَانِب الوحشي من الْإِنْسَان، والجانب الوحشي الَّذِي فِيهِ الْخِنْصر، والإنسي الَّذِي فِيهِ الْإِبْهَام. ورسغ الْكَفّ: ملتقى الْكَفّ والذراع، وَهُوَ الْموضع الَّذِي

(2/469)


ينثني بَين الْكَفّ والذراع، وَكَأن القفد على هَذَا ضرب بِالْيَدِ الْيُمْنَى إِلَى جِهَة الْيَمين. [
15 -] آخر مَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس من الْمُشكل

(2/470)