كشف المشكل من
حديث الصحيحين (76) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي عبد
الرَّحْمَن، عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله
عَنْهُمَا
[15] أسلم بِمَكَّة مَعَ أَبِيه، وَلم يكن بَالغا
حِينَئِذٍ، وَهَاجَر مَعَ أَبِيه إِلَى الْمَدِينَة، وَأول
غَزْوَة شَهِدَهَا الخَنْدَق. وَجُمْلَة مَا روى عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألفا حَدِيث
وسِتمِائَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ مِائَتَا حَدِيث وَثَمَانُونَ.
1029 - / 1241 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " لَا
عدوى وَلَا طيرة ". كَانَت الْعَرَب تتوهم الْفِعْل فِي
الْأَسْبَاب، كَمَا كَانَت تتوهم نزُول الْمَطَر بِفعل
الأنواء، فَأبْطل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك
بقوله: " لَا عدوى " وَإِنَّمَا أَرَادَ إِضَافَة
الْأَشْيَاء إِلَى الْقدر، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: " فَمن أعدى الأول؟ " وَنهى عَن الْوُرُود
إِلَى بلد فِيهِ الطَّاعُون لِئَلَّا يقف الْإِنْسَان مَعَ
السَّبَب وينسى الْمُسَبّب. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي
هُرَيْرَة: " لَا يُورد
(2/471)
ممرض على مصح، وفر من المجذوم فرارك من
الْأسد "، ثمَّ قد يسقم الْإِنْسَان لمصاحبة السقيم من
جِهَة أَن الرَّائِحَة كَانَت سَببا فِي الْمَرَض، وَالله
تَعَالَى قد يعْمل الْأَسْبَاب وَقد يُبْطِلهَا،
وَكَذَلِكَ قَوْله: " وَلَا طيرة " والطيرة من التطير:
وَهُوَ التشاؤم بالشَّيْء ترَاهُ أَو تسمعه وتتوهم وُقُوع
الْمَكْرُوه بِهِ. وَقد بَينا ذَلِك فِي مُسْند عمرَان بن
حُصَيْن، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِضَافَة الْوَاقِعَات من الضَّرَر والنفع إِلَى الله عز
وَجل. [15] وَأما قَوْله: " الشؤم فِي ثَلَاث " فقد تكلمنا
عَلَيْهِ فِي مُسْند سهل بن سعد. [15] الْإِبِل الهيم:
الَّتِي يُصِيبهَا دَاء يُقَال لَهُ الهيام، يكسبها
الْعَطش فَلَا تروى من المَاء، وَرُبمَا أَدَّاهَا ذَلِك
إِلَى الْمَوْت، وَالْوَاحد أهيم وهيمان، وناقة هيماء،
وَرُبمَا أصَاب غَيرهَا من الْإِبِل الَّتِي مَعهَا مثل
ذَلِك فيظن أَنه أعدى، وَلذَلِك قَالَ: " لَا عدوى ".
1030 - / 1242 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من جَاءَ
مِنْكُم الْجُمُعَة فليغتسل ". [15] هَذَا مِمَّا كَانَ
وَاجِبا فنسخ الْوُجُوب وَبَقِي مُسْتَحبا. وناسخه حَدِيث
أنس وَأبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه قَالَ: " من تَوَضَّأ فبها ونعمت، وَمن
(2/472)
اغْتسل فالغسل أفضل " وَمذهب دَاوُد أَنه
بَاقٍ على الْوُجُوب، وَقد حُكيَ عَن مَالك أَيْضا.
1031 - / 1243 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: صلى لنا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء فِي آخر حَيَاته،
فَلَمَّا سلم قَامَ فَقَالَ: " أَرَأَيْتُم ليلتكم هَذِه،
فَإِن رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على
ظهر الأَرْض أحد ". [15] هَذَا علم غيب أطلعه الله عز وَجل
عَلَيْهِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَإِنَّهُ قد كَانَ خلق يعمرون فِي ذَلِك الزَّمَان،
كسلمان فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة، إِلَّا
أَنه لم يبْق أحد بعد مائَة سنة من ذَلِك الْيَوْم
تَصْدِيقًا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي
هَذَا رد لقَوْل من يزْعم بَقَاء الْخضر، لِأَنَّهُ من بني
آدم، وَهُوَ على ظهر الأَرْض.
1032 - / 1244 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " صَلَاة
اللَّيْل مثنى مثنى، فَإِذا خفت الصُّبْح فأوتر بِوَاحِدَة
". [15] أَكثر أَصْحَاب ابْن عمر رووا عَنهُ: " صَلَاة
اللَّيْل مثنى مثنى " وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الصَّحِيح،
وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث عَليّ بن عبد
الله الْبَارِقي عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " صَلَاة اللَّيْل
(2/473)
وَالنَّهَار مثنى مثنى " وَهَذِه زِيَادَة
من ثِقَة، وَهِي مَقْبُولَة، وَعِنْدنَا أَن الْأَفْضَل من
النَّوَافِل أَن يسلم فِي كل رَكْعَتَيْنِ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَار، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل أَن يسلم من أَربع. وَحكى
القَاضِي أَبُو يعلى عَن مَذْهَب أبي حنيفَة قَالَ: أما
صَلَاة النَّهَار فَإِن شَاءَ أَرْبعا وَإِن شَاءَ
رَكْعَتَيْنِ بِسَلام، وَلَا يزِيد على الْأَرْبَع بِسَلام
وَاحِد. وَأما صَلَاة اللَّيْل فَإِن شَاءَ رَكْعَتَيْنِ،
وَإِن شَاءَ أَرْبعا، وَإِن شَاءَ سِتا، وَإِن شَاءَ
ثمانيا، لَا يزِيد على ذَلِك بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة. [15]
وَقَوله: " وأوتر بِوَاحِدَة " نَص على جَوَاز الْوتر
بِوَاحِدَة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَمَالك: أقل الْوتر ثَلَاث، إِلَّا أَن
أَبَا حنيفَة يَقُول: بِسَلام وَاحِد، وَمَالك يَقُول:
بِسَلام عقيب الثَّانِيَة. [15] وَقَوله: كَأَن الْأَذَان
بأذنيه قَالَ حَمَّاد بن زيد: يَعْنِي يُصَلِّيهمَا مسرعا،
فعلى هَذَا يكون المُرَاد بِالْأَذَانِ هَاهُنَا
الْإِقَامَة، وَالْمعْنَى أَنه يخففهما كَأَنَّهُ قد سمع
الْإِقَامَة، وَتسَمى الْإِقَامَة أذانا، لِأَن الْأَذَان
إِعْلَام، وَيحْتَمل أَنه كَانَ يُصَلِّيهمَا عقيب
الْأَذَان.
1033 - / 1245 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " إِن بِلَالًا
يُؤذن بلَيْل، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تسمعوا أَذَان
ابْن أم مَكْتُوم ". [15] كَانَ مؤذنو رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة: بِلَال: وَهُوَ أول من أذن
لَهُ.
(2/474)
وَابْن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، وَقد سبق
الْخلاف فِي اسْمه فِي مُسْند زيد بن ثَابت. وَأَبُو
مَحْذُورَة الجُمَحِي. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على
جَوَاز الْأَذَان للفجر قبل طُلُوع الْفجْر، وَقد ذكرنَا
الْخلاف فِي ذَلِك فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1034 - / 1246 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: رفع الْيَدَيْنِ
عِنْد الرُّكُوع وَعند الرّفْع مِنْهُ. [15] وَقد سبق
الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند مَالك بن الْحُوَيْرِث.
1035 - / 1247 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " كلكُمْ رَاع،
وكلكم مسئول عَن رَعيته ". [15] الرَّاعِي هَاهُنَا
الْحَافِظ المؤتمن. وَهَذَا لِأَن الْولَايَة على الْمولى
عَلَيْهِ أَمَانَة، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِحِفْظ مَا
استرعى، فالسؤال عَن حفظ الْأَمَانَة يَقع.
1036 - / 1248 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: سَمِعت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل ملبدا: " لبيْك
اللَّهُمَّ لبيْك ". [15] قد بَينا معنى الإهلال والتلبيد
فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَبينا معنى: " اللَّهُمَّ " فِي
مُسْند أبي بكر الصّديق عَلَيْهِ السَّلَام، وفسرنا "
لبيْك
(2/475)
وَسَعْديك " فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام. [15] وَقَوله: " إِن الْحَمد " كسر الْألف
أَجود من فتحهَا. قَالَ ثَعْلَب: من كسر فقد عَم، وَمن فتح
فقد خص. [15] وَلَا تسْتَحب عندنَا الزِّيَادَة على
تَلْبِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ
قد قَالَ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم " وَهَذَا قَول
الشَّافِعِي أَيْضا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يسْتَحبّ.
والتلبية عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَا تجب، إِنَّمَا تدخل
فِي الْإِحْرَام بِمُجَرَّد النِّيَّة. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة تجب فِي ابْتِدَاء الْإِحْرَام. فَإِن لم يلب وقلد
الْهَدْي وَسَاقه وَنوى الْإِحْرَام صَار محرما. وَقَالَ
مَالك: يجب بترك التَّلْبِيَة دم. وَإِظْهَار التَّلْبِيَة
عندنَا مسنون فِي الصَّحَارِي دون الْأَمْصَار. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يسْتَحبّ إظهارها فِي
الْأَمْصَار وَغَيرهَا. وَقَالَ مَالك: يكره إظهارها فِي
الْمَسَاجِد. [15] وَأما الرغباء فَالَّذِي سمعناه من
أشياخنا فتح الرَّاء مَعَ الْمَدّ. وَمن النَّاس من
يخْتَار الْقصر مَعَ فتح الرَّاء كسكرى وشكوى. وَمِنْهُم
من يقصر مَعَ ضم الرَّاء. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان
الْخطابِيّ: فِيهَا لُغَتَانِ: الرغباء بِفَتْح الرَّاء
مَمْدُود، والرغبى بِضَم الرَّاء مَقْصُورَة. وَتَفْسِير
الرغباء الْمَسْأَلَة، وَالْمعْنَى: وَالرَّغْبَة إِلَيْك
وَالْعَمَل لَك.
(2/476)
1037 - / 1249 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع:
رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين يقدم من
مَكَّة اسْتَلم الرُّكْن الْأسود أول مَا يطوف يخب
ثَلَاثَة أطواف من السَّبع. [15] الخبب: ضرب من الْعَدو
فَوق الْمَشْي وَدون الجري، وَهُوَ الرمل. وَقد ذَكرْنَاهُ
فِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ من مُسْند ابْن
عَبَّاس، وَبينا سَببه. وَالسَّعْي: إسراع الْمَشْي حَتَّى
يُقَارب الْعَدو. والأشواط جمع شوط، وَالْمرَاد بِهِ
مِقْدَار الطّواف حول الْبَيْت مرّة. [15] وبطن المسيل
يُرَاد بِهِ الْوَادي، وَهُوَ مَا بَين الصَّفَا والمروة.
[15] والركعتان بعد الطّواف سنة عندنَا. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَمَالك: وَاجِبَة، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
1038 - / 1250 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: لم أر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم إِلَّا
الرُّكْنَيْنِ اليمانيين. [15] الإستلام: اللَّمْس
بِالْيَدِ. وَقد شرحنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس.
1039 - / 1251 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: كَانَ ابْن
عمر يقدم ضعفة أَهله فيقفون عِنْد الْمشعر الْحَرَام.
(2/477)
[15] وَقد شرحنا هَذَا الحَدِيث فِي
الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ من مُسْند ابْن
عَبَّاس. والمشعر: الْمعلم لمتعبد من المتعبدات.
1040 - / 1252 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر " يهل أهل
الْمَدِينَة من ذِي الحليفة " وَفِي لفظ: " مهل أهل
الْمَدِينَة من ذِي الحليفة ". [15] الْمِيم فِي الْمهل
مَضْمُومَة، وَإِنَّمَا يفتحها من لَا يعرف. والإهلال: رفع
الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. [15] وَقد سبق ذكر الْمَوَاقِيت
فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1041 - / 1253 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " لَا يلبس
الْمحرم الْقَمِيص وَلَا الْعِمَامَة وَلَا الْبُرْنُس
وَلَا السَّرَاوِيل ". [15] اعْلَم أَن الْمحرم مَمْنُوع
من لبس الْمخيط وتغطية الرَّأْس. وَفِي تَغْطِيَة وَجهه
رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد. [15] والورس: نبت يصْبغ بِهِ
كالعصفر. [15] وَلَا يجوز لَهُ لبس السَّرَاوِيل إِلَّا
أَن يعْدم الْإِزَار. وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا عِنْد عدم
النَّعْلَيْنِ، فَيجوز لَهُ لبس السَّرَاوِيل من أَن
يفتفه، وَلبس الْخُفَّيْنِ من غير أَن يقطعهما، عملا
بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي تقدم فِي مُسْنده. وَقد
ذكرنَا هُنَاكَ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة أَنه لَا يجوز
لَهُ لبس السَّرَاوِيل حَتَّى يفتقه، أَو يلْبسهُ ويفتدي.
فَأَما الخفان فَقَالَ أَبُو حنيفَة:
(2/478)
لَا يجوز لَهُ لبسهما إِلَّا أَن يقطعهما
أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ عملا بِهَذَا الحَدِيث. ولأصحابه
أَن يَقُولُوا: إِن كَانَ حَدِيث ابْن عَبَّاس مُطلقًا فِي
اللّبْس، فَحَدِيث ابْن عمر مُقَيّد الْجَوَاز بِشَرْط
الْقطع. فقد أجَاب أَصْحَابنَا فَقَالُوا: قد روى حَدِيث
ابْن مَالك وَعبيد الله بن عمر وَأَيوب فِي آخَرين، فوقفوه
على ابْن عمر، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أَكثر رُوَاة، وَلم
يقفه أحد. وَقد أخرج مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث جَابر
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل حَدِيث ابْن
عَبَّاس من غير اشْتِرَاط قطع. ثمَّ قد أَخذ بحديثنا عمر
وَعلي وَسعد وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، ثمَّ إِنَّا نحمل
قَوْله: " وليقطعهما " على الْجَوَاز من غير كَرَاهَة لأجل
الْإِحْرَام، وَينْهى عَن ذَلِك فِي غير الْإِحْرَام لما
فِيهِ من الْفساد. فَأَما إِذا لبس الْخُف الْمَقْطُوع من
أَسْفَل الكعب مَعَ وجود النَّعْل فعندنا أَنه لَا يجوز
وَيجب عَلَيْهِ الْفِدَاء خلافًا لأبي حنيفَة وَأحد قولي
الشَّافِعِي. [15] فَأَما النقاب فَهُوَ مَا كَانَ على
الْأنف يستر مَا تَحْتَهُ. [15] وَأما القفازان فَقَالَ
أَبُو عبيد: هما شَيْء يعْمل لِلْيَدَيْنِ ويحشى بِقطن
وَيكون لَهُ أزرار يزر على الساعدين من الْبرد، يلْبسهُ
النِّسَاء. قلت: وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي لبس
القفازين: فَقَالَ أَحْمد: لَا يجوز للمحرمة لبسهما.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين
وَقَالَ أَبُو عبيد: النَّاس على الرُّخْصَة فِي هَذَا؛
لِأَن الْإِحْرَام إِنَّمَا هُوَ فِي الرَّأْس وَالْوَجْه.
(2/479)
1042 - / 1254 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
عشر: ذكر التَّمَتُّع. وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي
مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1043 - / 1255 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ذكر صَلَاة
الْخَوْف، ذَكرنَاهَا فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
1044 - / 1256 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسبح على ظهر
رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجهه، يومىء بِرَأْسِهِ. [15]
المُرَاد بالتسبيح هَاهُنَا صَلَاة النَّافِلَة. وَلَا
يشْتَرط فِي ذَلِك مُوَاجهَة الْقبْلَة إِلَّا أَن يُمكنهُ
افْتِتَاح الصَّلَاة إِلَى الْقبْلَة فَيلْزمهُ ذَلِك
وَيتم الصَّلَاة على حسب حَاله، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك فِي
سفر طَوِيل أَو قصير. وَقَالَ مَالك: لَا يجوز إِلَّا فِي
السّفر الطَّوِيل. وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهمَا كَقَوْلِنَا، وَالثَّانيَِة: يجوز أَيْضا
خَارج الْمصر وَإِن لم ينْو سفرا. وَعِنْدنَا أَنه يجوز
التَّنَفُّل فِي السّفر للماشي أَيْضا خلافًا لأبي حنيفَة.
[15] وَقَوله: يُوتر عَلَيْهَا، دَلِيل على أَن الْوتر
لَيْسَ بِوَاجِب، وَإِنَّمَا يجْرِي مجْرى السّنَن، إِذْ
الْوَاجِب لَا يجوز فعله على الْبَعِير، وَهَذَا مَذْهَب
مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَعَن أَحْمد مَا يدل على
وجوب الْوتر كَأبي حنيفَة، وَالْأول أصح.
(2/480)
[15] وَقد قَالَ ابْن عقيل من أَصْحَابنَا:
الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث مَدْخُول؛ لِأَنَّهُ قد
صَحَّ أَن الْوتر كَانَ وَاجِبا على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا بُد أَن يُقَال: كَانَ ذَلِك لعذر
عرض لَهُ. قلت: وَقَول ابْن عقيل هُوَ الْمَدْخُول من
ثَلَاثَة أوجه: أَحدهمَا: أَن ابْن عمر يَقُول: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر على الْبَعِير،
و " كَانَ " إِخْبَار عَن دوَام الْفِعْل. وَالثَّانِي:
أَن ابْن عمر أفتى بِهِ فَتْوَى عَامَّة، وَفِي الْمُتَّفق
عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر: أَن سعيد ابْن يسَار قَالَ:
كنت أَسِير مَعَ ابْن عمر، فَنزلت فأوترت، فَقَالَ:
أَلَيْسَ لَك فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أُسْوَة حَسَنَة؟ قلت: بلَى. قَالَ: إِنَّه كَانَ يُوتر
على الْبَعِير. وَالثَّالِث: أَنا لَا نعلم حَدِيثا
صَحِيحا فِي تَخْصِيص رَسُول الله بِوُجُوب الْوتر،
إِنَّمَا ثمَّ حَدِيث يرويهِ أَبُو جناب الْكَلْبِيّ، وَقد
ضعفه يحيى وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَحمل
عَلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل حملا شَدِيدا، وَقَالَ الفلاس:
هُوَ مَتْرُوك الحَدِيث.
1045 - / 1257 وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي يَوْم الْجُمُعَة
رَكْعَتَيْنِ. [15] وَهَذَا أقل مَا رُوِيَ فِي سنة
الْجُمُعَة، وَبِه يَقُول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ.
وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: أَربع رَكْعَات.
وَقَالَ إِسْحَق بن رَاهَوَيْه: إِن صلى فِي الْمَسْجِد
صلى رَابِعا، وَإِن صلى فِي بَيته صلى رَكْعَتَيْنِ،
(2/481)
وَاحْتج بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة رَكْعَتَيْنِ فِي
بَيته. وَبقول: " من كَانَ مِنْكُم مُصَليا بعد الْجُمُعَة
فَليصل أَرْبعا ". وَكَانَ ابْن مَسْعُود يُصَلِّي قبل
الْجُمُعَة أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا، وَإِلَى هَذَا ذهب
الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك. وَقَالَ أَبُو بكر
الْأَثْرَم: وكل هَذَا جَائِز.
1046 - / 1258 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " إِذا
اسْتَأْذَنت أحدكُم امْرَأَته إِلَى الْمَسْجِد فَلَا
يمْنَعهَا ". [15] اعْلَم أَن نسَاء الصَّحَابَة كن على
طَريقَة الْأزْوَاج فِي التدين والتعبد، وانضم إِلَى هَذَا
مَا فِي طباع الْعَرَب من تقبيح الْفَوَاحِش خُصُوصا
الْحَرَائِر، كَمَا قَالَت هِنْد: وَهل تَزني الْحرَّة؟
فَاجْتمع مَا فِي الطباع من الأنفة والعفاف إِلَى مَا وهب
الله لَهُنَّ من الدّين، فَأذن لَهُنَّ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد،
وَقد كن يحضرن موعظته، ويصلين خَلفه، ويسافرن فِي
الْغَزَوَات مَعَه. فَمن علم من امْرَأَته حسن الْمَقْصد
فِي خُرُوجهَا إِلَى الصَّلَاة فَلَا يمْنَعهَا، ولحسن
الْمَقْصد عَلَامَات: مِنْهَا ترك الزِّينَة وَالطّيب،
وَالْمُبَالغَة فِي الاستتار. وَمن لم يجد ذَلِك مِنْهُنَّ
جَازَ لَهُ الْمَنْع، فقد قَالَت عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا: لَو علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا
أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسْجِد. وَقد
(2/482)
تكون الْمَرْأَة حَسَنَة الْمَقْصد غير
أَنَّهَا تكون ذَات هيكل فتؤذي من يَرَاهَا، فالاستتار
لتِلْك أولى، وَقد كَانَ عمر بن الْخطاب يكره خُرُوج
امْرَأَته ويغار من ذَلِك، وَلَا يَنْهَاهَا لأجل هَذَا
الحَدِيث. وَكَانَ عمر يحرص على نزُول الْحجاب حَتَّى
قَالَ يَوْمًا لسودة: قد عرفناك، لِئَلَّا تخرج. [15]
والدغل الْفساد، وأصل الدغل الشّجر الملتف الَّذِي يسْتَتر
بِهِ أهل الْفساد.
1047 - / 1259 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: لما مر
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحجرِ قَالَ: "
لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم ". [15]
الْإِشَارَة إِلَى قوم ثَمُود. قَالَ قَتَادَة: الْحجر
اسْم الْوَادي الَّذِي كَانُوا بِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيّ:
اسْم مدينتهم. [15] وَقَوله: " إِلَّا أَن تَكُونُوا
بَاكِينَ " إِنَّمَا ينشأ الْبكاء عَن التفكر، فَكَأَنَّهُ
أَمرهم فِي التفكر فِي أَحْوَال توجب الْبكاء. والتفكر
الَّذِي ينشأ عَنهُ الْبكاء فِي مثل ذَلِك الْمقَام
يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا تفكر يتَعَلَّق
بِأَمْر الله عز وَجل. [15] وَالثَّانِي: يتَعَلَّق بأولئك
الْقَوْم. وَالثَّالِث: يتَعَلَّق بالمار عَلَيْهِم. وَفِي
كل قسم من هَذِه فنون نشِير إِلَى يسير مِنْهَا يُنَبه على
الْكثير. فَأَما الْمُتَعَلّق بِاللَّه عز وَجل: فَمِنْهُ
قَضَاؤُهُ على أُولَئِكَ بالْكفْر، وَلِهَذَا الْمَار
عَلَيْهِم بِالْإِيمَان قبل وجود الْفَرِيقَيْنِ. وَمِنْه
خوف تقليبه الْقُلُوب، فَرُبمَا جعل مآل الْمُؤمن إِلَى
الْكفْر. وَمِنْه إمهال الْكفَّار على كفرهم مُدَّة
(2/483)
طَوِيلَة. وَمِنْه شدَّة نقمته وَقُوَّة
عَذَابه. وَأما الْمُتَعَلّق بالقوم فإهمالهم إِعْمَال
الْعُقُول فِي طَاعَة الْخلق، ومبارزتهم بالعناد
والمخالفة، وفوات أَمرهم حَتَّى لَا وَجه للاستدراك،
حَتَّى إِن لعنتهم وعقوبتهم أثرت فِي الْمَكَان وَالْمَاء،
فَقَالَ: " لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم "
وَلما استقوا من آبارهم وعجنوا بِهِ أَمرهم رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يهريقوا مَا استقوا ويعلفوا
الْإِبِل الْعَجِين وَأَن يَسْتَقُوا من الْبِئْر الَّتِي
كَانَت تردها النَّاقة. فَأَما الْمُتَعَلّق بالمار
عَلَيْهِم فتوفيقه للْإيمَان، واعتباره بِالْجِنْسِ،
وتمكينه من الِاسْتِدْرَاك، وإمهاله مَعَ الْعِصْيَان،
ومسامحته مَعَ الزلل، إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْبَاب
الَّتِي كلهَا توجب الْبكاء. فَمن مر على مثل أُولَئِكَ
وَلم يتفكر فِيمَا يُوجب الْبكاء شابههم فِي إهمالهم
التفكر، فَلم يُؤمن عَلَيْهِ نزُول الْعقَاب. [15]
وَقَوله: " أَن يُصِيبكُم " فِيهِ إِضْمَار تَقْدِيره:
حذار أَن يُصِيبكُم، وَهَذَا تحذير من الْغَفْلَة عَن تدبر
الْآيَات، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ مَا حل بهم
وَلم تنتبهوا من رقدات الْغَفْلَة فاحذروا من الْعقُوبَة،
فَإِنَّهُ إِنَّمَا حلت بهم لغفلتهم عَن التدبر.
1048 - / 1260 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " الْمُسلم أَخُو
الْمُسلم، لَا يَظْلمه، وَلَا يُسلمهُ ". [15] هَذِه أخوة
الْإِسْلَام، فَإِن كل اتِّفَاق بَين شَيْئَيْنِ يُوجب
اسْم أَخُوهُ. وَقَوله: " لَا يُسلمهُ " أَي لَا يتْركهُ
مَعَ مَا يُؤْذِيه، بل ينصره وَيدْفَع عَنهُ. [15]
وَقَوله: " من ستر مُسلما " أَي لم يظْهر عَلَيْهِ قبيحا،
وَهَذَا لَا يمْنَع الْإِنْكَار عَلَيْهِ؛ لِأَن
الْإِنْكَار فِيمَا خَفِي يكون فِي خُفْيَة، وَقد نهى
هَذَا
(2/484)
الحَدِيث عَن الْغَيْبَة؛ لِأَن من أظهر
المساوىء بالغيبة فَمَا ستر الْمُسلم.
1049 - / 1261 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: "
أَن ثَلَاثَة آواهم الْمبيت إِلَى غَار ... . ". [15] أَي
جعله لَهُم مأوى والمأوى: الْمَكَان الَّذِي يؤوى
إِلَيْهِ. والغار: نقب فِي الْجَبَل. [15] والغبوق: شراب
الْعشي، وَهُوَ اسْم للشراب الْمعد لذَلِك الْوَقْت،
يُقَال: غبقت فلَانا غبوقا: إِذا سقيته حِينَئِذٍ. [15]
وَالْمَال هَاهُنَا الْمَاشِيَة. [15] وَقَوله: فنأى بِي
طلب شجر: أَي بعد بِي طلب الشّجر الَّتِي ترعاها الْإِبِل،
فَلم أرح: من الرواح: وَهُوَ مَا بعد الزَّوَال. [15]
وبرق: بِمَعْنى أَضَاء وتلألأ. [15] ويتضاغون: يصرخون
ويبكون. والضغو والضغاء: صَوت الذَّلِيل والمقهور. [15]
وألمت بهَا سنة: أَي أصابتها. والملمة: النَّازِلَة من
نَوَازِل الدَّهْر. وَالسّنة: الْفقر والجدب. [15] والفض:
تَفْرِيق الشَّيْء الْمُجْتَمع. وانفض الْقَوْم: تفَرقُوا.
وَكنت بالخاتم عَن الْفرج. [15] وَقَوْلها: إِلَّا
بِحقِّهِ. أَي بِمَا يحل.
(2/485)
[15] وتحرجت: أَي تَأَثَّمت وَرَأَيْت
الْإِثْم والحرج فِي اقتحام مَا لَا يحل. [15] وَقَوله:
على فرق من أرز. قَالَ ابْن فَارس: الْفرق: مكيال من
المكاييل، تفتح راؤه وتسكن. وَقَالَ القتبي: هُوَ الْفرق
بِفَتْح الرَّاء. وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي الحَدِيث: "
مَا أسكر الْفرق مِنْهُ " وَهُوَ سِتَّة عشر رطلا، وَأنْشد
لخداش بن زُهَيْر:
(يَأْخُذُونَ الْأَرْش فِي أخوتهم ... فرق السّمن وشَاة
فِي الْغنم)
[15] فَأَما الْأرز فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ قَالَ: الْأرز اسْم أعجمي، ووزنه " أفعل " لَا
محَالة، فالهمزة فِيهِ زَائِدَة، وَفِيه لُغَات أرز، وأرز،
وأرز مثل كتب، وأرز مثل كتب، ورز، ورنز، قَالَ الراجز:
(يَا خليلي كل أوزه ... وَاجعَل الجوذان رنزه)
[15] وَقَوله: فاستاقه: أَي حازه وَذهب بِهِ. وَالْأَصْل
فِي ذَلِك مَا يساق من الْمَوَاشِي، فاستعير لكل مَأْخُوذ
ومعطى. [15] وانفرجت: بِمَعْنى انشقت واتسعت. [15]
وَقَوله: فانساحت: أَي انفسحت، وَمثله تَعَالَى: {فسيحوا
فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر} [التَّوْبَة: 2] أَي انفسحوا.
وَقد صحفه قوم فَقَالُوا: انساخت بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
(2/486)
1050 - / 1262 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْعِشْرين: نهى أَن يُؤْكَل لحم الْأَضَاحِي بعد
ثَلَاث. [15] إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك لأجل قوم جَاءُوا
إِلَى الْمَدِينَة مضطرين، فَأحب أَن يواسوا، ثمَّ أَبَاحَ
ذَلِك. وَهَذَا يَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة.
1051 - / 1263 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: "
تَجِدُونَ النَّاس كإبل مائَة، لَا يجد الرجل فِيهَا
رَاحِلَة ". [15] الْعَرَب تَقول لمن لَهُ مائَة من
الْإِبِل: لفُلَان إبل، وَلمن لَهُ مِائَتَان: لَهُ إبلان.
[15] وَالرَّاحِلَة: اسْم يَقع على الْجمل النجيب وعَلى
النَّاقة المختارة، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة، كَمَا
يُقَال: رجل داهية، وَرِوَايَة. وَيُقَال: جمل رحيل: أَي
قوي على السّير. وَقيل: سميت رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل:
أَي تسْتَعْمل فِي الرحيل وَالسير، وَإِنَّمَا هِيَ
مرحولة، كَقَوْلِه: {فَهُوَ فِي عيشة راضية} [الحاقة: 21]
أَي مرضية. [15] وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن الْمُخْتَار
من النَّاس قَلِيل، كَمَا أَن الْمُخْتَار من الْإِبِل
للرحلة عَلَيْهِ وتحميله للأثقال قَلِيل، وَفِي هَذَا
الْمَعْنى قَول المتنبي: [15]
(وَمَا الْخَيل إِلَّا كالصديق قَليلَة ... وَإِن كثرت فِي
عين من لم يجرب)
(2/487)
1052 - / 1264 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْعِشْرين: أَن عمر حمل على فرس، ثمَّ رَآهَا تبَاع.
[15] وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
1053 - / 1265 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: وجد
عمر حلَّة من إستبرق تبَاع، فَأَخذهَا. [15] قد فسرنا فِي
مُسْند عمر الْحلَّة، والسيراء، وَفِي مُسْند حُذَيْفَة
الديباج. وَفِي مُسْند الْبَراء الإستبرق. [15]
وَعُطَارِد: هُوَ ابْن حَاجِب بن زُرَارَة التَّمِيمِي،
وَكَانَ فِي وَفد تَمِيم الَّذين قدمُوا على رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخَطب وفخر، فَأمر رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَابت بن قيس بن شماس
فَأَجَابَهُ، وَأسلم وَصَحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم [15] وَأما القباء فَقَرَأت على شَيخنَا أبي
مَنْصُور قَالَ: قيل: هُوَ فَارسي مُعرب، وَقيل: هُوَ
عَرَبِيّ، وإشتقاقه من القبو: وَهُوَ الضَّم وَالْجمع.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن التجمل بالثياب غير
مُنكر فِي الشَّرِيعَة، وَأَن التهيؤ للقاء النَّاس
بالتجمل الْمُبَاح لَا يُنكر، لِأَن عمر قَالَ لَهُ: تجمل
بِهَذِهِ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ امْتنع
مِنْهَا لكَونهَا حَرِيرًا. وَهَذَا على خلاف مَذْهَب
المتقشفين من جهال المتزهدين.
(2/488)
وَقد روينَا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه
خرج يَوْمًا وَعَلِيهِ حلَّة يمَان، وعَلى فرقد جُبَّة
صوف، فَجعل فرقد يمس حلَّة الْحسن ويسبح، فَقَالَ لَهُ:
يَا فرقد، ثِيَابِي ثِيَاب أهل الْجنَّة، وثيابك ثِيَاب
أهل النَّار - يَعْنِي القسيسين والرهبان. وَقَالَ لَهُ:
يَا فرقد، إِن التَّقْوَى لَيست فِي لبس هَذَا الكساء،
وَإِنَّمَا التَّقْوَى مَا وقر فِي الصَّدْر وَصدقه
الْعَمَل.
1054 - / 1266 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: "
لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ " وَقد فسرناه فِي مُسْند
ابْن مَسْعُود.
1055 - / 1267 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين:
أَن عمر انْطلق مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي رَهْط من أَصْحَابه قبل ابْن صياد حَتَّى وجدوه يلْعَب
مَعَ الصّبيان عِنْد أَطَم بني مغالة. [15] الأطم: الْحصن.
وَقد شرحنا هَذِه الْكَلِمَة فِي مُسْند الزبير. [15]
وَقَوله: " رَسُول الْأُمِّيين " وهم جمع أُمِّي: وَهُوَ
الَّذِي لَا يحسن الْكِتَابَة، وَفِي تَسْمِيَته بذلك
ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لِأَنَّهُ على خلقَة الْأمة
الَّتِي لم تتعلم الْكتاب، فَهُوَ على جبلته، قَالَه
الزّجاج، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ على مَا وَلدته أمه.
وَالثَّالِث: للنسبة إِلَى أمه فِي الْجَهْل
بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَن الْكِتَابَة كَانَت فِي الرِّجَال
دون النِّسَاء.
(2/489)
[15] وَقَوله: فرفصه: أَي أعرض عَنهُ.
وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا هُوَ فرصه بالصَّاد
الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة، وَمِنْه: رص الْبناء، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} [الصَّفّ: 4]
وَالْمعْنَى أَنه ضغطه حَتَّى ضم بعضه إِلَى بعض. [15]
وَقَوله: يأتيني صَادِق وكاذب، فَقَالَ " خلط عَلَيْك
الْأَمر ". وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود قِطْعَة
من أخباره، وَذكرنَا أَن اسْمه عبد الله. وَقد روينَا
هَاهُنَا أَن اسْمه صَاف، فَلَعَلَّهُ كَانَ سمي بالاسمين.
وَبينا هُنَاكَ معنى قَوْله: " اخْسَأْ، فَلَنْ تعدو قدرك
". [15] وَقَوله: طفق: أَي أَخذ فِي الْفِعْل. [15]
وَقَوله: يَتَّقِي بجذوع النّخل، أَي يَتَّقِي أَن يرى،
لَا ستتاره بهَا. [15] ويختل: الختل: الخديعة فِي استتار،
وَطلب نيل الْغَرَض من غير علم الْمَطْلُوب مِنْهُ. [15]
والقطيفة وَاحِدَة القطائف: وَهُوَ ضرب من الأكسية. [15]
والزمزمة: صَوت مردد دَاخل الْفَم لَا يكَاد يفهم. [15]
وَقَوله: " تعلمُوا أَنه أَعور " أَي اعلموا. وَالْمرَاد
بِذكر العور النَّقْص، وَالنَّقْص لَا يجوز على الْإِلَه.
قَالَ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل: يحْسب بعض الْجُهَّال أَنه
لما نفي العور عَن الله تَعَالَى أثبت من الْخطاب أَنه ذُو
عينين، وَهَذَا بعيد من الْفَهم، إِنَّمَا نفي عَن الله
تَعَالَى العور من حَيْثُ نفي النقائض، وَهَذَا مثل مَا
نفي الْوَلَد عَنهُ، لَا يُرِيد بِهِ
(2/490)
(لم يلد) لِأَنَّهُ ذكر وَلَيْسَ بأنثى،
وَلَا أَنه يَتَأَتَّى مِنْهُ، لَكِن لم يلد لِأَنَّهُ
مُسْتَحِيل عَلَيْهِ التجزؤ والانقسام. وَلَو كَانَت
الْإِشَارَة بِالْحَدِيثِ إِلَى صُورَة كَامِلَة لم يكن
فِي ذَلِك دَلِيل على الإلهية وَلَا الْقدَم؛ فَإِن
الْكَامِل فِي الصُّورَة كثير، وَمَا يُشَارك فِيهِ
الْمُحدث لَا يكون خصيصة الْقدَم والإلهية، وَلَو كَانَ
العور دلَالَة على نفس الإلهية لَكَانَ الْكَمَال فِي
الصُّورَة دلَالَة على إِثْبَاتهَا. أتراه لم يجد فِي
الدَّجَّال مَا يسْتَدلّ بِهِ على نفي الإلهية إِلَّا
العور، حاشاه أَن يقْصد ذَلِك، وَفِي الدَّجَّال من
النقلَة والتحرك وركوب الْحمار وَأكل الطَّعَام وَغير
ذَلِك مَا يدل على الْحَدث، فَلَمَّا عدل إِلَى ذكر العور
دلّ على أَنه أَرَادَ أَن الْإِلَه لَا تلْحقهُ النقائض.
وَأما الْمَكْتُوب بَين عَيْني الدَّجَّال فلزيادة فضيحته،
وتسليط الْمُؤمن على الْقِرَاءَة لذَلِك الْمَكْتُوب وَإِن
لم يكن قَارِئًا أكْرم لَهُ بكشف الشُّبُهَات عَن وَجهه.
1056 - / 1268 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين:
بَينا أَنا قَائِم أَطُوف بِالْبَيْتِ، فَإِذا رجل آدم.
[15] هَذَا كَانَ فِي الْمَنَام، وَقد صرح بذلك فِي لفظ
آخر. [15] والآدم: الأسمر. [15] وَالشعر السبط: المنبسط،
على ضد الْجَعْد. [15] ويهادى بَين رجلَيْنِ: يمشي
بَينهمَا فيعتمد عَلَيْهِمَا. [15] وينطف رَأسه: يقطر من
شعر رَأسه المَاء. [15] والطافية من الْعِنَب: الْحبَّة
الَّتِي خرجت عَن حد نبت أخواتها
(2/491)
فنتأت وعلت، وَمِنْه الطافي من السّمك، سمي
بذلك لِأَنَّهُ علا على ظهر المَاء. [15] وَأما تَسْمِيَة
عِيسَى بالمسيح فَفِيهِ سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا:
لِأَنَّهُ أَمسَح الرجل لَا أَخْمص لَهَا، رَوَاهُ عَطاء
عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يسمح
بِيَدِهِ ذَا عاهة إِلَّا برِئ، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن
ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَن معنى الْمَسِيح: الصّديق،
رَوَاهُ النَّخعِيّ. وَالرَّابِع: لِأَنَّهُ مسح
بِالْبركَةِ، قَالَه الْحسن. وَالْخَامِس: لِأَنَّهُ كَانَ
يمسح الأَرْض. أَي يقطعهَا، قَالَه ثَعْلَب. وَالسَّادِس:
لِأَنَّهُ مسح عُمُوم الْكفْر الَّذِي كَانَ قبله، ذكره
ابْن مقسم. وَالسَّابِع: لِأَنَّهُ خرج من بطن أمه ممسوحا
بالدهن، حَكَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي. [15] وَأما ابْن قطن
فَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ رجل من خُزَاعَة هلك فِي
الْجَاهِلِيَّة. [15] وَقَوله: بَين ظهراني النَّاس،
النُّون مَفْتُوحَة لَا غير. يُقَال: بَين ظهرانهم
وظهريهم: أَي بَينهم وَفِي جَمَاعَتهمْ. [15] والدجال:
الْكذَّاب. وَقد أشبعنا الْكَلَام فِي معنى الدَّجَّال فِي
مُسْند حُذَيْفَة. وَأما تَسْمِيَته بالمسيح فَقَالَ
إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: سمي مسيحا لِأَن إِحْدَى
عَيْنَيْهِ ممسوحة عَن أَن ينظر بهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ
أَبُو عبيد: لِأَنَّهُ مَمْسُوح إِحْدَى الْعَينَيْنِ.
(2/492)
[15] واللمة: شعر الرَّأْس إِذا جَاوز
الْأُذُنَيْنِ وحاذاهما، كَأَنَّهُ ألم بهما، سمي بإلمامه
بهما لمة. فَإِذا بغلت اللمة الْمَنْكِبَيْنِ فَهِيَ جمه.
[15] وَقَوله: رجل الشّعْر. قَالَ الزّجاج: شعر رجل وَرجل:
وَهُوَ المسترسل. فَإِن كَانَ مسترسلا وَفِي أَطْرَافه
شَيْء من الجعودة قيل شعر أحجن. [15] وَقد ذكرنَا مَا وصف
بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَاهُنَا فِي الحَدِيث
السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ من مُسْند ابْن عَبَّاس.
1057 - / 1270 وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: " أَلا إِن
الْفِتْنَة هَاهُنَا - يُشِير إِلَى الْمشرق - من حَيْثُ
يطلع قرن الشَّيْطَان ". [15] أما تَخْصِيص الْفِتَن
بالمشرق فَلِأَن الدَّجَّال يخرج من تِلْكَ النَّاحِيَة،
وَكَذَلِكَ يَأْجُوج وَمَأْجُوج. وَأما ذكر قرن
الشَّيْطَان فعلى سَبِيل الْمثل، كَأَن إِبْلِيس يطلع
رَأسه بالفتن من تِلْكَ النواحي. [15] فَأَما الشَّام
فمأخوذ من الْيَد الشؤمى: وَهِي الْيُسْرَى، وَيُقَال:
أَخذ شأمه: أَي على يسَاره، فَهِيَ عَن يسَار الْكَعْبَة.
واليمن مَأْخُوذ من الْيَد الْيُمْنَى لِأَنَّهَا عَن
يَمِين الْكَعْبَة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: نجد نَاحيَة
الْمشرق، وَمن كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ نجده بادية
الْعرَاق ونواحيها، وَهِي مشرق أَهلهَا، وأصل النجد مَا
ارْتَفع من الأَرْض وَقَالَ ابْن فَارس:
(2/493)
الأَصْل فِي نجد الِارْتفَاع، يُقَال
للْأَرْض المرتفعة نجد، وخلافه الْغَوْر. [15] والزلزلة:
قُوَّة التحريك وترديده. [15] فَأَما الْعرَاق فقد سبق
بَيَانه فِي مُسْند سهل بن حنيف. [15] وَقَوله:
{وَفَتَنَّاك فُتُونًا} [طه: 40] فَقَالَ ابْن عَبَّاس:
الْفُتُون: وُقُوعه فِي محنة بعد محنة، ثمَّ خلصه الله
مِنْهَا، كولادته فِي وَقت ذبح الْأَطْفَال، وَمنعه
الرَّضَاع، ومده لحية فِرْعَوْن وتناوله الْجَمْرَة،
وَقَتله القبطي. فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: خلصناك من
تِلْكَ المحن كَمَا يفتن الذَّهَب بالنَّار فيخلص من كل
خبث.
1058 - / 1271 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ:
فِي لَيْلَة الْقدر: " التمسوها فِي الْعشْر الغوابر ".
[15] الغوابر: الْبَوَاقِي. [15] وَقَوله: " أرى رؤياكم قد
تواطأت " أَي توافقت. وَأخْبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ:
أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَلَاء
المعري: تواطأت فِي الْعَرَبيَّة أقوى من تواطت. [15]
وَقَوله: تَحَيَّنُوا. التحين طلب الشَّيْء فِي حِين
مُخْتَصّ بِهِ.
(2/494)
1059 - / 1272 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالثَّلَاثِينَ: " فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ ".
[15] غم بِمَعْنى ستر بغيم أَو غَيره. [15] وللعلماء فِي
معنى " فاقدروا لَهُ " قَولَانِ: أَحدهمَا: قدرُوا لَهُ
شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور،
وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأَن فِي أَكثر أَلْفَاظ هَذَا
الحَدِيث مَا يدل على هَذَا، فَمِنْهَا لفظ أخرج فِي
الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جبلة بن سحيم عَن ابْن عمر أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الشَّهْر تسع
وَعِشْرُونَ لَيْلَة، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تروه، فَإِن
غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ " وَفِي لفظ أخرجه
مُسلم: " صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم
عَلَيْكُم فاقدروا ثَلَاثِينَ " وَقد روى هَذَا الحَدِيث
أَبُو هُرَيْرَة مُفَسرًا، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من
حَدِيثه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ:
" صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم
عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ " كَذَا فِي
رِوَايَة البُخَارِيّ. وَفِي لفظ مُتَّفق عَلَيْهِ: "
فعدوا ثَلَاثِينَ ". ويوضح هَذَا حَدِيث ابْن عَبَّاس
وَأبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " فَإِن غم عَلَيْكُم فعدوا
ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ صُومُوا ".
(2/495)
[15] وَالْقَوْل الثَّانِي: ضيفوا لَهُ
عددا يطلع فِي مثله، وَذَلِكَ باحتساب شعْبَان تسعا
وَعشْرين، وعَلى هَذَا مَا يذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا.
[15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا حَال دون مطلع
الْهلَال غيم أَو قتر فِي لَيْلَة الثَّلَاثِينَ. وَعَن
أَحْمد ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: يلْزم الصَّوْم،
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر وَأنس وَعَائِشَة
وَأَسْمَاء. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: لَا يجوز صَوْمه
من رَمَضَان وَلَا نفلا، إِلَّا أَن يكون نفلا يُوَافق
عَادَة، وَيجوز صَوْمه قَضَاء وَكَفَّارَة ونذرا، وَهَذَا
قَول الشَّافِعِي. وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة: أَن الْمرجع
إِلَى رَأْي الإِمَام فِي الصَّوْم وَالْفطر، وَهُوَ قَول
الْحسن وَابْن سِيرِين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا
يجوز صَوْمه من رَمَضَان، وَيجوز صِيَامه مَا سوى ذَلِك.
وَالرِّوَايَة الأولى هِيَ المنصورة عِنْد أَكثر
أَصْحَابنَا، ويستدلون على صِحَة تفسيرهم الحَدِيث بِفعل
ابْن عمر؛ فَإِنَّهُ قد روى الجوزقي فِي كِتَابه الْمخْرج
على الصَّحِيحَيْنِ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ:
فَكَانَ ابْن عمر إِذا كَانَ تسع وَعِشْرُونَ إِن رأى فِي
السَّمَاء قترة أَو غمامة اصبح صَائِما. وَمَعْلُوم أَن
الصَّحَابَة أعلم بمعاني كَلَام رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَمرَاده، فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَى
تَفْسِير ابْن عمر لهَذَا، كَمَا رَجعْنَا إِلَيْهِ فِي
خِيَار الْمجْلس؛ فَإِنَّهُ كَانَ يمشي ليلزم البيع.
وحملوا قَوْله: " فاقدروا ثَلَاثِينَ " على مَا إِذا غم
هِلَال شَوَّال، فَإنَّا نقدر ثَلَاثِينَ احْتِيَاطًا
للصَّوْم كَمَا قَدرنَا فِي أَوله للصَّوْم. وَسَيَأْتِي
الْكَلَام على حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي مُسْنده إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
(2/496)
1060 - / 1273 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالثَّلَاثِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مر على رجل وَهُوَ يعظ أَخَاهُ فِي الْحيَاء، فَقَالَ: "
دَعه؛ فَإِن الْحيَاء من الْإِيمَان ". [15] اعْلَم أَن من
أَخْلَاق الْمُؤمن الْحيَاء، وَالْحيَاء انقباض،
وَالْمُؤمن منقبض حَيَاء من خالقه، وإجلالا لهيبته، وحذرا
من عِقَابه، فَصَارَ الانقباض خلقا لِلْمُؤمنِ، فاستحيا من
أَبنَاء جنسه. [15] فَإِن قيل: كَيفَ جعل الْحيَاء -
وَهُوَ غريزة - من الْإِيمَان الَّذِي هُوَ اكْتِسَاب؟ فقد
أجَاب عَن هَذَا ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: لِأَن المستحيي
يَنْقَطِع بِالْحَيَاءِ عَن الْمعاصِي وَإِن لم يكن لَهُ
تقى، فَصَارَ كالإيمان الَّذِي يقطع عَنْهَا.
1061 - / 1274 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ:
" اقْتُلُوا الْحَيَّات، واقتلوا ذَا الطفيتين ". [15]
هَذَا الحَدِيث قد تقدم هُوَ وَشَرحه فِي مُسْند أبي
لبَابَة. إِلَّا أَنه فِي بعض أَلْفَاظه: سَمِعت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بقتل الْكلاب. وَقد
بَينا فِي مُسْند عبد الله بن مُغفل أَنه نسخ ذَلِك.
1062 - / 1275 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ:
" لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه ".
(2/497)
[15] هَذَا الحَدِيث بِأَلْفَاظ قد سبق فِي
مُسْند زيد بن ثَابت. وَقد شرحناه ثمَّ. وَفِي بعض
أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يزهو،
وَعَن السنبل حَتَّى يبيض ويأمن العاهة. [15] قَالَ أَبُو
عبيد: زهو النّخل: أَن يحمر أَو يصفر. والعاهة: الآفة
تصيبه. [15] وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: نهى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الثَّمَرَة
حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا. وَكَانَ إِذا سُئِلَ عَن
صَلَاحهَا قَالَ: حَتَّى تذْهب عاهته. وَظَاهر هَذَا أَن
الْمَسْئُول عَن ذَلِك والمجيب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا الْمَسْئُول
والمجيب عَن ذَلِك ابْن عمر، وَقد درج كَلَامه فِي كَلَام
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاشْتَبَهَ.
أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أَنبأَنَا
جَعْفَر بن أَحْمد بن السراح قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن
عَليّ بن ثَابت قَالَ: الْمَسْئُول عَن صَلَاح الثَّمَرَة
والمجيب بقوله: حَتَّى تذْهب عاهته، لَيْسَ هُوَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا هُوَ عبد الله
بن عمر. وَقد بَين ذَلِك مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم
الْأَزْدِيّ وَمُحَمّد بن جَعْفَر غنْدر فِي روايتهما
هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن
ابْن عمر.
1063 - / 1276 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ:
" من اشْترى طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه "
وَكُنَّا نشتري الطَّعَام من الركْبَان جزَافا، فنهانا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نبيعه حَتَّى
ننقله من مَكَانَهُ.
(2/498)
[15] اسْتِيفَاء الطَّعَام إِذا كَانَ قد
اشْترى صبرَة بنقله، وَإِن كَانَ بِالْكَيْلِ فَلَا يجوز
بَيْعه حَتَّى يُعَاد عَلَيْهِ الْكَيْل على مَا بَيناهُ
فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15] والجزاف: مَا أَخذ على
حَاله دون معرفَة قدره من الْكَيْل وَالْوَزْن. وَعِنْدنَا
أَنه من بَاعَ صبرَة مجازفة وَانْفَرَدَ البَائِع
بِمَعْرِِفَة قدرهَا لم يجز لَهُ ذَلِك، إِلَّا أَن البيع
صَحِيح، وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ: البيع لَازم وَلَا خِيَار للْمُشْتَرِي.
1064 - / 1277 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ:
" من ابْتَاعَ نخلا بعد أَن يؤبر فثمرها للَّذي بَاعهَا
إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع ". [15] هَكَذَا أخرج فِي
الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعا إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَقد أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ
قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: أخبرنَا
أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: اتّفق
إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا الخلفاني وَأَبُو مُعَاوِيَة
الضَّرِير والهيثم بن عدي الطَّائِي على رِوَايَة هَذَا
الحَدِيث عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع عَن
ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَكَذَا. ووهموا فِي ذَلِك؛ لِأَن نَافِعًا إِنَّمَا كَانَ
يروي الْفَصْل الَّذِي فِي بيع النّخل خَاصَّة عَن ابْن
عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويروي الْفَصْل
الْأَخير الَّذِي فِي بيع العَبْد عَن ابْن عمر عَن عمر بن
الْخطاب قَوْله، بَين ذَلِك يحيى بن سعيد الْقطَّان وَبشر
بن الْمفضل فِي روايتهما عَن عبيد بن عمر هَذَا الحَدِيث
فِي سِيَاقَة وَاحِدَة، وميزا أحد الْفَصْلَيْنِ من الآخر،
وضبطا إِسْنَاده، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن أبي عروية
عَن
(2/499)
أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع. وروى
مَالك عَن نَافِع الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، إِلَّا أَنه
أفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِإِسْنَادِهِ، وَجعل فصل النّخل
عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفصل
العَبْد عَن ابْن عمر عَن عمر قَوْله. وَكَذَلِكَ روى
مُحَمَّد بن بشر الْعَبْدي وَمُحَمّد بن عبيد الله
الطنافسي عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع الْفَصْلَيْنِ
بِإِسْنَادَيْنِ مفردين. [15] فَأَما تَفْسِير الحَدِيث:
فأبرت النّخل: بِمَعْنى لقحت، ونخلة مؤبرة. وتأبير
النَّخْلَة أَن يتشقق طلعها فَيُوضَع فِي أَثْنَائِهِ من
طلع فَحل النّخل، فَيكون ذَلِك لقاحا، فَجعل رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّمر المستكن فِي الطّلع
كَالْوَلَدِ المستجن فِي بطن الْحَامِل، فَإِنَّهَا إِذا
بِيعَتْ تبعها الْحمل فِي البيع، فَإِذا ظهر تميز حكمه عَن
حكم أمه، فَكَذَلِك ثَمَر النّخل إِذا تشقق وَظهر
فَإِنَّهُ ينْفَرد حكمه عَن حكم أَصله. [15] وَقَوله: "
فَمَاله للْبَائِع " دَلِيل على أَن العَبْد لَا يملك
بِحَال جعله فِي أقوى الْحَالَات - وَهِي إِضَافَة الْملك
إِلَيْهِ - غير ملك.
1065 - / 1278 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْمغرب
وَالْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا. زَاد البُخَارِيّ:
كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بِإِقَامَة، وَلم يسبح بَينهمَا
وَلَا على إِثْر وَاحِدَة مِنْهُمَا. [15] وَأما الْجمع
بَين الصَّلَاتَيْنِ هُنَا. فمجمع عَلَيْهِ. [15]
والمزدلفة اسْم مَأْخُوذ من الْقرب، وَقد بَيناهُ فِيمَا
مضى. [15] وَمعنى لم يسبح: لم يتَنَفَّل. وَقَوله: لَيْسَ
بَينهمَا سَجْدَة: أَي رَكْعَة.
(2/500)
[15] وَقَوله: وَصلى الْمغرب ثَلَاثًا،
هَذَا لِأَن الْمغرب لَا يقصر. [15] وَقَوله: كل وَاحِدَة
بِإِقَامَة. هَذَا هُوَ الْمَنْصُور عندنَا. وَعند أَحْمد
أَنه مُخَيّر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجمع بِأَذَان
وَإِقَامَة بِمُزْدَلِفَة على مَا فِي لفظ الحَدِيث الآخر.
1066 - / 1279 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ:
" لَا تتركوا النَّار فِي بُيُوتكُمْ حِين تنامون ". [15]
هَذَا تَأْدِيب يتَضَمَّن التحذير مِمَّا يُمكن وُقُوعه،
فَإِنَّهُ رُبمَا هبت الرّيح بِثَوْب أَو غَيره إِلَى
النَّار، وَرُبمَا وَقع على النَّار شَيْء فاشتعل واشتعل
بِهِ الْبَيْت. وَرُبمَا جرت الْفَأْرَة الفتيلة فأحرقت.
ثمَّ إِنَّمَا يُرَاد الضَّوْء للمنتبه، فإيقاد النَّار
بعد النّوم من غير حَاجَة تَفْرِيط.
1067 - / 1280 وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: رَأَيْت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أعجله السّير
فِي السّفر يُؤَخر الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين
الْعشَاء. [15] قد سبق الْكَلَام فِي الْجمع بَين
الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15]
وَقَوله: وَلَا يسبح: أَي لَا يتَنَفَّل. [15] واستصرخ:
استغيث بِهِ ليَكُون غوثا على مَا استغيث بِهِ فِيهِ. [15]
والشفق: الْحمرَة الَّتِي ترى فِي الْمغرب عِنْد غرُوب
الشَّمْس.
(2/501)
1068 - / 1281 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ ينفل بعض من يبْعَث من السَّرَايَا
لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّة سوى قسم عَامَّة الْجَيْش، وَالْخمس
فِي ذَلِك كُله وَاجِب. [15] قد بَينا فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس كَيفَ تقسم الْغَنِيمَة، وَذكرنَا أَن النَّفْل
يَقع من الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس الَّتِي هِيَ سِهَام أهل
الْوَقْعَة، وَهُوَ معنى قَوْله: وَالْخمس فِي ذَلِك كُله
وَاجِب. يَعْنِي أَن الْخمس على حَاله لأربابه، وَالنَّفْل
خَارج عَنهُ. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ينفل من الجيوش والسرايا ذَوي الْقُوَّة فِي الْحَرْب
تحريضا لَهُم على الْقِتَال، وتعويضا عَمَّا يصيبهم من
الْمَشَقَّة، فَيكون ذَلِك كالصلة، ثمَّ يجعلهم بعد ذَلِك
أُسْوَة الْجَمَاعَة فِي سَهْمَان الْغَنِيمَة، هَذَا
مَذْهَبنَا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يكون النَّفْل
من خمس الْخمس الَّذِي للْمصَالح. وَإِنَّمَا سمي ذَلِك
نفلا لِأَنَّهُ زِيَادَة على الأَصْل، وَسميت الْغَنَائِم
بالأنفال لِأَنَّهَا مِمَّا زَاد الله عز وَجل هَذِه
الْأمة فِي الْحَلَال، وَقد كَانَت مُحرمَة على من قبلهم.
[15] والشارف: النَّاقة المسنة.
1069 - / 1282 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ:
أَن ابْن عمر طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَذكر ذَلِك عمر
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فتغيظ وَقَالَ: "
ليراجعها ". [15] اعْلَم أَنه إِنَّمَا أمره بالمراجعة
لِأَن الطَّلَاق حَال الْحيض محرم، إِلَّا
(2/502)
أَنه يَقع، وَكَذَلِكَ إِذا طَلقهَا فِي
طهر قد وَطئهَا فِيهِ. وَعِنْدنَا أَنه يسْتَحبّ ارتجاعها
إِن كَانَ الطَّلَاق رَجْعِيًا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ مَالك: تجب عَلَيْهِ الرّجْعَة.
وَعَن أَحْمد نَحْو ذَلِك. [15] وَقَوله: " إِن عجز
واستحمق " التَّاء فِي استحمق مَفْتُوحَة، كَذَا قَالَ لنا
عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ، وَقَالَ: الْمَعْنى: فعل
فعلا يصير بِهِ أَحمَق، أسقط عَنهُ حكم الطَّلَاق عَجزه
وحمقه، وَهَذَا من الْجَواب الْمَحْذُوف الْمَدْلُول
عَلَيْهِ بفحوى الْكَلَام. [15] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من
حَدِيث ابْن سِيرِين قَالَ: مكثت عشْرين سنة يحدثني من لَا
أتهم: أَن ابْن عمر طلق امْرَأَته ثَلَاثًا وَهِي حَائِض
فَأمر أَن يُرَاجِعهَا، فَجعلت لَا أتهمهم وَلَا أعرف
الحَدِيث، حَتَّى لقِيت يُونُس بن جُبَير، وَكَانَ ذَا
ثَبت فَحَدثني عَن ابْن عمر: أَنه طلق امْرَأَته
تَطْلِيقَة. قلت: فَبَان بِهَذَا أَن الَّذِي يتهمه ابْن
سِيرِين غلط، وَقد يكون الْإِنْسَان ثِقَة لكنه يغلط. وَقد
روى هَذَا الحَدِيث أَبُو الزبير فَقَالَ فِيهِ: فَردهَا
عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره
شَيْئا. أَشَارَ إِلَى هَذَا مُسلم، وأفصح أَبُو مَسْعُود
فِي " التعليقة ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي " السّنَن "
وَقَالَ: كل الْأَحَادِيث يُخَالف مَا رَوَاهُ أَبُو
الزبير. وَقَالَ غَيره من عُلَمَاء الْمُحدثين: لم يرو
أَبُو الزبير حَدِيثا أنكر من هَذَا. على أَنه يحْتَمل
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لم يره شَيْئا باتا تحرم مَعَه
الرّجْعَة. وَالثَّانِي: لم يره شَيْئا
(2/503)
جَائِزا فِي السّنة.
1070 - / 1283 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ:
" إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ " قد سبق
فِي مُسْند عمر.
1071 - / 1284 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ:
" أريت كَأَنِّي أنزع بِدَلْو بكرَة على قليب ". [15]
النزع بِمَعْنى الاستقاء. وَالْمعْنَى: استقي بيَدي على
البكرة. [15] والقليب: الْبِئْر قبل أَن تطوى، فَإِذا طويت
فَهِيَ طوي، والقليب مُذَكّر، والبئر مُؤَنّثَة. والذنُوب:
الدَّلْو الْعَظِيمَة. [15] وَقَوله: " فاستحالت غربا "
أَي تحولت وَرجعت إِلَى الْكبر. والغرب بِإِسْكَان
الرَّاء: الدَّلْو الْعَظِيمَة. وَالْمعْنَى: أَن عمر لما
أَخذ الدَّلْو عظمت فِي يَده، وَكَذَا كَانَ تَأْوِيلهَا:
أَن الْفتُوح فِي أَيَّامه كَانَت أَكثر من الْفتُوح فِي
أَيَّام أبي بكر. [15] وَقَوله: " فَلم أر عبقريا "
العبقري: سيد الْقَوْم وَكَبِيرهمْ وقويهم، قَالَ أَبُو
بكر الْأَنْبَارِي: عبقر قَرْيَة تسكنها الْجِنّ، وكل فائق
جليل ينْسب إِلَيْهَا. [15] قَالَ الزّجاج: عبقر: بلد
كَانَ يوشى فِيهِ الْبسط وَغَيرهَا، فنسب
(2/504)
كل جيد إِلَيْهِ، قَالَ زُهَيْر:
(يخيل عَلَيْهَا جنَّة عبقرية ... جديرون يَوْمًا أَن
ينالوا فيستعلموا)
[15] وَقَوله: " يفري فريه " أَي يقطع قطعه. الْمَعْنى:
يعْمل عمله. وَالْعرب تَقول: تركت فلَانا يفري الفري: أَي
يعْمل الْعَمَل الْجيد، وَأنْشد الْأَحْمَر:
(قد أطعمتني دقلا حوليا ... )
(مسوسا مدودا حجريا ... )
(قد كنت تفرين بِهِ الفريا ... )
[15] أَي كنت تكثرين فِيهِ القَوْل وتعظيمنه. وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى: {لقد جِئْت شَيْئا فريا} [مَرْيَم: 27] .
قَالَ ابْن السّكيت: الفري: الْعَمَل الْجيد الصَّحِيح.
قَالَ: وَيُقَال: هُوَ يفري الفري: إِذا جَاءَ بالعجب فِي
عمل عمله. وَقَالَ اللَّيْث: يفري فريه خَفِيفَة، وَمن ثقل
فقد غلط. قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَا شَيْء يفري فِي الْيَدَيْنِ كَمَا يفري ... )
[15] وَقَوله: " حَتَّى ضرب النَّاس بِعَطَن " قَالَ ابْن
الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: حَتَّى رووا وأرووا إبلهم
وأبركوها وضربوا لَهَا عطنا، يُقَال: عطنت الْإِبِل
وأعطنتها.
(2/505)
1072 - / 1286 وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ: أَن ابْن عمر كَانَ يَحْكِي عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " يَأْخُذ الله
سماواته وأرضيه بِيَدِهِ وَيَقُول: أَنا الله، وَيقبض
أُصْبُعه ويبسط: أَنا الْملك " حَتَّى نظرت إِلَى
الْمِنْبَر يَتَحَرَّك. [15] قد ثَبت بِالدَّلِيلِ
الْقَاطِع أَن يَد الْحق عز وَجل لَيست جارحة، وَأَن قَبضه
للأشياء لَيست مُبَاشرَة، وَلَا لي كف، وَإِنَّمَا قرب
الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الأفهام مَا يُدْرِكهُ
الْحس، فَقبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَصَابِعه وبسطها. فوقوع الشّبَه بَين القبضتين من حَيْثُ
ملكه الْمَقْبُوض لَا من حَيْثُ التَّشْبِيه بآلات
الْقَبْض، كَمَا وَقع تَشْبِيه رؤيه الْحق بِرُؤْيَة
الْقَمَر فِي اتضاح الرُّؤْيَة لَا فِي تَشْبِيه المرئي.
[15] وَفِي لفظ: " يَأْخُذ الْجَبَّار سماواته " وَفِي
معنى الْجَبَّار أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه
الْعَظِيم، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه
الَّذِي يقهر الْخلق ويجبرهم على مَا يُرِيد، قَالَه
الْقُرْطُبِيّ وَالسُّديّ. وَالثَّالِث: الَّذِي جبر مفاقر
خلقه وكفاهم أَسبَاب المعاش والرزق. وَالرَّابِع: أَنه
العالي فَوق خلقه، من قَوْلهم: تجبر النَّبَات: إِذا طَال
وَعلا، ذكر الْقَوْلَيْنِ الْخطابِيّ.
1073 - / 1287 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ:
" من أعتق عبدا بَينه وَبَين آخر قوم عَلَيْهِ من مَاله
قيمَة عدل، لَا وكس وَلَا شطط، ثمَّ عتق
(2/506)
عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ مُوسِرًا ".
وَفِي رِوَايَة: " من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ
مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ العَبْد قيمَة عدل،
فَأعْطى شركاؤه حصصهم وَعتق عَلَيْهِ العَبْد، وَإِلَّا
فقد عتق عَلَيْهِ مَا عتق. " وَفِي رِوَايَة عَن يحيى بن
سعيد وَأَيوب قَالَا: لَا نَدْرِي قَوْله: " وَإِلَّا فقد
عتق مِنْهُ مَا عتق " أَشَيْء قَالَه نَافِع أَو فِي
الحَدِيث. [15] وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن
ثَابت: وَقَوله: " وَإِذا كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن
العَبْد " يُقَال: إِنَّه من كَلَام الزُّهْرِيّ. [15]
الوكس: النُّقْصَان. والشطط: مُجَاوزَة الْقدر. وشططت
وأشططت: إِذا جرت فِي الحكم. [15] وَحكم الحَدِيث أَنه
إِذا أعتق الْمُوسر شِقْصا لَهُ فِي عبد عتق كُله وَضمن
قيمَة نصيب شَرِيكه، فَإِن كَانَ الْمُعْتق مُعسرا عتق
نصِيبه خَاصَّة وَلم يكن لشَرِيكه تضمين الْمُعْتق نصِيبه،
وَلَا استسعاء العَبْد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِنَّمَا يعْتق
حِصَّة الْمُعْتق خَاصَّة، وَالشَّرِيك مُخَيّر بَين أَن
يعْتق نصِيبه أَو يضمن قيمَة نصيب الْمُعْتق، وَبَين أَن
يستسعى العَبْد، سَوَاء كَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا أَو
مُعسرا، وَعَن أَحْمد نَحْو قَول أبي حنيفَة. وَالْكَلَام
مَعَ أبي حنيفَة فِي فصلين: أَحدهمَا فِي سرَايَة الْعتْق
إِلَى نصيب الشَّرِيك إِذا كَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا.
وَالثَّانِي: فِي إبِْطَال الْقبُول بالاستسعاء إِذا كَانَ
مُعسرا. [15] وَأما الْوَقْت الَّذِي يعْتق فِيهِ نصيب
شَرِيكه فَذَلِك عقيب الْإِيقَاع، وَلَا يقف عتقه على
أَدَاء قِيمَته، خلافًا لإحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك،
وَأحد
(2/507)
أَقْوَال الشَّافِعِي، ولداود، فِي
قَوْلهم: لَا يعْتق إِلَّا بِدفع الْقيمَة.
1074 - / 1288 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ:
مَا كُنَّا نَدْعُو زيد بن حَارِثَة إِلَّا زيد بن
مُحَمَّد حَتَّى نزل فِي الْقُرْآن: {ادعوهُمْ
لِآبَائِهِمْ} [الْأَحْزَاب: 5] . [15] كَانَ زيد بن
حَارِثَة قد خرجت بِهِ أمه سعدى بنت ثَعْلَبَة إِلَى
زِيَارَة قَومهَا، فأغارت خيل لبني الْقَيْن، فَمروا بزيد
فاحتملوه، فوافوا بِهِ سوق عكاظ فَعَرَضُوهُ للْبيع،
فَاشْتَرَاهُ حَكِيم بن حزَام لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة،
فَلَمَّا تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وهبته لَهُ، فَلَمَّا علم أَبوهُ وَعَمه قدما بفدائه إِلَى
مَكَّة، فدخلا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَا: يَا ابْن هَاشم، يَا ابْن سيد قومه، أَنْتُم أهل
حرم الله وجيرانه، تفكون العاني، وتطعمون الْأَسير، وَقد
جئْنَاك فِي ابننا عنْدك، فَامْنُنْ علينا وَأحسن
إِلَيْنَا فِي فدائه. قَالَ: " فَهَلا غير ذَلِك؟ "
قَالَا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: " ادعواه فخيراه، فَإِن
اختاركما فَهُوَ لَكمَا بِغَيْر فدَاء، وَإِن اختارني
فوَاللَّه مَا أَنا بِالَّذِي أخْتَار على من اختارني أحدا
" قَالَ: نعم هَذَا أبي، وه عمي. قَالَ: فَأَنا من قد علمت
وَرَأَيْت صحبتي لَك، فاخترني أَو اخترهما. فَقَالَ زيد:
مَا أَنا بِالَّذِي أخْتَار عَلَيْك أحدا، أَنْت مني
بمَكَان الْأَب وَالْعم، فَقَالَا: وَيحك يَا زيد، أتختار
الْعُبُودِيَّة على الْحُرِّيَّة وعَلى أَبِيك وعمك وَأهل
بَيْتك! قَالَ: نعم، إِنِّي قد رَأَيْت من هَذَا الرجل
شَيْئا مَا أَنا
(2/508)
بِالَّذِي أخْتَار عَلَيْهِ أحدا أبدا،
فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك
أخرجه إِلَى الْحجر فَقَالَ: " يَا من حضر، اشْهَدُوا أَن
زيدا ابْني، أرثه ويرثني " فَلَمَّا رأى ذَلِك أَبوهُ
وَعَمه طابت أَنفسهمَا وانصرفا، إِلَى أَن نزل قَوْله
تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فَحِينَئِذٍ دعِي زيد
بن حَارِثَة.
1075 - / 1289 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وضع رجله
فِي الغرز واستوت بِهِ رَاحِلَته أهل. [15] الغرز للجمل
كالركاب للْفرس. [15] وَقَوله: أهل: أَي لبّى. وَقد سبق
الْكَلَام فِي هَذَا، وَفِي أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يمس من الْأَركان سوى اليمانيين. وَبينا
أَنه لَو مس الرُّكْنَيْنِ الآخرين خرج الْحجر أَن يكون من
الْبَيْت. [15] قَوْله: ورأيتك تلبس النِّعَال السبتية.
هِيَ منسوبة إِلَى السبت. والسبت: جُلُود الْبَقر المدبوغة
بالقرظ، يتَّخذ مِنْهَا النِّعَال. وَهَذَا الحَدِيث يدل
على أَن السبت مَا لَا شعر فِيهِ من الْجلد؛ لِأَنَّهُ
قَالَ: رَأَيْته يلبس النِّعَال الَّتِي لبس فِيهَا شعر،
فَكَأَنَّهَا سميت سبتية لِأَن شعرهَا قد سبت عَنْهَا: أَي
حلق وأزيل. يُقَال: سبت رَأسه يسبته: إِذا حلقه. وَيُقَال:
سميت سبتيه لِأَنَّهَا انسبتت بالدباغ: أَي لانت، يُقَال:
رطبَة منسبتة: أَي لينَة. وَالَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عبيد
أَن السبتية هِيَ المدبوغة بالقرظ، وَلم ير قَول من قَالَ:
إِنَّهَا المحلوقة الشّعْر.
(2/509)
[15] وَقَوله: رَأَيْت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بالصفرة. يَعْنِي بِهِ خضاب
الشّعْر.
أخبرنَا عَليّ بن عبد الله وَأحمد بن الْحُسَيْن وَعبد
الرَّحْمَن بن مُحَمَّد قَالُوا: حَدثنَا عبد الصَّمد بن
الْمَأْمُون قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن عمر الْخُتلِي قَالَ:
حَدثنَا عِيسَى بن سُلَيْمَان الْقرشِي قَالَ: حَدثنَا
دَاوُد بن رشيد قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن سعيد
بن عبد الْعَزِيز عَن سُلَيْمَان ابْن مُوسَى عَن عبيد بن
جريج: أَنه رأى ابْن عمر يخضب بالصفرة ويخبر أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخضب بهَا. وَقد
رَوَاهُ زيد بن أسلم عَن عبيد قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر
يصفر لحيته، فَقلت لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصفر لحيته. وَقد
كَانَ جمَاعَة من الصَّحَابَة يخضبون بالصفرة، مِنْهُم
عُثْمَان وَابْن عمر وَمُعَاوِيَة وَابْن عَبَّاس والمقداد
وَعبد الله بن بسر والمقدام بن معد يكرب وَأَبُو أُمَامَة
الْبَاهِلِيّ وَعتبَة بن عبد السّلمِيّ وَالْحجاج بن علاط،
وَكَانَ بعدهمْ من التَّابِعين خلق يطول ذكرهم يخضبون
بالصفرة، قد ذكرتهم فِي كتاب " الشيب والخضاب ".
1076 - / 1290 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي وَهُوَ فِي معرسة من ذِي
الحليفة فِي بطن الْوَادي فَقيل لَهُ: إِنَّك ببطحاء
مباركة. [15] المعرس: مَوضِع نزُول الْقَوْم فِي سفرهم من
آخر اللَّيْل للراحة وَالنَّوْم.
(2/510)
[15] والبطحاء: كل متسع. [15] ويتحرى
بِمَعْنى يتوخى ويقصد.
1077 - / 1291 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: "
من اقتنى كَلْبا إِلَّا كلب صيد أَو مَاشِيَة فَإِنَّهُ
ينقص من أجره كل يَوْم قيراطان " وقِي لفظ: " إِلَّا كلب
ضارية " [15] يُقَال: ضري الْكَلْب يضرى ضراوة: إِذا حرص
على الصَّيْد واعتاده، وَفهم الزّجر والإرسال. وأضريته
أَنا: أَي عَلمته ذَلِك وعودته إِيَّاه ودربته عَلَيْهِ.
[15] والحرث: الزَّرْع. [15] وَقَول سَالم: كَانَ أَبُو
هُرَيْرَة يَقُول: " أَو كلب حرث " وَكَانَ صَاحب حرث.
هَذَا مَذْكُور فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقد رُوِيَ فِي
مَوضِع آخر ذكر أَنه لِابْنِ عمر أَن أَبَا هُرَيْرَة
قَالَ: " إِلَّا كلب صيد أَو زرع أَو مَاشِيَة " فَقَالَ:
إِن لأبي هُرَيْرَة زرعا. فتأول بعض من لم يوفق للصَّوَاب
أَن ابْن عمر قد اتهمَ أَبَا هُرَيْرَة. وَهَذَا محَال،
وَإِنَّمَا أَرَادَ تَصْدِيق أبي هُرَيْرَة، فَجعل حَاجته
إِلَى ذَلِك شَاهدا لَهُ على علمه ومعرفته، لِأَن من كثرت
حَاجته إِلَى شَيْء كثرت مَسْأَلته عَنهُ، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: جدير بِأبي هُرَيْرَة أَن يكون علم هَذَا عِنْده،
وَأَن يكون قد سَأَلَ عَنهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ. وَقد
روى عبد الله بن مُغفل وسُفْيَان بن أبي زُهَيْر عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، فَكيف يتهم، وَقد ذكرنَا أَن فِي
(2/511)
[15] الصَّحِيح عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: "
إِلَّا كلب زرع " وَهَذَا فِي رِوَايَة عمرَان بن
الْحَارِث عَنهُ، فَلَعَلَّ ابْن عمر سمع ذَلِك من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونسيه ثمَّ عَاد فَذكره،
وَلَعَلَّه أرسل الحَدِيث بذلك عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اعْتِمَادًا على رِوَايَة أبي هُرَيْرَة.
[15] وَعَامة أَصْحَاب ابْن عمر رووا عَنهُ " قيراطين ".
وروى عمرَان وَسَالم فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي بكر "
قيراطا وَاحِدًا " وروى عَنهُ سعيد بن الْمسيب قيراطين.
وكل هَذِه الْأَطْرَاف فِي الصَّحِيح. [15] وَإِنَّمَا نهى
عَن اقتناء الْكَلْب لمعنيين: أَحدهمَا: النَّجَاسَة،
وَكَانَت الْعَرَب قد ألفت اقتناءها، وَكَانَت تخالطهم فِي
أوانيهم. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يروع الضَّيْف ويؤذي
الطارق والسائل، فَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُول والمطروق
والمضيف لَا يَخْلُو من أجر فِي بذل مَا يبذله لهَؤُلَاء
وَلَو طيب الْكَلَام، وَكَانَ الْكَلْب سَببا لمنع ذَلِك،
نقص أجره لفقد مَا كَانَ الْكَلْب سَببا فِي مَنعه، وَلم
يقل أَنه يَأْثَم، وَلكنه أخبر بِنَقص الْأجر من هَذِه
الْوُجُوه الَّتِي منعهَا اقتناء الْكَلْب.
1078 - / 1293 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: "
إِذا أنزل الله بِقوم عذَابا أصَاب الْعَذَاب من كَانَ
فيهم ثمَّ بعثوا على أَعْمَالهم ". [15] قد يشكل هَذَا
فَيُقَال: كَيفَ يُصِيب الْعَذَاب من لم يفعل أفعالهم؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون فيهم
رَاضِيا بأفعالهم، أَو غير مُنكر لَهَا، فيعذب بِرِضَاهُ
الْمعْصِيَة، وسكوته عَن الْإِنْكَار، فَإِن
(2/512)
الصَّالِحين من بني إِسْرَائِيل لما
أَنْكَرُوا على المفسدين ثمَّ واكلوهم وصافوهم عَم
الْعَذَاب الْكل. وَالثَّانِي: أَن يكون إِصَابَة
الْعَذَاب لَهُم لَا على وَجه التعذيب، وَلَكِن يكون إماتة
لَهُم عِنْد انْتِهَاء آجالهم، كَمَا هَلَكت الْبَهَائِم
والمواشي فِي الطوفان بآجالها لَا بالتعذيب.
1079 - / 1294 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: "
لَا تزَال الْمَسْأَلَة بأحدكم حَتَّى يلقى الله وَلَيْسَ
فِي وَجهه مزعة لحم ". [15] هَذِه مَسْأَلَة الْغَنِيّ عَن
السُّؤَال. والمزعة: الْقطعَة من اللَّحْم. وَالْمرَاد
أَنه يَقع عِقَابه بشين وَجهه لِأَنَّهُ المبذول للسؤال،
كَمَا وَقع عِقَاب الْبَخِيل فِي إعراضه عَن الْفَقِير بكي
الْجَبْهَة وَالْجنب وَالظّهْر، لِأَنَّهُ إِذا رأى
الْفَقِير قبض وَجهه ثمَّ لوى جنبه ثمَّ أعطَاهُ ظَهره.
وَقد تَأَوَّلَه قوم على أَنه يَأْتِي لَا جاه لَهُ وَلَا
قدر، يُقَال: لفُلَان وَجه: أَي جاه، وَهَذَا لِأَن
السُّؤَال أسقط جاهه فِي الدُّنْيَا فَأتى على ذَلِك يَوْم
الْقِيَامَة. [15] وَإِنَّمَا كره السُّؤَال لثَلَاثَة
معَان: أَحدهَا: أَنه ذل، وذل يَنْبَغِي أَن يكون لمَالِكه
فَحسب. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يتَضَمَّن نوع شكوى من
الْقدر. وَالثَّالِث: أَن سُؤال الْغَنِيّ عَن الشَّيْء
مزاحمة لمن أعد لَهُ من الْفُقَرَاء وتضييق عَلَيْهِم،
وَقد كَانَ السّلف يحترزون من السُّؤَال الْجَائِز.
أخبرنَا هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ
التَّمِيمِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر ابْن مَالك قَالَ:
حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ:
حَدثنَا
(2/513)
مُوسَى بن دَاوُد قَالَ: حَدثنَا عبد الله
بن المؤمل عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: رُبمَا سقط الخطام
من يَد أبي بكر الصّديق فَيضْرب بِذِرَاع نَاقَته فينيخها
فَيَأْخذهُ، فَقَالُوا لَهُ: أَفلا أمرتنا نناولكه.
فَقَالَ: إِن حَبِيبِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَمرنِي أَن لَا أسأَل النَّاس شَيْئا. قَالَ
أَحْمد: وَحدثنَا وَكِيع قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب
عَن مُحَمَّد بن قيس عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن
ثَوْبَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: " من يتَقَبَّل لي بِوَاحِدَة وأتقبل لَهُ
بِالْجنَّةِ؟ " قَالَ: قلت أَنا. قَالَ: " لَا تسْأَل
النَّاس شَيْئا " فَكَانَ ثَوْبَان يَقع سَوْطه وَهُوَ
رَاكب فَلَا يَقُول لأحد: ناولنيه، حَتَّى ينزل فيتناوله.
108 - / 1295 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: أَنه
أطنب فِي ذكر الدَّجَّال. [15] أَي بَالغ فِي أَوْصَافه
وَالْبَيَان عَنهُ وَبَاقِي الحَدِيث مُفَسّر فِيمَا تقدم.
1081 - 1297 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: "
أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا، لَا إِلَه
إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ويقيموا
الصَّلَاة، ويؤتوا الزَّكَاة ". [15] وَقد تقدم الْكَلَام
فِي هَذَا. [15] وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْكفَّار
مخاطبون بالفروع، لأَنهم يُقَاتلُون على ذَلِك. [15] فَإِن
قيل: قد علق ترك الْقِتَال فِي مُسْند عمر بن الْخطاب
بالْقَوْل، وعلقه هَاهُنَا بأَشْيَاء مَعَ القَوْل.
فَالْجَوَاب: أَن حَدِيث عمر كَانَ فِي
(2/514)
مبدأ الْإِسْلَام، وَحَدِيث ابْن عمر وَأنس
متأخران بعد نزُول الْفَرَائِض.
1082 - / 1298 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: "
إِذا صَار أهل الْجنَّة إِلَى الْجنَّة وَأهل النَّار
إِلَى النَّار جِيءَ بِالْمَوْتِ فَيذْبَح ". [15] هَذَا
الحَدِيث فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ أبسط مِنْهُ
هَاهُنَا وأوضح، فسنذكر تَفْسِيره هُنَاكَ إِذا وصلنا
إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1083 - / 1299 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين:
صَحِبت النَّبِي فَلم أره يسبح فِي السّفر. [15] قد بَينا
فِيمَا تقدم أَنه المُرَاد بالتسبيح التَّنَفُّل. [15]
والأسوة: الْقدْوَة.
1084 - / 1300 وَفِي الحَدِيث السِّتين: " إِن الشَّمْس
وَالْقَمَر لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ ".
[15] وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أبي مُوسَى. وَذكرنَا
صَلَاة الْكُسُوف فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15]
1085 - / 1301 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: "
إِذا بدا حَاجِب الشَّمْس فدعوا الصَّلَاة حَتَّى تبرز،
وَلَا تَحَيَّنُوا بصلاتكم طُلُوع الشَّمْس وَلَا
غُرُوبهَا ".
(2/515)
[15] حَاجِب الشَّمْس: أول مَا يَبْدُو
مِنْهَا كالحاجب. وَهَذَا من أَوْقَات النهى عَن
التَّنَفُّل. [15] وَقد ذكرنَا معنى التحين فِي الحَدِيث
الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ من هَذَا الْمسند. [15] وَأما
قَوْله: " بَين قَرْني الشَّيْطَان " فَفِيهِ ثَلَاثَة
أوجه: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى: تطلع والشيطان يقارنها.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لم يرد مَا يتخيل كقرن الشَّاة،
وَإِنَّمَا الْقرن حرف الرَّأْس، وللرأس قرنان: أَي حرفان،
فالشيطان ماثل مَعَ الشَّمْس حِين تطلع، لِأَنَّهُ وَقت
كَانَ عباد الشَّمْس يَسْجُدُونَ لَهَا، فإبليس حِينَئِذٍ
فِي جِهَة مطْلعهَا. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: أَن
الشَّيْطَان يَتَحَرَّك عِنْد طُلُوعهَا ويتسلط، قَالَه
إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ. وَالثَّالِث: أَن معنى قرن
الشَّيْطَان: قوته، تَقول: أَنا مقرن لهَذَا الْأَمر: أَي
مطيق، فالشيطان يقوى أمره فِي حَال طُلُوعهَا وغروبها
لمَكَان تسويله لعبدتها السُّجُود لَهَا، ذكره أَبُو
سُلَيْمَان الْخطابِيّ.
1086 - / 1303 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ:
نهى عَن أكل الثوم، وَعَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة.
[15] اعْلَم أَن مُطلق النَّهْي عَن الشَّيْء يدل على
تَحْرِيمه إِلَّا أَن يدل دَلِيل على أَنه نهي كَرَاهَة،
ثمَّ اتِّفَاق الشَّيْئَيْنِ فِي النَّهْي دَلِيل على
استوائهما إِلَّا أَن يدل دَلِيل على أَنه نهي كَرَاهَة
أَو نهي تَحْرِيم. وَقد دلّ الدَّلِيل على أَن النَّهْي
عَن أكل الثوم نهي كَرَاهَة؛ لِأَنَّهُ مُعَلل بالتأذي
بِالرِّيحِ،
(2/516)
ودلت قرينَة قَوْله فِي لُحُوم الْحمر
الْأَهْلِيَّة: " اكفئوا الْقُدُور، فَإِنَّهَا رِجْس "
على أَنه نهي تَحْرِيم. لِأَن تَضْييع المَال لَا يجوز.
والرجس: النَّجس.
1087 - / 1304 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ:
أَنهم نزلُوا أَرض ثَمُود، فاستقوا من آبارها، وعجنوا بِهِ
الْعَجِين، فَأَمرهمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن يهريقوا مَا استقوا، ويعلفوا الْإِبِل الْعَجِين. [15]
لما لعن قوم ثَمُود أثرت لعنتهم فِي مِيَاههمْ وأماكنهم،
كَمَا تُؤثر الْبركَة فِي الْمِيَاه والأماكن. وَقد شرحنا
هَذَا فِي الحَدِيث التَّاسِع عشر من هَذَا الْمسند.
1088 - / 1305 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ:
أعْطى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَر
بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا. وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي
مُسْند عمر. [15] وَقَوله: كَانَ يُعْطي أَزوَاجه مائَة
وسق، الوسق: سِتُّونَ صَاعا، والصاع خَمْسَة أَرْطَال
وَثلث بالعراقي. [15] وَقَوله: نهى عَن كِرَاء الْمزَارِع.
إِنَّمَا نهى ليرفق الْقَوْم بَعضهم بَعْضًا. ثمَّ قد
كَانُوا يكرونها بِشَيْء مَجْهُول وَذَلِكَ أَمر مَنْهِيّ
عَنهُ، وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند رَافع بن خديج. [15]
وَقَوله: إِن عمر أجلى الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَرض
الْحجاز. إجلاء الْقَوْم: إخراجهم عَن مَنَازِلهمْ وطردهم
عَنْهَا. فَأَما الْحجاز فَقَالَ ابْن
(2/517)
فَارس: قَالَ قوم: سمي حجازا من قَوْلهم:
حجز الرجل الْبَعِير يحجزه: إِذا شده إِلَى رسغه، فَكَأَن
ذَلِك قيد لَهُ، والجبل حجاز، وَقيل: سمي حجازا لِأَنَّهُ
احتجز بالجبال، يُقَال: احتجزت الْمَرْأَة: إِذا شدت
ثِيَابهَا على وَسطهَا وائتزرت، وَتلك هِيَ الحجزة، وَزعم
نَاس أَن الحزة خطأ، والحجزة والحزة سَوَاء، وَلَكِن الحزة
لُغَة لبني الْحَارِث بن كَعْب. قَالَ الْحَارِثِيّ:
(يرقون فِي النّخل حَتَّى ينزلُوا أصلا ... فِي كل حزة سيح
مِنْهُم بسر)
[15] وَالْأَصْل عندنَا فِي الْحجاز أَنه حاجز بَين
أَرضين. وَقِيَاس الْمَنْع على مَا قُلْنَاهُ. وكل مَوضِع
يمْتَنع بِهِ الْإِنْسَان فَهُوَ حجاز، وَقَالَ
النَّابِغَة فِي الحجزة، وكنى بهَا عَن الْبدن:
(رقاق النِّعَال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يَوْم
السباسب)
وتيماء أَرض مَعْرُوفَة. وأريحاء: هِيَ أَرض بَيت
الْمُقَدّس كَذَلِك. [15] قَالَ السّديّ: وَقَوله: وَكَانَ
التَّمْر يقسم على السهْمَان من نصف. الْمَعْنى أَن
الْقَوْم كَانُوا يعْملُونَ فِيهَا على وَجه الْمُسَاقَاة
كَمَا ذكرنَا فِي
(2/518)
مُسْند عمر، فَيَأْخُذُونَ النّصْف، ثمَّ
يقسم النّصْف الْبَاقِي على السهْمَان كَمَا تقسم
الْغَنِيمَة. [15] وَقَوله: فَيَأْخُذ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْخمس. وَيحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: يَأْخُذ الْخمس من النّصْف فيفرقه على خَمْسَة
أسْهم وَالْبَاقِي لمن شهد الْوَقْعَة. وَالثَّانِي:
يَأْخُذ الْخمس لنَفسِهِ، فَيكون المُرَاد خمس الْخمس.
ثمَّ إِن عمر قسم خَيْبَر على من شَهِدَهَا. [15] وَقَوله:
ولرسول الله شطر ثَمَرهَا. قد بَيناهُ فِي أول الْكَلَام.
1089 - / 1306 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ:
" انهكوا الشَّوَارِب وَاعْفُوا اللحى " وَفِي لفظ آخر: "
اُحْفُوا الشَّوَارِب ". النهك: النُّقْصَان، يُقَال:
نهكته الْحمى: إِذا بالغت فِي نُقْصَان قوته. وَالْمعْنَى:
بالغوا فِي الْأَخْذ مِنْهَا. [15] وَقَوله: " أحفوا
الشَّوَارِب " قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: أحفيت الشَّارِب
إحفاء: إِذا أخذت مِنْهُ. والحفي: المستقصي فِي السُّؤَال.
[15] وَأما إعفاء اللِّحْيَة فَهُوَ توفيرها وتكبيرها.
قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: عَفا الشّعْر وَغَيره: إِذا
كثر، يعْفُو؛ فَهُوَ عاف، وَقد عفوته وأعفيته، لُغَتَانِ.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى عفوا} [الْأَعْرَاف: 95]
أَي كَثُرُوا وَكَثُرت أَمْوَالهم. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند
أبي هُرَيْرَة " جزوا الشَّوَارِب وأرخوا اللحى، وخالفوا
الْمَجُوس " وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ من زِيّ آل كسْرَى
قصّ اللحى
(2/519)
وتوفير الشَّارِب، فَأمر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أمته بمخالفتهم فِي الْهَيْئَة، وَفِي
ذَلِك أَرْبَعَة معَان: أَحدهَا: مُخَالفَة الْكفَّار.
وَفِي الثَّانِي: أَنه أجمل وَأحسن. وَالثَّالِث: أَنه
أطيب وأنظف، فَإِن الْإِنْسَان إِذا أكل أَو شرب أَو قبل
مَنعه طول الشَّارِب من كَمَال الالتذاذ، وَرُبمَا دخل
الشّعْر فِي الْفَم مَعَ المتناول، ثمَّ يحصل فِيهِ من
الزهم والوسخ، واللحية بعيدَة عَن ذَلِك. وَالرَّابِع: أَن
الله تَعَالَى خلق اللِّحْيَة على صفة تقبل الطول بِخِلَاف
الشَّارِب، فَإِنَّهُ لَا يطول كطولها، فَكَانَ المُرَاد
مُوَافقَة الْحق عز وَجل فِيمَا رتب. [15] فَأَما
الْفطْرَة فَإِنَّهَا كلمة تقال على أوجه قد ذَكرنَاهَا
فِي مُسْند الْبَراء. وَالْمرَاد بهَا هَاهُنَا السّنة.
1090 - / 1307 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر
وَعمر يصلونَ الْعِيدَيْنِ قبل الْخطْبَة. [15] قد بَينا
عِلّة تَأْخِير الْخطْبَة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1091 - / 1308 - وَفِي الْحَادِث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم
الْجُمُعَة قَائِما ثمَّ يجلس ثمَّ يقوم. [15] قد بَينا
أَن الْقيام والقعدة بَين الْخطْبَتَيْنِ عندنَا سنة،
وَأَن الشَّافِعِي يرى ذَلِك وَاجِبا.
(2/520)
1092 - / 1309 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يعرض رَاحِلَته فَيصَلي إِلَيْهَا. [15] وَالْمعْنَى:
ينحيها فِي عرض الْقبْلَة، وَفِيه لُغَتَانِ: يعرض ويعرض.
1093 - / 1310 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين والعنزة بَين
يَدَيْهِ. العنزة: عَصا شَبيهَة بالعكاز، وَهِي الحربة.
1094 - / 1313 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: "
اجعلوا من صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ ". الْإِشَارَة
بِهَذَا إِلَى السّنَن والنوافل.
1095 - / 1314 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: "
إِذا وضع عشَاء أحدكُم وأقيمت الصَّلَاة فابدءوا بالعشاء
". [15] اعْلَم أَن هَذَا ورد فِي حق الجائع الَّذِي قد
تاقت نَفسه إِلَى الطَّعَام، أَمر بذلك لِئَلَّا يشْتَغل
قلبه فِي الصَّلَاة بِذكر الطَّعَام عَن الْخُشُوع والفكر.
وَقد ظن قوم أَن هَذَا من بَاب تَقْدِيم حَظّ العَبْد على
حق الْحق، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة لحق
الْحق، ليدخلوا فِي الْعِبَادَة بقلوب مقبلة غير
مَشْغُولَة بِذكر الطَّعَام. وَإِنَّمَا كَانَ عشَاء
الْقَوْم يَسِيرا لَا يقطع عَن لحاق الْجَمَاعَة، يدل على
مَا قُلْنَاهُ مَا سَيَأْتِي من حَدِيث عَمْرو بن أُميَّة
(2/521)
الضمرِي قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل ذِرَاعا يحتز مِنْهَا، فدعي
إِلَى الصَّلَاة، فَقَامَ وَطرح السكين، فصلى وَلم
يتَوَضَّأ.
1096 - / 1315 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: فرض
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر صَاعا
من تمر أَو صَاعا من شعير. [15] الصَّاع مكيال مَعْرُوف
قدره خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي، وَهَذَا قدر صَاع
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ قَول مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الصَّاع
ثَمَانِيَة أَرْطَال. وَقد سبق بَيَان هَذَا. [15] وَأما
ذكر التَّمْر وَالشعِير خَاصَّة فَلِأَنَّهُ كَانَ أَكثر
قوت الْقَوْم. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي سعيد ذكر الْبر
وَالزَّبِيب والأقط. [15] وَلَا يَجْزِي عندنَا أقل من
صَاع من أَي الْأَجْنَاس الْمَنْصُوص عَلَيْهَا كَانَ،
وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:
يَجْزِي نصف صَاع بر، وَهُوَ المُرَاد بقول ابْن عمر:
فَعدل النَّاس بِهِ نصف صَاع بر. وَعِنْدنَا أَنه يجوز
إِخْرَاج الصَّاع من جِنْسَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:
يَجْزِي على وَجه الْقيمَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ:
لَا يَجْزِي بِحَال. [15] وَقَوله: على كل حر وَعبد، ذكر
وَأُنْثَى من الْمُسلمين. هَذَا دَلِيل على أَن
الْإِنْسَان لَا تلْزمهُ فطْرَة عَن عَبده الْكَافِر،
وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: تلْزمهُ. وَعِنْدنَا أَن الْفطْرَة تجب على
العَبْد الْمُشرك، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا
(2/522)
تجب. وَاخْتلف الرِّوَايَة عَن أَحْمد: كم
يخرج كل مَالك، فروى عَنهُ نصف صَاع، وَهُوَ اخْتِيَار
الْخرقِيّ. [15] وَقَوله: وَأَن تُؤَدّى قبل خُرُوج
النَّاس للصَّلَاة، عندنَا أَن صَدَقَة الْفطر تجب بغروب
الشَّمْس من لَيْلَة الْفطر، وَهُوَ قَول مَالك فِي
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجب بِطُلُوع الْفجْر من يَوْم
الْفطر، وَهِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن مَالك،
وَالْقَوْل الْقَدِيم للشَّافِعِيّ. فَأَما وَقت
إخْرَاجهَا فَالْأَفْضَل أَن يُخرجهَا قبل صَلَاة الْعِيد،
فَإِن قدمهَا قبل الْفطر بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ جَازَ
كَمَا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا تجوز الزِّيَادَة على
ذَلِك. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز إخْرَاجهَا من أول
رَمَضَان، وَلَا يجوز قبله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز
تَقْدِيمهَا على رَمَضَان.
1097 - / 1316 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: لَا
تُسَافِر الْمَرْأَة ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم.
[15] إِنَّمَا ذكرت الثَّلَاث لِأَنَّهَا مِقْدَار السّفر
الشَّرْعِيّ الَّذِي تقصر فِيهِ الصَّلَاة. وَسَيَأْتِي
فِي مُسْند أبي سعيد: " لَا تُسَافِر الْمَرْأَة
يَوْمَيْنِ " وَفِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: " مسيرَة يَوْم
وَلَيْلَة " وَقد ذكرنَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: " لَا
تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا مَعَ ذِي محرم " وَلم تذكرة
مُدَّة، وَهَذَا لِأَن بعْدهَا عَن الْمنَازل غير
مَأْمُون. وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
(2/523)
1098 - / 1317 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالسبْعين: أَن ابْن عمر أحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة،
فَانْطَلق يهل بهما حَتَّى قدم مَكَّة، فَطَافَ
بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة، وَلم يحلل حَتَّى كَانَ
يَوْم النَّحْر فَنحر، وَرَأى أَن قد قضى طواف الْحَج
وَالْعمْرَة بطوافه الأول، وَقَالَ: كَذَلِك فعل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] هَذَا يدل على أَن
قَارن تدخل أَفعَال عمرته فِي حجه عِنْد نِيَّة الْقرَان،
فيجتزي لَهما بِإِحْرَام وَاحِد وَطواف وَاحِد وسعي وَاحِد
وحلاق وَاحِد، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
بن حَنْبَل، وَهل تجزيه هَذِه الْعمرَة عَن عمْرَة
الْإِسْلَام؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: لَا يَجْزِي الْقَارِن إِلَّا طوافان
وسعيان. فَأَما الْإِحْرَام والحلاق الْوَاحِد فيجزيه،
لِأَن الْإِحْرَام عِنْده شَرط، وَلَيْسَ من الْحَج،
والحلاق لَيْسَ بنسك، إِنَّمَا هُوَ مُحَلل كالسلام من
الصَّلَاة.
1099 - / 1319 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: أَن
الْعَبَّاس اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن يبيت بِمَكَّة ليَالِي منى من أجل سقايته، فَأذن لَهُ.
[15] اعْلَم أَن الْمبيت بمنى ليَالِي منى من وَاجِبَات
الْحَج، وَإِنَّمَا رخص لأجل السِّقَايَة والرعاء فَإِذا
ترك غَيرهم الْمبيت فِي منى فَمَا الَّذِي يلْزمه؟ فِيهِ
ثَلَاث رِوَايَات عَن أَحْمد: إِحْدَاهُنَّ: يلْزمه دم.
وَالثَّانيَِة:
(2/524)
تلْزمهُ صَدَقَة. وَالثَّالِثَة: لَا شَيْء
عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.
1100 - / 1320 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج من طَرِيق
الشَّجَرَة وَيدخل من طَرِيق المعرس. وَفِي رِوَايَة: أَنه
دخل مَكَّة من كداء من الثَّنية الَّتِي عِنْد الْبَطْحَاء
وَخرج من الثَّنية السُّفْلى. [15] هَذِه كلهَا أَسمَاء
مَوَاضِع. وكداء هَاهُنَا مَفْتُوح الْكَاف مَمْدُود،
وَهُوَ الَّذِي يسْتَحبّ الدُّخُول مِنْهُ، وبمكة ثَلَاث
مَوَاضِع تشتبه بِكدَاء قد بيناها فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس.
1101 - / 1321 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: لما
خلع أهل الْمَدِينَة يزِيد بن مُعَاوِيَة جمع ابْن عمر
حشمه وَولده.
الحشم: خدم الرجل وَأَتْبَاعه. [15] وَقَوله: كَانَ الفيصل
بيني وَبَينه. و " الفيصل " " فيعل " من الْفَصْل،
وَأَرَادَ بهَا القطيعة التَّامَّة. وَهَذَا يدل على
الصَّبْر على الإِمَام وَإِن جَار. [15] وَقد تكلمنا على
قَوْله: " لكل غادر لِوَاء " فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1102 - / 1322 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: عرضت
على النَّبِي
(2/525)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد وَأَنا
ابْن أَربع عشرَة فَلم يجزني، وَعرضت عَلَيْهِ عَام
الْفَتْح وَأَنا ابْن خمس عشرَة فأجازني. [15] هَكَذَا
ذكره الْحميدِي، وَهُوَ سَهْو، وَلَيْسَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ هَكَذَا، وَإِنَّمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
جَمِيعًا: وَعرضت عَلَيْهِ يَوْم الخَنْدَق فأجازني. وَأول
من سَهَا فِي هَذَا أَبُو مَسْعُود صَاحب " التعليقة "،
ثمَّ تبعه خلف صَاحب " التعليقة " الْأُخْرَى، ثمَّ تبعهما
أَبُو عبد الله الْحميدِي، وَلم ينْظرُوا فِي هَذَا.
وَالْعجب من صَاحب حَدِيث يتَكَرَّر هَذَا على سَمعه وَلَا
يتدبره، فَإِن غزَاة أحد كَانَت فِي سنة ثَلَاث وغزاة
الْفَتْح كَانَت فِي سنة ثَمَان. فَمن يكون فِي غزَاة أحد
ابْن أَربع عشر كَيفَ يكون بعد خمس سِنِين ابْن خمس عشرَة؟
1103 - / 1323 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: "
الْخَيل فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
". [15] قد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جرير بن عبد الله.
1104 - / 1324 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: "
إِن العَبْد إِذا نصح لسَيِّده وَأحسن عبَادَة الله عز
وَجل فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ ". [15] وَإِنَّمَا ضوعف أجر
العَبْد لِأَن خدمَة السَّيِّد تشغل عَن عبَادَة الله عز
(2/526)
وَجل، فَإِن تحمل الْمَشَقَّة فِي الْجمع
بَين الْحَقَّيْنِ ضوعف لَهُ أجره، فَلهُ أجر بِعبَادة
ربه، وَأجر بِخِدْمَة سَيّده، وَكلما كثرت المشاق زَاد
الْأجر.
1105 - / 1325 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: "
على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِيمَا أحب أَو
كره إِلَّا أَن يُؤمر بِمَعْصِيَة ". [15] الْإِشَارَة
بِهَذَا إِلَى طَاعَة الْأُمَرَاء، فَهِيَ لَازِمَة فِيمَا
لَيْسَ بِمَعْصِيَة لله عز وَجل.
1106 - / 1326 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين:
أجْرى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ضمر من
الْخَيل من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع. وَأما تضمير
الْخَيل فقد فسرناه فِي مُسْند سهل بن سعد. [15] والحفياء:
اسْم مَوضِع. وَاخْتلفُوا كم بَينه وَبَين ثنية الْوَدَاع؟
فَقَالَ: مُوسَى بن عقبَة: سِتَّة أَمْيَال أَو سَبْعَة.
وَقَالَ البُخَارِيّ: قَالَ سُفْيَان: من الحفياء إِلَى
ثنية الْوَدَاع خَمْسَة أَمْيَال أَو سِتَّة. وَمن ثنية
الْوَدَاع إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق ميل. [15] والأمد:
الْغَايَة. وَالْمرَاد أَنه جعل غَايَة المضامير أبعد من
غَايَة مَا لم يضمر. [15] وَقَوله: فطفف بِي الْفرس
الْمَسْجِد. قَالَ أَبُو عبيد: يَعْنِي أَن الْفرس وثب
حَتَّى كَاد يُسَاوِي مَسْجِد بني زُرَيْق. وَمن هَذَا
قيل: إِنَاء طفان:
(2/527)
وَهُوَ الَّذِي قرب أَن يمتلئ أَو يُسَاوِي
الْمِكْيَال. والاقتحام: دُخُول الشَّيْء بِشدَّة. [15]
فَأَما الْمُسَابقَة بِالْخَيْلِ فَإِنَّهَا تجوز بعوض
وَبِغير عوض. فَإِن سَابق بعوض كَانَ العقد كالجعالة فِي
إِحْدَى الْوَجْهَيْنِ لنا، يجوز فَسخه وَيجوز الزِّيَادَة
فِيهِ، وَلَا يُؤْخَذ فِيهِ رهنا وَلَا ضمينا، وَلَا يلْزم
إِلَّا بِوُجُود السَّبق، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة. وَفِي
الْوَجْه الآخر هُوَ كالإجازة تلْزم بِمُجَرَّد العقد،
وَلَا يجوز فَسخه وَلَا الِامْتِنَاع من إِتْمَامه، وَلَا
الزِّيَادَة فِيهِ، ويدخله الرَّهْن والضمين. وَعَن
الشَّافِعِي كالوجهين. وَلَا بُد من تعْيين الْفرس وتحديد
الْمسَافَة وَالْعلم بِالْعِوَضِ. وَيجوز السَّبق
بِالْإِبِلِ أَيْضا. [15] والسبق فِي الْخَيل: أَن يسْبق
أَحدهمَا بِالرَّأْسِ إِذا تماثلت الْأَعْنَاق، فَإِن
اخْتلفت الفرسان فِي طول الْعُنُق أَو كَانَ السَّبق فِي
الْإِبِل اعْتبر السَّبق بالكتف. [15] وَلَا تجوز
الْمُسَابقَة بَين جِنْسَيْنِ كَالْإِبِلِ وَالْخَيْل،
وعَلى نَوْعَيْنِ كالعربي والهجين. وَقد يتَخَرَّج
الْجَوَاز بِنَاء على تساويهما فِي سهم الْغَنِيمَة.
وَتجوز الْمُسَابقَة على البغال وَالْحمير والفيلة،
وبالطيور والرماح والمزاريق والسماريات بِغَيْر عوض، وَلَا
يجوز فِي شَيْء من ذَلِك بعوض، وَكَذَلِكَ المصارعة.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجوز المصارعة بعوض، وَعَن
الشَّافِعِي كالمذهبين: فَأَما الْمُسَابقَة على
الْأَقْدَام فَلَا تجوز بعوض. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجوز.
وَعَن الشَّافِعِيَّة كالمذهبين. وَإِذا شَرط فِي
الْمُسَابقَة أَن من غلب أطْعم السَّبق أَصْحَابه بَطل
الشَّرْط، وَهل يَصح
(2/528)
العقد؟ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يَصح،
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَالثَّانِي: يبطل، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي.
1107 - / 1327 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: "
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم فِي النَّفْل
للْفرس سَهْمَيْنِ وللرجل سهم. [15] المُرَاد بالنفل
الْأَنْفَال: وَهِي الْغَنَائِم، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان
الْخطابِيّ: فِي هَذَا بَيَان أَن الْفَارِس يَأْخُذ
ثَلَاثَة أسْهم: سَهْما باسم نَفسه، وسهمين باسم فرسه،
وَذَلِكَ لما يلْزمه من الْمُؤْنَة للْفرس. فَأَما مَا
جَاءَ فِي الحَدِيث: " للفارس سَهْمَان " فَإِنَّهُمَا
سَهْما فرسه، وسهمه لنَفسِهِ ثَابت، والمجمل يرد إِلَى
الْمُفَسّر.
1108 - / 1330 - وَفِي الحَدِيث التسعين: " نهى عَن
الشّغَار. وَفِي لفظ حَدِيث مَالك: نهى عَن الشّغَار،
والشغار أَن يُزَوّج الرجل ابْنَته الرجل على أَن يُزَوجهُ
ابْنَته وَلَيْسَ بَينهمَا صدَاق. فقد درج هَذَا فِي
الحَدِيث وَلَيْسَ من كَلَام رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا هُوَ قَول مَالك، أَعنِي
تَفْسِير الشّغَار. وَفِي رِوَايَة: أَن نَافِعًا فسره
أَيْضا. [15] وَاعْلَم أَن صفة الشّغَار مَا ذكرنَا،
وَهُوَ أَن يَقُول: زَوجتك ابْنَتي على أَن تزَوجنِي
ابْنَتك بِغَيْر صدَاق. وَقَالَ الشَّافِعِي: هَذِه صفته،
وفيهَا
(2/529)
زِيَادَة: وَهُوَ أَن يَقُول: وَيَضَع كل
وَاحِدَة مِنْهُمَا مهر الْأُخْرَى، وَإِن لم يقل هَذَا
فَالنِّكَاح صَحِيح، وَلكُل مِنْهُمَا مهر الْمثل. وَقد
فسر نَافِع وَمَالك الشّغَار فِي هَذَا الحَدِيث على مَا
ذكرنَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا قَالَ الشَّافِعِي. [15]
وَنِكَاح الشّغَار عندنَا بَاطِل؛ لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالك
وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ بباطل،
وَلكُل وَاحِدَة مهر مثلهَا، وَإِنَّمَا النَّهْي عِنْده
أَن يسْتَحل الْفرج بِغَيْر مهر. وأصل الشّغَار الرّفْع،
يُقَال: شغر الْكَلْب بِرجلِهِ: إِذا رَفعهَا عِنْد
الْبَوْل، فَسُمي هَذَا النِّكَاح لِأَنَّهُمَا رفعا
الْمهْر بَينهمَا. وعَلى الْحَقِيقَة إنَّهُمَا رفعا مَا
يجوز أَن يكون مهْرا، وَجعلا مَا لَيْسَ بِمهْر مهْرا
وَهُوَ الْبضْع، فَصَارَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ معقودا؛
لِأَن العقد للْمَرْأَة وَبهَا، فَكَأَنَّهُ زَوجهَا
وَاسْتثنى بضعهَا فَجعله مهْرا لصاحبتها فَكَانَ بَاطِلا.
1109 - / 1331 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: "
أَن رجلا رمى امْرَأَته وانتفى من وَلَدهَا، فَأَمرهمَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَلَاعَنا، ثمَّ
قضى بِالْوَلَدِ للْمَرْأَة، وَفرق بَين المتلاعنين. [15]
أما قَضَاؤُهُ بِالْوَلَدِ للْمَرْأَة فَمَعْنَاه أَنه
ألحقهُ بهَا لِأَنَّهُ مِنْهَا قطعا. وَأما التَّفْرِيق
بَين المتلاعنين فَإِنَّهُ يحصل بلعانهما، هَذَا
مَذْهَبنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَبِه قَالَ
مَالك، وَفِي الْأُخْرَى: لَا يَقع بِمُجَرَّد لعانهما
إِلَّا أَن يُضَاف إِلَيْهِ حكم الْحَاكِم، وَهُوَ قَول
أبي حنيفَة.
(2/530)
[15] وَاخْتلفُوا: هَل تَحْرِيم اللّعان
مؤبد أم لَا؟ فالمنصور من مَذْهَبنَا أَنه مؤبد، وَعَن
أَحْمد أَنه يرْتَفع بتكذيب الرجل نَفسه، وَهُوَ قَول أبي
حنيفَة. [15] وَقَوله: أول من سَأَلَ عَن هَذَا فلَان بن
فلَان. قد بَينه فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَقَالَ: فرق
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أخوي بني
العجلان. وَهَذَا يدل على أَنَّهَا قصَّة عُوَيْمِر بن
الْحَارِث الْعجْلَاني. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن
مَسْعُود. وَقد مر حَدِيث اللّعان فِي مُسْند سهل بن سعد
ومسند ابْن عَبَّاس.
1110 - / 1333 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين: "
الْمُؤمن يَأْكُل فِي معي وَاحِد " وَقد سبق فِي مُسْند
أبي مُوسَى.
1111 - / 1335 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: لما
توفّي عبد الله بن أبي جَاءَ ابْنه عبد الله إِلَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ أَن يُعْطِيهِ
قَمِيصه يُكفن فِيهِ أَبَاهُ فَأعْطَاهُ. [15] عبد الله بن
أبي رَأس الْمُنَافِقين، وَقد ذكرنَا حَاله فِي مُسْند
عمر. وَكَانَ ابْنه عبد الله من صالحي الصَّحَابَة، شهد
بَدْرًا والمشاهد كلهَا، وَلما قَالَ ابْن أبي فِي غزَاة
الْمُريْسِيع: (لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن
الْأَذَل) وَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم جَاءَ إِلَيْهِ عبد الله فَقَالَ: يَا رَسُول الله
بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ قتل أبي لما بلغك عَنهُ، فَإِن كنت
فَاعِلا فمرني
(2/531)
فَأَنا أحمل إِلَيْك رَأسه، فَإِنِّي
أخْشَى أَن يقْتله غَيْرِي فَلَا تدعني نَفسِي حَتَّى أقتل
قَاتله فَأدْخل النَّار. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: " بل نحسن صحبته مَا بَقِي مَعنا "
فَلَمَّا أَرَادَ ابْن أبي أَن يدْخل الْمَدِينَة جَاءَ
ابْنه فَقَالَ: وَرَاءَك. قَالَ: مَالك؟ وَيلك. قَالَ: لَا
وَالله، لَا تدْخلهَا أبدا إِلَّا بِإِذن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لتعلم الْيَوْم من الْأَعَز وَمن
الْأَذَل. فَلَمَّا مَاتَ طلب وَلَده قَمِيص رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْطَاهُ. وَاخْتلفُوا لم
أعطَاهُ؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لإكرام
الْوَلَد. الثَّانِي: لِأَنَّهُ مَا سُئِلَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا فَقَالَ لَا. وَالثَّالِث:
لِأَنَّهُ كَانَ قد أعْطى الْعَبَّاس قَمِيصًا لما أسر
يَوْم بدر، وَلم يكن على الْعَبَّاس ثِيَاب يَوْمئِذٍ،
فَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكافأته
على ذَلِك. وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1112 - / 1336 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين: "
الْحمى من فيح جَهَنَّم فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". [15]
قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند رَافع بن خديج.
1113 - / 1337 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطع سَارِقا فِي مجن
قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم. [15] الْمِجَن: الترس. قَالَ
الْخطابِيّ: كَانَ الأَصْل فِي النَّقْد عِنْدهم
الدَّنَانِير، وَكَانَ صرف الدِّينَار اثْنَي عشر درهما،
فَثَلَاثَة دَرَاهِم ربع
(2/532)
دِينَار، فَلَا فرق بَينه وَبَين حَدِيث
عَائِشَة. [15] وَاعْلَم أَن النّصاب فِي السّرقَة فِي
مَذْهَب أَحْمد ربع دِينَار أَو ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو
قيمَة ثَلَاثَة دَرَاهِم من الْعرُوض، والأثمان أصل لَا
يقوم بَعْضهَا بِبَعْض، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: النّصاب دِينَار أَو عشرَة دَرَاهِم أَو قيمَة
أَحدهمَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: النّصاب ربع دِينَار أَو
مَا قِيمَته ربع دِينَار. وَيجب الْقطع عندنَا بِسَرِقَة
مَا يسْرع إِلَيْهِ الْفساد، وبسرقه الصيود والطيور
الْمَمْلُوكَة، وبسرقة الْحَطب، خلافًا لأبي حنيفَة.
1114 - / 1338 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: "
دخلت امْرَأَة النَّار فِي هرة ربطتها، فَلم تطعمها وَلم
تدعها تَأْكُل من خشَاش الأَرْض ". [15] خشَاش الأَرْض:
دوابها وحشراتها وهوامها.
1115 - / 1339 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: " أخبروني عَن
شَجَرَة كَالرّجلِ الْمُسلم لَا يتحات وَرقهَا ... وَلَا
... وَلَا ... وَلَا ... ". [15] الشّجر فِي اللُّغَة: كل
مَا قَامَ على سَاق: وتحات الْوَرق: وَقع من الأغصان. [15]
وَقَوله: " وَلَا ... وَلَا ... وَلَا ... " يصف فِيهِ مَا
يُوجب مدحها.
(2/533)
والجمار: شحمة النّخل، وَوجه تَشْبِيه
الشَّجَرَة بِالرجلِ الْمُسلم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: من
حَيْثُ الذَّات، وَالثَّانِي: من حَيْثُ الْمَعْنى، فَأَما
من حَدِيث الذَّات فَمن وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنَّهَا من
فضلَة تربة آدم على مَا يرْوى وَإِن كَانَ لَا يثبت.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِذا قطع رَأسهَا يَبِسَتْ بِخِلَاف
سَائِر الشّجر؛ فَإِنَّهُ يتشعب غصونه من جوانبه، والآدمي
قد يبْقى عِنْد قطع أَعْضَائِهِ وَلَا يبْقى عِنْد قطع
رَأسه. وَأما من حَيْثُ الْمَعْنى فَمن أَرْبَعَة أوجه:
أَحدهَا: أَنه لَيْسَ فِيهَا شَيْء إِلَّا وَينْتَفع بِهِ،
كَمَا أَن الْمُؤمن كُله خير ونفع، وَهَذَا الْمَعْنى
مَذْكُور فِي بَقِيَّة الحَدِيث؛ فَإِنَّهُ قَالَ: " لَهَا
بركَة كبركة الْمُسلم ". وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَدِيدَة
الثُّبُوت كثبوت الْإِيمَان فِي قلب الْمُؤمن.
وَالثَّالِث: أَنَّهَا عالية الْفُرُوع كعلو ارْتِفَاع عمل
الْمُؤمن. وَالرَّابِع: أَنَّهَا تؤتي أكلهَا كل حِين،
وَالْمُؤمن يكْتَسب الثَّوَاب فِي كل وَقت. [15] وَالْأكل:
الثَّمَرَة. [15] وللمفسرين فِي المُرَاد بالحين هَاهُنَا
سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه ثَمَانِيَة أشهر، قَالَه
عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَالثَّانِي: سِتَّة أشهر،
رَوَاهُ ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ الْحسن
وعكرمه. وَالثَّالِث: بكرَة وَعَشِيَّة، رَوَاهُ أَبُو
ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس. وَالرَّابِع: سنة، قَالَه
مُجَاهِد وَابْن زيد. وَالْخَامِس: شَهْرَان، قَالَه سعيد
بن الْمسيب. وَالسَّادِس: كل سَاعَة، قَالَه ابْن جرير.
فَمن قَالَ: ثَمَانِيَة أشهر، أَشَارَ إِلَى مُدَّة حملهَا
بَاطِنا وظاهراً. وَمن قَالَ: سِتَّة أشهر، فَهِيَ مُدَّة
حملهَا ظَاهرا إِلَى حِين صرامها وَمن قَالَ: بكرَة
وَعَشِيَّة. أَشَارَ إِلَى الاجتناء مِنْهَا حَال الْحمل.
وَمن قَالَ: سنة، أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا لَا تحمل فِي
السّنة إِلَّا مرّة.
(2/534)
وَمن قَالَ: شَهْرَان، فَهِيَ مُدَّة
صَلَاحهَا. وَمن قَالَ: كل سَاعَة، أَشَارَ إِلَى أَن
ثَمَرَتهَا تُؤْكَل دَائِما؛ فَتَارَة يُؤْكَل طلعها،
وَتارَة بلحها، وَتارَة بسرها، وَتارَة رطبها، ثمَّ
يُؤْكَل دَائِما تمرها.
1116 - / 1341 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: "
إِن أمامكم حوضا مَا بَين جرباء وأذرح ". [15] أمامكم: أَي
بَين أَيْدِيكُم. [15] وجرباء وأذرح قَرْيَتَانِ بِالشَّام
, وَبَينهمَا مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام. [15] والظمأ:
الْعَطش.
1117 - / 1342 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الْوَاصِلَة
وَالْمسْتَوْصِلَة. [15] الْوَاصِلَة: اسْم يَقع على
الَّتِي تصل شعرهَا بِشعر غَيره، توهم أَن ذَلِك من
شعرهَا. وَيَقَع على فاعلة ذَلِك بغَيْرهَا.
وَالْمسْتَوْصِلَة: الَّتِي تطلب من يفعل بهَا ذَلِك.
قَالَ أَبُو عبيد: وَقد رخصت الْفُقَهَاء فِي القرامل وكل
شَيْء وصل بِهِ الشّعْر مَا لم يكن الْوَصْل شعرًا. [15]
وَقد فسرنا الواشمه والمستوشمة فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
(2/535)
1118 - / 1343 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
بعد الْمِائَة: نذرت أَن أعتكف. وَقد سبق فِي مُسْند عمر.
1119 - / 1344 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفَاضَ يَوْم
النَّحْر، ثمَّ رَجَعَ فصلى الظّهْر بمنى. [15] أَفَاضَ
بِمَعْنى دفع. فَكَأَنَّهُ مضى إِلَى مَكَّة وَطَاف
بِالْبَيْتِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى.
1120 - / 1345 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة:
" البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يفترقا، أَو يَقُول
أَحدهمَا لصَاحبه: اختر ". [15] اعْلَم أَن الشَّرْع لما
علم أَن الْعُقُود فِي الْغَالِب تقع بَغْتَة من غير ترو
وَلَا فكر، وَأَنه رُبمَا نَدم أحد المبتاعين بعد
الْفَوات، جعل الْمجْلس حد التروي وَالنَّظَر. [15]
وَهَذَا الحَدِيث نَص فِي ثُبُوت خِيَار الْمجْلس، وَبِه
قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة مَالك:
لَيْسَ خِيَار الْمجْلس بِثَابِت. وَقد اعْترضُوا على
هَذَا الحَدِيث من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَنهم قَالُوا:
يرويهِ مَالك ومذهبه على خِلَافه، ورأي الرَّاوِي مقدم على
رِوَايَته؛ لِأَن رَأْيه يشْعر بالطعن فِيمَا روى.
وَالثَّانِي: أَنه خبر وَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى،
فَلَا يقبل. وَالثَّالِث: أَنه يُخَالف قِيَاس الْأُصُول؛
لِأَن عُقُود
(2/536)
الْمُعَاوَضَات لَا يثبت فِيهَا خِيَار
الْمجْلس. وَالرَّابِع: أَنهم حملوه على المتساومين، وسميا
متبايعين لِأَن حَالهمَا يؤول إِلَى ذَلِك. وَالْخَامِس:
أَنهم حملوه على حَالَة التواجب إِذا قَالَ البَائِع:
بِعْت وَلم يقل المُشْتَرِي: قبلت، فالبائع مُخَيّر بَين
أَن يَفِي بِمَا قَالَ أَو يرجع، وَالْمُشْتَرِي مُخَيّر
بَين أَن يقبل أَو يرد. قَالُوا: وَقد حمل الْكَلَام على
حَقِيقَته؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثبت
الْخِيَار بِسَبَب التبايع؛ والتبايع اسْم لحالة تشاغلهما
بِالْبيعِ. فَأَما بعد ارتباط الْإِيجَاب بِالْقبُولِ
فَلَا يسميان متبابعين، إِنَّمَا يُقَال: كَانَا متبايعين.
فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: مَا لم يَتَفَرَّقَا بالأقوال.
وَقد يَقع التَّفَرُّق بالْقَوْل، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب} [الْبَيِّنَة: 4] .
[15] وَالْجَوَاب: أما قَوْلهم: يرويهِ مَالك، فَجَوَابه
من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه مَتى صَحَّ الحَدِيث
كَانَ حجَّة على رَاوِيه وَغَيره؛ لِأَن الْحجَّة مَا
كَانَت من قبل الرَّاوِي، بل من نَقله، فَلَا يلْتَفت
إِلَى خِلَافه، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون نسي أَو تَأَول.
وَقد علمنَا سَبَب مُخَالفَة مَالك للْحَدِيث؛ فَإِنَّهُ
قَالَ: رَأَيْت عمل أهل الْمَدِينَة بِخِلَافِهِ، وَعِنْده
أَن عمل أهل الْمَدِينَة حجَّة. وَقد أزرى عَلَيْهِ فِي
هَذَا الرَّأْي ابْن أبي ذِئْب وَغَيره. وَقَالَ
الشَّافِعِي: رحم الله مَالِكًا، لست أَدْرِي من اتهمَ فِي
هَذَا الحَدِيث: أتهم نَفسه أَو نَافِعًا، وَأعظم أَن
أَقُول: اتهمَ ابْن عمر! [15] وَالثَّانِي: أَن الحَدِيث
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر من غير طَرِيق مَالك،
يرويهِ البُخَارِيّ وَمُسلم من طَرِيق يحيى بن سعيد،
وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ كِلَاهُمَا عَن نَافِع.
وَيَرْوِيه مُسلم من حَدِيث ابْن جريج
(2/537)
وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن نَافِع.
وَالثَّالِث: أَن هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ من
مُسْند حَكِيم بن حزَام عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. [15] وَقَوْلهمْ: خبر وَاحِد فِيمَا يعم بِهِ
الْبلوى وَيُخَالف قِيَاس الْأُصُول، هَذَا مِمَّا صنعه
فِي الجدل أَبُو زيد الْحَنَفِيّ، وَهُوَ مَرْدُود
عَلَيْهِ؛ لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ يُؤَدِّي مَا حمله من الرسَالَة إِلَى الشَّخْص
الْوَاحِد وَإِلَى الْإِثْنَيْنِ وَإِلَى الْجَمَاعَة،
فَإِذا بلغ عَن الثِّقَة لزم الحكم البَاقِينَ، وَكم من
حكم قد انْفَرد بروايته وَاحِد فَتَبِعَهُ الْبَاقُونَ:
فَإِن حكم التَّيَمُّم كَانَ عِنْد عمار وخفي على عمر،
وَحكم الاسْتِئْذَان كَانَ عِنْد أبي مُوسَى وخفي على عمر،
وَحكم الْمُتْعَة كَانَ عِنْد عَليّ وخفي على ابْن
عَبَّاس، وَحكم الْإِقْدَام على بلد الطَّاعُون كَانَ
عِنْد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وخفي على الجم الْغَفِير
الَّذين سافروا مَعَ عمر إِلَى الشَّام، إِلَى غير هَذَا.
وَقد ينْفَرد الصَّحَابِيّ بِرِوَايَة حَدِيث. وَقد يروي
الحَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة، فَإِن قَوْله: "
إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " لَا يَصح إِلَّا من
رِوَايَة عمر وَحده. وَقَوله: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا "
قد روينَاهُ عَن سِتِّينَ نفسا من الصَّحَابَة، رَوَوْهُ
عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. ثمَّ الْعجب من
أَصْحَاب أبي حنيفَة، فَإِنَّهُم يبطلون الْوضُوء بالقهقهة
ويوجبون الْوتر بِأَحَادِيث آحَاد لَا تثبت. وَكَيف
يَقُولُونَ هَذَا! [15] وَأما حملهمْ إِيَّاه على التساوم
لَا يُمكن لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن
(2/538)
البيع غير المساومة. وَالثَّانِي: أَن
ذَلِك يسْقط فَائِدَة التَّخْصِيص بِالْبيعِ؛ فَإِن السّوم
فِي كل العقد، وَيثبت بِهِ الْخِيَار. وَحَملهمْ على
حَالَة التواجب لَا يَصح؛ لِأَنَّهُمَا لَا يسميان
متبايعين إِلَّا على وَجه التَّجَوُّز. وَحَملهمْ
التَّفَرُّق على الْأَقْوَال غلط من وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
أَن هَذَا الحَدِيث مُفَسّر فِي رِوَايَة عَمْرو بن
شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: مَا لم يفترقا عَن مكانهما،
وَهَذَا الَّذِي عقله ابْن عمر رَاوِي الحَدِيث؛ فَإِنَّهُ
كَانَ يمشي بعد العقد. وَالثَّانِي: أَنه أَلْفَاظ
الصِّحَاح كلهَا: " مَا لم يَتَفَرَّقَا " وَقد فرق
اللغويون بَين يَتَفَرَّقَا ويفترقا بالْكلَام. [15]
وَقَوله: إِلَّا بيع الْخِيَار. مَعْنَاهُ أَن يخيره قبل
التَّفَرُّق وهما بعد فِي الْمجْلس، فَيَقُول: اختر.
1121 - / 1346 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة:
" إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يبصق قبل وَجهه ".
[15] قبل وَجهه: مَا يُقَابله. وَمثله: حِيَال وَجهه. [15]
وَقَوله: " وَلَا يتنخمن " التنخم والبصاق متقاربان؛ لِأَن
البصاق من أدنى الْفَم، والتنخم من النخامة وَهِي من
أقْصَى الْفَم. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ قد جعلت
الْقبْلَة على هَيْئَة سدد الْمُلُوك، فلزمها احترامها
لهَذَا الْمَعْنى.
1122 - / 1347 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة:
" صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة الْفَذ بِسبع
وَعشْرين دَرَجَة " وَفِي لفظ " ببضع ".
(2/539)
[15] الْبضْع: مَا بَين الْوَاحِد إِلَى
الْعشْرَة. وَلَفْظَة " بِسبع " تَفْسِير لَهُ. وَقد تكلّف
قوم تَعْلِيل سبع وَعشْرين وَمَا وَقَعُوا بطائل، وَقد
جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " بِخمْس وَعشْرين جُزْءا
" وَلَعَلَّ الِاخْتِلَاف لاخْتِلَاف أَحْوَال
الْمُصَلِّين.
1123 - / 1348 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة:
" الَّذِي تفوته صَلَاة الْعَصْر كَأَنَّمَا وتر أَهله
وَمَاله ". [15] فِي معنى " وتر " قَولَانِ: أَحدهمَا:
أَنه بِمَعْنى النَّقْص، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ
يتركم أَعمالكُم} [مُحَمَّد: 35] أَي لن ينقصكم. وَتقول:
وترته حَقه: أَي نقصته، فَيكون الْمَعْنى: وكأنما نقص أَو
سلب، فَبَقيَ فَردا وترا. وَالثَّانِي: ذهَاب الْكل،
فَيكون من الْوتر الَّذِي هُوَ الْجِنَايَة الَّتِي يذهب
فِيهَا مَال الْإِنْسَان من الفجائع، ذكره ابْن
الْأَنْبَارِي وَغَيره. [15] وَفِي إِعْرَاب الْأَهْل
وَالْمَال قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا منصوبان، وَهُوَ
الَّذِي سمعناه وضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد
وَغَيره. وَيكون الْمَعْنى: فَكَأَنَّمَا وتر فِي أَهله
وَمَاله. فَلَمَّا حذف الْخَافِض انتصب. وَالثَّانِي:
أَنَّهُمَا مرفوعان على مَا لم يسم فَاعله، وَالْمعْنَى:
نقصا. [15] وَأما تَخْصِيص الْعَصْر فلفضلها؛ لِأَنَّهَا
الصَّلَاة الْوُسْطَى، وَبهَا تختم صلوَات النَّهَار.
(2/540)
1124 - / 1349 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
بعد الْمِائَة: " إِن أحدكُم إِذا مَاتَ عرض عَلَيْهِ
مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشي، إِن كَانَ من أهل الْجنَّة
وَإِن كَانَ من أهل النَّار ... ". [15] المقعد: مَوضِع
الْقعُود. [15] وَهَذَا الحَدِيث يَنْبَغِي أَن يتلمح
بِعَين الْفِكر؛ فَإِنَّهُ إِذا تؤمل علم أَنه السرُور
الدَّائِم بعد الْمَوْت، أَو البغضة الدائمة، فَكيف بِمن
يزعج غدْوَة وَعَشِيَّة! أعجب لمشتري اللَّذَّة الفانية
بالحسرة الدائمة.
1125 - / 1350 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر [بعد الْمِائَة]
: " الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وَالْيَد
الْعليا هِيَ المنفقة، والسفلى هِيَ السائلة ". [15] هَذَا
الحَدِيث يتَضَمَّن التحذير لِذَوي الأنفة من ذل
السُّؤَال. وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي " السّنَن " فَقَالَ
فِي بعض الرِّوَايَات: " وَالْيَد الْعليا المتعففة " وَله
وَجه، وَهُوَ أَن الْمُتَعَفِّف قد علت يَده إِذا سفلت يَد
السَّائِل. قَالَ الْخطابِيّ: وَقد توهم كثير من النَّاس
أَن معنى الْعليا أَن يَد الْمُعْطى مستعلية فَوق يَد
الْأَخْذ، يجعلونه من علو الشَّيْء فَوق الشَّيْء،
وَلَيْسَ ذَلِك عِنْدِي بِالْوَجْهِ، إِنَّمَا هُوَ من
عَلَاء الْمجد وَالْكَرم، يُرِيد بِهِ الترفع عَن
الْمَسْأَلَة وَالتَّعَفُّف عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي
اخْتَارَهُ الْخطابِيّ وَجه حسن، وَلَا يمْتَنع مَا
أنكرهُ؛ لِأَنَّهُ إِذا حملت الْعليا على المتعففة لم يكن
للمنفق ذكر، وَقد صحت لَفْظَة المنفقة، فَكَانَ المُرَاد
أَن هَذِه الْيَد
(2/541)
الَّتِي علت وَقت الْعَطاء على يَد
السَّائِل هِيَ الْعَالِيَة فِي بَاب الْفضل. وَقد زعم قوم
مالوا إِلَى الترفه: أَن الْيَد الْعليا هِيَ الآخذة،
والسفلى هِيَ المعطية. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَلَا أرى
هَؤُلَاءِ إِلَّا قوما استطابوا السُّؤَال، فهم يحتجون
للدناءة، وَالنَّاس إِنَّمَا يعلون بِالْمَعْرُوفِ
والعطايا لَا بِالْأَخْذِ وَالسُّؤَال، والمعالي للصانعين
لَا للمصطنع إِلَيْهِم.
1126 - / 1352 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر [بعد
الْمِائَة] : " اللَّهُمَّ ارْحَمْ المحلقين " قَالُوا:
والمقصرين يَا رَسُول الله. قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْ
المحلقين " قَالُوا: والمقصرين يَا رَسُول الله. قَالَ: "
والمقصرين ". [15] إِنَّمَا قدم المحلقين لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَام حلق رَأسه فحلق قوم وَقصر قوم، فَقدم
من وَافقه. [15] فَإِن قيل: فَمَا وَجه تَركهم الموافقه
لَهُ؟ فقد أجَاب الْخطابِيّ فَقَالَ: كَانَت عَادَة أَكثر
الْعَرَب اتِّخَاذ الشّعْر على الرؤوس وتوفيره وتزيينه،
وَكَانَ التحليق فيهم قَلِيلا، وَكَانُوا يرَوْنَ ذَلِك
نوعا من الشُّهْرَة، وَكَانَ يشق عَلَيْهِم الحلاق، فمالوا
إِلَى التَّقْصِير. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن ذَلِك
كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع.
1127 - / 1353 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد
الْمِائَة: كَانَ إِذا قفل من عزو أَو حج أَو عمْرَة وافى
على ثنية أَو فدفد يكبر على كل شرف ثَلَاثًا.
(2/542)
[15] قفل بِمَعْنى رَجَعَ، وَمِنْه سميت
الْقَافِلَة. [15] والثنية: طَرِيق عَال بَين جبلين. [15]
والفدفد: أَرض فِيهَا غلظ وارتفاع. والشرف من الأَرْض:
العالي. [15] والإياب: الرُّجُوع من السّفر. [15] وَلما
ارْتَفع على الْمَكَان العالي ناسب ذَلِك ذكر الله عز وَجل
بِالتَّكْبِيرِ.
1128 - / 1354 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر [بعد
الْمِائَة] : " لَا يَتَنَاجَى اثْنَان دون ثَالِث " وَقد
سبق شَرحه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1129 - / 1355 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر [بعد
الْمِائَة] : " خمس من الدَّوَابّ، لَيْسَ على الْمحرم فِي
قتلهن جنَاح: الْغُرَاب، والحدأة، وَالْعَقْرَب، والفأرة،
وَالْكَلب الْعَقُور ". [15] نبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِذكر هَذِه الْخمس على أَن مَالا يُؤْكَل لَحْمه لَا يجب
الْجَزَاء بقتْله، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ، إِلَّا أَنه قد رُوِيَ عَن مَالك أَنه
قَالَ: لَا يقتل الْمحرم الْغُرَاب الصَّغِير. وَفِي
مَذْهَب أَحْمد أَنه يجوز أكل غراب الزَّرْع وَلَا يجوز
أَن يُؤْكَل الْغُرَاب الأبقع وَلَا الْأسود الْكَبِير.
وَبَيَان ذَلِك أَن مَالا يُؤْكَل لَحْمه لَا يجب
الْجَزَاء بقتْله من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه جمع بَين
سِبَاع ضارية وهوام قاتلة لَا تشبهها، إِلَّا أَنه مستخبث
اللَّحْم، فَعلمنَا أَن تَحْرِيم الْأكل دَلِيل الحكم.
(2/543)
وَالثَّانِي: أَنه لما نَص على الْكَلْب
الْعَقُور نبة على السَّبع لِأَنَّهُ أَشد ضَرَرا،
وَإِنَّمَا نَص على أدنى الْأَنْوَاع لينبه على
أَعْلَاهَا، فنص على الحدأة فنبه على الصَّقْر والبازي
وَالْعِقَاب، وَنَصّ على الْعَقْرَب فنبه على الْحَيَّة
وَغَيرهَا، وَنَصّ على الْفَأْرَة فنبه على بَقِيَّة
الحشرات. ثمَّ إِن السَّبع يُسمى كَلْبا، قَالَ سُفْيَان
ابْن عُيَيْنَة: الْكَلْب الْعَقُور كُله سبع يعقره، قَالَ
أَبُو عبيد: وَلَيْسَ للْحَدِيث عِنْدِي مَذْهَب إِلَّا
مَا قَالَ سُفْيَان. قَالَ: وَيجوز أَن يُقَال للسبع كلب.
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عتبَة بن أبي
لَهب: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك " فَخرج
إِلَى الشَّام فَقتله الْأسد. وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى:
{وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين} [الْمَائِدَة: 4]
فَهَذَا اسْم مُشْتَقّ من الْكَلْب، ثمَّ دخل فِيهِ صيد
الفهد والبازي والصقور. [15] قلت: كَذَا ذكر أَبُو عبيد:
أَن عتبَة الَّذِي أكله السَّبع. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي "
مغازي " ابْن اسحق، وَقد نَقله كَذَلِك أَبُو سُلَيْمَان
الْخطابِيّ، وَهَذَا غلط مِنْهُم؛ لِأَن أَبَا لَهب كَانَ
لَهُ عتبَة وعتيبة، فَأَما عتبَة فَإِنَّهُ أسلم وَشهد
غزاه حنين، وَإِنَّمَا الَّذِي أكله السَّبع عتيبة. وَقد
ذكره على الصِّحَّة مُحَمَّد بن سعد فِي " الطَّبَقَات ".
[15] وَقَالَ أَبُو حنيفَة: أَي صيد قَتله الْمحرم
فَعَلَيهِ جَزَاؤُهُ. وَنحن لَا
(2/544)
نسلم أَن اسْم الصَّيْد يَقع على غير
الْمَأْكُول؛ لِأَن أَذَى الْحَيَوَان مَمْنُوع،
وَإِنَّمَا أُبِيح أَن يُؤْذى بالاصطياد لحَاجَة الْأكل،
وَإِنَّمَا سمى هَذِه الْأَشْيَاء فواسق لمَكَان خبثها
وشرها كَمَا فِي الْفَاسِق.
1130 - / 1356 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد
الْمِائَة: نهى عَن الْوِصَال. [15] الْوِصَال فِي الصّيام
أَن تصل اللَّيْل بِالنَّهَارِ فِي ترك الْأكل، وَإِنَّمَا
نهى عَنهُ لمعنيين: أَحدهمَا: مَا يتخوف على الصَّائِم من
ضعف الْقُوَّة، فَرُبمَا أخرجه ذَلِك إِلَى الْمَرَض
وَالْعجز عَن الصَّوْم الْمَفْرُوض، فَيرى الْعِبَادَة
حِينَئِذٍ بِعَين البغضة لما لَقِي فِيهَا من الْمَشَقَّة،
ويوضح هَذَا قَوْله: " لست كأحدكم، إِنِّي أطْعم وأسقى ".
وَالثَّانِي: أَن العَبْد مَأْمُور بِالْوُقُوفِ على مراسم
الشَّرْع، والمشرع جعل وَظِيفَة الصَّوْم مُخْتَصَّة
بِالنَّهَارِ، فَإِذا وصل المتعبد بهَا اللَّيْل أنشأ
صُورَة تعبد بِرَأْيهِ، وَالْمعْنَى مِنْهُ مسلوب
لِأَنَّهُ لَا يكون تعبد إِلَّا بِأَمْر الشَّرْع، فَصَارَ
كَمَا لَو صَامت الْحَائِض. فعلى هَذَا يكون مَا خص بِهِ
الرَّسُول من الْوِصَال مَحْمُول الْمَشَقَّة لكَونه يطعم
ويسقى، وَيكون تعبدا فِي حَقه لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ.
[15] وَقَوله: " إِنِّي أظل " يُقَال: ظلّ الرجل يفعل
كَذَا: إِذا فعله نَهَارا. وَقد ذكر الْعلمَاء فِي معنى
كَونه يطعم ويسقى وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه يحْتَمل أَن
يخص بِطَعَام وشراب حَقِيقَة وَلَا يفْسد صَوْمه، كَمَا
يغط فِي نَومه وَلَا ينْتَقض وضوءه، فَيكون هَذَا مُضَافا
إِلَى خَصَائِصه الَّتِي أكْرم بهَا. وَالثَّانِي: أَنه
يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: إِنِّي أعَان وَأقوى، فَيكون
(2/545)
ذَلِك بِمَنْزِلَة الطَّعَام وَالشرَاب.
1131 - / 1357 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر [بعد
الْمِائَة] : " من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا ".
[15] أَي لَيْسَ على سيرتنا ومذهبنا، وَقد شرحنا هَذَا فِي
مُسْند أبي مُوسَى.
1132 - / 1358 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر [بعد
الْمِائَة] : نهى عَن النجش. [15] والنجش نوع من الخديعة
والغبن، وَهُوَ أَن يمدح سلْعَة يزِيد فِي ثمنهَا وَهُوَ
لَا يُرِيد الشِّرَاء، وَلَكِن يقْصد أَن يسمعهُ غَيره
فيغتر فيزيد وَيَشْتَرِي، وَهَذَا فعل محرم. والمنصور من
مَذْهَبنَا أَنه بيع صَحِيح، وَللْمُشْتَرِي، الْخِيَار
إِن كَانَ فِي البيع زِيَادَة لَا يتَغَابَن النَّاس
بِمِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ كل مسترسل غبن بِالْبيعِ، وَيدخل
فِيهِ إِذا تلقى الركْبَان فَاشْترى مِنْهُم، فَإِن لَهُم
الْخِيَار إِذا دخلُوا السُّوق وَعَلمُوا بِالْغبنِ. وَنقل
عَن أَحْمد أَن بيع النجش وتلقي الركْبَان باطلان.
1133 - / 1359 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر [بعد
الْمِائَة] : " لَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض ". [15]
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن يَشْتَرِي الرجل السّلْعَة
وَيتم البيع وَلم
(2/546)
يفْتَرق الْمُتَبَايعَانِ بعد، فَنهى أَن
يعرض رجل آخر سلْعَة أُخْرَى على ذَلِك المُشْتَرِي تشبه
السّلْعَة الَّتِي اشْتَرَاهَا، لما فِي ذَلِك من
الْإِفْسَاد على الأول، فَرُبمَا مَال إِلَى هَذِه وَفسخ
بِحكم الْمجْلس. وَالثَّانِي: أَنه فِي المتساومين إِذا
قَارب وُقُوع العقد، فَيَجِيء آخر يُرِيد أَن يَشْتَرِي
تِلْكَ السّلْعَة فيخرجها من يَد المُشْتَرِي الأول،
فَهَذَا يُبَاح فِي أول الْعرض، وَينْهى عَنهُ بعد
المقاربة للْبيع. وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبيد، فَإِنَّهُ
قَالَ: معنى الحَدِيث: لَا يشتر على شِرَاء أَخِيه،
وَإِنَّمَا وَقع النَّهْي على المُشْتَرِي لَا على
البَائِع؛ لِأَن الْعَرَب تَقول: بِعْت الشَّيْء بِمَعْنى
اشْتَرَيْته، وَمثل هَذَا: " لَا يخْطب على خطْبَة أَخِيه
" لِأَن الْخَاطِب طَالب كالمشتري، وَالنَّهْي وَقع على
الطالبين دون الْمَطْلُوب إِلَيْهِم، وَقد جَاءَ فِي
الشّعْر البَائِع بِمَعْنى المُشْتَرِي، قَالَ طرفَة:
(عذ مَا غَد مَا أقرب الْيَوْم من غَد ... سيأتيك بالأخبار
من لم تزَود)
(ويأتيك بالأنباء من لم تبع لَهُ ... بتاتا وَلم تضرب لَهُ
وَقت موعد)
[15] فتبع هَاهُنَا بِمَعْنى تشتري. [15] وَقَالَ مَالك بن
أنس: إِنَّمَا نهى أَن يخْطب الرجل على خطْبَة أَخِيه إِذا
كَانَ كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ قد رَضِي بِصَاحِبِهِ،
فَأَما قبل الرِّضَا فَلَا بَأْس أَن يخطبها من يَشَاء.
(2/547)
1134 - / 1360 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين
[بعد الْمِائَة] : نهى أَن تتلقى السّلع حَتَّى يبلغ بهَا
الْأَسْوَاق. [15] قد ذكرنَا الحكم فِي هَذَا قبل حديثين.
1135 - / 1361 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين
[بعد الْمِائَة] : نهى عَن الْمُزَابَنَة. وَقد سبق
الْكَلَام فِيهَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1136 - / 1362 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين
[بعد الْمِائَة] : " لَا يحلبن أحد مَاشِيَة أحد إِلَّا
بِإِذْنِهِ. أَيُحِبُّ أحدكُم أَن تُؤْتى مشْربَته
فَينْتَقل طَعَامه ". [15] الْمشْربَة: الغرفة. [15]
وينتقل " يفتعل " من نقل الشَّيْء عَن مَكَانَهُ. وينتثل
بالثاء بِمَعْنى يفرق ويبدد. والنثل: نثر الشَّيْء جَمِيعه
فِي مرّة وَاحِدَة. [15] والضرع لذوات الظلْف. وَهُوَ من
ذَوَات الْخُف وَمن ذَوَات الْحَافِر وَالسِّبَاع الطبي.
وَمن الْمَرْأَة الثدي، وَمن الرجل الثندوة.
1137 - / 1363 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين [بعد
الْمِائَة] : نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض
الْعَدو " فَإِنِّي لَا آمن أَن يَنَالهُ الْعَدو " وَفِي
لفظ: " فَإِنِّي أَخَاف أَن يَنَالهُ الْعَدو ".
(2/548)
[15] ظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن الْقَائِل:
" لَا آمن، وأخاف " هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: " مَخَافَة أَن
يَنَالهُ الْعَدو " قَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن
ثَابت: إِنَّمَا هَذَا من قَول مَالك. وَقد بَين ذَلِك
أَبُو مُصعب الزبيرِي عبد الله بن وهب وَعبد الرَّحْمَن بن
الْقَاسِم. وَإِنَّمَا الْمسند النَّهْي فَحسب. [15]
وَالْإِشَارَة بِالْقُرْآنِ إِلَى الْمُصحف. وَإِنَّمَا
حذر عَلَيْهِ من إهانة الْعَدو إِيَّاه بالتمزيق وَغَيره،
وَفِي هَذَا بَيَان احترام الْمُصحف.
1138 - / 1364 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين
[بعد الْمِائَة] : أَمر بقتل الْكلاب، حَتَّى إِنَّا لنقتل
كلب المرية من أهل الْبَادِيَة يتبعهَا. [15] قد بَينا نسخ
الْأَمر بقتل الْكلاب فِي مُسْند عبد الله بن مُغفل. [15]
والمرية تَصْغِير الْمَرْأَة. [15] وَقَول ابْن عمر فِي
هَذَا الحَدِيث: إِن لأبي هُرَيْرَة زرعا. كشفناه فِي
هَذَا الْمسند.
1139 - / 1365 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين
[بعد الْمِائَة] : " إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق "
(2/549)
قد بَينا فِي مُسْند عمر معنى الْوَلَاء.
[15] " وَإِنَّمَا " تثبت الْمشَار إِلَيْهِ وتنفي ماعداه،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا وَلَاء إِلَّا لمن أعتق.
وَالْوَلَاء من الْوَلِيّ وَهُوَ الْقرب. وَيُقَال: فلَان
ولي فلَان: أَي يلاصقه بالنصرة. قَالَ ابْن فَارس:
الْوَلَاء من الْمُوَالَاة وَهِي المقاربة، فَسُمي وَلَاء
لِأَن العَبْد الْمُعْتق موَالٍ، أَي كَأحد قرَابَته.
وسنزيد هَذَا الحَدِيث شرحا فِي مُسْند عَائِشَة.
1140 - / 1366 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين
[بعد الْمِائَة] : أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم رجم يَهُودِيَّة. وَقَالَ: فَرَأَيْت الرجل يجنأ على
الْمَرْأَة يَقِيهَا الْحِجَارَة. وَفِي لفظ: يجانيء.
وَفِي لفظ: فرأيته أجنأ عَلَيْهَا. [15] يجنأ: يكب.
والجنأ: الأحديداب. ويجانيء: ينحني، قَالَه أَبُو عبيد:
وَقد روى لنا فِي لفظ - لم يذكرهُ الْحميدِي: فَرَأَيْت
الرجل يحني على الْمَرْأَة. قَالَ ابْن الأنبا ري: قَالَ
اللغويون: يحني ويحنو بِالْيَاءِ وَالْوَاو. [15] وَفِي
الحَدِيث فَقَالُوا: الرجل أَعور، وَهُوَ ابْن صوريا.
والأحبار: الْعلمَاء.
(2/550)
[15] وَالتَّحْمِيم: تسويد الْوَجْه.
وَالتَّجْبِيَة: أَن يجبهُ بالسب، وَأَصله اسْتِقْبَال
الْجَبْهَة بذلك. ويوضحه أَن فِي بعض الْأَلْفَاظ: نسخم
وجوهما ونخزيهما.
1141 - / 1368 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين
[بعد الْمِائَة] : " مثل صَاحب الْقُرْآن كَمثل صَاحب
الْإِبِل الْمُعَلقَة ". [15] يَعْنِي: المشدودة
بِالْعقلِ: وَهُوَ جمع عقال: وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يشد
بِهِ الْبَعِير. وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند ابْن
مَسْعُود.
1142 - / 1369 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين
[بعد الْمِائَة] : " إِذا دعِي أحدكُم إِلَى الْوَلِيمَة
فليأتها ". [15] الْوَلِيمَة: الطَّعَام يصنع عِنْد
الْعرس. وَإِنَّمَا تجب الْإِجَابَة إِلَى وَلِيمَة الْعرس
فَقَط.
1143 - / 1370 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ [بعد
الْمِائَة] : " من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا ثمَّ لم يتب
مِنْهَا حرمهَا فِي الْآخِرَة ". [15] حكم هَذَا الحَدِيث
ظَاهر. وَلقَائِل أَن يَقُول: لَا يَخْلُو هَذَا أَن
يَشْتَهِي الْخمر فِي الْجنَّة أَو لَا يشتهيها، فَإِن لم
يشتهها لم يُؤثر عِنْده فقدها، وَإِن اشتهاها وَلم
يُعْطهَا تأسف، والأسف فِي الْجنَّة لَا يكون.
فَالْجَوَاب: أَنه لَا يشتهيها وَيصرف عَن قلبه حبها
وَذكرهَا، لكنه قد
(2/551)
فَاتَتْهُ لَذَّة عَظِيمَة كَمَا تفوته
منزلَة الشُّهَدَاء ومنازل الْأَنْبِيَاء، وكل نَاقص
بِالْإِضَافَة إِلَى الكاملين قد رَضِي بِحَالهِ.
وَإِنَّمَا نذْكر هَذَا لننبه الْيَوْم للاستدراك. [15]
والإدمان على الشَّيْء: الدَّوَام عَلَيْهِ. وإصراره وعزمه
على شريها صيره كالشارب لَيْلًا وَنَهَارًا. [15] وَقَوله:
" كل مُسكر خمر " صَرِيح فِي إِثْبَات شَيْئَيْنِ:
أَحدهمَا: الْأَسْمَاء بِالْقِيَاسِ على بَينا فِي مُسْند
عمر. وَالثَّانِي: تَحْرِيم النَّبِيذ.
1144 - / 1471 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ
[بعد الْمِائَة] : " لَا ينظر الله إِلَى من جر ثَوْبه
خُيَلَاء ". [15] الْخُيَلَاء والمخيلة: التكبر. وَيُقَال:
خَال الرجل واختال، وأنشدوا:
(بَان الشَّبَاب وَحب الْخَالَة الخلبة ... وَقد صحوت
فَمَا فِي النَّفس من قلبه)
[15] وَالْخَالَة جمع خائل. يُقَال: رجل خائل من قوم
خَالَة: إِذا كَانَ مختالا فِي مشيته، متكبرا. والخلبة:
الشَّبَاب الَّذين يخلبون النِّسَاء بجمالهم، واحدهم خالب.
[15] وَقَوله: " يتجلجل " التجلجل: حَرَكَة مَعَ صَوت.
وَالْمعْنَى: أَنه يخسف بِهِ وَلَا يثبت، وَلَا يزَال
منحدرا.
(2/552)
1145 - / 1373 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قطع نخل بني النَّضِير وَحرق. وَلها يَقُول
حسان بن ثَابت:
(وَهَان على سراة بني لؤَي ... حريق بالبويرة مستطير)
[15] وَفِي ذَلِك نزلت: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أصلوها} الْآيَة [الْحَشْر:
5] . [15] كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد
أَتَى بني النَّضِير يكلمهم، فَهموا بالغدر بِهِ، فَقَالَ
بَعضهم: أَنا أظهر على الْبَيْت فأطرح عَلَيْهِ صَخْرَة.
فجَاء الْخَبَر، فَنَهَضَ رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة وَبعث
إِلَيْهِم: " لَا تساكنوني " فَأرْسل إِلَيْهِم ابْن أبي:
لَا تخْرجُوا؛ فَإِن معي أَلفَيْنِ، وتمدكم قُرَيْظَة.
فأرسلوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إِنَّا لَا نخرج فَاصْنَعْ مَا بدا لَك، فَسَار إِلَيْهِم،
فَقَامُوا على حصونهم مَعَهم النبل وَالْحِجَارَة،
فاعتزلتهم قُرَيْظَة، وخذلهم ابْن أبي، فَحَاصَرَهُمْ
وَقطع نَخْلهمْ، فجزعوا وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، زعمت
أَنَّك تُرِيدُ الصّلاح، أَفَمَن الصّلاح عقر الشّجر وَقطع
النّخل؟ وَهل وجدت فِيمَا أنزل عَلَيْك الْفساد فِي
الأَرْض؟ فشق ذَلِك على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَوجد الْمُسلمُونَ فِي أنفسهم من قَوْلهم، فَنزل
قَوْله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو
تَرَكْتُمُوهَا} [الْحَشْر: 5] وَهِي ألوان النّخل كلهَا
إِلَّا الْعَجْوَة والبرنية. وَكَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيّ
وَأَبُو عُبَيْدَة. وَقَالَ الزّجاج: أصل لينَة لَونه،
فقلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا.
(2/553)
[15] وَأما السراة فالأشراف. والبويرة:
اسْم الْمَكَان الَّذِي فِيهِ نَخْلهمْ. والمستطير:
الْمُنْتَشِر. [15] فَأجَاب أَبُو سُفْيَان حسانا فَقَالَ:
(ستعلم أَيّنَا فِيهَا بنزه ... وَتعلم أَي أرضينا تضير)
[15] والنزه: التباعد. وَالْمعْنَى: أَيّنَا أبعد مِنْهَا.
[15] وَإِنَّمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا بأولئك ليتسع المكال لِلْقِتَالِ، وَمَتى لم يقدر
على الْعَدو إِلَّا بذلك جَازَ، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد بن
حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ.
1146 - / 1374 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ
[بعد الْمِائَة] : أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ ينزل فِي حجَّته تَحت سَمُرَة. [15] السمرَة:
شَجَرَة الطلح. [15] والبطحاء: الْمَكَان المتسع. [15]
وشفير الْوَادي: حرفه. [15] وَقد سبق معنى عرس. وَمعنى
الأكمة. [15] والخليج: بعض النَّهر، كَأَنَّهُ مختلج
مِنْهُ: أَي مقتطع. [15] والكثب جَمِيع كثيب: وَهُوَ مَا
اجْتمع من الرمل وارتفع. [15] وَقَوله: فدحا السَّيْل
فِيهِ بالبطحاء: أَي بحصا الْبَطْحَاء وترابه،
(2/554)
أَي دَفعهَا إِلَيْهِ وبسطها فِيهِ حَتَّى
خَفِي. [15] وَقَوله: بشرف الروحاء. الروحاء: مَا ارْتَفع
من ذَلِك الْمَكَان. [15] وحافة الطَّرِيق: جَانِبه. [15]
والعرق من الأَرْض: سبخَة تنْبت الطرفاء. [15] والسرحة:
شَجَرَة، وَالْجمع سرحات بِفَتْح السِّين وَالرَّاء:
وَهُوَ نوع من الشّجر لَهُ ثَمَر، قَالَ الشَّاعِر:
(فواعديه سرحتي مَالك ... )
[15] والرويثة: اسْم مَوضِع. [15] ووجاه الطَّرِيق:
مُقَابِله. [15] والبطح: الْمَكَان الْوَاسِع. [15]
والتعلة: مسيل المَاء من فَوق إِلَى أَسْفَل. [15]
والهضبة: فَوق الْكَثِيب فِي الِارْتفَاع وَدون الْجَبَل.
[15] والرضم بِفَتْح الرَّاء والضاء: حِجَارَة كبار،
جمعهَا رضام. [15] والسلمات وَالسّلم شجر، والواحدة
سَلمَة: وَهِي شَجَرَة وَرقهَا هُوَ الْقرظ الَّذِي يدبغ
بِهِ الْأدم. [15] وهرشى: اسْم مَكَان. [15] وكراعها:
طرفها، وكراع كل شَيْء طرفه. [15] والغلوة: قدر رمية،
يُقَال: غلا الرجل بسهمه غلوا: إِذا رمى بِهِ أقْصَى
الغابة.
(2/555)
[15] والمسيل: مجْرى المَاء فِي منحدر من
الأَرْض. [15] وَمر الظهْرَان: مَوضِع، والظاء مَفْتُوحَة.
[15] وَذُو طوى: اسْم مَوضِع. [15] وفرضة الْجَبَل: مدْخل
الطَّرِيق إِلَيْهِ. وأصل الفرضة من الْفَرْض: وَهُوَ
الْقطع غير البليغ. وَتسَمى المشرعة من النَّهر فرضة لِأَن
أرْضهَا قد انحدرت عَمَّا يَليهَا حَتَّى أمكن النُّزُول
فِيهَا إِلَى المَاء.
1147 - / 1376 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ
[بعد الْمِائَة] : كَانَ الْمُسلمُونَ يتحينون
الصَّلَوَات. [15] أَي يطْلبُونَ حينها بِالتَّحَرِّي
وَالِاجْتِهَاد.
1148 - / 1375 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ
[بعد الْمِائَة] : " غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم
سَالَمَهَا الله، وعصيه عَصَتْ الله وَرَسُوله ". [15]
إِنَّمَا اسْتغْفر لهاتين القبيلتين لِأَنَّهُمَا أسلمتا
طَوْعًا من غير حَرْب على مَا بَيناهُ فِي مُسْند أبي ذَر.
[15] وَأما عصية فهم الَّذين قتلوا الْقُرَّاء ببئر
مَعُونَة. [15] وَقد بَينا أَن هَذَا الحَدِيث يدل على
اخْتِيَار الْكَلَام المتجانس المتناسب، إِذْ جعل
الْمَغْفِرَة لغفار، وَالْمَعْصِيَة لعصية.
(2/556)
1149 - / 1378 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : نهى عَن القزع، قَالَ:
" احْلقُوا كُله أَو ذَروا كُله ". [15] قد فسر القزع فِي
الحَدِيث، وَهُوَ أَن يحلق بعض الرَّأْس وَيتْرك بعضه،
مَأْخُوذ من قزع السَّحَاب وَهِي قطعه. وَفِي حَدِيث أنس:
وَمَا فِي السَّمَاء قزعة. [15] وَقَوله: " احْلقُوا كُله
" دَلِيل على جَوَاز حلق الرَّأْس من غير كَرَاهِيَة.
1150 - / 1380 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين [بعد
الْمِائَة] : رَأَيْت فِي يَدي قِطْعَة إستبرق. وَهُوَ
ثخين الديباج، وَقد تقدم هَذَا.
1151 - / 1381 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : أَن عمر قَالَ: أصبت
أَرضًا بِخَيْبَر: وَقد ذكرنَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر.
غير أَن فِي هَذَا الحَدِيث: " غير متأثل مَالا " قَالَ
أَبُو عبيد: المتأثل: الْجَامِع، وكل شَيْء لَهُ أصل قديم
أَو جمع حَتَّى يصير لَهُ أصل فَهُوَ مؤثل ومتأثل، قَالَ
لبيد:
(لله نَافِلَة الْأَجَل الْأَفْضَل ... وَله الْعلَا وأثيث
كل مؤثل)
(2/557)
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وَقد يدْرك الْمجد المؤثل
أمثالي)
[15] وأثلة الشَّيْء: أَصله، قَالَ الْأَعْشَى:
(أَلَسْت منتهيا عَن نحت أثلتنا ... وَلست ضائرها مَا أطت
الْإِبِل)
1152 - / 1382 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: أغار رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على بني المصطلق وهم غَارونَ. أَي
غافلون فَلم يشعروا بِهِ.
1153 - / 1384 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما رَجَعَ من الْأَحْزَاب: " لَا يصلين
أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " فَأدْرك بَعضهم
الْعَصْر فِي الطَّرِيق، فَقَالَ بَعضهم: لَا نصلي حَتَّى
نأتيها. وَقَالَ بَعضهم: نصلي، لم يرد ذَلِك منا. فَذكر
ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يعنف
وَاحِدًا مِنْهُم. [15] لما أجلى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بني النَّضِير خرج نفر من أَشْرَافهم إِلَى
مَكَّة فالبوا قُريْشًا على الْقِتَال، وَتجمع النَّاس،
وَكَانَت غزَاة الْأَحْزَاب. وَبعث أَبُو سُفْيَان إِلَى
بني قُرَيْظَة يسألهم أَن ينقضوا الْعَهْد الَّذِي بَينهم
(2/558)
وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَأَجَابُوا فَلَمَّا انْقَضتْ غزَاة الخَنْدَق
وَجَاء جِبْرِيل فَقَالَ: إِن الله يَأْمُرك أَن تسير
إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِنِّي عَامِد إِلَيْهِم
فَمُزَلْزِل حصونهم. فَقَالَ لأَصْحَابه: " لَا يصلين أحد
الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " فَأخذ بعض أَصْحَابه
بِظَاهِر اللَّفْظ وَلم يصلوا إِلَّا هُنَاكَ، وَتعلق
آخَرُونَ بِالْمَعْنَى فَقَالُوا: إِنَّمَا أَرَادَ
الاستعجال، فصوا وَلَحِقُوا فَلم يعنف وَاحِدًا من
الْفَرِيقَيْنِ، لأخذ كل بِدَلِيل.
1154 - / 1385 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : أَن عمر ذكر لرَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تصيبه الْجَنَابَة من
اللَّيْل. وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند عمر.
1155 - / 1386 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : استدارة أهل قبَاء
إِلَى الْقبْلَة بقول وَاحِد. [15] وَهُوَ أصل فِي قبُول
خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ ثِقَة. وَقد سبق بَيَان هَذَا
الحَدِيث فِي مُسْند الْبَراء.
1156 - / 1387 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : " الظُّلم ظلمات يَوْم
الْقِيَامَة ". [15] اعْلَم أَن الظُّلم يشْتَمل على
معصيتين عظيمتين: إِحْدَاهمَا: أَخذ
(2/559)
مَال الْغَيْر بِغَيْر حق. وَالثَّانيَِة:
مبارزة الْأَمر بِالْعَدْلِ بالمخالفة، وَهَذِه
الْمعْصِيَة فِيهِ أدهى؛ لِأَنَّهُ لَا يكَاد يَقع الظُّلم
إِلَّا للضعيف الَّذِي لَا يقدر على الِانْتِصَار إِلَّا
بِاللَّه عز وَجل. وَإِنَّمَا ينشأ الظُّلم من ظلمَة
الْقلب، وَلَو استنار بِنور الْهدى لنظر فِي العواقب،
فَإِذا سعى المتقون بنورهم الَّذِي اكتسبوه فِي الدُّنْيَا
من التَّقْوَى ظَهرت ظلمات الظَّالِم فاكتنفته.
1157 - / 1388 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: بعث رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بعثا وَأمر عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد،
فطعن النَّاس فِي إمارته. [15] اعْلَم أَن النّظر إِلَى
صُورَة الْأَشْيَاء غلب على أَكثر النَّاس. وَكَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتلمح الْمعَانِي،
فالقوم نظرُوا إِلَى أَن أُسَامَة حدث السن، وَأَنه ابْن
مولى، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ صَالحا
للإمارة خُصُوصا فِي هَذِه السّريَّة الَّتِي بَعثه فِيهَا
إِلَى مَوضِع مقتل أَبِيه. وَكَذَلِكَ أَمر عَمْرو بن
الْعَاصِ على جَيش فيهم أَبُو بكر وَعمر لَا لفضله
عَلَيْهِم، وَلكنه كَانَ أبْصر بِالْحَرْبِ. وَهَذِه
السّريَّة الَّتِي أَمر فِيهَا أُسَامَة كَانَت إِلَى أهل
أبنى، فَقَالَ لَهُ: " سر إِلَى مَوضِع مقتل أَبِيك فأوطهم
الْخَيل، وأغر صباحا، وَحرق عَلَيْهِم " فَانْتدبَ مَعَه
وُجُوه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَفِيهِمْ أَبُو بكر
وَعمر وَسعد وَسَعِيد وَأَبُو عبيد ة، فَتكلم حِينَئِذٍ
أَقوام فَقَالُوا: يسْتَعْمل هَذَا الْغُلَام على
الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين. فَغَضب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم غَضبا شَدِيدا، وَكَانَ قد ابْتَدَأَ بِهِ
مَرضه، فَخرج معصوب الرَّأْس، فَصَعدَ الْمِنْبَر وَقَالَ:
" إِن تطعنوا فِي إمرته فقد كُنْتُم تطعنوه فِي إمرة
أَبِيه.
(2/560)
وَايْم الله، إِن كَانَ لخليقا للإمرة أَي
مِمَّن يصلح لَهَا، يَعْنِي زيدا - وَإِن كَانَ لمن أحب
النَّاس إِلَيّ، وَإِن هَذَا من أحب النَّاس إِلَيّ بعده
". فَلَمَّا أَمر أُسَامَة عسكره بالرحيل، جَاءَهُ رَسُول
أمه أم أَيمن فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَمُوت، فَأقبل إِلَى الْمَدِينَة، فَلَمَّا مَاتَ
عَلَيْهِ السَّلَام وبويع لأبي بكر أذن لَهُ فَخرج، وكلم
أَبُو بكر أُسَامَة فِي عمر أَن يَأْذَن لَهُ فِي
التَّخَلُّف فَفعل، فَلَمَّا ذهب إِلَى أهل أبنى شن
عَلَيْهِم الْغَارة وَقتل وسبى، وَقتل قَاتل أَبِيه.
فَكَأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تلمح مِنْهُ
الشجَاعَة، وَحب الْجِهَاد، وَطلب ثأر أَبِيه، فَلَمَّا
رَجَعَ خرج أَبُو بكر فِي الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار
يتلقونهم فَرحا بسلامتهم.
1158 - / 1389 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ذكر رجل لرَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يخدع فِي الْبيُوع، فَقَالَ: "
من بَايَعت فَقل: لَا خلابة ". [15] الخلابة: الخداع. [15]
قَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت: هَذَا الرجل
حبَان بن منقذ بن عَمْرو، أَو وَالِده منقذ. وَقد دلّ
هَذَا الحَدِيث على أَنه من غبن غبنا فَاحِشا فَلهُ
الرَّد، وَهُوَ قَول أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ: لَيْسَ لَهُ. وَقَالَ دَاوُد: العقد
بَاطِل من أَصله. وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا يكون هَذَا فِي
الْغبن الَّذِي لَا يتَغَابَن
(2/561)
النَّاس بِمثلِهِ فِي الْعَادة. وَحده
أَبُو بكر من أَصْحَابنَا بِالثُّلثِ. [15] وَرُبمَا احْتج
بِهَذَا الحَدِيث من لَا يرى الْحجر على الْكَبِير،
فَيَقُول: لَو كَانَ يحْجر على الْكَبِير لحجر الرَّسُول
عَلَيْهِ السَّلَام على هَذَا الرجل. وَلَا حجَّة فِي
هَذَا؛ لِأَن هَذَا الرجل لم يذكر عَنهُ سفه وَلَا
إِتْلَاف مَال، إِنَّمَا كَانَ يخدع فِي الْبيُوع، وَقد
يكون الْإِنْسَان قَلِيل الْخِبْرَة فِي الْبيُوع.
1159 - / 1390 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين [بعد الْمِائَة]
: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع
الْوَلَاء وَعَن هِبته. [15] اعْلَم أَن الْوَلَاء كالنسب،
فَلَا يزَال بالإزالة.
1160 - / 1391 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين [بعد
الْمِائَة] : ارتقيت فَوق بَيت حَفْصَة، فَرَأَيْت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْضِي حَاجته مُسْتَقْبل
الشَّام مستدبر الْقبْلَة. [15] وَفِي لفظ ابْن عمر قَالَ:
إِن نَاسا يَقُولُونَ: إِذا قعدت على حَاجَتك فَلَا
تسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا بَيت الْمُقَدّس. لقد ارتقيت
على ظهر بَيت لنا، فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس لِحَاجَتِهِ.
[15] وَرُبمَا ظن ظان أَن ابْن عمر قد أجَاز بِهَذَا
اسْتِقْبَال الْقبْلَة عِنْد الْحَاجة، وَلَيْسَ كَذَلِك،
وَإِنَّمَا أنكر قَول من يزْعم أَن استقبالها فِي
الْأَبْنِيَة غير جَائِز، فَأَما فِي الصَّحَارِي فَلَا
يجوز استدبار الْقبْلَة وَلَا
(2/562)
استقبالها على مَا بَينا مُسْند أبي
أَيُّوب.
1161 - / 1393 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين [بعد
الْمِائَة] : قَالَ ابْن عمر: وَأما عَليّ فَابْن عَم
رَسُول الله، وَخَتنه. [15] الختن: زوج الْبِنْت. وَقَالَ
ابْن قُتَيْبَة: كل شَيْء من قبل الزَّوْج مثل الْأَب
وَالْأَخ فهم الأحماء، واحدهم حما مثل قفا، وحمو مثل "
أَبُو "، وحمؤ مَهْمُوز سَاكن الْمِيم، وحم مثل أَب. وحماة
الْمَرْأَة: أم زَوجهَا، لَا لُغَة فِيهَا غير هَذِه. وكل
شَيْء من قبل الْمَرْأَة فهم الْأخْتَان، والصهر يجمع
ذَلِك كُله. [15] وَقَوله: وَهَذَا بَيته. يُرِيد بِهِ
الْقرب إِلَى بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
1162 - / 1395 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين [بعد
الْمِائَة] : أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَاد سعد بن عبَادَة فَبكى، وَقَالَ: " إِن الله لَا يعذب
بدمع الْعين وَلَا بحزن الْقلب، وَلَكِن يعذب بِهَذَا
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانه أَو يرحم ". [15]
إِنَّمَا لم يَقع الْعَذَاب على الْبكاء والحزن لثَلَاثَة
أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنه لَا عيب، إِذْ لَا يخالفان
الْمَشْرُوع. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا أثر رقة الْقلب
وتلهفه على فِرَاق المألوف، وَهَذَا أَمر مركوز فِي
الطَّبْع. وَالثَّالِث: أَنَّهُمَا لَا يملكَانِ وَلَا
يُمكن ردهما، فَلم تقع بهما مُؤَاخذَة.
(2/563)
[15] فَأَما اللِّسَان فَقل أَن يتَكَلَّم
فِي المصائب بِمَا يُرْضِي الشَّرْع، ثمَّ إِنَّه يُمكن
إِمْسَاكه، فَوَقع الْعَذَاب بِمَا يصدر عَنهُ مِمَّا لَا
يجوز.
1163 - / 1197 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين [بعد
الْمِائَة] : نهى أَن تصبر بهمية أَو غَيرهَا. للْقَتْل.
[15] صَبر الْبَهَائِم: أَن تحبس للنبل، فَتبقى كالغرض،
وَهُوَ الهدف الَّذِي يَرْمِي إِلَيْهِ. وَالصَّبْر فِي
اللُّغَة: حبس النَّفس على مَا تنَازع، وَسمي رَمَضَان شهر
الصَّبْر لذَلِك.
1164 - / 1398 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين [بعد
الْمِائَة] : أكل لحم الضَّب. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس.
1165 - / 1399 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين [بعد
الْمِائَة] : نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن
يقرن الرجل التمرتين حَتَّى يسْتَأْذن أَصْحَابه. [15]
أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا
جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد
بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: ذكر الاسْتِئْذَان فِي الْقرَان
من قَول ابْن عمر وَلَيْسَ من قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بَين ذَلِك آدم بن أبي إِيَاس فِي
رِوَايَته عَن شُعْبَة، وجوده شَبابَة بن سوار عَن شُعْبَة
عَن جبلة بن سحيم قَالَ: قَالَ ابْن عمر: لَا تقارنوا؛
فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْقرَان.
قَالَ ابْن عمر: إِلَّا أَن يسْتَأْذن الرجل مِنْكُم
أَخَاهُ.
(2/564)
[15] قلت: فَأَما حكم الحَدِيث فَإِن هَذَا
إِنَّمَا يكون فِي الْجَمَاعَة، وَالْعَادَة تنَاول
تَمْرَة وَاحِدَة، فَإِذا قرن الْإِنْسَان زَاد على
الْجَمَاعَة واستأثر عَلَيْهِم، فافتقر إِلَى الْإِذْن.
1166 - / 1400 - وَفِي الحَدِيث السِّتين [بعد الْمِائَة]
: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النّذر
وَقَالَ: " لَا يرد شَيْئا، وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من
الْبَخِيل ". [15] النّذر: الْتِزَام مَا لَا يلْزم،
فَرُبمَا ثقل على النَّفس أَدَاؤُهُ، وَرُبمَا عجزت عَنهُ،
وَرُبمَا كرهت فعل ذَلِك، فَيكون فَاعله للطاعة مَعَ
الْكَرَاهَة لَهَا. [15] وَقَوله: " لَا يرد شَيْئا " أَي
لَا يجتلب مَا لم يقدر. وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من
الْبَخِيل؛ لِأَنَّهُ يَقُول: إِن رد الله عَليّ مَا ضَاعَ
مني تَصَدَّقت بِدِينَار، فَهُوَ لَا يتَصَدَّق لبلخه
إِلَّا أَن يرد عَلَيْهِ مَا ضَاعَ مِنْهُ، فالنذر
يسْتَخْرج مِنْهُ الصَّدَقَة لِأَنَّهُ يرَاهُ لَازِما.
وَقد قَالَ ابْن الْمُبَارك: النّذر مَكْرُوه فِي
الطَّاعَة وَفِي الْمعْصِيَة، فَإِن نذر الرجل الطَّاعَة
فوفى فَلهُ أجر هـ، وَيكرهُ لَهُ النّذر.
1167 - / 1401 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : عرض رجل لِابْنِ عمر فَقَالَ: كَيفَ
سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي
النَّجْوَى. [15] والنجوى: المحادثة فِي السِّرّ.
وَالْمرَاد بهَا هَاهُنَا مُخَاطبَة الرب عز وَجل
لعَبْدِهِ يَوْم الْقِيَامَة.
(2/565)
[15] والكنف: السّتْر. [15] الأشهاد جمع
شَاهد، مثل أنصار وناصر. وللمفسرين فِي المُرَاد بهم
خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم الرُّسُل، قَالَه أَبُو
صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: الْمَلَائِكَة،
قَالَه مُجَاهِد وَقَتَادَة. وَالثَّالِث: النَّبِيُّونَ
وَالْمَلَائِكَة وَأمة مُحَمَّد والجوارح، قَالَه ابْن
زيد. وَالرَّابِع: النَّاس، قَالَه مقَاتل. وَالْخَامِس:
الْأَنْبِيَاء والمؤمنون، قَالَه الزّجاج.
1168 - / 1402 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : أَن رجلا سَأَلَ ابْن عمر قَالَ: نذرت
أَن أَصوم كل ثلاثاء أَو أربعاء، فَوَافَقت هَذَا الْيَوْم
يَوْم النَّحْر. فَقَالَ: أَمر الله بوفاء النّذر، ونهانا
أَن نَصُوم يَوْم النَّحْر. فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ
مثله لَا يزِيد عَلَيْهِ. [15] اعْلَم أَن ابْن عمر لما
تَعَارَضَت عِنْده الْآيَة وَالْخَبَر تورع عَن الْفتيا
فَلم يجب بِشَيْء. وَالْجَوَاب: أَنه يقْضِي يَوْمًا
مَكَانَهُ وَيكفر كَفَّارَة يَمِين. وَاخْتلف الْفُقَهَاء
فِيمَا إِذا نذر يَوْم الْعِيد، فعندنا أَنه لَا يَصُوم،
بل يقْضِي وَيكفر. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: إِن
صَامَهُ أَجزَأَهُ، وَعنهُ: أَنه يكفر من غير قَضَاء.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يفْطر وَيَقْضِي، فَإِن صَامَ
أَجزَأَهُ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا ينْعَقد
هَذَا النّذر.
1169 - / 1403 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : أَن ابْن عمر أَتَى على رجل قد أَنَاخَ
بدنته لينحرها، فَقَالَ: ابعثها قيَاما
(2/566)
مُقَيّدَة، سنة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. [15] السّنة نحر الْإِبِل قَائِمَة، وتعقل الْيَد
الْيُسْرَى، وتضرب بالحربة فِي الوهدة الَّتِي بَين أصل
الْعُنُق والصدر. فَأَما الْبَقر وَالْغنم فَالسنة
ذَبحهَا.
1170 - / 1404 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : كَانَ ابْن عمر يُصَلِّي بالمحصب
الظّهْر، وَكَانَ يرى التحصيب سنة. [15] التحصيب:
الْمَكَان الَّذِي فِيهِ الْحَصْبَاء: وَهِي الْحَصَى
الصغار، وَهَذَا هُوَ الشّعب الَّذِي مخرجه إِلَى الأبطح
الْقَرِيب من مَكَّة. والتحصيب: النُّزُول فِيهِ، وَهُوَ
الْمَكَان الَّذِي نزل فِيهِ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَقد ذكرنَا عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ:
لَيْسَ التحصيب بِشَيْء، إِنَّمَا كَانَ أسمح لخُرُوج
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] والأبطح:
الْمَكَان الْوَاسِع.
1171 - / 1405 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : " من مقَال لِأَخِيهِ: يَا كَافِر، فقد
بَاء بهَا أَحدهمَا ". [15] بَاء بِمَعْنى رَجَعَ. قَالَ
أَبُو بكر الْأَثْرَم: وَجهه عندى أَنه إِذا كَانَ
كَافِرًا كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِن كَانَ مُسلما فقد كفر
من يعْتَقد الْمُسلم كَافِرًا. قَالَ: وَيُمكن أَن يكون
الْمَعْنى: بَاء بإثمها.
(2/567)
1172 - / 1406 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : " إِن الْيَهُود إِذا
سلمُوا إِنَّمَا يَقُول أحدهم: سَام عَلَيْك، فَقل:
عَلَيْك ". [15] السام: الْمَوْت. وَسَيَأْتِي هَذَا
مشروحا فِي مُسْند عَائِشَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1173 - / 1407 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : كُنَّا إِذا بَايعنَا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على السّمع وَالطَّاعَة يَقُول: "
فِيمَا اسْتَطَعْت ". [15] هَذَا التَّلْقِين للمبايع من
لطف الشَّرْع ورفقه، وَفِيه دَلِيل على جَوَاز تَكْلِيف
مَالا يُطَاق؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَت الْمُبَايعَة لَا تقع
إِلَّا على المستطاع كَانَ التَّلْقِين لهَذِهِ الْكَلِمَة
لَغوا.
1174 - / 1408 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : " مَا حق امرىء مُسلم لَهُ شَيْء يُوصي
فِيهِ يبيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا ووصيته مَكْتُوبَة عِنْده
". [15] هَذَا أَمر بالتأهب للْمَوْت والاحتراز قبل
الْفَوْت. فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلم
قَالَ " لَيْلَتَيْنِ " وَثَلَاث لَيَال " وهلا قَالَ
لَيْلَة؟ فَالْجَوَاب: أَنه قد حكى أَبُو مَسْعُود صَاحب "
التعليقة " أَن مُسلما رَوَاهُ فَقَالَ فِيهِ " لَيْلَة "،
غير أَن هَذَا لم نجده فِي كتاب
(2/568)
مُسلم. فَتَقول: لما كَانَت الْوَصِيَّة
تحْتَاج إِلَى تَأمل وتدبر، وَكَانَ السَّامع لهَذَا
الحَدِيث رُبمَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ النّظر فِيمَا يُرِيد
أَن يُوصي بِهِ فِي لَيْلَة، وَأَرَادَ الشَّرْع
التَّعْجِيل قَالَ لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَلما فهم
ابْن عمر أَن المُرَاد التَّعْجِيل قَالَ: مَا مرت عَليّ
لَيْلَة مُنْذُ سَمِعت هَذَا إِلَّا وَعِنْدِي وصيتي.
1175 - / 1409 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ
[بعد الْمِائَة] : " إِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش "
يَعْنِي الْإِمَارَة.
1176 - / 1410 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين [بعد الْمِائَة]
: نهى عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان. [15] لَا يحسن قتل
النِّسَاء لمعنيين: أَحدهمَا: أَنَّهُنَّ لَا يقاتلن فِي
الْأَغْلَب، وَفِي قتل من لَا يُقَاتل نوع جور.
وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ عِنْد الْغَلَبَة يصرن غنيمَة
للْمُسلمين، وَكَذَلِكَ الصّبيان، فَقَتلهُمْ تَفْرِيط فِي
المَال. فَأَما إِن قَاتَلت الْمَرْأَة فَإِنَّهَا تقتل
حِينَئِذٍ. [15] وَأما الشَّيْخ الفاني والراهب
وَالْأَعْمَى والزمن فَإِنَّهُم لَا يقتلُون أَيْضا،
إِلَّا أَن يكون لَهُم رَأْي وتدبير يخَاف مِنْهُ النكاية
فِي الْمُسلمين، أَو يحاربوا، فَيجوز حِينَئِذٍ قَتلهمْ.
(2/569)
1177 - / 1411 وَفِي الحَدِيث الأول من
أَفْرَاد البُخَارِيّ: " فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو
كَانَ عثريا الْعشْر ". [15] السَّمَاء هَاهُنَا:
الْمَطَر. وَالْمرَاد بالعيون مَا سقِِي من غير ترقية
المَاء مِنْهُ بكلفة. فَأَما العثري فَقَالَ أَبُو عبيد:
هُوَ العذي، والعذي مَا شقته السَّمَاء، فَأَما مَا يشرب
بعروقه من الأَرْض من غير سقِِي سَمَاء وَلَا غَيرهَا
فَهُوَ بعل. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْكسَائِيّ:
البعل: العذي، وَمَا سقته السَّمَاء. وَقَالَ ابْن
قُتَيْبَة: لم أرهم يَخْتَلِفُونَ أَن البعل العذي
بِعَيْنِه، والعذي نَوْعَانِ: أَحدهمَا: العثري، وَهُوَ
الَّذِي يُؤْتى بِمَاء الْمَطَر إِلَيْهِ حَتَّى يسْقِيه.
وَإِنَّا سمي عثريا لأَنهم يجْعَلُونَ فِي مجْرى السَّيْل
عاثورا، فَإِذا صدمه الماد ترَاد فَدخل فِي تِلْكَ المجاري
حَتَّى يبلغ النَّحْل ويسقيه، وَلَا يخْتَلف النَّاس فِي
العثري أَنه العذي. وَالنَّوْع الآخر من العذي البعل، فَمن
البعل مَا يفتح إِلَيْهِ المَاء عَن مجاري السُّيُول
بِغَيْر عواثير، وَمِنْه مَا لَا يبلغهُ المَاء، فالسماء
تسقيه بالمطر. [15] وَقَوله: " مَا سقِِي بالنضح " أَي
بِالْإِبِلِ وَالْبَقر. وأصل النَّضْح رش المَاء على
الشَّيْء. وَالْمرَاد من هَذَا الحَدِيث بَيَان قدر الْحق
الْوَاجِب، وَأَنه يخْتَلف بالكلف وَعدمهَا. وَقد بَين
مِقْدَار مَا تجب فِيهِ الزَّكَاة فِي أَحَادِيث أخر،
سَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر وَأبي سعيد وَغَيرهمَا، مثل
قَوْله: " لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أَو سُقْ صَدَقَة "
وَهَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَأما أَبُو حنيفَة
(2/570)
فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر النّصاب فِي
المعشرات أخذا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث.
1178 - / 1412 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " إِنَّمَا
بقاؤكم فِيمَا سلف قبلكُمْ من الْأُمَم كَمَا بَين صَلَاة
الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس ". [15] قَوْله: " إِنَّمَا
بقاؤكم " إِشَارَة إِلَى قرب الْقِيَامَة وَقلة مَا بَقِي
من الدُّنْيَا. فَأَما " التَّوْرَاة " فَكَانَ الْفراء
يَجْعَلهَا من روى الزند يري: إِذا خرجت ناره، وأوريته،
يُرِيد أَنَّهَا ضِيَاء. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَفِيه
لُغَة أُخْرَى: وري يري، وَيُقَال: وريت لَك زنادي. [15]
قَالَ الْفراء: " وَالْإِنْجِيل " من نجلت الشَّيْء: إِذا
أخرجته، وَولد الرجل نجله، كَأَنَّهُ هُوَ استخرجه.
وَيُقَال: قبح الله ناجليه: أَي وَالِديهِ، وَقيل للْمَاء
يظْهر من النز: نجل، يُقَال: قد استنجل الْوَادي. وإنجيل "
إفعيل " من ذَلِك، كَأَن الله أظهر بِهِ عافيا من الْحق
دارسا. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ:
الْإِنْجِيل أعجمي مُعرب، قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: إِن
كَانَ عَرَبيا فاشتقاقه من النجل: وَهُوَ ظُهُور المَاء
على وَجه الأَرْض واتساعه. ونجلت الشَّيْء: إِذا استخرجته
وأظهرته. فالإنجيل مستخرج بِهِ عُلُوم وَحكم. قَالَ:
وَقيل: هُوَ " إفعيل " من النجل، وَهُوَ الأَصْل، فالإنجيل
أصل لعلوم وَحكم. [15] فَأَما " الْقُرْآن " فَقَالَ ابْن
قُتَيْبَة: هُوَ من قَوْلك: مَا قَرَأت النَّاقة
(2/571)
سلى قطّ: أَي مَا ضمت فِي رَحمهَا ولدا،
وَأنْشد أَبُو عُبَيْدَة:
( ... ... ... هجان اللَّوْن لم تقْرَأ جَنِينا)
[15] وَإِنَّمَا سمي قُرْآنًا لِأَنَّهُ جمع السُّور
وَضمّهَا. [15] ومقصود الحَدِيث تَفْضِيل هَذِه الْأمة
وتوفير أجرهَا مَعَ قلَّة عَملهَا، وَإِنَّمَا فضلت
لقُوَّة يقينها ومراعاة اصل دينهَا، فَإِن زلت فَأكْثر
زللها من الْفُرُوع جَريا بِمُقْتَضى الطباع لَا قصدا
للمخالفة، ثمَّ تتداركه بالاعتراف الماحي للاقتراف.
وَعُمُوم زلل من قبلهم كَانَ فِي الْأُصُول والمعاندة
للشرائع، كَقَوْلِهِم: {اجْعَل لنا إِلَهًا} [الْأَعْرَاف:
138] وكامتناعهم من أَخذ الْكتاب حَتَّى نتق الْجَبَل
فَوْقهم. وَلَقَد عرضت لَهُم غزَاة فِي مُدَّة دهرهم
فَقَالُوا: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا}
[الْمَائِدَة: 24] وَقد علم مَا كَانَت الصَّحَابَة تؤثره
وتزدحم عَلَيْهِ من حب الشَّهَادَة.
1179 - / 1413 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث خَالِد بن الْوَلِيد
إِلَى بني جذيمة فَلم يحسنوا أَن يَقُولُوا أسلمنَا،
فَقَالُوا: صبأنا صبأنا، فَقَتلهُمْ وأسرهم، فَذكر ذَلِك
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: "
اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْك مِمَّا صنع خَالِد ".
[15] صبأنا: أَي خرجنَا من ديننَا. يُقَال: صَبأ
الْبَعِير: إِذا خرج.
(2/572)
وَأَرَادُوا أَنا قد خرجنَا من ديننَا
إِلَى دينك، فَلم يفهم مُرَادهم، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن
يستثبت.
1180 - / 1414 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا رفع رَأسه من الرَّكْعَة
الْآخِرَة من الْفجْر يَقُول: " اللَّهُمَّ الْعَن فلَانا
وَفُلَانًا " فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ لَك من
الْأَمر شَيْء} [آل عمرَان: 128] . [15] معنى الْآيَة:
لَيْسَ لَك من استصلاحهم وَلَا من عَذَابهمْ شَيْء،
وَإِنَّمَا عَلَيْك أَن تبلغ.
1181 - / 1415 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " مَفَاتِيح
الْغَيْب خمس ". [15] قَالَ ابْن جرير: المفاتيح جمع
مِفْتَاح. والمفاتح جمع مفتح. [15] وَأما الْغَيْب فَهُوَ
مَا غَابَ عَن الْخلق، وَلَا غيب عِنْد الله عز وَجل. [15]
وَقَوله: {وَمَا تغيض الْأَرْحَام} [الرَّعْد: 8] أَي
تنقص. وللمفسرين فِي معنى الْكَلَام أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: تغيض بِالْوَضْعِ لأَقل من تِسْعَة أشهر وتزداد
بِالْوَضْعِ لأكْثر من تِسْعَة أشهر، رَوَاهُ الضَّحَّاك
عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: تغيض بِالسقطِ النَّاقِص
وتزداد بِالْوَلَدِ التَّام، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن
عَبَّاس. وَالثَّالِث: تغيض بإراقة الدَّم فِي الْحمل
حَتَّى يتضاءل الْوَلَد، وتزداد إِذا أسكت الدَّم فيعظم
الْوَلَد، قَالَه مُجَاهِد. وَالرَّابِع: تغيض من وَلدته
من قبل وتزداد من تلده من بعد، قَالَه قَتَادَة.
1182 - / 1416 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن ابْن عمر
كَانَ يَرْمِي
(2/573)
الْجَمْرَة الدُّنْيَا بِسبع حَصَيَات،
ثمَّ يتَقَدَّم فيسهل. [15] أما الْجَمْرَة الدُّنْيَا
فَهِيَ الأولى، وَهِي الَّتِي تلِي مَسْجِد الْخيف، وَهِي
الْأَقْرَب إِلَى عَرَفَات. وَالسّنة أَن يَجْعَلهَا عَن
يسَاره وَيسْتَقْبل الْقبْلَة ويرميها، ثمَّ يتَقَدَّم
عَنْهَا إِلَى مَوضِع لَا تصيبه الْحَصَى، وَيقف بِقدر
قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة يَدْعُو الله تَعَالَى. وَمعنى
يسهل: يطْلب سهل الأَرْض، وَهُوَ المنخفض. ثمَّ يَرْمِي
الْجَمْرَة الْوُسْطَى ويجعلها عَن يَمِينه، وَيسْتَقْبل
الْقبْلَة، وَيفْعل فِي الْوُقُوف وَالدُّعَاء كَمَا فعل
فِي الأولى، ثمَّ يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة ويجعلها عَن
يَمِينه، ويستبطن الْوَادي، وَيسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا
يقف عِنْدهَا.
1183 - / 1417 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: جَاءَ ابْن عمر
يَوْم عَرَفَة حِين زَالَت الشَّمْس فصاح عِنْد سرادق
الْحجَّاج فَقَالَ: الرواح إِن كنت تُرِيدُ السّنة. [15]
السرادق: كل مَا أحَاط بِشَيْء نَحْو المضرب والخباء.
وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: السرادق
فَارسي مُعرب، وَأَصله بِالْفَارِسِيَّةِ سرادار: وَهُوَ
الدهليز، قَالَ الفرزدق:
(تمنيتهم حَتَّى إِذا مَا لقيتهم ... تركت لَهُم قبل
الضراب السرادقا)
[15] وَقَوله: أقصر الْخطْبَة. من السّنة أَنه إِذا زَالَت
الشَّمْس خطب الإِمَام خطْبَة يعلم النَّاس فِيهَا
مناسكهم، من مَوضِع الْوُقُوف وَوَقته، وَدفعه من
عَرَفَات، وَمَوْضِع صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء
بِمُزْدَلِفَة، وَالْمَبِيت بهَا، والعدو
(2/574)
إِلَى منى للرمي، وَالطّواف والنحر،
وَالْمَبِيت بمنى لرمي الْجمار، ثمَّ يَأْمر بِالْأَذَانِ،
وَينزل فَيصَلي بِالنَّاسِ الظّهْر وَالْعصر، يجمع
بَينهمَا بِإِقَامَة لكل صَلَاة.
1184 - / 1418 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: دخلت على حَفْصَة
ونوساتها تنطف، قلت: قد كَانَ من أَمر النَّاس مَا تَرين،
فَلم يَجْعَل لي من الْأَمر شَيْء. فَقَالَت: الْحق
فَإِنَّهُم ينتظرونك، وأخشى أَن يكون فِي احتباسك عَنْهُم
فرقة. فَلم تَدعه حَتَّى ذهب. فَلَمَّا تفرق النَّاس خطب
مُعَاوِيَة فَقَالَ: من كَانَ يُرِيد أَن يتَكَلَّم فِي
هَذَا الْأَمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أَحَق بِهِ مِنْهُ
وَمن أَبِيه. فحللت حبوتي، فهممت أَن أَقُول: أَحَق
بِهَذَا الْأَمر مِنْك من قَاتلك على الْإِسْلَام.
فَخَشِيت أَن أَقُول كلمة تفرق بَين الْجمع وتسفك الدَّم،
فَذكرت مَا أعد الله فِي الْجنان. فَقيل لَهُ: عصمت. [15]
قَوْله: ونوساتها تنطف، قد فسرناه فِي مُسْند عمر. [15]
قَوْله: قد كَانَ من أَمر النَّاس مَا كَانَ، وَلم يَجْعَل
لي من الْأَمر شَيْء. أَشَارَ إِلَى جعل عمر الْخلَافَة
شُورَى فِي سِتَّة وَلم يَجْعَل لَهُ من الْأَمر شَيْء.
فَقَالَت لَهُ: الْحق، فَإِنَّهُم ينتظرونك. هَذَا لِأَن
عمر قَالَ: يشهدكم عبد الله وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر
شَيْء. وَهَذِه حِكَايَة الْحَال الَّتِي جرت فِي زمن عمر.
(2/575)
[15] وَقَوله: فَلَمَّا تفرق النَّاس خطب
مُعَاوِيَة. كَانَ هَذَا فِي زمن مُعَاوِيَة، وإرادته أَن
يَجْعَل ابْنه يزِيد ولي عَهده. [15] وَقَوله: من أَرَادَ
أَن يتَكَلَّم فِي هَذَا الْأَمر. يَعْنِي الْخلَافَة.
فليطلع لنا قرنه: أَي فليرنا وَجهه. [15] وَقَوله: فحللت
حبوتي: إِذا جمع الرجل ظَهره وساقيه سَوَاء فَهِيَ الحبوة
وَقد احتبى. وَإِنَّمَا حل حبوته ليَتَكَلَّم وَيرد على
مُعَاوِيَة، فخاف أَن يكون قَوْله سَببا لتفريق
الْجَمَاعَة، فَذكر ثَوَاب الله تَعَالَى فَسكت. [15]
وَقَوله: عصمت. يُقَال: عصم فلَان: إِذا منع بِالْقدرِ من
شَيْء لَو فعله لم تحمد عاقبته.
1185 - / 1419 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ ابْن عمر:
الصّيام لمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج إِلَى يَوْم
عَرَفَة، فَإِن لم يجد هَديا وَلم يصم صَامَ أَيَّام منى.
[15] صفة التَّمَتُّع: أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر
الْحَج ويفرغ مِنْهَا، ثمَّ يحرم بِالْحَجِّ من مَكَّة فِي
عَامه. فَهَذَا يجب عَلَيْهِ دم، فَإِن لم يجد صَامَ
ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج آخرهَا يَوْم عَرَفَة.
كَذَلِك قَالَ عَليّ وَالْحسن وَطَاوُس وَسَعِيد بن
جُبَير. وَقَالَ عَطاء: لَا يَصُوم الثَّلَاثَة الْأَيَّام
إِلَّا فِي الْعشْرَة. وَقَالَ الثَّوْريّ: إِن شَاءَ
صامهن متفرقات والوصال أحب إِلَيّ. فَإِن لم يصم
الثَّلَاثَة الْأَيَّام قبل يَوْم النَّحْر فَاخْتَلَفُوا
فِيمَا يصنع: فقد ذكرنَا عَن ابْن عمر أَنه يَصُوم أَيَّام
منى، وَنَقله الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد بن
(2/576)
حَنْبَل. وَقَالَ آخَرُونَ: يَصُوم بعد
أَيَّام التَّشْرِيق، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَرَوَاهُ الْمروزِي عَن أَحْمد، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
1186 - / 1420 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: قَول جِبْرِيل:
إِنَّا لَا ندخل بَيْتا فِيهِ صُورَة وَلَا كلب. قد سبق
بَيَانه فِي مُسْند أبي طَلْحَة
1187 - / 1421 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: قَالَ ابْن
عمر: رُبمَا ذكرت قَول الشَّاعِر وَأَنا أنظر إِلَى وَجه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي، وَمَا
ينزل حَتَّى يَجِيش كل ميزاب:
(وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ ... ثمال الْيَتَامَى
عصمَة للأرامل)
[15] قَوْله: يَجِيش، من قَوْلهم: جَاشَتْ الْقدر: إِذا
غلت. وَقَوله: ثمال الْيَتَامَى: أَي معتمدهم وملجأهم.
وَقَوله: عصمَة للأرامل: أَي يمتنعون بِهِ من الْحَاجة
والشدة. والأرامل يَقع على الرِّجَال وَالنِّسَاء، قَالَ
الشَّاعِر:
(هذي الأرامل قد قضيت حَاجَتهَا ... فَمن لحَاجَة هَذَا
الأرمل الذّكر)
1188 - / 1422 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " رَأَيْت
امْرَأَة ثائرة الرَّأْس خرجت من الْمَدِينَة حَتَّى نزلت
مهيعة، فتأولتها: أَن وباء الْمَدِينَة
(2/577)
نقل إِلَى مهيعة " وَهِي الحجفة. [15]
قَوْله: " ثائرة الرَّأْس " يَعْنِي أَن شعرهَا منتشر غير
مرجل. [15] والحجفة من قَوْلك: سيل جحاف: إِذا جرف كل
شَيْء. وَيُقَال: اجتحف مَا فِي الْقَصعَة: إِذا أكله،
وأنشدوا:
(وجحفتم جحف الخريز ونمتم ... وَبَنُو صَفِيَّة ليلهم لَا
يهجع)
[15] وَكَانَت الْجحْفَة حِينَئِذٍ مسكن الْيَهُود.
1189 - / 1423 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " من أَخذ
شبْرًا من الأَرْض بِغَيْر حَقه خسف بِهِ يَوْم
الْقِيَامَة إِلَى سبع أَرضين " قد فسرنا هَذَا الحَدِيث
فِي مُسْند سعيد بن زيد.
1190 - / 1424 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقِي زيد بن عَمْرو بن
نفَيْل قبل أَن ينزل الْوَحْي، فَقدم إِلَيْهِ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سفرة فِيهَا لحم، فَقَالَ زيد:
إِنِّي لَا آكل مِمَّا تذبحون على أنصابكم، وَلَا آكل
إِلَّا مَا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ. [15] كَانَ زيد بن
عَمْرو بن نفَيْل يطْلب الدّين، وَخرج إِلَى الشَّام فِي
طلبه، وَلَقي عُلَمَاء الْيَهُود وسألهم، فَدَعوهُ إِلَى
دينهم فَأبى، وَقَالَ: أَنا على دين إِبْرَاهِيم، وَكَانَ
إِنْكَاره على قُرَيْش مَا هم فِيهِ من قُوَّة يقظته وجودة
فهمه، وَمن اسْتعْمل عقله وفهمه دله على الْخَالِق
سُبْحَانَهُ،
(2/578)
وَمنعه من إِضَافَة شريك وند. [15]
وَقَوله: لَا آكل مِمَّا تذبحون على أنصابكم. الأنصاب:
الْأَصْنَام. وَقَالَ ابْن جريج: هِيَ حِجَارَة كَانُوا
يذبحون عَلَيْهَا ويعظمونها. [15] وَرُبمَا ظن ظان أَن
رَسُول الله كَانَ يَأْكُل مِمَّا يذبح على النصب،
وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الله سُبْحَانَهُ عصمه عَن ذَلِك
وَعَن أكل لحم الْميتَة، وَكَانَ يتبع شَرِيعَة
إِبْرَاهِيم. بلَى، إِن الظَّاهِر أَنه كَانَ يَأْكُل
مِمَّا يذبحونه لنفسهم، وَيرى أَن الذكاء قد وَقعت بفعلهم،
وَلَا يَتَّسِع لَهُ أَن يذبح لنَفسِهِ فِي كل وَقت،
وَإِنَّمَا ظن زيد فِيهِ أَنه يَأْكُل من ذَلِك.
1191 - / 1426 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " لِأَن
يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا ". [15] وَقد شرحناه فِي مُسْند
سعد.
1192 - / 1427 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن ابْن
عمر كره أَن تعلم الصُّورَة. [15] أَي أَن يَجْعَل فِيهَا
عَلامَة، وَهِي السمة فِي الْوَجْه.
1193 - / 1430 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " إِن النَّاس
يصيرون جثا، كل أمة تتبع نبيها تَقول: اشفع يَا فلَان،
اشفع، حَتَّى تَنْتَهِي الشَّفَاعَة إِلَى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذَلِك يَوْم يَبْعَثهُ الله
الْمقَام الْمَحْمُود ".
(2/579)
[15] قَوْله " جثا " أَي جماعات مجتمعة،
الْوَاحِدَة جثوَة بِضَم الْجِيم، وكل شَيْء مَجْمُوع
فَهُوَ جثوَة. وَأما الجثى فَهُوَ جمع جاث على
رُكْبَتَيْهِ. وَسمعت أَبَا مُحَمَّد بن الخشاب يَقُول:
إِنَّمَا هُوَ جثى بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ جمع جاث، كغاز
وغزى. قَالَ: وَجَثَا مُخَفّفَة جمع جثوَة، وَلَا معنى
لَهَا هَاهُنَا. [15] وَالْمقَام الْمَحْمُود:
الشَّفَاعَة.
1194 - / 1432 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ:
" لَو يعلم النَّاس مَا فِي الْوحدَة مَا سَار رَاكب وَحده
بلَيْل أبدا ". [15] قد جَاءَ فِي الحَدِيث: أَن لله
تَعَالَى خلقا يبثهم بِاللَّيْلِ. وَقد أَمر بالاحتراز من
أُولَئِكَ. فَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن
الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ:
حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي عدي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
إِسْحَق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عَطاء بن يسَار
عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا سَمِعْتُمْ نباح الْكلاب ونهاق
الْحمير فتعوذوا بِاللَّه، فَإِنَّهَا ترى مَالا ترَوْنَ،
وأقلوا الْخُرُوج إِذا هدأت الرجل، فَإِن الله عز وَجل يبث
فِي ليله من خلقه مَا شَاءَ. وأجيفوا الْأَبْوَاب،
واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهَا، فَإِن الشَّيْطَان لَا
يفتح بَابا أجيف وَذكر اسْم الله عَلَيْهَا " وَفِي
الحَدِيث تَنْبِيه على خطأ جهلة المتزهدين فِي سياحاتهم
(2/580)
بِاللَّيْلِ ومشيهم فِي الظُّلُمَات على
الْوحدَة.
1195 - / 1433 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
إِن نَاسا قَالُوا لَهُ: إِنَّا ندخل على سلطاننا فَنَقُول
لَهُم بِخِلَاف مَا نتكلم بِهِ إِذا خرجنَا من عِنْدهم.
قَالَ: كُنَّا نعد هَذَا نفَاقًا فِي عهد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] النِّفَاق: مُخَالفَة الْبَاطِن
للظَّاهِر، وَمَا كَانَ هَذَا مِمَّا يحْتَاج إِلَى
اسْتِعْمَاله فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَإِنَّمَا حدثت وُلَاة جورة، فَمن اضْطر إِلَى
اسْتِعْمَال المعاريض فِي لقائهم لم يكن ذَلِك نفَاقًا.
1196 - / 1434 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين:
أَنه ذكر الحرورية، وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ من
الْإِسْلَام. [15] وَقد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام.
1197 - / 1435 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين:
شَبكَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصَابِعه
وَقَالَ: " كَيفَ أَنْت يَا عبد الله بن عَمْرو إِذا بقيت
فِي حثالة من النَّاس ". [15] حثالة كل شَيْء: رديئه
وثفله. [15] ومرجت بِكَسْر الرَّاء، وَمَعْنَاهُ اخْتلطت
عهودهم وَلم يفوا بهَا. وَإِنَّمَا شَبكَ أَصَابِعه ليمثل
اختلاطهم. [15] وقدوله: " تقبل على خاصتك " أَي مَا يخصك
ويلزمك النّظر فِيهِ.
(2/581)
وَيحْتَمل أَن يُرِيد بالخاصة الْخَواص
الَّذين يفهمون عَنهُ، وَلذَلِك قَالَ: " ودعهم وعوامهم "
أَي: وَمن لَا يفهم عَنْك.
1198 - / 1437 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين:
أَن ابْن عمر كَانَ ينَام وَهُوَ عزب فِي مَسْجِد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] قَالَ ابْن فَارس:
العزب: الَّذِي لَا أهل لَهُ. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث
جَوَاز بيتوتة الرجل فِي الْمَسْجِد، وَلَا يُقَال: قد
اتَّخذهُ دَارا، وَلَا إِنَّه رُبمَا أجنب.
1199 - / 1439 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين:
إِن فرسا لعبد الله عَار. [15] أَي ند وَذهب.
1200 - / 1440 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: عَن ابْن
عمر: {فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} [الْبَقَرَة: 223]
يَأْتِيهَا فِيهِ. [15] قد ظن أَقوام جَوَاز إتْيَان
الْمَرْأَة فِي الدبر، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَة
وَتَفْسِير ابْن عمر لَهَا. وَلَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل،
وَلَا فِي تَفْسِير ابْن عمر لفظ صَرِيح. وَظَاهر قَوْله:
يَأْتِيهَا فِيهِ: أَنه يَعْنِي الْحَرْث أَو الْفرج.
وَفِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: يَأْتِيهَا فِي. قَالَ
الرَّاوِي: يَعْنِي: فِي الْفرج. وَقد حُكيَ عَن مَالك
جَوَاز ذَلِك، وَعَامة أَصْحَابه يُنكرُونَ ثُبُوته عَنهُ.
(2/582)
وَالدَّلِيل على أَنه لَا يجوز من خَمْسَة
أوجه: أَحدهَا: أَنه سَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من
حَدِيث جَابر: كَانَت الْيَهُود تَقول: إِذا جَامعهَا من
وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَد أَحول، فَنزلت: {نِسَاؤُكُمْ
حرث لكم} فقد بَان الْمَقْصُود من (أَنى) . [15]
وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة (أَنى) يخْتَلف مَعْنَاهَا على
ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن تكون بِمَعْنى كَيفَ.
وَالثَّانِي: بِمَعْنى مَتى. وَالثَّالِث: بِمَعْنى من
أَيْن. فَإِن قُلْنَا: هِيَ بِمَعْنى كَيفَ فسبب الْآيَة
يؤكده، وَالْمعْنَى: كَيفَ شِئْتُم مقبلة أَو مُدبرَة
وعَلى كل حَال، إِلَّا أَن الْإِتْيَان يكون فِي الْفرج،
وَهَذَا تَفْسِير ابْن عَبَّاس وَمُجاهد فِي خلق كثير.
وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا بِمَعْنى مَتى، فَالْمَعْنى: أَي
وَقت شِئْتُم، وَهَذَا تَفْسِير ابْن الْحَنَفِيَّة
وَالضَّحَّاك. وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا بِمَعْنى من أَيْن،
فَالْمَعْنى: إِن شِئْتُم من بَين يَديهَا، وَإِن شِئْتُم
من وَرَائِهَا، وَهَذَا يرجع إِلَى القَوْل الأول. قَالَ
ابْن قُتَيْبَة: أَنى يكون بِمَعْنى كَيفَ، وَيكون
بِمَعْنى من أَيْن، والمعنيان متقاربان،
وَيجوز أَن يتَأَوَّل فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر،
قَالَ الْكُمَيْت:
(أَنى وَمن أَيْن آبك الطَّرب ... من حَيْثُ لَا صبوة
وَلَا ريب)
[15] وَالثَّالِث: أَن الْآيَة دلّت على مَوضِع
الْإِتْيَان بقوله: {فَأتوا حَرْثكُمْ} وَمَوْضِع الزَّرْع
إِنَّمَا هُوَ مَكَان الْوَلَد لِأَن الْوَلَد مشبه
بالنبات، فمل يجز أَن يَقع الْوَطْء فِي مَحل لَا يكون
مِنْهُ ولد. [15] وَالرَّابِع: أَنه قد رُوِيَ عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن هَذَا: عمر
وَعلي وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَعبد الله بن عمر وَابْن
عَبَّاس والبراء بن
(2/583)
عَازِب وَعقبَة بن عَامر وَخُزَيْمَة ابْن
ثَابت وَأَبُو هُرَيْرَة، وَفِي لفظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة:
" مَلْعُون من أَتَى النِّسَاء فِي أدبارهن ". وَقد ذكرت
هَذِه الْأَحَادِيث بأسانيدها فِي كتاب " تَحْرِيم الْمحل
الْمَكْرُوه " وَذكرت هُنَاكَ نهي جمَاعَة من الصَّحَابَة
عَنهُ، مِنْهُم ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَأَبُو
الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة، وَمن
التَّابِعين الْحسن وَمُجاهد وَعِكْرِمَة، وَهُوَ قَول أبي
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَلَا يَصح عَن مَالك.
وَالْخَامِس: أَن تَحْرِيم إتْيَان الْحَائِض كَانَ
لعِلَّة الْأَذَى، والأذى ملازم لهَذَا الْمحل لَا
يُفَارِقهُ.
1201 - / 1441 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ:
عَن ابْن عمر: {فديَة طَعَام مِسْكين} [الْبَقَرَة: 184]
قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَة. [15] كَانَ الْإِنْسَان يُخَيّر
بَين أَن يَصُوم رَمَضَان وَبَين أَن يفتدي، فَنزل قَوْله
تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه}
[الْبَقَرَة: 185] فنسخت تِلْكَ الْآيَة.
1202 - / 1445 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ:
أَن ابْن عمر ذكر لَهُ أَن سعيد بن زيد مَرِيض، فَركب
إِلَيْهِ وَترك الْجُمُعَة. [15] سعيد هُوَ ابْن ابْن عَم
ابْن عمر بن الْخطاب؛ لِأَن عمر هُوَ ابْن
(2/584)
الْخطاب بن نفَيْل، وَسَعِيد بن زيد بن
عَمْرو بن نفَيْل، وَهُوَ زوج فَاطِمَة بنت الْخطاب أُخْت
عمر. [15] وَمن الْأَعْذَار الَّتِي يجوز لَهَا ترك
الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة أَن يكون للْإنْسَان قرَابَة
يخَاف مَوته وَيُرِيد أَن يحضرهُ.
1203 - / 1446 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ:
قَالَ ابْن عمر: إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر يُوقف حَتَّى
يُطلق، وَلَا يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق حَتَّى يُطلق.
يَعْنِي المؤلي. [15] اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا مَضَت
على المؤلي أَرْبَعَة أشهر، فَقَالَ قوم: إِذا لم يفء قبل
مضيها ثمَّ تمت أَرْبَعَة أشهر لحقت الْمَرْأَة تطليقه
وَاحِدَة. ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ: بَعضهم: رَجْعِيَّة،
وَقَالَ بَعضهم: بَائِنَة. وَقد رُوِيَ عَن عمر أَنه
قَالَ: إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة،
وَكَذَلِكَ عَن عُثْمَان وَعلي قَالَا: هِيَ تَطْلِيقَة
بَائِنَة. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: إِذا انْقَضتْ
الْأَرْبَعَة الْأَشْهر خطبهَا وَأَمْهَرهَا مهْرا
جَدِيدا. وَقَالَ قوم: إِذا مَضَت الْأَرْبَعَة الْأَشْهر
اسْتحق عَلَيْهِ أَن يفِيء أَو يطق. رُوِيَ عَن عمر أَيْضا
وَعُثْمَان وَعلي وَسَهل بن سعد. وَقد ذَكرْنَاهُ وَعَن
ابْن عمر. وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.
1204 - / 1449 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ:
وَعمر يستلئم لِلْقِتَالِ.
(2/585)
[15] استلأم الرجل يستلئم: إِذا لبس
اللأمة، بِالْهَمْز: وَهِي الدرْع، وَجمع لؤم على غير
قِيَاس.
1205 - / 1450 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: أَن
الْمَسْجِد كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مُبينًا بِاللَّبنِ، وسقفه بِالْجَرِيدِ. [15]
الجريد: سعف النّخل، الْوَاحِدَة جَرِيدَة، وَسميت بذلك
لِأَنَّهُ قد جرد عَنْهَا الخوص. [15] والعمد: مَا يكون
تَحت السَّطْح يدعمه. وَالْمرَاد بخشب النّخل: الْجُذُوع.
[15] والقصة: الجص. يُقَال: قصصت الْبيُوت: إِذا جصصتها.
والتقصيص: التجصيص. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْقِصَّة: شَيْء
يشبه الجص وَلَيْسَ بِهِ.
1206 - / 1451 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن نِكَاح
النَّصْرَانِيَّة أَو الْيَهُودِيَّة قَالَ: إِن الله
تَعَالَى حرم المشركات. [15] هَذَا مَذْهَب لَا يلْتَفت
إِلَيْهِ؛ لِأَن الْآيَة ترده، وَهِي قَول الله عز وَجل:
(وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ
[الْمَائِدَة: 5] وَالْإِجْمَاع على خلَافَة.
(2/586)
1207 - / 1453 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ: كُنَّا نصيب الْعَسَل وَالْعِنَب فنأكله
وَلَا نرفعه. [15] أَي لَا نرفعه إِلَى الْقَبْض المخمس.
1208 - / 1454 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ ابْن عمر يمر بِالشعبِ الَّذِي
أَخذه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيدْخل
فينتفض. [15] الشّعب كالزقاق بن الجبلين، أَو كالدرب بَين
الدّور، إِلَّا أَنه لَا ينفذ. [15] وَقَوله فينتفض: كنى
بِهِ عَن الْحَرَكَة لقَضَاء الْحَاجة، وَالْأَصْل فِي
النفض التحريك وإثارة السَّاكِن.
1209 - / 1457 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: رَأَيْت سترا موشيا. [15] الموشي:
المخطط بألوان شَتَّى، وكل منسوج على لونين فَصَاعِدا
موشي، تَقول: وشيت الثَّوْب أَو شيه وشيا، فَهِيَ موشي
وموشى.
1210 - / 1460 وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَمر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة مُؤْتَة زيد بن حَارِثَة.
[15] مُؤْتَة بِالْهَمْز: أَرض تقرب من دمشق، وَبهَا
كَانَت الْوَقْعَة. وموتة
(2/587)
بِغَيْر همز: شبه الْجُنُون يعتري
الْإِنْسَان، وَالْمِيم مَضْمُومَة فِي الْكَلِمَتَيْنِ.
وموتة بِفَتْح الْمِيم: الْوَاحِدَة من الْمَوْت. [15]
وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بعث رَسُولا
إِلَى ملك بصرى بِكِتَاب، فَقتل الرَّسُول، فندب النَّاس،
فَعَسْكَرَ وَخرج مشيعا، وَقَالَ: " أَمِير النَّاس زيد،
فَإِن قتل فجعفر، فَإِن قتل فَابْن رَوَاحَة، فَإِن قتل
فليرتص الْمُسلمُونَ بَينهم رجلا " فَلَمَّا قتل
الثَّلَاثَة اصْطلحَ النَّاس على خَالِد بن الْوَلِيد.
1211 - / 1461 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: نهى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عسب الْفَحْل.
[15] قَالَ أَبُو عبيد: العسب: الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ
على ضراب الْفَحْل، يُقَال: عسبت الرجل أعسبه عسبا: إِذا
أَعْطيته الْكِرَاء على ذَلِك. قَالَ: وَقيل: هُوَ الضراب،
وَالْأول هُوَ الْوَجْه. [15] وَإِنَّمَا وَقع النَّهْي
عَن هَذَا لشيئين: أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا يطْلب مِنْهُ
الإلقاح وَقد لَا يلقح، فَيبقى الْمَأْخُوذ بِلَا عوض.
وَالثَّانِي: أَن مثل هَذَا يَنْبَغِي للْمُسلمين أَن
يتباذلوه بَينهم لِأَنَّهُ من جنس الماعون. وَعَامة
الْفُقَهَاء على تَحْرِيم أَخذ الْأُجْرَة على ضراب
الْفَحْل. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يسْتَأْجر
الْفَحْل لينزيه مُدَّة مَعْلُومَة، وَإِنَّمَا يبطل إِذا
اشْترط أَن ينزيه إِلَى أَن تعلق الرمكة. وَعلل أَصْحَابه
بِأَنا لَو منعنَا من هَذَا لَا نقطع النَّسْل؛ لِأَن
الْإِنْسَان لَا يسهل عَلَيْهِ إِيعَاب فَحله وإنفاد قواه
بِغَيْر عوض،
(2/588)
وَهَذَا تَعْلِيل يُعَارض النَّص فَلَا
يقبل.
1212 - / 1464 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: "
إِن من الْبَيَان سحرًا ". [15] الْبَيَان على ضَرْبَيْنِ:
بَيَان للشَّيْء بِلَفْظ آخر لَا يزِيد على كشف مَعْنَاهُ،
وَبَيَان لَهُ بِزِيَادَة أَلْفَاظ رائقة تستميل الْقُلُوب
وتحزنها وتطربها، كَمَا أَن السحر يخرج عَن حد
الِاعْتِدَال. وَهَذَا إِذا كَانَ اللَّفْظ فِيهِ صدقا
وجائزا، وَالْمَقْصُود بِهِ نصر الْحق، كَانَ ممدوحا، فقد
كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطيب يلقى
بِهِ الوافدين، وَهُوَ ثَابت بن قيس بن شماس، وشاعر وَهُوَ
حسان بن ثَابت. وَإِذا كَانَ الْبَيَان على ضد ذَلِك كَانَ
الذَّم لذَلِك لَا للفظ، كالشعر فَإِنَّهُ يذم مَا يتضمنه
ويمدح، لَا النّظم.
1213 - / 1468 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: نهى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَبِيع حَاضر
لباد. [15] وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1214 - / 1471 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ:
" أفرى الفرى أَن يري الرجل عَيْنَيْهِ مَا لم تريا ".
[15] الفرى جمع فِرْيَة، والفرية: الْكَذِب. وَأَشد
الْكَذِب إِخْبَار الرجل
(2/589)
بِأَنَّهُ رأى فِي الْمَنَام مَا لم يره.
وَهَاهُنَا لم يذكر الْمَنَام، وَقد ذكر فِي مُسْند
وَاثِلَة بن الْأَسْقَع. [15] وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي "
الْمسند " مُفَسرًا، وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه إِنَّمَا
اشْتَدَّ الْأَمر فِي كذب من يكذب فِي مَنَامه؛ لِأَن
الْمَنَام جُزْء من الْوَحْي، فَكَأَنَّهُ يخبر أَن الله
تَعَالَى ألْقى إِلَيْهِ مَا لم يلقه.
1215 - / 1473 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: "
لن يزَال الْمَرْء فِي فسحة من دينه مَا لم يصب دَمًا
حَرَامًا ". [15] الْمَعْنى أَنه فِي أَي ذَنْب وَقع كَانَ
لَهُ فِي الدّين وَالشَّرْع مخرج إِلَّا الْقَتْل، فَإِن
أمره صَعب، ويوضح هَذَا مَا فِي تَمام الحَدِيث عَن ابْن
عمر أَنه قَالَ: إِن من ورطات الْأُمُور الَّتِي لَا مخرج
لمن أوقع نَفسه فِيهَا سفك الدَّم الْحَرَام بِغَيْر
حلَّة. والورطات جمع ورطة: وَهِي كل بلَاء لَا يكَاد
صَاحبه يتَخَلَّص مِنْهُ. يُقَال: تورط واستورط.
1216 - / 1475 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين:
أصَاب ابْن عمر سِنَان الرمْح فِي أَخْمص قدمه، فلزقت
بالركاب. [15] أَخْمص الْقدَم: مَا نبا عَن الأَرْض من
أَسْفَلهَا. والركاب: مَا يضع الرَّاكِب فِيهِ رجله.
أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ:
أخبرنَا أَبُو إِسْحَق بن عمر الْبَرْمَكِي قَالَ: أخبرنَا
ابْن حيويه قَالَ:
(2/590)
أخبرنَا ابْن مَعْرُوف قَالَ: حَدثنَا ابْن
الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا
الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن نَافِع عَن
أَبِيه قَالَ: كَانَ زج رمح رجل من أَصْحَاب الْحجَّاج قد
أصَاب رجل ابْن عمر، فاندمل الْجرْح، فَلَمَّا صدر النَّاس
انتفض على ابْن عمر. قَالَ ابْن سعد: وَأخْبرنَا
سُلَيْمَان بن حَرْب قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن
أَيُّوب قَالَ: قلت لنافع: مَا كَانَ بَدْء موت ابْن عمر؟
قَالَ: أَصَابَته عارضة محمل بَين إِصْبَعَيْنِ من
أَصَابِعه عِنْد الْجَمْرَة فِي الزحام فَمَرض.
1217 - / 1480 وَفِي الحَدِيث السّبْعين: كنت على بكر
صَعب. الْبكر من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الفتي. والجمل
بِمَنْزِلَة الرجل. والصعب خلاف الذلول.
1218 - / 1481 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: لما
أسلم عمر قَالُوا: صَبأ عمر، وَأَنا غُلَام فَوق ظهر
بَيْتِي. [15] صَبأ بِمَعْنى خرج من دينه إِلَى دين آخر.
[15] وَقَوله: وَأَنا غُلَام، قد كَانَ يَوْمئِذٍ ابْن
ثَلَاث سِنِين أَو أَربع؛ لِأَن عمر أسلم فِي سنة خمس من
النُّبُوَّة، وَقيل: سنة سِتّ، وَأقَام النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة من النُّبُوَّة ثَلَاث عشرَة،
وَعرض عَلَيْهِ ابْن عمر فِي غزَاة أحد وَكَانَت سنة
ثَلَاث وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة. [15] قَوْله: فجَاء
رجل عَلَيْهِ قبَاء ديباج. قد سبق ذكر القباء والديباج.
(2/591)
[15] وتصدعوا: تفَرقُوا. وَهَذَا الرجل
هُوَ أَبُو عَمْرو بن الْعَاصِ. وَقد بَين هَذَا فِي
مُسْند عمر، وَأَنَّهُمْ كَانُوا حلفاء فِي
الْجَاهِلِيَّة.
1219 - / 1483 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين:
فأرغم الله بأنفك. أَي ألزقه بالرغام وَهُوَ التُّرَاب.
[15] وَفِيه: فَإِنَّهُ كَانَت تَحْتَهُ بنت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي رقية.
1220 - / 1484 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين:
كُنَّا نتحين أَي نطلب حِين الزَّوَال للرمي، وَهَذَا وَقت
رمي الجمرات الثَّلَاث فِي أَيَّام التَّشْرِيق.
1221 - / 1485 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: أَن
الْحجَّاج بن أَيمن، ابْن أم أَيمن، كَانَ أَخا أُسَامَة
لأمة، من الْأَنْصَار، رَآهُ ابْن عمر لَا يتم رُكُوعه،
فَقَالَ: أعد. [15] كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قد ورث من أَبِيه أم أَيمن وَاسْمهَا بركَة،
فَكَانَت تحضنه وتربيه، فَأعْتقهَا حِين تزوج خَدِيجَة،
فَتَزَوجهَا عبيد بن زيد من بني الْحَارِث، فَولدت لَهُ
أَيمن فصحب الني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقتل يَوْم
حنين وَهَذَا الْحجَّاج الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَلَده.
ثمَّ زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم أَيمن
بعد النُّبُوَّة زيد بن حَارِثَة فَولدت لَهُ أُسَامَة.
[15] وَقَوله: من الْأَنْصَار، أَي أَن الْحجَّاج من
الْأَنْصَار.
(2/592)
[15] وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على
بطلَان الصَّلَاة بترك إتْمَام الرُّكُوع.
1222 - / 1487 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: أَن
رجلا سَأَلَ ابْن عمر عَن دم البعوض. [15] الْبَعُوضَة
صَغِيرَة البق. [15] وَأما الْعرَاق فقد ذَكرنَاهَا فِي
الحَدِيث الثَّلَاثِينَ من هَذَا الْمسند. [15]
وَالريحَان: الرزق، وَيُسمى الْوَلَد ريحانا. [15] وَأما
قتل الْمحرم للذباب فمباح للْمحرمِ قتل كل مَا فِيهِ
مضرَّة كالحية وَالْعَقْرَب والزنبور والبرغوث والبق
والذباب والحشرات كلهَا، وَفِي الْقمل والصئبان
رِوَايَتَانِ.
1223 - / 1489 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين:
{وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ}
[الْبَقَرَة: 284] قَالَ: قد نسخت. وَقد ذكرنَا هَذِه
الْآيَة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1224 - / 1490 وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: قلت لِابْنِ
عمر: تصلي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قلت: فعمر؟ قَالَ: لَا.
قلت: فَأَبُو بكر؟ قَالَ: لَا. قلت: فالنبي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا إخَاله أَي لَا أَظُنهُ
وَالْألف فِي إخَاله مَكْسُورَة.
(2/593)
[15] وَقد اخْتلف النَّاس: هَل صلى الني
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى أم لَا؟ وَالصَّحِيح
أَنه صلى، فَمن روى أَنه صلاهَا فقد رَآهُ، وَمن روى أَنه
لم يصلها فَإِنَّهُ لم يره، وَالْإِثْبَات مقدم على
النَّفْي. وَسَنذكر حَدِيث الضُّحَى فِي مُسْند أم هانىء؛
فَإِنَّهُ أصح الْأَحَادِيث فِيهَا.
1225 - / 1491 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين:
سَأَلَ رجل ابْن عمر عَن استلام الْحجر، فَقَالَ: رَأَيْت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستلمه ويقبله.
قَالَ: أَرَأَيْت إِن زحمت؟ أَرَأَيْت إِن غلبت؟ قَالَ:
اجْعَل " أَرَأَيْت " بِالْيَمِينِ. [15] استلام الْحجر:
لمسه بِالْيَدِ، وَهُوَ من مسنونات الْحَج، وَكَذَلِكَ
تقبيله. [15] وَقَوله: اجْعَل " أَرَأَيْت " بِالْيمن. أَي
ببلدك، وَالْمعْنَى: احرص على استعمالك السّنة وَلَا
تتعلل.
1226 - / 1492 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم.
" وَمَا جَاءَك من هَذَا المَال وَأَنت غير مشرف " وَقد
سبق تَفْسِيره فِي مُسْند عمر.
1227 - / 1493 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لَا يأكلن أحد
مِنْكُم بِشمَالِهِ.
(2/594)
[15] لما جعلت الشمَال للاستنجاء ومباشرة
الأنجاس، واليمنى لتناول الْغذَاء، لم يصلح اسْتِعْمَال
أَحدهمَا فِي شغل الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ حط لرتبة ذِي
الرُّتْبَة، وَرفع للمحطوط. فَمن خَالف مَا اقتضته
الْحِكْمَة وَافق الشَّيْطَان. [15] وَقد دلّ هَذَا
الحَدِيث على أَن الشَّيْطَان يَأْكُل وَيشْرب. وَقد سبق
فِي مُسْند ابْن مَسْعُود أَن الْجِنّ سَأَلُوا رَسُول
الله الزَّاد فَقَالَ: " لكم كل عظم ذكر اسْم الله
عَلَيْهِ يَقع فِيهِ أَيْدِيكُم أوفر مَا يكون لَحْمًا ".
1228 - / 1494 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: بَات النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الحليفة مبدأه. أَي: لما
خرج إِلَى الْبَادِيَة لِلْحَجِّ.
1229 - / 1495 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: غدونا مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من منى إِلَى
عَرَفَات، فمنا الملبي، وَمنا المكبر، وَمنا المهلل. [15]
الملبي: هُوَ الْقَائِل: لبيْك. والتلبية لَا تقطع إِلَّا
مَعَ أول حَصَاة ترمى. والمكبر: هُوَ الْقَائِل: الله
أكبر، وَيسن التَّكْبِير مَعَ كل حَصَاة. والمهلل: هُوَ
الْقَائِل لَا إِلَه إِلَّا الله. وَمُرَاد الحَدِيث أَنهم
انصرفوا متشاغلين بِالذكر.
1230 - / 1496 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " إِن
الْإِسْلَام بَدَأَ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا كَمَا
بَدَأَ وَهُوَ يأرز بَين المسجدين كَمَا تأرز الْحَيَّة
إِلَى جحرها ".
(2/595)
[15] الْمَعْنى: أَنه ظهر بَين جهل بِهِ
واستنفار مِنْهُ، وَكَانَت الْعَادَات قد غلبت، فَإِذا
رُؤِيَ مَا يُخَالِفهَا أنكر. وَهَكَذَا فِي آخر
الزَّمَان، وَهَا نَحن فِي وسط الشّرْب، فَإِن الْعَادَات
قد غلبت حَتَّى صَارَت الصَّلَوَات والمعاملات عادات يعْمل
بمقتضاها سَوَاء وَافَقت الْمَشْرُوع أوخالفت، وَصَارَ
قَول الْعلمَاء غَرِيبا، والمشروع مستنكرا، وَالله
الْمُسْتَعَان. [15] وَقَوله: " يأرز " قَالَ أبوعبيد: أَي
يَنْضَم ويجتمع بعضه إِلَى بعض، قَالَ رؤبة.
(فَذَاك بخال أروز الْأرز ... )
[15] أَي لَا ينبسط للمعروف، وَلَكِن يَنْضَم بعضه إِلَى
بعض. [15] والمسجدان مَكَّة وَالْمَدينَة. وَقد ضمن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يدخلهما
الدَّجَّال.
1231 - / 1498 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: جَاءَ ابْن عمر
إِلَى عبد الله ابْن مُطِيع حِين كَانَ من أَمر الْحرَّة
مَا كَانَ، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: " من خلع يدا من طَاعَة لَقِي الله يَوْم
الْقِيَامَة وَلَا حجَّة لَهُ ". [15] كَانَ أهل
الْمَدِينَة قد خلعوا يزِيد وَجعلُوا عبد الله بن
حَنْظَلَة أَمِيرا على الْأَنْصَار، وَعبد الله بن مُطِيع
أَمِيرا على قُرَيْش، وَمَعْقِل بن سِنَان أَمِيرا على
الْمُهَاجِرين، فَلم ير ابْن عمر خلع يزِيد بعد أَن
بُويِعَ لَهُ.
(2/596)
وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند عبد الله بن
زيد. [15] وَقَوله: " ميتَة جَاهِلِيَّة " قَالَ
الْخطابِيّ: الْميتَة مَكْسُورَة الْمِيم يَعْنِي الْحَالة
الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، فَهِيَ كالقعدة والجلسة
وَالركبَة، يُرَاد بهَا الْحَال والهيئة. وَالْميتَة
بِالْفَتْح: اسْم للحيوان إِذا مَاتَ. [15] والجاهلية يعبر
بهَا عَن التناهي فِي الْجَهْل. [15] وَقد سبق بَيَان مَا
بعد هَذَا إِلَى:
1232 - / 1503 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: وَفِيه: "
مثل الْمُنَافِق كَمثل الشَّاة العائرة بَين الْغَنَمَيْنِ
". [15] يَعْنِي الذاهبة إِلَى هَذِه مرّة وَإِلَى هَذِه
مرّة، لَا تَسْتَقِر فِي إِحْدَاهمَا. وَكَذَلِكَ
الْمُنَافِق يصير إِلَى الْمُسلمين بِاللَّفْظِ وَيعود
إِلَى الْمُشْركين بِالْعقدِ.
1233 - / 1506 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: كَانَ ابْن
عمر يستجمر بالألوة غير مطراة، وبكافور يطرحه مَعَ الألوة.
[15] يستجمر " يستفعل " من المجمر. وَالْمعْنَى: يتبخر.
قَالَ الْأَصْمَعِي: الألوة: الْعود الَّذِي يتبخر بِهِ.
قَالَ الْأَصْمَعِي: وأظنها فارسية عربت. وَقَالَ أَبُو
عبيد: هِيَ معربة، وفيهَا لُغَتَانِ: ألوة وألوة، بِفَتْح
الْهمزَة وَضمّهَا.
(2/597)
[15] وَقَوله: غير مطراة: أَي غير معالجة
بِنَوْع آخر من الطّيب؛ لِأَنَّهَا مستغنية بطيبها.
1234 - / 1507 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " من صَبر
على لأوائها " يَعْنِي الْمَدِينَة. [15] واللأواء:
الشدَّة. [15] وَقَوله لِلْجَارِيَةِ لكاع، هَذَا يُقَال
للْأُنْثَى وللرجل: يالكع. وَيُقَال: لكع الرجل: إِذا لؤم،
لكاعة. وَقَالَ أَبُو عبيد: اللكع عِنْد الْعَرَب:
العَبْد. وَقَالَ اللَّيْث: هُوَ وصف بالحمق. وَقَالَ
غَيره: هُوَ الصَّغِير. وَفِي الحَدِيث: " أَثم لكع "
يُرِيد الصَّغِير فِي السن. فَإِذا قيل للكبير أُرِيد
الصَّغِير فِي الْعلم والمعرفة.
1235 - / 1509 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " لَا يحل
لمُؤْمِن أَن يهجر أَخَاهُ " قد سبق فِي مُسْند أبي
أَيُّوب.
1236 - / 1510 و - فِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " أعوذ بك
من فَجْأَة نقمتك ". [15] المفاجأة: المباغتة على غَفلَة.
وَيُقَال: مَاتَ فلَان فَجْأَة: أَي بَغت من غير إنذار
بِمَرَض.
(2/598)
1237 - / 1511 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين:
قَالَت امْرَأَة جزلة: مالنا أَكثر أهل النَّار؟ [15]
يُقَال: رجل جزل، وامراة جزلة: إِذا كَانَت لَهَا قُوَّة
فِي الْخطاب والرأي. [15] وَقَوله: " تكثرن اللَّعْن "
هَذِه عَادَة كَانَت لَهُنَّ. [15] وَقَوله: " وتكفرن
العشير " مُفَسّر فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15] وَأما
تَفْسِيره لنُقْصَان الْعقل وَالدّين فقد اعْترض عَلَيْهِ
قوم فَقَالُوا: هَذَا أَمر لَيْسَ إِلَيْهَا، فَمَا وَجه
ذمها بِهِ؟ فَالْجَوَاب: أَنَّهَا وضعت على صفة النَّقْص،
فَهِيَ نَاقِصَة وضعا لَا من حَيْثُ الْكسْب.
1238 - / 1513 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: "
كل شَيْء بِقدر حَتَّى الْعَجز والكيس ". [15] الْكيس خلاف
الْحمق. يُقَال: رجل كيس، وَالْجمع أكياس. وَالْعجز
إِنَّمَا يَقع من سوء التَّدْبِير وَقلة الْعقل، وَقد
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل
لما بعد الْمَوْت، وَالْعَاجِز من أتبع نَفسه هَواهَا،
وَتمنى على الله الْأَمَانِي ".
1239 - / 1514 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
انْشِقَاق
(2/599)
الْقَمَر. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن
مَسْعُود.
1240 - / 1515 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين:
أَن رجلا قَالَ لِابْنِ عمر: أيصلح لي أَن أَطُوف
بِالْبَيْتِ قبل أَن آتِي الْموقف؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ:
فَإِن ابْن عَبَّاس يَقُول: لَا تطف بِالْبَيْتِ حَتَّى
تَأتي الْموقف. فَقَالَ ابْن عمر: فقد حج رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ قبل أَن يَأْتِي
الْموقف، فبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَق
أَن تَأْخُذ أَو بقول ابْن عَبَّاس إِن كنت صَادِقا؟ .
[15] هَذَا الْمَسْأَلَة فِيمَن أحرم بِالْحَجِّ من
مَكَّة، هَل يطوف طواف الْقدوم قبل أَن يخرج؟ فَذهب أَبُو
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَنه يطوف حِين يحرم كَمَا قَالَ
ابْن عمر. والمنصور من مَذْهَب أَحْمد أَنه لَا يطوف
حَتَّى يخرج إِلَى منى وعرفات ثمَّ يرجع فيطوف كَمَا قَالَ
ابْن عَبَّاس. وَعَن أَحْمد رِوَايَة كمذهب ابْن عمر. [15]
وَقَوله: إِن كنت صَادِقا، ورع مِنْهُ لِئَلَّا يذكر ابْن
عَبَّاس بِشَيْء مَا ثَبت عَنهُ
1241 - / 1516 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: "
لَا تغلبنكم
(2/600)
الْأَعْرَاب على اسْم صَلَاتكُمْ. أَلا
إِنَّهَا الْعشَاء فِي كتاب الله. وهم يعتمون بحلاب
الْإِبِل ". [15] الْعشَاء: أول ظلام اللَّيْل، وَذَلِكَ
يكون من حِين غيبوبة الشَّفق. قَالَ الْخَلِيل: الْعَتَمَة
من اللَّيْل بعد غيبوبة الشَّفق، وعتم الْقَوْم: سَارُوا
فِي ذَلِك الْوَقْت. فعلى هَذَا يكون الْمَكْرُوه تَغْيِير
الإسم، وَلذَلِك قَالَ: " إِنَّهَا الْعشَاء فِي كتاب الله
تَعَالَى " يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى: " وَمن بعد
صَلَاة الْعشَاء} [النُّور: 58] وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة:
يعتمون. من عتم اللَّيْل وعتمته: ظلامه. يُقَال: قد عتم
اللَّيْل يعتم، وأعتم النَّاس: دخلُوا فِي ظلمَة اللَّيْل،
وَإِنَّمَا سميت عتمة باسم عتمة اللَّيْل وَهِي ظلامه،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَقع هَذَا الِاسْم على حلاب
الْإِبِل لَا على الصَّلَاة. قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى
الحَدِيث لَا يَغُرنكُمْ فعلهم هَذَا عَن صَلَاتكُمْ
فتؤخروها، وَلَكِن صلوها إِذا كَانَ وَقتهَا. وَقد سبق فِي
مُسْند عبد الله ابْن مُغفل: " لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب
على اسْم صَلَاتكُمْ الْمغرب ". فَيجمع الحديثان
الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا.
1242 - / 1517 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: دخل
ابْن عمر على ابْن عَامر يعودهُ فَقَالَ: أَلا تَدْعُو لي،
فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: " لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور، وَلَا
صَدَقَة من غلُول "
(2/601)
وَكنت على الْبَصْرَة. [15] ابْن عَامر
اسْمه عبد الله، وَهُوَ مَذْكُور فِي الصَّحَابَة، وَقد
ذكر فِي الصَّحَابَة رجلَانِ اسْم كل وَاحِد مِنْهُمَا عبد
الله بن عَامر، فَلَا بُد من بَيَان هَذَا من هَذَا: [15]
أَحدهمَا: عبد الله بن عَامر بن ربيعَة بن مَالك الْعَدوي،
ولد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبلغ
خمس سِنِين أَو سِتّ سِنِين، وَتُوفِّي رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد رُوِيَ أَنه سمع من رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عَنهُ، وَلَا يَصح. قَالَ
أَبُو عبد الله الْحَاكِم: ولد فِي زمن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمع مِنْهُ. [15] وَالثَّانِي:
عبد الله بن عَامر بن كريز بن ربيعَة بن حبيب بن عبد شمس
بن عبد منَاف، ولد بِمَكَّة بعد الْهِجْرَة بِأَرْبَع
سِنِين، فَلَمَّا قدم سَوَّلَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَكَّة فِي عمْرَة الْقَضَاء سنة سبع حمل إِلَيْهِ
وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين، فحنكه، فتلمظ وتئاءب، وتفل
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فِيهِ، فَلهُ
رُؤْيَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَلَمَّا ولي
عُثْمَان الْخلَافَة ولاه الْبَصْرَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ
ابْن خَال عُثْمَان؛ لِأَن أم عُثْمَان أروى بنت كريز،
فَكَانَ يَوْم ولاه ابْن خمس وَعشْرين سنة. ثمَّ ولاه
مُعَاوِيَة بعد عُثْمَان الْبَصْرَة أَيْضا، وَهُوَ
الَّذِي جرت لَهُ هَذِه الْقِصَّة مَعَ ابْن عمر.
(2/602)
[15] وَالطهُور هُوَ الطَّاهِر فِي نَفسه
المطهر لغيره، فَهُوَ من الْأَسْمَاء المتعدية كضروب
وشتوم، هَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّة وَدَاوُد: هُوَ من الْأَسْمَاء
اللَّازِمَة بِمَعْنى الطَّاهِر. [15] وأصل الْغلُول أَخذ
شَيْء من الْمغنم فِي خُفْيَة، يخان فِيهِ من لَهُ فِيهِ
حق. وَلما كَانَ الْوَالِي قد يستأثر بِشَيْء خَافَ أَن
يكون فعل ذَلِك، فخوفه الْحَال، فَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُ:
إِن كنت ظلمت فَمَا ينفعك دعائي.
1243 - / 1518 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين:
فَإِن مَعَه القرين. يَعْنِي الشَّيْطَان.
1244 - / 1520 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَوَى
على بعيره خَارِجا إِلَى سفر كبر ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: "
سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقرنين ". [15] سخر بِمَعْنى ذلل لنا هَذَا المركوب نجري
بِهِ حَيْثُ نشَاء. [15] والمقرن: المطيق، قَالَ ابْن
قُتَيْبَة: يُقَال: أَنا مقرن لَك: أَي مطيق لَك. قَالَ:
وَيُقَال: هُوَ من قَوْلهم: أَنا قرن لفُلَان: إِذا كنت
مثله فِي الشدَّة، فَإِذا قلت: أَنا قرن لفُلَان بِفَتْح
الْقَاف فَمَعْنَاه أَن يكون مثله فِي السن.
(2/603)
[15] قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مُقرنين: أَي
ضابطين، يُقَال: فلَان مقرن لفُلَان: أَي ضَابِط لَهُ.
[15] وَقَوله: اطو لنا الْبعيد وَذَلِكَ يكون بتقصير
الْمسَافَة. [15] وَأما الوعثاء فَقَالَ أَبُو عبيد:
الوعثاء: شدَّة النصب وَالْمَشَقَّة. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
المآثم. وَاصل الوعثاء من الوعث: وَهُوَ الدهس، يَعْنِي
الرمل الْكثير، وَالْمَشْي يصعب فِيهِ على صَاحبه، فَصَارَ
مثلا لكل مَا يشق على فَاعله. [15] وَقَوله: " كآبة المنظر
" هُوَ سوء الْحَال والانكسار من الْحزن " والمنقلب ":
الرُّجُوع.
1245 - / 1521 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: " لَك
مماتها ومحياها " الْمَعْنى لَا يملك حَيَاتهَا وموتها
إِلَّا أَنْت.
1246 - / 1522 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالثَّلَاثِينَ: " من ضرب غُلَاما لَهُ حدا لم يَأْته أَو
لطمه فَإِن كَفَّارَته أَن يعتقهُ ". [15] إِذا ضرب
الْإِنْسَان مَمْلُوكه على هَذَا الْوَصْف كَانَ ظلما،
فَلَمَّا بسط يَده إِلَيْهِ ظلما جعلت كَفَّارَة لطمه رفع
يَده.
1247 - / ... وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: "
إِن الْفِتْنَة من
(2/604)
حَيْثُ يطلع قرنا الشَّيْطَان " وَقد فسرنا
هَذَا فِي هَذَا الْمسند.
(2/605)
(77) كشف الْمُشكل من مُسْند جَابر بن عبد
الله بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ
شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين، وَأَرَادَ شُهُود بدر فخلفه
أَبوهُ على حفظ أخواته، وَكن تسعا، وَخَلفه أَيْضا يَوْم
أحد، ثمَّ شهد مَا بعد ذَلِك.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ألف حَدِيث وخمسائة وَأَرْبَعُونَ.
أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِائَتَان
وَعشرَة.
1248 - / 1543 - فِي الحَدِيث الأول: ((فَجلى الله لي بَيت
الْمُقَدّس)) أَي كشفه وأظهره.
1249 - / 1524 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: سَمِعت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي.
أصل الفترة: السّكُون. يُقَال: فتر الشَّيْء يفتر فتورا:
إِذا سكنت حِدته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا. وطرف فاتر:
لَيْسَ بحديد. وَكَانَ الْوَحْي قد جَاءَ ثمَّ انْقَطع.
وحراء قد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
والكرسي فِي اللُّغَة: كل شَيْء تراكب، وَمِنْه الكراسة،
لتراكب
(3/5)
بعض وَرقهَا على بعض، قَالَ العجاج:
(يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... )
أَي تكارس عَلَيْهِ التُّرَاب فغطاه. فَسُمي الْكُرْسِيّ
كرسيا لتركيب بعضه على بعض. وَفِيه لُغَتَانِ: ضم الْكَاف،
قَالَ الْفراء: وَهِي لُغَة عَامَّة الْعَرَب. وتكسر
الْكَاف، وَالرَّفْع أَجود.
وَأما الْعَرْش فَهُوَ السرير.
والهواء مَمْدُود، فَإِذا قصرته فَهُوَ هوى النَّفس.
وَقَوله: فجئثت، الْيَاء الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ قبل
الثَّاء، وَالْمعْنَى: فرقت. وجثثت بثاءين مثله. وَرجل
مجؤوث ومجثوث ومزؤود: وَهُوَ المرعوب، وَقد جئث وجث وزئد.
وَقد صحفه بَعضهم فَقَالَ: جبنت، من الْجُبْن، وَلَيْسَ
هَذَا مَوْضِعه.
والرعب: الْفَزع.
وهويت: وَقعت.
وَقَوله: ((زَمِّلُونِي)) كل ملتف بِثَوْبِهِ متزمل.
والدثار: مَا يدثر بِهِ الْإِنْسَان فَوق الشعار.
وأصل المدثر المتدثر، فأدغمت التَّاء فِي الدَّال
فَثقلَتْ.
وَقَوله: ((وَصبُّوا عَليّ مَاء)) كَأَنَّهُ خرج عَن
الْبرد والقشعريرة الَّتِي
(3/6)
تفْتَقر إِلَى الدثار، إِلَى الْحمى
الَّتِي تحْتَاج إِلَى المَاء.
وَقَوله: {قُم فَأَنْذر} [المدثر: 2] الْإِنْذَار ك
إِعْلَام مَعَ تخويف، وَالْمرَاد: خوف كفار مَكَّة نزُول
الْعَذَاب بهم إِن لم يُؤمنُوا.
وَقَوله: {وَرَبك فَكبر} [المدثر: 3] أَي عظمه عَمَّا
يَقُول عَبدة الْأَوْثَان.
وَقَوله: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] اخْتلف
الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالثياب على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا الثِّيَاب الْحَقِيقِيَّة. ثمَّ اخْتلف
هَؤُلَاءِ بتطهيرها على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن
الْمَعْنى: لَا تلبسها على مَعْصِيّة وَلَا على غدرة،
قَالَ غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ:
(وَإِنِّي - بِحَمْد الله - لَا ثوب فَاجر ... لبست، وَلَا
من غدرة أتقنع)
رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: لَا تكن
ثِيَابك من كسب غير طَاهِر، رَوَاهُ عَطِيَّة عَن ابْن
عَبَّاس. وَالثَّالِث: وثيابك فقصر وشمر، قَالَه طَاوس.
وَالرَّابِع: اغسلها بِالْمَاءِ ونقها، قَالَه ابْن
سِيرِين.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كنى بالثياب عَن غَيرهَا،
وَفِي المكني عَنهُ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه
النَّفس، فَالْمَعْنى: طهر نَفسك من الذَّنب، قَالَه
مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَيشْهد لَهُ قَول عنترة:
(فشككت بِالرُّمْحِ الْأَصَم ثِيَابه ... لَيْسَ الْكَرِيم
على القنا بِمحرم)
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَإِنَّمَا كنى بالثياب عَن
الْجِسْم لِأَنَّهَا تشْتَمل عَلَيْهِ،
(3/7)
قَالَت ليلى الأخيلية:
(رَمَوْهَا بأثواب خفاف فَلَا ترى ... لَهَا شبها إِلَّا
النعام المنفرا)
أَي رَكبُوهَا فرموها، وَالْعرب تَقول للعفاف إِزَار،
لِأَن الْعَفِيف كَأَنَّهُ استتر لما عف. وَالثَّانِي:
أَنه الْقلب، فَالْمَعْنى: وقلبك فطهر، قَالَه سعيد بن
جُبَير، وَيشْهد لَهُ قَول امْرِئ الْقَيْس:
(فَإِن تَكُ قد ساءتك مني خَلِيقَة ... فسلي ثِيَابِي من
ثِيَابك تنسل)
أَي قلبِي من قَلْبك. وَالثَّالِث: أَنه الْخلق،
وَالْمعْنَى: وخلقك فَحسن، قَالَه الْحسن، وَالرَّابِع:
أَنه الْعَمَل، فَالْمَعْنى: وعملك فَأصْلح، قَالَه
الضَّحَّاك.
وَفِي (الرجز) سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه
الْأَصْنَام. وَالثَّانِي: الْإِثْم، رويا عَن ابْن
عَبَّاس. وَالثَّالِث: الشّرك، قَالَه ابْن جُبَير.
وَالرَّابِع: الذَّنب، قَالَه الْحسن. وَالْخَامِس:
الْعَذَاب، قَالَه ابْن السَّائِب، قَالَ الزّجاج:
وَالْمعْنَى: اهجر مَا يُؤَدِّي إِلَى عَذَاب الله.
وَالسَّادِس: الشَّيْطَان، قَالَه ابْن كيسَان.
وَقَوله: ثمَّ حمي الْوَحْي: أَي كثر وتتابع.
(3/8)
وَقَول جَابر: أول مَا نزل من الْقُرْآن:
{يَا أَيهَا المدثر} سَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من
مُسْند عَائِشَة: أَن أول مَا سمع رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من جِبْرِيل {اقْرَأ باسم رَبك} فَلَمَّا
رَجَعَ قَالَ: ((زَمِّلُونِي)) فَيحْتَمل أَن جَابِرا لم
يسمع أول الْقِصَّة.
والمجاورة: الْإِقَامَة.
وَقَوله: ((فَأَخَذَتْنِي رَجْفَة)) وَهِي الإضطراب، وَقد
رَوَاهُ قوم: وجفة بِالْوَاو، من قَوْله تَعَالَى: {قُلُوب
يَوْمئِذٍ واجفة} [النازعات: 8] فالواجف: المضطرب. غير أَن
الَّذِي سمعناه بالراء.
1250 - / 1525 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كُنَّا مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نجني الكباث،
فَقَالَ: ((عَلَيْكُم بالأسود مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ أطيب))
فَقلت: أَكنت ترعى الْغنم؟ قَالَ: ((نعم، وَهل من نَبِي
إِلَّا رعاها)) .
قَالَ الْأَصْمَعِي: البرير: ثَمَر الْأَرَاك، فالغض
مِنْهُ المرد، والنضيج الكباث وأسوده أشده نضجا.
وَأما رعي الْغنم فَكَأَنَّهُ تمهيد لمداراة النَّاس،
فَلذَلِك قدر للأنبياء.
أَو كَأَنَّهُ يُشِير بِهَذَا إِلَى أَن الْأَنْبِيَاء لم
يَكُونُوا ملوكا، وَإِنَّمَا كَانَت النُّبُوَّة عِنْد
المتواضعين من أَصْحَاب الْحَرْف.
1251 - / 1526 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَنه غزا مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(3/9)
قبل نجد، فَلَمَّا قفل أدركتهم القائلة فِي
وَاد كثير العضاه.
قد سبق معنى نجد، والعضاه، وَأَنه شجر من شجر الشوك
كالطلح.
والسمرة: شَجَرَة الطلح.
وَاخْتَرَطَ السَّيْف: استله من غمده.
والصلت: الْوَاضِح. يُقَال: جبين صلت: إِذا كَانَ وَاضحا.
وَذَات الرّقاع: غزَاة. وَقد بَينا سَبَب تَسْمِيَتهَا
بذلك فِي مُسْند أبي مُوسَى وَغَيره.
والغرة: الْغَفْلَة.
وَقَوله: أتخافني؟ فَقَالَ: ((لَا)) . يُشِير بذلك إِلَى
أَنِّي إِنَّمَا أَخَاف الله وَحده. وَلَو انزعج الطَّبْع
كَانَ انزعاجا من قدر الله وتسليطه لَا من الشَّخْص.
وَسُقُوط السَّيْف من يَده بَيَان أثر التَّوَكُّل.
وَقد سمي هَذَا الرجل فِي الحَدِيث، وَهُوَ غورث بن
الْحَارِث.
وَقد سبق ذكر صَلَاة الْخَوْف فِي مُسْند سهل بن أبي
حثْمَة.
1252 - / 1527 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: فقمنا إِلَى
بطحان.
قد بَينا فِيمَا تقدم أَن كل مَكَان متسع يُقَال لَهُ
بطحاء وأبطح وبطحان وبطيحة.
(3/10)
1253 - / 1528 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس:
قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعمرى لمن وهبت
لَهُ.
الْعُمْرَى فِي العطايا: أَن يَقُول الرجل لصَاحبه: قد
أَعطيتك هَذِه الدَّار عمرك أَو عمري.
وعقب الرجل: وَلَده وَولد وَلَده.
والبتلة: المنقطعة. يُقَال: بتلت الشَّيْء: إِذا أبنته عَن
غَيره، وَمِنْه: طَلْقَة بتلة.
قَالَ أَبُو عبيد: كَانَ الرجل يُرِيد أَن يتفضل على
صَاحبه بالشَّيْء فيستمتع بِهِ مَا دَامَ حَيا، فَإِذا
مَاتَ الْمَوْهُوب لَهُ لم يصل إِلَى ورثته مِنْهُ شَيْء،
فَجَاءَت سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَقْض
ذَلِك، وَحكم بِأَن من ملك شَيْئا حَيَاته فَهُوَ لوَرثَته
من بعده.
وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْعُمْرَى: فعندنا أَنَّهَا
تمْلِيك للرقبة، فَإِذا قَالَ: أعمرتك دَاري هَذِه، أَو
جَعلتهَا لَك عمري أَو عمرك فقد ملكهَا المعمر، فَإِذا
مَاتَ انْتَقَلت إِلَى ورثته، وَسَوَاء قَالَ لَهُ: ولعقبك
أَو أطلق، وَإِن لم يكن لَهُ وَارِث كَانَت لبيت المَال،
وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ مَالك:
الْعُمْرَى تمْلِيك للمنافع، فَإِذا مَاتَ المعمر رجعت
إِلَى المعمر، فَإِذا قَالَ فِيهَا: ولعقبك، فانقرض عقبه
عَادَتْ إِلَى المعمر.
(3/11)
1254 - / 1530 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن:
أذن فِي لُحُوم الْخَيل.
هَذَا صَرِيح فِي جَوَاز أكل لحومها، وَهُوَ مَذْهَب
أَحْمد وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: لَا يحل، ويروى عَن مَالك كراهيته.
1255 - / 1531 - فِي الحَدِيث التَّاسِع: فَحَثَا لي حثية.
الحثية: مَا أَخذ بالكف مبسوطة.
1256 - / 1532 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَ يُصَلِّي
الظّهْر بالهاجرة.
الهاجرة والهجير: نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر.
وَقَوله: وَالشَّمْس نقية. أَي لم يتَغَيَّر لَوْنهَا،
فَإِنَّهُ كلما قرب الْمسَاء ضعف نورها وَتغَير.
وَوَجَبَت: سَقَطت للغروب.
والغلس: ظلام آخر اللَّيْل.
1257 - / 1533 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر، فَرَأى رجلا قد
اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ وَقد ظلل عَلَيْهِ، فَقَالَ:
((مَاله؟)) قَالُوا: رجل صَائِم. فَقَالَ: ((لَيْسَ من
الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر)) .
(3/12)
اعْلَم أَن السّفر مَظَنَّة الْمَشَقَّة،
فَإِذا ضم إِلَيْهِ الصَّوْم زَادَت الْمَشَقَّة، وَمَا
زَالَ الشَّرْع يتلطف. وَمن لَقِي فِي صَوْمه فِي السّفر
مَا لَقِي هَذَا الرجل فَلَيْسَ من الْبر صَوْمه. فَأَما
المطيق الصَّوْم فَلَا يكره صَوْمه، وَهل فطره أفضل من
الصَّوْم؟ قد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء.
1258 - / 1534 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((من أكل
ثوما أَو بصلا فليعتزلنا أَو ليعتزل مَسْجِدنَا)) ، وَفِي
رِوَايَة: أُتِي بِقدر فِيهِ خضرات من بقول.
قد سبق الْكَلَام فِي الثوم والبصل فِي مُسْند ابْن عمر
وَفِي مُسْند أبي أَيُّوب.
وَقَوله: أُتِي بِقدر. كَذَا وَقع فِي الحَدِيث.
وَالصَّوَاب ببدر بِالْبَاء، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي
((السّنَن)) عَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب، قَالَ ابْن
وهب: وَهُوَ الطَّبَق. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سمي
الطَّبَق بَدْرًا لاستدارته وَحسن اتساقه تَشْبِيها بالقمر
إِذا امْتَلَأَ نورا.
وَأما تأذي الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُ قد رُوِيَ أَنهم
يَجدونَ الرّيح دون الطّعْم.
وَقد روينَا عَن سلمَان الْفَارِسِي: أَنه أَمر زَوجته أَن
تنضح حوله عِنْد مَوته الْمسك، وَقَالَ يأتيني زوار
يَجدونَ الرّيح وَلَا يَأْكُلُون الطَّعَام.
1259 - / 1535 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ذكر صَلَاة
النَّافِلَة إِلَى
(3/13)
غير الْقبْلَة. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن
عمر.
1260 - / 1536 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: نهى عَن
المخابرة والمحاقلة والمزابنة.
هَذِه الْأَشْيَاء قد فسرت فِي الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو
عبيد فِي المخابرة مَا كتبناه فِي مُسْند رَافع بن خديج.
وَقد فسرنا المحاقلة والمزابنة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: عَن بيع الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه. قد سبق
تَفْسِيره فِي مُسْند زيد بن ثَابت. وفسرنا هُنَاكَ
الْعَرَايَا.
وَقَوله: حَتَّى يشْتَد ويشقح، تَفْسِيره فِي الحَدِيث:
حَتَّى يحمار أَو يصفار. قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا
يُقَال يحمار ويصفار لِأَنَّهُ لم يرد بِهِ اللَّوْن
الْخَالِص، وَإِنَّمَا يسْتَعْمل ذَلِك فِي اللَّوْن
المتميل، يُقَال: مَا زَالَ وَجهه يحمار ويصفار: إِذا
كَانَ مرّة يضْرب إِلَى حمرَة وَمرَّة يضْرب إِلَى صفرَة.
فَإِذا أَرَادَ أَنه قد اسْتَقر على حَالَة قَالُوا: يحمر
ويصفر.
وَأما المعاومة فَهِيَ بيع السنين، وَذَلِكَ أَن يَبِيع
الرجل مَا تثمره النَّخْلَة أَو النخلات سنتَيْن
وَثَلَاثًا وأربعا، وَهَذَا غرر؛ لِأَنَّهُ يَبِيع شَيْئا
(3/14)
غير مَوْجُود وَلَا مَخْلُوق، فَلَا يدرى
أَيكُون أم لَا؟
والثنيا: أَن يَبِيع ثَمَر بستانه ويستثني مِنْهُ جُزْءا
غير مَعْلُوم، فَإِن اسْتثْنى آصعا مَعْلُومَة من ثَمَر
الْبُسْتَان، وأرطالا من نَخْلَة، فَهَل يَصح؟ فِيهِ عَن
أَحْمد رِوَايَتَانِ.
1261 - / 1537 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: الصَّلَاة
على النَّجَاشِيّ. وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند عمرَان بن
حُصَيْن.
1262 - / 1538 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((من
كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليمنحها أَخَاهُ)) .
أصل المنحة الْعَطِيَّة: ثمَّ قد يكون عَطِيَّة للْأَصْل
وعطية للمنفعة.
وَقَوله: نهى عَن كِرَاء الأَرْض. إِنَّمَا حث بذلك على
إرفاق الْقَوْم بَعضهم بِبَعْض.
وَقد سبق ذكر هَذَا وَذكر المخابرة فِي مُسْند رَافع بن
خديج، وَبينا هُنَاكَ أَن الحقل: المزرعة، وَالْمعْنَى:
نهى عَن الحقول أَن تكرى.
والقصري على وزن: ((الْفعْلِيّ)) لُغَة أهل الشَّام،
وَبَعْضهمْ يَقُول: قصرى على وزن: ((فعلى)) ، وَقوم
يَقُولُونَ: القصارة: وَهُوَ مَا يبْقى
(3/15)
فِي السنبل من الْحبّ بَعْدَمَا يداس.
وَالْأَرْض الْبَيْضَاء: مَا لَا شجر فِيهِ وَلَا زرع.
والمزابنة سبقت فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَبيع السنين فِي
الحَدِيث الَّذِي قبل هَذَا.
1263 - / 1539 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: كُنَّا
نعزل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الْعَزْل: عزل المَاء عَن الْفرج بالإنزال خَارِجا مِنْهُ
عِنْد الْجِمَاع. وَهُوَ جَائِز، إِلَّا أَنه إِن كَانَت
الْمَوْطُوءَة حرَّة لم يجز الْعَزْل إِلَّا بِإِذْنِهَا،
وَإِن كَانَت أمة لم يجز إِلَّا بِإِذن سَيِّدهَا.
والساقية: الَّتِي تَسْقِي المَاء.
1264 - / 1540 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: كُنَّا
نَأْكُل من لُحُوم بدننا فَوق ثَلَاث، فأرخص لنا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((كلوا وتزودوا)) .
إِنَّمَا امْتَنعُوا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام
نَهَاهُم عَن الإدخار مِنْهَا فَوق ثَلَاث، وَكَانَ سَبَب
ذَلِك قوم من الْفُقَرَاء قدمُوا الْمَدِينَة، فأرادوا أَن
يواسوهم،
(3/16)
ثمَّ أباحهم بعد ذَلِك، وَقد بَين الْعلَّة
فِي الْمَنْع فِي مُسْند عَائِشَة.
1265 - / 1541 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((إِن الله وَرَسُوله
حرم بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير)) .
أما بيع الْخمر فَبَاطِل بِالْإِجْمَاع، وَثمنهَا حرَام،
وَكَذَلِكَ الْميتَة وَثمنهَا وَبيع جلدهَا قبل أَن يدبغ،
فَأَما إِذا دبغ فَإِنَّهُ يطهر عِنْد كثير من الْعلمَاء.
وَقد بَينا مَا يطهر من الْجُلُود فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس.
وَبيع الْخِنْزِير حرَام.
وَأما الْأَصْنَام فَمَا دَامَت صورا فبيعها بَاطِل،
فَإِذا محيت صورها وبيعت أُصُولهَا المعمولة مِنْهَا
جَازَ. وَكَذَلِكَ كل الصُّور بيعهَا بَاطِل، إِلَّا أَن
تكون الصُّورَة تَابِعَة لما هِيَ عَلَيْهِ كالصورة فِي
الثَّوْب.
قَوْله: ((فأجملوها)) قد سبق فِي مُسْند عمر أَنه يُقَال:
جملت وأجملت: إِذا أذبت الشَّحْم.
1266 - / 1542 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: ((إِذا استجنح
اللَّيْل - أَو كَانَ جنح اللَّيْل - فكفوا صِبْيَانكُمْ،
فَإِن الشَّيَاطِين تَنْتَشِر حِينَئِذٍ)) .
جنح اللَّيْل وجنحه بِالضَّمِّ وَالْكَسْر: طَائِفَة
مِنْهُ، واستجنح من ذَلِك، وَالْمعْنَى: اشتدت ظلمته.
وَقَوله: ((فكفوا صِبْيَانكُمْ)) وَقد جَاءَ فِي لفظ آخر:
((فاكفتوا
(3/17)
صِبْيَانكُمْ)) وَالْمعْنَى: ضموهم
إِلَيْكُم فِي الْبيُوت، وَإِنَّمَا خيف على الصّبيان
خَاصَّة لشيئين: أَحدهمَا: أَن النَّجَاسَة الَّتِي تلوذ
بهَا الشَّيَاطِين مَوْجُودَة مَعَهم. وَالثَّانِي: أَن
الذّكر الَّذِي يستعصم بِهِ مَعْدُوم عِنْدهم.
وَالشَّيَاطِين عِنْد انتشارهم يتعلقون بِمَا يُمكنهُم
التَّعَلُّق بِهِ، فَإِذا ذهبت سَاعَة اشْتغل كل مِنْهُم
بِمَا اكْتسب، وَمضى إِلَى مَا قدر لَهُ التشاغل بِهِ.
قَوْله: ((وأوك سقاءك)) الإيكاء: الشد، والوكاء: اسْم لما
يشد بِهِ فَم الْقرْبَة.
((وخمر إناءك)) أَي غطه. وَإِنَّمَا أَمر بِذكر الله
تَعَالَى لِأَنَّهُ كالحرز والحافظ يدْفع الشَّيْطَان
عَمَّا ذكر عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((وَلَو تعرض عَلَيْهِ)) أَي: وَلَو أَن تعرض.
وَتعرض بِضَم الرَّاء وَكسرهَا لُغَتَانِ، يُقَال: عرضت
الشَّيْء أعرضه، بِكَسْر الرَّاء فِي قَول الْأَكْثَرين،
والأصمعي يَقُوله بِالضَّمِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن
السّكيت: عرضت الْعود على الْإِنَاء، أعرضه، وَعرضت
السَّيْف على فَخذي أعرضه، كِلَاهُمَا بِضَم الرَّاء.
والفويسقة: الْفَأْرَة، وَسميت بذلك إِمَّا لخروجها، أَو
لفعلها فعل الْفُسَّاق من الْفساد. وَقد بَينا هَذَا فِي
مُسْند ابْن عمر عِنْد قَوْله: ((خمس فواسق)) .
وَقَوله: ((فَإِن الشَّيْطَان لَا يحل سقاء وَلَا يفتح
وكاء)) وَهَذَا يدل على أَنه إِنَّمَا يتسلط على المفرط
لَا على المتحرز، فللمفرط فِيهِ نصِيبه
(3/18)
عَلَيْهِ تسلطه.
وَأما الفواشي فَكل شَيْء منتشر من المَال مثل الْإِبِل
وَالْبَقر وَالْغنم السَّائِمَة، وأصل قَوْلك: فَشَا
الشَّيْء: ظهر وانتشر.
وَفَحْمَة الْعشَاء بِفَتْح الْحَاء وسكونها: شدَّة سَواد
اللَّيْل وظلمته، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي أول اللَّيْل.
والوباء: كَثْرَة الْمَوْت فِي النَّاس. يُقَال: أَرض وبئة
وموبوءة.
وَإِذا خالط الْهَوَاء أبخرة رَدِيئَة حدث الوباء.
وَقَوله: ((أجيفوا الْأَبْوَاب)) . أَي أغلقوها.
1267 - / 1543 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين:
أَن رجلا أعتق غُلَاما عَن دبر، فَاحْتَاجَ، فَأَخذه
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((من
يَشْتَرِيهِ؟)) فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله بِكَذَا
وَكَذَا.
أما الرجل الْمُعْتق فيكنى أَبَا مَذْكُور، والغلام يكنى
أَبَا يَعْقُوب.
ونعيم يُقَال لَهُ: النحام. وَمِقْدَار الثّمن الَّذِي
بَاعه بِهِ كَانَ ثَمَانمِائَة دِرْهَم.
وتدبير العَبْد: عتقه عَن دبر من الْمُعْتق: أَي بعد إدبار
عَن الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ. وَاخْتلفت الرِّوَايَة [عَن
أَحْمد] فِي بيع الْمُدبر: فَروِيَ عَنهُ: يجوز على
الْإِطْلَاق، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَعنهُ: يجوز
بِشَرْط أَن يكون على السَّيِّد دين. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: لَا يجوز بَيْعه إِذا كَانَ التَّدْبِير
(3/19)
مُطلقًا، قَالَ مَالك: لَا يجوز بَيْعه
حَال الْحَيَاة وَيجوز بعد الْمَوْت إِذا كَانَ على
السَّيِّد دين.
وَقد تضمن الحَدِيث جَوَاز بيع مَال الْمُفلس عَلَيْهِ.
1268 - / 1544 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين:
نهى عَن الزَّبِيب وَالتَّمْر، والبسر وَالرّطب.
وَالْمعْنَى: أَن ينبذا جَمِيعًا، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا
يتعاونان على الإشتداد.
وَذَلِكَ عندنَا مَكْرُوه، فَإِن وجد الإشتداد حرم. وَقد
رُوِيَ عَن عَطاء وَطَاوُس التَّحْرِيم لظَاهِر الحَدِيث
وَإِن لم يُوجد شدَّة.
1269 - / 1545 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْم الْفطر،
فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة.
قد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس سَبَب الْبِدَايَة
بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة.
وَذكرنَا السَّبَب فِي أَنه لَا أَذَان لَهَا وَلَا
إِقَامَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث حث على تذكير النِّسَاء.
وَقَوله: من سطة النِّسَاء: أَي من وسطهن.
وَقَوله: سفعاء الْخَدين. السفعاء: الَّتِي قد تغير
لَوْنهَا إِلَى الكمودة والسواد من طول الأيمة، كَأَنَّهُ
مَأْخُوذ من سفع النَّار، وَمِنْه
(3/20)
الحَدِيث الآخر: ((أَنا وَامْرَأَة سفعاء
الْخَدين كهاتين يَوْم الْقِيَامَة)) .
يَعْنِي أَن تِلْكَ الْمَرْأَة حبست نَفسهَا على
أَوْلَادهَا تربيهم، وَتركت التزين والتصنع والتعرض
للأزواج.
والأقرطة جمع قرط، والقرط: مَا علق فِي شحمة الْأذن.
1270 - / 1546 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين:
كنت على جمل ثفال.
الثفال: البطيء السّير والثقيل الْحَرَكَة.
وَقَوله: قد خلا مِنْهَا. أَي قد مضى من عمرها.
وَالْمعْنَى: قد كَبرت وَخرجت عَن حد الشَّبَاب.
وَقَوله: ((فَهَلا جَارِيَة تلاعبها وتلاعبك)) أَرَادَ
بالجارية الْبكر، وَقد جَاءَ فِي لفظ آخر. وَفِي الْبكر
معَان: مِنْهَا: حَدَاثَة السن، وللنفس فِي ذَلِك حَظّ
وافر. وَمِنْهَا: قُوَّة الْحَرَارَة الَّتِي تحرّك
الْبَاءَة. وَمِنْهَا: أَن الْمَرْأَة يتَعَلَّق قَلبهَا
بِأول زوج، إِذْ لم تعرف سواهُ، فَيكون ودها منصرفا
إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَن كثيرا من الطباع تنبو عَمَّن
كَانَ لَهَا زوج.
وَمِنْهَا: التهيؤ للْوَلَد. وَمِنْهَا: أَن المداعبة
تلِيق بالجواري دون غَيْرهنَّ، والمداعبة تبْعَث على
اجْتِمَاع المَاء وكثرته، إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد.
وَقَوله: وَزَادَنِي قيراطا، هَذَا كَانَ هبة من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ
(3/21)
خَارِجا عَن ععقد البيع، فَلذَلِك تبرك
بِهِ.
والناضج: مَا استقي عَلَيْهِ، وَالْجمع نواضح.
والعروس قد بَيناهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: أَعْطَانِي ثمنه ورده عَليّ. هَذَا من أحسن
الْكَرم، وَهُوَ أَن من بَاعَ شَيْئا فَالظَّاهِر أَنما
يَبِيعهُ للْحَاجة إِلَى ثمنه، ولولاها مَا أخرجه عَن
يَده، فَإِذا تعوض عَنهُ بِالثّمن بَقِي فِي قلبه أَسف
فِرَاقه، فَإِذا جبر برد الثّمن أَتَاهُ مَا لم يكن فِي
حسبانه، فَزَاد فرحه.
وَقَوله: أفقرني ظَهره: أَي أعارني فقاره لأركبه. والفقار:
الظّهْر
وَقَوله: فَبِعْته على أَن لي ظَهره إِلَى الْمَدِينَة.
فِيهِ دَلِيل على جَوَاز اشْتِرَاط مَنْفَعَة الْمَبِيع
مُدَّة مَعْلُومَة. وَمثله أَن يَبِيع دَارا وَيشْتَرط
سكناهَا شهرا، أَو عبدا وَيشْتَرط خدمته سنة، أَو
يَشْتَرِي فلعة فَيشْتَرط على البَائِع حذوها نعلا، أَو
جرزة حطب فَيشْتَرط عَلَيْهِ حملهَا. هَذَا مَذْهَبنَا
خلافًا لأكثرهم فِي أَن هَذَا لَا يجوز، إِلَّا أَن أَبَا
حنيفَة قد وَافق فِي الفلعة والجرزة، وَمَالك فِي
الزَّمَان الْيَسِير دون الْكثير.
وَقَوله: فَبِعْته بأوقية. وَفِي لفظ: بِخمْس أواقي. قَالَ
الْخطابِيّ: الأواقي مَفْتُوحَة الْألف مُشَدّدَة الْيَاء
غير مصروفة، جمع أُوقِيَّة مثل
(3/22)
أضْحِية وأضاحي، وَبُخْتِيَّة وبخاتي،
وَرُبمَا خفف فَقيل: أَوَاقٍ وأضاح. وَالْأُوقِية
أَرْبَعُونَ درهما، والعامة تَقول: خمس آواق ممدودة الْألف
بِغَيْر يَاء وَإِنَّمَا الآواق جمع أوق. قلت: والأوق:
الثّقل، يُقَال: ألْقى عَلَيْهِ أوقه.
وَقَوله: فزادني أُوقِيَّة. هَذَا من جنس مَا ذكرنَا من
هِبته للبعير، فَإِن الْكَرِيم يُعْطي مَا يتَعَلَّق بِهِ
الأمل وَيزِيد.
والقطوف: البطىء الْمَشْي.
وَقَوله: فَنَخَسَ بَعِيري: أَي دَفعه ضربا بِطرف العنزة:
وَهِي فَوق الْعَصَا وَدون الرمْح، كالحربة. والمحجن: عَصا
فِي طرفها انعقاف.
وَقَوله: ((حَتَّى تمتشط الشعثة)) الشعث: تلبد الشّعْر
وتوسخه لبعد الدّهن عَنهُ.
قَوْله: ((وتستحد المغيبة)) الإستحداد: اسْتِعْمَال
الْحَدِيد فِي الْحلق، ثمَّ اسْتعْمل فِي حلق الْعَانَة.
قَالَ أَبُو عبيد: الإستحداد: استحلاق بالحديد، وَكَانُوا
لَا يعْرفُونَ النورة. قلت: وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى:
تفعل مَا يفعل المستحد. والمغيبة: الَّتِي غَابَ عَنْهَا
زَوجهَا. يُقَال: أغابت الْمَرْأَة فَهِيَ مغيبة: إِذا
غَابَ عَنْهَا الزَّوْج.
وَقَوله: ((فَلَا يطْرق أَهله لَيْلًا)) الطروق: إتْيَان
الْمنَازل بِاللَّيْلِ خَاصَّة.
(3/23)
وَقَوله: ((لِئَلَّا يتخونهم) أَي يتتبع
خيانتهم ونقصانهم. وأصل التخون التنقص، يُقَال. فلَان
يتخونني حَقي: أَي ينقصني.
وَقَوله: ((فَإِذا قدمت فالكيس الْكيس)) الْكيس: الْعقل،
وَكَأَنَّهُ أمره بِاسْتِعْمَال الْحلم والمداراة للأهل،
وَذَلِكَ مُقْتَضى الْعقل. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي:
الْكيس: الْجِمَاع، والكيس: الْعقل. فَكَأَنَّهُ جعل طلب
الْوَلَد بِالْجِمَاعِ عقلا، وكنى بِهِ عَن الْجِمَاع.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عبيد: ذهب بِهَذَا إِلَى طلب
الْوَلَد وَالنِّكَاح. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان:
وَيحْتَمل أَن يكون أمره بالتوقي والحذر من إِصَابَة أَهله
إِذا كَانَت حَائِضًا لطول غيبته.
والجمل الأرمك: الَّذِي لَونه يضْرب إِلَى الكدرة.
وَقَوله: لَيْسَ فِيهِ شية: أَي لَا لون فِيهِ يُخَالف
كدرته، بل كُله لون وَاحِد، قَالَ الزّجاج: الوشي فِي
اللُّغَة: خلط لون بلون، يُقَال: وشيت الثَّوْب أشيه شية
ووشيا.
والبلاط: كل شَيْء فرشت بِهِ الْمَكَان من حجر أَو غَيره،
ثمَّ يُسمى الْمَكَان بلاطا لما فِيهِ من ذَلِك، على
الْمجَاز، وَالْأَصْل ذَلِك.
وَقَوله: ((مَالك والعذارى؟)) يَقُول: لم تركت العذارى؟
والعذارى جمع عذراء: وَهِي الْبكر لم تفتض. والعذرة: مَا
يهتك بالإفتضاض. واللعاب: اللّعب.
(3/24)
وصرار: اسْم مَوضِع.
وَقَوله: ((عَلَيْك بِذَات الدّين)) هَذِه كلمة مَعْنَاهَا
الْحَث والتحريض.
وَقَوله: ((تربت يداك)) يُقَال: ترب الرجل: إِذا افْتقر،
وأترب: إِذا اسْتغنى. وَقد ذكر أَبُو عبيد فِي قَوْله:
((تربت يداك)) ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن تربت
بِمَعْنى افْتَقَرت، وَأَنَّهَا كلمة تَقُولهَا الْعَرَب
وَلَا تقصد الدُّعَاء على الشَّخْص، كَقَوْلِهِم: عقرى
حلقى. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: نزل بك الْفقر عُقُوبَة
أَن تعديت ذَات الدّين إِلَى ذَات الْجمال وَالْمَال،
وَالثَّالِث: أَن تربت بِمَعْنى استغنت، وَمن الْغنى،
وَاخْتَارَ القَوْل الأول وَخطأ الْأَخير. وَالَّذِي
اخْتَارَهُ هُوَ الصَّحِيح، وَالَّذِي خطأه كَمَا قَالَ،
فَإِنَّهُ لَا يعرف ترب بِمَعْنى اسْتغنى، إِنَّمَا
يُقَال: أترب: إِذا اسْتغنى.
1271 - / 1547 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين:
ذكر التَّمَتُّع فِي الْحَج، فَقَالَ سراقَة: ألنا هَذِه
خَاصَّة أم لِلْأَبَد؟ فَقَالَ: ((بل لِلْأَبَد)) .
قد ذكرنَا فِيمَا تقدم الْكَلَام فِي مُتْعَة الْحَج.
وَذكرنَا قَول سراقَة: ألنا خَاصَّة؟ فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس. وَذكرنَا فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة أَيْضا.
(3/25)
وعركت بِمَعْنى: حَاضَت.
وَلَيْلَة الحصبة: هِيَ اللَّيْلَة الَّتِي ينزل النَّاس
المحصب عِنْد انصرافهم من منى إِلَى مَكَّة.
وَقَوله: ((أبتوا نِكَاح هَذِه النِّسَاء. قد سبق فِي
مُسْند عمر.
وَقَول جَابر: تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر. تَأَوَّلَه مُسلم بن
الْحجَّاج على مُتْعَة النِّسَاء وَيدل على تَأَوَّلَه
حَدِيث سَيَأْتِي بعد خمس وَسِتِّينَ حَدِيثا من أَفْرَاد
((مُسلم)) فِي هَذَا الْمسند وَهَذَا مَحْمُول من فعله على
أَنه من لم يبلغهُ النَّهْي عَنهُ، وَإِلَّا فَهَذَا
مَنْسُوخ، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
1272 - / 1548 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين:
((إِنَّمَا الْمَدِينَة كالكير تَنْفِي خبثها وينصع
طيبها)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: قد قيل: إِن الْكِير: الزق
الَّذِي ينْفخ فِيهِ الْحداد على الْحَدِيد. والكور مَا
كَانَ مَبْنِيا من طين.
وينصع: يخلص. وناصع كل شَيْء: خالصه.
1273 - / 1550 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ندب النَّاس يَوْم
الخَنْدَق. وَفِي رِوَايَة: يَوْم الْأَحْزَاب. وَفِي
رِوَايَة: يَوْم
(3/26)
قُرَيْظَة، فَانْتدبَ الزبير.
اعْلَم أَن يَوْم الخَنْدَق هُوَ يَوْم الْأَحْزَاب،
وَهُوَ يَوْم بني قُرَيْظَة. وَلَيْسَ الْإِشَارَة إِلَى
يَوْم بِعَيْنِه، فَإِن ذَلِك كَانَ فِي أَيَّام، وَالْعرب
تَقول: يَوْم بُعَاث، وَيَوْم كَذَا، تُشِير إِلَى
أَيَّام. وَلما انقشع عَسْكَر الْمُشْركين يَوْم الخَنْدَق
قَالَ: ((لأصلين الْعَصْر فِي بني قُرَيْظَة)) .
وَقد بَينا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود معنى الْحوَاري.
1274 - / 1551 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين:
((هَل لكم من أنماط)) .
الأنماط جمع نمط: وَهُوَ ضرب من الْبسط والفرش.
1275 - / 1552 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: كَانَت
الْيَهُود تَقول: إِذا جَامعهَا من وَرَائِهَا جَاءَ
الْوَلَد أَحول، فَنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم}
[الْبَقَرَة: 223] .
الْإِشَارَة إِلَى الرَّد على الْيَهُود. وَمعنى الْآيَة:
فَأتوا حَرْثكُمْ كَيفَ شِئْتُم، من بَين يَديهَا وَمن
خلفهَا - وَالْمَقْصُود أَن زعم الْيَهُود محَال،
وَبِهَذَا القَوْل ينْدَفع قَول من فسر ((أَنى)) بِغَيْر
هَذَا.
(3/27)
1276 - / 1553 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالثَّلَاثِينَ: رَأَيْت عمر يحلف بِاللَّه عِنْد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ابْن صائد
الدَّجَّال فَلم يُنكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا لِأَن عمر حلف على غَالب ظَنّه، وَلم يكن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَيَقَّن خلاف ذَلِك، فَلذَلِك
سكت عَن الْإِنْكَار.
1277 - / 1554 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالثَّلَاثِينَ: ((رَأَيْتنِي دخلت الْجنَّة فَإِذا أَنا
بالرميصاء)) .
الرميصاء هِيَ أم أنس بن مَالك، وَسَيَأْتِي ذكرهَا فِي
مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: ((وَسمعت خشفة)) قَالَ أَبُو عبيد: الخشفة:
الصَّوْت لَيْسَ بالشديد، يُقَال خشف يخشف خشفا: إِذا
سَمِعت لَهُ صَوتا وحركة.
وفناء الْبَيْت: مَا امْتَدَّ مَعَ الْبَيْت من جوانبه.
1278 - / 1555 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالثَّلَاثِينَ: جِيءَ بِأبي مسجى.
المسجى: المغطى المستور.
والمجدع: الْمَقْطُوع الْأنف وَالْأُذن. والتمثيل: قطع بعض
(3/28)
الْأَعْضَاء وتشويه الْخلق.
1279 - / 1556 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: ولد لرجل منا غُلَام فَسَماهُ الْقَاسِم،
فَقُلْنَا: لَا نكنيك أَبَا الْقَاسِم وَلَا ننعمك عينا.
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((تسموا باسمي
وَلَا تكتنوا بكنيتي)) .
قَوْله: لاننعمك عينا: أَي لَا نقر عَيْنك بذلك، وَلَا
نساعدك عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي)) بعض
الْعلمَاء يرى أَن هَذَا كَانَ فِي زَمَانه. وَقد اخْتلفت
الرِّوَايَة عَن أَحْمد: فَروِيَ أَنه يكره الْجمع بَين
اسْمه وكنيته، فَإِن أفرد الكنية عَن الإسم لم يكره،
وَرُوِيَ عَنهُ الْكَرَاهَة للْجمع والإفراد، وَرُوِيَ
عَنهُ نفي الْكَرَاهَة فِي الْجُمْلَة.
1280 - / 1557 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فدققت الْبَاب، فَقَالَ: ((من ذَا؟)) فَقلت: أَنا:
فَقَالَ: ((أَنا، أَنا)) كَأَنَّهُ كرهها.
اعْلَم أَن كَرَاهِيَة هَذِه الْكَلِمَة لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا لَيست بِجَوَاب قَوْله: ((من ذَا؟))
فَبَقيَ سُؤال الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي
انْتظر جَوَابه بِلَا جَوَاب. ودق الْبَاب يَوْمًا على بعض
الْعلمَاء فَقَالَ: من؟ فَقَالَ الداق: أَنا، فَقَالَ:
هَذَا دق ثَان. وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة أَنا من غير أَن
يُضَاف إِلَيْهَا فلَان تَتَضَمَّن نوع كبر، كَأَنَّهُ
يَقُول: أَنا الَّذِي لَا أحتاج
(3/29)
أَن أسمي نَفسِي، أَو: أتكبر على
تَسْمِيَتهَا، فَيكْرَه لهَذَا أَيْضا.
1281 - / 1558 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالثَّلَاثِينَ: لَا يَرِثنِي إِلَّا كَلَالَة، فَكيف
الْمِيرَاث؟ فَنزلت آيَة الْفَرَائِض.
أما الْكَلَالَة فقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر.
وَأما آيَة الْفَرَائِض فَهِيَ قَوْله تَعَالَى:
{يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] .
وَقَوله: لَيْسَ بِرَاكِب بغل. يَعْنِي أَنه كَانَ
مَاشِيا. والبرذون: نوع من الدَّوَابّ مَعْرُوف.
1282 - / 1559 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ)) .
المُرَاد بالعرش هَا هُنَا عرش الله عز وَجل الَّذِي قَالَ
فِيهِ: {ذُو الْعَرْش} [غَافِر: 15] . وَالْعرش فِي
اللُّغَة: السرير، وَقد روى إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن
سعد الطَّائِي أَنه قَالَ: الْعَرْش: ياقوتة حَمْرَاء.
وَفِي معنى اهتزازه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه تحركه
كاهتزاز الْفَرح، وَهَذَا الظَّاهِر. وَالثَّانِي: أَن
معنى الإهتزاز: الاستبشار وَالسُّرُور، يُقَال: فلَان
يَهْتَز للمعروف: أَي يستبشر وَيسر، وَإِن فلَانا لتأخذه
للثناء
(3/30)
هزة: أَي ارتياح وطلاقه، قَالَه ابْن
قُتَيْبَة. وَقد أنكر قوم أَن يكون المُرَاد عرش الله عز
وَجل، وَقَالُوا: هُوَ السرير الَّذِي حمل عَلَيْهِ، فروى
((البُخَارِيّ)) فِي هَذَا الحَدِيث أَن رجلا قَالَ
لجَابِر: إِن الْبَراء يَقُول: اهتز السرير، فَقَالَ:
إِنَّه كَانَ بَين هذَيْن الْحَيَّيْنِ ضغائن، سَمِعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((اهتز عرش
الرَّحْمَن لمَوْت سعد بن معَاذ)) ويقصد بالحيين الْأَوْس
والخزرج، والضغائن كَانَت بَينهم قبل الْإِسْلَام، وَكَانَ
سعد من الْأَوْس والبراء من الْخَزْرَج، وكل مِنْهُم لَا
يقر بِفضل صَاحبه عَلَيْهِ. والضغائن: الأحقاد والعداوة.
ويروى عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: إِن الْعَرْش لَا يَهْتَز
لمَوْت أحد، وَلكنه سَرِيره حمل عَلَيْهِ. فهذان الشخصان -
أَعنِي الْبَراء وَابْن عمر - لاحظا تَعْظِيم الْعَرْش؛
فَإِن الله عز وَجل نسبه إِلَيْهِ نِسْبَة الصِّفَات
فَقَالَ: {ذُو الْعَرْش} كَمَا قَالَ: {ذُو الرَّحْمَة}
[الْأَنْعَام: 133] وَلَا شكّ فِي تَعْظِيمه، غير أَن
الْمُؤمن أعظم، وَإِنَّمَا تَأَول مَا لَيْسَ بِصَرِيح،
وعرش الرَّحْمَن لفظ صَرِيح لَا يحْتَمل التَّأْوِيل،
وَلَو بلغهما هَذَا اللَّفْظ مَا تأولا. ثمَّ أَي فَخر فِي
اهتزاز سَرِير؟ وكل سَرِير لمَيت يَهْتَز عِنْد تجاذب
الرِّجَال إِيَّاه.
فَإِن قيل: مَا فَائِدَة اهتزاز الْعَرْش لمثل هَذِه
الْأَشْيَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن الله سُبْحَانَهُ لما كَانَ
يفعل وَلَا ينفعل، إِذْ لَيْسَ بجسم وَلَا ذِي مزاج وطبع،
أَرَادَ إِعْلَام خلقه وَمَلَائِكَته مقادير عظم
الْحَوَادِث عِنْده، طَاعَة كَانَت أَو مَعْصِيّة، فيسلط
الإنفعال على ذَوَات من خلقه تقبل الإنفعال، كزلزلة
الأَرْض ودك الْجبَال واهتزاز الْعَرْش، ليعلم الْعَالم
مِقْدَار ذَلِك عِنْده، والخالق سُبْحَانَهُ أبدا يُقيم
الْمَخْلُوقَات للمخلوقين معالم
(3/31)
ومناسك ومرابط، كالكعبة وَالْحجر،
وَإِنَّمَا منع من التوسل بالأصنام، لِأَنَّهَا من وضع
الْخلق لأَنْفُسِهِمْ.
1283 - / 1560 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ: لما بنيت الْكَعْبَة ذهب النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعَبَّاس ينقلان الْحِجَارَة،
فَقَالَ الْعَبَّاس للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اجْعَل إزارك على رقبتك، فَخر إِلَى الأَرْض، فطمحت
عَيناهُ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: ((أَرِنِي إزَارِي))
فَمَا رئي بعد ذَلِك عُريَانا.
اعْلَم أَن الْكَعْبَة بقيت على بِنَاء الْخَلِيل عَلَيْهِ
السَّلَام مُدَّة، ثمَّ انْهَدَمت فبنتها العمالقة ثمَّ مر
عَلَيْهَا الدَّهْر فبنتها قُرَيْش، وَكَانَ بناؤها
إِيَّاهَا وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَام،
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لما بلغ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْحلم أجمرت امْرَأَة الْكَعْبَة فطارت
شرارة فأحرقت ثِيَاب الْكَعْبَة، فوهى الْبَيْت، فنقضته
قُرَيْش وبنته. فَلَمَّا أَرَادَ وضع الرُّكْن اخْتلفُوا
فِيمَن يرفعهُ من الْقَبَائِل، فَاجْتمع رَأْيهمْ أَن
يتحاكموا إِلَى أول دَاخل إِلَى الْمَسْجِد، فَدخل نَبينَا
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ غُلَام فحكموه، فَقَالَ:
((هاتوا ثوبا)) فَأخذ الرُّكْن فَوَضعه فِيهِ بِيَدِهِ،
ثمَّ أَمر سيد كل قَبيلَة أَن يَأْخُذ بِنَاحِيَة من
الثَّوْب، ثمَّ قَالَ: ((ارفعوه جَمِيعًا)) فَلَمَّا
رَفَعُوهُ وَضعه بِيَدِهِ.
وَقَوله: فطمحت عَيناهُ. يُقَال: طمح بَصَره: أَي علا
وارتفع، وكل مُرْتَفع طامح. وَالظَّاهِر أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جزع لانكشاف جسده وَلَيْسَ فِي
الحَدِيث دَلِيل على أَنه انْكَشَفَ شَيْء من عَوْرَته.
1284 - / 1562 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: غزونا مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(3/32)
وَقد ثاب مَعَه نَاس من الْمُهَاجِرين
حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ من الْمُهَاجِرين رجل لعاب،
فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا.
هَذِه الْغُزَاة هِيَ غزَاة الْمُريْسِيع: وَهُوَ مَاء
لبني المصطلق، وَإِنَّمَا خرج مَعَه المُنَافِقُونَ لِأَن
السّفر كَانَ قَرِيبا، فطعموا فِي الْغَنِيمَة.
وثاب بِمَعْنى رَجَعَ.
وكسع بِمَعْنى ضرب دبره بِيَدِهِ أَو بِرجلِهِ.
وتداعوا بِمَعْنى اسْتَغَاثُوا بالقبائل يستنصرون بهم فِي
ذَلِك.
وَالدَّعْوَى: الإنتماء. وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تنتمي
فِي الإستغاثة إِلَى الْآبَاء فَتَقول: يَا آل فلَان،
وَذَلِكَ من العصبية، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن تكون
الإستغاثة بِالْإِسْلَامِ وَحكمه، فَإِذا وَقعت بِغَيْرِهِ
فقد اعْترض عَن حكمه والإستنصار بِهِ.
وَقَوله: ((فَإِنَّهَا خبيثة)) يَعْنِي دَعْوَى
الْجَاهِلِيَّة.
وَقَوله: ((لَا يتحدث النَّاس أَنه يقتل أَصْحَابه)) سياسة
عَظِيمَة وحزم وافر، لِأَن النَّاس يرَوْنَ الظَّاهِر،
وَالظَّاهِر أَن عبد الله بن أبي كَانَ من الْمُسلمين وَمن
أَصْحَاب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَو
عُوقِبَ من يظنّ خلاف مَا يظْهر لم يعلم النَّاس ذَلِك
الْبَاطِن، فينفرون عَمَّن يفعل هَذَا بِأَصْحَابِهِ.
1285 - / 1563 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: ((الْحَرْب خدعة)) وَقد فسرناه فِي
مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
(3/33)
1286 - / 1563 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالْأَرْبَعِينَ: دخل رجل يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ: ((أصليت؟))
قَالَ: لَا: قَالَ: ((فصل رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا)) .
هَذَا الحَدِيث يشْتَمل على حكمين: أَحدهمَا: أَن
الْكَلَام فِي حَال الْخطْبَة لَا يحرم على الْخَطِيب،
وَهل يحرم على المستمع؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ.
وَإِذا قُلْنَا: يحرم، فَإِنَّمَا يحرم عَلَيْهِ إِذا
كَانَ بِحَيْثُ يسمع، فَأَما إِذا كَانَ بِحَيْثُ لَا يسمع
لم يحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: الْكَلَام
مَحْظُور على الْخَطِيب والمستمع، سَوَاء كَانَ بِحَيْثُ
يسمع أَو لَا يسمع. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: أَحدهمَا مثل
هَذَا، وَالثَّانِي: لَا يحرم ذَلِك.
وَالْحكم الثَّانِي: اسْتِحْبَاب تَحِيَّة الْمَسْجِد
وَإِن كَانَ الْخَطِيب فِي الْخطْبَة، وَهَذَا قَول أَحْمد
وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك:
لَا يسْتَحبّ.
وَتجوز فيهمَا: أَي خففهما وَلَا تطل.
وَهَذَا الرجل اسْمه سليك الْغَطَفَانِي، وَقد سمي فِي
الحَدِيث.
1287 - / 1565 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالْأَرْبَعِينَ: أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عبد الله بن أبي بَعْدَمَا أَدخل حفرته، فَأمر بِهِ
فَأخْرج، فَوَضعه على رُكْبَتَيْهِ، وَنَفث فِيهِ من
رِيقه، وَألبسهُ قَمِيصه،
(3/34)
وَكَانَ كسا عباسا قَمِيصًا.
وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر أَن ولد عبد الله بن أبي طلب
من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصه ليكفن
فِيهِ أَبَاهُ، فَيجوز أَن يكون جَابر شَاهد من ذَلِك مَا
لم يُشَاهِدهُ ابْن عمر، وَيجوز أَن يكون أعطَاهُ قميصين:
قَمِيصًا للكفن، ثمَّ أخرجه فألبسه آخر، وَقد بَين فِي
هَذَا الحَدِيث سَبَب إِعْطَائِهِ الْقَمِيص.
وَقَوله: فوجدوا قَمِيص ابْن أبي يقدر عَلَيْهِ: أَي يكون
بِقَدرِهِ فِي الطول وَيصْلح للباسه، وَهَذَا لِأَن
الْعَبَّاس كَانَ جسيما طَويلا، وَكَذَلِكَ ابْن أبي.
1288 - / 1566 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: بعثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وأميرنا أَبُو عُبَيْدَة. فَذكر الحَدِيث
الْمُتَقَدّم فِي مُسْند أبي عُبَيْدَة، إِلَّا أَن فِي
هَذَا الحَدِيث كَلِمَات لم نذكرها ثمَّ، مِنْهَا: وادهنا
من الودك. والودك: الدّهن الْخَارِج من الشَّحْم
الْمُذَاب.
وَقَوله: ثَابت أجسامنا: أَي رجعت قوتها.
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث - وَلم يذكرهُ
الْحميدِي: فَإِذا حوت فأكلنا مِنْهُ مَا أحببنا -
بِالْبَاء. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ لنا أشياخنا. وَقَالَ
اللغويون مِنْهُم: الصَّوَاب: مَا أحيينا، بياءين: أَي
قوينا وَرجعت إِلَيْنَا نفوسنا.
وَقَوله: وَجلسَ فِي حجاج عينه نفر. الْحجَّاج: الْعظم
المشرف
(3/35)
على الْعين، وهما حجاجان، لكل عين حجاج.
والقلة: الجرة، قَالَ ابْن فَارس: الْقلَّة مَا أَقَله
الْإِنْسَان من جرة أَو حب، وَلَيْسَ فِي ذَلِك عِنْد أهل
اللُّغَة حد مَحْدُود.
وَقَوله: نحر ثَلَاث جزائر. الجزائر جمع جزور: وَهُوَ مَا
قصد بِهِ الذّبْح.
1289 - / 1568 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ: مر رجل بسهام فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ
لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أمسك
بنصالها)) .
نصال السهْم ونصولها: حديديها.
وَفِي لفظ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا
كَانَ ينْصَرف بِالنَّبلِ. كَذَا كتب الْحميدِي بِخَطِّهِ:
ينْصَرف، وَهُوَ سَهْو، وَإِنَّمَا هُوَ يتَصَدَّق
بِالنَّبلِ. كَذَا ذكره أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي
وَغَيره.
1290 - / 1569 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: ((يخرج من النَّار قوم كَأَنَّهُمْ
الثعارير)) قيل: مَا الثعارير؟ قَالَ: ((الضغابيس)) .
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الثعارير والضغابيس: صغَار
القثاء.
1291 - / 1570 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يَأْتِي فيؤم قومه.
(3/36)
قد احْتج بِهَذَا الحَدِيث من يرى جَوَاز
اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، وَمن يُصَلِّي الظّهْر بِمن
يُصَلِّي الْعَصْر، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، والمنصور
من الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد أَنه لَا يجوز ذَلِك،
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك، وَالْجَوَاب عَن احتجاجهم
أَن حَدِيث معَاذ قَضِيَّة فِي عين، فَيحْتَمل أَن معَاذًا
كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نفلا ثمَّ يُصَلِّي بقَوْمه الْفَرِيضَة. فَإِن قَالُوا:
فقد رُوِيَ عَن جَابر أَنه قَالَ: فَيكون لَهُ تَطَوّعا.
قُلْنَا: لَا يَصح، وَلَو صَحَّ كَانَ ظنا من جَابر. وَإِن
قَالُوا: فَكيف يتْرك معَاذ فَضِيلَة الْفَرِيضَة خلف
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قُلْنَا: يحْتَمل أَن
يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره أَن يُصَلِّي
بقَوْمه الْفَرَائِض فامتثل أمره.
وَالرجل الَّذِي انحرف وَصلى وَحده اسْمه حرَام بن
ملْحَان، خَال أنس بن مَالك.
والنواضح: مَا يسْتَعْمل من الْإِبِل فِي سقِِي الزَّرْع
وَالنَّخْل.
وَقَوله: ((أفتان أَنْت؟)) اسْتِفْهَام إِنْكَار.
وَالْمعْنَى: أَتُرِيدُ أَن تصرف النَّاس عَن صَلَاة
الْجَمَاعَة؟ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: أَتُرِيدُ صرف
النَّاس عَن الدّين.
وجنح اللَّيْل: أظلم.
1292 - / 1571 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِينَا:
{إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا} [آل
عمرَان: 122] بني سَلمَة
(3/37)
وَبني حَارِثَة.
الطَّائِفَة: الْجَمَاعَة.
والفشل: الْجُبْن والخور.
وَهَذَا كَانَ فِي غَزْوَة أحد. وَقيل: لما رَجَعَ عبد
الله بن أبي وَأَصْحَابه يَوْم أحد هَمت الطائفتان بذلك،
فعصمهما الله عز وَجل.
1293 - / 1572 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من لكعب بن الْأَشْرَف؟))
.
كَانَ كَعْب من رُؤَسَاء الْيَهُود، وَكَانَ يهجو النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه، وَبكى على قَتْلَى
قُرَيْش يَوْم بدر، وحرضهم بالشعر، فَمضى إِلَيْهِ
مُحَمَّد بن مسلمة وَأَبُو نائلة - واسْمه سلكان بن
سَلامَة بن وقش الأشْهَلِي، وَكَانَ أَبُو نائلة أَخا
كَعْب من الرضَاعَة، فَاسْتَأْذَنا، فَقَالَت امْرَأَته:
أسمع صَوتا كَأَنَّهُ صَوت دم. فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ
مُحَمَّد ورضيعه أَبُو نائلة. كَذَا قَالَ الرَّاوِي:
ورضيعه، إِنَّمَا قَالَ: ورضيعي، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي لفظ
آخر.
واللأمة: السِّلَاح.
فَإِن قيل: كَيفَ أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي قتل كَعْب فتكا وَقد قَالَ: ((الْإِيمَان قيد الفتك))
فَالْجَوَاب: أَنه نقض الْعَهْد، فَجَاز قَتله على أَي صفة
كَانَت، كَمَا يجوز تبييت الْكفَّار على غرَّة، وَإِنَّمَا
الفتك بِمن
(3/38)
لَا يحل قَتله. قَالَ جَابر بن عبد الله:
كَانَ كَعْب بن الْأَشْرَف عَاهَدَ رَسُول الله أَلا يعين
عَلَيْهِ وَلَا يقاتله، وَلحق بِمَكَّة. ثمَّ قدم
الْمَدِينَة مُعْلنا بمعاداة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أبياتا يهجوه بهَا، فَعِنْدَ
ذَلِك ندب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
قَتله.
1294 - / 1573 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن صِيَام يَوْم
الْجُمُعَة وَالْمرَاد إِفْرَاده بِالصَّوْمِ، وسنشرح
هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1295 - / 1574 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين:
((إِن كَانَ فِي شَيْء من أدويتكم شِفَاء فَفِي شرطة محجم،
أَو لذعة بِنَار. وَمَا أحب أَن أكتوي)) .
وَقد تكلمنا فِي الكي فِي مُسْند عمرَان بن الْحصين،
وَبينا مراتبه.
وَقَوله: رقي سعد فِي أكحله. الأكحل: عرق مَعْرُوف فِي
ذِرَاع الْإِنْسَان.
وَقَوله: فحسمه. قَالَ أَبُو عبيد: أصل الحسم الْقطع،
وَإِنَّمَا أَرَادَ بالحسم أَنه قطع الدَّم عَنهُ.
والمشقص: نصل السهْم إِذا كَانَ طَويلا وَلَيْسَ بالعريض،
فَإِذا كَانَ
(3/39)
عريضا وَلَيْسَ بالطويل فَهُوَ معبلة.
1296 - / 1575 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: مرت
جَنَازَة فَقَامَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قد بَينا أَن الْقيام للجنازة مَنْسُوخ، فِي مُسْند
عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1297 - / 1576 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين:
بَينا نَحن نصلي إِذْ أَقبلت عير تحمل طَعَاما، فالتفتوا
إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِي مَعَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا اثْنَا عشر رجلا، فَنزلت: {وَإِذا
رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوك قَائِما} [الْجُمُعَة: 11] .
قَوْله: بَيْنَمَا نَحن نصلي: أَي حَضَرنَا للصَّلَاة.
وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ يخْطب
قَائِما. وَقد بَين فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ الْقَوْم
قد أَصَابَهُم جوع وَغَلَاء سعر، فَقدم دحْيَة بن خَليفَة
- قبل أَن يسلم - بِتِلْكَ العير - وَالْعير: الْإِبِل
تحمل الْميرَة - وَضرب لَهُ طبل يُؤذن النَّاس، وَهُوَ
اللَّهْو، وَهَذِه كَانَت عَادَتهم إِذا قدمت عير.
وانفضوا: تفَرقُوا.
فَإِن قيل: لماذا قَالَ: {إِلَيْهَا} وَلم يقل
((إِلَيْهِمَا)) ؟ فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن
التِّجَارَة كَانَت أهم إِلَيْهِم فَرد الضَّمِير
إِلَيْهَا، هَذَا قَول الْفراء والمبرد. وَالثَّانِي: أَن
الْمَعْنى: وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا
أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَحذف خبر أَحدهمَا لِأَن
الْخَبَر الثَّانِي يدل على الْمَحْذُوف، قَالَه الزّجاج.
(3/40)
1298 - / 1577 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْخمسين: جهش النَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة. أَي فزعوا إِلَيْهِ
وأسرعوا نَحوه واستغاثوا بِهِ. وَيُقَال: جهش فلَان: إِذا
تهَيَّأ للبكاء.
قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا سميت الْحُدَيْبِيَة لشَجَرَة
كَانَت بذلك الْموضع.
1299 - / 1578 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين:
((نصرت بِالرُّعْبِ من مسيرَة شهر)) .
الرعب: الْفَزع. وَالْمعْنَى أَنه يَقع فِي قُلُوب
الْأَعْدَاء من مسيرَة شهر.
وَقَوله: ((وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا)) قد
فسرناه فِي مُسْند حُذَيْفَة.
وَقَوله: ((وَأحلت لي الْغَنَائِم)) كَانَ من سلف من
الْأُمَم إِذا غزوا فغنموا جَمَعُوهُ، فَأَقْبَلت نَار
فأكلته، فَإِن كَانُوا قد غلوا شَيْئا من الْغَنِيمَة
امْتنعت. وَكَذَلِكَ كَانُوا إِذا قربوا قربانا من ذبح
وَغَيره، فَإِن نزُول النَّار كَانَ عَلامَة الْقبُول.
وَقَوله: ((وَبعثت إِلَى النَّاس عَامَّة)) كَانَ النَّبِي
إِذا بعث فِي الزَّمَان الأول إِلَى قوم بعث غَيره إِلَى
آخَرين، وَكَانَ يجْتَمع فِي الزَّمن الْوَاحِد جمَاعَة من
الرُّسُل. فَأَما نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِنَّهُ انْفَرد بِالْبَعْثِ فَصَارَ نذيرا للْكُلّ من
غير أَن يزاحمه أحد. وقرأت بِخَط ابْن عقيل قَالَ: جَاءَت
فَتْوَى من دمشق: مَا تَقولُونَ فِي هَذَا الحَدِيث:
((بعثت إِلَى الْخلق كَافَّة))
(3/41)
وَالنَّظَر والتأمل يمْنَع صِحَة هَذَا،
لِأَنَّهُ إِذا كَانَ النَّبِي مَبْعُوثًا إِلَى قوم يبلغ
من تعدته إِلَى غَيرهم، لِأَن صفة التخصص فِي الْإِرْسَال
لَا تَقْتَضِي الْعُمُوم، كَمَا لَو قَالَ الْقَائِل
لرَسُوله: اذْهَبْ إِلَى بني تَمِيم، فَإِنَّهُ إِذا تعدى
إِلَى بني عدي كَانَ مُخَالفا. فَلَو كَانَ مُوسَى
مَخْصُوصًا ببني إِسْرَائِيل ثمَّ جَاءَهُ غَيرهم من
الْأُمَم يسألونه عَمَّا جَاءَ بِهِ لم يجز لَهُ كِتْمَانه
عَنْهُم، وَلَا أَن يَقُول إِنِّي غير مَبْعُوث إِلَيْكُم،
بل كَانَ الْوَاجِب عَلَيْهِ إِجَابَة التّرْك وَالْفرس
وَالْعرب وكل من سَأَلَهُ عَن الْأَحْكَام الَّتِي جَاءَ
بهَا بِمَا بعث بِهِ إِلَى بني إِسْرَائِيل، بل كَانَ لَا
يجوز لَهُ أَن يُجيب أحدا من هَؤُلَاءِ إِذا كَانَ
مَبْعُوثًا إِلَى بني إِسْرَائِيل خَاصَّة. قَالَ
السَّائِل: وَأَيْضًا إِذا قَالَ لَهُ: مر بني إِسْرَائِيل
بِالصَّلَاةِ، وَمن زنى من بني إِسْرَائِيل فعاقبه على
زِنَاهُ، لم يجز أَن يُعَاقب غَيرهم على الزِّنَا، وَهَذَا
كَالْحكمِ إِذا علق على غَايَة لَا يتَعَدَّى إِلَى
غَيرهَا. فَإِن قُلْنَا: إِنَّه منع من إرشاد من جَاءَ
إِلَيْهِ للإسترشاد من أَنْوَاع الْخلق لم يجز ذَلِك،
وَإِذا بَطل هَذَانِ القسمان ثَبت أَن كل رَسُول إِنَّمَا
بعث إِلَى جَمِيع الْخلق. وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول:
أَنه أرسل إِلَى بني إِسْرَائِيل خَاصَّة، وَالنَّاس
بِالْخِيَارِ بَين اتِّبَاعه وَتَركه. قَالَ السَّائِل:
وَطَرِيقَة أُخْرَى: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى رفع
الْعَذَاب عَن الْخلق مَعَ عدم الرُّسُل بقوله: {وَمَا
كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} [الْإِسْرَاء: 15]
وَأثبت الْحجَّة على الْخلق ببعثه الرُّسُل. وَقد ثَبت أَن
الله تَعَالَى أهلك جَمِيع أهل الأَرْض بالطوفان، وَمَا
ذَلِك إِلَّا لمُخَالفَة نوح، فَلَو لم يكن مُرْسلا إِلَى
جَمَاعَتهمْ لما أهلكهم بمخالفته ودعا عَلَيْهِم. وَلَيْسَ
لقَائِل أَن يَقُول: فقد قَالَ فِي حق نوح: {إِنَّا
أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} [نوح: 1] {وَإِلَى مَدين
أَخَاهُم شعيبا} [الْأَعْرَاف: 85] فقد خصص مثل ذَلِك
نَبينَا بقوله: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم}
[التَّوْبَة: 128] فامتن على قُرَيْش بذلك.
(3/42)
فَأجَاب حنبلي مُحَقّق فِي الْأُصُول -
يَعْنِي ابْن عقيل نَفسه - فَقَالَ: إِن خصيصة النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاصِلَة من جِهَة خُفْيَة عَن
كثير من الْعلمَاء؛ وَذَلِكَ أَن شَرِيعَة نَبينَا صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَت ناسخة لكل شَرِيعَة قبلهَا،
فَلم يبْق يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّة وَلَا دين من
سَائِر الْأَدْيَان الَّتِي جَاءَت بهَا النبوات إِلَّا
أَمر بِتَرْكِهَا ودعا إِلَى شَرِيعَته، وَمعنى قَوْله:
((كل نَبِي بعث إِلَى قومه)) المُرَاد أَنه قد كَانَ
يجْتَمع فِي الْعَصْر الْوَاحِد نبيان يَدْعُو كل وَاحِد
مِنْهُمَا إِلَى شَرِيعَة تختصه وَلَا يَدْعُو الْأمة
الَّتِي بعث فِيهَا غَيره إِلَى دينه وَلَا يصرف عَنهُ،
وَلَا ينْسَخ مَا جَاءَ بِهِ الآخر، فَهَذِهِ خصيصة لم تكن
لأحد قبله، حَتَّى إِن نوحًا لم ينْقل أَنه كَانَ مَعَه
نَبِي، فَدَعَا إِلَى مِلَّته مِلَّة ذَلِك النَّبِي وَلَا
نسخهَا، وَهَذَا يدْفع مَا قَالُوا وقدروه من الأسئلة
وعقبوه بالأجوبة، ويوضح هَذَا أَنه لما وجد ورقة من
التَّوْرَاة بيد عمر قَالَ: ((ألم آتكم بهَا بيضًا نقية؟
وَالله لَو أدركني مُوسَى لما وَسعه إِلَّا اتباعي)) .
لِأَنَّهُ لَا يقدر عِيسَى أَن يَقُول فِي التَّوْرَاة
وَلَا فِي حق مُوسَى هَذِه الْمقَالة، فَعلم أَن هَذِه
الخصيصة الَّتِي امتاز بهَا عَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء دون
مَا توهمه السَّائِل من الْبعْثَة الْعَامَّة إِلَى جَمِيع
النَّاس وَدون أَرْبَاب الشَّرَائِع، وَالله أعلم.
1300 - / 1579 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين:
رَأَيْت بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمصا،
فَانْكَفَأت إِلَى امْرَأَتي، وَلنَا بَهِيمَة دَاجِن
فذبحتها وقطعتها فِي برمتها.
الخمص: الْجُوع. والمخمصة: المجاعة.
(3/43)
وانكفأت: رجعت.
والداجن: مَا يحبس فِي الْبَيْت من الْغنم.
والبرمة: الْقدر.
وَقَوله: ((صنع لكم سورا)) هَذِه كلمة فارسية، قَرَأت على
شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: قَالَ ثَعْلَب:
إِنَّمَا يُرَاد من هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم تكلم بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ: ((صنع لكم سورا))
أَي طَعَاما دَعَا إِلَيْهِ النَّاس.
وَقَوله: ((فحي هلا بكم)) . كلمة حث واستعجال، قَالَ لبيد:
( ... . ... وَلَقَد تسمع قولي حيهل)
قَوْله: فَقَالَت: بك وَبِك، وَهَذَا كِنَايَة عَن اللوم
والسب.
وَقَوله: فبسق: أَي بزق. يُقَال: بزق وبسق وبصق. قَالَ
شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: مرض النَّضر بن
شُمَيْل فَدخل عَلَيْهِ النَّاس يعودونه، فَقَالَ لَهُ
رجل: مسح الله مَا بك. فَقَالَ النَّضر: لَا تقل: مسح،
وَقل: مصح، ألم تسمع قَول الْأَعْشَى:
(وَإِذا الْخمْرَة فِيهَا أزبدت ... أفل الإزباد فِيهَا
ومصح)
فَقَالَ الرجل: لَا بَأْس، السِّين قد تعاقب الصَّاد فتقوم
مقَامهَا.
فَقَالَ النَّضر: فَيَنْبَغِي أَن تَقول لمن اسْمه
سُلَيْمَان: يَا صليمان، وَتقول: قَالَ رصول الله، ثمَّ
قَالَ النَّضر: لَا يكون الصَّاد مَعَ السِّين
(3/44)
إِلَّا فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع: إِذا
كَانَت مَعَ الطَّاء وَالْخَاء وَالْقَاف والغين، تَقول
فِي الطَّاء: سطر وصطر، وَفِي الْخَاء صَخْر وسخر، وَفِي
الْقَاف صقب وسقب، وَفِي الْغَيْن صدغ وسدغ. فَإِذا تقدّمت
هَذِه الأحرف الْأَرْبَعَة السِّين لم يجز ذَلِك، وَلَا
يجوز أَن تَقول خصر وخسر، وَلَا قصب وقسب، وَلَا طرس وطرص،
وَلَا غسل وغصل.
وَقَوله: ((اقدحي من برمتكم)) أَي اغرفي مَا فِيهَا،
والمقدحة: المغرفة. المقدح: الحديدة الَّتِي يقْدَح بهَا
النَّار، أَي يسْتَخْرج، والقداح من الإستخراج أَيْضا.
وَقَوله: وَإِن برمتنا لتغط: أَي تغلي بِمَا فِيهَا.
يُقَال: غطت الْقدر تغط، وغطيطها: صَوت غليانها.
وَقَوله: فعرضت كدية. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الكدية
قِطْعَة من الأَرْض غَلِيظَة صلبة. يُقَال: حفرت حَتَّى
أكديت. وَقد رَوَاهُ بَعضهم: فعرضت كبدة. قَالَ أَبُو
سُلَيْمَان: وَهِي الْقطعَة الصلبة، وَمثله قَوس كبداء:
شَدِيدَة.
وَقَوله: وبطنه معصوب: أَي مشدود بِالْعِصَابَةِ من
الْجُوع.
وَقَوله: فَعَاد كثيبا أهيل. الأهيل: المنهار الَّذِي لَا
يتماسك.
يُقَال: كثيب أهيل وأهيم: وَهُوَ الرمل الْيَابِس الَّذِي
لم يمر بِهِ الْمَطَر، فَهُوَ إِلَى السيلان أسْرع.
والأثافي: حِجَارَة تُوضَع تَحت الْقدر، وَيُقَال فِيهَا
أفافي، كَمَا يُقَال جدث وجدف.
(3/45)
وَقَوله: ((لَا تضاغطوا)) أَي لَا تزدحموا.
وَقَوله: ويخمر البرمة: أَي يغطيها حَتَّى لَا يرى نقصانها
وَلَا زيادتها.
1301 - / 1580 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين:
((مثلي وَمثل الْأَنْبِيَاء كَرجل بنى دَارا فأكملها
وأحسنها إِلَّا مَوضِع لبنة، وَجعل النَّاس يعْجبُونَ
وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوضِع اللبنة)) وَفِي لفظ:
((فَأَنا مَوضِع اللبنة)) .
اعْلَم أَن بَدْء الشَّرَائِع كَانَ على التَّخْفِيف،
فَلَا يعرف فِي شرع نوح وَهود وَصَالح وَإِبْرَاهِيم
تثقيل، ثمَّ جَاءَ مُوسَى بِالتَّشْدِيدِ والإثقال، وَجَاء
عِيسَى بِنَحْوِ من ذَلِك، وَجَاءَت شَرِيعَة نَبينَا صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم تنسخ تَشْدِيد أهل الْكتاب، وَلَا
تطلق فِي تسهيل من كَانَ قبلهم، فَهِيَ على غَايَة من
الإعتدال مَعَ مَا تحوي من محَاسِن الْآدَاب وتلقيح
الْعُقُول وَتَعْلِيم الفطنة، وتدل على استنباط خَفِي
الْمعَانِي، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لم يكن فِيمَا تقدم.
1302 - / 1581 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: صلى
جَابر فِي إِزَار وثيابه على المشجب.
المشجب: أَعْوَاد متداخلة يَجْعَل عَلَيْهَا الثِّيَاب.
وَقَوله: ((مَا السرى؟)) السرى: سير اللَّيْل،
وَالْمعْنَى: لأي شَيْء كَانَ مسراك اللَّيْلَة؟
وَقَوله: ((مَا هَذَا الإشتمال؟)) الإشتمال: الالتفاف
بِالثَّوْبِ حَتَّى يَشْمَل الملتف وَلَا يخرج يَده
مِنْهُ، فَلهَذَا أنكرهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: ((إِن
كَانَ
(3/46)
وَاسِعًا فالتحف بِهِ، وَإِن كَانَ ضيقا
فاتزر بِهِ)) .
وَقَوله: ((أَلا تشرع؟)) الْمَعْنى: أَلا تورد الْإِبِل
المشرعة.
والشريعة: مورد الْإِبِل الشاربة المَاء. قَالَ الزّجاج:
يُقَال: شرعت فِي المَاء: إِذا دَخلته، وشرعت بَابا إِلَى
الطَّرِيق، وشرعت فِي الدّين شَرِيعَة، وأشرعت الرمْح
نَحْو الْعَدو: إِذا صوبته إِلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عمر
الزَّاهِد: أشرعت بَابا إِلَى الطَّرِيق، لَا غير.
وَقَوله: متوشحا بِهِ. يُقَال: توشح الرجل بِالثَّوْبِ:
إِذا تجلله وَبسطه على جسده.
1303 - / 1582 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: بَيْنَمَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقسم غنيمَة إِذْ
قَالَ لَهُ رجل: اعْدِلْ. فَقَالَ ((لقد شقيت إِن لم
أعدل)) .
هَذَا الرجل يُقَال لَهُ ذُو الْخوَيْصِرَة، كَذَلِك ذكره
أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ فِي مُسْنده.
وَالتَّاء فِي ((شقيت)) مَفْتُوحَة، كَذَلِك سمعناها من
أشياخنا، وَالْمعْنَى أَنَّك إِذا تبِعت من لَا يعدل فقد
شقيت، وَقد روى بَعضهم بِضَم التَّاء، وَالْأول أصح.
وَقَوله: ((معَاذ الله أَن يتحدث النَّاس أَنِّي أقتل
أَصْحَابِي)) قد بَينا فِي الحَدِيث الْأَرْبَعين من هَذَا
الْمسند وَجه هَذَا.
وَقَوله: ((لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ)) الْمَعْنى أَنهم لَا
يفهمون مَا فِيهِ وَلَا
(3/47)
يعْرفُونَ مضمونه، فَإِن هَذَا الشَّخْص
لَو عرف وجوب طَاعَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
الْقُرْآن وَأَنه على الْحق فِي جَمِيع أَحْوَاله مَا
قَالَ هَذَا، وَلكنه اقْتصر على الْقِرَاءَة من غير تدبر
لما يقْرَأ.
وَقَوله: ((كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية)) قد سبق فِي
مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1304 - / 1583 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد
البُخَارِيّ:
قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشُّفْعَة فِي
كل مَال لم يقسم، فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق
فَلَا شُفْعَة.
هَذَا الحَدِيث دَلِيل على إِثْبَات الشُّفْعَة فِي
الْمشَاع ونفيها عَمَّا قد قسم. وَمذهب مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل أَن الشُّفْعَة لَا
تسْتَحقّ بالجوار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تسْتَحقّ
بالجوار.
1305 - / 1584 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن إهلال
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذِي الحليفة حِين
اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند
ابْن عمر.
1306 - / 1585 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ جَابر:
لما حضر أحد
(3/48)
دَعَاني أبي من اللَّيْل فَقَالَ: مَا
أَرَانِي إِلَّا مقتولا فِي أول من يقتل من أَصْحَاب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
اسْم أبي جَابر عبد الله بن عَمْرو. وَكَانَ من
النُّقَبَاء الإثني عشر، وَشهد بَدْرًا.
وَقَوله: مَا أَرَانِي إِلَّا مقتولا. دَلِيل على أَن
الرجل علم من نَفسه قُوَّة الْجد فِي الْجِهَاد والإقدام
فِي الأول، فَلذَلِك قَالَ: فِي أول من يقتل. وَكَانَ لَهُ
تسع بَنَات، فَلذَلِك قَالَ: واستوص بأخواتك.
قَوْله: ودفنت مَعَه آخر. وَالرجل الَّذِي دفن مَعَه
عَمْرو بن الجموح، فَإِنَّهُمَا دفنا فِي قبر وَاحِد
لِكَثْرَة الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ، فَأخْرجهُ جَابر بعد
سِتَّة أشهر فدفنه فِي قبر على حِدة، ثمَّ نقل عَن ذَلِك
الْقَبْر بعد سِنِين لأجل إِجْرَاء عين من المَاء. أخبرنَا
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَزاز قَالَ: أخبرنَا عبد
الْعَزِيز بن عَليّ الْحَرْبِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو
طَاهِر المخلص، قَالَ: حَدثنَا الْبَغَوِيّ قَالَ: حَدثنَا
عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد قَالَ: حَدثنَا عبد الْجَبَّار
بن الْورْد قَالَ: سَمِعت أَبَا الزبير قَالَ: سَمِعت
جَابر بن عبد الله يَقُول: كتب مُعَاوِيَة إِلَى عَامله
بِالْمَدِينَةِ أَن يجْرِي عينا إِلَى أحد، فَكتب لَهُ
عَامله: إِنَّهَا لَا تجْرِي إِلَّا على قُبُور
الشُّهَدَاء، فَكتب إِلَيْهِ أَن أنفذها. قَالَ فَسمِعت
جَابِرا يَقُول: فرأيتهم يخرجُون على رِقَاب الرِّجَال
كَأَنَّهُمْ نوم، حَتَّى أَصَابَت المسحاة قدم حَمْزَة
فانبعثت دَمًا. أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي
الْبَزَّاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي
قَالَ:
أخبرنَا ابْن حيويه قَالَ: حَدثنَا ابْن الْفَهم قَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا عَمْرو بن
الْهَيْثَم قَالَ: حَدثنَا
(3/49)
هِشَام الدستوَائي عَن أبي الزبير عَن
جَابر قَالَ: صرخَ بِنَا إِلَى قَتْلَانَا يَوْم أحد حِين
أجْرى مُعَاوِيَة الْعين فأخرجناهم بعد أَرْبَعِينَ سنة
لينَة أَجْسَادهم تتثنى أَطْرَافهم.
1307 - / 1586 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: سُئِلَ عَمَّن
حلف قبل أَن يذبح. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1308 - / 1587 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((عمْرَة فِي
رَمَضَان تقضي حجَّة معي)) قد سبق فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس.
1309 - / 1588 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ((كل مَعْرُوف
صَدَقَة)) .
الْمَعْرُوف: فعل شَيْء من الْخَيْر يتَطَوَّع بِهِ
الْفَاعِل، فَيجْرِي لذَلِك مجْرى الصَّدَقَة، وَقد سبق
هَذَا فِي مُسْند حُذَيْفَة.
1310 - / 1589 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: ((رحم الله
رجلا سَمحا)) أَي سهلا.
1311 - / 1590 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((من قَالَ
حِين يسمع النداء: اللَّهُمَّ رب هَذِه الدعْوَة
التَّامَّة)) .
(3/50)
النداء يَعْنِي بِهِ الْأَذَان. وَقد سبق
فِي أول الْكتاب معنى اللَّهُمَّ.
والدعوة التَّامَّة: التَّوْحِيد. قَالَ عز وَجل: {لَهُ
دَعْوَة الْحق} [الرَّعْد: 14] ، وَإِنَّمَا قيل لَهَا
التَّامَّة لِأَنَّهُ لَا نقص فِيهَا وَلَا عيب، إِذْ لَو
كَانَ للموحد شريك كَانَ ذكر التَّوْحِيد نَاقِصا.
والوسيلة: الْقرْبَة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يُقَال:
توسلت إِلَيْهِ: أَي تقربت، وَأنْشد:
(إِذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وَعَاد التصافي
بَيْننَا والوسائل)
وَالْمقَام الْمَحْمُود: الَّذِي يحمده لأَجله جَمِيع أهل
الْموقف، وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشَّفَاعَة
للنَّاس يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه ابْن مَسْعُود
وَحُذَيْفَة وَابْن عمر وسلمان وَجَابِر فِي خلق كثير.
وَالثَّانِي: يجلسه على الْعَرْش، رُوِيَ عَن ابْن
مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد. وَقَالَ عبد الله بن
سَلام: يقعده على الْكُرْسِيّ. 1312 / 1591 - وَفِي
الحَدِيث التَّاسِع: كَانَ يعلمنَا الاستخارة. والاستخارة:
أَن يسْأَل عز وَجل خير الْأَمريْنِ.
1313 - / 1592 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: اصطبح الْخمر
يَوْم أحد نَاس، قتلوا شُهَدَاء.
(3/51)
الإصطباح: شرب أول النَّهَار. وَكَانَت
يَوْمئِذٍ حَلَالا، وَإِنَّمَا حرمت بعد وقْعَة أحد.
1314 - / 1593 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: لما نزل
على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {على أَن يبْعَث
عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم} [الْأَنْعَام: 65] قَالَ:
((أعوذ بِوَجْهِك)) .
الْعَذَاب: الْأَلَم المستمر. والفوق من ظروف الْمَكَان،
ويقابله التحت.
وَفِي هَذَا الْعَذَاب قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الَّذِي
فَوْقهم مَا ينزل من السَّمَاء، كَمَا حصب قوم لوط.
وَالَّذِي من تَحت أَرجُلهم: كَمَا خسف بقارون، قَالَه
ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ.
وَالثَّانِي: أَن الَّذِي من فَوْقهم من قبل أمرائهم،
وَالَّذِي من تَحْتهم من سفلتهم، رَوَاهُ عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى:
الَّذِي من فَوْقهم أَئِمَّة السوء، وَالَّذِي من تَحت
أَرجُلهم عبيد السوء.
وَقَوله: {أَو يلْبِسكُمْ شيعًا} قَالَ ابْن عَبَّاس: يبث
فِيكُم الْأَهْوَاء الْمُخْتَلفَة فتصيرون فرقا. قَالَ
ابْن قُتَيْبَة: يلْبِسكُمْ من الإلتباس عَلَيْهِم،
فَالْمَعْنى: حَتَّى يَكُونُوا شيعًا: أَي فرقا
مُخْتَلفين، ثمَّ يُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض بِالْقِتَالِ
وَالْحَرب.
وأصل الْبَأْس: الشدَّة فِي الْحَرْب.
(3/52)
1315 - / 1594 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
عشر: الَّذِي قتل خبيبا هُوَ أَبُو سروعة.
وَكَانَ خبيب قد قتل يَوْم بدر الْحَارِث بن عَامر،
فَلَمَّا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبيبا
فِي بعض السَّرَايَا، أَخذ فَبيع بِمَكَّة، فَاشْتَرَاهُ
بَنو الْحَارِث، فَقتله مِنْهُم أَبُو سروعة بن الْحَارِث،
وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة مشروحا إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
1316 - / 1596 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: إِن
أَبَاهُ توفّي وَترك عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وسْقا لرجل من
الْيَهُود.
الوسق: سِتُّونَ صَاعا.
وَقَوله: ((إِذا جددته)) جددت بِمَعْنى قطعت الثَّمر.
وجداد النّخل: قطع ثَمَرهَا.
والمربد: البيدر، وَهُوَ الجرين أَيْضا حَيْثُ يوضع
التَّمْر قبل أَن يوضع فِي الأوعية وينقل إِلَى الْبيُوت.
وَيُقَال لموقف الْإِبِل مربد أَيْضا، واشتقاقه من ربد:
إِذا أَقَامَ. والمربد والجرين لأهل الْحجاز. والأندر لأهل
الشَّام. والبيدر لأهل الْعرَاق، ويسميه أهل الْبَصْرَة
الجوخان.
والعجوة نوع من التَّمْر، وَهِي من أَجود تمور
الْمَدِينَة.
وعذق زند: نوع مَعْرُوف.
(3/53)
وتمزعوه: أَي اقتسموه.
والناضح من الْإِبِل: مَا يسقى عَلَيْهِ المَاء.
وأزحف الْبَعِير وزحف وأزحفه السّير: إِذا قَامَ من
الإعياء وَلم يقدر على النهوض.
1317 - / 1597 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: نهى أَن
تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وخالتها.
وَهَذَا مِمَّا ثَبت تَحْرِيمه بِالسنةِ، وعلته خوف
التقاطع.
1318 - / 1598 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: نهى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الظروف، فَقَالَت
الْأَنْصَار: إِنَّه لَا بُد لنا مِنْهَا، قَالَ: ((فَلَا
إِذن)) .
كَانَ النَّهْي عَن الظروف خوف اشتداد مَا ينْبذ فِيهَا،
فَلَمَّا أخبروا بحاجتهم إِلَيْهَا عِنْد نَهْيه قَالَ:
((فَلَا إِذن)) أَي: لَا أنهى عَنْهَا، وَيكون الإعتبار
على هَذَا بالإشتداد، فَإِذا اشْتَدَّ أريق، أَو أَن
يحترزوا من تَركه مُدَّة يشْتَد فِيهَا.
1319 - / 1599 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: كُنَّا
إِذا صعدنا كبرنا، وَإِذا نزلنَا سبحنا.
لما كَانَ الصعُود ارتفاعا ناسبه التَّكْبِير. أَي أَن
الله سُبْحَانَهُ أكبر من كل كَبِير وَأَعْلَى من كل رفيع،
وَلما كَانَ النُّزُول انهباطا ناسبه التَّنْزِيه
(3/54)
لمن لَا يُوصف بِمَا يُنَافِي الْعُلُوّ.
1320 - / 1600 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: جَاءَت
مَلَائِكَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَقَالَ بَعضهم: الْعين نَائِمَة وَالْقلب يقظان وَمُحَمّد
فرق بَين النَّاس.
كَانَ من صِفَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن
تنام عَيناهُ وَلَا ينَام قلبه. قَالَ ابْن عقيل: النّوم
يتَضَمَّن أَمريْن معطلين: أَحدهمَا رَاحَة الْجَسَد،
فَهَذَا أَمر يشْتَرك فِيهِ هُوَ وَأمته. وَالثَّانِي:
غَفلَة الْقلب عَمَّا وضع لَهُ الْقلب من النّظر والإعتبار
والتأمل والآراء الصائبة، وَزيد فِي حَقه تلقي الْوَحْي،
فَكل الْقُلُوب عِنْد النّوم عاطلة عَمَّا ينْتَفع بِهِ من
الآراء والفكر سوى قلبه. وَقد كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ
الْوَحْي استطرح وَغشيَ عَلَيْهِ، وَمثل تِلْكَ الغشية لَو
أَصَابَت بعض أمته لانتقض وضوءه، وَهُوَ فِي تِلْكَ
الْحَال حَافظ مَحْفُوظ من غليان الطباع واسترخاء مخارج
الْأَحْدَاث، لِأَنَّهُ فِي سرائر الرب؛ فَبَان من هَذَا
أَن النّوم يتَضَمَّن أَمريْن: رَاحَة وغفلة، فالراحة
دَاخِلَة على أدواته من تَعب الْأَعْمَال، والغفلة غير
دَاخِلَة على قلبه؛ إِذْ كَانَ قلبه على صفة أَعمال أهل
الْيَقَظَة من سَلامَة الأفكار، وصيانة المحفوظات عَن
الذّهاب، وَقَلبه غير عاطل عَمَّا وضع لَهُ من تلقي
الْوَحْي واستمداده من أوَامِر الرب ونواهيه. قَالَ فَإِن
قيل: فقد نَام عَن الصَّلَاة. قيل: إِنَّمَا فعل ذَلِك
ليشرع بِفِعْلِهِ مَا يتعبد بِهِ أهل النسْيَان، وللأعمال
أَحْكَام أوضح من الْأَقْوَال، كَمَا أمه جِبْرِيل فِي
الصَّلَوَات، وَقد كَانَ يَنْتَظِم ذَلِك القَوْل، قَالَ:
وَيحْتَمل أَن يكون نسيانه ونومه لعوارض كشف من عُلُوم
تخصه ومعارف عطلته عَن الْقيام
(3/55)
بِحُقُوق الظَّاهِر للُزُوم الْبَاطِن
آدَاب التلقي، وَكَانَ كمن قَالَ من شغله ذكر محبوبه:
(فوَاللَّه مَا أَدْرِي إِذا مَا ذكرتها ... أثنتين صليت
الضُّحَى أم ثمانيا)
وَمن هَذَا نسيانه عدد الرَّكْعَات حَتَّى قَالَ لَهُ ذُو
الْيَدَيْنِ، فَلَمَّا عَاد الْقلب إِلَى حكم الظَّاهِر
قَالَ: ((أحقا مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟)) .
وَقَوله: وَمُحَمّد فرق بَين النَّاس: أَي فَارق بَين
الْمُؤمن وَالْكَافِر، فَمن آمن بِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن
كفر بِهِ فَهُوَ كَافِر.
1321 - / 1601 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجمع بَين الرجلَيْن
من قَتْلَى أحد فِي ثوب وَاحِد، ثمَّ يَقُول: ((أَيهمْ
اكثر أخذا لِلْقُرْآنِ؟)) فَيقدمهُ فِي اللَّحْد.
إِنَّمَا كَانَ يجمع بَينهم لِكَثْرَة الْقَتْلَى وَقلة
الأكفان. وَإِنَّمَا قدم أَكْثَرهم قُرْآنًا لفضله على
غَيره.
وَقَوله: ((أَنا شَهِيد على هَؤُلَاءِ)) أَي أشهد بإخلاصهم
وَصدقهمْ.
وَأما كَونهم لم يغسلوا فقد اتّفق جَمَاهِير الْعلمَاء على
أَن الشَّهِيد لَا يغسل بِحَال، وَقَالَ أَحْمد: إِلَّا
أَن يكون جنبا وَاخْتلفُوا: هَل يصلى عَلَيْهِ؟ فَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَمَالك: يصلى عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي
(3/56)
وَدَاوُد: لَا يصلى عَلَيْهِ. وَعَن أَحْمد
كالمذهبين فَإِن قُلْنَا بِمذهب الشَّافِعِي فَهَذَا
الحَدِيث دَلِيل عَلَيْهِ، وَإِن قُلْنَا بِمذهب أبي
حنيفَة فقد رويت أَحَادِيث فِي أَنه صلى على قَتْلَى أحد،
وَقَول جَابر: لم يصل، شَهَادَة على نفي، وَالْإِثْبَات
مقدم.
1322 - / 1602 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: كَانَ لجَابِر
أَرض فخنست، فَخَلا عَاما، فجَاء النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((أَيْن عريشك يَا جَابر؟)) .
قَوْله: خنست - يَعْنِي النّخل: تَأَخَّرت عَن قبُول
الإبار وَلم يُؤثر فِيهَا التَّأْثِير الْكَامِل، فَلم
تستكمل حملهَا.
والعريش مثل الْخَيْمَة يعْمل من خشب وحشيش وَنَحْو ذَلِك
يستظل بِهِ فِي الْبُسْتَان من الشَّمْس.
1323 - / 1603 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين:
لما وضع الْمِنْبَر سمعنَا للجذع مثل أصوات العشار.
العشار: النوق الْحَوَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا عشرَة
أشهر من يَوْم ضرب الْفَحْل لَهَا وَكَانَ فِي أصواتها نوع
حنين إِلَى الْوَلَد.
1324 - / 1604 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على رجل وَهُوَ
يحول المَاء فِي حَائِط لَهُ فِي سَاعَة حارة، فَقَالَ:
((إِن كَانَ عنْدك مَاء فِي شنة وَإِلَّا كرعنا)) .
(3/57)
الْحَائِط: الْبُسْتَان.
والشنة: الْقرْبَة البالية، وَهِي أَشد تبريدا للْمَاء.
وَقَوله: ((كرعنا)) قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: كرع فِي
المَاء: إِذا تنَاوله بِفِيهِ من مَوْضِعه.
قَوْله: ثمَّ حلب عَلَيْهِ من دَاجِن. والداجن: الشَّاة
تكون فِي الْبَيْت.
وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على حفظ النَّفس وإعطائها حَقّهَا
مِمَّا يصلحها؛ فَإِن المَاء الْحَار يوهن الأمعاء، ويولد
رهلا، وَيفْسد الهضم ويذبل الْبدن، وَالْمَاء الْبَارِد
يُقَوي الشَّهْوَة، ويشد الْمعدة، وَيحسن اللَّوْن،
وَيمْنَع عفن الدَّم وصعود الأبخرة إِلَى الدِّمَاغ، ويحفظ
الصِّحَّة، إِلَّا أَنه يَنْبَغِي أَن يكون معتدلا، فَإِن
المثلوج والشديد الْبُرُودَة يُؤْذِي. وَفِي هَذَا رد على
جهلة المتزهدين الَّذين حرمُوا أنفسهم حظوظها الْمصلحَة
لَهَا، وحملوا عَلَيْهَا مَا تعجز عَنهُ، وهم إِلَى أَن
يذموا بظُلْم النُّفُوس أقرب من أَن يمدحوا بترك
الْمصَالح.
1325 - / 1605 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ يَوْم
عيد خَالف الطَّرِيق.
هَذَا يحْتَمل عشرَة أوجه: أَحدهَا: أَنه قد رُوِيَ أَن
الْمَلَائِكَة تقف يَوْم الْعِيد على أَفْوَاه الطّرق،
فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يمر على من لم يمر عَلَيْهِ
مِنْهُم. وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ بِجَوَازِهِ فِي
مَكَان لم يجز فِيهِ إِظْهَار الدّين، لِأَنَّهُ أَدَاء
يري ذكر الدّين. وَالثَّالِث: أَن يغِيظ الْمُنَافِقين
(3/58)
وَالْكفَّار بمشيه مَعَ أَصْحَابه.
وَالرَّابِع: أَن يكون ذَلِك فِي بَدو أمره عِنْد قلَّة
عدد الْمُسلمين. وَالْخَامِس: رُؤْيَة من لم يره من
الْمُسلمين وَتَسْلِيم من لم يسلم عَلَيْهِ، لِأَن لقاءه
أوفي البركات. وَالسَّادِس: أَن يسر بذلك من يرَاهُ من
الْمُسلمين وَالْمُسلمَات. وَالسَّابِع: أَن تشهد الأَرْض
بِالْمَشْيِ عَلَيْهَا فِي الْخَيْر. وَالثَّامِن: أَن
يكون ذَلِك من سنَن الْعِيد، كالتكبير فِي زمَان الْمُضِيّ
إِلَى الْمصلى وَفِي أَيَّام التَّشْرِيق. وَالتَّاسِع:
لعلمه بحاجة النَّاس إِلَى مَسْأَلته ورؤيته. والعاشر:
التفاؤل بإلقاء الذُّنُوب فِي طَرِيق الْمُضِيّ
وَالرُّجُوع متنظفا.
1326 - / 1607 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي
الْجُمُعَة، ثمَّ نَذْهَب إِلَى جمالنا فنريحها حِين
تَزُول الشَّمْس.
هَذَا دَلِيل لمن يرى جَوَاز صَلَاة الْجُمُعَة قبل
الزَّوَال، وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند سهل بن
سعد.
1327 - / 1608 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((من ترك مَالا
فلأهله، وَمن ترك دينا أَو ضيَاعًا فَإِلَيَّ وَعلي)) .
الضّيَاع هَاهُنَا: حَاجَة الْعِيَال بعد الْمَيِّت،
وفقرهم. وَقد كَانَ
(3/59)
يشدد فِي أَمر الدّين حَتَّى إِنَّه
يمْتَنع عَن الصَّلَاة على صَاحب الدّين كَمَا ذكرنَا فِي
مُسْند أبي قَتَادَة وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع. وَقد بَينا
هُنَاكَ أَنه مَنْسُوخ بِمَا سَيَأْتِي فِي مُسْند أبي
هُرَيْرَة وَهَذَا الحَدِيث.
1328 - / 1609 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان،
فصَام حَتَّى بلغ كرَاع الغميم، ثمَّ دَعَا بقدح من مَاء
فرفعه حَتَّى نظر النَّاس إِلَيْهِ ثمَّ شرب.
قد سبق بَيَان هَذَا.
وكراع الغميم مَوضِع.
وَإِنَّمَا رفع الْإِنَاء ليراه النَّاس فيقتدوا
بِفِعْلِهِ.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْفطر فِي السّفر أفضل.
وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند أبي
الدَّرْدَاء. وَلما كَانَ مَقْصُوده بإفطاره إفطار النَّاس
لم يكن لأحد أَن يُخَالِفهُ، فَلَمَّا صَامَ قوم أطلق
عَلَيْهِم اسْم ((العصاة)) .
1329 - / 1610 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أَسمَاء
بنت عُمَيْس نفست بِذِي الحليفة، فَأمر رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر أَن تَغْتَسِل وتهل.
هَذِه أَسمَاء زوج أبي بكر الصّديق، كَانَت حَامِلا: فنفست
بِمُحَمد ابْن أبي بكر. وَإِنَّمَا أمرهَا أَن تَغْتَسِل -
وَإِن كَانَ غسل النُّفَسَاء لَا يَصح -
(3/60)
لفائدتين: إِحْدَاهمَا: أَن تتشبه
بالطاهرات، كَمَا أَمر من أكل يَوْم عَاشُورَاء بإمساك
بَقِيَّة النَّهَار. وَالثَّانيَِة: التَّنْبِيه على أَن
من سنة الْإِحْرَام الْغسْل.
1330 - / 1611 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قَالَ مُحَمَّد
بن عَليّ بن الْحُسَيْن: دَخَلنَا على جَابر بن عبد الله
فَقَامَ فِي نساجة ملتحفا بهَا.
النساجة: ضرب من الملاحف المنسوجة. وَقد رَوَاهُ قوم:
ساجة: وَهِي الطيلسان.
وَقد فسرنا المشجب قبل أَحَادِيث يسيرَة، وَأَنه أَعْوَاد
مركبة يوضع عَلَيْهَا الرحل وَالثيَاب.
وَإِنَّمَا صلى جَابر فِي ثوب وثيابه مَوْضُوعَة ليعلمهم
جَوَاز ذَلِك.
وَقَوله: مكث تسع سِنِين لم يحجّ. يحْتَج بِهِ من لَا يرى
وجوب الْحَج على الْفَوْر وَيَقُول: قد ثَبت وجوب الْحَج
قبل حج الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسنين، ويستدلون
بِحَدِيث ضمام الْوَافِد، وَأَنه قدم فِي سنة خمس، وَأَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر لَهُ فَرَائض
الْإِسْلَام وَمِنْهَا الْحَج، قَالُوا: فَإِذا كَانَ
الْحَج قد فرض فِي سنة خمس ثمَّ أَخّرهُ الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى سنة تسع دلّ على أَنه لَا يجب
على الْفَوْر.
وَالْجَوَاب: أَن قد ثَبت بالأدلة الجلية أَن الْأَمر
الْمُطلق يَقْتَضِي الْفَوْر، فَمن أَدِلَّة الْقُرْآن
قَوْله تَعَالَى: {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك}
[الْأَعْرَاف: 12] وَلَو كَانَ الْأَمر على التَّرَاخِي
لما حسن العتب. وَمن أَدِلَّة
(3/61)
الحَدِيث قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لأبي سعيد بن الْمُعَلَّى حِين دَعَاهُ وَهُوَ فِي
الصَّلَاة فَلم يجبهُ: ((مَا مَنعك إِذْ دعوتك أَن
تُجِيبنِي. ألم يقل الله عز وَجل: {اسْتجِيبُوا لله
وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ} ؟ [الْأَنْفَال: 24] وَلم
يفسح لَهُ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة.
وَمن أَدِلَّة اللُّغَة أَن الْأَلْفَاظ الْمُطلقَة يُفِيد
مقتضاها عقيب وجودهَا؛ وَلِهَذَا وَقع حكم اللَّفْظ عقيب
اللَّفْظ، كَالْبيع وَالطَّلَاق، وَلِهَذَا أجمع اللغويون
على أَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: قُم، فتوقف من
غير عذر أَنه يحسن لومه وعقابه.
فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل قُلْنَا: قد اخْتلف أَولا فِي
قدوم ضمام، فَروِيَ أَنه كَانَ فِي سنة تسع، فَيكون معنى
قَول جَابر: مكث تسعا لم يحجّ: أَي لم يُخَاطب بذلك.
وَرُوِيَ أَنه كَانَ فِي سنة خمس، فعلى هَذَا نقُول: مَا
قعد عَن الْحَج تسعا. وَإِنَّمَا هَذَا ذكر الزَّمَان
الَّذِي لم يَقع فِيهِ الْحَج وَإِن سلم أَن الْحَج تقدم
فَرْضه فتأخير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ
قَضِيَّة فِي عين، فَهِيَ تحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
أَن يكون الله عز وَجل أعلم نبيه أَنه لَا يَمُوت حَتَّى
يحجّ فَأَخَّرَهُ ثِقَة بالإدراك، وَهَذَا جَوَاب أبي زيد
الْحَنَفِيّ.
وَالثَّانِي: أَن يكون أَخّرهُ لعذر، بِدَلِيل اتفاقنا على
أَن تَقْدِيمه أفضل وَلم يكن ليترك الْأَفْضَل إِلَّا
لعذر. وَقد ذكرُوا لَهُ خَمْسَة أعذار: أَحدهَا: الْفقر.
وَالثَّانِي: الْخَوْف على نَفسه، وَلِهَذَا كَانَ يحرس
إِلَى أَن نزل عَلَيْهِ {وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
[الْمَائِدَة: 67] وَالثَّالِث: الْخَوْف على الْمَدِينَة
من الْمُشْركين. وَالرَّابِع: أَن يكون رأى تَقْدِيم
الْجِهَاد
(3/62)
وتدبير الجيوش أولى من تَقْدِيم الْحَج،
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر. وَالْخَامِس: غَلَبَة الْمُشْركين
على مَكَّة وَظُهُور شركهم فِي زمَان الْحَج، وَلم يُمكنهُ
الْإِنْكَار، فَلَمَّا بعث أَبَا بكر ونادى أَلا يحجّ بعد
الْعَام مُشْرك حج لزوَال الْعذر.
وَقَوله لأسماء: ((اغْتَسِلِي)) قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي
الحَدِيث الَّذِي قبله.
وَقَوله: ((استثفري)) الإستثفار: شدّ الثَّوْب على مَحل
الدَّم ليمنع الجريان، وَهُوَ مشبه بثفر الدَّابَّة.
وَقَوله: ثمَّ ركب الْقَصْوَاء. قد بَينا فِي مُسْند
عمرَان بن حُصَيْن سَبَب تَسْمِيَتهَا بذلك.
وَقَوله: فَأهل بِالتَّوْحِيدِ: أَي بِالْحَجِّ وَحده.
وَيحْتَمل: أهل بِهَذِهِ الْكَلِمَات الْمَذْكُورَة:
((لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك)) التَّلْبِيَة الْمُشْتَملَة
على التَّوْحِيد، وَهِي الَّتِي سبقت فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأهل النَّاس بِهَذَا الَّذِي يهلون بِهِ. أَي أَنهم
يزِيدُونَ فِيهَا وينقصون وَلم يُنكر عَلَيْهِم.
واستلم الرُّكْن: أَي لمسه.
والرمل قد فسرناه فِي مَوَاضِع.
والصفا: الْحِجَارَة الصلبة. والمروة: الْحِجَارَة اللينة.
(3/63)
وشعائر الله: متعبداته.
وَقَوله: ((أبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ)) هَذَا يدل على
اعْتِبَار الْبِدَايَة فِي اللَّفْظ وَإِن كَانَ الْكَلَام
مجموعا بِالْوَاو، فَإِن قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا
والمروة} [الْبَقَرَة: 158] مثل قَوْله: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} [الْمَائِدَة: 6] وَفِي هَذَا
دَلِيل على أبي حنيفَة فِي وجوب التَّرْتِيب فِي الْوضُوء.
وَقَوله: فرقي عَلَيْهِ. الْقَاف مَكْسُورَة، وَالْمعْنَى:
صعد وارتفع.
فَإِذا فتحت الْقَاف كَانَ من الرّقية. وعوام الْمُحدثين
يفتحونها جهلا باللغة.
وَقَوله: ((لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لم
أسق الْهَدْي)) قد تقدم الْكَلَام فِي سَبَب تأسفه فِي
مُسْند ابْن عَبَّاس، وَتقدم قَول سراقَة وَالْكَلَام
فِيهِ هُنَالك أَيْضا.
وَقَوله: ثيابًا صبيغا: أَي مصبوغة.
والتحريش: وصف مَا يُوجب عتاب المغرى وتوبيخه للمحرش
عَلَيْهِ.
ونمرة: مَوضِع قريب من عَرَفَة.
وَقَوله: ((إِن أول دم أَضَعهُ من دمائنا دم ابْن ربيعَة
بن الْحَارِث)) ربيعَة هُوَ ابْن عَم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد
الْمطلب، وَكَانَ أسن من الْعَبَّاس بِسنتَيْنِ، وَلما خرج
الْمُشْركُونَ إِلَى بدر كَانَ ربيعَة غَائِبا بِالشَّام
فَلم يشهدها مَعَهم، فَلَمَّا خرج الْعَبَّاس وَنَوْفَل
مُهَاجِرين إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَيَّام الخَنْدَق شيعهما ربيعَة، فَلَمَّا أَرَادَ
الرُّجُوع قَالَا:
(3/64)
أَيْن نرْجِع وَقد عز رَسُول الله وَكثر
أَصْحَابه؟ فَأقبل مَعَهم حَتَّى قدمُوا على رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسلمين مُهَاجِرين، وَشهد ربيعَة
مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتح مَكَّة
والطائف، وَثَبت مَعَه يَوْم حنين.
وَأما ابْن ربيعَة الَّذِي وضع رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دَمه فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا:
إِيَاس. وَالثَّانِي: تَمام. وَالثَّالِث: آدم، ذكرهَا
ابْن سعد وَقَالَ: نرى من قَالَ آدم رأى فِي الْكتاب: دم
ابْن ربيعَة، فَزَاد ألفا.
وَكَانَ قد استرضع لهَذَا الْوَلَد فِي هُذَيْل، فَقتله
بَنو لَيْث بن بكر فِي حَرْب كَانَت بَينهم، كَانَ يحبو
أَمَام الْبيُوت فَرَمَوْهُ بِحجر فرضخوا رَأسه.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو عبيد وَقَالَ فِيهِ: ((أول
دم أَضَع دم ربيعَة ابْن الْحَارِث)) . ثمَّ فسره وَقَالَ:
أضَاف الدَّم إِلَى ربيعَة لِأَنَّهُ ولي الدَّم.
وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي بعض الطّرق كَذَلِك، وَحكى
أَبُو سُلَيْمَان أَن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ دم الْحَارِث
بن عبد الْمطلب، فَتكون الْإِشَارَة إِلَى الْجد.
وَقد غلط بعض الْمُحدثين فَرَوَاهُ: دم أبي ربيعَة،
وَلَيْسَ بِشَيْء، وَالصَّحِيح الأول.
وَإِنَّمَا خص الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن
عَمه بِالذكر ليعلم أَنه لَا رخصَة لأحد فِي هَذَا.
وَقَوله: ((بِأَمَان الله)) الْأمان: الْعَهْد. ويروى:
بأمانة الله.
(3/65)
وَقَوله: ((بِكَلِمَة الله)) يُشِير إِلَى
عقد النِّكَاح. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ قَوْله: {فإمساك
بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} [الْبَقَرَة: 229] .
وَقَوله: ((أَن لَا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه)) هَذَا محو
لعادة الْعَرَب فِي كَون الْمَرْأَة تَأذن للرِّجَال
الْأَجَانِب فِي مجالستها ومحادثتها، فَمن ظن أَنه يُشِير
بذلك إِلَى الزِّنَا فقد أَخطَأ.
والمبرح: الشَّديد.
وَقَوله: ينكبها إِلَى النَّاس: أَي يميلها إِلَيْهِم
مشهدا الله عَلَيْهِم.
يُقَال نكب الرجل كِنَانَته: إِذا أمالها وكبها.
وَأما الْحَبل فَهُوَ مَا استطال من الرمل. وَقيل: هُوَ
مَا كَانَ دون الْجبَال فِي الإرتفاع.
وَقَوله: وَقد شنق للقصواء الزِّمَام. يُقَال: شنق الرجل
زِمَام نَاقَته: إِذا ضمه إِلَيْهِ كفا لَهَا عَن
الْإِسْرَاع.
ومورك الرحل: مَا يكون بَين يَدي الرحل يضع الرَّاكِب رجله
عَلَيْهِ.
وَقَوله: فصلى بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ. قد سبق بَيَان
الْجمع بِمُزْدَلِفَة فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: وَلم يسبح بَينهمَا: أَي لم يتَنَفَّل.
وَقَوله: فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس. هَذَا بِخِلَاف
عَادَة الْجَاهِلِيَّة.
(3/66)
وَقَوله: فمرت ظعن، وَهِي جمع ظَعِينَة،
والظعينة: الْمَرْأَة فِي الهودج.
وَقَوله: يجرين: أَي يحركن الْإِبِل للسير.
وطفق: أَخذ فِي الْفِعْل.
وإنكار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتغطية وَجهه
لطف فِي الْإِنْكَار وَتَعْلِيم الْخلق. وَأما نَحره
ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَة، فقد قيل: إِنَّمَا نحر هَذَا
الْعدَد لِأَنَّهُ كَانَ مبلغ سنه لتَكون كل بَدَنَة لعام.
وَقد دلّ ذبحه بِيَدِهِ على أَن ذبح الرجل نسيكته بِيَدِهِ
مُسْتَحبّ.
وَقَوله: مَا غبر: أَي مَا بَقِي.
والبضعة: الْقطعَة من اللَّحْم. وَإِنَّمَا أكل من الْكل
وَشرب لقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الْحَج: 28]
.
وَأما أَبُو سيارة فَإِنَّهُ كَانَ يدْفع بِقُرَيْش من
مَكَّة وَلَا يخرج إِلَى عَرَفَات، وَكَانُوا يَقُولُونَ:
نَحن أهل الْحرم فَلَا نعدوه، فَنزل قَوْله تَعَالَى:
{ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} [الْبَقَرَة:
199] فخالفهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخرج
إِلَى عَرَفَات.
وَأَجَازَ بِمَعْنى قطع الْوَادي. قَالَ الزّجاج: يُقَال:
جَازَ الرجل الْوَادي وَأَجَازَهُ: إِذا قطعه ونفذه.
1331 - / 1612 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِالسوقِ وَالنَّاس
كنفتيه، فَمر بجدي أصك ميت.
(3/67)
قَوْله: كنفتيه: أَي عَن جانبيه.
والصكك: اصطكاك الرُّكْبَتَيْنِ عِنْد الْعَدو حَتَّى تصيب
إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، كَأَنَّهُ قد نقصت ركبتاه.
1332 - / 1613 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أمرنَا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نشترك فِي الْإِبِل
وَالْبَقر، كل سَبْعَة منا فِي بَدَنَة.
هَذَا حجَّة أَحْمد وَالشَّافِعِيّ فِي جَوَاز الإشتراك.
وَقد شرحنا هَذَا فِي الحَدِيث التسعين من مُسْند ابْن
عَبَّاس.
1333 - / 1615 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: صَلَاة
الْكُسُوف، وَأَنه صلى بِالنَّاسِ سِتّ رَكْعَات بِأَرْبَع
سَجدَات، وَانْصَرف وَقد آضت الشَّمْس.
وَقَوله: سِتّ رَكْعَات: يَعْنِي بالركعات الرُّكُوع.
وَقَوله: بِأَرْبَع سَجدَات: يَعْنِي رَكْعَتَيْنِ، لِأَن
فِي كل رَكْعَة سَجْدَتَيْنِ، فعلى هَذَا يكون فِي كل
رَكْعَة ثَلَاث ركوعات، وَلَا أعرفهُ مذهبا لأحد. وَقد
رُوِيَ بِلَفْظ آخر: أَربع رَكْعَات وَأَرْبع سَجدَات،
وَهَذَا مَعْرُوف، وَقد ذكرنَا صَلَاة الْكُسُوف فِي
مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: آضت الشَّمْس: أَي رجعت إِلَى حَالَة الإستقامة.
وَقَوله: ((وَرَأَيْت صَاحب المحجن)) المحجن: الْعَصَا
المعوجة العقفاء.
والقصب: المعى، وَجَمعهَا أقصاب.
(3/68)
وخشاش الأَرْض: هوامها وَمَا يدب من
حشراتها.
والقطف: العنقود.
1334 - / 1616 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ذكر صَلَاة
الْخَوْف وَقد سبقت فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
1335 - / 1618 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((إِذا
وَقعت لقْمَة أحدكُم فليأخذها، فليمط مَا كَانَ بهَا من
أَذَى وليأكلها وَلَا يَدعهَا للشَّيْطَان)) .
الإماطة: الْإِزَالَة وَالدَّفْع. يُقَال: أماط الرجل عني
الْأَذَى، وماط: إِذا نحاه عَنْك.
وَفِي قَوْله: ((وَلَا تدعها للشَّيْطَان)) وَجْهَان:
أَحدهمَا: لَا تتركها لَهُ فيتناولها الشَّيْطَان.
وَالثَّانِي: لَا تتركها لقَوْل الشَّيْطَان.
وَقَوله: ((حَتَّى يلعقها)) قد شرحناه فِي مُسْند كَعْب بن
مَالك.
1336 - / 1619 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((الظُّلم
ظلمات يَوْم الْقِيَامَة)) قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر
وَقَوله: ((وَاتَّقوا الشُّح)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان
الْخطابِيّ: الشُّح أبلغ من الْبُخْل، وَإِنَّمَا الشُّح
بِمَنْزِلَة الْجِنْس، وَالْبخل بِمَنْزِلَة النَّوْع.
وَأكْثر مَا يُقَال فِي الْبُخْل إِنَّه من أَفْرَاد
الْأُمُور وخواص الْأَشْيَاء، وَالشح عَام،
(3/69)
فَهُوَ كالوصف اللَّازِم للْإنْسَان من قبل
الطَّبْع والجبلة. قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: الْبُخْل: أَن
يضن بِمَالِه، وَالشح: أَن يبخل بِمَالِه ومعروفه.
وَقَوله: ((أهلك من كَانَ قبلكُمْ)) وَذَلِكَ لأَنهم
تشاحوا على الْملك وَالْمَال والرئاسة، واقتتلوا فهلكوا.
1337 - / 1620 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ((مَا من
نفس منفوسة تبلغ مائَة سنة)) .
قد يشكل هَذَا على من لَا يعلم فَيَقُول: قد عَاشَ خلق
أَكثر من هَذَا قبل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَبعده، فَمَا وَجه هَذَا؟ فَالْجَوَاب: أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَنى بذلك الْمَوْجُودين حِينَئِذٍ من
يَوْم قَوْله هَذَا، وَهَذَا قَالَه قبل أَن يَمُوت
بِشَهْر كَمَا رُوِيَ فِي الحَدِيث: فَمَا بلغ أحد مِمَّن
كَانَ مَوْجُودا من يَوْمئِذٍ مائَة سنة. وَهَذَا مُبين
وَاضح فِي مُسْند ابْن عمر، وَقد سبق شَرحه. وَكثير من
الروَاة يقتصرون على بعض الحَدِيث ويتركون المهم، وَرُبمَا
عبروا بِالْمَعْنَى وَلم يفهموا الْمَقْصُود، فَيَقَع
الْإِشْكَال، وَالله سُبْحَانَهُ لَا يخلي كل زمَان مِمَّن
يكْشف الْإِشْكَال وَيدْفَع الشّبَه، فَمَتَى سَمِعت
حَدِيثا فِيهِ نوع خلل فانسب ذَلِك إِلَى الروَاة؛ فَإِن
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منزه عَن ذَلِك.
1338 - / 1621 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: عَن يزِيد
الْفَقِير قَالَ: كنت قد شغفني رَأْي من رَأْي
الْخَوَارِج.
(3/70)
أما تَسْمِيَته بالفقير فَإِنَّهُ لم يكن
فَقِيرا، وَإِنَّمَا كَانَ يشكو فقار صلبه، فَقيل لَهُ
الْفَقِير. وَمثل هَذَا فَيْرُوز الْحِمْيَرِي، فَإِنَّهُ
كَانَ من الديلم لَا من حمير، وَلَكِن نزل فِي حمير فَقيل
لَهُ الْحِمْيَرِي. وَكَذَلِكَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ،
نزل فِي تيم فنسب إِلَيْهِم، وَإِلَّا فَهُوَ مولى بني
مرّة بن عباد.
وَكَذَلِكَ أَبُو سعيد المَقْبُري، نزل الْمَقَابِر فَقيل
المَقْبُري. وَكَذَلِكَ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد
الْمَكِّيّ، كَانَ بصريا، وَإِنَّمَا نزل مَكَّة فَقيل
الْمَكِّيّ.
وَكَذَلِكَ خَالِد الْحذاء، كَانَ يُجَالس الحذائين وَلم
يكن حذاء. وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم بن يزِيد الخوزي، نزل
شعب الخوز بِمَكَّة فَقيل الخوزي.
وَكَذَلِكَ سُلَيْمَان الْعَرْزَمِي، نزل جبانة عَرْزَم
بِالْكُوفَةِ فنسب إِلَيْهَا.
وَقَوله: شغفني: أَي أصَاب شغَاف قلبِي، وَأَرَادَ أَنِّي
اعتقدت ذَلِك.
وَقَوله: يخرجُون من النَّار كَأَنَّهُمْ عيدَان السماسم.
يُشِير إِلَى سوادهم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((إِلَّا دارات وُجُوههم)) .
وَذَلِكَ لاحترام مَوضِع السُّجُود.
1339 - / 1622 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((مثلي
ومثلكم كَمثل رجل أوقد نَارا، فَجعل الجنادب والفراش
يقعن)) .
الجنادب جمع جُنْدُب: وَهِي الْجَرَاد. والفراش: صغَار
البق
(3/71)
والبعوض يتهافت فِي النَّار.
والحجز جمع حجزة: وَهِي معقد الْإِزَار، والعامة تَقول
حزة، وَهِي لُغَة لبني الْحَارِث بن كَعْب، وَأنْشد ابْن
فَارس للنجاشي الْحَارِثِيّ:
(يرقون فِي النّخل حَتَّى ينزلُوا أصلا ... فِي كل حزة سيح
مِنْهُم بسر)
أَرَادَ الْبُسْر.
وَمُرَاد الحَدِيث أَنكُمْ كلما وَقَعْتُمْ فِي زلَّة
خلصتكم الشَّرِيعَة ودلتكم على النجَاة. وَأَنْتُم
تعودُونَ إِلَى التهافت.
1340 - / 1623 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِوَضْع الجوائح.
الجوائح: الْآفَات الَّتِي تصيب الثِّمَار فتهلكها.
يُقَال: جاحهم الدَّهْر واجتاحهم: إِذا أَصَابَهُم بمكروه
عَظِيم.
وَقد اخْتلف النَّاس فِي حكم هَذَا الحَدِيث: فعندنا أَنه
على الْوُجُوب، وَأَن مَا تهلكه الجوائح من ضَمَان
البَائِع، والْحَدِيث نَص فِي ذَلِك. وَفِي بعض أَلْفَاظه
الصَّحِيحَة: ((إِن بِعْت من أَخِيك ثمرا فأصابته جَائِحَة
فَلَا يحل أَن تَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا، بِمَ تَأْخُذ مَال
أَخِيك بِغَيْر حق؟)) وَهَذَا لِأَن الثَّمَرَة فِي رُؤُوس
النّخل تستوفى حَالا فحالا، فَهِيَ كالمنافع. ثمَّ إِن
الْمَنَافِع إِذا تلفت كَانَت من ضَمَان الْمُؤَجّر،
فالثمرة تشبهها من هَذَا الْوَجْه. وَعَن أَحْمد: إِن
كَانَ مَا أهلكته الجوائح قدر الثُّلُث فَصَاعِدا كَانَ من
ضَمَان البَائِع، وَإِن كَانَ دون الثُّلُث
(3/72)
فَهُوَ من ضَمَان المُشْتَرِي، وَهَذَا
قَول مَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: جَمِيع
ذَلِك من ضَمَان المُشْتَرِي، وَعِنْدَهُمَا أَن هَذَا
الْأَمر أَمر ندب واستحباب، وَيرد عَلَيْهِمَا قَوْله:
((بِمَ تَأْخُذ مَال أَخِيك بِغَيْر حق؟)) .
1341 - / 1624 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أَرَادَ
بَنو سَلمَة أَن يَنْتَقِلُوا قرب الْمَسْجِد، فَقَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((دِيَاركُمْ تكْتب
آثَاركُم)) .
الْمَعْنى: الزموا دِيَاركُمْ. والْآثَار الخطوات. وَقد
قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: ((لكم بِكُل خطْوَة دَرَجَة))
قَالَ الْحسن وَمُجاهد فِي قَوْله تَعَالَى: {ونكتب مَا
قدمُوا وآثارهم} [يس: 12] خطاهم. وَقَالَ عمر ابْن عبد
الْعَزِيز: لَو كَانَ الله مغفلا شَيْئا لأغفل مَا تعفي
الرِّيَاح من أثر قدم ابْن آدم.
1342 - / 1625 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: قَالَ
جَابر: يُوشك أهل الْعرَاق أَلا يجبى إِلَيْهِم قفيز وَلَا
دِرْهَم. قُلْنَا: من أَيْن ذَاك؟ قَالَ: من قبل الْعَجم،
يمْنَعُونَ ذَلِك. ثمَّ قَالَ: يُوشك أهل الشَّام أَلا
يجبى إِلَيْهِم دِينَار وَلَا مدي. قُلْنَا: من أَيْن
ذَلِك؟ قَالَ: من قبل الرّوم.
الْإِشَارَة بِمَا ذكر جَابر إِلَى الْخراج. قَالَ
الْخطابِيّ. والمدي:
(3/73)
مكيال لأهل الشَّام، يُقَال: إِنَّه يسع
خَمْسَة عشر مكوكا.
1343 - / 1626 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: حَدِيث ابْن
صياد.
وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَغَيرهمَا.
1344 - / 1629 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين:
نهى أَن يَأْكُل الرجل بِشمَالِهِ أَو يمشي فِي نعل
وَاحِدَة.
أما النَّهْي عَن الْمَشْي فِي نعل وَاحِدَة فَإِنَّهُ حث
عَن إكرام الْقدَم الْأُخْرَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث
آخر: ((ليحفهما جَمِيعًا أَو لينعلهما جَمِيعًا)) ثمَّ إِن
الْمَشْي فِي نعل وَاحِدَة يتَضَمَّن نوع شهرة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث النَّهْي عَن اشْتِمَال الصماء.
قَالَ اللغويون: هُوَ أَن تجلل جسدك كُله بِثَوْب وَلَا
ترفع شَيْئا من جوانبه. وَإِنَّمَا قيل لَهَا صماء
لِأَنَّهُ إِذا اشْتَمَل كَذَلِك شدّ على يَدَيْهِ
وَرجلَيْهِ المنافذ كلهَا كالصخرة الصماء الَّتِي لَيْسَ
فِيهَا خرق وَلَا صدع، وَرُبمَا احْتَاجَ أَن يقي نَفسه
الْأَذَى فَلَا يقدر، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب أَبُو
عبيد وَابْن قُتَيْبَة.
وَقَالَ الْفُقَهَاء: هُوَ أَن يشْتَمل بِثَوْب لَيْسَ
عَلَيْهِ غَيره ثمَّ يرفعهُ من أحد جانبيه فيضعه على
مَنْكِبَيْه، فيبدو مِنْهُ فرجه، فتفسير الْفُقَهَاء بخوف
(3/74)
كشف الْعَوْرَة، وَتَفْسِير اللغويين بخوف
أَن يدْفع إِلَى حَالَة تفجأه فَيُؤَدِّي إِلَى أَذَى أَو
هَلَاك.
قَوْله: وَأَن يحتبي فِي ثوب وَاحِد كاشفا عَن فرجه.
الإحتباء: لي الثَّوْب الْوَاحِد على الظّهْر والركبتين،
فَإِن كشف فرجه وَاقع النَّهْي.
وَأما رفع المستلقي إِحْدَى رجلَيْهِ فَلِأَن الْغَالِب
على الْعَرَب أَن يكون على أحدهم الثَّوْب الْوَاحِد،
فَإِذا فعل هَذَا بَدَت عَوْرَته. فَإِن أَمن هَذَا فَلَا
كَرَاهِيَة. وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث عباد بن تَمِيم عَن
عَمه: أَنه رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُسْتَلْقِيا، وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى.
1345 - / 1630 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين:
((فِيمَا سقت الْأَنْهَار والعيون العشور، وَفِيمَا سقِِي
بالسانية نصف العشور)) .
قد تكلمنا على هَذَا فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من مُسْند
ابْن عمر وَقد بَينا آنِفا أَن السانية: الْإِبِل الَّتِي
تَسْقِي الزَّرْع.
1346 - / 1631 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين:
((لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ من الْوَرق صَدَقَة.
وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من التَّمْر صَدَقَة.
الْوَرق: الْفضة. وَقد تقدم الْكَلَام فِي الْأُوقِيَّة
فِي هَذَا الْمسند.
(3/75)
والذود من الْإِبِل: مَا بَين الثَّلَاثَة
إِلَى الْعشْرَة، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَلَا تكون
الذود إِلَّا إِنَاثًا، فَإِذا بلغت الثَّلَاثِينَ إِلَى
الْأَرْبَعين فَهِيَ صبة، فَإِذا بلغت الْخمسين إِلَى
السِّتين فَهِيَ هجمة، فَإِذا بلغت السّبْعين إِلَى
الثَّمَانِينَ فَهِيَ عكرة، فَإِذا بلغت مائَة فَهِيَ
هنيدة، فَإِذا بلغت ثَلَاثمِائَة فَهِيَ العرج، فَإِذا
بلغت السبعمائة إِلَى الْألف فَهِيَ خطر.
وَقد سبق أَن الوسق سِتُّونَ صَاعا، والصاع أَرْبَعَة
أَمْدَاد، وَالْمدّ: رَطْل وَثلث.
هَذَا الحَدِيث يدل على أَن النّصاب مُعْتَبر فِي المعشرات
خلافًا لأبي حنيفَة وَفِيه دَلِيل على أَنه لَيْسَ فِي
الخضروات صَدَقَة لِأَنَّهَا لَا توسق.
1347 - / 1632 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين:
((أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت)) .
أصل الْقُنُوت الطَّاعَة. وَالْمرَاد بِهِ هَاهُنَا
الْقيام. وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل الْأَفْضَل كَثْرَة
الرُّكُوع وَالسُّجُود أَو طول الْقيام؟ فَأَما الإِمَام
أَحْمد فَإِنَّهُ قَالَ: قد رُوِيَ فِي هَذَا حديثان، وَلم
يقْض فِيهِ بِشَيْء. يُشِير إِلَى حَدِيث جَابر فِي طول
الْقيام، وَإِلَى مَا سَيَأْتِي من حَدِيث ربيعَة عَن
كَعْب أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مرافقته فِي الْجنَّة، فَقَالَ لَهُ: ((أَعنِي على
(3/76)
نَفسك بِكَثْرَة السُّجُود)) وَقَالَ
إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: أما بِالنَّهَارِ فكثرة الرُّكُوع
وَالسُّجُود، وَأما بِاللَّيْلِ فطول الْقيام، وَهَذَا
هُوَ الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة اللَّيْل إِلَّا طول الْقيام،
وَلم ينْقل عَنهُ فِي صَلَاة النَّهَار طول قيام، والسر
فِي ذَلِك أَن الْقيام إِنَّمَا يُرَاد للْقِرَاءَة،
وَالْقِرَاءَة ترَاد للتفكر، وَالْقلب يَخْلُو فِي
اللَّيْل عَن الشواغل فَيحصل الْمَقْصُود من التِّلَاوَة
بِخِلَاف النَّهَار.
1348 - / 1633 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين:
((الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ من يَده وَلسَانه)) .
وَالْمعْنَى: هَذَا هُوَ الْمُسلم الَّذِي صدق قَوْله
بِفِعْلِهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} [الْأَنْفَال: 2] .
أَي هَذِه صِفَات من صدق إيمَانه وَتمّ.
1349 - / 1634 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين:
((بَين الرجل وَبَين الشّرك ترك الصَّلَاة)) .
اتّفق الْعلمَاء على أَن من ترك الصَّلَاة جاحدا
لوُجُوبهَا فَهُوَ كَافِر، وَاخْتلفُوا فِيمَن تَركهَا
تكاسلا، فَقَالَ أَحْمد: يدعى إِلَى فعلهَا، فَإِن لم
يَفْعَلهَا حَتَّى تضايق وَقت الَّذِي بعْدهَا وَجب قَتله.
وَعنهُ: أَنه لَا يجب قَتله حَتَّى يتْرك ثَلَاث صلوَات
ويتضايق وَقت الرَّابِعَة، فَإِذا وَجب قَتله لم
(3/77)
يقتل حَتَّى يُسْتَتَاب ثَلَاثَة أَيَّام،
فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل بِالسَّيْفِ. وَهل وَجب قَتله
حدا. أَو لكفره؟ على رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: لكفره،
وَدَلِيله هَذَا الحَدِيث، وَالثَّانِي: يقتل حدا. وَقَالَ
مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يكفر، بل يُسْتَتَاب، فَإِن
تَابَ وَإِلَّا قتل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُسْتَتَاب
وَيحبس وَلَا يقتل.
1350 - / 1635 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين:
طَاف رَسُول الله بِالْبَيْتِ فِي حجَّة الْوَدَاع على
رَاحِلَته يسْتَلم الْحجر بِمِحْجَنِهِ.
الإستلام: اللَّمْس. والمحجن: قد بَيناهُ فِي الحَدِيث
التَّاسِع من أَفْرَاد مُسلم. وَقد بَين فِي هَذَا
الحَدِيث أَنه إِنَّمَا طَاف رَاكِبًا ليراه النَّاس
وليسألوه: وَقد تكلمنا فِي طوف الرَّاكِب فِي مُسْند ابْن
عَبَّاس.
1351 - / 1638 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
وَالثَّلَاثِينَ: أُتِي بضب فَأبى أَن يَأْكُل مِنْهُ
وَقَالَ: ((لَا أَدْرِي، لَعَلَّه من الْقُرُون الَّتِي
مسخت)) .
قد تكلمنا على أكل الضَّب فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
فَإِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين حَدِيث أم
حَبِيبَة: ((إِن الله لم يمسخ أحدا فَيجْعَل لَهُ نَسْلًا
وَلَا عَاقِبَة)) ؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
أَن يكون وَقت قَوْله: ((لَا أَدْرِي)) لم يعلم، ثمَّ أعلم
فَقَالَ مَا روته أم حَبِيبَة، وَالثَّانِي: أَن يكون
الْمَعْنى: لَعَلَّه قد مسخ قوم على
(3/78)
هَيئته وَصورته، فكره أكله للمشابهة،
وَتَركه استقذارا، وَهَذَا اخْتِيَار ابْن جرير.
1352 - / 1639 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث
وَالثَّلَاثِينَ: رمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضحى، فَأَما بعد فَإِذا زَالَت
الشَّمْس.
أما الْجَمْرَة الَّتِي ترمى يَوْم النَّحْر فوقتها بعد
طُلُوع الشَّمْس، فَإِن رمى بعد نصف اللَّيْل أَجزَأَهُ
خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك. وَأما الْجمار الَّتِي ترمى
فِي أَيَّام التَّشْرِيق فوقتها بعد الزَّوَال، وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: يجوز أَن يَرْمِي فِي الْيَوْم الْأَخير قبل
الزَّوَال. وَعَن أَحْمد مثله.
1353 - / 1641 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالثَّلَاثِينَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَرْمِي الْجَمْرَة بِمثل حَصى الْخذف.
الْعَادة جَارِيَة بِأَن الْإِنْسَان لَا يخذف بالحصى
الْكِبَار، وَالسّنة أَن يكون هَذَا الْحَصَى أكبر من
الحمص وأصغر من البندق.
1354 - / 1642 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالثَّلَاثِينَ: ((لكل نَبِي دَعْوَة دَعَا بهَا فِي أمته
وخبأت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة)) .
قَوْله: ((دَعَا بهَا فِي أمته)) يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: دَعَا بهَا لنَفسِهِ وَهُوَ فِي أمته.
وَالثَّانِي: دَعَا بهَا فيهم: إِمَّا لصلاحهم وَإِمَّا
لهلاكهم.
(3/79)
1355 - / 1643 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالثَّلَاثِينَ: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن ينْهَى أَن يُسمى بيعلى وببركة وبأفلح وبيسار
وبنافع وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ سكت وَلم يقل شَيْئا.
إِنَّمَا كره ذَلِك لشيئين: أَحدهمَا: أَن هَذِه
الْأَسْمَاء تَتَضَمَّن تَزْكِيَة المسمين ومدحهم.
وَالثَّانِي: أَنه قد يُقَال: أَفِي الْبَيْت بركَة؟ أها
هُنَا نَافِع؟ فَيُقَال: لَا فكره ذَلِك.
1356 - / 1644 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالثَّلَاثِينَ: فِي قتل الْكلاب: ((عَلَيْكُم بالأسود
البهيم ذِي الطفيتين؛ فَإِنَّهُ شَيْطَان)) .
البهيم: الَّذِي لَا يخالط سوَاده لون غير السوَاد.
وَقد سبق بَيَان الطفيتين فِي الْحَيَّات فِي مُسْند أبي
لبَابَة، وَهُوَ فِي الْكلاب على ذَلِك الْمَعْنى.
1357 - / 1645 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع
وَالثَّلَاثِينَ: ((طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي
الْإِثْنَيْنِ، وَطَعَام الْإِثْنَيْنِ يَكْفِي
الْأَرْبَعَة)) .
وَهَذَا يتَضَمَّن الْحَث على الإيثار، فَإِنَّهُ إِذا
كَانَ عِنْد الْإِنْسَان مَا يَكْفِيهِ فَأكل شطره لم
يُؤثر ذَلِك عِنْده فِي إِقَامَة أوده.
1358 - / 1646 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: أَنه قَالَ
لأسماء بنت عُمَيْس: ((مَالِي أرى أجسام بني أخي ضارعة،
تصيبهم الْحَاجة؟))
(3/80)
قَالَت: لَا، وَلَكِن الْعين تسرع
إِلَيْهِم. قَالَ: ((ارقيهم)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الضارع: الضاوي النحيف.
وَقد تكلمنا على الرقى فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَذكرنَا
مَا فعل فِي إِصَابَة الْعين هُنَاكَ أَيْضا.
وَالْمرَاد ببني أَخِيه أَوْلَاد جَعْفَر بن أبي طَالب،
وَأَسْمَاء كَانَت زَوجته.
1359 - / 1647 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي
وَالْأَرْبَعِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
زجر أَن يقبر الرجل بِاللَّيْلِ حَتَّى يصلى عَلَيْهِ
إِلَّا أَن يضْطَر إِنْسَان إِلَى ذَلِك، وَقَالَ: ((إِذا
كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه)) .
أما نَهْيه عَن الإقبار بِاللَّيْلِ فلتكثر الصَّلَاة على
الْمَيِّت، وتحسين الْكَفَن احترام للْمَيت، وَلِأَنَّهُ
قد رُوِيَ أَنهم يحشرون فِي أكفانهم.
وَلَيْسَ تَحْسِين الْكَفَن كَمَا يفعل الْجُهَّال من
التنوق فِي الأكفان الرفيعة.
1360 - / 1650 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: نهى عَن بيع الصُّبْرَة من التَّمْر لَا
يعلم مكيلتها بالمكيل الْمُسَمّى من التَّمْر.
الصُّبْرَة: الْجزَاف بِلَا كيل وَلَا وزن. وَهَذَا
النَّهْي لأجل الرِّبَا.
فَأَما إِذا بَاعَ صبرَة مجازفة وَانْفَرَدَ البَائِع
بِمَعْرِِفَة قدرهَا: فعندنا لَا يجوز لَهُ وَالْبيع
صَحِيح وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار، وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ: البيع
(3/81)
لَازم وَلَا خِيَار للْمُشْتَرِي
1361 - / 1651 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: ((إِذا ابتعت طَعَاما فَلَا تبعه حَتَّى تستوفيه))
.
قد سبق الْكَلَام فِي هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1362 - / 1652 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
وَالْأَرْبَعِينَ: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِالشُّفْعَة فِي كل شركَة لم تقسم: ربعَة - وَفِي
لفظ: ربع - أَو حَائِط، لَا يحل أَن يَبِيع حَتَّى يُؤذن
شَرِيكه، فَإِن شَاءَ أَخذ وَإِن شَاءَ ترك، فَإِذا بَاعَ
وَلم يُؤذنهُ فَهُوَ أَحَق بِهِ.
الرّبع: الْمنزل. والحائط: الْبُسْتَان.
وَقَوله: لَا يحل: نهي لمن يحتال فِي إِسْقَاط الشُّفْعَة.
وَهَذِه شُفْعَة الْمشَاع، فَأَما غير الْمشَاع فقد
ذَكرْنَاهُ فِي أول أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذَا
الْمسند.
1363 - / 1653 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع
وَالْأَرْبَعِينَ: أُتِي بِأبي قُحَافَة يَوْم فتح مَكَّة
وَرَأسه ولحيته كالثغامة بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((غيروا هَذَا بِشَيْء
وَاجْتَنبُوا السوَاد)) .
أَبُو قُحَافَة اسْمه عُثْمَان بن عَامر. وَالَّذِي جَاءَ
بِهِ يَوْم الْفَتْح ابْنه أَبُو بكر الصّديق. أخبرنَا
مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ: أخبرنَا
أَبُو مُحَمَّد
(3/82)
الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا ابْن حيويه
قَالَ: أخبرنَا ابْن مَعْرُوف قَالَ:
حَدثنَا ابْن الْفَهم قَالَ: أخبرنَا يحيى بن عباد بن عبد
الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن أَسمَاء بنت أبي بكر
قَالَت: لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَكَّة وَاطْمَأَنَّ وَجلسَ فِي الْمَسْجِد، أَتَاهُ أَبُو
بكر الصّديق بِأبي قُحَافَة، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((يَا أَبَا بكر، أَلا
تركت الشَّيْخ حَتَّى أكون أَنا الَّذِي أَمْشِي
إِلَيْهِ)) قَالَ: يَا رَسُول الله، هُوَ أَحَق أَن يمشي
إِلَيْك من أَن تمشي إِلَيْهِ. فأجلسه رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بَين يَدَيْهِ، وَوضع يَده على قلبه
ثمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا قُحَافَة، أسلم تسلم)) .
فَأَما الثغامة فَقَالَ أَبُو عبيد: الثغام: نبت أَبيض
الثَّمر أَو الزهر، فَشبه بَيَاض الشيب بِهِ، قَالَ حسان
بن ثَابت:
(إِمَّا تري رَأْسِي تجلل لَونه ... شُمْطًا فَأصْبح
كالثغام الممحل)
الممحل: الَّذِي أَصَابَهُ الْمحل: وَهِي الجدوبة. وَقَالَ
الزّجاج: أثغم رَأس الرجل: إِذا صَار كالثغامة، وأثغم
الْوَادي: إِذا صَار فِيهِ الثغام، وَهُوَ شجر أَبيض
النُّور يشبه بِهِ الشيب.
1364 - / 1654 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن
وَالْأَرْبَعِينَ: ((غلظ الْقُلُوب والجفاء فِي الْمشرق،
وَالْإِيمَان فِي الْحجاز)) .
قد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عمر أَن الْفِتَن تَأتي من
الْمشرق مثل الدَّجَّال
(3/83)
ويأجوج وَمَأْجُوج وَغير ذَلِك، والأغلب
عَلَيْهِم الْأَعَاجِم، وَفِيهِمْ غلظ الْقُلُوب والجفاء.
وَأما الْحجاز فمسكن الْعَرَب. قَالَ ابْن فَارس: سمي
الْحجاز لِأَنَّهُ احتجز بالجبال، يُقَال: احتجزت
الْمَرْأَة: إِذا شدت ثِيَابهَا على وَسطهَا واتزرت،
قَالَ: وَالْأَصْل عندنَا فِي الْحجاز أَنه حاجز بَين
أَرضين.
1365 - / 1656 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: نهى أَن يقتل
شَيْء من الدَّوَابّ صبرا.
أَي أَن يحبس للْقَتْل، وَقد كَانُوا يتخذونها كالغرض
ويرمونها.
1366 - / 1656 -
1366 - / 1658 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين:
قَالَ جَابر: نجيء نَحن يَوْم الْقِيَامَة عَن كَذَا
وَكَذَا، ثمَّ يأتينا رَبنَا.
قَوْله: عَن كَذَا وَكَذَا، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى
كَثْرَة الْعدَد.
وَقَوله: ثمَّ يأتينا رَبنَا. قد قَالَ أَحْمد فِي قَوْله:
يَأْتِيهم الله: يَأْتِي أمره.
وَقَوله: فتجلى لَهُم يضْحك. قد يسْبق إِلَى الخيال والحس
التَّمْثِيل بالخلق. وَفِي قَوْله: فَينْطَلق بهم
فيتبعونه، أَنه يقطع مَسَافَة. وَهَذَا كُله حرَام
الإعتقاد، وَالنَّاس فِي هَذَا وَأَمْثَاله رجلَانِ:
أَحدهمَا سكت عَن
(3/84)
التَّفْسِير مَعَ نفي الخيال، وَهَذَا
مَذْهَب جُمْهُور السّلف. وَالْآخر: حمله على سَعَة
اللُّغَة. فَأَما الثَّالِث فَهُوَ الْمُشبه.
وَقَوله: تذْهب حراقه: أَي أثر مَا احْتَرَقَ مِنْهُ.
1367 - / 1659 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين:
قَالَ جَابر: طلقت خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَن تَجِد نخلها،
فزجرها رجل أَن تخرج، فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ: ((بلَى، جدي نخلك)) .
جدَاد النّخل: صرامها.
وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّة من الطَّلَاق الثَّلَاث،
فَإِنَّهَا تخرج فِي النَّهَار إِلَى الْمَكَان الْقَرِيب
للْحَاجة، ونخل الْأَنْصَار قريب من دُورهمْ. فَأَما
الرَّجْعِيَّة فَلَا تخرج لَيْلًا وَلَا نَهَارا. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: لَا تخرج المبتوتة أصلا كالرجعية. وَقَالَ
الشَّافِعِي: تخرج نَهَارا لَا لَيْلًا.
1368 - / 1660 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: نهى
عَن بيع ضراب الْجمل، وَعَن بيع المَاء وَالْأَرْض لتحرث.
أما ضراب الْفَحْل فَهُوَ عسب الْفَحْل، وَقد تقدم ذكره
فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من مُسْند ابْن عمر.
وَأما بيع المَاء فَلِأَن النَّاس شُرَكَاء فِيهِ.
1369 - / 1661 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: نهى
عَن الوسم
(3/85)
فِي الْوَجْه.
الوسم: الْعَلامَة بِنَار أَو غَيرهَا، وَهِي فِي الْوَجْه
كالمثلة.
1370 - / 1662 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: نهى
أَن يجصص الْقَبْر وَأَن يقْعد عَلَيْهِ. وَفِي لفظ: أَن
يُقَصَّص.
التجصيص من الجص، والتقصيص من الْقِصَّة، وَهُوَ الجص
أَيْضا، وَقد ذكرنَا عَن أبي سُلَيْمَان أَنه قَالَ: يشبه
الجص وَلَيْسَ بِهِ.
وَأما الْقعُود على الْقَبْر فَظَاهره الْجُلُوس، وَقد
أَوله قوم فَقَالُوا: هُوَ الْقعُود عَلَيْهِ للتخلي
وَالْحَاجة، وَالْأول اصح.
1371 - / 1663 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: نهى
عَن الشّغَار. وَقد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1372 - / 1664 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين:
((مَا من صَاحب إبل لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إِلَّا قعد
لَهَا بقاع قرقر)) .
أما القاع فَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ الْمَكَان المستوي
لَيْسَ فِيهِ ارْتِفَاع وَلَا انخفاض، وَهُوَ القيعة
أَيْضا. وَيُقَال: القيعة جمع قاع. والقرقر أَيْضا:
الْمَكَان المستوي.
(3/86)
وَقَالَ: وَقد جَاءَ فِي بعض الحَدِيث:
((بقاع قرق)) وَهُوَ مثل القرقر، وَأنْشد:
(كَأَن أَيْدِيهنَّ بالقاع القرق ... أَيدي جوَار يتعاطين
الْوَرق)
فَشبه بَيَاض أَيدي الْإِبِل ببياض أَيدي الْجَوَارِي.
كَذَا قَالَ أَبُو عبيد.
وَأخْبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا
قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَلَاء المعري: يجب أَن يكون شبه
حمرَة أَيدي الْإِبِل بحمرة أَيدي الْجَوَارِي، لِأَن
أخفافها قد اختضبت بِالدَّمِ، فَهِيَ كأيدي جوَار قد
اختضبن، وَهن بَنَات أَغْنِيَاء يلعبن بِالدَّرَاهِمِ.
وَقَوله: يستن: أَي يعدو. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة:
والإستنان: أَن يحضر الْفرس وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْفَارِس.
يُقَال: فرس سِنِين، وَذَلِكَ من النشاط. وَأَرَادَ هَا
هُنَا أَنه يمرح فِي الطول.
والأخفاف جمع خف. والخف للبعير كالظفر للْإنْسَان، والظلف
للبقر وَالْغنم كَذَلِك.
والجماء: الَّتِي لَا قرن لَهَا.
وَقَوله: ((شجاعا أَقرع)) قَالَ أَبُو عبيد: الشجاع:
الْحَيَّة، وَإِنَّمَا سمي أَقرع لِأَنَّهُ يقري السم
ويجمعه فِي رَأسه حَتَّى يتمعط مِنْهُ شعره، قَالَ
الشَّاعِر يذكر حَيَّة ذكرا:
(3/87)
(قرى السم حَتَّى انماز فَرْوَة رَأسه ...
عَن الْعظم صل فاتك اللسع مارده)
وَقَوله: ((فيقضمان)) القضم: العض وَالْكَسْر. وَقَالَ
أَبُو عبيد: القضم بِأَدْنَى الْأَسْنَان والخضم بأقصاها.
والفحل: الذّكر.
وَأما قَوْله وَقد سُئِلَ عَن حق الْإِبِل فَقَالَ:
((حلبها على المَاء)) أَي عِنْد المَاء، وَذَلِكَ لأَنهم
يَجْتَمعُونَ عِنْده، فَأَرَادَ سقِِي أهل المَاء.
وَقَوله: ((ومنيحتها)) أَي يُعْطي النَّاقة وَالشَّاة لمن
يحلبها وَيشْرب من لَبنهَا من الْفُقَرَاء وقتا مَعْلُوما.
ومنحة لَبنهَا يَوْم وُرُودهَا: أَن تَسْقِي من حضر من
المحتاجين، وَهَذَا - مِمَّا نرَاهُ - كَانَ لَازِما قبل
الزَّكَاة، لِأَن التواعد لَا يكون إِلَّا على وَاجِب.
1373 - / 1665 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين:
((فَينزل عِيسَى فَيَقُول أَمِيرهمْ: صل لنا، فَيَقُول:
لَا، إِن بَعْضكُم على بعض أُمَرَاء)) .
اعْلَم أَنه لَو تقدم عِيسَى لوقع فِي النُّفُوس إِشْكَال،
ولقيل: أتراه تقدم على وَجه النِّيَابَة أم ابْتَدَأَ
شرعا؟ ، فَيصَلي مَأْمُوما لِئَلَّا يتدنس بغبار
الشُّبْهَة، وَجه قَوْله: ((لَا نَبِي بعدِي)) .
(3/88)
1374 - / 1666 - وَفِي الحَدِيث السِّتين:
كتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل بطن عقوله،
ثمَّ كتب بِأَنَّهُ لَا يحل أَن يتوالى مولى رجل مُسلم
بِغَيْر إِذْنه.
الْبَطن من الْقَبِيلَة. وَيُرِيد بالعقول أَنَّهَا تعقل
عَن صَاحبهَا، وَالْمرَاد أَن الدِّيَة على الْعَاقِلَة،
فَكتب على كل بطن مَا يلْزمهُم من الدِّيَة، وَمنع أَن
يتَوَلَّى رجل قوما بِغَيْر إِذن موَالِيه، وَهُوَ أَن
ينتسب إِلَى ولايتهم ومواليه فَمَا يأذنون فِي هَذَا.
1375 - / 1667 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ:
((إِن كَانَ فِي شَيْء فَفِي الرّبع وَالْخَادِم
وَالْفرس)) يَعْنِي الشؤم وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند
سهل بن سعد.
1376 - / 1668 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ:
((إِذا استجمر أحدكُم فليوتر)) .
أصل الإستجمار من الْجمار: وَهِي الْحَصَا الصغار.
وَيسْتَحب أَن يكون وترا. وَفِي حَدِيث آخر: ((فليذهب
مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار)) .
1377 - / 1669 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ:
قَالَ جَابر: مهل أهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة.
الْمهل مضموم الْمِيم: وَهُوَ الْموضع الَّذِي يهلون
مِنْهُ. والإهلال:
(3/89)
رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. وَقد سبق
هَذَا.
1378 - / 1671 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ:
((اركبها بِالْمَعْرُوفِ إِذا ألجئت إِلَيْهَا حَتَّى
تَجِد ظهرا)) يَعْنِي الْهَدْي.
الْمَعْرُوف هَا هُنَا مَا لَا يجْهد المركوب. والإلجاء:
الإضطرار.
وَالظّهْر: المركوب.
وَعِنْدنَا أَن لصَاحب الْهَدْي أَن يركب وَأَن يشرب
اللَّبن. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن اضْطر إِلَى الرّكُوب
جَازَ. وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: لَا يركبهَا، وَإِن فعل
ذَلِك لضَرُورَة فنقصها الرّكُوب شَيْئا ضمن مَا نَقصهَا
وَتصدق بِهِ.
1379 - / 1672 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ:
كُنَّا نستمتع بالقبضة من التَّمْر والدقيق الْأَيَّام على
عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر حَتَّى
نهى عَنهُ عمر فِي شَأْن عَمْرو بن حُرَيْث.
عَمْرو بن حُرَيْث من الصَّحَابَة، وَكَانَ قد استمتع من
امْرَأَة فَحملت، فَبلغ ذَلِك عمر، فحد فِي النَّهْي عَن
ذَلِك. المُرَاد أَنه بَين تَحْرِيم ذَلِك الْفِعْل،
وَإِنَّمَا فعل هَذَا فِي زمن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أذن فِيهِ ثمَّ إِنَّه نهى
عَنهُ، فَلم يعلم بِالنَّهْي أَقوام فَفَعَلُوا ذَلِك فِي
زَمَنه وَفِي زمن أبي بكر، فَلَمَّا شاع فعلهم فِي زمن عمر
حد فِي تَبْيِين النَّهْي،
(3/90)
وَبَيَان هَذَا أَنه لَا يجوز أَن يكون
النَّهْي بَلغهُمْ ثمَّ يَفْعَلُونَهُ، لِأَن الصَّحَابَة
قد نزهوا عَن مثل هَذَا، وَلَا يجوز أَن يكون مَأْذُونا
فِيهِ بِالشَّرْعِ مُطلقًا، وَقد فعل فِي زمن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر ويبتدئ عمر بِالنَّهْي
عَنهُ؛ إِذْ لَيْسَ إِلَيْهِ أَن يُغير شَيْئا من
الشَّرِيعَة، وَإِنَّمَا الْوَجْه مَا ذكرنَا. وَقد ذكرنَا
مثل هَذَا فِي أَوَائِل هَذَا الْمسند.
1380 - / 1673 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ:
((إِذا دعِي أحدكُم إِلَى طَعَام فليجب)) .
إِذا كَانَ الطَّعَام الْمَدْعُو إِلَيْهِ وَلِيمَة عرس
وَجَبت الْإِجَابَة على مَا بَينا فِي مُسْند الْبَراء بن
عَازِب، وَإِن لم تكن وَلِيمَة عرس اسْتحبَّ للمدعو أَن
يطيب قلب الدَّاعِي بِحُضُورِهِ إِذا لم يكن فِي الْحُضُور
مَا يكره.
1381 - / 1674 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ:
صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم
النَّحْر بِالْمَدِينَةِ، فَتقدم رجال فنحروا وظنوا أَن
رَسُول الله قد نحر، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من كَانَ نحر قبله أَن يُعِيد بنحر آخر، وَلَا
ينحروا حَتَّى ينْحَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
قد تكلمنا على هَذَا فِيمَا تقدم، وَبينا أَن مَذْهَبنَا
يخْتَلف، فالمنصور عندنَا أَنه لَا يجوز ذبح الْأُضْحِية
قبل صَلَاة الإِمَام وَيجوز بعْدهَا وَإِن لم يكن قد ذبح،
وَيكون معنى قَوْله: وَلَا تنحروا حَتَّى ينْحَر، على
الْغَالِب فِي حَال الإِمَام، فَإِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي ثمَّ ينْحَر. وَقَالَ أَبُو
(3/91)
حنيفَة فِي أهل الْأَمْصَار كمذهبنا، وَفِي
أهل الْقرى: يجوز أَن يذبحوا بعد طُلُوع الْفجْر من يَوْم
النَّحْر. وَقَالَ مَالك: وَقت الذّبْح إِذا صلى الإِمَام
وَذبح، أخذا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ
الشَّافِعِي: وَقت الذّبْح أَن يمْضِي بعد دُخُول وَقت
الصَّلَاة زمَان يُمكن فِي صَلَاة رَكْعَتَيْنِ وخطبتين،
وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْخرقِيّ.
1382 - / 1675 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ:
زجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تصل الْمَرْأَة
برأسها شَيْئا.
وَقد تكلمنا فِي حكم وصل الشّعْر فِي مُسْند ابْن عمر.
وَمعنى الحَدِيث: أَن تصل بشعرها. وَقد ذكرنَا أَن
الْعلمَاء أباحوا القرامل، فَيكون قَوْله: ((شَيْئا))
إِشَارَة إِلَى الشّعْر.
1383 - / 1676 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: إِن الْيَهُود
إِذا سلمُوا قَالُوا: السام عَلَيْك.
والسام: الْمَوْت، وَقد سبق هَذَا.
1384 - / 1677 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين:
((لَا عدوى وَلَا طيرة وَلَا صفر وَلَا غول)) .
(3/92)
قد تكلمنا فِي الْعَدْوى والطيرة فِي
مُسْند ابْن عمر.
فَأَما قَوْله: ((لَا صفر)) فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا:
أَنَّهَا حَيَّة تكون فِي الْبَطن، وَفِي هَذَا الحَدِيث
قَالَ جَابر: كَانَ يُقَال دَوَاب الْبَطن. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَة: سَمِعت يُونُس يسْأَل رؤبة عَن الصفر فَقَالَ:
حَيَّة تكون فِي الْبَطن تصيب الْمَاشِيَة وَالنَّاس،
وَهِي أعدى من الجرب عِنْد الْعَرَب، فَأبْطل النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا تعدِي. وَيُقَال: إِنَّهَا
تشتد على الْإِنْسَان إِذا جَاع وتؤذيه، قَالَ أعشى باهلة:
(لَا يتأرى لما فِي الْقدر يرقبه ... وَلَا يعَض على
شرسوفه الصفر)
وَالثَّانِي: أَنه تأخيرهم الْمحرم إِلَى صفر، قَالَ أَبُو
عُبَيْدَة. قَالَ أَبُو عبيد: وَلم يقل هَذَا غير أبي
عُبَيْدَة.
وَقَوله: ((وَلَا غول)) كَانَت الْعَرَب تَقول: إِن
الغيلان فِي الفلوات تتراءى للنَّاس وتتغول: أَي تتلون
لَهُم فتضلهم عَن الطَّرِيق وتفزعهم وتهلكهم، فَأبْطل
الشَّرْع صِحَة ذَلِك.
1385 - / 1679 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين:
((النَّاس تبع لقريش فِي الْخَيْر وَالشَّر)) .
كَانَت قُرَيْش مُتَقَدّمَة على سَائِر الْعَرَب فِي
الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ تقدمتهم بالرسول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي الْإِسْلَام.
(3/93)
1386 - / 1681 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
وَالسبْعين: بَايَعْنَاهُ تَحت الشَّجَرَة غير جد بن قيس،
فَإِنَّهُ اختفى تَحت بطن بعيره.
هَذَا الرجل مَعْدُود فِي الْمُنَافِقين، وَهُوَ
الْقَائِل: {ائْذَنْ لي وَلَا تفتني} [التَّوْبَة: 49] .
1387 - / 1682 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين:
((لَا يبع حَاضر لباد)) .
البادي: الَّذِي يطْرَأ عَلَيْك، وَالَّذِي يسكن
الْبَادِيَة. وَقد سبق شرح هَذَا الحَدِيث وَحكمه فِي
مُسْند ابْن عَبَّاس.
1388 - / 1683 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: نهى
أَن يبال فِي المَاء الراكد.
الراكد الْمُقِيم الَّذِي لَا يجْرِي، وَلَا يَخْلُو من
حَالين: إِمَّا أَن يكون قَلِيلا فينجس بالبول، أَو كثيرا
لَا يُنجسهُ الْبَوْل، فاستدامة الْبَوْل فِيهِ تغير رِيحه
وتقذره إِلَى المستعملين مِنْهُ.
1389 - / 1684 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين:
((فَإِذا مُوسَى ضرب من الرِّجَال كَأَنَّهُ من رجال
شنُوءَة)) .
الضَّرْب من الرِّجَال: الْخَفِيف، وأنشدوا:
(3/94)
(أَنا الرجل الضَّرْب الَّذِي تعرفونه ...
خشَاش كرأس الْحَيَّة المتوقد)
وَأما تشبيهه عِيسَى بِعُرْوَة، وَجِبْرِيل بِدِحْيَةَ،
فَإِن عُرْوَة هُوَ ابْن مَسْعُود بن معتب، أَبُو يَعْفُور
الثَّقَفِيّ، أسلم وَصَحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، ودحية هُوَ ابْن خَليفَة بن فَرْوَة، أسلم قَدِيما،
وَشهد الْمشَاهد بعد بدر. وَجَمَاعَة الْمُحدثين واللغويين
يَقُولُونَ دحْيَة بِكَسْر الدَّال، وَحكى ابْن قُتَيْبَة
عَن الْأَصْمَعِي فتحهَا. وَكَانَ جِبْرِيل يَأْتِي فِي
صورته. قَالَ لنا شَيخنَا ابْن نَاصِر: إِنَّمَا كَانَ
جِبْرِيل يتشبه بِدِحْيَةَ لِأَن دحْيَة كَانَ يدْخل على
الْمُلُوك.
1390 - / 1685 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين:
اشْتَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلينا
وَرَاءه وَهُوَ قَاعد، فَالْتَفت فرآنا قيَاما، فَأَشَارَ
إِلَيْنَا، فَقَعَدْنَا فصلينا بِصَلَاتِهِ قعُودا،
فَلَمَّا سلم قَالَ: ((ائتموا بأئمتكم. إِن صلى قَائِما
فصلوا قيَاما، وَإِن صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا)) .
مَذْهَب أَصْحَابنَا أَنه إِذا مرض إِمَام الْحَيّ مَرضا
يرجي بُرْؤُهُ جَازَ أَن يُصَلِّي بهم قَاعِدا وَيصلونَ
خَلفه قعُودا لهَذَا الحَدِيث، فَإِن صلوا قيَاما جَازَ
خلافًا للأكثرين فِي قَوْلهم: إِنَّه مَتى قدرُوا على
الْقيام فصلوا جُلُوسًا بطلت صلَاتهم وَقد حكى البُخَارِيّ
عَن عبد الله بن الزبير الْحميدِي أَنه قَالَ: هَذَا
مَنْسُوخ، لِأَن هَذَا كَانَ فِي مَرضه الْقَدِيم، وَقد
صلى فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَالنَّاس خَلفه قيام
فَلم يَأْمُرهُم بِالْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ
بِالْآخرِ فالآخر من أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي
(3/95)
مُسْند أنس وَأبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة،
وَهَذَا كَلَام على الْكل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: أَن فَارس وَالروم يقومُونَ على
مُلُوكهمْ: أَي على رُؤُوس مُلُوكهمْ.
1391 - / 1686 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: جَاءَ عبد
فَبَايع على الْهِجْرَة وَلم يشْعر أَنه عبد، فجَاء سَيّده
يُريدهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
((بعنيه)) فَاشْتَرَاهُ بعبدين.
لما كَانَت الْهِجْرَة وَاجِبَة على من يقدر،
كَالْجُمُعَةِ مثلا، كَانَ العَبْد كالمعذور لموْضِع حبس
السَّيِّد لَهُ.
1392 - / 1687 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين:
النَّهْي عَن الْأكل بالشمال وَقد سبق فِي مُسْند ابْن
عمر.
1393 - / 1688 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: أَن
أم سَلمَة اسْتَأْذَنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي الْحجامَة، فَأمر أَبَا طيبَة أَن يحجمها، حسبت
أَنه قَالَ: كَانَ أخاها من الرضَاعَة، أَو غُلَاما لم
يَحْتَلِم.
قلت: مَتى اضطرت الْمَرْأَة إِلَى هَذَا وَلم تَجِد محرما
يحجمها وَلَا امْرَأَة، جَازَ أَن يحجمها أَجْنَبِي.
1394 - / 1689 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين
((إِذا رأى أحدكُم
(3/96)
الرُّؤْيَا يكرهها فليبصق عَن يسَاره))
وَقد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
1395 - / 1690 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: ((من
رَآنِي فِي النّوم فقد رَآنِي)) .
وَقد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة، وتكلمنا هُنَالك عَن
أَقسَام الرُّؤْيَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن رجلا قَالَ: رَأَيْت كَأَن
رَأْسِي ضرب فتدحرج، واشتددت فِي إثره. فَقَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تحدث النَّاس بتلعب
الشَّيْطَان بك)) وَهَذَا تَنْبِيه على أَن كل رُؤْيا
كَانَت من هَذَا الْجِنْس فَلَا يَنْبَغِي أَن يتحدث بهَا،
فَإِنَّهَا من الشَّيْطَان.
1396 - / 1691 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: أَن
عبدا لحاطب قَالَ: ليدخلن حَاطِب النَّار. فَقَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((كذبت، لَا يدخلهَا،
فَإِنَّهُ شهد بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة)) .
هَذَا حَاطِب بن أبي بلتعة. وَفِي هَذَا الحَدِيث بِشَارَة
لمن شهد بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة، وَقد قَالَ فِي أهل
بدر: ((لَعَلَّ الله اطلع على أهل بدر فَقَالَ: اعْمَلُوا
مَا شِئْتُم؛ فَإِنِّي قد غفرت لكم)) . وَقَالَ الله
تَعَالَى فِي أهل الْحُدَيْبِيَة: {لقد رَضِي الله عَن
الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة}
[الْفَتْح: 18] .
(3/97)
1397 - / 1692 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس
والثمانين: ((أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا
لَا إِلَه إِلَّا الله} فَذكر الحَدِيث وَقَرَأَ: {لست
عَلَيْهِم بمسيطر} [الغاشية: 22] أما الحَدِيث فقد تقدم
فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما المسيطر فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْمُسَلط.
قَالَ اللغويون: يُقَال: تسيطر وتصيطر بِالسِّين
وَالصَّاد، وَالْأَصْل السِّين، وكل سين بعْدهَا طاء يجوز
أَن تقلب صادا، كَمَا تَقول سطر وصطر، وسطا علينا وصطا.
وَلم يَأْتِ فِي كَلَام الْعَرَب اسْم على ((مفيعل))
إِلَّا خَمْسَة أَسمَاء: مسيطر وَهُوَ الْمُسَلط، ومهيمن
وَهُوَ الشَّاهِد، ومجيمر وَهُوَ اسْم جبل، ومبيطر أَي
بيطار، ومبيقر وَهُوَ الَّذِي خرج من أَرض إِلَى أَرض،
يُقَال: بيقر الرجل: إِذا خرج من بلد إِلَى بلد، قَالَ
امْرُؤ الْقَيْس.
(أَلا هَل أَتَاهَا والحوادث جمة ... بِأَن امْرأ الْقَيْس
بن تملك بيقرا) .
1398 - / 1693 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(3/98)
دخل مَكَّة يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ
عِمَامَة سَوْدَاء.
المُرَاد من هَذَا الحَدِيث أَنه دخل غير محرم. وَاعْلَم
أَن من أَرَادَ دُخُول مَكَّة لَا للنسك بل لحَاجَة، فَلَا
تَخْلُو هَذِه الْحَاجة من أَمريْن: إِمَّا أَن تكون
متكررة كالإحتطاب والإحتشاش فَهَذَا لَا يلْزمه
الْإِحْرَام.
وَإِمَّا أَن تكون غير متكررة كالتجارة، فَهَل يلْزمه
الْإِحْرَام أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد،
وقولان للشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من كَانَ من
أهل الْمِيقَات إِلَى مَكَّة لَا يلْزمه، وَمن كَانَ خَارج
الْمِيقَات لزمَه الْإِحْرَام. فَإِذا قُلْنَا: لَا يلْزم
الدَّاخِل لحَاجَة غير متكررة الْإِحْرَام فَلَا كَلَام،
وَإِن قُلْنَا: يلْزم، كَانَ دُخُول الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة غير محرم خَاصّا لَهُ،
بِدَلِيل قَوْله: ((وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من
نَهَار)) .
1399 - / 1695 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين:
فِيهِ شَيْء يتَعَلَّق بِالْقدرِ. وَقد سبق بَيَانه فِي
مُسْند عمر وَعلي وَعمْرَان بن حُصَيْن وَغَيرهم.
وَفِيه: أَرَأَيْت عُمْرَتنَا، لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟
وَفِيه: ((من لم يكن مَعَه هدي فليحلل)) وَقد سبق تَفْسِير
ذَلِك فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَغَيره.
1400 - / 1696 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((لَا تذبحوا
إِلَّا مُسِنَّة إِلَّا أَن يعسر عَلَيْكُم فتذبحوا
جَذَعَة من الضَّأْن)) .
(3/99)
المسنة: مَا لَهَا سنتَانِ وَأكْثر.
والجذعة من الضَّأْن: مَا كمل لَهُ سِتَّة أشهر وَدخل فِي
السَّابِع، فَأَما من الْمعز فَمَا لَهُ سنة وَقد دخل فِي
الثَّانِيَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: ولد الضَّأْن أول سنة
حمل، ثمَّ يكون جذعا فِي الثَّانِيَة، ثمَّ ثنيا، ثمَّ
رباعيا. وَولد المعزى أول سنة جدي، ثمَّ تنقله فِي
الْأَسْنَان مثل تنقل الْحمل. وَقَالَ ابْن فَارس: يُقَال
لأَوْلَاد الْغنم سَاعَة تضعه أمه من الضَّأْن والمعز
جَمِيعًا، ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى: سخلة، ثمَّ هُوَ
الْبَهِيمَة. فَإِذا أَتَى عَلَيْهَا الْحول وَدخلت فِي
الثَّانِيَة فَهِيَ جَذَعَة. فَإِذا أَتَت عَلَيْهَا
سنتَانِ وَدخلت فِي الثَّالِثَة فَهِيَ ثنية. وَقَالَ
الْأَزْهَرِي: الْجذع يخْتَلف فِي أَسْنَان الْإِبِل
وَالْخَيْل وَالْبَقر والشاه، وَيَنْبَغِي أَن يُفَسر قَول
الْعَرَب فِيهِ تَفْسِيرا مشبعا لحَاجَة النَّاس إِلَى
مَعْرفَته فِي أضاحيهم وصدقاتهم: فَأَما الْبَعِير
فَإِنَّهُ يجذع لاستكماله أَرْبَعَة أَعْوَام ودخوله فِي
الْخَامِسَة، وَأما الْجذع من الْخَيل فَقَالَ ابْن
الْأَعرَابِي: إِذا استتم الْفرس سنتَيْن وَدخل فِي
الثَّالِثَة فَهُوَ جذع، وَإِذا استتم الثَّالِثَة وَدخل
فِي الرَّابِعَة فَهُوَ ثني. وَأما الْجذع من الْبَقر
فَقَالَ الْأَصْمَعِي: إِذا طلع قرن الْعجل وَقبض عَلَيْهِ
فَهُوَ عضب، ثمَّ هُوَ بعد ذَلِك جذع، وَبعده ثني. وَقَالَ
عتبَة بن أبي حَكِيم: لَا يكون الْجذع من الْبَقر حَتَّى
يكون لَهُ سنتَانِ وَأول يَوْم من الثَّالِثَة.
وَاخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْجذع من الضَّأْن والمعز،
فَقَالَ أَبُو زيد فِي المعزى خَاصَّة: يكون جذعا فِي
السّنة الثَّانِيَة، ثمَّ ثنيا فِي الثَّالِثَة، ثمَّ
رباعيا فِي الرَّابِعَة، وَلم يذكر الضَّأْن. وَقَالَ ابْن
الْأَعرَابِي: الإجذاع وَقت وَلَيْسَ بسن. وَقَالَ:
(3/100)
والعناق تجذع لسنة، وَرُبمَا أجذعت العناق
قبل تَمام السّنة للخصب فتسمن فيسرع إجذاعها، فَهِيَ
جَذَعَة لسنة، وثنية لتَمام سنتَيْن. وَقَالَ
الْأَزْهَرِي: فرق ابْن الْأَعرَابِي بَين المعزى والضأن،
فَجعل الضَّأْن أسْرع إجذاعا، وَهَذَا الَّذِي قَالَ
إِنَّمَا يكون مَعَ خصب السّنة وَكَثْرَة اللَّبن والعشب.
وَقَالَ يحيى بن آدم: إِنَّمَا يَجْزِي الْجذع من الضَّأْن
فِي الْأَضَاحِي لِأَنَّهُ ينزو ويلقح، وَإِذا كَانَ من
المعزى لم يلقح حَتَّى يثني. وَقَالَ اللَّيْث: الْجذع من
الدَّوَابّ والأنعام أول مَا يُسْتَطَاع ركُوبه.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْخرقِيّ: سَمِعت أبي يَقُول:
سَأَلت بعض أهل الْبَادِيَة: كَيفَ تعرفُون الضَّأْن إِذا
أجذع؟ فَقَالُوا: لَا تزَال الصوفة قَائِمَة على ظَهره مَا
دَامَ حملا، فَإِذا نَامَتْ الصوفة على ظَهره علم أَنه قد
أجذع.
1401 - / 1697 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين:
كَانَ ينْبذ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
سقاء فَإِن لم يَجدوا سقاء نبذوا لَهُ فِي تور من
حِجَارَة. فَقيل لأبي الزبير: من برام؟ قَالَ: من برام.
السقاء: الْقرْبَة. قَالَ أَبُو زيد: يُقَال لمسك السخلة
مَا دَامَت ترْضع الشكوة، فَإِذا فطم فمسكة البدرة. قَالَ
فَإِذا أجذع فمسكة السقاء.
(3/101)
والتور كلمة فارسية: وَهُوَ اسْم آنِية من
حِجَارَة، مَعْرُوف. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ عَن أبي عبيد عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ:
وَمِمَّا دخل فِي كَلَام الْعَرَب الطست، والتور. وَهِي
فارسية. قَالَ شَيخنَا: وَقَالَ ابْن دُرَيْد: فَأَما
التور: الرَّسُول فعربي صَحِيح، وَأنْشد:
(والتور فِيمَا بَيْننَا معمل ... يرضى بِهِ المأتي
والمرسل)
المأتي: الَّذِي يُؤْتى فِي الرسَالَة، من قَول: أَتَيْته.
قَالَ: وَقَالَ ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي. التورة:
الْجَارِيَة الَّتِي ترسل بَين العشاق.
والبرام: نوع من الْحِجَارَة يعْمل مِنْهُ الْقُدُور.
وَكَانَ ينْبذ لَهُ فِي تِلْكَ الْأَوَانِي مَا يطْلب
نقيعه كالتمر وَالزَّبِيب وَغير ذَلِك.
1402 - / 1698 - وَقد سبق بَيَان الحَدِيث الثَّانِي
وَالتسْعين: عَن مُسْند ابْن عَبَّاس، والْحَدِيث
الثَّالِث وَالتسْعين فِي مُسْند النُّعْمَان بن بشير.
1403 - / 1700 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين:
((لايموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن الظَّن بِاللَّه عز
وَجل)) .
(3/102)
اعْلَم أَن الْخَوْف كالسوط يَسُوق النَّفس
لتسعى فِي الْعَمَل، فَإِذا نزل الْمَوْت كَانَ ككلال
الْبَعِير، فَيكون الرَّجَاء أولى، لِأَن المسوق قد كل
فَلَا فَائِدَة فِي ضربه بِسَوْط الْخَوْف. قَالَ
سُلَيْمَان التَّيْمِيّ لِابْنِهِ عِنْد الْمَوْت: اقْرَأ
عَليّ أَحَادِيث الرُّخص لألقى الله وَأَنا أحسن الظَّن
بِهِ.
1404 - / 1701 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: إِن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى امْرَأَة، فَأتى
امْرَأَته زَيْنَب وَهِي تمعس منيئة لَهَا، فَقضى حَاجته
ثمَّ خرج فَقَالَ: ((إِن الْمَرْأَة تقبل فِي صُورَة
شَيْطَان وتدبر فِي صُورَة شَيْطَان، فَإِذا أبْصر أحدكُم
امْرَأَة فليأت أَهله، فَإِن ذَلِك يرد مَا فِي نَفسه)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تمعس: تدبغ، وأصل المعس الدَّلْك.
والمنيئة: الْجلد مَا كَانَ فِي الدّباغ.
وَقَوله: ((فِي صُورَة شَيْطَان)) أَي إِن الشَّيْطَان
يزين أمرهَا ويحث عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يقوى ميل النَّاظر
إِلَيْهَا على قدر قُوَّة شبقه، فَإِذا جَامع أَهله قل
المحرك وَحصل الْبَدَل.
1405 - / 1702 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين:
أَوله قد تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَآخره فِي
حَدِيث ابْن عَبَّاس.
1406 - / 1703 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من يصعد
الثَّنية ثنية المرار - وَفِي لفظ - أَو المرار -
فَإِنَّهُ يحط عَنهُ مَا حط عَن بني إِسْرَائِيل)) وَكَانَ
أول من صعد خَيْلنَا خيل بني
(3/103)
الْخَزْرَج، ثمَّ تتام النَّاس، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وكلكم مغْفُور
لَهُ إِلَّا صَاحب الْجمل الْأَحْمَر)) فأتيناه،
فَقُلْنَا: تعال يسْتَغْفر لَك رَسُول الله. فَقَالَ:
وَالله لِأَن أجد ضالتي أحب إِلَيّ من أَن يسْتَغْفر لي
صَاحبكُم - وَكَانَ رجلا ينشد ضَالَّة لَهُ.
هَذَا كَانَ فِي غزَاة. وصعود هَذِه الثَّنية إِنَّمَا
كَانَ للإقدام على الْأَعْدَاء، وَصَاحب الْجمل الْأَحْمَر
كَانَ منافقا.
1407 - / 1704 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: أَن
الطُّفَيْل بن عَمْرو الدوسي قَالَ: يَا رَسُول الله، هَل
لَك فِي حصن حُصَيْن ومنعة. حصن كَانَ لدوس فِي
الْجَاهِلِيَّة. فَأبى ذَلِك رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم للَّذي ذخر الله للْأَنْصَار، فَلَمَّا
هَاجر إِلَى الْمَدِينَة هَاجر إِلَيْهِ الطُّفَيْل،
وَهَاجَر مَعَه رجل من قومه، فاجتووا الْمَدِينَة، فَمَرض
فجزع، فَأخذ مشاقص لَهُ فَقطع بهَا براجمه، فشخبت يَدَاهُ
حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْل فِي مَنَامه وهيئته
حَسَنَة، وَرَآهُ مغطيا يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا صنع بك
رَبك؟ . قَالَ: غفر لي لهجرتي إِلَى نبيه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَ: مَا لي أَرَاك مغطيا يَديك؟
قَالَ: قيل لي: لن نصلح مِنْك مَا أفسدت. فَقَصَّهَا
الطُّفَيْل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ وليديه فَاغْفِر)) .
أما امْتنَاع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
الْحصن فَإِن التحصن بالجدران فعل الجبان، وَإِنَّمَا
التحصن بِالسُّيُوفِ والمبارزة فعل الشجاع. وَسمي الْحصن
حصنا من الإمتناع. والمنعة: مَا تمنع. وَهَذَا إِنَّمَا
عرضه
(3/104)
عَلَيْهِ لما كَانَ بِمَكَّة.
واجتووا الْمَدِينَة: كرهوها وَلم توافقهم.
والمشاقص جمع مشقص: وَهُوَ نصل السهْم إِذا كَانَ طَويلا
وَلم يكن عريضا.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: والبراجم عِنْد الْعَرَب:
الفصوص الَّتِي فِي فضول ظُهُور الْأَصَابِع تبدو إِذا
جمعت، وَتغمضُ إِذا بسطت.
والرواجب: مَا بَين البراجم، بَين كل برجمتين راجبة.
وَقَوله: فشخبت يَدَاهُ. والشخب: مَا امْتَدَّ من اللَّبن
حَتَّى يسيل.
وَيُقَال: شخبت أوداج الْقَتِيل دَمًا، تَشْبِيها بذلك.
وَإِنَّمَا تركت يَدَاهُ على حَالهَا وَقد كَانَ يُمكن أَن
تعمها الْمَغْفِرَة فتصلح ليعلم قدر هَذَا الذَّنب، محذرا
السَّامع للْحَال من مثله.
1408 - / 1705 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين:
أَنه قَالَ لامْرَأَة: ((مَالك تزفزفين؟)) قَالَت: الْحمى،
لَا بَارك الله فِيهَا.
تزفزفين من الزفزفة وَهِي تَحْرِيك الرِّيَاح الْحَشِيش
حَتَّى يصوت، وَيُقَال للريح إِذا اشْتَدَّ هبوبها زفزافة،
لصوت حركتها. وَقد رَوَاهُ بَعضهم: ((ترفرفين)) بالراء
واجتح بِأَن الرفرفة تَحْرِيك الطَّائِر جناحيه، فَشبه
رعدتها للحمى وانزعاجها بتحريك الطَّائِر جناحيه، وَالْأول
أصح.
وَقَوله: فِي الْحمى: ((إِنَّهَا تذْهب الْخَطَايَا كَمَا
يذهب الْكِير
(3/105)
خبث الْحَدِيد)) قد سبق معنى الْكِير
والخبث. وَإِنَّمَا فعلت الْحمى فِي الْخَطَايَا هَذَا
لِأَن الإلتذاذ بِالْمَعَاصِي يكون بِالْقَلْبِ والجوارح،
والحمى حرارة تنشأ من الْقلب وتعم الْجَوَارِح، فَلَا
يبْقى فِي الْبدن - الَّذِي التذ - شَيْء إِلَّا تألم،
فَلذَلِك تصفيه من الْخَطَايَا.
1409 - / 1706 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: قد تقدم فِي
مُسْند ابْن مَسْعُود.
1410 - / 1707 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: دخل
عمر فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واجما.
الواجم: السَّاكِت لأمر يكرههُ كالمهتم بِهِ، يُقَال: وجم
يجم وجوما. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: وجم بِمَعْنى حزن.
قَوْله: لأقولن شَيْئا أضْحك رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. دَلِيل على جَوَاز التحديث بِحَدِيث
يضْحك.
قَوْله: فوجأ عُنُقهَا. يُقَال: وجأ عُنُقه يجأها: إِذا
دقها.
وَبَاقِي الحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند عمر.
1411 - / 1709 - والْحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: قد
تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
(3/106)
1412 - / 1710 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع
بعد الْمِائَة: ((أَلا لَا يبيتن رجل عِنْد امْرَأَة ثيب
إِلَّا أَن يكون ناكحا أَو ذَا محرم)) .
إِنَّمَا خص الثّيّب بِالذكر وَإِن كَانَت الْبكر فِي
حكمهَا أَيْضا؛ لِأَن الْبكر كالشيء الْمَخْتُوم عَلَيْهِ،
وَلها زواجر من نَفسهَا: مِنْهَا كَونهَا لم تعرف هَذَا
الْفَنّ وَلم تذق لذته، وَمِنْهَا شدَّة الْحيَاء لبعدها
عَن الرِّجَال، وَمِنْهَا حذرها من الْأَلَم، وَمِنْهَا
خوف الفضيحة، وكل هَذِه الْأَشْيَاء تقاوم مَا تؤثره
فَتَردهُ أَو تقفه، وللرجل من جملَة زواجره خَوفه الفضيحة
بافتضاضها، وَالثَّيِّب قد ارْتَفَعت هَذِه الْمَوَانِع
فِي حَقّهَا، فَلذَلِك خصت بِالذكر.
1413 - / 1711 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة:
((فَإِن قِرَاءَة آخر اللَّيْل محضورة)) .
أَي تحضرها الْمَلَائِكَة.
1414 - / 1712 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة:
إِن من اللَّيْل سَاعَة لَا يُوَافِقهَا مُسلم يسْأَل الله
خيرا إِلَّا أعطَاهُ.
إِنَّمَا سترت هَذِه السَّاعَة وَلم تعين ليقوى الْحِرْص
فِي طلبَهَا فيكثر التَّعَبُّد، كَمَا أخفيت سَاعَة
الْجُمُعَة وَلَيْلَة الْقدر، وَلَو عينت لخصها النَّاس
بِالطَّلَبِ وَترك مَا سواهَا.
1415 - / 1713 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة:
((الإستجمار تو)) .
قد فسر هَذَا الحَدِيث، وَأَنه كالوتر، كالثلاثة والخمسة
والسبعة
(3/107)
وَمَا كَانَ فَردا.
1416 - / 1714 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة:
((لَا يحل حمل السِّلَاح بِمَكَّة)) .
الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى تَحْرِيم الْقِتَال بِمَكَّة.
وَإِنَّمَا أحلّت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
سَاعَة من نَهَار.
1417 - / 1715 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة:
سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور فَقَالَ: زجر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك.
أما الْكَلَام فِي ثمن الْكَلْب فقد سبق فِي مُسْند أبي
جُحَيْفَة.
وَأما بيع السنور فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي
جَوَاز بيع السنور. فَروِيَ عَنهُ: يجوز، وَهِي اخْتِيَار
الْخرقِيّ وَمذهب الشَّافِعِي.
وَعَن أَحْمد: لَا يجوز، وَهِي اخْتِيَار أبي بكر عبد
الْعَزِيز بن جَعْفَر، وَهِي أصح لهَذَا الحَدِيث، وَلِأَن
السنور كالوحشي الَّذِي لَا يملك قياده، وَلَا يكَاد يَصح
التَّسْلِيم فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قد يألف بعض الْأَمَاكِن
مُدَّة ثمَّ ينْتَقل عَنْهَا إِلَى غَيرهَا، وَلَيْسَ
كالدواب الَّتِي ترْبط وتحبس، وَلَو ربطه المُشْتَرِي
وحبسه لم ينْتَفع بِهِ. وَيحْتَمل أَن يكون نهى عَن بيع
هَذِه الْأَشْيَاء ليرتفق بهَا النَّاس وَلَا يَأْخُذُوا
لَهَا ثمنا.
1418 - / 1716 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَة:
أَن امْرَأَة سرقت،
(3/108)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
((وَالله، لَو أَن فَاطِمَة سرقت لَقطعت يَدهَا)) .
وَإِنَّمَا قَالَ: لَو كَانَت فَاطِمَة، لِأَن تِلْكَ
الْمَرْأَة اسْمهَا فَاطِمَة، فَقَالَ: لَو كَانَت
فَاطِمَة ابْنَتي. وَسَتَأْتِي قصَّة هَذَا الْمَرْأَة
مشروحة فِي مُسْند عَائِشَة.
1419 - / 1719 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد
الْمِائَة: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير. فَمَا زَالَ الرجل
يَأْكُل مِنْهُ وضيفهما حَتَّى كاله، فَأتى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((لَو لم تكله لأكلتم مِنْهُ
ولقام لكم)) .
الشّطْر: النّصْف. والوسق: سِتُّونَ صَاعا. وَقَوله:
((لقام لكم)) أَي بَقِي، وَكَانَت الْبركَة تنزل فِي ذَلِك
الطَّعَام فاستطال الرجل مدَّته فكاله، ينظر مَا بَقِي،
فَلَمَّا وقف مَعَ الْعَادَات وكل إِلَيْهَا كَمَا وقف
المَاء حِين زمته هَاجر.
1420 - / 1720 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر بعد
الْمِائَة: أَن أم مَالك كَانَت تهدي للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي عكة لَهَا سمنا، فيأتيها بنوها
فَيسْأَلُونَ الْأدم، فتعمد إِلَى الَّتِي كَانَت تهدي
فِيهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتجد فِيهَا
سمنا، فَمَا زَالَ يُقيم لَهَا أَدَم بَيتهَا حَتَّى
عصرته.
أم مَالك هِيَ بنت أبي بن مَالك بن عيد، من بني
الْخَزْرَج، أسلمت، وبايعت. وَهَذَا الحَدِيث من جنس
الحَدِيث الَّذِي قبله.
(3/109)
والعكة: كل مَا يوضع فِيهِ السّمن من ظروف
الْأدم.
1421 - / 1722 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد
الْمِائَة: ((لَا يدْخل أحدكُم الْجنَّة عمله وَلَا يجيره
من النَّار وَلَا أَنا إِلَّا برحمة الله)) وَفِي لفظ:
((قاربوا وسددوا)) وَقَالَ: ((إِلَّا أَن يتغمدني برحمة
مِنْهُ)) .
السداد: الإستقامة وَلُزُوم الصَّوَاب.
وَقَوله: ((يتغمدني)) قَالَ أَبُو عبيد: أَي يلبسني
ويغشيني. قَالَ: وَلَا أَحْسبهُ مأخوذا إِلَّا من غمد
السَّيْف، لِأَنَّك إِذا أغمدته فقد ألبسته الغمد.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ((لَا يدْخل أحد مِنْكُم
الْجنَّة عمله)) وَقد قَالَ: {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا
كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 32] ؟ فَالْجَوَاب: من
أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَنه لَوْلَا رَحْمَة الله
السَّابِقَة الَّتِي كتب بهَا الْإِيمَان فِي الْقُلُوب
ووفق للطاعات مَا نجا أحد وَلَا وَقع عمل تحصل بِهِ
النجَاة، فالتوفيق للْعَمَل من رَحمته أَيْضا.
وَالثَّانِي: أَن مَنَافِع العَبْد لسَيِّده، فعمله
مُسْتَحقّ لمَوْلَاهُ، فَإِن أنعم عَلَيْهِ بالجزاء
فَذَلِك بفضله، كَالْمكَاتبِ مَعَ الْمولى. وَالثَّالِث:
أَنه قد رُوِيَ فِي بعض الْأَحَادِيث أَن نفس دُخُول
الْجنَّة بِالرَّحْمَةِ، واقتسام الدَّرَجَات
بِالْأَعْمَالِ. وَالرَّابِع: أَن أَعمال الطَّاعَات
كَانَت فِي زمن يسير، وثوابها لَا يبيد أبدا، فالمقام
الَّذِي لَا ينْفد فِي جَزَاء مَا نفد بِفضل الله لَا
بِمُقَابلَة الْأَعْمَال.
1422 - / 1723 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد
الْمِائَة: كَانَ عبد الله ابْن أبي ابْن سلول يَقُول
لجارية لَهُ: اذهبي فابغينا شَيْئا. فَأنْزل الله عز
(3/110)
وَجل: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على
الْبغاء} الْآيَة [النُّور: 33] .
كَانَ الْقَوْم فِي الْجَاهِلِيَّة يكْرهُونَ فتياتهم على
الزِّنَا وَيَأْخُذُونَ أُجُورهنَّ: فَلَمَّا جَاءَ
الْإِسْلَام كَانَ ابْن أبي يكره جواريه. وَفِي هَذَا
الحَدِيث اسْم جاريتين لَهُ: أُمَيْمَة ومسيكة، وأنهما
شكتا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك
فَنزلت الْآيَة. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: معَاذَة ومسيكه،
وَأَن معَاذَة قَالَت لمسيكة: إِن هَذَا الْأَمر الَّذِي
نَحن فِيهِ إِن كَانَ خيرا فقد استكثرنا مِنْهُ، وَإِن
كَانَ شرا فقد آن لنا أَن ندعه، فَنزلت الْآيَة. وَزعم
مقَاتل أَنَّهَا نزلت فِي سِتّ جوَار كن لعبد الله بن أبي:
معَاذَة ومسيكة وَأُمَيْمَة وَقتيلَة وَعمرَة وأروى.
والبغاء: الزِّنَا. والتحصن: التعفف.
والإشكال فِي هَذِه الْآيَة أَن يُقَال: كَيفَ قَالَ: {إِن
أردن تَحَصُّنًا} فَيجوز إكراههن إِن لم يردن التحصن.
فَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن الْكَلَام
ورد على السَّبَب الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَخرج النَّهْي على
صفة السَّبَب وَإِن لم يكن شرطا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنه
إِنَّمَا شَرط إِرَادَة التحصن لِأَن الْإِكْرَاه لَا
يتَصَوَّر إِلَّا عِنْد إِرَادَة التحصن، فَأَما إِذا لم
ترد الْمَرْأَة التحصن فَإِنَّهَا تبغي بالطبع.
وَالثَّالِث: أَن (إِن) بِمَعْنى إِذْ، وَمثله: {وذروا مَا
بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} [الْبَقَرَة: 278]
. وَالرَّابِع: أَن فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وتأخيرا،
تَقْدِيره: وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم. . إِلَى
قَوْله: وَإِمَائِكُمْ إِن أردن تَحَصُّنًا، وَلَا
تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء لتبتغوا
(3/111)
عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمن يكرههن
فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور للمكرهات رَحِيم.
1423 - / 1724 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد
الْمِائَة: ((يبْعَث كل عبد على مَاتَ عَلَيْهِ)) .
اعْلَم أَن الْإِنْسَان قد يبْقى زَمَانا على الْكفْر ثمَّ
ينْتَقل إِلَى الْإِيمَان، أَو على الْمعاصِي ثمَّ ينْتَقل
إِلَى الطَّاعَة. وَقد يكون على الْإِيمَان وَالطَّاعَة
فَينْتَقل إِلَى الْكفْر والمعاصي، فالأحوال تَتَغَيَّر
وتتقلب فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَل على الخواتيم، فَإِذا
مَاتَ الْإِنْسَان على حَالَة فقد ختم لَهُ بهَا،
فعلَيْهَا يبْعَث.
1424 - / 1726 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الْمِائَة:
كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
غزَاة فَقَالَ: ((إِن بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا
سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ وَاديا إِلَّا كَانُوا
مَعكُمْ، حَبسهم الْمَرَض)) .
هَؤُلَاءِ قوم صدقت نياتهم فِي الْخُرُوج إِلَى تِلْكَ
الْغُزَاة، فحبسهم الْقدر بِالْمرضِ، فَكَانُوا
كَأَنَّهُمْ غزوا، وعَلى هَذَا جَمِيع أَفعَال الْخَيْر
مَتى نَوَاهَا الْإِنْسَان فَمَنعه الْقدر، كتب لَهُ
ثَوَاب الْفِعْل. وَمن جنس هَذَا: {قد صدقت الرءيا}
[الصافات: 105] وَرُبمَا زَادَت النِّيَّة الصادقة
(3/112)
على الْفِعْل، لِأَن الْفَاعِل قد يُلَاحظ
عمله، والممنوع بالعذر لَا يرى إِلَّا عَجزه.
1425 - / 1727 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين
بعد الْمِائَة: (مثل الصَّلَوَات كَمثل نهر جَار غمر،
فَمَا يبقي من الدَّرن؟)) .
الْغمر: المَاء الْكثير. والدرن: الْوَسخ.
1426 - / 1728 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين
بعد الْمِائَة: ((إِن الشَّيْطَان قد يئس أَن يعبده
المصلون فِي جَزِيرَة الْعَرَب، وَلَكِن فِي التحريش
بنيهم)) .
قد سبق اشتقاق اسْم الشَّيْطَان. وَقد ذكرنَا حد جَزِيرَة
الْعَرَب فِي مُسْند عمر.
والتحريش: الإغراء. وَالْمعْنَى أَنه يجْتَهد فِي إِفْسَاد
مَا بَينهم من التواصل ليَقَع التباغض.
1427 - / 1729 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين
بعد الْمِائَة: ذكر التَّنَفُّل فِي الْبَيْت. وَقد سبق
بَيَانه فِي مُسْند زيد بن ثَابت وَابْن عمر.
وَسبق تَفْسِير مَا بعده.
1428 - / 1730 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين
بعد الْمِائَة: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(3/113)
قدم من سفر، فَلَمَّا كَانَ قرب
الْمَدِينَة هَاجَتْ ريح تكَاد تدفن الرَّاكِب، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بعثت هَذِه الرّيح
لمَوْت مُنَافِق)) فَلَمَّا قدمُوا الْمَدِينَة إِذا
مُنَافِق عَظِيم من الْمُنَافِقين قد مَاتَ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا القفول كَانَ فِي غَزْوَة
الْمُريْسِيع، وَكَانَ بَين عُيَيْنَة ابْن حصن
الْفَزارِيّ وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُدَّة، فخاف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن يكون عُيَيْنَة قد أغار على الْمَدِينَة،
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَيْسَ
عَلَيْكُم بَأْس، مَا بِالْمَدِينَةِ من نقب إِلَّا
عَلَيْهِ ملك، وَمَا كَانَ ليدخلها عَدو حَتَّى تأتوها،
وَلكنه مَاتَ الْيَوْم رجل من الْمُنَافِقين عَظِيم،
وَلذَلِك عصفت هَذِه الرّيح)) وَهُوَ زيد بن رِفَاعَة بن
التابوت.
1429 - / 1732 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين
بعد الْمِائَة: أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بيَدي إِلَى منزله، فَأخْرج إِلَيْهِ فلقا من خبز فَقَالَ:
((مَا من أَدَم؟)) فَقَالُوا: لَا، إِلَّا شَيْء من خل،
قَالَ: ((فَإِن الْخلّ نعم الْأدم)) - وَفِي لفظ -: فَأتي
بِثَلَاثَة قرصة فوضعن على نَبِي.
الفلق: الْقطع، وَالْمرَاد بهَا الأرغفة.
وَقَوله: ((نعم الإدام الْخلّ)) يشْتَمل على مَعْنيين
وَحكم: فَالْمَعْنى الأول: مدح الْخلّ فِي نَفسه، وَله
فَوَائِد مِنْهَا: أَنه ينفع الْمعدة، ويقمع الصَّفْرَاء،
وَيقطع البلغم، ويشهي الطَّعَام، إِلَى غير ذَلِك من
الْفَوَائِد. وَالثَّانِي: أَنه نبه بذلك، على مدح
الإقتصاد فِي المأكل، وَمنع النَّفس من ملاذ الطَّعَام،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: ائتدموا بِمَا خفت مُؤْنَته
(3/114)
وَسَهل وجوده، فَإِن من تعود التأنف فِي
الْمطعم لم يصبر عَنهُ، وَطيب الطَّعَام يحمل على
الشِّبَع، وَقل أَن يسلم تَحْصِيله من شُبْهَة. وَأما
الحكم فَإِنَّهُ سَمَّاهُ أدما، لِأَنَّهُ يصطبغ بِهِ، وكل
شَيْء يصطبغ بِهِ يلْزمه اسْم الإدام، كَذَلِك قَالَ أهل
اللُّغَة، مِنْهُم أَبُو عبيد. وَفَائِدَة هَذَا أَنه لَو
حلف حَالف: لَا أكلت أدما، فَأكل الْخلّ أَو بعض مَا يصطبغ
بِهِ حنث.
وَقَوله: فَأتي بِثَلَاثَة قرصة. القرصة جمع قرص.
وَالنَّبِيّ غير مَهْمُوز: الشَّيْء الْمُرْتَفع، مَأْخُوذ
من النباوة وَهِي الإرتفاع، فَإِذا همز فَهُوَ من النبأ،
وَهُوَ الْخَبَر.
(3/115)
|