كشف المشكل من حديث الصحيحين

 (78) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي سعيد بن مَالك الْخُدْرِيّ

وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْخُدْرِيّ لِأَن فِي آبَائِهِ الأبجر بن عَوْف، وَكَانَ يُقَال للأبجر: خدرة. وَقَالَ قوم: خدرة هِيَ أم الأبجر.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف حَدِيث وَمِائَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا.
أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مائَة وَأحد عشر حَدِيثا.
1430 - / 1733 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: ((فيغزو فِئَام من النَّاس)) .
الفئام بِالْهَمْز. الْجَمَاعَة.
والبعث: قوم يبعثون فِي الْغَزْو.
1431 - / 1734 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((يَأْتِي الدَّجَّال وَهُوَ محرم عَلَيْهِ أَن يدْخل نقاب الْمَدِينَة)) .
النقاب جمع نقب: وَهُوَ الطَّرِيق فِي الْجَبَل.

(3/116)


المسالح: الْجراحَة فِي الجبين.
والشج: الْجراحَة فِي الجبين.
والميشار فِيهِ ثَلَاث لُغَات: ميشار بِإِسْكَان الْيَاء. ومئشار بِالْهَمْز. ومنشار بالنُّون. وَالْجمع مياشير، ومآشير، ومناشير. وَقد وشرت الْخَشَبَة وأشرتها ونشرتها بِمَعْنى.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الدَّجَّال يقتل رجلا ثمَّ يحييه. وَقد أشكل هَذَا على قوم فَقَالُوا: قد كَانَ إحْيَاء الْمَوْتَى أكبر معجزات عِيسَى، فَكيف قدر عَلَيْهِ هَذَا الْكذَّاب؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك وَقع امتحانا ليَكُون الْعَمَل على الدَّلِيل الدَّافِع للشُّبْهَة، وَقد ثَبت أَن الدَّجَّال كَاذِب فِي دَعْوَاهُ، وَكَونه جسما يَكْفِي، ثمَّ قد شين بِالْعَيْبِ والعور، فَلَو كَانَ رَبًّا لدفع عَن نَفسه النَّقْص، فَهَذِهِ حجج تدحض شبهه، بِخِلَاف آيَات الْأَنْبِيَاء، إِذْ لَيْسَ لَهَا داحض. ثمَّ لم تتْرك هَذِه الشُّبْهَة حَتَّى دفعت فِي الْحَال؛ فَإِن فِي هَذَا الحَدِيث أَنه يهم بقتْله مرّة أُخْرَى فَلَا يقدر، وَيَأْمُر بقتْله فَلَا يَصح لَهُ، وَيَأْخُذهُ ليذبحه فَيضْرب على رقبته نُحَاس فَلَا يُمكنهُ، فَمَا نَفعه الْفِعْل الأول حِين افتضح فِي الثَّانِي، فَعلم أَن الأول كَانَ من الله عز وَجل ليقيم الشُّبْهَة بِإِزَاءِ الْحجَّة، ويفرض على الْعقل دحضها.
1432 - / 1735 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: نهى عَن اختناث الأسقية.
قَالَ أَبُو عبيد: الاختناث: أَن يثني أفواهها ثمَّ يشرب مِنْهَا، وأصل الإختناث التكسر والتثني، وَمن هَذَا سمي المخنث لتكسره.

(3/117)


وَقد ذكرنَا وَجه الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن ذَلِك فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1433 - / 1736 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((يَمْرُقُونَ من الدّين مروق السهْم من الرَّمية، فَينْظر الرَّامِي إِلَى سَهْمه، إِلَى نصله، إِلَى رصافه. فيتمارى فِي الفوقة: هَل علق بهَا من الدَّم شَيْء؟)) .
قَوْله: ((يَمْرُقُونَ من الدّين مروق السهْم من الرَّمية)) قد فسرناه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
قَوْله: ((ينظر الرَّامِي إِلَى سَهْمه)) السهْم: هُوَ الَّذِي يرْمى بِهِ. والنصل: حَدِيدَة السهْم. قَالَ أَبُو عبيد: والرصاف: الْعقب الَّذِي فَوق الرعظ: وَهُوَ مدْخل سنخ النصل فِي السهْم. وَوَاحِد الرصاف رصفة ورصفة. والفوق والفوقة: مَوضِع الْوتر. والقدح. السهْم. وَفِي لفظ: ((ينظر إِلَى نضيه، ثمَّ ينظر إِلَى قذذه)) النضي مُخْتَلف فِيهِ:
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: هُوَ نصل السهْم. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ الْقدح قبل أَن ينحت، فَإِذا نحت فَهُوَ مخشوب، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: والقذذ: ريش السهْم، كل وَاحِدَة مِنْهُ قُذَّة.
وَقَوله: ((سبق الفرث)) وَهُوَ مَا فِي الكرش. وَالْمعْنَى: إِن هَذَا السهْم مر مرا سَرِيعا فِي الرَّمية وَخرج فَلم يعلق بِهِ من الفرث وَالدَّم شَيْء، فَشبه خُرُوجهمْ من الدّين لم يعلقوا مِنْهُ بِشَيْء بِخُرُوج ذَلِك السهْم.

(3/118)


وَأما قَول ذِي الْخوَيْصِرَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اعْدِلْ)) فَإِن أصل هَذَا الضلال أَن يرتضي الْإِنْسَان رَأْي نَفسه، فَلَو أَن هَذَا الرجل وفْق لعلم أَنه لَا رَأْي فَوق رَأْي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه وَأَصْحَابه ردوا على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله، وحاربوا عليا عَلَيْهِ السَّلَام، يَزْعمُونَ أَنه أَخطَأ فِي تحكيمه، وَإِذا ظن الْإِنْسَان من هَؤُلَاءِ أَنه أتقى من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأعلم من عَليّ ابْن أبي طَالب لم يبْق مَعَه حَدِيث. وعَلى هَذَا كثير من الْعَوام، يَعْتَقِدُونَ الشَّيْء الْخَطَأ من الْعلم الَّذِي لم يتشاغلوا بِهِ، فَلَا يقدر الْعَالم أَن يردهم عَنهُ، وَسَببه اقتناعهم بآرائهم وإعجابهم بهَا. فَيَنْبَغِي أَلا ينزعج الْعَالم إِذا ردوا عَلَيْهِ، فقد جرى لهَذَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يسلي.
وَالتَّاء فِي ((خبت وخسرت)) مَفْتُوحَة، وَبَعْضهمْ يضمها، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر.
وَقَوله: ((إِن لَهُ أصحابا يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم)) يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه نهى عَن قَتله لِئَلَّا يُقَال: قتل الْمُصَلِّين الْعباد.
وَفِي هَذِه الْقِصَّة تَنْبِيه على شرف الْعلم؛ لِأَن هَؤُلَاءِ اشتغلوا بالتعبد عَن الْعلم، فضيعوا الْأُصُول. وَكم من متزهد شغله الصَّلَاة وَالصَّوْم وَهُوَ مفرط فِي أصُول كَثِيرَة، والشيطان يلْعَب بِهِ لقلَّة علمه، وَأَقل مَا يصنع بِهِ أَنه يرِيه أَنه خير من غَيره.
وَأما الْبضْعَة فَهِيَ الْقطعَة من اللَّحْم.
وَقَوله: ((تدَرْدر)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تذْهب وتجىء، وَمثله تدلدل وتذبذب.

(3/119)


وَقَوله: ((يخرجُون على حِين فرقة من النَّاس)) وَهَذَا من إِخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الغائبات، فَكَانَت كَمَا قَالَ؛ لِأَن الْخَوَارِج خَرجُوا على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد افْتِرَاق من النَّاس، وَذَلِكَ بعد تحكيمه الْحكمَيْنِ وَمَا جرى لَهُ مَعَ مُعَاوِيَة.
وَقَوله: ((بذهيبة)) تَصْغِير ذهب. فِي تربَتهَا. أَي قد أخرجت من الْمَعْدن وَلم تخلص من ترابها. ويجىء فِي رِوَايَة أُخْرَى: فِي أَدِيم مقروظ. أَي مدبوغ بالقرظ: وَهُوَ ورق السّلم.
وَقَوله: ((غائر الْعَينَيْنِ)) يُقَال: غارت الْعين: إِذا دخلت إِلَى دَاخل الحدقة.
وَقَوله: ((ناتئ الْجَبْهَة)) . يُقَال: نتأ الشَّيْء: إِذا خرج عَن مَوْضِعه وارتفع عَن مَكَانَهُ من غير أَن يبين.
وَقَوله: ((كث اللِّحْيَة)) ، واللحية الكثة: المجتمعة.
وَقَوله: ((مشرف)) بِالْفَاءِ يَعْنِي أَنَّهُمَا ناتئتان.
وقفى بِمَعْنى ولى.
والضئضىء هَا هُنَا بِمَعْنى النَّسْل والعقب.
وَقَوله: ((يقتلُون أهل الْإِسْلَام وَيدعونَ أهل الْأَوْثَان)) هَذَا من تسويل الشَّيْطَان للْقَوْم وتزيينه لَهُم، فَإِنَّهُ لما أحس بقلة عُقُولهمْ ملكهَا.
وَقَوله: ((لأقتلنهم قتل عَاد)) . أَي أستأصلهم، فَإِن عادا استؤصلوا.

(3/120)


فَإِن قيل: فقد قَالَ لَهُ عمر، وَفِي رِوَايَة: خَالِد: أقتل هَذَا؟ فَقَالَ: ((لَا)) . فَالْجَوَاب أَنه أَرَادَ إِدْرَاك خُرُوجهمْ بِالسِّلَاحِ على الْأَئِمَّة. وَحِينَئِذٍ يسْتَحقُّونَ الْقَتْل.
والتسبيد مثل التحليق. يُقَال: سبد رَأسه: إِذا حلقه. وَإِنَّمَا حَلقُوا شُعُورهمْ رفضا لزينة الدُّنْيَا. وَكثير من جهال المتزهدين لَا يعْرفُونَ مَا يصلح تَركه من الدُّنْيَا وَمَا لَا يصلح.
والبصيرة: الْقطعَة من الدَّم إِذا وَقعت على الأَرْض استدارت.
وَقَوله: ((يقرأون كتاب الله رطبا)) فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الحذق بالتلاوة، وَالْمعْنَى أَنهم يأْتونَ بِهِ على أحسن أَحْوَاله: وَالثَّانِي: يواظبون على التِّلَاوَة فَلَا تزَال ألسنتهم رطبَة بِهِ. وَالثَّالِث: أَن يكون من حسن الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَوله: ((تقتلهم أدنى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحق)) . أَي أقربهما. وَأَرَادَ بالطائفتين هم ومخاصمهم.
1434 - / 1737 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كُنَّا نرْزق تمر الْجمع على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ الْخَلْط من التَّمْر، فَكُنَّا نبيع صَاعَيْنِ بِصَاع، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((لَا صَاعَيْنِ تَمرا بِصَاع، وَلَا صَاعَيْنِ حِنْطَة بِصَاع، وَلَا دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ)) .
أما تمر الْجمع فَهُوَ التَّمْر الْمُخْتَلط من كل جنس، وَيُقَال: مَا أَكثر الْجمع فِي أَرض فلَان، لنخل خرج من النَّوَى لَا ينْسب إِلَى شَيْء من أَصْنَاف التَّمْر الْمَعْرُوفَة.

(3/121)


وَقَوله: ((أوه، عين الرِّبَا)) أَي هَذَا عين الرِّبَا. وَذكر التأوه دَلِيل التألم من هَذَا الْفِعْل أَو من سوء الْفَهم.
وَقَول بِلَال: بِعْت صَاعَيْنِ بِصَاع لمطعم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. هَذَا دَلِيل على تخير الأجود للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن هَذَا مَا تقدم فِي حَدِيث أبي بكر: أَنه برد اللَّبن وَطلب لَهُ الظل وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يتَخَيَّر لنَفسِهِ الأجود، كَقَوْلِه: ((إِن كَانَ عنْدكُمْ مَاء بَات فِي شن وَإِلَّا كرعنا)) وكل هَذِه الْأَشْيَاء من الرِّفْق بِالنَّفسِ لِأَن لَهَا حَقًا. وجهال المتزهدين يحملون على النُّفُوس مَا لَا تطِيق، جهلا مِنْهُم بالحكمة.
وَقَوله: ((لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب إِلَّا مثلا بِمثل)) قد ذكرنَا الْأَعْيَان السِّتَّة الَّتِي يجْرِي فِيهَا الرِّبَا فِي مُسْند عبَادَة.
وَقَوله: ((لَا تشفوا بَعْضهَا على بعض)) أَي لَا تفضلوا وَلَا تَزِيدُوا.
والشفوف: الزِّيَادَة، يُقَال: شف يشف: إِذا زَاد. وَقد يُقَال: شف: إِذا نقص، فَهُوَ من الأضداد.
وَقَوله: ((فقد أربى)) أَي دخل فِي الرِّبَا.
وَقَوله: ((وَلَا تَبِيعُوا غَائِبا مِنْهَا بناجز)) هَذَا نهي عَن رَبًّا النَّسِيئَة.
وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
1435 - / 1738 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ((إِذا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَة فَقومُوا،

(3/122)


فَمن تبعها فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع)) .
أما الْقيام للجنازة فقد سبق أَنه مَنْسُوخ، فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَأما قَوْله: ((حَتَّى تُوضَع)) فَإنَّا كُنَّا نقُول: تُوضَع عَن أَعْنَاق الرِّجَال، حَتَّى رَأينَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((حَتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد)) . وَفِي لفظ أخرجه مُسلم: ((حَتَّى تُوضَع فِي الْقَبْر)) وَوجه ذَلِك أَن التَّابِع للشَّيْء يكون بِحكمِهِ، فَمن قعد قبل وَضعهَا فَمَا تأدب لَهَا، وَلَا كَأَنَّهُ تبعها، ووضعها على الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَبْر، فَلَا اعْتِبَار بحطها عَن الرؤوس. ثمَّ رَأينَا أَبَا بكر الْأَثْرَم وَكَانَ من كبار الْعلمَاء - يَقُول: إِنَّمَا المُرَاد بِهِ: حَتَّى تُوضَع عَن مناكب الرِّجَال، وَاحْتج بِحَدِيث الْبَراء: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْر وَلما يلْحد، فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حوله. قَالَ: وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة غلط من أبي مُعَاوِيَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. وَإِنَّمَا رَوَاهُ سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((من تبع جَنَازَة فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع)) فغلط أَبُو مُعَاوِيَة فِي إِسْنَاده وَفِي كَلَامه. قلت: وَيُمكن أَن يُقَال: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا جلس هُنَاكَ لِأَنَّهُ لم يكمل حفر الْقَبْر فَرَأى الْأَمر يطول، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ محفورا.

(3/123)


1436 - / 1739 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: اعتكفنا الْعشْر الْأَوْسَط، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَة عشْرين نقلنا متاعنا، وهاجت السَّمَاء، وَكَانَ الْمَسْجِد على عَرِيش، فَرَأَيْت على أرنبته - وَفِي لفظ: رَوْثَة أَنفه - الطين وَالْمَاء.
الِاعْتِكَاف: اللّّبْث بِالْمَكَانِ.
وَالْمَتَاع: مَا كَانُوا يستعملونه فِي مُدَّة الإعتكاف من الْآلَات وَغَيرهَا.
وهاجت السَّمَاء: أَي ثارت بالغيم وعلامات الْمَطَر.
والعريش: مَا يستظل بِهِ، وَإِذا جمع قيل عرش.
والأرنبة: مقدم الْأنف. والروثة: طرف الأرنبة.
والقبة التركية: الَّتِي لَهَا بَاب وَاحِد.
والسدة: الْبَاب.
والجريد: سقف النّخل إِذا يبس وجرد مَا عَلَيْهِ من الخوص.
ورطبه يُسمى الشطب، واحدتها شطبة. وَقد يُقَال لَهُ سعف، على معنى أَنه يؤول إِلَى تِلْكَ الْحَال.
والقزعة وَاحِد القزع: وَهِي قطع السَّحَاب.
وتقويض الْبناء: نقضه من غير هدم.
وأثبتت لَهُ من الْإِثْبَات، هَكَذَا ضَبطه الْمُحَقِّقُونَ بالثاء. وَبَعض قرأة الحَدِيث يَقُول: أبينت من الْبَيَان.
ويحتقان: يختصمان، أَي يَدعِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن الْحق مَعَه.

(3/124)


يُقَال: حاق فلَان فلَانا: إِذا خاصمه وَادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا الْحق، فَإِذا غَلبه قيل: حَقه وأحقه.
1437 - / 1741 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: نهى عَن الْمُلَامسَة، والمنابذة، واشتمال الصماء، وَأَن يحتبي الرجل بِثَوْب لَيْسَ على فرجه مِنْهُ شَيْء.
قد ذكر أَبُو عبيد فِي الْمُلَامسَة قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه: إِذا لمست ثوبي أَو لمست ثَوْبك فقد وَجب البيع بِكَذَا وَكَذَا.
وَالثَّانِي: أَن يلمس الْمَتَاع من وَرَاء الثَّوْب وَلَا ينظر إِلَيْهِ، فَيَقَع البيع على ذَلِك.
وَذكر فِي الْمُنَابذَة قَوْلَيْنِ أَيْضا: أَحدهمَا: أَن يَقُول لَهُ: انبذ إِلَيّ الثَّوْب، أَو أنبذه إِلَيْك وَقد وَجب البيع بِكَذَا وَكَذَا. وَالثَّانِي: أَن يَقُول إِذا نبذت الْحَصَاة فقد وَجب البيع، وَهُوَ معنى نَهْيه عَن بيع الْحَصَا.
وَأما اشْتِمَال الصماء فقد فسر فِي الحَدِيث، وَقد زدناه شرحا فِي مُسْند جَابر، وَذكرنَا هُنَاكَ الإحتباء بِالثَّوْبِ لَيْسَ على الْفرج مِنْهُ شَيْء.
1438 - / 1743 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن أهل قُرَيْظَة نزلُوا على حكم سعد بن معَاذ، فَلَمَّا حكم فيهم قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لقد حكمت بِمَا حكم بِهِ الْملك)) .
لما حاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بني قُرَيْظَة قيل لَهُم: انزلوا على حكم

(3/125)


رَسُول الله، فَأَبَوا واختاروا أَن ينزلُوا على حكم سعد بن معَاذ.
وَسبب اختيارهم إِيَّاه أَنهم كَانُوا موَالِيه وحلفاءه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا حضر سعد جعلُوا يَقُولُونَ لَهُ: حلفاؤك ومواليك. فَمَا حاباهم، وَلَا بالى بهم، وَحكم بِأَن تقتل مُقَاتلَتهمْ، وتسبى ذَرَارِيهمْ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لقد حكمت بِمَا حكم بِهِ الْملك)) يَعْنِي الله عز وَجل. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَفِيه وَجه آخر: ((الْملك)) بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ الَّذِي نزل بِالْوَحْي فِي أَمرهم. قلت: وَهَذَا تَأْوِيل مَرْدُود من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه مَا نقل أَن ملكا نزل فِي شَأْنهمْ بِشَيْء، وَلَو نزل بِشَيْء تبع الْوَحْي لَا اجْتِهَاد سعد. وَالثَّانِي: أَن فِي بعض أَلْفَاظ ((الصَّحِيح)) : ((قضيت بِحكم الله عز وَجل)) .
1439 - / 1744 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأعرابي: ((هَل تمنح من إبلك؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((هَل تحلبها يَوْم وردهَا)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((فاعمل من وَرَاء الْبحار، فَإِن الله لن يتْرك من عَمَلك شَيْئا)) .
قد سبق بَيَان المنحة فِي مُسْند جَابر. وَبينا هُنَاكَ فَائِدَة حلبها يَوْم وردهَا.
قَوْله: ((لن يتْرك)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي لن ينْقصك وَلنْ يظلمك يُقَال: وترتني حَقي: أَي بخستنيه.

(3/126)


1440 - / 1745 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((وَمن يستعفف يعفه الله، وَمن يسْتَغْن يغنه الله)) .
الْمَعْنى أَن من يتَكَلَّف فعل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده ينعم الله عز وَجل عَلَيْهِ بِمَا لَا يدْخل تَحت وَسعه.
وَاعْلَم أَن مُسْتَعْمل العفاف دَاخل فِي زمرة المعاملين لله عز وَجل، فَإِن التعفف يُوجب ستر الْحَال عَن الْخلق وَإِظْهَار الْغنى لَهُم، فَيصير معاملا فِي الْبَاطِن، وَيَقَع لَهُ من الرِّبْح على قدر صبره وَصدقه. وَإِنَّمَا جعل الصَّبْر خير الْعَطاء لِأَنَّهُ حبس للنَّفس عَمَّا تحب مِمَّا يؤذيها، وعَلى مَا تكره مِمَّا يقْصد بِهِ صَلَاحهَا، وَذَلِكَ خير مَا أَعْطَيْت النَّفس.
1441 - / 1746 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ((رجل معتزل فِي شعب)) .
الشّعب: مَا انخفض بَين الجبلين وَصَارَ كالدرب، وَالْمَقْصُود الإنفراد.
1442 - / 1747 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ((إِذا سَمِعْتُمْ النداء فَقولُوا مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن)) .
النداء هَا هُنَا الْأَذَان. وَإِنَّمَا تسن إِجَابَة الْمُؤَذّن بِمثل قَوْله ليعلم الْمُجيب أَنِّي مقرّ بِمَا تَدعُونِي إِلَيْهِ، مستجيب لَهُ.
1443 - / 1748 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: سَمِعت أَبَا سعيد

(3/127)


الْخُدْرِيّ يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْبَع فأعجبنني وآنقتني.
المونق: المعجب، تَقول: آنقني الشَّيْء يونقني: إِذا أعْجبك.
وَالَّذِي ذكره الْحميدِي: وأينقتني. وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: لَا يجوز هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ وآنقتني.
وَقَوله: ((لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا وَمَعَهَا زَوجهَا)) وَأما سفر الْمَرْأَة، وَالصَّلَاة بعد الصُّبْح وَبعد الْعَصْر فقد تقدم كُله فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما صَوْم الْعِيد فاتفق الْعلمَاء أَنه لَا يجوز لأحد أَن يتَطَوَّع بِالصَّوْمِ فِي يومي الْعِيد، وَاخْتلفُوا فِيمَن نذر صَوْم الْعِيد على مَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عمر أَيْضا وَفِي مُسْند جَابر.
فَأَما شدّ الرّحال إِلَى هَذِه الْمَسَاجِد فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هَذَا لَفظه لفظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْإِيجَاب فِيمَا ينذره الْإِنْسَان من الصَّلَاة فِي الْبِقَاع الَّتِي يتبرك بهَا، يُرِيد أَنه لَا يلْزم الْوَفَاء بِشَيْء من ذَلِك غير هَذِه الْمَسَاجِد.
قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا نذر أَن يُصَلِّي فِي هَذِه الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة: فمذهب أَحْمد أَنه يلْزمه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يلْزمه، بل يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ. وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
1444 - / 1750 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((غسل الْجُمُعَة وَاجِب

(3/128)


على كل محتلم)) قَالَ أَبُو سعيد: وَأَن يستن، وَأَن يمس طيبا إِن وجد.
الْوَاجِب: اللَّازِم، فَيكون هَذَا مَنْسُوخا. وَقد ذكر الْعلمَاء أَن ناسخه حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((من تَوَضَّأ فبها ونعمت، وَمن اغْتسل فالغسل أفضل)) وَكثير من قرأة الحَدِيث يَقُول: ونعمت، بِفَتْح النُّون وَكسر الْعين، وَالصَّوَاب كسر النُّون وَإِسْكَان الْعين. قَالَ الْأَصْمَعِي: قَوْله: ((فبها)) أَي فبالسنة أَخذ ((ونعمت)) يُرِيد بِهِ: نعمت الْخصْلَة، وَإِنَّمَا ظَهرت التَّاء الَّتِي هِيَ عَلامَة التَّأْنِيث لإضمار السّنة أَو الْخصْلَة، هَذَا اخْتِيَار الْخطابِيّ. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: ((فبها ونعمت)) بِفَتْح النُّون وَالتَّاء وتسكن الْمِيم، على معنى: ونعمك الله، وَالْوَجْه الأول.
ويستن: يستاك.
وَقد بَينا فِي أول مُسْند عمر أَن عُثْمَان أخبرهُ أَنه لم يغْتَسل للْجُمُعَة فَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِمحضر من الصَّحَابَة، فَدلَّ على أَنهم علمُوا بنسخه.
وَالظَّاهِر من عطف الإستنان وَالطّيب عَلَيْهِ الْوُجُوب أَيْضا، فَيكون هَذَا مَنْسُوخا، وَقد يجوز أَن يَكُونَا على سَبِيل الإستحباب وَإِن قرنا

(3/129)


بِوَاجِب، كَقَوْلِه: ((حتيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ)) وَالْغسْل وَاجِب، والحت والقرص لَا يجب. هَذَا إِن لم يكن الرَّاوِي لذَلِك خلط كَلَام أبي سعيد بِكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإنَّا قد ذكرنَا فِي الرِّوَايَة الأولى أَنه من كَلَام أبي سعيد، وَهُوَ فِي رِوَايَة مُسلم من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: كَانَ النَّاس مهنة أنفسهم، فَقيل لَهُم: ((لَو اغتسلتم يَوْم الْجُمُعَة)) وَهَذَا يدل على أَنهم لم يؤمروا أَمر إِيجَاب. وعَلى هَذَا تكون لَفْظَة الْوُجُوب مُغيرَة من بعض الروَاة، وَيحْتَمل أَن تكون صَحِيحَة وَقد نسخت كَمَا بَينا، وَلم يبلغ ذَلِك عَائِشَة. وَقد حمل الْخطابِيّ الحَدِيث على معنى آخر فَقَالَ: معنى قَوْله ((وَاجِب)) أَي لَازم فِي بَاب الإستحباب، كَمَا تَقول: حَقك عَليّ وَاجِب.
1445 - / 1751 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ((تكون الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة خبْزَة وَاحِدَة يتكفأها الْجَبَّار بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأ أحدكُم خبزته فِي السّفر، نزلا لأهل الْجنَّة)) فَأتى رجل من الْيَهُود فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بلَى)) قَالَ: إدَامهمْ بَالَام وَنون. قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: ثَوْر وَنون يَأْكُل من زَائِدَة كبدهما سَبْعُونَ ألفا. فَضَحِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه.

(3/130)


قَوْله: ((يتكفأها)) أَي يقلبها ويميلها، من قَوْلك: كفأت الْإِنَاء: إِذا قلبته أَو أملته.
والنزل: مَا يهيأ للنزيل، والنزيل: الضَّيْف.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن اللَّام اسْم للثور. وَقَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون الْيَهُودِيّ أَرَادَ أَن يعمي الإسم، وَإِنَّمَا هُوَ لأى على وزن لعا: أَي ثَوْر. والثور الوحشي اللأى. وَقد صحف فِيهِ الروَاة فأشكل، إِلَّا أَن يكون ذَلِك بالعبرانية. وَسَنذكر وَجه الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص أكل أهل الْجنَّة من كبد ثَوْر وحوت فِي مُسْند أنس، لِأَنَّهُ هَا هُنَا من كَلَام الْيَهُودِيّ، وَهُوَ هُنَاكَ من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والنواجذ مفسرة فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1446 - / 1754 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: ((هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس وَالْقَمَر)) .
قد سبق فِي مُسْند جرير معنى تضَارونَ، وتضامون.
قَوْله: ((وغبر أهل الْكتاب)) الغابر يكون بِمَعْنى الْبَاقِي وَبِمَعْنى الْمَاضِي، فَهُوَ من الأضداد. وَالْإِشَارَة إِلَى من لم يُبدل.

(3/131)


وعزير اسْم عبراني وَإِن وَافق لَفظه لفظ الْعَرَبيَّة.
وتخيل لَهُم جَهَنَّم كالسراب فيظنونه مَاء كَمَا ظنُّوا جَوَاز وجود الْوَلَد فِي حق من لَا بعض لَهُ.
وَأما الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام، فَاخْتَلَفُوا لم سمي الْمَسِيح؟ على أَقْوَال ذكرتها فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: ((فيأتيهم الله فِي أدنى صُورَة من الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك)) وَقَوله بعد هَذَا: ((فيرفعون رؤوسهم وَقد تحول فِي صُورَة)) وَفِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((فيأتيهم فِي غير الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُول: أَنا ربكُم، فَيَقُولُونَ: نَعُوذ بِاللَّه مِنْك، فيأتيهم فِي الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُول: أَنا ربكُم، فَيَقُولُونَ: أَنْت رَبنَا)) وَهَذَا شَيْء قد تخبط فِيهِ جمَاعَة، فالمتقدمون من السّلف قرأوه وعبروا وَلم ينطقوا بِشَيْء، مَعَ علمهمْ واعتقادهم أَن الصُّورَة الَّتِي هِيَ تخاطيط لَا تجوز على الله عز وَجل، وَلَا التَّغَيُّر. وَهَذَا أصلان لَا بُد من اعتقادهما: التخاطيط لَا تكون إِلَّا فِي الْأَجْسَام، والتغير لَا يصلح أَن يطْرَأ على الْإِلَه، فَإِن الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَابَ النَّجْم بالأفول فَقَالَ: {لَا أحب الآفلين} [الْأَنْعَام: 76] لِأَنَّهُ علم أَن مَا يطرقه التَّغَيُّر لَا يصلح أَن يكون معبودا، فَإِذا وَقع اعْتِقَاد هذَيْن الْأَصْلَيْنِ ثمَّ سكت السَّاكِت عَن تَفْسِير هَذِه الْكَلِمَات فقد سلك مَذْهَب القدماء. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى إتْيَان الله عز وَجل كشف الْحجاب لَهُم حَتَّى رَأَوْهُ فأثبتوه عيَانًا كَمَا اعْتَرَفُوا بوحدانيته فِي الدُّنْيَا اسْتِدْلَالا، فرؤيته بعد أَن لم

(3/132)


يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَنْزِلَة إتْيَان الْآتِي لم يكن شوهد قبل. قَالَ: وَأما الصُّورَة فتتأول على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنَّهَا بِمَعْنى الصّفة، كَقَوْل الْقَائِل: صُورَة هَذَا الْأَمر كَذَا. وَالثَّانِي: أَن الْمَذْكُور من المعبودات فِي أول الحَدِيث صور، فَخرج الْكَلَام على نوع من الْمُطَابقَة. قَالَ: وَقَوله: ((فِي أدني صُورَة رَأَوْهُ فِيهَا)) دَلِيل على أَن المُرَاد بالصورة الصّفة، لأَنهم مَا رَأَوْهُ قبلهَا، فَعلمت أَن المُرَاد الصّفة الَّتِي عرفوه بهَا. وَقَالَ غَيره من الْعلمَاء: يَأْتِيهم بأهوال الْقِيَامَة وصور الْمَلَائِكَة، وَمَا لم يعهدوا مثله فِي الدُّنْيَا، فيستعيذون من تِلْكَ الْحَال وَيَقُولُونَ: إِذا جَاءَ رَبنَا - أَي إِذا أَتَانَا بِمَا نعرفه من لطفه وَهِي الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ، فَيكْشف عَن سَاق: أَي عَن شدَّة، كَأَنَّهُ يرفع تِلْكَ الشدائد، فيسجدون شكرا.
وَقد أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد الْحَاكِم وَيحيى بن عَليّ المدير قَالَا: أخبرنَا ابْن النقور قَالَ: أخبرنَا ابْن حبابة قَالَ: أَنبأَنَا الْبَغَوِيّ قَالَ: حَدثنَا هدبة قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد يَعْنِي ابْن سَلمَة، عَن عَليّ بن زيد عَن عمَارَة الْقرشِي عَن أبي بردة قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مثل لكل قوم مَا كَانُوا يعْبدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَيبقى أهل التَّوْحِيد، فَيُقَال لَهُم: مَا تنتظرون وَقد ذهب النَّاس؟

(3/133)


فَيَقُولُونَ: إِن لنا رَبًّا كُنَّا نعبده فِي الدُّنْيَا لم نره. قَالَ: وتعرفونه إِذا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نعم، فَيُقَال لَهُم: وَكَيف تعرفونه وَلم تروه؟ قَالُوا: إِنَّه لَا شبه لَهُ، فَيكْشف لَهُم الْحجاب، فَيَنْظُرُونَ إِلَى الله تبَارك وَتَعَالَى فَيَخِرُّونَ لَهُ سجدا، وَيبقى أَقوام فِي ظُهُورهمْ مثل صياصي الْبَقر، فيريدون السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ، فَذَلِك قَول الله عز وَجل: {يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [الْقَلَم: 42] فَيَقُول الله عز وَجل: عبَادي، ارْفَعُوا رؤوسكم، فقد جعلت بدل كل رجل مِنْكُم رجلا من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي النَّار)) .
وَكَانَ ابْن عقيل يَقُول: الصُّورَة على الْحَقِيقَة تقع على التخاطيط والأشكال، وَذَلِكَ من صِفَات الْأَجْسَام، وَالَّذِي صرفنَا عَن كَونه جسما من الْأَدِلَّة النطقية قَوْله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] وَمن أَدِلَّة الْعُقُول أَنه لَو كَانَ جسما لكَانَتْ صورته عرضا، وَلَو كَانَ جسما حَامِلا للأعراض لجَاز عَلَيْهِ مَا يجوز على الْأَجْسَام، وَاحْتَاجَ إِلَى مَا احْتَاجَت إِلَيْهِ من الصَّانِع وَلَو جَازَ قدمه مَعَ كَونه جسما لما امْتنع قدم أَحَدنَا، فَلَيْسَ لله سُبْحَانَهُ عِنْدهَا، وَلَا الْقَوْم الَّذِي أَنْكَرُوا فِي الْقِيَامَة صُورَة من صور الذوات يُنْكِرُونَهَا ويأنسون بِمَا سواهَا، فأحوجتنا لذَلِك الْأَدِلَّة إِلَى تَأْوِيل صُورَة تلِيق إضافتها إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَيصِح عَلَيْهَا التَّغَيُّر والتعريف والتنكير، وَمَا ذَلِك إِلَّا الْحَال الَّتِي يُوقع عَلَيْهَا أهل اللُّغَة اسْم صُورَة، فَيَقُولُونَ: كَيفَ صُورَتك مَعَ فلَان، وَفُلَان على صُورَة من الْفقر.

(3/134)


وَالْحَال الَّتِي أنكروها العسف، وَالَّتِي يعرفونه بهَا هِيَ اللطف وَمَا وعد بِهِ من حسن الْجَزَاء، وَلذَلِك قَالَ: ((فتجلى لَهُم كاشفا عَن سَاقه)) يَعْنِي عَن شدَّة الْقيمَة الَّتِي صدرت عَنهُ، والتغيرات أليق بِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ إحالات الْأَعْيَان وتغييرات الزَّمَان. وَأما ذَاته وَوَصفه فتعالى عَن ذَلِك. فَيكْشف لَهُم عَمَّا وعدهم بِهِ، فَيَخِرُّونَ سجدا لنعمته، شاكرين لَهُ على إنجاز وعده، فَيَقَع الْخَبَر مَقْبُولًا. وَلَو حمل - ونعوذ بِاللَّه - على مَا قَالَت المجسمة من صُورَة ترجع إِلَى ذَاته لَكَانَ ذَلِك تجويزا لتغيير صِفَاته وَخُرُوجه فِي صُورَة. فَإِن كَانَت حَقِيقَة فَهُوَ اسْتِحَالَة، وَإِن كَانَت تخيلا فَلَيْسَ ذَاك هُوَ، وَإِنَّمَا يُرِيهم غَيره، فَمَا أشنع مقَالَة من يصدر قَوْله عَن الْجَهَالَة، وَيتَعَلَّق بالظواهر كَمَا تعلّقت النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَقَالُوا: هُوَ روحه حَقِيقَة.
وَقَوله: ((حَتَّى كَاد بَعضهم أَن يَنْقَلِب)) . أَي عَن اعْتِقَاده الصَّحِيح لموْضِع الامتحان الَّذِي وَقع. وَلَفْظَة ((أَن)) من زيادات بعض الروَاة، لِأَن كَاد لَا يَقع بعْدهَا ((أَن)) وَإِنَّمَا هُوَ: كَاد يَنْقَلِب.
وَقَوله: ((ثمَّ يضْرب الجسر)) يَعْنِي الصِّرَاط.
وَقَوله: ((دحض مزلة)) أَي زلق لَا تثبت الْأَقْدَام فِيهِ.
والخطاطيف وَاحِدهَا خطَّاف: وَهِي كالمحجن متعقفة.
والخطف: أَخذ الشَّيْء بِسُرْعَة.

(3/135)


والكلاليب جمع كلاب وكلوب، وَهِي من جنس الخطاطيف.
والحسك جمع حسكة: وَهِي شَوْكَة حَدِيدَة صلبة.
والركاب: الْإِبِل.
والمخدوش: الَّذِي يخدش جلده بِمَا لَهُ حد. وَالْمعْنَى: قد نجا بعد خدشه.
وَقَوله: ((مكدوس فِي النَّار)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: أَي مَدْفُوع فِي جَهَنَّم، يُقَال: تكدس الْإِنْسَان على رَأسه: إِذا دفع من وَرَائه فَقَط.
والتكدس فِي سير الدَّوَابّ: أَن يركب بَعْضهَا بَعْضًا. وَقَالَ غَيره: هَذَا تَصْحِيف من الروَاة، وَإِنَّمَا هُوَ مكردس، وَهُوَ الَّذِي قد جمعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ فِي وُقُوعه.
وَقَوله: ((فِي اسْتِيفَاء الْحق)) أَي فِي استضاءته واتضاحه. وَمعنى الْكَلَام: أَن الْمُؤمنِينَ يبالغون فِي سُؤال الله سُبْحَانَهُ فِي إخْوَانهمْ الْمُؤمنِينَ شَفَاعَة لَهُم. وَقد روينَاهُ من طَرِيق آخر بِلَفْظ آخر: ((فَمَا أحدهم فِي حق يعلم أَنه لَهُ بأشد مناشدة مِنْهُم فِي إخْوَانهمْ الَّذين سقطوا فِي النَّار، يَقُولُونَ: أَي رب، كُنَّا نغزو جَمِيعًا، ونحج جَمِيعًا، ونعتمر جَمِيعًا، فَبِمَ نجونا الْيَوْم وهلكوا؟ فَيَقُول الله تَعَالَى: انْظُرُوا من فِي قلبه زنة دِينَار من إِيمَان فأخرجوه)) .
وَقَوله: ((مِثْقَال ذرة)) أَي وَزنه، والذرة: نملة حَمْرَاء صَغِيرَة.

(3/136)


وَقد دلّ هَذَا على تفاضل النَّاس فِي الْإِيمَان، وَذكر المثقال تقريب إِلَى الْفَهم، لَا أَن الْخَيْر وَالْإِيمَان يحضرهما الْوَزْن، غير أَن مَا يشكل يرد إِلَى الْحس ليفهم. وَمن هَذَا قَوْله: ((من تقرب مني شبْرًا تقربت مِنْهُ ذِرَاعا)) .
والحمم: الفحم.
والحبة بِكَسْر الْحَاء: بزر النَّبَات. وَبِفَتْحِهَا: الْحبّ الْمَأْكُول.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: الْحبَّة اسْم جَامع لحبوب الْبُقُول الَّتِي تنتثر إِذا هَاجَتْ، ثمَّ إِذا مطرَت من قَابل نَبتَت. وَقَالَ الْكسَائي: الْحبَّة من حب الرياحين. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: هُوَ نبت ينْبت فِي الْحَشِيش صغَار.
وَقَالَ أَبُو عبيد: كل شَيْء لَهُ حب فاسم الْحبّ مِنْهُ حَبَّة. فَأَما الْحِنْطَة وَالشعِير فحبة لَا غير.
وحميل السَّيْل: كل مَا حمله. وكل مَحْمُول حميل، قَالَه الْأَصْمَعِي. وَقَالَ أَبُو سعيد الضَّرِير: حميل السَّيْل: مَا جَاءَ بِهِ من طين أَو غثاء، فَإِذا اتّفق فِيهِ الْحبَّة واستقرت على شط مجْرى السَّيْل فَإِنَّهَا تنْبت فِي يَوْم وَلَيْلَة، وَهِي أسْرع شَيْء نباتا. وَإِنَّمَا المُرَاد من الحَدِيث سرعَة نجاتهم.
وَقَوله: فِي رقابهم الخواتيم. وَكَأَنَّهَا بقايا من آثَار النَّار.

(3/137)


وَقَوْلهمْ: أَعطيتنَا مَا لم تعط أحدا من الْعَالمين. لقَائِل أَن يَقُول: كَيفَ يَقُولُونَ هَذَا وهم يعلمُونَ أَن من لم يدْخل النَّار فقد أعطي خيرا من عطائهم؟ فقد ذكرنَا فِي هَذَا جوابين فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَقَوله: ((امتحشوا)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يَعْنِي احترقوا.
والحيا: الْمَطَر.
وَقَوله: فأماتتهم إماتة. رُبمَا قَالَ قَائِل: كَيفَ يموتون فِي النَّار وَقد قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} [الْأَعْلَى: 13] فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذِه صفة الْمُوَحِّدين وَتلك صفة الْكَافرين، فَجَائِز أَن تلفح النَّار الْمُؤمن فَيَمُوت فَلَا يَدُوم عَذَابه إِلَى أَن يحيى فَيخرج. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: أَنهم يغشى عَلَيْهِم ويغيب إحساسهم، فيعبر بِالْمَوْتِ عَن ذَلِك.
والضبائر: جماعات فِي تَفْرِقَة.
فبثوا: أَي فرقوا.
والحسك قد بَيناهُ آنِفا.
والمفلطحة فِيهَا سَعَة وتدوير.
والعقيفة من التعقف. والمتعقف: المعوج الطّرف.
1447 - / 1755 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: ((كَمَا تتراءون الْكَوْكَب الدُّرِّي الغابر)) .

(3/138)


قد سبق تَفْسِير هَذَا فِي مُسْند سهل بن سعد والغابر: الْبَاقِي.
1448 - / 1756 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِن مِمَّا أَخَاف عَلَيْكُم بعدِي مَا يفتح عَلَيْكُم من زهرَة الدُّنْيَا)) .
زهرَة الدُّنْيَا: حسنها وَنَعِيمهَا.
والرحضاء: الْعرق الْكثير. يُقَال: رحضت الثَّوْب: إِذا غسلته بِالْمَاءِ.
والحبط: أَن تكْثر الدَّابَّة من أكل المرعى حَتَّى ينتفخ لذَلِك بَطنهَا، وتمرض عَنهُ، فَلَا تثلط وَلَا تبول، واحتباس ذَلِك رُبمَا قَتلهَا ((أَو ألم)) بذلك أَي قَارب ذَلِك. هَذَا مثل لمن يستكثر من جمع الدُّنْيَا من غير وَجههَا، لِأَن الرّبيع ينْبت جيد المرعى، فتستطيبه الْمَاشِيَة فتستكثر مِنْهُ فتهلك، فَكَذَلِك جَامع الدُّنْيَا من غير وَجههَا يستكثر مِنْهَا محبا لذَلِك بالطبع، فَيهْلك دينه.
وَقَوله: ((إِلَّا آكِلَة الْخضر)) وَالْمعْنَى أَنَّهَا تنجو إِذا قتل غَيرهَا الحبط. فَهَذَا مثل للمقتصد فِي طلب الدُّنْيَا، الَّذِي لَا يحملهُ حرصه على أَخذ مَا لَا يحل لَهُ، فَهُوَ ينجو من وبال الْحساب كَمَا نجت آكِلَة الْخضر، لِأَن الْخضر لَيْسَ من جيد الْبُقُول، بل هُوَ نوع من أدناها، يبْقى بعد يبس المرعى، فترعاه الْمَوَاشِي ضَرُورَة لعدم غَيره، فَإِذا امْتَلَأت خاصرتاها اسْتقْبلت عين الشَّمْس تستمرئ بذلك مَا أكلت، فتجتر وتثلط، فيزول عَنْهَا الحبط. وَإِنَّمَا تحبط الْمَاشِيَة إِذا لم تثلط

(3/139)


وَلم تبل. وَمعنى ثَلَطَتْ: أَلْقَت رجيعها سهلا رَقِيقا. وَذكر الثلط وَالْبَوْل للتشبيه بِمَا يُخرجهُ المقتصد فِي جمع المَال فِي الْحُقُوق.
قَوْله: ((إِن هَذَا المَال خضر)) قَالَ أَبُو عبيد: الخضرة: الْحسن الغض، وكل شَيْء غض طري فَهُوَ خضر، وَأَصله من خضرَة الشّجر.
وَقَوله: ((وَنعم صَاحب الْمَرْء الْمُسلم هُوَ لمن أعْطى مِنْهُ الْمِسْكِين واليتيم)) . رُبمَا رَأَيْت فِي الْأَحَادِيث ذمّ المَال ومدحه، فاسمع فصل الْخطاب: المَال لَا يُرَاد لذاته، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَب للتوصل إِلَى الْآخِرَة، كَمَا أَن النَّاقة سَبَب للوصول إِلَى الْكَعْبَة، فَمن لم يحسن إِلَى رَاحِلَته عطبت فافتقر إِلَى النَّاس أَو تلف، وَمن تشاغل بتسمينها وتزيينها سبقه الْحَاج. فَكَذَلِك المَال إِنَّمَا يُرَاد للبلاغ إِلَى الْآخِرَة، فَإِذا تشاغل الْإِنْسَان بجمعه عَمَّا وضع لَهُ توجه الذَّم إِلَى قبح هَذَا الْفِعْل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن ينْفق الْأَيَّام فِي حفظ مَاله ... مَخَافَة فقر، فَالَّذِي فعل الْفقر)

وَلما قصد السّلف المَال للمعنى الممدوح جمعُوا مِنْهُ مَا يَكفهمْ عَن الطمع، وَيجمع هممهم عَن التشتت، فَكَانَ أَبُو بكر الصّديق يخرج للتِّجَارَة يقدمهَا على صُحْبَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ عمر: لِأَن أَمُوت بَين

(3/140)


شُعْبَتَيْ رجْلي أطلب كفاف وَجْهي أحب إِلَى من أَن أَمُوت غازيا فِي سَبِيل الله. وَقد قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ: يَا بني، مَا افْتقر أحد إِلَّا أصَاب ثَلَاث خلال مَكْرُوهَة: آفَة فِي دينه، وضعفا فِي عقله، وَذَهَاب مروءته. وَأعظم من هَذِه الْخلال استخفاف النَّاس بِهِ. يَا بني، قد ذقت المرارة كلهَا فَلم أر شَيْئا أَمر من الْفقر. وَقَالَ قيس بن عَاصِم عِنْد الْمَوْت: يَا بني، عَلَيْكُم باصطناع المَال، فَإِنَّهُ منبهة للكريم، ويستغنى بِهِ عَن اللَّئِيم. وَكَانَ أحيحة بن الجلاح سيدا فِي قومه، وَكَانَ يصلح مَاله، وَيُقِيم بذلك مَا ينوبه من الْحق، وَيَقُول:
(استغن أَو مت وَلَا يغررك ذُو نشب ... من ابْن عَم وَلَا عَم وَلَا خَال)

(إِنِّي أكب على الزَّوْرَاء أعمرها ... إِن الحبيب إِلَى الإخوان ذُو المَال)

وَمَا جمعه ابْن عَوْف، وَخَلفه طَلْحَة وَالزُّبَيْر من المَال مَعْلُوم.
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا خير فِيمَن لَا يجمع المَال ليؤدي عَن أَمَانَته، ويكف وَجهه، ويصل رَحمَه. وَكَانَ يتجر فِي الزَّيْت وَيَقُول لأَصْحَابه: هُوَ خير من الْحَاجة إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُلُوك. وَترك عِنْد مَوته أَرْبَعمِائَة دِينَار وَقَالَ: وَالله مَا تركتهَا إِلَّا لأصون بهَا عرضي ووجهي.
وَسَأَلَ رجل رجلا: من سيد الْبَصْرَة؟ فَقَالَ: الْحسن، قَالَ: وَبِمَ سادهم؟ قَالَ: اسْتغنى عَن دنياهم وافتقروا إِلَى علمه. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: من كَانَ مَعَه شَيْء فَقدر أَن يَجعله فِي قرن ثَوْر فَلْيفْعَل، فَإِن

(3/141)


هَذَا زمَان إِذا احْتَاجَ الرجل كَانَ أول مَا يبْذل دينه، وَلَوْلَا بضيعتنا تلاعب بِنَا هَؤُلَاءِ. وَقَالَ رجل للسري بن يحيى، وَكَانَ يتجر فِي الْبَحْر: تركب الْبَحْر فِي طلب الدُّنْيَا؟ قَالَ: أحب أَن أستغني عَن ضربك من النَّاس. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: تثمير المَال إِلَه المكارم.
وَقَالَ آخر: مقاساة الْفقر الْمَوْت الْأَحْمَر، وسؤال النَّاس الْعَار الْأَكْبَر، وَكَانَ يُقَال: من حفظ مَاله فقد حفظ الأكرمين: الدّين وَالْعرض.
1449 - / 1757 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ذكر الْعَزْل، وَقَول الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا عَلَيْكُم أَلا تَفعلُوا، مَا من نسمَة كائنة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَهِي كائنة)) .
النَّسمَة: النَّفس.
وَهَذَا الحَدِيث تضمن كَرَاهِيَة الْعَزْل، وَهَذَا لِأَنَّهُ إِخْرَاج للنِّكَاح عَن وَضعه الْأَصْلِيّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وضع للتناسل، وَالْمرَاد تَكْثِير الْخلق، وَالَّذِي يعْزل يصرفهُ إِلَى أدون الْأَمريْنِ وَهُوَ قَضَاء الشَّهْوَة، عَن أَعلَى الْحَالين وَهُوَ التناسل. وَمثل الْآدَمِيّ كَمثل عبد سلم إِلَيْهِ سَيّده بذرا وأرضا وَأمره بالزرع، ووكل بِهِ مستحثا، فبذر فِي الْبذر وَلم يزرع، فالبذر المَاء، وَالْأَرْض الْمَرْأَة، وَالْمُسْتَحب الشَّهْوَة. وَمَعَ هَذَا فقد ترك الشَّرْع مُرَاده لمراد العَبْد، فأباحه الْعَزْل، وَقد ذكرنَا حكمه فِي مُسْند جَابر.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ردهم إِلَى الْقدر فِي هَذَا دون غَيره؟ فَإِن

(3/142)


الْمقَاتل لَا يُصِيبهُ إِلَّا مَا قدر لَهُ، وَقد أَمر بِأخذ الْعدة. وَكَذَلِكَ الرزق لَا يتَعَدَّى صَاحبه، وَقد أَمر بِالطَّلَبِ، وأبيحت لَهُ الْأَسْفَار.
فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا ذكر لَهُم الْقدر لَا أَنه كرهه لَهُم.
1450 - / 1758 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: ((لَا تخيروني من بَين الْأَنْبِيَاء؛ فَإِن النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة؛ فَأَكُون أول من يفِيق، فَإِذا أَنا بمُوسَى أَخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش؛ فَلَا أَدْرِي: أَفَاق قبلي أَو جوزي بصعقة الطّور)) .
الصَّعق يكون بِمَعْنى الْمَوْت، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض} [الزمر: 68] . وَيكون بِمَعْنى الغشي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وخر مُوسَى صعقا} [الْأَعْرَاف: 143] . والصعق فِي هَذَا الحَدِيث بِالْمَوْتِ أشبه. وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْضِيل مُوسَى وَذكر شرفه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إشْكَالَانِ: الأول: أَنه قَالَ: ((لَا تخيروني)) وَقد قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) وَالثَّانِي: أَنه قَالَ: ((أكون أول من يفِيق)) ثمَّ قَالَ: ((لَا أَدْرِي أَفَاق قبلي)) .
فَالْجَوَاب عَن الأول من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَن يكون قَالَه قبل علمه بِأَنَّهُ أفضل الْأَنْبِيَاء، فَلَمَّا أعلم قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) .
وَالثَّانِي: أَن يكون نَهَاهُم عَن التَّخْيِير، لأَنهم كَانُوا يخيرون بواقعاتهم وظنونهم، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يسند التَّخْيِير إِلَى دَلِيل. وَالثَّالِث: أَن الْغَالِب فِي الْمُخَير الإزراء بالأنقص رُتْبَة، وَلَا يجوز الإستنقاص بِأحد

(3/143)


من الْأَنْبِيَاء. وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ: ((لَا تخيروني بَين الْأَنْبِيَاء)) وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ ترك التَّخْيِير بَينهم على وَجه الإزراء ببعضهم، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى فَسَاد الإعتقاد فيهم، والإخلال بِوَاجِب حَقهم، وَلَيْسَ المُرَاد أَن يعْتَقد التَّسْوِيَة بَينهم، وفقد أخبرنَا الله تَعَالَى بِأَنَّهُ قد فضل بَعضهم على بعض.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنه لما رأى نَفسه عَلَيْهِ السَّلَام قد أَفَاق وَبَاقِي الْخلق لم يفيقوا علم أَنه أول مُفِيق: فَلَمَّا رأى مُوسَى عَاد يشك: هَل أَفَاق قبله أَو لم يصعق؟ ، وَالْمرَاد الْقرب بَين الإفاقتين.
1451 - / 1759 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة)) .
وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1452 - / 1760 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: كنت فِي مجْلِس من مجَالِس الْأَنْصَار؛ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مذعور، فَقَالَ: اسْتَأْذَنت على عمر ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لي، فَرَجَعت، فَقَالَ: مَا مَنعك؟ قلت: اسْتَأْذَنت ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لي فَرَجَعت، وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَليرْجع)) فَقَالَ: وَالله لتقيمن عَلَيْهِ بَيِّنَة أَو لأجعلنك عظة. أمنكم أحد سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟

(3/144)


فَقَالَ أبي بن كَعْب: فوَاللَّه لَا يقوم مَعَك إِلَّا أَصْغَر الْقَوْم، فَكنت أَصْغَر فَقُمْت مَعَه، فَقَالَ عمر: خَفِي عَليّ هَذَا من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ألهاني عَنهُ الصفق بالأسواق.
المذعور: الْخَائِف.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن السّنة الإستئذان ثَلَاث مَرَّات، وَلَا يُزَاد على ذَلِك، لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يسمع صَاحب الْمنزل فِي الْمرة الأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة، فَإِذا لم يجب فِي الثَّالِثَة فالغالب أَنه قد سمع وَلَكِن لَهُ عذره.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ عمر يخَاف من مثل أبي مُوسَى، فبمن يوثق؟ فَالْجَوَاب أَنه مَا اتهمه، وَإِنَّمَا خَافَ أَن ينْطَلق فِي التحديث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَيْسَ من أَهله، فتوعد الثِّقَة ليحذر غَيره. وَقد قَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: يَا ابْن الْخطاب، أَنا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ذَلِك، فَلَا تكونن عذَابا على أَصْحَاب رَسُول الله. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله! إِنَّمَا سَمِعت شَيْئا فَأَحْبَبْت أَن أتثبت.
وَأما الصفق فِي الْأَسْوَاق فيريد بِهِ عقد الصفقات، وَكَانُوا يضْربُونَ بِالْيَدِ على الْيَد عِنْد العقد عَلامَة لتَمام البيع، وَالْمعْنَى فِي ذَلِك: أَنه لما كَانَت الْأَمْلَاك مُضَافَة إِلَى الْأَيْدِي جعلُوا ضرب يَد البَائِع على يَد المُشْتَرِي أَمارَة ناقلة، كَأَنَّهُ يَقُول: قد نقلت مَا فِي يَدي إِلَى مَا فِي يدك، ثمَّ استمرت التَّسْمِيَة بالصفقة وَإِن لم يَقع صفق.
1453 - / 1761 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((إِن الله عز وَجل خير عبدا بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده، فَاخْتَارَ

(3/145)


ذَلِك العَبْد مَا عِنْد الله)) فَبكى أَبُو بكر.
هَذَا الحَدِيث هَذَا قد دلّ على فطنة أبي بكر، إِذْ علم أَن الْمُخَير هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَبَاقِي الحَدِيث قد بَيناهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1454 - / 1762 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: قَالَ النِّسَاء للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: غلبنا عَلَيْك الرِّجَال، فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا. فوعدهن يَوْمًا لقيهن فِيهِ، فوعظهن وأمرهن.
كَانَ النِّسَاء فِي ذَلِك الزَّمن يطلبن الْخَيْر ويقصدن الْأجر، ويصلين مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة، وَكَانَ مثل الرَّسُول واعظهن، فصلح أَن يَجْعَل لَهُنَّ يَوْمًا.
فَأَما مَا أحدث الْقصاص من جمع النِّسَاء وَالرِّجَال فَإِنَّهُ من الْبدع الَّتِي تجْرِي فِيهَا الْعَجَائِب، من اخْتِلَاط النِّسَاء بِالرِّجَالِ، وَرفع النِّسَاء أصواتهن بالصياح والنواح إِلَى غير ذَلِك. فَأَما إِذا حضرت امْرَأَة مجْلِس خير فِي خُفْيَة، غير متزينة، وَخرجت بِإِذن زَوجهَا، وَتَبَاعَدَتْ عَن الرِّجَال، وقصدت الْعَمَل بِمَا يُقَال لَا التَّنَزُّه، كَانَ الْأَمر قَرِيبا مَعَ الْخطر، وَإِنَّمَا أجزنا مثل هَذَا لِأَن الْبعد عَن سَماع التَّذْكِير يُقَوي الْغَفْلَة، فينسي الْآخِرَة بِمرَّة. وَيَنْبَغِي للمذكر أَن يحث على الْوَاجِبَات، وَينْهى عَن الْمَحْظُورَات، وَيذكر مَا ينفع الْعَوام وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجُهَّال فِي دينهم، وهيهات، مَا أقل هَذَا الْيَوْم، إِنَّمَا شغل الْقصاص الْيَوْم

(3/146)


ذكر إزليخا ويوسف، ومُوسَى والجبل، وإنشاد الْغَزل، فَيكون الضَّرَر بذلك أقوى من النَّفْع.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((مَا مِنْكُن امْرَأَة تقدم ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث)) يُرِيد بُلُوغ الْحلم، وَكَأَنَّهُ بلغ إِلَى زمَان إِذا حلف فِيهِ حنث. وَإِنَّمَا اشْترط الصغر لِأَن الرَّحْمَة للصغار أَكثر، والمحبة لَهُم أوفر، وشفقة الْأُم أوفى من شَفَقَة الْأَب، فَذكر للنِّسَاء مَا هُوَ أخص بِهن من فِرَاق المحبوب.
1455 - / 1763 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يدع أحدا يمر بَين يَدَيْهِ، وليدرأه مَا اسْتَطَاعَ، فَإِن أَبى فليقاتله، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان)) .
الدرء: الدّفع، وَهَذَا يسْتَعْمل فِي أول الْمَنْع. فَإِن أَبى المجتاز كَانَ للْمُصَلِّي دَفعه بالعنف.
وَقَوله: ((فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْمَعْنى أَن الشَّيْطَان يحملهُ على ذَلِك. وَهَذَا إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يُصَلِّي إِلَى ستْرَة.
وَفِي اللَّفْظ الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ: ((إِذا صلى أحدكُم إِلَى شَيْء يستره)) فَأَما إِذا لم يكن ستْرَة فَلَيْسَ لَهُ دفع الْجَائِز بَين يَدَيْهِ، مَعَ أَن الْجَائِز مَنْهِيّ عَن الْجَوَاز.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْعَمَل الْقَلِيل لَا يقطع الصَّلَاة.

(3/147)


1456 - / 1764 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا أعجلت أَو قحطت فَلَا غسل عَلَيْك، عَلَيْك الْوضُوء)) وَفِي لفظ: ((إِنَّمَا المَاء من المَاء)) .
أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: أَو قحطت بِفَتْح الْقَاف، وَقَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد الخشاب: الصَّوَاب ضم الْقَاف، وَالْمعْنَى: لم ينزل. قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: أقحط الرجل: إِذا خالط أَهله وَلم ينزل.
والقحط: احتباس الْمَطَر. وَهَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ على مَا بَيناهُ فِي مُسْند عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ.
1457 - / 1765 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَهَيئَةِ كَبْش أَمْلَح فينادي مُنَاد: يَا أهل الْجنَّة، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيذْبَح)) .
الْمَوْت حَادث تَزُول مَعَه الْحَيَاة، وَيدل على أَنه شَيْء قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة} [الْملك: 2] وَذَلِكَ الْحَادِث يصور فِي هَيْئَة كَبْش، وَإِنَّمَا صور لَهُم ليعلموا عدم الْمَوْت فِيمَا بعد.
وَقد فسرنا الأملح فِي مُسْند أبي بكرَة.
ويشرئبون: أَي يرفعون رؤوسهم لرُؤْيَته، يُقَال: اشرأب يشرئب: إِذا ارْتَفع وَعلا.

(3/148)


1458 - / 1766 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((يَقُول الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة: يَا آدم، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك، فينادي: إِن الله أَمرك أَن تخرج بعثا إِلَى النَّار ... فَحِينَئِذٍ تضع الْحَامِل حملهَا، ويشيب الْوَلِيد)) .
قَوْله: ((لبيْك وَسَعْديك)) قد تقدم تَفْسِيره فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
والبعث: الَّذين يبعثون.
وَالْحَامِل: الحبلى. وَقد فرقوا بَين حملهَا فِي الْبَطن، وَحملهَا على الرَّأْس وَالظّهْر، فَقَالُوا هَا هُنَا: حَامِل، وَهُنَاكَ: حاملة.
فَإِن قيل: فَهَل يبْقى حَامِل يَوْم الْقِيَامَة؟ فَالْجَوَاب: أَنه لَو حضرت حَامِل حِينَئِذٍ لوضعت، وَلَو حضر مَوْلُود يعقل أهوال الْقِيَامَة لشاب.
وَأما (يَأْجُوج وَمَأْجُوج) فهما اسمان أعجميان. وَقد قَرَأَ عَاصِم بهمزهما. قَالَ اللَّيْث: الْهَمْز لُغَة رَدِيئَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: يَأْجُوج رجل، وَمَأْجُوج رجل، وهما ابْنا يافث بن نوح، فيأجوج وَمَأْجُوج عشرَة أَجزَاء وَولد آدم كلهم جُزْء، وهم شبر وشبران وَثَلَاثَة أشبار. وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: مِنْهُم من طوله شبر، وَمِنْهُم من هُوَ مفرط فِي الطول. وَقَالَ السّديّ: التّرْك سَرِيَّة من يَأْجُوج وَمَأْجُوج،

(3/149)


خرجت تغير، فجَاء ذُو القرنين فَضرب السد فَبَقيت خَارجه. وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((لَا يَمُوت الرجل مِنْهُم حَتَّى ينظر إِلَى ألف ذكر بَين يَدَيْهِ من صلبه، كل قد حمل السِّلَاح)) .
وَقَوله: ((كرقمة فِي ذِرَاع الْحمار)) الرَّقْمَة خطوط مخططة فِي ذراعه.
1459 - / 1767 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا تسبوا أَصْحَابِي، فَإِن أحدكُم لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه)) .
الْمَدّ: ربع الصَّاع. والنصيف: نصفه. قَالَ أَبُو عبيد: وَالْعرب تسمي النّصْف النصيف كَمَا قَالُوا فِي الْعشْر عشير، وَفِي الْخمس خَمِيس، وَفِي الثّمن ثمين، وَفِي التسع تسيع. وَاخْتلفُوا فِي الرّبع وَالسُّدُس والسبع، فَمنهمْ من قَالَ: ربيع وسديس وسبيع، وَمِنْهُم من لَا يَقُول بذلك، وَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُول فِي الثُّلُث شَيْئا من ذَلِك، وأنشدوا:
(لم يغذها مد وَلَا نصيف ... وَلَا تُمَيْرَات وَلَا تعجيف)

أَرَادَ: أَنَّهَا منعمة، لم تغذ بِمد تمر وَلَا نصيفه، لَكِن بِاللَّبنِ.

(3/150)


والنصيف فِي غير هَذَا: الْخمار، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْحور الْعين: ((ولنصيف إِحْدَاهُنَّ على رَأسهَا خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: لمن خَاطب؟ إِن كَانَ خَاطب أَصْحَابه فَكيف يَقُول: ((يَا أَصْحَابِي)) ، ((وَلَا تسبوا أَصْحَابِي)) وَإِن كَانَ خَاطب التَّابِعين فَمَا وجدوا بعد. فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل الْأَمريْنِ، فَإِن كَانَ خَاطب أَصْحَابه فالخطاب للمتأخرين مِنْهُم، فأعلمهم أَنهم لن يبلغُوا مرتبَة الْمُتَقَدِّمين، كَمَا قَالَ فِي حق أبي بكر: ((قُلْتُمْ: كذبت، وَقَالَ: صدقت، فَهَل أَنْتُم تاركو صَاحِبي)) . ويكشف هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح} [الْحَدِيد: 10] وَإِن كَانَ قَالَ لمن سَيَأْتِي فعلى معنى: بلغُوا من يَأْتِي، ويوضحه قَوْله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام: 19] .
1460 - / 1768 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر صَاعا من طَعَام، أَو صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر، أَو صَاعا من أقط، أَو صَاعا من زبيب، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة وَجَاءَت السمراء قَالَ: أرى مدا من هَذَا يعدل مَدين.
وَقد ذكرنَا قدر الصَّاع فِي مُسْند ابْن عمر، وَذكرنَا هُنَاكَ أَنه لَا يُجزئ أقل من صَاع من أَي الْأَجْنَاس المخرجة كَانَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُجزئ نصف صَاع بر، وَهُوَ المُرَاد بقول أبي سعيد: فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة وَجَاءَت السمراء، يَعْنِي الْحِنْطَة، قَالَ: أرى مدا من هَذَا - يَعْنِي الْحِنْطَة -

(3/151)


يعدل مَدين - يَعْنِي من التَّمْر.
والأقط: شَيْء يعْمل من اللَّبن ويجفف، وَيجوز إِخْرَاجه على أَنه أصل. هَذَا قَول أَحْمد وَمَالك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يخرج على وَجه الْقيمَة، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ.
1461 - / 1769 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ذكر خطْبَة الْعِيد بعد الصَّلَاة، قَالَ أَبُو سعيد: فَخرجت مخاصرا مَرْوَان، فَإِذا بِهِ يُرِيد أَن يَبْتَدِئ بِالْخطْبَةِ، فجبذته فَقَالَ: ذهب مَا تعلم.
أما تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة فقد بَينا سَببه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
والمخاصرة: أَن يَأْخُذ الرجل بيد آخر يتماشيان، فيد كل وَاحِد مِنْهُمَا عِنْد خصر صَاحبه، وأنشدوا:
(ثمَّ خَاصرتهَا إِلَى الْقبَّة الخضراء ... نمشي فِي مرمر مسنون)

وجبذته بِمَعْنى جذبته. وَمثله كبكبت الشَّيْء وبكبكته: إِذا طرحت بعضه على بعض، وهجهجت بالسبع وجهجهت بِهِ، وفثأت الْقدر وثفأتها: إِذا سكنت غليانها.
وَقَول مَرْوَان: ذهب مَا تعلم: أَي ترك اتِّبَاع السّنة.
وَقَوله: ((يكثرن اللَّعْن ويكفرن العشير)) قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.

(3/152)


وَذكر نُقْصَان عقلهن ودينهن قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما امْرَأَة ابْن مَسْعُود فاسمها زَيْنَب بنت أبي مُعَاوِيَة الثقفية. وَقد دلّ حَدِيثهَا على أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب أولى من الصَّدَقَة على الْأَجَانِب.
1462 - / 1770 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: فِي ذكر أبي طَالب: ((لَعَلَّه تَنْفَعهُ شَفَاعَتِي فَيجْعَل فِي ضحضاح من النَّار يبلغ كعبيه)) .
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الضحضاح: الْقَلِيل من الْعَذَاب، وَالْعرب تسمى المَاء الْقَلِيل ضحضاحا. قيل لأعرابي: إِن فلَانا يَدعِي الْفضل عَلَيْك، فَقَالَ: لَو وَقع فِي ضحضاح مني لغرق: أَي فِي الْقَلِيل من مياهي. وَقَالَ غَيره: الضحضاح مَا يبلغ الْكَعْبَيْنِ، وكل مَا رق من المَاء على وَجه الأَرْض فَهُوَ ضحضاح.
1463 - / 1771 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله بعد الله وَجهه عَن النَّار سبعين خَرِيفًا)) .
إِذا أطلق ذكر سَبِيل الله كَانَ الْمشَار بِهِ إِلَى الْجِهَاد.
والخريف زمَان مَعْلُوم من السّنة تخترف فِيهِ الثِّمَار. المُرَاد بِهِ هَا هُنَا السّنة كلهَا، وَالْمعْنَى: مسيرَة سبعين سنة.
1464 - / 1772 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: الْجواد الْمُضمر. وَقد

(3/153)


سبق بَيَانه فِي مُسْند سهل بن سعد.
1465 - / 1773 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: نهى عَن المزانبة والمحاقلة وَقد فسرناه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1466 - / 1774 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: كُنَّا فِي مسير لنا، فنزلنا منزلا، فَجَاءَت جَارِيَة فَقَالَت: إِن سيد الْحَيّ سليم، وَإِن نفرنا غيب، فَهَل مِنْكُم راق؟ فَقَامَ مَعهَا رجل مَا كُنَّا نأبنه برقية، فرقاه.
قد سبق ذكر النَّفر فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن وَغَيره.
والغيب: الغائبون.
وَالرجل الَّذِي رقى هُوَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَاوِي الحَدِيث.
ونأبنه بِضَم الْبَاء، كَذَلِك قَالَه لنا عبد الله بن أَحْمد النجوي، وَقَالَ: أبنت بِمَعْنى عبت، كَأَنَّهُمْ مَا علمُوا أَنه يرقى فَكَانَ يعاب بالرقية.
وَقَوله: وشفوا لَهُ بِكُل شَيْء: أَي عالجوه بِكُل شَيْء طلبا للشفاء، يُقَال: شفى الطَّبِيب للْمَرِيض: إِذا عالجه بِمَا يشفيه.
والجعل: مَا يعطاه الْإِنْسَان على الْأَمر يَفْعَله، وَكَذَلِكَ الْجعَالَة والجعيلة.

(3/154)


والقطيع: مَا اقتطع من الْغنم.
وَقَوله: يتفل: التفل: نفخ بِلَا ريق.
وَقَوله: نشط من عقال: هَكَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة، وَأكْثر اللُّغَة على أَن نشط بِمَعْنى عقل، وَأنْشط بِمَعْنى حل، وَقد جَاءَ فِي بعض اللُّغَات: نشط بِمَعْنى حل، وَهُوَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث.
ويستدل بِهَذَا الحَدِيث من يرى جَوَاز الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن وَجَمِيع الْقرب، وَقد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس أَن فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، واعتذرنا على الْمَنْصُور عندنَا عَن هَذَا الحَدِيث.
1467 - / 1775 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا كَانَ قبلكُمْ رغسه الله مَالا، فَقَالَ لِبَنِيهِ: إِذا مت فأحرقوني.
قَوْله: رغسه الله مَالا، قَالَ أَبُو عبيد: أَكثر لَهُ مِنْهُ وَبَارك لَهُ فِيهِ.
يُقَال: رغسه الله يرغسه رغسا، وَكَذَلِكَ فِي الْحبّ وَغَيره.
قَالَ العجاج:
(خَليفَة سَاس بِغَيْر تعس ... أَمَام رغس فِي نِصَاب رغس)

(3/155)


وَقَوله: ((فِي يَوْم عاصف)) أَي عاصف الرّيح.
وَقَوله: لم يبتئر. قَالَ أَبُو عبيد: أَي لم يقدم خيرا، وَهُوَ من الشَّيْء يخبأ، كَأَنَّهُ لم يقدم لنَفسِهِ شَيْئا خبأه لَهَا، يُقَال: بأرت الشَّيْء وابتأرته: إِذا خبأته، وَمِنْه سميت الحفرة البؤرة. وَفِي الابتئار لُغَتَانِ: ابتأرت الشَّيْء وائتبرته ابتئارا وائتبارا، قَالَ الْقطَامِي:
(فَإِن لم تأتبر رشدا قُرَيْش ... فَلَيْسَ لسَائِر النَّاس ائتبار)

وَقَالَ آخر:
(فَإنَّك إِن تبأر لنَفسك بؤرة ... تجدها إِذا مَا غَيْبَتِك الْمَقَابِر)

ويخلط ابْن جني فِي ((غَرِيب الحَدِيث)) : ابتأرت الشَّيْء وابترته ابتئارا وابتيارا. وَأما امتار بِالْمِيم فَإِنَّمَا رويت لنا مَهْمُوزَة، فعلى هَذَا تكون الْمِيم نائبة عَن الْبَاء، كَقَوْلِهِم: سمد رَأسه وسبد. وَإِن كَانَت غير مَهْمُوزَة بالإمتيار طلب الْميرَة، فَيكون الْمَعْنى: مَا حصل خيرا.
وَقد اعْترض على هَذَا الحَدِيث فَقيل: هَذَا رجل كَافِر، لقَوْله: إِن يقدر الله عَلَيْهِ. وَمن ظن أَن الله تَعَالَى لَا يقدر عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِر، فَكيف يُقَال: غفر الله لَهُ، وتلقاه برحمته؟ فَالْجَوَاب من سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَن هَذَا الرجل مُؤمن، غير أَنه جهل صفة من صِفَات الله عز وَجل، وَقد يغلط فِي صِفَات الله قوم من الْمُسلمين وَلَا يحكم لَهُ

(3/156)


بالْكفْر، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. قَالَ ابْن عقيل: والجهالة من جِهَة الْقُصُور عذر، وَكَذَلِكَ إِذا لم يُؤْت قوم صِحَة الْعُقُول وسلامتها لم يكلفوا مَا كلفه أَصْحَاب النّظر الصَّحِيح، وَإِنَّمَا يكفر من يسْتَدلّ وَينظر دون من قصر. وَالثَّانِي: أَنه جهل صفة من صِفَات الله عز وَجل فَكفر بذلك، إِلَّا أَن الْكفْر قد كَانَ يغْفر فِي ذَلِك الزَّمَان إِلَى أَن نزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} [النِّسَاء: 48] . وَالثَّالِث: أَن هَذَا رجل غلب عَلَيْهِ الْخَوْف والجزع، فَقَالَ هَذَا الْكَلَام وَهُوَ لَا يدْرِي مَا يَقُول، كَمَا قَالَ ذَلِك الرجل: ((أَنْت عَبدِي وَأَنا رَبك)) . ذكرهمَا ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي كتاب ((تَهْذِيب الْآثَار)) . وَالرَّابِع: أَن يكون بِمَعْنى التَّضْيِيق، من قَوْله تَعَالَى: {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} [الطَّلَاق: 7] أَي ضيق، فَالْمَعْنى: أَن يضيق عَليّ ويبالغ فِي محاسبتي. وَالْخَامِس: أَن يقدر خَفِيفَة بِمَعْنى يقدر مُشَدّدَة، يُقَال: قدرت وقدرت بِمَعْنى، وَالْمرَاد: إِن قدر وَسبق قَضَاؤُهُ أَن يعذب كل ذِي جرم ليعذبني عذَابا لَا يعذبه أحدا. ذكرهَا أَبُو عمر بن عبد الْبر الْحَافِظ. وَالسَّادِس: أَن هَذَا الرجل كَانَ يثبت الصَّانِع وَلَكِن لم تخاطبه النبوات، وَمن لم تصله دَعْوَة لَا يُؤَاخذ - عِنْد أهل السّنة - بِمَا يُخَالف الْعُقُول؛ لِأَن الْمُؤَاخَذَة ببلوغ الدعْوَة فَقَط، وَمَا لم يسمع الدعْوَة فَلَا مُؤَاخذَة، وعَلى قَول من يرى أَن الْعقل مُوجب يحمل ذَلِك على أَنه كَانَ فِي مهلة النّظر لم يتكامل لَهُ النّظر، ذكره ابْن عقيل.

(3/157)


فَإِن قيل: وَكَيف جمعه قبل الْقِيَامَة؟ إِن قُلْتُمْ: خَاطب روحه فَلَيْسَ ذَلِك بِجمع، وَإِن قُلْتُمْ: جمع أجزاءه فَهُوَ عين الْبَعْث، ثمَّ لَو بَعثه لم يخاطبه لِأَنَّهُ لَا يكلمهُ فِي الدُّنْيَا. فَالْجَوَاب أَنه إِخْبَار عَمَّا سيجري، وَأَن الله تَعَالَى يجمعه فِي الْقِيَامَة فَيَقُول لَهُ هَذَا.
1468 - / 1776 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها.
الْحيَاء: الإنقباض والإحتشام. وَقد بَينا فضل الْحيَاء فِي مُسْند ابْن عمر عِنْد قَوْله: ((الْحيَاء من الْإِيمَان)) .
الْعَذْرَاء اسْم مَأْخُوذ من الْعذرَة، وَهُوَ مَا يهتكه الإفتضاض.
والخدر: مَا تستتر فِيهِ الْمَرْأَة، وَالْأَصْل فِي الخدر الإستتار، وَلذَلِك قيل: أَسد خادر، كَأَن الأجمة لَهُ خدر يسْتَتر فِيهَا.
والخداري: اللَّيْل المظلم، لِأَنَّهُ يستر مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ.
وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كره شَيْئا أثر فِيهِ، وَيزِيد التَّأْثِير بكتمانه إِيَّاه عَن صاحيه.
1469 - / 1777 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: قصَّة الَّذِي قتل تِسْعَة وَتِسْعين نفسا ثمَّ طلب التَّوْبَة وَخرج فأدركه الْمَوْت، فنَاء بصدره نَحْو الْقرْيَة الصَّالِحَة.

(3/158)


نأى بِمَعْنى: مَال.
وَالْمرَاد من الحَدِيث أَنه لما صدق فِي التَّوْبَة اجْتهد فِي الْقرب إِلَى أهل الْخَيْر فأعين على اجْتِهَاده بِالْوَحْي إِلَى الأَرْض الصَّالِحَة: أَن تقربي، وَإِلَى الخبيثة: أَن تباعدي، وَهَذَا من جنس قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك كدنا ليوسف} [يُوسُف: 76] .
1470 - / 1778 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن أخي اسْتطْلقَ بَطْنه، فَقَالَ: ((اسْقِهِ عسلا)) .
قد يشكل هَذَا على قوم: فَيَقُولُونَ: كَيفَ أَمر صَاحب الإسهال بالعسل؟ وَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأَول الْآيَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} [النَّحْل: 69] وَلم يلْتَفت إِلَى اخْتِلَاف الْأَمْرَاض. وَالثَّانِي: أَن مَا كَانَ يذكرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الطِّبّ على مَذَاهِب الْعَرَب وعاداتهم كَمَا بَينا فِي مُسْند رَافع بن خديج فِي إبراد الْحمى بِالْمَاءِ. وَالثَّالِث: أَن الْعَسَل كَانَ يُوَافق ذَلِك الرجل، فَقَالَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: كَانَ استطلاقه من الإمتلاء وَسُوء الهضم، وَسَائِر الْأَطِبَّاء يأمرون صَاحب الهيضة بألا يمسك الطبيعة ليستفرغ الفضول. وَالرَّابِع: أَن يكون أمره بطبخ الْعَسَل قبل سقيه، والمطبوخ قد يعقل المبلغمين.

(3/159)


وَقَوله: ((صدق الله وَكذب بطن أَخِيك)) ذكر فِيهِ الْخطابِيّ احْتِمَالَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون إِخْبَارًا عَن غيب أطلعه الله عَلَيْهِ، وأعلمه بِالْوَحْي أَن شِفَاء ذَلِك من الْعَسَل، فكرر عَلَيْهِ الْأَمر بسقي الْعَسَل ليظْهر مَا وعد بِهِ. وَالثَّانِي: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} وَيكون قد علم أَن ذَلِك النَّوْع من الْمَرَض يشفيه الْعَسَل.
وَقَوله: عرب بَطْنه: أَي فسد.
1471 - / 1779، 1780 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: مشروح فِي مُسْند أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث الثَّانِي: قد سبق مُسْند أبي ذَر.
1472 - / 1781 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ((يَجِيء نوح وَأمته فَيُقَال: من يشْهد لَك؟ فَيَقُول: مُحَمَّد وَأمته)) .
اعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن الشَّهَادَة على الشَّهَادَة، وَهِي مَقْبُولَة عِنْد عَامَّة الْعلمَاء، وَأمة مُحَمَّد شهدُوا على شَهَادَة الله عز وَجل عِنْدهم بالتبليغ.
1473 - / 1782 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مُبين فِي مُسْند ابْن عمر.

(3/160)


وَالسَّادِس وَالثَّامِن فِي مُسْند أبي قَتَادَة. وَالسَّابِع فِي مُسْند عبَادَة.
1474 - / 1790 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة)) .
المدى: الْغَايَة.
1475 - / 1791 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((يُوشك أَن يكون خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعف الْجبَال)) .
يُوشك: أَي يقرب ويشرع. وَقد بَينا هَذِه الْكَلِمَة فِي مُسْند كَعْب ابْن مَالك.
والشعفة: رَأس الْجَبَل، وَجَمعهَا شعف وشعفات.
1476 - / 1794 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((وَيْح عمار)) .
وَيْح كلمة رَحْمَة، قَالَ الْخَلِيل: وَلم يسمع على بنائها إِلَّا وَيس، وويه، وويك، وويب، وويل. قَالَ الْأَصْمَعِي: وَيْح ترحم، وويس تصغر ذَلِك.
وَقَوله: ((تقتله الفئة الباغية)) الفئة: الْجَمَاعَة. والباغية:

(3/161)


الظالمة. وَالْبَغي: الظُّلم.
وَقَوله: ((يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة)) أَي إِلَى مَا يحمل إِلَى الْجنَّة.
1477 - / 1797 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد مُسلم: ((إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته، فليطرح الشَّك وليبن على مَا استيقن، ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم)) .
أما سُجُود السَّهْو فَإِنَّهُ عندنَا وَاجِب، ووافقنا مَالك فِيمَا إِذا كَانَ عَن نُقْصَان. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ مسنون. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي مَحل سُجُود السَّهْو، فَروِيَ عَنهُ إِن كَانَ من نُقْصَان فَقبل السَّلَام، وَإِن كَانَ من زِيَادَة فَبعد السَّلَام، وَهَذَا قَول مَالك. وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْكل قبل السَّلَام، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْكل قبل السَّلَام إِلَّا فِي موضِعين: أَحدهمَا: أَن يسلم من نُقْصَان. وَالثَّانِي: إِذا شكّ الإِمَام وَقُلْنَا يتحَرَّى على رِوَايَة فَإِنَّهُ يسْجد بعد السَّلَام اسْتِحْسَانًا لموْضِع الْأَثر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: كُله بعد السَّلَام.
وَقَوله: ((كَانَت ترغيما للشَّيْطَان)) أَي دحرا لَهُ ورميا لَهُ باالرغام: وَهُوَ التُّرَاب.
1478 - / 1798 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((لَا تكْتبُوا عني)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا نهى فِي أول الْأَمر، فَلَمَّا علم أَن السّنَن تكْثر فَيفوت الْحِفْظ أجَاز الْكِتَابَة. قَالَ: وَيجوز أَن يكون إِنَّمَا خص بِإِجَازَة

(3/162)


الْكِتَابَة عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ حِين قَالَ لَهُ: إِنِّي أسمع مِنْك أَشْيَاء، وَإِنِّي أَخَاف أَن أَنْسَاهَا، أفتأذن لي أَن أَكتبهَا؟ قَالَ: ((نعم)) لِأَن عبد الله كَانَ كَاتبا قَارِئًا للكتب الْمُتَقَدّمَة. وَكَانَ غَيره من الصَّحَابَة أُمِّيين، فخشي عَلَيْهِم فِي كتابتهم الْغَلَط، وَأمن على هَذَا لمعرفته فَأذن لَهُ.
وَقَوله: ((حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج)) فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ قد تقدم مِنْهُ مَا يشبه النَّهْي، إِذْ جَاءَ عمر بِكَلِمَات من التَّوْرَاة فَقَالَ لَهُ: ((أمطها عَنْك)) فخاف أَن يتَوَهَّم النَّهْي عَن ذكرهم جملَة فَأجَاز الحَدِيث عَنْهُم. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: وَلَا يضيق صدر السَّامع من عجائب مَا يسمع عَنْهُم، فقد كَانَ فيهم أَعَاجِيب.
وَالثَّالِث: أَنه لما كَانَ قَوْله: ((حدثوا)) لفظ أَمر بَين أَنه لَيْسَ على أَمر الْوُجُوب بقوله: ((وَلَا حرج)) أَي: وَلَا حرج إِن لم تحدثُوا.
وَالرَّابِع: أَنه لما كَانَت أفعالهم قد يَقع فِيهَا مَا يتحرز من ذكره الْمُؤمن أَبَاحَ التحديث بذلك، كَقَوْلِه: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} [الْمَائِدَة: 24] {وَاجعَل لنا إِلَهًا} [الْأَعْرَاف: 138] ((مُوسَى آدر)) . وَالْخَامِس: أَن يكون أَرَادَ ببني إِسْرَائِيل أَوْلَاد يَعْقُوب وَمَا فَعَلُوهُ بِيُوسُف.
وَقَوله: ((من كذب عَليّ)) قد سبق فِي مُسْند عَليّ وَغَيره.
1479 - / 1799 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله)) .

(3/163)


فِي تلقين الْمَيِّت هَذِه الْكَلِمَة سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَنَّهَا أول مَا يلْزمه النُّطْق بِهِ فِي بداية التَّكْلِيف فَأَرَادَ أَن تكون خَاتِمَة الْأَقْوَال. وَالثَّانِي: أَنه إِن كَانَ قَالَهَا فِي زمن السَّلامَة شاكا فِي صِحَّتهَا أَو غافلا عَن مضمونها، فَعِنْدَ الْمَوْت يحضر قلبه فينطق بهَا بِيَقِين. وَالثَّالِث: أَن الْأَعْمَال بطلت بِقُوَّة الْمَرَض، فَلم يبْق إِلَّا الْأَقْوَال، وَهِي أفضل الْأَقْوَال. وَالرَّابِع: أَن الْأَعْمَال بخواتيمها، وَهِي أشرف مَا ختم بِهِ. وَالْخَامِس: لِيُقِر الْمُؤمن فِي زمن الشدَّة بِمَا كَانَ مقرا بِهِ فِي زمن السَّلامَة والعافية، وَمثله ابتلاء مُنكر وَنَكِير. وَالسَّادِس: أَن هَذِه الْكَلِمَة كَانَت عَاصِمَة فِي الدُّنْيَا من عَذَابهَا، فَأمر بقولِهَا عِنْد اسْتِقْبَال الْآخِرَة لينجى من عَذَابهَا. وَيسْتَحب أَن تكون آخر كَلَام الْمَرِيض، فَإِن لقنها ثمَّ تكلم بعْدهَا أُعِيدَت عَلَيْهِ لتَكون آخر كَلَامه، وَإِن ثقل عَلَيْهِ النُّطْق فكررت عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَلم يطق النُّطْق لم تكَرر عَلَيْهِ، فَكَانَ اعْتِقَاده قَائِما مقَام النُّطْق.
1480 - / 1801 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: ((مثلي وَمثل الْأَنْبِيَاء كَمثل رجل بنى دَارا فأتمها إِلَّا لبنة)) قد تقدم بَيَانه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1481 - / 1802 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((احتجت الْجنَّة وَالنَّار، فَقَالَت النَّار: فِي الجبارون والمتكبرون. وَقَالَت الْجنَّة: فِي ضِعَاف النَّاس ومساكينهم)) .
المتكبر: الَّذِي يحتقر النَّاس ويعظم نَفسه.

(3/164)


والضعفاء جمع ضَعِيف: وَهُوَ الْقَلِيل الْحَظ من الدُّنْيَا.
وَظَاهر هَذِه المحاجة الْمُخَاصمَة فِي الْفَضِيلَة: وَالْمعْنَى: أظهرتا حجج التَّفْضِيل، فَكل وَاحِدَة تَدعِي الْفضل على الْأُخْرَى.
وَيحْتَمل مُرَاد النَّار بقولِهَا: ((فِي الجبارون والمتكبرون)) . وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الجبارين أَعلَى من الضُّعَفَاء. وَالثَّانِي: أَنِّي أنتقم لله عز وَجل من الجبارين الَّذين خالفوه، فحالتي عالية.
وَيحْتَمل قَول الْجنَّة: ((فِي الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين)) وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الضُّعَفَاء كَانُوا يَتَّقُونَ الله، فهم أفضل من المتجبرين.
وَالثَّانِي: أَن الضُّعَفَاء مَوضِع الرَّحْمَة واللطف، وثواب الْمُنعم عَلَيْهِ بعد الْفقر والمسكنة أحسن من عِقَاب المتجبر. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة، وَمِنْه: (فَقَالَت الْجنَّة: فَمَالِي لَا يدخلني إِلَّا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ وغرتهم)) فَيحْتَمل قَوْلهَا هَذَا أَمريْن: أَحدهمَا: الْمَدْح لحالها، لِأَنَّهَا ذكرت قوما لَيْسَ فيهم خب وَلَا دغل، شغلتهم التَّقْوَى عَن ذَلِك. وَالثَّانِي: أَن تكون قَالَت هَذَا كالشكوى إِلَى الله عز وَجل، فَتكون كالمغلوب فِي المجادلة.
1482 - / 1803 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: أَصَابَت النَّاس مجاعَة فِي غَزْوَة تَبُوك، فَقَالُوا: لَو أَذِنت لنا فنحرنا نواضحنا؟ فَقَالَ: ((افعلوا)) فجَاء عمر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن فعلت قل الظّهْر، وَلَكِن ادعهم بِفضل أَزْوَادهم ثمَّ ادْع الله لَهُم فِيهَا بِالْبركَةِ، فَذكر أَنهم ملأوا أوعيتهم.
هَذَا الحَدِيث يدل على أَن إِنَّمَا أذن لَهُم بِرَأْيهِ لَا بِالْوَحْي، فَلَمَّا

(3/165)


أَشَارَ عمر بِمَا رَآهُ أصلح مَال إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا فضل كثير لعمر.
وَقد قَالَ قَائِل: مَا وَجه دُعَائِهِ بالزاد وَالْمَاء ثمَّ يَدْعُو بِالْبركَةِ فِيهِ، فَهَلا دَعَا ليخرج الله تَعَالَى لَهُم الزَّاد وَالْمَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن مَا يَتَوَلَّاهُ الْخلق يَقع بالأسباب، فَلَا يخرج على يَد مَخْلُوق شَيْء لَا من شَيْء، كَمَا قَالَ عِيسَى: {أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير} [آل عمرَان: 49] فَأَما ابتداع الْأَشْيَاء لَا من شَيْء فَذَاك مِمَّا انْفَرد الْحق عز وَجل بِهِ.
فَإِن قيل: فقد ركض الأَرْض فنبع المَاء. قُلْنَا: فالأرض مَحل المَاء.
1483 - / 1804 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ((الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ)) .
الصَّوْم فِي اللُّغَة: الْإِمْسَاك فِي الْجُمْلَة، يُقَال: صَامت الرّيح: إِذا أَمْسَكت عَن الهبوب.
وَالصَّوْم فِي الشَّرِيعَة: الْإِمْسَاك عَن الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع مَعَ انضمام النِّيَّة إِلَيْهِ.
وَلقَائِل أَن يَقُول: مَا معنى: إِضَافَة الصَّوْم إِلَيْهِ بقوله: ((الصَّوْم لي)) وَجَمِيع الْعِبَادَات لَهُ؟ فَالْجَوَاب عَنهُ من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَنه إِضَافَة تشريف كَقَوْلِه تَعَالَى: {وطهر بَيْتِي} [الْحَج: 26] وَقَوله: {نَاقَة الله} [الْأَعْرَاف: 73] . وَالثَّانِي: أَنه أَضَافَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أحب الْعِبَادَات إِلَيْهِ، يدل عَلَيْهِ أَن فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي)) وَكَانَ الْمَعْنى هُوَ الْمُقدم عِنْدِي على غَيره. وَالثَّالِث: لمضاعفته جزاءه، فَالْمَعْنى: أَن جَمِيع الْأَعْمَال لَهَا جَزَاء مَعْلُوم إِلَّا الصَّوْم فَإِنِّي

(3/166)


أضاعف جزاءه إِلَى مَا لَا يُعلمهُ غَيْرِي، وَيشْهد لَهُ قَوْله: ((وَأَنا أجزي بِهِ))
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((كل عمل ابْن آدم يُضَاعف الْحَسَنَة عشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، قَالَ الله تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي، وَأَنا أجزي بِهِ)) وَالرَّابِع: أَن جَمِيع الْعِبَادَات تظهر، وَقل أَن يسلم الظَّاهِر من شوب، وَلِهَذَا قَالَ: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ)) وَالْمعْنَى: لنَفسِهِ فِيهِ حَظّ لظُهُوره، وَالنَّاس يثنون عَلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ الظَّاهِرَة، وَالصَّوْم بَاطِن فَهُوَ سليم.
وَالْخَامِس: أَن الْمَعْنى أَن الإستغناء عَن الْمطعم وَالْمشْرَب صِفَتي، فَكَأَن الصَّائِم تقرب إِلَى الله عز وَجل بِمَا يشبه صفته وَلَا شبه.
وَقَوله: ((إِذا أفطر فَرح)) هَذَا فَرح الطَّبْع، فَأَما الْعقل فَإِنَّهُ يفرح بِتمَام صَوْمه وسلامته من الْآفَات.
وَأما الخلوف فَهُوَ تغير ريح الْفَم، يُقَال: خلف فَمه يخلف خلوفا. وَكثير من أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: ولخلوف بِفَتْح الْخَاء؛ وَهُوَ غلط؛ لِأَن الخلوف هُوَ الَّذِي بعد وتخلف، قَالَ النمر بن تولب:
(جزى الله عني جَمْرَة ابْنة نَوْفَل ... جَزَاء خلوف بالأمانة كَاذِب)

وَذكر الْمسك تَشْبِيه لنا بِمَا نعقل، فَكَمَا أَن الْمسك طيب الرّيح

(3/167)


عندنَا، فالخلوف عِنْد الله أطيب.
وَاعْلَم أَن الله عز وَجل ينظر إِلَى قصد الْفَاعِل، فَإِذا كَانَ صَحِيحا أحب مَا يحدث مِنْهُ وَإِن كَانَ مَكْرُوها عِنْد الْخلق كالخلوف فِي الصَّوْم، وَالنَّوْم فِي التَّهَجُّد، وَالدَّم فِي حق الشَّهِيد.
1484 - / 1805 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أُصِيب رجل فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثمار ابتاعها، فَكثر دينه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((تصدقوا عَلَيْهِ)) فَلم يبلغ ذَلِك وَفَاء دينه، فَقَالَ لغرمائه: ((خُذُوا مَا وجدْتُم، فَلَيْسَ لكم إِلَّا ذَلِك)) .
رُبمَا توهم متوهم أَن معنى قَوْله: ((لَيْسَ لكم إِلَّا ذَلِك)) أَن مَا وجدوه وَإِن لم يَفِ بِأَمْوَالِهِمْ هُوَ قدر مَا يجب لَهُم، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لَيْسَ لكم الْآن إِلَّا مَا وجدْتُم وَيبقى من الدُّيُون فِي ذمَّته إِلَى حِين يسَاره. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي الْمُفلس إِذا بَقِي عَلَيْهِ دين وَكَانَ ذَا صناعَة، هَل يجْبرهُ الْحَاكِم على إِيجَار نَفسه؟ فَروِيَ عَنهُ: يجْبرهُ، وَرُوِيَ: لَا يجْبرهُ، كَقَوْل الْأَكْثَرين.
1485 - / 1806 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ذكر قِرَاءَة أسيد بن حضير، ونزول الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ وَقد سبق فِي مُسْند أسيد.
والمربد: الْموضع الَّذِي يجمع فِيهِ تمر النّخل عِنْد الجداد.

(3/168)


والمربد أَيْضا: موقف الْإِبِل، وَقد سبق هَذَا.
1486 - / 1807 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر وَغَيره.
1487 - / 1808 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر آخر من يدْخل الْجنَّة.
وَفِيه: ((فَأَكُون تَحت نجاف الْجنَّة)) والنجاف: أَعلَى الْبَاب.
وأصل النجف الإرتفاع، والنجف شبه التل، وَجمع النجف نجاف.
وَقد سبق الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1488 - / 1809 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: لقد كَانَت صَلَاة الظّهْر تُقَام فَيذْهب الذَّاهِب إِلَى البقيع فَيَقْضِي حَاجته ثمَّ يتَوَضَّأ ثمَّ يَأْتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرَّكْعَة الأولى، مِمَّا يطولها.
الْحَاجة هَا هُنَا: الْغَائِط وَالْبَوْل. وَهَذَا يدل على اسْتِحْبَاب تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة الأولى من كل صَلَاة. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
1489 - / 1810 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: ((اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات

(3/169)


وَالْأَرْض)) .
قد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن قَوْله: ((ملْء السَّمَاء)) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون ذكر مَا نحس بِهِ للتقريب إِلَى الْفَهم، فَالْمَعْنى: لَك الْحَمد حمدا كثيرا. وَالثَّانِي: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى الصُّحُف الَّتِي تكْتب فِيهَا المحامد.
وَالثنَاء: الْمَدْح وَالْمجد والشرف.
وَقَوله: ((وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد)) قد فسرناه فِي مُسْند الْبَراء ابْن عَازِب.
1490 - / 1811 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أتيت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَهُوَ مكثور عَلَيْهِ.
أَي قد كثر النَّاس عَلَيْهِ، فَعدى الْكَثْرَة وَهِي لَازِمَة، كَمَا يُقَال: مَرْغُوب فِيهِ.
وَقَوله: فَلم يعب الصَّائِم على الْمُفطر. وَقد سبق فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء بَيَانه، وَذكرنَا جَوَاز الصَّوْم وَالْفطر فِي السّفر، وَاخْتِلَاف النَّاس فِي الْأَفْضَل.
1491 - / 1812 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: كُنَّا نحزر قيام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الظّهْر.
الحزر: تَقْدِير بِظَنّ.

(3/170)


1492 - / 1813 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ((إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود فَليَتَوَضَّأ)) .
اعْلَم أَن الْوضُوء يجمع بَين تَخْفيف الْحَدث والنظافة، وَقد علم أَن الْإِنْسَان لَا يتَوَضَّأ بعد الْوَطْء حَتَّى يغسل ذكره، وَذَلِكَ يُقَوي الْعُضْو، ثمَّ إِن الْبدن يسكن من الإنزعاج بِتِلْكَ السَّاعَة فَيَعُود مستريحا. وَلَا يُمكن أَن يحمل قَوْله: ((فَليَتَوَضَّأ)) على غسل الذّكر فَحسب، لِأَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث ((وضوءه للصَّلَاة)) .
1493 - / 1814 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: نهى عَن الدُّبَّاء والحنتم والنقير والمزفت. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَبينا أَنه إِنَّمَا نهى عَن هَذِه الْأَشْيَاء لِأَنَّهَا تزيد المنبوذ فِيهَا شدَّة.
1494 - / 1815 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: نَهَانَا أَن نخلط بسرا بتمرا، أَو زبيبا بِتَمْر.
قد بَينا فِيمَا سبق أَن الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الإنتباذ، وَأَنه إِذا اجْتمع نَوْعَانِ تعاونا على إِحْدَاث الشدَّة، فكره ذَلِك لِأَنَّهُ يقرب إِلَى الْمحرم، فَإِن حدثت شدَّة حرم.
1495 - / 1816 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: ((إِذا تثاءب أحدكُم فليمسك بِيَدِهِ على فَمه)) وَفِي لفظ ((فليكظم)) .

(3/171)


وأصل الكظم إمْسَاك على مَا فِي النَّفس، فَكَأَنَّهُ أَمر برده مهما أمكن، لِأَنَّهُ يُوجب فتح الْفَم خَارِجا عَن الْعَادة، وَرُبمَا ظهر مَعَه صَوت مستنكر، كَقَوْل المتثائب: هاه، هاه.
1496 - / 1817 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: ((إِنِّي حرمت مَا بَين لابتي الْمَدِينَة)) . وَكَانَ أَبُو سعيد يَأْخُذ أَحَدنَا فِي يَده الطَّائِر فيفكه من يَده ثمَّ يُرْسِلهُ.
هَذَا يدل على أَن صيد الْمَدِينَة محرم. وَقد سبق ذكر الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَبينا معنى اللابة.
1497 - / 1818 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل - وَفِي لفظ - عرية)) .
الْعَوْرَة: كل شَيْء يستحيى مِنْهُ. وَهِي الْعرية أَيْضا. وحد عَورَة الرجل وَالْأمة من السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة. وَعَن أَحْمد: أَنَّهَا الْقبل والدبر، وَبِه قَالَ دَاوُد، وركبة الرجل لَيست عَورَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ عَورَة، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين. وعورة الْحرَّة جَمِيع بدنهَا إِلَّا الْوَجْه، وَفِي الْكَفَّيْنِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ قدمهَا وَلَا يَدهَا عَورَة. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي عَورَة أم الْوَلَد وَالْمُعتق بَعْضهَا، فَروِيَ عَنهُ أَن عورتهما كعورة الْحرَّة، وَرُوِيَ عَنهُ كعورة الْأمة. وَاعْلَم

(3/172)


أَن عَورَة الْمَرْأَة فِي حق الْمَرْأَة كعورة الرجل فِي حق الرجل.
وَأما الْعَوْرَة بِالسِّنِّ فَقَالَ شَيخنَا عَليّ بن عبد الله: كل من لم يبلغ سبع سِنِين لم يثبت فِي حَقه حكم الْعَوْرَة، فعلى هَذَا يجوز أَن يغسل الرجل الصبية وَالْمَرْأَة الصَّبِي إِذا لم يبلغَا سبع سِنِين، ويؤكد هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل ربيبة الْحسن.
وَإِنَّمَا فعل هَذَا لارْتِفَاع حُرْمَة الْعَوْرَة فِي حق الصَّغِير. فَإِذا بلغ الصَّبِي سبعا دخل فِي حد التَّمْيِيز وَأدْخلهُ الشَّرْع فِي حيّز المتعبدين بقوله: ((مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع)) .
وَأما إفضاء الرجل إِلَى الرجل فِي الثَّوْب الْوَاحِد فَذَاك يُوجب التقاء البشرتين، فَإِن كَانَت الْبشرَة عَورَة فَذَاك حرَام، وَإِن لم تكن عَورَة خيف من ذَلِك أَن يكون طَرِيقا إِلَى الإستمتاع، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة مَعَ الْمَرْأَة.
1498 - / 1819 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: أول من بَدَأَ بِالْخطْبَةِ يَوْم الْعِيد قبل الصَّلَاة مَرْوَان.
قد بَينا السَّبَب فِي تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَإِنَّمَا خَافَ مَرْوَان إِن قدم الصَّلَاة أَلا يسمعوا خطبَته، فَقدم الْخطْبَة، فَقَالَ لَهُ رجل: الصَّلَاة أَولا فَقَالَ: قد ترك مَا هُنَالك.

(3/173)


يَعْنِي: تركت السّنة، فَقَالَ أَبُو سعيد: هَذَا قد قضى مَا عَلَيْهِ، يَعْنِي: فرض الْإِنْكَار.
وحد الإستطاعة فِي الْإِنْكَار أَلا يخَاف الْمُنكر سَوْطًا وَلَا عَصا، فَحِينَئِذٍ يجب عَلَيْهِ التَّغْيِير بِالْيَدِ، فَإِن خَافَ السَّوْط فِي تَغْيِيره بِالْيَدِ وَلم يخفه فِي النُّطْق انْتقل الْوُجُوب إِلَى الْإِنْكَار بِاللِّسَانِ. فَإِن خَافَ انْتقل إِلَى الْإِنْكَار بِالْقَلْبِ. وَالْإِنْكَار بِالْقَلْبِ هُوَ كَرَاهِيَة ذَلِك الْفِعْل، وَتلك فَرِيضَة لَازِمَة على كل حَال.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه ضعف الْإِيمَان هَا هُنَا وَمَا تعدى الْمُنكر بِالْقَلْبِ الشَّرْع؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْإِيمَان إِذا قوي فِي الْبَاطِن حرك الْأَعْضَاء بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذا ضعف اقْتصر على العقيدة وَالْبَاطِن. وَالثَّانِي: أَن الإقتصار على الْإِنْكَار بِالْقَلْبِ رخصَة، وَالْإِنْكَار بِالْيَدِ عَزِيمَة، وَالْإِيمَان مُشْتَمل على الْعَزِيمَة والرخصة، والرخص أَضْعَف الْأَمريْنِ فِيهِ.
1499 - / 1820 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: ((إِن من شَرّ النَّاس عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة الرجل يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَة وتفضي إِلَيْهِ ثمَّ ينشر سرها)) .
الْإِفْضَاء: الْمُبَاشرَة. وَالْمرَاد بالسر هَا هُنَا مَا يكون من عُيُوب الْبدن الْبَاطِنَة، وَذَاكَ كالأمانة فَلَزِمَ كِتْمَانه.

(3/174)


1500 - / 1821 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِن لهَذِهِ الْبيُوت عوامر، فَإِذا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فحرجوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِن ذهبت وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِر)) .
المُرَاد بالعوامر الْجِنّ. يُقَال للجن: عوامر الْبَيْت وعمار الْبَيْت.
وَالْمرَاد أَنَّهُنَّ يطول لبثهن فِي الْبيُوت، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْعُمر: وَهُوَ طول الْبَقَاء.
وَقَوله: ((فحرجوا عَلَيْهَا)) أَي قُولُوا: أَنْت فِي حرج - أَي فِي ضيق - إِن عدت إِلَيْنَا، فَلَا تلومينا أَن نضيق عَلَيْك بالطرد والتتبع. وَقد شرحنا الحَدِيث فِي مُسْند أبي لبَابَة، وَذكرنَا الإستئذان هُنَاكَ.
1501 - / 1822 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: بَيْنَمَا نَحن نسير مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعرج إِذْ عرض شَاعِر ينشد، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((خُذُوا الشَّيْطَان)) .
العرج: اسْم مَوضِع.
وَقَوله: ((لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا)) قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند سعد ابْن أبي وَقاص، وَبينا الممدوح والمذموم من الشّعْر. وَهَذَا الحَدِيث يُوهم أَن من أنْشد الشّعْر فَهُوَ شَيْطَان، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فقد تمثل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشعر، وسَمعه من جمَاعَة، وتمثل بِهِ الصَّحَابَة

(3/175)


وَمن بعدهمْ على مَا بَينا فِي كتَابنَا الْمُسَمّى ((الْإِشْعَار بِأَحْكَام الْأَشْعَار)) وَهَذَا الحَدِيث قَضِيَّة فِي عين، فَيحْتَمل أَن ذَاك المنشد كَانَ يطرب أَو يَقُول مَا لَا يجوز، أَو يُرِيد أَن يُقَاوم الْمُسلمين أهل الْقُرْآن بإنشاده.
1502 - / 1823 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: ذكر وَفد عبد الْقَيْس. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب: تقذفون فِيهِ من القطياء. فَقَالَ رجل: فَفِيمَ نشرب؟ قَالَ: ((فِي أسقية الْأدم الَّتِي يلاث على أفواهها)) وَفِي لفظ: ((عَلَيْكُم بالموكى)) فَقَالُوا: إِن أَرْضنَا كَثِيرَة الجرذان.
القطياء: ضرب من التَّمْر.
وَقَوله: ((تلاث على أفواهها)) أَي توكى وتشد. والموكى: المشدود. وأصل اللوث الطي والربط، يُقَال: لثت الْعِمَامَة ألوثها لوثا.
والجرذان جمع جرذ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
1503 - / 1825 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: ((أحقهم بِالْإِمَامَةِ أقرؤهم)) .
هَذَا يدل على مَذْهَبنَا. وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ.

(3/176)


1504 - / 1828 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله يعرض بِالْخمرِ، وَلَعَلَّ الله سينزل فِيهَا أمرا، فَمن كَانَ عِنْده مِنْهَا شَيْء فليبعه ولينتفع بِهِ)) فَمَا لبثنا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَالَ: ((إِن الله حرم الْخمر)) فَاسْتَقْبلُوا بِمَا كَانَ عِنْدهم طرق الْمَدِينَة فسفكوها.
فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان فَضِيلَة الفطنة، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لما رأى التَّعْرِيض بذمها اسْتدلَّ على قرب التَّصْرِيح. وَفِيه الْحَث على حفظ الْأَمْوَال وبدارها قبل التّلف.
والسفك: الصب والإراقة، إِلَّا أَنه فِي الْأَغْلَب يسْتَعْمل فِي الدَّم.
1505 - / 1829 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ذكر مَاعِز.
وَقد سبق فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة، وَبُرَيْدَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: فَاشْتَدَّ واشتددنا خَلفه. يَعْنِي: عدا، حَتَّى أَتَى عرض الْحرَّة: أَي جَانبهَا. فانتصب لنا: أَي وقف. فرميناه بجلاميد الْحرَّة: أَي بحجارتها، حَتَّى سكت: أَي مَاتَ.
1506 - / 1830 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: بَينا نَحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر، جَاءَ رجل فَجعل يصرف بَصَره يَمِينا وَشمَالًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من كَانَ مَعَه فضل ظهر فليعد بِهِ على من لَا ظهر لَهُ، وَمن كَانَ مَعَه فضل زَاد فليعد بِهِ على من لَا زَاد لَهُ)) فَذكر

(3/177)


من أَصْنَاف المَال حَتَّى رَأينَا أَنه لَا حق لأحد منا فِي فضل.
فِي هَذَا الحَدِيث مدح الفطنة، لِأَنَّهُ لما رأى الرجل ينظر يَمِينا وَشمَالًا علم أَنه مُحْتَاج.
وَالظّهْر: مَا يركب.
ورأينا: ظننا. وَإِنَّمَا ظنُّوا لأَنهم رجحوا الْوُجُوب من أمره على النّدب.
1507 - / 1831 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((لكل غادر لِوَاء)) . وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَفِي تَمام هَذَا الحَدِيث: ((وَلَا غادر أعظم غدرا من أَمِير عَامَّة)) أَي من الْغدر بالأمير، وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر.
1508 - / 1832 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا بُويِعَ لخليفتين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا)) .
إِذا اسْتَقر أَمر الْخَلِيفَة وانعقد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فبويع لآخر بِنَوْع تَأْوِيل كَانَ بَاغِيا، وَكَانَ أنصاره بغاة يُقَاتلُون قتال الْبُغَاة.
وَقَوله: ((فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا)) لَيْسَ المُرَاد بِهِ أَن يقدم فَيقْتل، وَإِنَّمَا المُرَاد قَاتلُوهُ، فَإِن آل الْأَمر إِلَى قَتله جَازَ.

(3/178)


1509 - / 1833 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن أَعْرَابِيًا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي فِي غَائِط مضبة.
الْغَائِط: المطمئن من الأَرْض.
المضبة بِفَتْح الْمِيم: وَهِي الْكَثِيرَة الضباب، كَمَا يُقَال: أَرض مسبعَة.
وَقَوله: ((إِن الله غضب على سبط بني إِسْرَائِيل)) قَالَ: الزّجاج: السبط فِي اللُّغَة: الْجَمَاعَة الَّذين يرجعُونَ إِلَى أَب وَاحِد. والسبط فِي اللُّغَة: الشّجر، فالسبط الَّذين هم من شَجَرَة وَاحِدَة. وَقَالَ غَيره: الأسباط من ولد إِسْحَاق بِمَنْزِلَة الْقَبَائِل من ولد إِسْمَاعِيل.
وَإِسْرَائِيل اسْم أعجمي. قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: عبد الله.
وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: فِي إِسْرَائِيل لُغَات، قَالُوا: إسرال كَمَا قَالُوا ميكال، وَقَالَ إِسْرَائِيل، وَقَالُوا: إسرائين بالنُّون، قَالَ أُميَّة على إسرال:
(إِنَّنِي زارد الْحَدِيد على النَّاس ... دروعا سوابغ الأذيال)

(لَا أرى من يُعِيننِي فِي حَياتِي ... غير نَفسِي إِلَّا بني إسرال)

وَقَالَ أَعْرَابِي صَاد صيدا فجَاء بِهِ إِلَى أَهله:
(يَقُول أهل السُّوق لما جينا ... هَذَا - وَرب الْبَيْت - إسرائينا)

(3/179)


وَقد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس الْعلَّة فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاف لحم الضَّب، وَذكرنَا اعتراضا وجوابا فِي قَوْله: ((لَعَلَّه مِمَّا مسخ)) فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1510 - / 1834 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: النَّهْي عَن أكل لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث. وَقد بَينا فِي مُسْند جَابر أَنه نهى لسَبَب ثمَّ أذن فِي ذَلِك بعد.
1511 - / 1837 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: ((كَانَت امْرَأَة من بني إِسْرَائِيل قَصِيرَة تمشي بَين امْرَأتَيْنِ طويلتين، فاتخذت رجلَيْنِ من خشب وخاتما من ذهب مطبق ثمَّ حشته مسكا، والمسك أطيب الطّيب)) .
المُرَاد بِالرجلَيْنِ النَّعْلَانِ، فَكَأَنَّهَا اتَّخذت نَعْلَيْنِ لَهما كَثَافَة فطالت بهما.
والمطبق: الَّذِي دَاخله فارغ.
والمسك طيب مَعْرُوف، وَمن مَنَافِعه أَنه يذهب الْحزن، ويفرح الْقلب ويقويه، وَيُقَوِّي الدِّمَاغ وَالْعين، وينشف رطوباتها، وينفع الْأَمْرَاض الْبَارِدَة السوداوية والبلغمية، وَيزِيد فِي القوى.
1512 - / 1839 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ: صَحِبت ابْن صياد إِلَى مَكَّة، فَقَالَ لي: مَا لقِيت من النَّاس، يَزْعمُونَ أَنِّي

(3/180)


الدَّجَّال، أَلَسْت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((لَا يدْخل الْمَدِينَة وَلَا مَكَّة)) ؟ قلت: بلَى. قَالَ: فقد ولدت فِي الْمَدِينَة وَهَا أَنا أُرِيد مَكَّة.
ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأعْلم مولده ومكانه وَأَيْنَ هُوَ، قَالَ: فلبسني وأخذتني مِنْهُ ذمَامَة. وَفِي لفظ: قيل لِابْنِ صياد: أَيَسُرُّك أَنَّك ذَاك الرجل؟ قَالَ: فَقَالَ: لَو عرض عَليّ مَا كرهت.
من الْجَائِز أَن يكون مُرَاد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يُولد لَهُ، فِي حَالَة خُرُوجه، وَلَا يدْخل حِينَئِذٍ الْمَدِينَة وَلَا مَكَّة. وَمن الْجَائِز أَن يكون ذَلِك على الْإِطْلَاق، فَلهَذَا قَالَ: فلبسني: أَي الْتبس عَليّ الْأَمر بِمَا قَالَ.
والذمامة: الْحيَاء. وَقد شرحنا هَذِه الْكَلِمَة فِي مُسْند أبي ابْن كَعْب.
وَقَوله: لَو عرض عَليّ مَا كرهت. دَلِيل على أَنه لَيْسَ بِصَحِيح الْإِيمَان، لِأَن الْمُؤمن لَا يرضى أَن يكون فِي مقَام الدَّجَّال.
1513 - / 1840 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ رَسُول الله لِابْنِ صائد: ((مَا تربة الْجنَّة؟)) قَالَ: درمكة بَيْضَاء مسك خَالص. قَالَ: ((صدقت)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الدَّرْمَك: الحوارى، وَيُقَال لَهُ درمق أَيْضا. وَقد سبق فِي مُسْند سهل بن سعد: ((يحْشر النَّاس على أَرض بَيْضَاء كقرصة النقي)) .

(3/181)


1514 - / 1841 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: مَذْكُور فِي مُسْند جَابر.
1515 - / 1842 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا أَتَى أَبَا سعيد فَقَالَ: أردْت أَن أنقل عيالي إِلَى بعض الرِّيف، فَقَالَ: لَا تفعل؛ خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّاس: إِن عيالنا لخلوف مَا نَأْمَن عَلَيْهِم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين مأزميها)) .
الرِّيف: الخصب.
والخلوف: الْغَيْب.
وَقَوله: ((مَا بَين مأزميها)) أَي مَا بَين مضيقيها.
وَفِي لفظ: ((لَا يصبر أحد على لأوائها)) اللأواء: الشدَّة. وَقد بَينا حد حرم الْمَدِينَة وتحريمه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1516 - / 1844 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث جَيْشًا فَأَصَابُوا سَبَايَا، فَكَأَن نَاسا تحرجوا من غشيانهن من أجل أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين، فَأنْزل الله عز وَجل: {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 24] .
المُرَاد بالمحصنات هَا هُنَا ذَوَات الْأزْوَاج. إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم من السبايا فِي الحروب، فهن حل لكم إِذا انْقَضتْ عدتهن من

(3/182)


أَزوَاجهنَّ. وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الزَّوْجَيْنِ إِذا سبيا مَعًا وَقعت الْفرْقَة بَينهمَا كَمَا لَو سبي أَحدهمَا دون الآخر، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَيدل عَلَيْهِ أَنه أَمر أَلا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض، وَلم يسْأَل عَن ذَات زوج وَلَا غَيرهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا سبيا جَمِيعًا فهما على نِكَاحهمَا.
1517 - / 1846 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر عَن الشّرْب قَائِما.
إِن قَالَ قَائِل: فقد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه شرب قَائِما، وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل كَمَا فعلت، فَكيف الْجمع بَين الْحَدِيثين؟ فَالْجَوَاب: من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: ذكره الْأَثْرَم فَقَالَ: أَحَادِيث الرُّخْصَة أثبت، قَالَ: ونرى أَنه إِن كَانَت الْكَرَاهَة بِأَصْل ثَابت أَن الرُّخْصَة جَاءَت بعْدهَا، لأَنا وجدنَا الْعلمَاء من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الرُّخْصَة: عمر وَعلي وَسعد وعامر بن ربيعَة وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن الزبير وَعَائِشَة، ثمَّ أجَازه التابعون: سَالم بن عبد الله وَطَاوُس وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَغَيرهم، وَالْوَجْه الثَّانِي: ذكره ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: أَرَادَ بِالْقيامِ الَّذِي نهى عَن الشّرْب فِيهِ الإستعجال وَالسَّعْي، كَمَا تَقول الْعَرَب: قُم فِي حاجتنا، وَأَرَادَ بقوله: شرب قَائِما: غير ماش وَلَا ساع، بل بطمأنينة كالقاعد.
وَالْوَجْه الثَّالِث: هُوَ الَّذِي أرَاهُ: أَن النَّهْي على وَجه الْكَرَاهَة، لعدم

(3/183)


تمكن الشَّارِب، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي من حَيْثُ الطِّبّ، فَإِن الْمعدة تكون فِي حَال الْقيام كالمتقلص. وَمَا رُوِيَ أَنه شرب قَائِما يدل على الْجَوَاز، وَقد كَانَ لعذر. ثمَّ إِنِّي رَأَيْت أَبَا سُلَيْمَان قد ذكر نَحْو مَا وَقع لي فَقَالَ: النَّهْي عَن الشّرْب قَائِما نهي تَأْدِيب لِأَنَّهُ أرْفق بالشارب، وَذَلِكَ الطَّعَام وَالشرَاب إِذا تناولهما الشَّارِب على حَال سُكُون وطمأنينة كَانَا أنجع فِي الْبدن وأمرأ فِي الْعُرُوق، وَإِذا تناولهما على حَال حَرَكَة اضطرابا فِي الْمعدة وتخضخضا، فَكَانَ فِيهِ الْفساد وَسُوء الهضم. وَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه شرب قَائِما فَهُوَ متأول على الضَّرُورَة الداعية، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك بِمَكَّة، شرب من مَاء زَمْزَم قَائِما، وَمَعْلُوم أَن الْقعُود هُنَاكَ والطمأنينة كالمتعذر لإزدحام النَّاس عَلَيْهِ ينظرُونَ إِلَيْهِ ويتقدون بِهِ فِي نسكهم، فَرخص فِي هَذَا للْعُذْر.

(3/184)


(79) كشف الْمُشكل فِي مُسْند أبي حَمْزَة أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ

وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألفا حَدِيث وَمِائَتَا حَدِيث وَسِتَّة وَثَمَانُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ثَلَاثمِائَة حَدِيث وَثَمَانِية عشر حَدِيثا.
وَفِي الصَّحَابَة آخر اسْمه أنس بن مَالك، ويكنى أَبَا أُميَّة الكعبي، وَلم يسند عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سوى حَدِيث وَاحِد، وَقيل: أسْند ثَلَاثَة، وَلم يخرج لَهُ فِي الصَّحِيح شَيْء.
1518 - / 1847 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: ((من سره أَن يبسط عَلَيْهِ رزقه أَو ينسأ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه)) .
النسأ: التَّأْخِير. وَالْمرَاد طول عمره.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد فرغ من الرزق وَالْأَجَل؟ فَالْجَوَاب من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون المُرَاد بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمر توسعة الرزق وَصِحَّة

(3/185)


الْبدن، فَإِن الْغنى يُسمى حَيَاة والفقر يُسمى موتا.
وَالثَّانِي: أَن يكْتب أجل العَبْد مائَة سنة، وَيجْعَل تركيبه تعمير ثَمَانِينَ، فَإِذا وصل رَحمَه زَاده الله فِي تركيبه، فَعَاشَ عشْرين سنة أُخْرَى، قالهما ابْن قُتَيْبَة.
وَالثَّالِث: أَن هَذَا التَّأْخِير فِي الْأَجَل مِمَّا قد فرغ مِنْهُ، لكنه علق الإنعام بِهِ بصلَة الرَّحِم، فَكَأَنَّهُ كتب أَن فلَانا يبْقى خمسين سنة فَإِن وصل رَحمَه بَقِي سِتِّينَ.
وَالرَّابِع: أَن تكون هَذِه الزِّيَادَة فِي الْمَكْتُوب، والمكتوب غير الْمَعْلُوم، فَمَا علمه الله تَعَالَى من نِهَايَة الْعُمر لَا يتَغَيَّر، وَمَا كتبه قد يمحى وَيثبت، وَقد كَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول: إِن كنت كتبتني شقيا فامحني. وَمَا قَالَ: إِن كنت علمتني، لِأَن مَا علم وُقُوعه لَا بُد أَن يَقع. وَيبقى على هَذَا الْجَواب إِشْكَال: وَهُوَ أَن يُقَال: إِذا كَانَ المحتوم وَاقعا، فَمَا الَّذِي أفادت زِيَادَة الْمَكْتُوب ونقصانه؟
فَالْجَوَاب: أَن الْمُعَامَلَات على الظَّاهِر، والمعلوم الْبَاطِن خَفِي لَا يعلق عَلَيْهِ حكم، فَيجوز أَن يكون الْمَكْتُوب يزِيد وَينْقص ويمحى وَيثبت ليبلغ ذَلِك على لِسَان الشَّرْع إِلَى الْآدَمِيّ، فَيعلم فَضِيلَة الْبر وَسُوء العقوق. وَيجوز أَن يكون هَذَا مِمَّا يتَعَلَّق بِالْمَلَائِكَةِ، فتؤمر بالإثبات

(3/186)


والمحو، وَالْعلم الحتم لَا يطلعون عَلَيْهِ. وَمن هَذَا إرْسَال الرُّسُل إِلَى من لَا يُؤمر.
وَالْخَامِس: أَن زِيَادَة الْأَجَل تكون بِالْبركَةِ فِيهِ وتوفيق صَاحبه لفعل الْخَيْر وبلوغ الْأَغْرَاض، فينال فِي قصير الْعُمر مَا يَنَالهُ غَيره فِي طويله.
1519 - / 1848 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((اجْعَل بِالْمَدِينَةِ ضعْفي مَا جعلت بِمَكَّة من الْبركَة)) وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ.
1520 - / 1849 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1521 - / 1850 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((لَا تباغضوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تدابروا)) .
قَالَ أَبُو عبيد: التدابر: المصارمة والهجران، مَأْخُوذ من أَن يولي الرجل صَاحبه دبره ويعرض عَنهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ التقاطع.

(3/187)


فَإِن قَالَ قَائِل: التباغض والتحاسد أَمر يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ، فَكيف يُؤمر الْإِنْسَان بإزالته؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا يُؤمر بترك مَا يَأْمر بِهِ التباغض والتحاسد من الْأَفْعَال القبيحة، والذم للمبغوض والمحسود، فَإِذا كف الْأَفْعَال والأقوال لم يضرّهُ مَا فِي بَاطِن قلبه، وَصَارَ هَذَا كمن يحب الْخمر وَالزِّنَا، فَإنَّا نأمره بهجر ذَلِك، وَلَا تضره شَهْوَة الْقلب.
وَالثَّانِي: أَن يكون هَذَا تَنْبِيها على رفع مَا يُوجب التباغض والتحاسد، فَكَأَنَّهُ قيل لهَذَا الْمُؤمن: أَنْت وَهَذَا الشَّخْص قد اتفقتما فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالدّين، فأنتما أَخَوان، وَلَا وَجه للتباغض والتحاسد إِلَّا إِيثَار الدُّنْيَا، فتفكر تعلم أَن الدُّنْيَا الحقيرة لَا يجوز أَن تفْسد الدّين الْعَزِيز.
وَقَوله: ((لَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ)) قد سبق فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
1522 - / 1851 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة عَام الْفَتْح، وعَلى رَأسه مغفر، فَلَمَّا نَزعه جَاءَهُ رجل فَقَالَ: ابْن خطل متلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة. فَقَالَ: ((اقْتُلُوهُ)) .
هَذَا يدل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة غير محرم. وَهَذَا يدل على ترك الْإِحْرَام للخائف على نَفسه إِذا دخل مَكَّة. وَقد تكلمنا فِي هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.

(3/188)


وَأما ابْن خطل فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه فِي وَجه من الْوُجُوه مَعَ رجل من الْأَنْصَار، فَأمر الْأنْصَارِيّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وثب على الْأنْصَارِيّ فَقتله وَذهب بِمَالِه، فَأمر بقتْله لما جنى.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل يعْصم الْحرم من الْقَتْل الْوَاجِب وَإِقَامَة الْحَد على الْجَانِي؟ على مَا ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. فَإِن قُلْنَا: لَا يعْصم فَلَا إِشْكَال، وَإِن قُلْنَا: يعْصم، كَانَ قتل ابْن خطل خَاصّا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَقَوْلِه: ((وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار)) .
1523 - / 1852 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَارنَا فحلبنا لَهُ من شَاة دَاجِن.
الدَّاجِن: الشَّاة المقيمة فِي الدَّار.
والشوب: الْخَلْط والمزج.
وَقد ذكرنَا أَن السّنة إِعْطَاء الْأَيْمن، فِي مُسْند سهل بن سعد.
1524 - / 1853 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ أمهاتي يواظبنني على خدمته، وَنزل الْحجاب فِي مبتنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِزَيْنَب.
قَوْله: يواظبنني. الْمُوَاظبَة: الْمُلَازمَة، وَالْمعْنَى: يحثثنني على مُلَازمَة خدمته.

(3/189)


والمبتنى من بِنَاء الرجل على أَهله، وَكَانُوا إِذا أَرَادوا إِدْخَال الرجل على أَهله بنوا بنيانا يجْتَمع فِيهِ الرجل وَالْمَرْأَة، فَقيل: بنى فلَان على أَهله، ثمَّ سمي الدُّخُول بِنَاء وَإِن لم يكن بِنَاء.
وَقد ذكرنَا أَن الْعَرُوس يَقع على الرجل كَمَا يَقع على الْمَرْأَة، فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَفِي كَونه عَلَيْهِ السَّلَام خرج ثمَّ عَاد ثمَّ خرج مَا يصف حسن أخلاقه وَشدَّة حيائه، إِذْ صَبر على مَا يُؤْذِيه وَلم يَأْمُرهُم بِالْخرُوجِ.
وَقَوله: حَتَّى تَرَكُوهُ: أَي تركُوا فَاضل الطَّعَام لكثرته.
وأصل الحيس الْخَلْط، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ السّمن وَالتَّمْر والأقط فيطبخونه.
والبرمة: الْقدر.
والتور: قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
وتصدعوا: تفَرقُوا.
والحجرات جمع حجرَة، مثل ظلمَة وظلمات. قَالَ الْفراء: وَجه الْكَلَام ضم الْحَاء وَالْجِيم، وَبَعض الْعَرَب يفتح الْجِيم فَيَقُول: الحجرات والركبات، وَرُبمَا خففوها، وَالتَّخْفِيف فِي تَمِيم والتثقيل فِي أهل الْحجاز.
وَأما قَول نِسَائِهِ: بَارك الله لَك. فَإِنَّهُ قَول صادر عَن قُوَّة إِيمَان، وَإِن كَانَت فِي قلوبهن الْغيرَة.

(3/190)


وأسكفة الْبَاب: عتبته، وَهُوَ مَوضِع الدُّخُول وَالْخُرُوج.
وَآيَة الْحجاب: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم} [الْأَحْزَاب: 53] .
وَقَوله: جَاءَ زيد يشكو. قَالَ مقَاتل: قَالَ زيد: يَا رَسُول الله، إِن فِيهَا كبرا، فَهِيَ تعظم عَليّ وتؤذيني بلسانها، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله)) .
وَأما الَّذِي أخفاه فِي نَفسه فَاخْتَلَفُوا فِيهِ على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: حبها؛ قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: عهد عَهده الله إِلَيْهِ أَن زَيْنَب سَتَكُون لَهُ زَوْجَة، فَلَمَّا جَاءَ زيد يشكو قَالَ لَهُ: ((اتَّقِ الله وَأمْسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله)) وأخفى ذَلِك الْعَهْد فِي نَفسه، قَالَه عَليّ بن الْحُسَيْن.
وَالثَّالِث: إيثاره طَلاقهَا، قَالَه قَتَادَة وَابْن جريج. قَالَ ابْن عقيل: الَّذِي كتمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّمَنِّي لفراق زيد إِيَّاهَا وإخفاؤه فِي نَفسهَا استحسانها، وتمنيه أَن يَتَزَوَّجهَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة.
وَالرَّابِع: أَن الَّذِي أخفاه: إِن طَلقهَا زيد تزَوجهَا، قَالَه ابْن زيد.
فَلَمَّا طَلقهَا زيد وَانْقَضَت عدتهَا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيدا يخطبها لَهُ، فَقَالَت: مَا أَنا بِصَانِعَةٍ شَيْئا حَتَّى أؤامر رَبِّي - يَعْنِي أستخيره، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا، وَنزل الْقُرْآن يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} [الْأَحْزَاب: 37] وَجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر

(3/191)


إِذن، فَلهَذَا كَانَت تَفْخَر على أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول: زَوجنِي الله من فَوق سبع سموات.
1525 - / 1854 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: سقط النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن فرسه فجحش شقَّه الْأَيْمن، فصلينا وَرَاءه قعُودا.
وَقد أجَاز أَحْمد بن حَنْبَل أَن يُصَلِّي النَّاس خلف إِمَام الْحَيّ قعُودا إِذا مرض مَرضا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1526 - / 1855 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وَكَانَ إِذا لاحى يدعى إِلَى غير أَبِيه، فَقَالَ: ((أَبوك حذافة)) .
الملاحاة: الْمُنَازعَة والمخاصمة.
والإقتراف: الإكتساب، وَالْإِشَارَة إِلَى الزِّنَا.
والخنين بِالْخَاءِ كالبكاء مَعَ مُشَاركَة فِي الصَّوْت من الْأنف. وَقد صحفه بَعضهم فقرأه بِالْحَاء. وَإِنَّمَا بَكت الصَّحَابَة لأَنهم لما أحفوه فِي الْمَسْأَلَة: أَي استقصوا عَلَيْهِ وألحوا وأسرفوا صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: ((لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء إِلَّا بيّنت لكم)) وَإِنَّمَا قَالَه غَضبا، فبكوا لغضبه.
1527 - / 1856 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَت الْأَنْصَار أهل الأَرْض وَالْعَقار، وَكَانَت أم أنس قد أَعْطَتْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عذاقا لَهَا، فَأَعْطَاهَا أم أَيمن، فَلَمَّا فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتال أهل خَيْبَر رد

(3/192)


الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَار منائحهم الَّتِي كَانُوا منحوهم من ثمارهم، فَرد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أُمِّي عذاقها، وَأعْطى أم أَيمن مكانهن من حَائِطه.
الْعقار: النّخل.
والعذاق بِكَسْر الْعين جمع عذق بِفَتْحِهَا: وَهِي النّخل.
والمنحة: الْعَطِيَّة. وَهِي تكون على وَجْهَيْن: تمْلِيك الأَصْل، أَو منفعَته مُدَّة.
وَإِنَّمَا رد الْمُهَاجِرُونَ المنائح لأَنهم لم يملكوهم الْأُصُول.
1528 - / 1857 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: ((إِنَّكُم سَتَجِدُونَ بعدِي أَثَرَة شَدِيدَة فَاصْبِرُوا)) .
الأثرة: الإستئثار بالشَّيْء.
وَقَوله: ((إِن قُريْشًا حدثاء عهد بجاهلية ومصيبة)) لأَنهم أصيبوا يَوْم بدر وَيَوْم فتح مَكَّة.
والشعب: طَرِيق بَين جبلين، وَهُوَ أضيق من الْوَادي، فَكَأَنَّهُ يَقُول: لَو سلك النَّاس طَرِيقا فِيهِ سَعَة وسلكت الْأَنْصَار طَرِيقا ضيقا لَسَلَكْت طَرِيق الْأَنْصَار.
فَأَما الطُّلَقَاء فهم من أطلق وَمن عَلَيْهِ من مسلمة الْفَتْح.
1529 - / 1860 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس مُرْتَفعَة حَيَّة.

(3/193)


حَيَاة الشَّمْس أَن يكون حرهَا غير فاتر، ولونها غير مصفر.
والإرتقاب: الإنتظار.
وَقد سبق معنى قَوْله: ((بَين قَرْني شَيْطَان)) فِي مُسْند ابْن عمر وَغَيره.
1530 - / 1861 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1531 - / 1862 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: أَنه رأى فِي يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتمًا من ورق.
الْوَرق: الْفضة.
والوبيص: اللمعان والبريق.
وراث: أَبْطَأَ.
ونظرنا: بِمَعْنى انتظرنا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقُولُوا انظرنا} [الْبَقَرَة: 104] .
وَشطر اللَّيْل: نصفه.
وَقَوله: كَأَنِّي بوميض الْخَاتم أَو بصيصه. يُقَال: أومض: إِذا أَشَارَ إِشَارَة خُفْيَة، وَمِنْه وميض الْبَرْق. والبصيص كالوميض.

(3/194)


1532 - / 1863 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: كشف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّتْر وَكَأن وَجهه ورقة مصحف.
إِنَّمَا شبهه بِوَرَقَة الْمُصحف لذهاب اللَّحْم ورقة الْجلد وصفاء الْجِسْم من الدَّم.
وَمعنى نكص: رَجَعَ.
1533 - / 1864 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((لَو أَن لِابْنِ آدم وَاديا من ذهب أحب أَن يكون لَهُ واديان)) . قَالَ أنس عَن أبي: كُنَّا نرى هَذَا من الْقُرْآن حَتَّى نزلت: {أَلْهَاكُم التكاثر} [التكاثر: 1] يَعْنِي: بَان بنزول هَذِه الْآيَة أَن مثل هَذَا الْمَعْنى فِي كَلَام الله عز وَجل.
1534 - / 1865 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ذكر الْحَوْض، وَقد تقدم فِي مُسْند حَارِثَة بن وهب وَغَيره.
1535 - / 1868 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: سُئِلَ عَن الْكَبَائِر.
المُرَاد بالكبائر: مَا يكبر أمره ويعظم عِنْد الله. وَإِنَّمَا ذكر مَا يَقع فِي الْعَرَب كثيرا من الشّرك وَقتل النَّفس، وَإِلَّا فالزنا عَظِيم وَمَا ذكره.
وَرُبمَا ظن ظان أَن شَهَادَة الزُّور أعظم من الْقَتْل لِأَنَّهُ جعلهَا أكبر الْكَبَائِر، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِلَّا أَن يُرِيد بِشَهَادَة الزُّور ادِّعَاء شريك مَعَ الله

(3/195)


سُبْحَانَهُ، فَإِن لم يرد ذَلِك فشهادة الزُّور فِي بَاب معاملات الْخلق واقتطاع أَمْوَالهم أكبر كَبِير.
1536 - / 1869 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أَن رجلا اطلع من بعض حجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمشقص - أَو قَالَ: بمشاقص - وَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يخْتل الرجل ليطعنه.
المشقص: سهم عريض النصل، وَجمعه مشاقص.
ويختله: بِمَعْنى يترقب الفرصة مِنْهُ. وَقد سبق حكم هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سهل بن سعد.
1537 - / 1870 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِذا سلم عَلَيْكُم أهل الْكتاب فَقولُوا: وَعَلَيْكُم)) .
وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث: أَن أهل الْكتاب كَانُوا يَقُولُونَ: السام عَلَيْكُم، يعنون بالسام الْمَوْت، فَلم يصلح أَن يُقَال لَهُم فِي جَوَاب هَذَا: وَعَلَيْكُم السَّلَام، وَلم يحسن فِي بَاب حسن الْخلق أَن يُقَال: وَعَلَيْكُم السام، لأَنهم كَانُوا يمجمجون الْكَلَام بِهِ فَلَا يبين لكل أحد، فَلَا يصلح أَن يُقَابل الممجمج بالمصرح، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَيْكُم، أَي مَا قُلْتُمْ.
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث: ((إِنَّه يُسْتَجَاب لنا فيهم وَلَا يُسْتَجَاب لَهُم فِينَا)) .

(3/196)


1538 - / 1871 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: كَانَ يتنفس فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا.
أما التنفس ثَلَاثًا فقد بَيناهُ فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
وَأما كَونه أروى فَإِنَّهُ إِذا جرعت جرعة ثمَّ صَبر عَلَيْهَا ثمَّ جرعت الْأُخْرَى كَانَ أروى للكبد من جعل الجرعتين وَاحِدَة، لِأَنَّهَا تشرب الْقَلِيل الأول بلطف لقوتها على هضمه من أجل قلته، ثمَّ تشرب الثَّانِي كَذَلِك. وَكَونه أَبْرَأ لهَذَا الْمَعْنى أَيْضا. وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: أَن العب يُورث الكباد. أَي وجع الكبد؛ وَذَلِكَ أَن المَاء إِذا تكاثر على الكبد آذاها. وَكَونه أمرأ، فالمريء: التَّام الإنهضام الْمَحْمُود الْعَاقِبَة.
1539 - / 1872 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: أنفجنا أرنبا بمر الظهْرَان.
قَوْله: أنفجنا قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي ذعرناها فعدت، وَهَذَا كَمَا تَقول: أعرق الْفرس: أَي أعده، لِأَنَّهُ إِذا عدا عرق، فيكتفى بِذكر الْعرق من ذكر الْعَدو، وَكَذَلِكَ الأرنب إِذا اثيرت انتفجت، فَاكْتفى بِذكر الإنتفاج من ذكر الْعَدو.

(3/197)


وَمر الظهْرَان مَوضِع، والظاء مَفْتُوحَة.
وَقَوله: فلغبوا من اللغوب: وَهُوَ التَّعَب والإعياء.
1540 - / 1873 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تصبر الْبَهَائِم.
أَي أَن تحبس للرمي، وَكَانُوا يحبسونها ويرمونها بِالنَّبلِ كَمَا بَينا فِي مُسْند ابْن عمر.
1541 - / 1874 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: أَن يَهُودِيَّة أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة مَسْمُومَة فَأكل مِنْهَا.
هَذَا كَانَ فِي غزَاة خَيْبَر. وَاسم هَذِه الْيَهُودِيَّة زَيْنَب بنت الْحَارِث امْرَأَة سَلام بن مشْكم، قَالَ مُحَمَّد بن سعد: الثبت عندنَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا.
وَقَوله: مَا زلت أعرفهَا فِي لَهَوَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. اللهوات جمع لهاة: وَهِي اللحمة المتدلية من الحنك الْأَعْلَى، فَهِيَ حَمْرَاء مُتَعَلقَة.
1542 - / 1875 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: أَن يَهُودِيّا قتل جَارِيَة على أوضاح لَهَا.
وَالْمعْنَى: قَتلهَا لأجل أوضاح، والأوضاح: الْحلِيّ من الْفضة،

(3/198)


وَاحِدهَا وضح. والحلي والحلي: مَا يتحلى بِهِ: أَي يتزين.
والرمق: بَاقِي النَّفس.
وَقَوله: ((أَقْتلك فلَان؟)) فَأَشَارَتْ: أَن لَا. الْمَعْنى أَنه كَانَ يذكر لَهَا وَاحِد بعد وَاحِد من المتهمين إِلَى أَن ذكر الْقَاتِل فَأَشَارَتْ: أَن نعم، وإشارتها لم توجب عَلَيْهِ الْقَتْل، وَإِنَّمَا قتل لِأَنَّهُ اعْترف، وَقد ذكر فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: فَأقر، وَإِنَّمَا يحذف ذَلِك بعض الروَاة اختصارا واعتمادا على فهم السَّامع، لِأَنَّهُ قد ثَبت فِي أصُول الشَّرِيعَة أَنه لَا يقتل أحد بِدَعْوَى أحد.
والرضخ: كسر الشَّيْء ودقه. والرض. الدق أَيْضا.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب الْقصاص فِي الْقَتْل بالمثقل خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله: لَا يجب الْقصاص إِلَّا فِيمَا لَهُ حد.
1543 - / 1876 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: أَن أم أنس حِين ولدت انْطَلقُوا بِالصَّبِيِّ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحنكه.
التحنيك قد سبق: وَهُوَ أَن يمضغ تَمرا وَغَيره فيدلك بِهِ حنك الصَّبِي. والحنك الْأَعْلَى: سقف أَعلَى الْفَم.
والمربد قد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
فَأَما وسم الْبَهَائِم فَجَائِز، وَلَيْسَ ذَلِك من الْمثلَة والتعذيب للحيوان، وَإِنَّمَا جَازَ لموْضِع الْحَاجة إِلَى معرفَة مَال الرجل من مَال

(3/199)


غَيره، وَقد نهى عَن الوسم فِي الْوَجْه.
والخميصة الْجَوْنِية: كسَاء أسود معلم، فَإِذا لم يكن معلما فَلَيْسَ بخميصة.
وَقَوله: يهنأ بَعِيرًا لَهُ. يُقَال: هنأت الْبَعِير أهنؤه، وَهَذِه نَاقَة مهنأة بالهناء: وَهُوَ ضرب من القطران تداوى بِهِ الْإِبِل من الجرب.
وَقَوْلها: قد هدأت نَفسه. وَهَذَا لِأَن النَّفس كَانَت قلقة شَدِيدَة الإنزعاج بِالْمرضِ فسكنت بِالْمَوْتِ، فَلذَلِك قَالَت: أَرْجُو أَن يكون قد استراح، وَهَذَا من المعاريض، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلهُ أَرْبَاب الذكاء والفطنة عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْمَوْلُود سَمَّاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله، وجاءه أَوْلَاد. وَقَوله: فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد قَرَأَ الْقُرْآن، يَعْنِي لهَذَا الْمَوْلُود. وَاسم أَوْلَاد عبد الله: الْقَاسِم وَعُمَيْر وَزيد وَإِسْمَاعِيل وَيَعْقُوب وَإِسْحَاق وَمُحَمّد وَعبد الله وَإِبْرَاهِيم وَعمر وَمعمر وَعمارَة، وَكَانَ من هَؤُلَاءِ تِسْعَة قد قرأوا الْقُرْآن، وَكَانَ لَهُ من الْبَنَات عَبدة وكلثم ورقية وَأم أبان.
والطروق: إتْيَان الْمنَازل لَيْلًا.
والمخاض: تمخض الْوَلَد فِي بطن أمه: أَي تحركه لِلْخُرُوجِ.
والعجوة: نوع من التَّمْر.
وَقَوله: فلاكها: أَي أدارها فِي فِيهِ بالمضغ.
والتلمظ: إدارة اللِّسَان فِي ذوق مَا يُؤْكَل، كالإستطابة لَهُ.

(3/200)


وفغرفاه: بِمَعْنى فَتحه. يُقَال: انفغر النُّور: إِذا تفتح.
والمج: صب المَاء من الْفَم بِقُوَّة.
1544 - / 1878 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: كنت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة وَأَبا طَلْحَة وَأبي بن كَعْب من فضيخ زهو وتمر.
الفضيخ: الْبُسْر يفضخ: أَي يشدخ وَيتْرك فِي وعَاء حَتَّى ينش.
والفضخ: الْكسر.
والزهو: احمرار الْبُسْر واصفراره.
والمهراس كالحوض.
وَقَوله: أهرقها: أَي أرقها.
والقلال جمع قلَّة: وَهِي الْآنِية الَّتِي كَانُوا يشربون فِيهَا.
واكفأهها: اقلبها.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب قبُول خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ ثِقَة.
وَفِيه دَلِيل أَن الْخمر لَا يجوز استصلاحها بالعلاج لتصير خلا، إِذْ لَو جَازَ لما أضاعوها. وَفِيه دَلِيل على أَن النَّبِيذ خمر، لأَنهم أراقوا مَا لَيْسَ بِمَاء الْعِنَب.
1545 - / 1879 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: أَن جدته مليكَة دعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لطعام، قَالَ: فَقُمْت إِلَى حَصِير لنا قد اسود من طول مَا لبس - أَي اسْتعْمل.

(3/201)


والنضح: الرش.
وَقد بَين هَذَا الحَدِيث جَوَاز صَلَاة التَّطَوُّع فِي جمَاعَة. وَبَين موقف الْمَرْأَة وَأَنه خلف الرِّجَال، فَإِن صلت إِلَى جنب الرجل فقد أساءت وصلاتها وَصَلَاة من يَليهَا صَحِيحَة وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة من عَن يَمِينهَا وَعَن يسارها وَمن يحاذيها وَمن خلفهَا. وَقَالَ دَاوُد: تبطل صلَاتهَا وَلَا تبطل صَلَاة الرجل.
وَقد نبه الحَدِيث على أَن إِمَامَة الْمَرْأَة للرِّجَال لَا تجوز، لِأَنَّهُ لما لم يجز أَن تساويهم فِي الصَّفّ كَانَت من أَن تتقدمهم أبعد.
وَفِيه دَلِيل على أَنه يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم فِي الصَّفّ الأول الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل.
1546 - / 1880 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: التمس النَّاس الْوضُوء، فَأتي بقدح رحراح.
الْوضُوء بِفَتْح الْوَاو: المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
والرحراح: الْوَاسِع.
والمخضب: شبه المركن، نَحْو الإجانة.
والزوراء: مَكَان قد بَين فِي الحَدِيث.
وَقَوله: يَنْبع من بَين أَصَابِعه. أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: يَنْبع

(3/202)


بِضَم الْبَاء، وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ يَنْبع بِفَتْح الْبَاء.
والزهاء فِي الْعدَد مَمْدُود. يُقَال: قوم ذَوُو زهاء: أَي ذَوُو عدد وَكَثْرَة. وهم زهاء مائَة: أَي قدر مائَة.
1547 - / 1881 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: عَمَدت أم سليم إِلَى مد من شعير جشته وَجعلت مِنْهُ خطيفة.
الْمَدّ: ربع الصَّاع.
والجش: الدق.
والخطيفة: أَن يُؤْخَذ لبن ثمَّ يذر عَلَيْهِ الدَّقِيق يطْبخ فيلعقه النَّاس ويختطفونه بِسُرْعَة. قَالَ ابْن السّكيت: الخطيفة: الدَّقِيق يذر على اللَّبن يطْبخ فيلعقه النَّاس.
والوغيرة: اللَّبن الْمَحْض وَحده يسخن حَتَّى ينضج، وَرُبمَا جعل فِيهِ السّمن.
والبسيسة: سويق أَو دَقِيق يثرى بِزَيْت أَو سمن.
والربيكة: تمر يعجن بِسمن أَو أقط.
والفريقة: التَّمْر والحلبة تجْعَل للنفساء.
والخزيرة: أَن ينصب الْقدر بِلَحْم يقطع قطعا صغَار على مَاء

(3/203)


كثير، فَإِذا نضج ذَر عَلَيْهِ الدَّقِيق، فَإِن لم يكن فِيهَا لحم فَهِيَ عصيدة.
واللهيدة: الرخوة من العصائد، لَيست بحساء فتحسى، وَلَا غَلِيظَة فتلقم، وَهِي الحريرة.
والوكيرة: طَعَام يصنع عِنْد بِنَاء الْبَيْت.
والنقعية: طَعَام القادم من سفرة.
وَطَعَام الْخِتَان الْإِعْذَار.
وَطَعَام النُّفَسَاء: الخرس.
وَالَّذِي يتَّخذ عِنْد بِنَاء الرجل على أَهله: الْوَلِيمَة.
والمأدبة تجمع هَذَا كُله.
والعكة: زق اللَّبن.
وَقَوله: فأدمته: أَي جعلت لَهُ أدما. وَلَا تمد قَوْله فأدمته؛ فَإِن بعض قرأة الحَدِيث يمده وَهُوَ غلط، كَذَلِك قَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ.
وَقَوله: هيأها: أَي سوى مَوضِع الْأَصَابِع فِيهَا.
والسؤر بِالْهَمْز: الْبَقِيَّة، يُقَال: أسأر فِي الْإِنَاء: أَي أبقى.
1548 - / 1882 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ أَبُو طَلْحَة أحب أَمْوَاله إِلَيْهِ بيرحاء.
الَّذِي سمعناه من أشياخنا بيرحى بِفَتْح الْبَاء. وَقَالَهَا بعض الْحفاظ بِالْكَسْرِ.

(3/204)


ورابح بِالْبَاء أصح من رَايِح بِالْيَاءِ.
وَقد دلّ الحَدِيث على أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب أولى من الْأَجَانِب.
وَقَوله: بني حديلة. أَكثر الْمُحدثين يَرْوُونَهُ بِالْجِيم، وَالصَّوَاب بِالْحَاء المضمومة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة اتِّخَاذ الْبَسَاتِين، وَإِبَاحَة دُخُول الْعلمَاء والفضلاء الْبَسَاتِين طلبا للتفرج وَالنَّظَر إِلَى مَا يسلي النَّفس وَيُوجب شكر الله عز وَجل. وَفِيه إِبَاحَة استعذاب المَاء وَاخْتِيَار الأجود مِنْهُ.
1549 - / 1883 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ برد نجراني.
النجراني مَنْسُوب إِلَى نَجْرَان: وَهِي بَلْدَة بِالْيمن.
وجبذ بِمَعْنى جذب، وهما لُغَتَانِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث بَيَان حلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفحه، وَهُوَ يعلم الْعلمَاء الصفح عَن الْجُهَّال.
1550 - / 1887 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل على أحد من النِّسَاء إِلَّا على أَزوَاجه، إِلَّا أم سليم.
أم سليم هِيَ أم أنس، وَكَانَت تقرب إِلَيْهِ من النّسَب. وَسَنذكر هَذَا فِي مُسْند أم حرَام. وَسمعت بعض الْحفاظ يَقُول: كَانَت أم سليم

(3/205)


أُخْت آمِنَة من الرضَاعَة.
1551 - / 1888 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَصَابَت النَّاس سنة.
السّنة: الجدب.
والقزعة مَفْتُوحَة الزَّاي: الْقطعَة من السَّحَاب.
وَقَوله: رَأَيْت السَّحَاب يتحادر على لحيته، يَعْنِي الْمَطَر. وَهَذَا يدل على أَن السّقف وكف عَلَيْهِ.
وَقَوله: مثل الجوبة. يَعْنِي الْمَدِينَة انجاب السَّحَاب عَنْهَا: أَي انْقَطع وانكشف فَبَقيت كالجوبة: وَهِي الوهدة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الجوبة هَاهُنَا: الترس.
والجود بِفَتْح الْجِيم: الْمَطَر الْكثير.
وَقَوله: أمْطرت، يُقَال: مطرَت وأمطرت.
وَقَوله: ((حوالينا)) فِيهِ إِضْمَار، تَقْدِيره: أمطر حوالينا، أَو اجْعَلْهُ حوالينا.
والآكام جمع أكمة: وَهِي مَا ارْتَفع من الأَرْض كَالتَّلِّ، وَجمعه أكم، ثمَّ يجمع على الإكام والآكام.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: والظراب دون الْجبَال، وَاحِدهَا ظرب.

(3/206)


وتكشطت: أَي تكشفت.
والإكليل: الَّذِي يوضع على الرَّأْس، سمي إكليلا لإحاطته بِالرَّأْسِ، وكل شَيْء دَار بِشَيْء من جَمِيع جوانبه فَهُوَ إكليل لَهُ. فَكَأَن الْمَطَر لما أحَاط بجوانب الْمَدِينَة كَانَ كالإكليل لَهَا.
والكراع: اسْم وَاقع على جملَة الْخَيل.
والملاء جمع ملاءة: وَهِي كالرداء.
وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ الصِّحَاح مِمَّا لم يذكرهُ الْحميدِي: مَا زَالَت تمطر حَتَّى كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى، فَأتى الرجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله: بشق الْمُسَافِر. قَالَ البُخَارِيّ: بشق: اشْتَدَّ أَي اشْتَدَّ السّفر عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: بشق وبشك: إِذا أسْرع. وَقَالَ الْخطابِيّ: بشق لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ لثق الْمُسَافِر، من اللثق وَهُوَ الْوَصْل، يُقَال: لثق الطَّرِيق، ولثق الثَّوْب: إِذا أَصَابَهُ ندى الْمَطَر ولطخ الطين. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مشق بِالْمِيم، يُرِيد أَن الطَّرِيق صَارَت مزلة زلقا. وَمِنْه: مشق الْخط. أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر بن مهْدي قَالَ: أخبرنَا الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر عَن

(3/207)


سُلَيْمَان بن بِلَال قَالَ: قَالَ يحيى بن سعيد: سَمِعت أنس بن مَالك يَقُول: أَتَى أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَلَكت الْمَاشِيَة، هَلَكت النَّاس، فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو الله، فَمَا خرجنَا من الْمَسْجِد حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زلنا نمطر حَتَّى كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى، فَأتى الرجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله، لثق الْمُسَافِر، وَمنع الطَّرِيق.
1552 - / 1889 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت حدا، فأقمه عَليّ. وَلم يسْأَله، قَالَ: وَحَضَرت الصَّلَاة، فصلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة قَامَ إِلَيْهِ الرجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت حدا فأقم فِي كتاب الله. قَالَ: ((أَلَيْسَ قد صليت مَعنا؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((فَإِن الله قد غفر لَك ذَنْبك، أَو حدك)) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن لَا يكْشف عَن الْحُدُود، بل تدرأ.
وَهَذَا الرجل لم يفصح بِأَمْر يلْزمه شَيْئا فِي الحكم، وَلَعَلَّه أصَاب صَغِيرَة فظنها حدا.
1553 - / 1890 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: فِي ذكر الْمَدِينَة ((لَيْسَ نقب من أنقابها إِلَّا عَلَيْهِ مَلَائِكَة)) .
النقب: الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَجمعه نقاب.

(3/208)


وَقَوله: ((ثمَّ ترجف الْمَدِينَة)) أَي تضطرب. والرجفة حَرَكَة كالزلزلة.
والرواق كالفسطاط، على عماد وَاحِد فِي وَسطه، وَالْجمع أروقة.
ورواق الْبَيْت: مَا بَين يَدَيْهِ.
1554 - / 1891 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: رأى أَعْرَابِيًا يَبُول فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: ((دَعوه)) .
إِنَّمَا قَالَ: ((دَعوه)) لِأَنَّهُ قد فَاتَ الْأَمر، فَلَا ينفع قطع بَوْله عَلَيْهِ، إِذْ النَّجَاسَة قد حصلت، وَقطع الْبَوْل يُؤْذِيه.
وتزرموه: الزَّاي مُقَدّمَة على الرَّاء، وَالْمعْنَى: لَا تقطعوا عَلَيْهِ بَوْله. قَالَ أَبُو عبيد: الإزرام: الْقطع، وأزرمه غَيره: قطعه، وزرم الْبَوْل نَفسه: إِذا انْقَطع.
والذنُوب: الدَّلْو الْعَظِيمَة.
وَقَوله: فشنه عَلَيْهِ: أَي فرقه. وَلَو رُوِيَ بِالسِّين كَانَ لَهُ وَجه؛ لِأَن السن الصب فِي سهولة.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن النَّجَاسَة إِذا كَانَت على الأَرْض فغمرت بِالْمَاءِ استهلكت وطهر الْمَكَان. وَلَوْلَا أَنه يطهر لم يَأْمر بذلك، لِأَنَّهُ قد تكْثر النَّجَاسَة.
وَقد علم هَذَا الحَدِيث كَيْفيَّة الْإِنْكَار على الْجُهَّال، وَتَعْلِيم من لَا يعلم، والرفق بهم.

(3/209)


1555 - / 1892 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: صليت مَعَ رَسُول الله الظّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَصليت مَه الْعَصْر بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ.
معنى هَذَا الحَدِيث أَنه صلى بِالْمَدِينَةِ مُقيما، فَلَمَّا خرج إِلَى السّفر قصر.
1556 - / 1893 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((خير دور الْأَنْصَار بَنو النجار)) .
يَعْنِي بالدور الْقَبَائِل.
1557 - / 1894 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: مَا صليت وَرَاء إِمَام قطّ أخف صَلَاة، وَلَا أتم صَلَاة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ليسمع بكاء الصَّبِي فيخفف مَخَافَة أَن تفتتن أمه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَعْلِيم الْأَئِمَّة الرِّفْق بالمأمومين. وَقد سبق ذكر هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند أبي مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله.
1558 - / 1895 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: فِي ذكر الْمِعْرَاج.
قَالَ أنس: جَاءَهُ ثَلَاثَة نفر قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، ثمَّ أَتَوْهُ لَيْلَة أُخْرَى فِيمَا يرى قلبه وتنام عَيناهُ، فَلم يكلموه

(3/210)


حَتَّى احتملوه فوضعوه عِنْد بِئْر زَمْزَم، فتولاه مِنْهُم جِبْرِيل، فشق مَا بَين نَحره إِلَى لبته.
النَّحْر: أول الصَّدْر، وَهُوَ مَوضِع القلادة.
وَقد ذكرنَا اللبة فِي مُسْند مَالك بن صعصعة، وَذكرنَا الطست فِي مُسْند أبي ذَر، وَذكرنَا هُنَالك معنى حَشْو صَدره إِيمَانًا وَحِكْمَة.
وَأما اللغاديد فَهِيَ لحمات فِي اللهوات، وَاحِدهَا لغدود. وَقد ذكرنَا اللهوات فِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: عنصرهما: أَي أَصلهمَا.
وَقَول الرَّاوِي: فأوعيت مِنْهُم: أَي هَذَا الَّذِي جعلته فِي وعائي الَّذِي كتبته عَن أنس. يُقَال: وعيت الْعلم، وأوعيت الشَّيْء فِي الْوِعَاء.
والأذفر: الْحَدِيد الرَّائِحَة. يُقَال: مسك أذفر: أَي حَدِيد الرَّائِحَة. والذفر: حِدة الرَّائِحَة الطّيبَة والخبيثة.
قَوْله: فَدَنَا الْجَبَّار: أَي قرب. فَتَدَلَّى: أَي زَاد فِي الْقرب.
وَقَوله: داورت: أَي درت مَعَهم متلطفا بهم.
وَقَوله: راودت: أَي طلبت مِنْهُم مَا أريده.
وَقَوله: ((ثمَّ استيقظت)) دَلِيل على أَنه كَانَ ذَلِك فِي الْمَنَام. وَلَا يَخْلُو هَذَا الحَدِيث من شَيْئَيْنِ: إِمَّا أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد رأى فِي الْمَنَام مَا جرى لَهُ مثله فِي الْيَقَظَة بعد سِنِين؛ فَإِن الْمِعْرَاج كَانَ بعد

(3/211)


اثْنَتَيْ عشرَة سنة من النُّبُوَّة. أَو أَن يكون فِي الحَدِيث تَخْلِيط من الروَاة.
وَقد انزعج لهَذَا الحَدِيث أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ وَقَالَ: هَذَا الحَدِيث مَنَام، ثمَّ هُوَ حِكَايَة يحكيها أنس ويخبر بهَا من تِلْقَاء نَفسه، لم يعزها إِلَى رَسُول الله وَلم يروها عَنهُ، وَمَا ذكر فِيهِ من التدلي إِمَّا رَأْي أنس، وَإِمَّا من شريك بن عبد الله بن أبي نمر، فَإِنَّهُ كثير التفرد بمناكير الْأَلْفَاظ.
قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن أنس من غير طَرِيق شريك؛ فَلم يذكر فِيهِ هَذِه الْأَلْفَاظ الشنيعة، فَكَانَ ذَلِك مِمَّا يُقَوي الظَّن أَنَّهَا صادرة من شريك. قَالَ: وَفِي هَذَا الحَدِيث لَفْظَة أُخْرَى تفرد بهَا شريك وَلم يذكرهَا غَيره، وَهِي قَوْله: فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ، وَالْمَكَان لَا يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ مَكَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَكَذَلِكَ قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي ((الْمُعْتَمد)) : إِن الله لَا يُوصف بِالْمَكَانِ. وَقد قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الأندلسي: فِي هَذَا الحَدِيث أَلْفَاظ مقحمة، والآفة فِيهَا من شريك، مِنْهَا قَوْله: قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ، فَإِن الْمِعْرَاج كَانَ بعد الْوَحْي بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عشرَة سنة. وَمِنْهَا قَوْله: دنا الْجَبَّار. وَعَائِشَة تروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الَّذِي دنا فَتَدَلَّى جِبْرِيل.
قلت: وَمَتى قُلْنَا إِن هَكَذَا كَانَ مناما فَحكم الْمَنَام غير حكم الْيَقَظَة، فَلَا يُنكر مَا يذكر فِيهِ.

(3/212)


وَقَوله: ((اخْتَرْت الْفطْرَة)) مَذْكُور فِي مُسْند مَالك بن صعصعة.
وَقَوله فِي يُوسُف: ((قد أعطي شطر الْحسن)) . قَالَ ابْن قُتَيْبَة: معنى كَونه أعطي شطر الْحسن أَن الله تَعَالَى جعل لِلْحسنِ غَايَة وَاحِدًا، وَجعله لمن شَاءَ من خلقه، إِمَّا للْمَلَائكَة أَو للحور، فَجعل ليوسف نصف ذَلِك الْحسن، فَكَأَنَّهُ كَانَ حسنا مقاربا للوجوه الْحَسَنَة، وَلَيْسَ كَمَا يزْعم النَّاس من أَنه أعطي نصف الْحسن وَأعْطِي النَّاس كلهم نصف الْحسن.
والفيلة: جمع فيل.
والقلال: الجرار.
1559 - / 1896 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: ((فضل عَائِشَة)) وَقد سبق فِي مُسْند أبي مُوسَى.
1560 - / 1897 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: ركبت دابتها فوقصت بهَا، فَسَقَطت عَنْهَا فَمَاتَتْ.
معنى فوقصت بهَا: دقَّتْ عُنُقهَا. وَقد رَوَاهُ قوم: فرقصت بهَا، يُقَال: رقصت النَّاقة: إِذا خبت: وَهُوَ فَوق الْمَشْي. وَحجَّة من روى هَذَا قَوْله: فَسَقَطت عَنْهَا فَمَاتَتْ، فَدلَّ على أَن الرقص قبل السُّقُوط.

(3/213)


1561 - / 1899 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربعَة من الْقَوْم.
الربعة: بَين الطَّوِيل والقصير.
وَقَوله: أَزْهَر اللَّوْن: أَي بَين اللَّوْن. وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بالأبيض الأمهق. والأمهق: الَّذِي يَحْكِي لَونه لون الجص. وَقيل: بل الَّذِي يضْرب بياضه إِلَى الزرقة.
والآدم: الأسمر.
والجعودة فِي الشّعْر: انثناؤه وانقباضه.
والقطط: الَّذِي قد زَادَت جعودته. والسبط ضد الْجَعْد: وَهُوَ السهل المسترسل.
وَالرجل مُفَسّر فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: فَلبث بِمَكَّة عشر سِنِين ينزل عَلَيْهِ. أما لبثه بِمَكَّة بعد النُّبُوَّة فَثَلَاث عشرَة سنة بِلَا خلاف. وَإِنَّمَا بَقِي مِنْهَا ثَلَاث سِنِين مستترا بأَمْره، ثمَّ حمي الْوَحْي بعد ذَلِك وتتابع، فَإلَى هَذَا يُشِير أنس.
وَأما قَوْله: توفاه الله على رَأس سِتِّينَ. قد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس أَنه توفّي ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ، وَأَن من قَالَ سِتِّينَ قصد أعشار السِّتين، كَمَا يَقُول الرجل: سني أَرْبَعُونَ، وَرُبمَا يكون قد زَاد عَلَيْهَا، إِلَّا أَن الزِّيَادَة لم تبلغ عشرا.

(3/214)


وَأما قَول ربيعَة: رَأَيْت شعره أَحْمَر، فَقيل لي: احمر من الطّيب. فِي هَذَا القَوْل بعد؛ وَالظَّاهِر أَنه احمر من الخضاب؛ لِأَنَّهُ قد رُوِيَ عَنهُ أَنه كَانَ يخضب شيبته بِالْحِنَّاءِ على مَا سَيَأْتِي ذكره بعد أَحَادِيث.
وَقَوله: كَانَ ضخم الرَّأْس: أَي كَبِير الرَّأْس.
وَقَوله: سبط الْكَفَّيْنِ: أَي سهل الْكَفَّيْنِ.
والشثن: الغليظ الْأَصَابِع، وَذَلِكَ أَشد للقبض، وأصبر عِنْد المراس. والشثونة تعيب النِّسَاء وَلَا تعيب الرِّجَال.
والديباج قد تقدم ذكره فِي مُسْند حُذَيْفَة.
وَالْعرْف: الطّيب.
والعبير مُخْتَلف فِيهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ الزَّعْفَرَان وَحده. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: العبير: أخلاط تجمع بالزعفران.
1562 - / 1900 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: كنت أخدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكنت أسمعهُ يكثر أَن يَقُول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْهم والحزن)) .

(3/215)


الْهم لما يتَوَقَّع، والحزن لما قد وَقع. وَالْعجز: أَن لَا يُمكنهُ الْفِعْل. والكسل: أَن يقدر عَلَيْهِ ويتوانى عَنهُ. وَالْبخل ضد الْكَرم، والجبن ضد الشجَاعَة.
وضلع الدّين: ثقله.
وأرذل الْعُمر: أردؤه، وَهُوَ آخِره.
وَقَوله: وَأَقْبل بصفية يحوي لَهَا بعباءة. أَي يُدِير الكساء وَرَاءه.
وَقَوله: فاصطفاها: أَي أَخذهَا صفيا، والصفي: سهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمغنم، كَانَ إِذا غنم الْجَيْش غنيمَة أَخذ لَهُ من رَأس المَال - قبل أَن يقسم - مَا يختاره من دَابَّة أَو جَارِيَة أَو غير ذَلِك، فيسمى ذَلِك الصفي.
ويردفها: يركبهَا خَلفه.
والحيس: أخلاط من تمر وأقط وَسمن.
وَقد سبق معنى الْبناء بِالْمَرْأَةِ فِي قصَّة زَيْنَب من هَذَا الْمسند.
وَقَوله فِي أحد: ((يحبنا ونحبه)) يَعْنِي أهل الْجَبَل، وهم أهل الْمَدِينَة.
وَقَوله: ((أحرم مَا بَين جبليها)) قد ذكرنَا تَحْرِيم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَذكرنَا هُنَاكَ معنى الصّرْف وَالْعدْل. وَذكرنَا الْمَدّ والصاع فِي مُسْند عبد الله بن زيد.

(3/216)


وَقَوله: ((من أحدث فِيهَا حَدثا)) قد سبق تَفْسِيره فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا. هَذَا نَص على جَوَاز أَن يكون عتق الْأمة صَدَاقهَا وَلَا يجب لَهَا مهر غَيره، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن وَابْن الْمسيب وَأحمد بن حَنْبَل فِي جمَاعَة. وَقَالَ مَالك وَأهل الرَّأْي: هَذَا لَا يصلح، والْحَدِيث يرد قَوْلهم.
فَإِن قيل: مَعْلُوم ثَوَاب الْعتْق، فَكيف أفات نَفسه ثَوَابه، وَجعله فِي مُقَابلَة النِّكَاح الَّذِي يُمكن أَن يكون فِي مُقَابِله دِينَار وَاحِد؟ فَالْجَوَاب: أَن صَفِيَّة كَانَت بنت مَالك، وَمثلهَا لَا يقنع فِي الْمهْر إِلَّا بالكبير، وَلم يكن بيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يرضيها، فَلم ير أَن يقصر بهَا فَجعل صَدَاقهَا نَفسهَا، وَذَلِكَ عِنْدهَا أشرف من الْأَمْوَال الْكَثِيرَة.
والعنوة: الْقَهْر.
والإغارة: الْإِسْرَاع بِالْخَيْلِ إِلَى الْعَدو على غَفلَة، وَأَصلهَا الْإِسْرَاع، قَالَ الْكسَائي: أغار: أسْرع. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أغار الرجل: إِذا عدا.
والمسحاة: حَدِيدَة يعْمل بهَا فِي الصَّحرَاء.
والمكتل: الزبيل.
وَالْخَمِيس: الْجَيْش. وَفِي تَسْمِيَته بذلك قَولَانِ:

(3/217)


أَحدهمَا: لِأَنَّهُ مقسوم على خَمْسَة: الْمُقدمَة والساقة والميمنة والميسرة وَالْقلب.
وَالثَّانِي: لِأَن الْغَنَائِم فِيهِ تخمس.
والرجس: المستقذر، وَالْمرَاد هَا هُنَا الْمحرم، وَهَذَا يدل على تَحْرِيم لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة.
وأكفئت: قلبت وصب مَا فِيهَا.
وبزغت: طلعت.
وَقَوله: رفع صَفِيَّة إِلَى أم سليم تصنعها وتهيئها، وَذَلِكَ بِغسْل جَسدهَا، وتسريح شعرهَا، وَإِصْلَاح أحوالها.
وَقَوله: وَتعْتَد فِي بَيتهَا: أَي تنْتَظر الْحيض.
وفحصت الأَرْض: حفرت حفرا لَيْسَ ببالغ.
والأقط: شَيْء يعْمل من اللَّبن.
ودفعنا: سرنا. ورفعنا: أَسْرَعنَا.
وندر: وَقع.
وَإِنَّمَا قُلْنَ: أبعد الله الْيَهُودِيَّة، لِأَنَّهُنَّ مَا علِمْنَ بإسلامها، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا جواري أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والشمات: الْفَرح ببلية الْعَدو.
وقصة وَلِيمَة زَيْنَب قد تقدّمت فِي هَذَا الْمسند.
وصرعا: وَقعا.
واقتحم: دخل فِي الْأَمر بِشدَّة. وَكَانَ الْحيَاء وَالْخَوْف من النّظر

(3/218)


إِلَى الْمَرْأَة قد منعا أَبَا طَلْحَة من الْإِقْدَام، فاقتحم الْمَانِع لضَرُورَة دفع الضَّرَر، وَلذَلِك غطى وَجهه عِنْد قربه من الْمَرْأَة.
1563 - / 1901 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: سَأَلت أنس بن مَالك وَنحن غاديان من منى إِلَى عَرَفَات عَن التَّلْبِيَة: كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الملبي فَلَا يُنكر عَلَيْهِ، وَيكبر المكبر فَلَا يُنكر عَلَيْهِ.
اعْلَم أَن السّنة فِي هَذَا الْمقَام إِنَّمَا هِيَ التَّلْبِيَة وَألا تقطع حَتَّى ترمى أول حَصَاة من جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر.
وَقَول أنس يحْتَمل أَن من كبر كَانَ يدْخل التَّكْبِير من خلال التَّلْبِيَة.
1564 - / 1902 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: دَخَلنَا على الْحسن وَهُوَ مستخف فِي دَار أبي خَليفَة، فَقَالَ: حَدثنَا أنس وَهُوَ جَمِيع ... .
قَوْله: وَهُوَ مستخف. كَانَ الْحجَّاج قد طلب الْحسن لِأَنَّهُ كَانَ يُنكر عَلَيْهِ فاختفى.
وَقَوله: وَهُوَ جَمِيع: أَي مُجْتَمع الذِّهْن وَالْحِفْظ.
وَقَوله: يهتمون بذلك: أَي يَأْخُذهُمْ الْهم لما هم فِيهِ. وَقد رُوِيَ: فيلهمون ذَلِك: أَي يُلْهمُون طلب الشَّفَاعَة.

(3/219)


وَقَوله: ((يخرج من النَّار من فِي قلبه من الْخَيْر مَا يزن ذرة)) الذّرة: النملة الصَّغِيرَة.
وَقَالَ شُعْبَة: ذرة بتَخْفِيف الرَّاء، وَهُوَ تَصْحِيف لَيْسَ بِشَيْء.
وَقَوله: فِي دَاره: أَي فِي الدَّار الَّتِي دورها لأوليائه وبناها لَهُم، وَهِي الْجنَّة، وأضافها إِلَيْهِ للتشريف كإضافة الْبَيْت، وَلَيْسَ كَمَا يتصوره الْحس من سُكْنى الدَّار، فَإِن ذَلِك يَسْتَحِيل فِي حَقه سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُوصف بِالْمَكَانِ. وَقد ذكرنَا هَذَا آنِفا فِي حَدِيث الْمِعْرَاج.
1565 - / 1903 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: ((من كَانَ ذبح قبل الصَّلَاة فليعد)) فَقَامَ رجل فَذكر هنة من جِيرَانه - يَعْنِي فقرا وحاجة، وَأَنه ذبح قبل الصَّلَاة، وَقَالَ: عِنْدِي جَذَعَة.
قد ذكرنَا الْجَذعَة وَالْخلاف فِي وَقت الذّبْح فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
وَهَذَا الرجل الَّذِي سَأَلَ هُوَ أَبُو بردة بن نيار، وَأَنه ذبح قبل الصَّلَاة، فَرخص لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه الرُّخْصَة كَانَت لَهُ خَاصَّة لِأَنَّهُ لَا يعلم.
قَوْله: وانكفأ: أَي رَجَعَ.
وَقد ذكرنَا الأملح فِي مُسْند أبي بكرَة. والأقرن: الوافي الْقرن.

(3/220)


قَوْله: فذبحهما بِيَدِهِ. قد ذكرنَا أَنه يسْتَحبّ للْإنْسَان أَن يتَوَلَّى ذبح أضحيته بِيَدِهِ.
والصفحة: جَانب الْعُنُق، وهما صفحتان، وهما اللديدان والسالفتان.
وتوزعوها: اقتسموها. وتجزعوها كَذَلِك. يُقَال: جزعت الْوَادي: إِذا قطعته.
1566 - / 1904 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ: قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1567 - / 1905 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حلق شعره فرقه بَين النَّاس.
هَذَا دَلِيل على أَن بَين الشّعْر لَا حَيَاة فِيهِ فَلَا ينجس بِالْمَوْتِ، لِأَن مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت، فَلَو مَاتَ فِيهِ حَيَاة كَانَ ينجس بالإبانة.
1568 - / 1906 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: سَأَلت أنسا: أخضب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: لم يبلغ من الشيب إِلَّا قَلِيلا. وَفِي رِوَايَة: لم يختضب.
أما شيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلا، فَفِي رِوَايَة عَن أنس أَنه قَالَ: مَا عددت فِي رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولحيته إِلَّا أَربع عشرَة شَعْرَة بَيْضَاء. وَفِي رِوَايَة عَن أنس لم ير من الشيب إِلَّا نَحوا من سبع

(3/221)


عشرَة أَو عشْرين شَعْرَة فِي مقدم لحيته. وَفِي رِوَايَة عَن أنس: مَا كَانَ فِي رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولحيته يَوْم مَاتَ ثَلَاثُونَ شَعْرَة بَيْضَاء.
وَعَن ابْن عمر: كَانَ شيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحوا من عشْرين شَعْرَة.
فَأَما قَوْله: لم يخضب، فقد اخْتلف عَن أنس، فَروِيَ عَنهُ: لم يخضب، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه سُئِلَ: هَل خضب رَسُول الله؟ فَقَالَ: مَا أرى. وروى التِّرْمِذِيّ أَن أنسا قَالَ: رَأَيْت شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مخضوبا. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمس شعره بصفرة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخضاب، فَقيل لَهُ: فَقَوْل أنس؟ قَالَ: غَيره يَقُول: قد خضب، فَهَذِهِ شَهَادَة على الخضاب. وَالَّذِي شهد على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِمَنْزِلَة من لم يشْهد. وَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ: حَدثنَا سَلام بن أبي مُطِيع عَن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب قَالَ: دَخَلنَا على أم سَلمَة، فأخرجت إِلَيْنَا شعرًا من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مخضوبا بِالْحِنَّاءِ

(3/222)


والكتم. قَالَ عبد الله بن أَحْمد: وَحدثنَا مُحَمَّد بن حسان الْأَزْرَق قَالَ: حَدثنَا أَبُو سُفْيَان الْحِمْيَرِي قَالَ: حَدثنَا الضَّحَّاك بن حمرَة عَن غيلَان بن جَامع عَن إياد بن لَقِيط عَن أبي رمثة قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم.
وَقد روى عبد الله بن زيد صَاحب الْأَذَان أَنه قَالَ: إِن شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عندنَا مخضوب بِالْحِنَّاءِ والكتم. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابْن عَليّ بن الْحُسَيْن: شمط عَارض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فخضبه بحناء وكتم. وَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم.
وَقد أخبرنَا عَليّ بن عبيد الله قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الصريفيني قَالَ: أخبرتنا أمة السَّلَام بنت أَحْمد بن كَامِل قَالَت: أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البندار قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله بن عَليّ بن سُوَيْد بن منجوف قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن إياد بن لَقِيط عَن أبي رمثة قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأيته قد لطخ لحيته بِالْحِنَّاءِ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي رمثة قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَأَيْت الشيب أَحْمَر. وَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَة: هَل خضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: نعم. وَقد ذكرنَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر أَنه كَانَ

(3/223)


يصْبغ بالصفرة. قَالَ: وَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بهَا، وَأَنا أحب أَن أصبغ بهَا. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يصفر لحيته وَيَقُول: إِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصفر لحيته.
وَأما الكتم فنبات يسود الشّعْر. قَالَ الْخطابِيّ: إِن الكتم الوسمة.
وَيُقَال بل نبت آخر.
وَقَوله: مَا شانه الله ببيضاء: أَي مَا كثر الْبيَاض فيشان بِهِ.
1569 - / 1907 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: التَّنَفُّل على الرَّاحِلَة إِلَى غير الْقبْلَة. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عمر.
1570 - / 1911 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة، إِلَّا الْإِقَامَة. أَي إِلَّا قَوْله: قد قَامَت الصَّلَاة.
وَهَذَا دَلِيل على أَن الْأَفْضَل فِي الْإِقَامَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: السّنة التَّثْنِيَة، وَاحْتج أَصْحَابه بِأَحَادِيث واهية، ثمَّ زعم بعض المتفقهة من الَّذين جهلوا النَّقْل أَن الْآمِر لِبلَال بذلك أَبُو بكر الصّديق، وَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لم ينْقل، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد زعم.
وَالثَّانِي: أَن بِلَالًا لم يُؤذن بعد دفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ خرج إِلَى

(3/224)


الشَّام، واستخلف على الْأَذَان سعد الْقرظ وَقَالَ بعض الْجُهَّال بِالنَّقْلِ والأثر: إِنَّمَا كَانَ الْآمِر لِبلَال بعض أُمَرَاء بني أُميَّة، وَهَذَا بَاطِل من سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَنه إِذا قَالَ الرَّاوِي: أَمر فلَان، أَو أمرنَا فقد صرح بِذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَا أَمر لغيره فِي زَمَانه، وَصَارَ كَمَا يُقَال: تقدم إِلَى النَّاس بِكَذَا: أَي تقدم من لَهُ التَّقَدُّم، وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى: {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا} [الْحَج: 39] .
وَالثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن شرح ابْتِدَاء الْأَذَان وَالْإِقَامَة، لِأَنَّهُ قَالَ: ذكرُوا أَن ينوروا نَارا، أَو يضْربُوا ناقوسا، فَأمر بِلَال، وَالْأَمر فِي الإبتداء لَا يكون إِلَّا للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّالِث: أَن بِلَالًا لم يدْرك خلَافَة بني أُميَّة وَلم يُؤذن لأحد بعده، وَإِنَّمَا أذن بعد وَفَاته قبل أَن يقبر، فانتحب النَّاس وَبكوا عِنْد قَوْله: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَمَّا دفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ أَبُو بكر: أذن، فَقَالَ: إِن كنت أعتقتني لأَكُون مَعَك فسبيل ذَلِك، وَإِن كنت أعتقتني لله فخلني وَمن أعتقتني لَهُ. فَقَالَ: مَا أَعتَقتك إِلَّا لله، قَالَ: فَإِنِّي لَا أؤذن لأحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فَذَاك إِلَيْك. فَأَقَامَ بِلَال حَتَّى خرجت بعوث الشَّام، فَسَار مَعَهم حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا، فَتوفي بِدِمَشْق سنة عشْرين، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد. وَقَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ وَقد قيل: سنة ثَمَانِي عشرَة.
وَالرَّابِع: لَو قَدرنَا أَنه أَمر بذلك فَكيف يظنّ بِهِ أَن يتْرك مَا يُعلمهُ من سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْل مُبْتَدع من بني أُميَّة؟ كَيفَ وَقد ألف ركون

(3/225)


الْعَزْم من يَوْم قَوْله: أحد أحد.
وَالْخَامِس: أَنه لَو فعل ذَلِك لما أقرته الصَّحَابَة على تَغْيِير مَا كَانَ علما فِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالسَّادِس: أَن الدَّارَقُطْنِيّ روى هَذَا الحَدِيث فِي ((سنَنه)) من حَدِيث أبي قلَابَة عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِلَالًا أَن يشفع الْأَذَان ويوتر
الْإِقَامَة. فقد زَالَ بِهَذَا التَّصْرِيح كل إِشْكَال.
وَاعْلَم أَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة من أَعْلَام الدّين، فَيَنْبَغِي أَن يتبع فِي ذَلِك مَا صَحَّ من النَّقْل وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وأحاديثنا أصح بِلَا خلاف، وَالْجُمْهُور مَعنا. قَالَ بكير بن عبد الله الْأَشَج: أدْركْت أهل الْمَدِينَة فِي الْأَذَان مثنى مثنى، وَفِي الْإِقَامَة مرّة مرّة. وَبُكَيْر هَذَا من كبار التَّابِعين، وَهُوَ يخبر بِهَذَا عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي دَار الْهِجْرَة. ثمَّ مَذْهَبنَا مَرْوِيّ عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، كَانَ يُقَام لَهُم مرّة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وفقهاء الْمَدِينَة السَّبْعَة: سعيد بن الْمسيب وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان ابْن يسَار وَعُرْوَة وَعبيد الله بن عبد الله وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن وخارجة بن زيد، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن وَسَالم وَأبي قلَابَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ والقرظي وَالْأَوْزَاعِيّ فِي خلق كثير، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم لم ينْقل إِلَّا عَن الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك، وَفِي الحَدِيث: ((عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم)) . وَهُوَ مَعنا بِحَمْد الله وَمِنْه.

(3/226)


1571 - / 1912 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَسْفَاره، وَغُلَام أسود يُقَال لَهُ أَنْجَشَة يَحْدُو، وَكَانَ حسن الصَّوْت، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وَيحك يَا أَنْجَشَة، رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ)) قَالَ أَبُو قلَابَة: يَعْنِي النِّسَاء.
فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْإِبِل: كَانَت كلما سَمِعت الحداء أسرعت، وإسراع السّير يشق على الرَّاكِب خُصُوصا النِّسَاء، فشبههن بِالْقَوَارِيرِ لضعف بنيتهن.
وَالثَّانِي: أَن أَنْجَشَة كَانَ حسن الصَّوْت، وَحسن الصَّوْت بالحداء يشبه الْغناء المحرك للطبع إِلَى الْهوى، وتأثير ذَلِك فِي النِّسَاء أسْرع من تَأْثِيره فِي الرِّجَال، وَهَذَا القَوْل قد ذكره جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم ابْن قُتَيْبَة والخطابي، وَكَانَ شَيخنَا أَبُو الْفضل بن نَاصِر يُنكره وَيَقُول: أَو يُقَال هَذَا فِي حق أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فأجبته أَنا فَقلت: هَذَا الَّذِي يُنكره لَيْسَ بمنكر، لِأَنَّك تتوهم أَن الَّذِي فسر بِهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ ذكر الْفَاحِشَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أَرَادَ ميل الطباع إِلَى تذكر الْهوى وَإِن كَانَ مُبَاحا، فَإِن الْغناء يحث على حب الدُّنْيَا، وَيذكر الشَّهَوَات، ويشغل الْقلب عَن وظائفه من الْفِكر وَالذكر، وَأَزْوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسن بمعصومات من وساوس الشَّيْطَان وحثه على حب الدُّنْيَا.

(3/227)


1572 - / 1913 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: قَالَ أنس: من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا وَقسم، وَإِذا تزوج الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ثمَّ قسم.
إِنَّمَا كَانَ هَذَا سنة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تزوج أم سَلمَة أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: ((إِن شِئْت سبعت لَك، وَإِن سبعت لَك سبعت لنسائي)) وَفِي لفظ أَنه قَالَ: ((للبكر سبع وللثيب ثَلَاث)) وَسَيَأْتِي ذكر هَذَا الحَدِيث وتعليله فِي مُسْند أم سَلمَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا فضل قضى.
1573 - / 1914 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: أَن أَبَا قلَابَة أنكر أَن يُقَاد بالقسامة.
أما حَدِيث الْقسَامَة فقد بَيناهُ وَذكرنَا الْخلاف فِيهِ فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
وَالظَّاهِر من حَدِيث أبي قلَابَة فِي هَذَا الْمَقْتُول من الْأَنْصَار أَنه عبد الله بن سهل الْمَذْكُور فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن يكون غَيره، إِلَّا أَن فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:

(3/228)


((يقسم خَمْسُونَ مِنْكُم على رجل مِنْهُم فَيدْفَع برمتِهِ)) وَهَذَا دَلِيل على الْقصاص بالقسامة.
وَقَوله: يَتَشَحَّط فِي دَمه: أَي يضطرب فِيهِ.
وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من ترَوْنَ - أَو من تظنون؟)) دَلِيل على اعْتِبَار اللوث كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة.
وَالنَّفْل هُنَا الْأَيْمَان بِالْبَرَاءَةِ من الْقَتْل: يُقَال: انتفل فلَان من كَذَا: أَي تَبرأ مِنْهُ، وَسميت نفلا لِأَن الْقصاص ينفى بهَا.
وَقَوله: خلعوا خليعا لَهُم: أَي انتفوا مِنْهُ.
فطرق أهل بَيت: أَي جَاءَهُم لَيْلًا.
وخذفه بِالسَّيْفِ: رَمَاه بِهِ.
واستوخموا الْمَدِينَة: أَي لم توافقهم: وَيَجِيء فِي بعض الْأَلْفَاظ: اجتووا. قَالَ أَبُو عبيد يُقَال: اجتويت الْبِلَاد: إِذا كرهتها وَإِن كَانَت مُوَافقَة لَك فِي بدنك، واستوبلتها: إِذا لم توافقك فِي بدنك وَإِن كنت محبا لَهَا.
واللقاح: الْإِبِل ذَوَات الدّرّ.
وَأمره بِشرب أبوالها دَلِيل على طَهَارَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه.
وَقَوله: وأطردوا الْإِبِل: الطَّرْد: الْإِخْرَاج والإزعاج، يُقَال: طرده السُّلْطَان وأطرده: إِذا أخرجه عَن مستقره.
والذود من الْإِبِل: من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة.

(3/229)


والقائف: الَّذِي يتبع الْآثَار ويعرفها.
وَقَوله: وَسمر أَعينهم فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون من المسمار، يُرِيد أَنهم كحلوا بأميال قد أحميت بالنَّار.
وَالثَّانِي: أَن يكون السمر لُغَة فِي السمل، فَيكون سمر بِمَعْنى سمل، لِأَن الرَّاء وَاللَّام قريبتا الْمخْرج، ذكرهمَا أَبُو سُلَيْمَان. وَقَالَ أَبُو عبيد: السمل: أَن تفقأ الْعين بحديدة محماة أَو بِغَيْر ذَلِك، وَقد يكون السمل بالشوك، قَالَ أَبُو ذُؤَيْب يرثي بَنِينَ لَهُ:
(فالعين بعدهمْ كَأَن حداقها ... سملت بشوك فَهِيَ عور تَدْمَع)

والكدم: العض بِأَدْنَى الْفَم.
فَأَما اسْم الرَّاعِي الَّذِي قَتَلُوهُ فيسار.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي وَجه هَذَا الْفِعْل بهؤلاء على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه اقْتصّ مِنْهُم على مِثَال فعلهم، فَقَالَ أنس: إِنَّمَا سمل أَعينهم لأَنهم سملوا أعين الرعاء. قَالَ ابْن جرير: وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن هَذَا الحكم ثَابت فِي نظرائهم لَهُ ينْسَخ.
وَالثَّانِي: أَن هَذَا الْفِعْل كَانَ قبل أَن تنزل الْحُدُود. قَالَ أَبُو الزِّنَاد: لما فعل هَذَا وعظه الله عز وَجل ونها عَن الْمثلَة وَأنزل الْحُدُود. وَقَالَ

(3/230)


ابْن سِيرِين: هَذَا قبل أَن تنزل الْحُدُود. وَقَالَ قَتَادَة: بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى بعد ذَلِك عَن الْمثلَة. وَقَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ: قد ذهب بَعضهم إِلَى أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ بِالنَّهْي عَن الْمثلَة. قَالَ: وَقَالُوا: إِنَّمَا نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} [الْمَائِدَة: 33] فِيمَا فعل بالعرنيين.
وَأما البرسام فَهُوَ مرض مَعْرُوف يخْتَص بالصدر. والسرسام يتَعَلَّق بِالرَّأْسِ.
1574 - / 1915 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: ((لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَالِده وَولده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ)) .
اعْلَم أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْمحبَّة الْمحبَّة الشَّرْعِيَّة، فَإِنَّهُ يجب على الْمُسلمين أَن يقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنْفسِهِم وَأَوْلَادهمْ. وَلَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الْمحبَّة الطبيعية، فَإِنَّهُم قد فروا عَنهُ فِي الْقِتَال وتركوه، وكل ذَلِك لإيثار حب النَّفس.
1575 - / 1916 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: ((لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ)) .
إِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا وكل أحد يقدم نَفسه فِيمَا يختاره لَهَا،

(3/231)


وَيُحب أَن يسْبق غَيره فِي الْفَضَائِل، وَقد سَابق عمر أَبَا بكر؟ فَالْجَوَاب: أَن المُرَاد حُصُول الْخَيْر فِي الْجُمْلَة. واندفاع الشَّرّ فِي الْجُمْلَة، فَيَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يحب ذَلِك لِأَخِيهِ كَمَا يُحِبهُ لنَفسِهِ، فَأَما مَا هُوَ من زَوَائِد الْفَضَائِل وعلو المناقب فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يوثر سبق نَفسه لغيره فِي ذَلِك.
1576 - / 1917 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: ((إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم، وَيظْهر الْجَهْل)) .
قَالَ أَبُو عبيد: الأشراط: العلامات، وَمِنْه اشْتِرَاط النَّاس بَعضهم على بعض، إِنَّمَا هِيَ عَلامَة يجعلونها بَينهم، وَلِهَذَا سميت الشَّرْط لأَنهم جعلُوا لأَنْفُسِهِمْ عَلامَة يعْرفُونَ بهَا.
وَأما رفع الْعلم فَيكون بشيئين: أَحدهمَا: بِمَوْت الْعلمَاء كَمَا قَالَ فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: ((وَلَكِن يقبضهُ بِقَبض الْعلمَاء)) .
وَالثَّانِي: بخساسة الهمم واقتناعها باليسير مِنْهُ، فَإِنَّهَا إِذا دنت قصرت، وكشف هَذَا أَنَّك إِذا تَأَمَّلت من سبق من الْعلمَاء رَأَيْت كل وَاحِد مِنْهُم يفتن فِي الْعُلُوم ويرتقي فِي كل فن إِلَى أقصاه، حَتَّى روينَا عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: مَا أروي أقل من الشّعْر، وَلَو شِئْت لأنشدتكم شهرا لَا أُعِيد. أخبرنَا الْقَزاز قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ الْحَافِظ قَالَ:

(3/232)


حَدثنَا الصُّورِي قَالَ: سَمِعت رَجَاء بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْمعدل يَقُول: سَأَلت الدَّارَقُطْنِيّ فَقلت لَهُ: رأى الشَّيْخ مثل نَفسه؟ فَقَالَ: إِن كَانَ فِي فن وَاحِد فقد رَأَيْت من هُوَ أفضل مني، وَأما من اجْتمع فِيهِ مَا اجْتمع فِي فَلَا. ثمَّ إِن الرغبات فترت فِي الْعلم، فَصَارَ صَاحب الحَدِيث يقْتَصر على مَا علا إِسْنَاده ويعرض عَن الْفِقْه، فَلَو وَقعت مَسْأَلَة فِي الطَّهَارَة لم يهتد لجوابها، وَصَارَ الْفَقِيه يقْتَصر على مَا كتب فِي التعليقة وَلَا يدْرِي هَل الحَدِيث الَّذِي بنى عَلَيْهِ الحكم صَحِيح أم لَا، وَصَارَ اللّغَوِيّ يشْتَغل بِحِفْظ أَلْفَاظ الْعَرَب وَلَا يلْتَفت إِلَى الْفِقْه، فَهَذَا رفع الْعلم. ثمَّ لَهُ رفع من حَيْثُ الْمَعْنى: وَهُوَ أَنا إِذا وجدنَا الْعَالم المتقن قد مَال إِلَى الدُّنْيَا وتشاغل بِخِدْمَة السلاطين، والتردد إِلَيْهِم غير آمُر بِالْمَعْرُوفِ وَلَا ناه لَهُم عَن مُنكر، وانعكف على اللَّذَّات، وَرُبمَا مزجها بِحرَام كلبس الْحَرِير، لم يبْق لعلمه نور عِنْد المقتبس، فَصَارَ كالطبيب المخلط، لَا يكَاد يقبل قَوْله فِي الحمية، فَمَاتَ الْعلم عِنْده وَهُوَ مَوْجُود، نسْأَل الله عز وَجل عزما مجدا لَا فتور فِيهِ، وَعَملا خَالِصا لَا رِيَاء مَعَه.
1577 - / 1918 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: ((إِن أحدكُم إِذا قَامَ فِي صلَاته فَإِنَّمَا يُنَاجِي ربه)) .
الْمُنَاجَاة: المحادثة، وَأَصله من النجوة: وَهُوَ مَا ارْتَفع من الأَرْض، فَكَأَن المناجي يرْتَفع هُوَ والمناجي منفردين عَن غَيرهمَا.
وَاعْلَم أَن وقُوف الْآدَمِيّ فِي الْعِبَادَة على نَحْو وقُوف الْخَادِم بَين

(3/233)


يَدي مَالِكه، فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يسْتَعْمل الْأَدَب. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد، وَلِهَذَا أَمر بتسوية الصُّفُوف.
وَالْمرَاد بقوله: ((لَا يتفلن)) لَا يبصقن.
وَقَوله: ((لَا يبسط ذِرَاعَيْهِ)) أَي فِي السُّجُود، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يسْجد على كفيه وتنبو ذراعاه عَن الأَرْض.
1578 - / 1921 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: ((أقِيمُوا صفوفكم؛ فَإِنِّي أَرَاكُم من وَرَاء ظَهْري)) .
إِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ يرى من وَرَاء ظَهره فَمَا الْفَائِدَة فِي أَنه أَجْلِس الشَّاب من وَفد عبد الْقَيْس وَرَاء ظَهره؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه سنّ للنَّاس، وَالسّنة إِنَّمَا هِيَ فعل ظَاهر.
وَالثَّانِي: أَن رُؤْيَته من بَين يَدَيْهِ أَمر طبعي يزاحم فِيهِ الْهوى، وَمن وَرَاء ظَهره مَحْض إنعام قد زوي فِيهِ عَن تصرفه بِمُقْتَضى الْهوى.
1579 - / 1922 - وَقد سبق بَيَان الحَدِيث السَّادِس [وَالسبْعين] قبل حديثين.
1580 - / 1923 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعَلِيهِ وضر من صفرَة فَقَالَ: ((مَهيم؟)) .
الوضر: اللطخ من خلوق أَو طيب لَهُ لون، وَكَانَ ذَلِك من فعل

(3/234)


الْعَرُوس إِذا بنى بأَهْله، وَيكون الوضر من الصُّفْرَة والحمرة وَالطّيب والزهومة، وأنشدوا:
( ... ... ... أَبَارِيق لم يعلق بهَا وضر الزّبد)

وَأخْبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا اللّغَوِيّ قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَلَاء المعري: أصل الوضر الْوَسخ، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل ذَلِك فِي اللَّبن وَمَا يحدث مِنْهُ، وَسمي أثر الصُّفْرَة وضرا لِأَنَّهُ يُغير لون الثَّوْب والجسد.
وَقَوله: ((مَهيم؟)) قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ كلمة يَمَانِية مَعْنَاهَا: مَا أَمرك؟ وَمَا هَذَا الَّذِي أرى بك؟ وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عبد الرَّحْمَن، لَكنا ذَكرْنَاهُ لهَذِهِ الْأَلْفَاظ الزَّائِدَة.
1581 - / 1924 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لعبد الرَّحْمَن وَالزُّبَيْر فِي لبس الْحَرِير لحكة بهما. وَفِي رِوَايَة: شكوا إِلَيْهِ الْقمل فَرخص لَهما فِي قمص الْحَرِير فِي غزَاة لَهما.
اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل يجوز لبس الْحَرِير لأجل الْمَرَض والحكة أم لَا؟ على رِوَايَتَيْنِ، فَإِن قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَلَا كَلَام، وَإِن قُلْنَا:

(3/235)


لَا يجوز، كَانَ مَا رخص لعبد الرَّحْمَن، وَالزُّبَيْر خَاصّا لَهما.
1582 - / 1926 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر كَانُوا يفتتحون الصَّلَاة ب {الْحَمد لله رب الْعَالمين} وَفِي رِوَايَة: صليت مَعَ أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يقْرَأ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} .
فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَنه لَا يسن الْجَهْر بالبسملة، وَهُوَ مَذْهَب أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وعمار وَعبد الله بن مُغفل وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَأنس، وَقَالَ بِهِ من فُقَهَاء التَّابِعين وَمن بعدهمْ الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي والفزاري وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَالْأَعْمَش وَحَمَّاد وَلَيْث بن أبي سليم وَابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد بن حَنْبَل وَأَبُو عبيد وَابْن رَاهَوَيْه فِي خلق يطول إحصاؤهم، وَزَاد مَالك: لَا يسن قرَاءَتهَا فِي ابْتِدَاء الْفَاتِحَة أصلا.
وَذهب قوم مِنْهُم مُعَاوِيَة وَعَطَاء وَطَاوُس وَمُجاهد وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَن الْجَهْر بهَا مسنون. قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: وَقَول أنس: كَانُوا يفتتحون الصَّلَاة ب {الْحَمد} أَي بِهَذِهِ السُّورَة، قَالُوا: وَقَوله: لم أسمع، شَهَادَة على نفي، فَيحْتَمل أَنه لم يسمع لبعده عَن الإِمَام، وَهَذَا الظَّاهِر لِأَن أنسا كَانَ صَبيا حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يتَقَدَّم الْكَبِير لقَوْله: ((ليلني أولو الأحلام والنهى)) قَالُوا: ثمَّ يحْتَمل أَنهم مَا كَانُوا يجهرون بهَا كجهرهم

(3/236)


بِبَقِيَّة السُّورَة، وَهَذَا ظَاهر؛ لِأَن الْقَارئ يَبْتَدِئ الْقِرَاءَة ضَعِيف الصَّوْت.
قَالُوا: وَيدل على هَذَا قَوْله: لم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بهَا، وَهَذَا دَلِيل على أَنه سَمعهَا مِنْهُم.
فَالْجَوَاب: أَنه لَو قصد تَعْرِيفهَا لذكرها بِأحد الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة لَهَا، كالفاتحة وَأم الْقُرْآن. ثمَّ قَوْله: لَا يذكرُونَ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} يَكْفِي فِي رد هَذَا التَّأْوِيل، وَفِي رد قَوْلهم: مَا كَانُوا يجهرون بهَا كجهرهم بِبَقِيَّة السُّورَة. وَقَوْلهمْ: شَهَادَة على نفي. قُلْنَا: هِيَ فِي معنى الْإِثْبَات؛ لِأَن أنسا قد صلى خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشر سِنِين، وَمَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن عشْرين سنة، وَكَانَ يَصْحَبهُ صُحْبَة الخدم الْخَواص سفرا وحضرا، فَلَو سَمعه يَوْمًا يجْهر لم يَصح لَهُ أَن يُطلق الْإِخْبَار بِنَفْي الْجَهْر. ثمَّ قدرُوا توهم هَذَا فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف وَهُوَ رجل فِي زمن أبي بكر وَعمر، وكهل فِي زمن عُثْمَان. وَقد احْتَجُّوا لنصرة الْجَهْر بِأَحَادِيث دخلت فِيهَا العصبية من رواتها ومصنفيها، حَتَّى احْتَجُّوا بِمَا يعلمُونَ أَنه لَا يَصح الإحتجاج بِهِ.
وَقد كشف عوار أَحَادِيثهم فِي كتاب ((التَّحْقِيق فِي أَحَادِيث التَّعْلِيق)) .
1583 - / 1927 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: أَنه ركب فرسا يقطف أَو كَانَ فِيهِ قطاف، فَقَالَ: ((قد وجدنَا فرسكم هَذَا بحرا)) .

(3/237)


القطاف فِي الْفرس: البطء، يُقَال: فرس قطوف: أَي بطىء.
وَالْبَحْر وصف للْفرس بِسُرْعَة الجري. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَفِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة التَّوَسُّع فِي الْكَلَام من تَشْبِيه الشَّيْء بالشَّيْء الَّذِي لَهُ تعلق بِبَعْض مَعَانِيه وَإِن لم يسْتَوْف أَوْصَافه كلهَا.
1584 - / 1929 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: ((أوصيكم بالأنصار، فَإِنَّهُم كرشي وعيبتي)) .
الكرش: الْجَمَاعَة. يُقَال: على فلَان كرش من النَّاس: أَي جمَاعَة. فَكَأَنَّهُ قَالَ: هم جماعتي وصحابتي الَّذين أَثِق بهم وأعتمد عَلَيْهِم فِي أموري.
وَقَوله: ((وعيبتي)) أَي مَوضِع سري الَّذِي أَثِق بِهِ فِي حفظه وكتمانه، وَهَذَا لِأَن الْإِنْسَان يضع فِي عيبته جيد ثِيَابه وَمَا يُرِيد أَن يحوطه بحفظه.
1585 - / 1930 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: ينقلون التُّرَاب على متونهم.
الْمَتْن من الظّهْر: مَا اكتنف على الصلب من العصب وَاللَّحم، وهما متنان. وَقَالَ بَعضهم: الْمَتْن: وسط الظّهْر، يُقَال: هَذَا متن السهْم: أَي وَسطه.
وَقَالَ أَبُو عبيد: والإهالة: كل شَيْء من الأدهان مِمَّا يؤتدم بِهِ خَاصَّة، مثل الزَّيْت ودهن السمسم، والألية المذابة والشحم الْمُذَاب

(3/238)


إهالة أَيْضا.
وَأما السنخة فَهِيَ المتغيرة. والبشع: الكريه الطّعْم والرائحة.
1586 - / 1931 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: جمع الْقُرْآن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة: أبي ومعاذ وَأَبُو زيد وَزيد بن ثَابت.
وَفِي لفظ انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: أَبُو الدَّرْدَاء مَكَان أبي.
أبي هُوَ ابْن كَعْب. ومعاذ هُوَ ابْن جبل. وَأَبُو زيد اسْمه سعد بن عُمَيْر، وَقيل: ابْن عبيد. وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَن فِي الْقَوْم عُثْمَان ابْن عَفَّان وتميما الدَّارِيّ وَعبادَة بن الصَّامِت وَأَبا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
1587 - / 1932 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي: ((إِن الله عز وَجل أَمرنِي أَن أقرا عَلَيْك: {لم يكن الَّذين كفرُوا} [الْبَيِّنَة] )) . وَفِي لفظ: ((أَمرنِي أَن أقرئك الْقُرْآن)) قَالَ: وسماني؟ قَالَ: ((نعم)) فذرفت عَيناهُ.
أما قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي فلتعليم أبي، وَخَصه بذلك تَشْرِيفًا لَهُ. وَتَخْصِيص هَذِه السُّورَة يُمكن أَن يكون لِأَنَّهَا تحتوي على التَّوْحِيد والرسالة وَالْقُرْآن وَالصَّلَاة. وذرفت: سَالَتْ
1588 - / 1933 - وَقد سبق الحَدِيث السَّابِع [وَالثَّمَانُونَ] فِي

(3/239)


مُسْند ابْن مَسْعُود.
1589 - / 1934 - وَالثَّامِن [وَالثَّمَانُونَ] : فِي مُسْند ابْن عمر.
1590 - / 1935 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا لأنس فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أَكثر مَاله وَولده)) . وَفِي رِوَايَة: قَالَت أم سليم: إِن لي خويصة - أَي حَاجَة تخصني بهَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن كَثْرَة المَال لَا تكره، لِأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بذلك لأنس، وَهَذَا خلاف مَا يَظُنّهُ جهال المتزهدين.
1591 - / 1936 - والْحَدِيث التِّسْعُونَ قد تقدم فِي مُسْند سهل بن سعد.
1592 - / 1937 - وَالْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: فِي مُسْند عُثْمَان بن عَفَّان.
1593 - / 1938 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: ((يهرم ابْن آدم ويشب مَعَه اثْنَتَانِ: الْحِرْص على المَال، والحرص على الْعُمر)) .

(3/240)


لما كَانَ أحب الْأَشْيَاء إِلَى ابْن آدم نَفسه أحب بقاءها، فَأحب الْعُمر، وَأحب سَبَب بَقَائِهَا وَهُوَ المَال. والهرم إِنَّمَا يعْمل فِي بدنه لَا غير، فَإِذا أحس بِقرب التّلف عِنْد الْهَرم قوي حبه للبقاء لعلمه بِقرب الرحيل وكراهيته لَهُ.
1594 - / 1939 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين: فِي ذكر الدَّجَّال وَأَنه أَعور، وَقد تكلمنا على ذَلِك فِي مُسْند ابْن عمر.
1595 - / 1941 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: كَانَ أحب الثِّيَاب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يلبسهَا الْحبرَة.
الْحبرَة: مَا كَانَ من البرود موشيا مخططا. وَلما رأى أنس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكثر لبسهَا ظن أَنه يُحِبهَا، وَلم يرو عَنهُ لفظ يدل على محبتها، لكنه أخبر عَن ظَنّه. وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((البسوا الثِّيَاب الْبيض؛ فَإِنَّهَا أطهر وَأطيب، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم)) قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث ابْن عَبَّاس وَسمرَة صَحِيحَانِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي يستحبه أهل الْعلم. قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: أحب الثِّيَاب إِلَيْنَا أَن نكفن فِيهَا الْبيَاض.

(3/241)


1596 - / 1942 - والْحَدِيث السَّادِس وَالتِّسْعُونَ قد سبق فِي مُسْند معَاذ.
1597 - / 1944 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: ((إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه حَتَّى إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ)) .
أما قرع النِّعَال وخفقها فَهُوَ ضربهَا للْأَرْض وصوتها فِي الْمَشْي.
قَالَ الْخطابِيّ: وَهَذَا يدل على جَوَاز لبس النَّعْل لزائر الْقُبُور الْمَاشِي بَين ظهرانيها. فَأَما مَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ ((يَا صَاحب السبتيتين، ألق سبتيتيك)) فَقَالَ الْأَصْمَعِي: السبتية من النِّعَال مَا كَانَ مدبوغا بالقرظ فَيُشبه أَن يكون إِنَّمَا حرم ذَلِك لما فِيهَا من الْخُيَلَاء؛ لِأَن السبت من لِبَاس أهل الترف والتنعم، فَأحب أَن يكون دُخُوله الْمَقَابِر على زِيّ التَّوَاضُع ولباس أهل الْخُشُوع. قلت: وَهَذَا تكلّف من الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر أَنه كَانَ يلبس النِّعَال السبتية ويتوخى التَّشَبُّه برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نعاله، إِمَّا لِأَن نعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت سبتية أَو لِأَن السبتية تشبهها، وَمَا كَانَ ابْن عمر يقْصد التنعم بل السّنة.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث سوى الْحِكَايَة عَمَّن يدْخل الْمَقَابِر بالنعل، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيمًا، وَيدل على أَنه أمره بخلعهما

(3/242)


احتراما للقبور أَنه نهى عَن الإستناد إِلَى الْقَبْر وَالْقعُود عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس، فَيُقَال لَهُ: لَا دَريت)) فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، وَأَنه يَنْبَغِي للعاقل أَن يكون عَارِفًا بِمَا يَعْتَقِدهُ، على يَقِين من ذَلِك لَا يُقَلّد فِيهِ أحدا؛ فَإِن الْمُقَلّد كالأعمى يتبع الْقَائِد.
وَقَوله: ((وَلَا تليت)) كَذَا رُوِيَ كَذَا رُوِيَ لنا فِي الحَدِيث: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَهُوَ غلط، قَالَ: وَفِيه قَولَانِ: بَلغنِي عَن يُونُس الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: هُوَ: لَا دَريت [وَلَا] أتليت سَاكِنة التَّاء، يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَن لَا تتلى إبِله: أَي لَا يكون لَهَا أَوْلَاد تتلوها: أَي تتبعها، يُقَال للناقة: قد أتلت فَهِيَ متلية، وتلاها وَلَدهَا: إِذا تبعها. قَالَ: وَقَالَ غَيره: لَا دَريت وَلَا ائتليت، على وزن: وَلَا اعتليت، إِذا وصلته، فَإِذا قطعت قلت: ائتليت، على تَقْدِير افتعلت، من قَوْلك: مَا ألوت هَذَا وَلَا استطعته.
وَيُقَال: لَا آلو كَذَا: أَي لَا أستطيعه، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا دَريت وَلَا اسْتَطَعْت، وَهَذَا أشبه بِالْمَعْنَى، وَلَفظه أشبه بِاللَّفْظِ فِي الحَدِيث، أَلا ترى أَنَّك إِذا خففت الْهمزَة وأدرجت الْكَلَام وَافَقت اللَّفْظَة لَفْظَة الْمُحدث. وَقد قَالَ ابْن السّكيت: بَعضهم يَقُول: وَلَا تليت، تزويجا للْكَلَام.
وَأما الثَّقَلَان فهما الْإِنْس وَالْجِنّ، سميا بالثقلين لِأَنَّهُمَا ثقل الأَرْض تحملهم أَحيَاء وأمواتا.
وَالْخضر: كل شَيْء ناعم غض طري.

(3/243)


1598 - / 1945 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: ((لَا تزَال جَهَنَّم يلقى فِيهَا وَتقول: هَل من مزِيد حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه)) .
كَانَ من تقدم من السّلف يسكتون عِنْد سَماع هَذِه الْأَشْيَاء وَلَا يفسرونها مَعَ علمهمْ أَن ذَات الله تَعَالَى لَا تتبعض، وَلَا يحويها مَكَان، وَلَا تُوصَف بالتغير وَلَا بالإنتفال. وَمن صرف عَن نَفسه مَا يُوجب التَّشْبِيه وَسكت عَن تَفْسِير مَا يُضَاف إِلَى الله عز وَجل من هَذِه الْأَشْيَاء فقد سلك طَرِيق السّلف الصَّالح وَسلم، فَأَما من ادّعى سلوك طَرِيق السّلف ثمَّ فهم من هَذَا الحَدِيث أَن الْقدَم صفة ذاتية وَأَنَّهَا تُوضَع فِي جَهَنَّم، فَمَا عرف مَا يجب لله وَلَا مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ، وَلَا سلك منهاج السّلف فِي السُّكُوت، وَلَا مَذْهَب المتأولين، وأخسس بِهِ من مَذْهَب ثَالِث ابتدعه من غضب من الْبدع. قَالَ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل: تَعَالَى الله أَن يكون لَهُ صفة تشغل الْأَمْكِنَة، هَذَا عين التجسيم، ثمَّ إِنَّه لَا يعْمل فِي النَّار أمره وتكوينه حَتَّى يَسْتَعِين بِشَيْء من ذَاته، وَهُوَ الْقَائِل للنار {كوني بردا وَسلَامًا} [الْأَنْبِيَاء: 69] فَمن أَمر نَارا - أججها غَيره - بانقلاب طبعها عَن الإحراق، لَا يضع فِي نَار أججها بِأَن يأمرها بالإنزواء حَتَّى يعالجها بِصفة من صِفَاته، مَا أسخف هَذَا الإعتقاد وأبعده عَن المكون للأفلاك والأملاك، وَقد نطق الْقُرْآن بتكذيبهم، فَقَالَ تَعَالَى: {لَو كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا وردوها} [الْأَنْبِيَاء: 99] فَكيف يظنّ بِاللَّه تَعَالَى أَنه وردهَا،

(3/244)


تَعَالَى الله عَن تخاييل المتوهمة المجسمة.
وَقد حكى أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْقدَم: قوم يقدمهم من شرار خلقه.
فَإِن قيل: كَأَن من قبل هَؤُلَاءِ مَا كَانُوا شرارا. فَالْجَوَاب: أَن الَّذِي يَقع فِي هَذَا أَنه إِذا رمي فِيهَا الْكفَّار أَولا بادرت إِلَى إحراقهم عَاجلا، وَسَأَلت الْمَزِيد، فيلقي فِيهَا قوما من الْمُؤمنِينَ المذنبين، فتحس بِمَا مَعَهم من الْإِيمَان فتتوقف عَن إحراقهم وَتقول: قطّ قطّ، أَي حسبي. وَقد ورد فِي ((الصَّحِيح)) أَنَّهَا تحرق الْمُؤمنِينَ إِلَّا دارات وُجُوههم لأجل السُّجُود.
فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا التَّأْوِيل وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((يضع فِيهَا رجله؟)) فَالْجَوَاب: أَن هَذَا من تَحْرِيف بعض الروَاة، لِأَنَّهُ ظن أَن الْقدَم هِيَ الرجل، فروى بِالْمَعْنَى الَّذِي يَظُنّهُ، وَيُمكن أَن يرجع هَذَا إِلَى مَا ذكرنَا وَهُوَ أَن الرجل جمَاعَة، كَمَا يُقَال: رجل من جَراد.
قَوْله: ينزوي: أَي ينقبض، وَمِنْه: ((زويت لي الأَرْض)) . وَلَا يكون

(3/245)


الإنزواء إِلَّا بانحراف مَعَ تقبض، قَالَ الْأَعْشَى:
(يزِيد، يغض الطّرف عني كَأَنَّمَا ... زوى بَين عَيْنَيْهِ عَليّ المحاجم)

(فَلَا ينبسط من بَين عَيْنَيْك مَا انزوى ... وَلَا تلقني إِلَّا وأنفك راغم)

وَأما قَوْله: ((قطّ قطّ)) فالطاء خَفِيفَة مَكْسُورَة، وَهِي بِمَعْنى حسب.
والحسب الْكِفَايَة، وَقد رُوِيَ: ((قطني)) وَالْمرَاد حسبي، وأنشدوا:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني)

وَقد رُوِيَ: قدني، وَهِي بِمَعْنى حسبي.
وَقَوله: ((فينشئ للجنة خلقا)) إِن قيل: هَؤُلَاءِ الَّذين ينشئهم للجنة، كَيفَ أثيبوا بِلَا عمل؟ فَالْجَوَاب: أَن هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يسكنون فِي فضول الْجنَّة كالحراس والخدم لأربابها، إِلَّا أَنهم يضاهون أهل الْجنَّة، بل هم أَتبَاع.
1599 - / 1946 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: ((من نسي صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فكفارتها أَن يُصليهَا إِذا ذكرهَا)) .
قد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة أَنه قَالَ: ((لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط)) فَلم ذكر هَا هُنَا كَفَّارَة؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْإِنْسَان قد يُخطئ فَتجب الْكَفَّارَة مثل الْقَاتِل خطأ.

(3/246)


وَالثَّانِي: أَنه لما توهموا فِي هَذَا الْفِعْل كَفَّارَة بَين لَهُم أَنه لَا كَفَّارَة، وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء فَقَط.
1600 - / 1947 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر أَربع عمر كلهَا فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حجَّته: عمْرَة من الْحُدَيْبِيَة - أَو زمن الْحُدَيْبِيَة، وَعمرَة من الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة، وَعمرَة من جعرانة، وَعمرَة فِي حجَّته. وَحج حجَّة وَاحِدَة.
وَقد رُوِيَ مثل هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن عَائِشَة قَالَت: اعْتَمر ثَلَاثًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن أنسا وَابْن عَبَّاس حسبا عمرته الَّتِي خرج لأَجلهَا ثمَّ حصر وَلم يصل إِلَى الْكَعْبَة، فَلذَلِك صَارَت أَرْبعا.
وَأما حجَّته فَإِنَّهُ مَا حج بعد الْهِجْرَة سوى حجَّة الْوَدَاع.
1601 - / 1948 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: كَانَ يضْرب شعره مَنْكِبَيْه.
الْمنْكب: فرع الْكَتف. وَقد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع.
1602 - / 1949 - والْحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَغَيره.

(3/247)


1603 - / 1951 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: أهْدى أكيدر دومة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جُبَّة سندس.
قد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام ذكر أكيدر دومة، وهدايا الْكفَّار.
وَأما السندس فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: السندس: رَقِيق الديباج، لم يخْتَلف فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَلم يخْتَلف أهل اللُّغَة فِي أَنه مُعرب، قَالَ الراجز:
(وَلَيْلَة من اللَّيَالِي حندس ... لون حواشيها كلون السندس)

وَقَوله: ((لمناديل سعد بن معَاذ)) قد تقدم فِي مُسْند الْبَراء.
1604 - / 1952، 1953 - والْحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله، وَكَذَلِكَ السَّابِع. 1605 / 1954 - والْحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى شَيخا يهادى بَين ابنيه فَقَالَ: ((مَا بَال هَذَا؟)) قَالُوا: نذر أَن يمشي.

(3/248)


قَالَ: ((إِن الله عَن تَعْذِيب هَذَا نَفسه لَغَنِيّ)) وَأمره أَن يركب.
يهادى بَين ابنيه: أَي يمشي بَينهمَا مُعْتَمدًا عَلَيْهِمَا لضَعْفه، وَمن فعل ذَلِك بشخص فَهُوَ يهاديه، فَإِذا فعل ذَلِك الْإِنْسَان نَفسه قيل: تهادى، قَالَ الْأَعْشَى:
(إِذا مَا تأتى يُرِيد الْقيام ... تهادى كَمَا قد رَأَيْت البهيرا)

وَهَذَا الرجل كَأَنَّهُ نذر الْمَشْي إِلَى الْكَعْبَة فعجز، وَمن نذر طَاعَة فعجز عَنْهَا كفر كَفَّارَة يَمِين.
1606 - / 1955 - والْحَدِيث التَّاسِع [بعد الْمِائَة] قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم)) التعمق: طلب عمق الشَّيْء، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ تكلّف مَا لَا يلْزم.
1607 - / 1957 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر [بعد الْمِائَة] قد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1608 - / 1958 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة: ((إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى)) .

(3/249)


الصدمة الأولى: فَجْأَة الْمُصِيبَة. والصدم: ضرب الشَّيْء الشَّديد بِمثلِهِ. وتصادم الرّجلَانِ: تدافعا بعنف. وَمعنى الحَدِيث: أَن الصَّبْر الَّذِي هُوَ صَبر حَقِيقَة الَّذِي بِهِ يعظم الْأجر عِنْد الصدمة الأولى. وَلَفْظَة ((إِنَّمَا)) قد شرحناها فِي مُسْند عمر عِنْد قَوْله: ((إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ)) .
وَهَذَا لِأَن مُرُور الزَّمَان يهون المصائب، لِأَن النسْيَان يطْرَأ، وَعمل الْقُوَّة الفكرية ينْصَرف عَمَّا تقادم عَهده إِلَى غَيره فَيَقَع الصَّبْر من غير تكلّف، وَإِنَّمَا الْقُوَّة فِي مُقَابلَة الْبلَاء عِنْد مبدأه، وَلَا يقدر على الصَّبْر حِينَئِذٍ إِلَّا أحد رجلَيْنِ: مُؤمن بِالْأَجْرِ فَهُوَ يصبر لنيل مَا يرجوه، أَو نَاظر بِعَين الْعقل إِلَى أَن الْجزع لَا فَائِدَة فِيهِ، قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام للأشعث بن قيس: إِنَّك إِن صبرت إِيمَانًا واحتسابا، وَإِلَّا سلوت كَمَا تسلو الْبَهَائِم. وأنشدوا:
(يمثل ذُو اللب فِي نَفسه ... مصائبه قبل أَن تنزلا)

(فَإِن نزلت بَغْتَة لم ترعه ... لما كَانَ فِي نَفسه مثلا)

(رأى الْأَمر يُفْضِي إِلَى آخر ... فصير آخِره أَولا)

(وَذُو الْجَهْل يَأْمَن أَيَّامه ... وينسى مصَارِع من قد خلا)

(وَإِن بدهته صروف الزَّمَان ... بِبَعْض مصائبه أعولا)

(وَلَو قدم الحزم فِي أمره ... لعلمه الصَّبْر حسن البلا)

(3/250)


وَقَالَ آخر:
(إِذا طالعك الكره ... فَكُن بِالصبرِ لِوَاذًا)

(وَإِلَّا ذهب الْأجر ... فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا)

1609 - / 1959 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: إِنِّي لَا آلو أَن أُصَلِّي بكم كَمَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِنَا. قَالَ ثَابت: فَكَانَ إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع انتصب قَائِما.
اعْلَم أَن الإعتدال من الرُّكُوع ركن من أَرْكَان الصَّلَاة عندنَا، وَكَذَلِكَ الطُّمَأْنِينَة فِي الْقعُود بَين السَّجْدَتَيْنِ واللبث بِمِقْدَار مَا يَقُول المنتصب من الرُّكُوع: سمع الله لمن حَمده، رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَكَذَلِكَ اللّّبْث عِنْد الرّفْع من السُّجُود بِمِقْدَار مَا يَقُول: رب اغْفِر لي، وَقَول ذَلِك وَاجِب أَيْضا، وَمَا زَاد على ذَلِك كَقَوْلِه بعد رَبنَا وَلَك الْحَمد: ملْء السَّمَوَات وَالْأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد.
وتكرار قَوْله: رب اغْفِر لي، من المسنونات فِي الصَّلَاة.
1610 - / 1960 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1611 - / 1961 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد مائَة: بَيْنَمَا أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خارجان من الْمَسْجِد لَقينَا رجل عِنْد سدة الْمَسْجِد

(3/251)


فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَتى السَّاعَة؟ قَالَ: ((مَا أَعدَدْت لَهَا؟)) فَكَأَن الرجل قد استكان.
سدة الْمَسْجِد: ظلاله الَّتِي حوله، وفناؤه.
واستكان: بِمَعْنى خضع.
وَأما قصد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: ((مَا أَعدَدْت لَهَا؟)) فَيحْتَمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن ينظر: هَل سُؤَاله سُؤال مكذب بهَا، أَو خَائِف لَهَا، أَو راج لخيرها؟
وَالثَّانِي: أَن المُرَاد تهويل أمرهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُول: شَأْنهَا شَدِيد، فَبِمَ تلقاها؟ فَلَمَّا تكلم بِمَا يَقْتَضِي الْإِيمَان ألحقهُ بِمن يُحِبهُ لحسن نِيَّته وقصده.
وَقَول أنس: كَانَ من أقراني: أَي فِي السن، وَكَذَلِكَ: من أترابي، والأتراب: المتساوون فِي السن، واحدهم ترب.
وَقَوله: ((إِن أخر هَذَا لم يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم السَّاعَة)) اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَكَلَّم بأَشْيَاء على سَبِيل الظَّن وَالْقِيَاس، وَالظَّن وَالْقِيَاس دَلِيل مَعْمُول عَلَيْهِ، وَلَا ينْسب إِلَى الْخَطَأ من عمل على دَلِيل، فَلَمَّا قربت لَهُ السَّاعَة، وَقيل لَهُ: {أَتَى أَمر الله} [النَّحْل: 1] كَانَ يَظُنهَا بِتِلْكَ الأمارات قريبَة جدا، وَلِهَذَا قَالَ فِي الدَّجَّال: ((إِن يخرج وَأَنا فِيكُم فَأَنا حجيجه)) وَقد سبق فِي مُسْند طَلْحَة أَنه قَالَ فِي تلقيح النّخل: ((مَا أَظن ذَاك يُغني شَيْئا)) ثمَّ قَالَ: ((إِنَّمَا ظَنَنْت، فَلَا تؤاخذوني

(3/252)


بِالظَّنِّ)) وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أنس أَنه قَالَ فِي تلقيح النّخل: ((لَو لم تَفعلُوا لصلح)) فَخرج شيصا، فَهَذَا يدل على أَنه قَالَه بِالظَّنِّ، وَلذَلِك اعتذر فِي حَدِيث طَلْحَة، فَكَانَ هَذَا مِمَّا ظن بدلائل الأمارات لَا مِمَّا أُوحِي إِلَيْهِ بالتصريح. وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بالساعة موت الكائنين فِي ذَلِك الزَّمَان كَمَا سبق فِي مُسْند ابْن عمر: أَنه خرج عَلَيْهِم لَيْلَة فَقَالَ: ((أَرَأَيْتُم ليلتكم هَذِه، فَإِن رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر أحد)) وَسَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند عَائِشَة: أَن قوما سَأَلُوهُ عَن السَّاعَة، فَنظر إِلَى أَصْغَرهم فَقَالَ: ((إِن يَعش هَذَا لَا يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم عَلَيْكُم سَاعَتكُمْ)) قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: يَعْنِي مَوْتهمْ.
1612 - / 1962 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: خدمت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشر سِنِين، وَالله مَا قَالَ لي أُفٍّ قطّ.
فِي ((أُفٍّ)) عشر لُغَات: إِحْدَاهَا: أُفٍّ بِالْكَسْرِ من غير تَنْوِين، وَبهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرو.

(3/253)


وَالثَّانيَِة: أُفٍّ بِالْفَتْح من غير تَنْوِين، وَبهَا قَرَأَ ابْن كثير.
وَالثَّالِثَة: أُفٍّ بِالْكَسْرِ والتنوين، وَبهَا قَرَأَ نَافِع.
وَالرَّابِعَة: أُفٍّ بِالرَّفْع والتنوين، وَبهَا قَرَأَ ابْن يعمر.
وَالْخَامِسَة: أُفٍّ بِالرَّفْع من غير تَنْوِين مَعَ تَشْدِيد الْفَاء، وَبهَا قَرَأَ أَبُو عمرَان الْجُوَيْنِيّ.
وَالسَّادِسَة: أفا مثل تعسا، وَبهَا قَرَأَ عَاصِم الجحدري.
وَالسَّابِعَة: أُفٍّ بِإِسْكَان الْفَاء وتخفيفها، وَبهَا قَرَأَ عِكْرِمَة.
وَالثَّامِنَة: أَفِي بتَشْديد الْفَاء وَكسرهَا وياء، وَبهَا قرا أَبُو الْعَالِيَة.
والتاسعة: إف بِكَسْر الْألف وَالْفَاء.
والعاشرة: أفة.
وَفِي معنى أُفٍّ خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه وسخ الظفر، قَالَه الْخَلِيل.
وَالثَّانِي: وسخ الْأذن، قَالَه الْأَصْمَعِي.
وَالثَّالِث: قلامة الظفر، قَالَه ثَعْلَب.
وَالرَّابِع: أَن الأف الإحتقار والإستصغار من الأفف، والأفف عِنْد الْعَرَب الْقلَّة، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.
وَالْخَامِس: أَن الأف مَا رفعته من الأَرْض من عود أَو قَصَبَة، حَكَاهُ

(3/254)


ابْن فَارس وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: معنى أُفٍّ: النتن والتضجر، وَأَصلهَا نفخك الشَّيْء يسْقط عَلَيْك من تُرَاب ورماد، وللمكان يُرِيد إمَاطَة الْأَذَى عَنهُ، فَقيل لكل مستثقل.
وَقَوله: مَا قَالَ لي: لم فعلت. اعْلَم أَنه اتّفق فِي هَذَا ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: كَون أنس صَبيا، وَالصَّبِيّ يصفح عَن خطئه.
وَالثَّانِي: أَنه كَانَ عَاقِلا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَلْحَة: إِن أنسا غُلَام كيس: أَي عَاقل. وَلَقَد قَالَت لَهُ أمه: أَيْن تذْهب يَا أنس؟ قَالَ: فِي حَاجَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَت: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِنَّهَا سر، وَلم يخبرها، وَمَتى كَانَ الْخَادِم عَاقِلا لم يلم، وَقد أنشدوا:
(إِذا كنت فِي حَاجَة مُرْسلا ... فَأرْسل حكيما وَلَا توصه)

وَالثَّالِث: حلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعفوه. فلهذه الْأَشْيَاء امْتنع لوم أنس.
1613 - / 1963 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: حجمه أَبُو طيبَة. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.

(3/255)


وَفِيه: ((إِن أمثل مَا تداويتم بِهِ الْحجامَة والقسط البحري)) . وَقَالَ: ((لَا تعذبوا صِبْيَانكُمْ بالغمز من الْعذرَة)) . الْعذرَة: وجع الْحلق، يُقَال: عذرت الْمَرْأَة الصَّبِي؛ إِذا كَانَت بِهِ الْعذرَة: وَهِي وجع الْحلق، فغمزته. وَسَيَأْتِي هَذَا مشروحا فِي مُسْند أم قيس.
1614 - / 1964 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة: نهى عَن بيع الثَّمر حَتَّى يزهو. فَقُلْنَا لأنس: مَا زهوها؟ قَالَ: تحمر وَتَصْفَر، قَالَ: ((أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة، بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) وَفِي لفظ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن لم يثمرها الله، فَبِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) .
وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: أَرَأَيْت إِن من الله الثَّمَرَة، بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) ظَاهره أَنه من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَلِك رَوَاهُ مَالك، وَخَالفهُ الْأَكْثَرُونَ فجعلوه من كَلَام أنس. أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر ابْن أَحْمد قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: روى مَالك بن أنس هَذَا الحَدِيث عَن حميد عَن أنس فرفعه، وَفِيه: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَرَأَيْت إِذا منع الله الثَّمَرَة، فَبِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه؟)) وَهَكَذَا رَوَاهُ عَن مَالك أَصْحَابه لم يَخْتَلِفُوا فِيهِ. وَوهم مَالك فِي هَذَا؛ لِأَن قَوْله: أَفَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة ... إِلَى آخر الْمَتْن كَلَام أنس، وَقد بَين ذَلِك يزِيد بن هَارُون وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، كلهم فِي روايتهم هَذَا الحَدِيث عَن

(3/256)


حميد، وفصلوا كَلَام أنس من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَوله: ((بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) دَلِيل على أَن حكم الثِّمَار - إِذا لم يشْتَرط فِيهَا الْقطع - التبقية، وَأَن الْعرف فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الشَّرْط.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن مَا تهلكه الجوائح من ضَمَان البَائِع، وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1615 - / 1965 - والْحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1616 - / 1966 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الْمِائَة: ((تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي)) قد سبق الْكَلَام فِي هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1617 - / 1967 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركب حمارا وَانْطَلق إِلَى عبد الله بن أبي فَقَالَ: إِلَيْك عني، وَالله لقد آذَانِي حِمَارك.
كَانَ ابْن أبي يظْهر الْإِسْلَام ثمَّ تظهر مِنْهُ فلتات تدل على نفَاقه، ثمَّ يتَأَوَّل لما قَالَ مرّة، وينكر أُخْرَى، فَحَمله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على علاته.

(3/257)


1618 - / 1968 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: انْطلق ابْن مَسْعُود فَوجدَ أَبَا جهل قد ضربه ابْنا عفراء حَتَّى برد، فَأخذ بلحيته فَقَالَ: أَنْت أَبُو جهل؟ وَفِي لفظ: أَنْت أَبَا جهل؟ وَقَالَ: لَو غير أكار قتلني.
كَذَا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث ((ابْنا عفراء)) وَقد ذكرنَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن أَبَا جهل قَتله معَاذ بن عَمْرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء، وَابْن الجموح لَيْسَ من أَوْلَاد عفراء. وَقد ذكرنَا أولاء عفراء الَّذين شهدُوا بَدْرًا وهم سَبْعَة، وَذكرنَا نَسَبهَا أَيْضا فِي مُسْند ابْن عَوْف. ومعاذ بن عفراء مِمَّن بَاشر قتل أبي جهل، فَلَعَلَّ بعض إخْوَته أَعَانَهُ أَو حَضَره، أَو أَن يكون الحَدِيث ((ابْن عفراء)) فغلط الرَّاوِي فَقَالَ: ((ابْنا عفراء)) وَالله أعلم.
وَبرد بِمَعْنى ثَبت، أَي أثبتته الْجراحَة فَلم تمكنه أَن يبرح. وَفِي بعض الْأَحَادِيث: برك.
وَإِنَّمَا ذكر ابْن مَسْعُود كنيته استهزاء. فَقَالَ: أَنْت أَبُو جهل؟ كَقَوْلِه: {أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] . فَأَما من روى: أَنْت أَبَا جهل؟ أَرَادَ: أَنْت هَذَا يَا أَبَا جهل.
والأكار: الزراع، سمي بذلك لحفره الأَرْض فِي الزِّرَاعَة.
والأكرة: الحفرة، وَجَمعهَا أكر.
1619 - / 1970 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي

(3/258)


مُسْند أبي مُوسَى.
1620 - / 1971 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: أَنا أول شَفِيع فِي الْجنَّة. أَي فِي دُخُول الْجنَّة.
1621 - / 1973 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند عَليّ.
1622 - / 1975 - وَالتَّاسِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عمر بن الْخطاب.
1623 - / 1976 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: انهزم النَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد وَأَبُو طَلْحَة بَين يَدَيْهِ مجوب عَلَيْهِ بحجفة.
أَي سَاتِر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَاطع بَينه وَبَين الْعَدو بحجفة: وَهِي ترس صَغِير.
والنزع: مد الْقوس.
والجعبة: خريطة النشاب من جُلُود.
والخدم جمع خدمَة: وَهِي الخلخال، وَقد تسمى الساقان خدمتين لِأَنَّهُمَا مَوضِع الخدمتين.
والمتون جمع متن، وَقد بَيناهُ فِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين من هَذَا الْمسند.

(3/259)


وَأما وُقُوع السَّيْف فلأجل مَا ألقِي عَلَيْهِم يَوْم أحد من النّوم الَّذِي أُشير إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ} [الْأَنْفَال: 11] .
وَقد وَقعت كَلِمَات مصحفة فِي هَذَا الحَدِيث من كتاب البُخَارِيّ إِلَّا أَنه لم يذكرهَا الْحميدِي، وَذكرهَا أَبُو سُلَيْمَان، مِنْهَا: وَكَانَ راميا شَدِيد الْقد، بِالْقَافِ، وَقَالَ: أرَاهُ الْمَدّ. قَالَ: وَيحْتَمل: شَدِيد الْقد بِكَسْر الْقَاف، يُرِيد بِهِ وتر الْقوس. وَمِنْهَا تنقزان الْقرب. وَإِنَّمَا هُوَ تزفران.
1624 - / 1977 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((ليردن عَليّ الْحَوْض رجال مِمَّن صاحبني، إِذا رَأَيْتهمْ وَرفعُوا لي اختلجوا دوني)) قد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَغَيره.
1625 - / 1980 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((يَا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هَذَا)) .
قَوْله: ((ثامنوني)) أَي قدرُوا ثمنه لأشتريه مِنْكُم.
قَوْله: وَكَانَ فِيهِ نخل وَخرب. الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة خرب بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة، جمع خربة، كَمَا يُقَال: كلم وَكلمَة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: حدّثنَاهُ الْخيام بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء، وَهُوَ جمع الخراب. وَقَالَ اللَّيْث: لُغَة تَمِيم خرب، والواحدة

(3/260)


خربة، إِلَّا أَن قَوْله: فَأمر بالخرب فسويت يدل على أَن الصَّوَاب فِيهِ إِمَّا الخرب بِضَم الْخَاء جمع خربة: وَهِي الخروق الَّتِي فِي الأَرْض، إِلَّا أَنهم يخصون بِهَذَا الإسم كل ثقبة مستديرة من جلد كَانَت أَو فِي أَرض أَو جِدَار. وَإِمَّا أَن تكون الرِّوَايَة الجرف وَجمع الجرفة، وَهِي جمع الجرف، كَمَا قيل: خرج وخرجة، وترس وترسة، وَأبين مِنْهَا فِي الصَّوَاب إِن ساعدته الرِّوَايَة: حدب: وَهُوَ جمع الحدبة، وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بقوله: فسويت، وَإِنَّمَا يسوى الْمَكَان المحدودب، أَو مَوضِع من الأَرْض فِيهِ خروق، فَأَما الخرب فَإِنَّهُ تعمر وَلَا تسوى.
1626 - / 1981 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أَبَا عُمَيْر، مَا فعل النغير؟)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: النغير: طَائِر صَغِير، وَيجمع على النغران.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن صيد الْمَدِينَة مُبَاح، وَفِيه: إِبَاحَة السجع فِي الْكَلَام. وَفِيه: جَوَاز الدعابة مَا لم يكن إِثْمًا. وَفِيه: إِبَاحَة تَصْغِير الْأَسْمَاء. وَفِيه: أَنه كناه وَلم يكن لَهُ ولد، فَلم يدْخل ذَلِك فِي بَاب الْكَذِب.
1627 - / 1982 - والْحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَة: فِي مُسْند

(3/261)


عُرْوَة الْبَارِقي.
1628 - / 1983 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: أَقَمْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرا - يَعْنِي بِمَكَّة - نقصر الصَّلَاة.
عندنَا أَنه إِذا نوى الْمُسَافِر إِقَامَة بِبَلَد يزِيد على أَرْبَعَة أَيَّام أتم، وَعَن أَحْمد: إِذا نوى إِقَامَة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة أتم. وَلَا تخْتَلف الرِّوَايَة أَنه يحْتَسب يَوْم الدُّخُول وَيَوْم الْخُرُوج. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا نوى إِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام غير الدُّخُول وَالْخُرُوج، فنحمل نَحن هَذَا الحَدِيث على أَنه لم ينْو إِقَامَة هَذِه الْمدَّة، بل كَانَ يَقُول: الْيَوْم أخرج، وَغدا أخرج. وَمَتى أَقَامَ لقَضَاء حَاجَة وَلم ينْو الْإِقَامَة قصر أبدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا نوى خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم.
1629 - / 1984 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قيل لأنس: أَكُنْتُم تَكْرَهُونَ السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة؟ قَالَ: نعم، لِأَنَّهَا كَانَت من شَعَائِر الْجَاهِلِيَّة، حَتَّى أنزل الله عز وَجل: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} [الْبَقَرَة: 158] .
قَالَ الشّعبِيّ: كَانَ على الصَّفَا وثن يدعى إساف، وعَلى الْمَرْوَة وثن يدعى نائلة، فَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يسعون بَينهمَا ويمسحونهما، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كفوا عَن السَّعْي بَينهمَا، فَنزلت هَذِه الْآيَة. قَالَ

(3/262)


الزّجاج: الصَّفَا فِي اللُّغَة الْحِجَارَة الصلبة الصلدة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا، وَهُوَ جمع واحده صفاة وَصفا، مثل حَصَاة وحصا. والمروة: الْحِجَارَة اللينة. وَهَذَانِ الموضعان من شَعَائِر الله: أَي من أَعْلَام متعبداته، وَوَاحِد الشعائر شعيرَة. والشعائر كل مَا كَانَ من موقف أَو مسعى أَو ذبح. وَالْحج: الْقَصْد، وكل قَاصد شَيْئا فقد [حجه، وَكَذَلِكَ كل قَاصد شَيْئا فقد] اعْتَمر. والجناح: الْإِثْم، أَخذ من جنح: إِذا مَال وَعدل، وَأَصله من جنَاح الطَّائِر. وَإِنَّمَا اجْتنب الْمُسلمُونَ الطّواف بَينهمَا لمَكَان الْأَوْثَان، فَقيل لَهُم: إِن نصب الْأَوْثَان بَينهمَا قبل الْإِسْلَام لَا يُوجب اجتنابهما.
1630 - / 1985 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قلت لأنس: أبلغك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((لَا حلف فِي الْإِسْلَام؟)) قَالَ: قد حَالف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار فِي دَاري.
الْحلف: العقد والعهد، وَكَانُوا يتحالفون فِي الْجَاهِلِيَّة على نصر بَعضهم الْبَعْض فِي كل مَا يَفْعَلُونَهُ، فهدم الْإِسْلَام ذَلِك. وَالْمرَاد بقوله: حَالف بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار، المؤاخاة، للإئتلاف على الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا أنس محالفة لِأَن مَعْنَاهَا معنى المحالفة. وَقد أَشَرنَا إِلَى المؤاخاة فِي مُسْند عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.

(3/263)


1631 - / 1986 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة: قدم عَليّ من الْيمن، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بِمَ أَهلَلْت؟)) قَالَ: بإهلال [أَو] كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ((لَوْلَا أَن معي الْهَدْي لأحللت)) .
لما خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يقصدون الْحَج، ثمَّ أَمر أَصْحَابه أَن يفسخوه إِلَى الْعمرَة - كَمَا ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس - لم يُمكنهُ الْفَسْخ لِأَنَّهُ سَاق الْهَدْي. وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله، وَقد بَيناهُ ثمَّ.
1632 - / 1988 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج لِحَاجَتِهِ تَبعته أَنا وَغُلَام منا، مَعنا إداوة من مَاء يستنجي بِهِ.
الْإِدَاوَة: إِنَاء من جُلُود كالركوة.
وَأما الإستنجاء فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ التمسح بالأحجار، وَأَصله من النجوة: وَهِي الإرتفاع من الأَرْض، وَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ قَضَاء الْحَاجة تستر بنجوة من الأَرْض فَقَالُوا: ذهب ينجو، كَمَا قَالُوا: ذهب يتغوط، إِذا أَتَى الْغَائِط: وَهُوَ المطمئن من الأَرْض لقَضَاء الْحَاجة، ثمَّ سمي الْحَدث نَجوا، واشتق مِنْهُ: قد استنجى: إِذا مسح مَوْضِعه أَو غسله.

(3/264)


1633 - / 1989 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو جهل: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم، فَنزلت: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ [الْأَنْفَال: 33، 34] .
أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْقَائِل لهَذَا النَّضر بن الْحَارِث، غير أَن هَذِه الطَّرِيق إِلَى أنس أثبت.
وَفِي الْمشَار إِلَيْهِ بقوله: ((هَذَا)) ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الْقُرْآن.
وَالثَّانِي: كل مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّالِث: إكرام مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنُّبُوَّةِ.
وَالْكِنَايَة فِي قَوْله: {ليعذبهم} عَائِدَة إِلَى أهل مَكَّة.
وَفِي معنى {وَأَنت فيهم} قَولَانِ: أَحدهمَا: وَأَنت مُقيم بَين أظهرهم، قَالَ ابْن عَبَّاس: لم تعذب قَرْيَة حَتَّى يخرج نبيها والمؤمنون مَعَه.
وَالثَّانِي: وَأَنت حَيّ.
وَفِي قَوْله: {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: مَا كَانَ معذب الْمُشْركين وَفِيهِمْ من قد سبق لَهُ يُؤمن، قَالَه

(3/265)


ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: وَمَا كَانَ الله معذب الْمُشْركين وهم - يَعْنِي الْمُؤمنِينَ الَّذين بَينهم - يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَه الضَّحَّاك. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وصفوا بِصفة بَعضهم لبَعض، لِأَن الْمُؤمنِينَ بَين أظهرهم، فأوقع الْعُمُوم على الْخُصُوص، كَمَا يُقَال: قتل أهل الْمَسْجِد رجلا، وَلَعَلَّه لم يفعل ذَلِك إِلَّا رجل مِنْهُم.
وَالثَّالِث: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم من يسْتَغْفر، قَالَه مُجَاهِد: قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: فَمَعْنَى تعذيبهم إهلاكهم، فوصفهم بِصفة ذَرَارِيهمْ كَمَا فِي الْجَواب الَّذِي قبله.
وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى: لَو اسْتَغْفرُوا لما عذبهم وَلَكنهُمْ لم يَسْتَغْفِرُوا فاستحقوا الْعَذَاب، وَهَذَا كَمَا تَقول الْعَرَب: مَا كنت لأهينك وَأَنت تكرمني، يُرِيدُونَ: مَا كنت لأهينك لَو أكرمتني، فَأَما إِذْ لست تكرمني فَأَنت مُسْتَحقّ لإهانتي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب قَتَادَة وَالسُّديّ، وَهُوَ اخْتِيَار اللغويين.
وَقَوله: {وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم} هَذِه الْآيَة أجازت تعذيبهم، وَالْأولَى نفت ذَلِك، وَهل المُرَاد بِهَذَا الْعَذَاب الأول أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهَا: أَن الأول امْتنع لشيئين: أَحدهمَا كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم.
وَالثَّانِي: كَون الْمُؤمنِينَ المستغفرين بَينهم، فَلَمَّا وَقع التَّمْيِيز بِالْهِجْرَةِ وَقع الْعَذَاب بالباقين يَوْم بدر، وَقيل: بِفَتْح مَكَّة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، ثمَّ فِي ذَلِك قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن

(3/266)


الْعَذَاب الثَّانِي قتل بَعضهم يَوْم بدر، وَالْأول استئصال الْكل، فَلم يَقع الأول لما قد علم من إِيمَان بَعضهم وَإِسْلَام بعض ذَرَارِيهمْ، وَوَقع الثَّانِي. وَالثَّانِي: أَن الْعَذَاب الأول عَذَاب الدُّنْيَا، وَالثَّانِي عَذَاب الْآخِرَة.
1634 - / 1990 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد تَمْرَة فَقَالَ: ((لَوْلَا أَن تكون - وَفِي لفظ: لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن تكون - من الصَّدَقَة لأكلتها)) .
اللَّفْظ الثَّانِي فسر الأول، وَهُوَ أصل فِي الْوَرع، وَهُوَ أَيْضا يدل على أَن مَا لَا تتبعه النَّفس لَا يعرف وَيجوز تنَاوله، وَلَا يجب التَّصَدُّق بِهِ.
1635 - / 1993 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل بِخمْس مكاكيك، وَيتَوَضَّأ بمكوك.
المكوك: إِنَاء يسع نَحْو الْمَدّ، مَعْرُوف عِنْدهم.
1636 - / 1995 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ أَكثر دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اللَّهُمَّ آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة، وقنا عَذَاب النَّار)) .
الْحَسَنَة: الشَّيْء الْحسن، وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي حَسَنَة الدُّنْيَا

(3/267)


على سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْمَرْأَة الصَّالِحَة، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَالثَّانِي: الْعِبَادَة: رَوَاهُ سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الْحسن. وَالثَّالِث: الْعلم وَالْعِبَادَة، رَوَاهُ هِشَام عَن الْحسن. وَالرَّابِع: المَال، قَالَه أَبُو وَائِل. وَالْخَامِس: الْعَافِيَة، قَالَه قَتَادَة. وَالسَّادِس: الرزق الْوَاسِع، قَالَه مقَاتل. وَالسَّابِع: النِّعْمَة، قَالَه ابْن قُتَيْبَة.
وَفِي حَسَنَة الْآخِرَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: الْحور الْعين، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَالثَّانِي: الْجنَّة، قَالَه الْحسن. وَالثَّالِث: الْعَفو وَالْمَغْفِرَة، قَالَه الثَّوْريّ.
1637 - / 1996 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد الْمِائَة: ((لن يبرح النَّاس يسْأَلُون حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا الله خَالق كل شَيْء، فَمن خلق الله؟)) .
اعْلَم أَن الباحث عَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ الْحس، لِأَن الْحس لم يعرف وجود شَيْء إِلَّا بِشَيْء، وَمن شَيْء، فَأَما الْعقل الَّذِي هُوَ الْحَاكِم الْمَقْطُوع بِحكمِهِ، فقد علم أَنه لابد من خَالق غير مَخْلُوق، إِذْ لَو كَانَ مخلوقا لاحتاج إِلَى خَالق، ثمَّ بتسلسل إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ، والمتسلسل بَاطِل، وَإِنَّمَا أثبت الْعقل صانعا، لِأَنَّهُ رأى المحدثات مفتقرة إِلَى مُحدث، فَلَو افْتقر الْمُحدث إِلَى مُحدث كل مُحدثا.
1638 - / 1997 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: رأى

(3/268)


رجلا يَسُوق بَدَنَة، فَقَالَ: ((اركبها)) ، وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1639 - / 1999 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين بعد الْمِائَة: إِن الرّبيع كسرت ثنية جَارِيَة.
الرّبيع من الصحابيات أَربع: الرّبيع بنت حَارِثَة، وَالربيع بنت الطُّفَيْل، وَالربيع بنت معوذ، وَالربيع بنت النَّضر عمَّة أنس، وَهِي صَاحِبَة هَذِه الْقِصَّة، وكلهن بايعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يرو عَنهُ مِنْهُنَّ غير بنت معوذ، وَقد أخرج لَهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) على مَا سَيَأْتِي ذكرهَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: لَا وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، لَا تكسر سنّهَا. كَأَنَّهُ حلف: لَا يجْرِي الْقدر بِهَذَا، طَمَعا فِي فضل الله تَعَالَى أَن يصرف عَنْهَا ذَلِك، فأبره: أَعَانَهُ على الْبر وَلم يحنثه.
1640 - / 2002 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفْطر من الشَّهْر حَتَّى نظن أَنه لَا يَصُوم مِنْهُ، ويصوم حَتَّى نظن أَلا يفْطر مِنْهُ شَيْئا.
ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَصُوم عدد مَا يفْطر، وَيفْطر عدد مَا يَصُوم، فَيصير مثل من يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا. وَإِنَّمَا كَانَ يجمع أَيَّام الْفطر وَأَيَّام الصَّوْم، وَقد كَانَ ينَام بِقدر مَا يقوم،

(3/269)


وَيقوم بِقدر مَا ينَام.
1641 - / 2003 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((تسحرُوا؛ فَإِن فِي السّحُور بركَة)) .
السّحُور بِفَتْح السِّين: اسْم مَا يُؤْكَل فِي ذَلِك الْوَقْت، وَكَذَلِكَ الفطور والبخور والسفوف واللبوس والسنون والسعوط وَالْوُضُوء.
1642 - / 2004 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الْخَلَاء وَفِي لفظ: الكنيف - قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث)) .
الْخَلَاء: الْمَكَان الْخَالِي، وَهُوَ هَاهُنَا كِنَايَة، عَن مَوضِع الْحَدث.
والكنيف: أَصله السَّاتِر - قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَمِنْه قيل للترس كنيف: أَي سَاتِر. وَكَانُوا قبل أَن يحدث الكنيف يقضون حوائجهم فِي البراحات والصحاري، فَلَمَّا حفروا فِي الأَرْض آبارا تسترا للْحَدَث سميت كنفا.
وَالْبَاء فِي الْخبث سَاكِنة، كَذَلِك ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد وَغَيره. ثمَّ فِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشَّرّ، قَالَه أَبُو عبيد. وَالثَّانِي: الْكفْر، قَالَه ابْن الْأَنْبَارِي. وَزعم أَبُو سُلَيْمَان

(3/270)


الْخطابِيّ أَن تسكين الْبَاء غلط، وَأَن الصَّوَاب ضمهَا، قَالَ: وَهِي جمع الْخَبيث، والخبائث جمع الخبيثة، وَالْمرَاد: ذكران الشَّيَاطِين وإناثهم. وَلَا أَدْرِي من أَيْن لَهُ هَذَا التحكم وَهُوَ يروي أَن ابْن الْأَعرَابِي كَانَ يَقُول: أصل الْخبث فِي كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه، فَإِن كَانَ من الْكَلَام فَهُوَ الشتم، وَإِن كَانَ من الْملَل فَهُوَ الْكفْر، وَإِن كَانَ من الطَّعَام فَهُوَ الْحَرَام، وَإِن كَانَ من الشَّرَاب فَهُوَ الضار. فَإِن صَحَّ التَّعَوُّذ من الْمَكْرُوه فَمَا وَجه الْإِنْكَار؟ بل مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَة أولى؛ لِأَنَّهُ يحصل فائدتين: التَّعَوُّذ من الْمَكْرُوه فَيدْخل فِي ذَلِك كل شَرّ، والتعوذ من الشَّيَاطِين وَهُوَ اسْم يعم ذكورها وإناثها، كَذَلِك قَالَ أَبُو عبيد: الْخَبَائِث: الشَّيَاطِين، وَلم يَجعله اسْما للإناث دون الذُّكُور.
1643 - / 2005 - والْحَدِيث التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عمر.
1644 - / 2007 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: نهى أَن يتزعفر الرجل.
التزعفر: التضمخ بالزعفران واستعماله فِيمَا يظْهر على الرِّجَال.
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: ((طيب الرِّجَال مَا خَفِي لَونه وَظهر رِيحه،

(3/271)


وَطيب النِّسَاء مَا ظهر لَونه وخفي رِيحه)) .
1645 - / 2008 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَنهم كَانُوا يصلونَ رَكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب.
وَوجه هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((بَين كل أذانين صَلَاة لمن شَاءَ)) .
وَإِذا غربت الشَّمْس حل التَّنَفُّل.
1646 - / 2009 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} [الْفَتْح: 1] قَالَ: الْحُدَيْبِيَة.
وَقد ذكرنَا وَجه كَونه فتحا فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
1647 - / 2011 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَن أم سليم كَانَت تبسط لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نطعا فيقيل عِنْدهَا، فَإِذا قَامَ أخذت من عرقه وشعره فجمعته فِي قَارُورَة ثمَّ جعلته فِي سك.
السك: نوع من الطّيب. وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَنه كَانَ ينبسط فِي بَيت أم سليم لِأَنَّهَا كَانَت ذَات قرَابَة مِنْهُ.
والعتيدة: شَيْء تخفظ فِيهِ حوائجها كالزنفليجة. والعتيد: الشَّيْء الْمعد.

(3/272)


والسلت: جرف الْمَائِع بِالْيَدِ باستقصاء.
1648 - / 2012 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: دَخَلنَا على أبي سيف الْقَيْن وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيم.
الْقَيْن: الْحداد، وَجمعه قيون.
والظئر: الْمُرضعَة، وَإِنَّمَا كَانَت زَوجته ترْضع، إِلَّا أَنه لما كَانَ بلبنه سمي ظِئْرًا.
1649 - / 2013 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي، فَإِن الشَّيْطَان لَا يتخيل بِي: ورؤيا الْمُؤمن جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة)) .
أما أول الحَدِيث فقد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة وَجَابِر، وَأما آخِره فَفِي مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت.
1650 - / 2014 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: دخل رجل فَقَالَ: أَيّكُم مُحَمَّد؟ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متكئ بَين ظهرانيهم، فَقُلْنَا: هَذَا الْأَبْيَض المتكئ. فَقَالَ لَهُ: ابْن عبد الْمطلب. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((قد أَجَبْتُك)) .
الظَّاهِر من الإتكاء الإعتماد على إِحْدَى الْمرْفقين. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الْعَامَّة لَا تعرف المتكئ إِلَّا من مَال فِي قعوده مُعْتَمدًا على أحد جَنْبَيْهِ،

(3/273)


وكل من اسْتَوَى قَاعِدا على وطاء فَهُوَ متكئ.
وَقَوله: ابْن عبد الْمطلب: أَي: يَا ابْن عبد الْمطلب، فَرد عَلَيْهِ من جنس كَلَامه فَقَالَ: ((قد أَجَبْتُك)) .
وَأما قَوْله: أَسأَلك بِاللَّه. إِن قَالَ قَائِل: يَنْبَغِي أَن يتبعهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْيَمِينِ. فَالْجَوَاب أَنه عرف الدَّلِيل ثمَّ أكد ذَلِك بِأَن أحلفه. قَالَ ابْن عقيل: كَانَ الْأَعرَابِي حسن الثِّقَة بِهِ لِأَنَّهُ لم يجرب عَلَيْهِ إِلَّا الصدْق فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْت عِنْدِي الصَّادِق فأكد صدقك بِالْيَمِينِ.
وَقَوله: نهينَا فِي الْقُرْآن أَن نسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء. كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101] .
وَقَوله: لَا أَزِيد عَلَيْهِنَّ. رُبمَا ظن ظان أَنه يَعْنِي لَا أتنفل، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لَا أَزِيد على المفترض وَلَا أنقص مِنْهُ كَمَا فعلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي فرائضهم.
1651 - / 2015 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قَالَ الزُّهْرِيّ: دخلت على أنس بِدِمَشْق وَهُوَ يبكي، فَقلت لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: لَا أعرف شَيْئا مِمَّا أدْركْت إِلَّا هَذِه الصَّلَاة، وَهَذِه

(3/274)


الصَّلَاة قد ضيعت.
الظَّاهِر من أنس أَنه يُشِير إِلَى مَا يصنع الْحجَّاج، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤَخر الصَّلَاة جدا يَوْم الْجُمُعَة، متشاغلا بمدح عبد الْملك وَمَا يتَعَلَّق بِهِ.
1652 - / 2016 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لم يكن أحد أشبه بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحسن بن عَليّ. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن سِيرِين قَالَ: أُتِي عبيد الله بن زِيَاد بِرَأْس الْحُسَيْن، فَجعل فِي طست، فَجعل ينكت وَقَالَ فِي حسنه شَيْئا، فَقَالَ أنس: كَانَ أشبههم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ مخضوبا بالوسمة.
وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث أَن الْحسن كَانَ يشبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرَّأْس إِلَى الصَّدْر، وَكَانَ الْحُسَيْن يُشبههُ فِيمَا دون ذَلِك.
وَقد ذكرنَا الطست فِي مُسْند أبي ذَر.
وَقَوله: ينكت: أَي يقرعه بِشَيْء يُؤثر فِيهِ.
وَقَالَ فِي حسنه شَيْئا: أَي فِي وَصفه بالْحسنِ.
والوسمة: خضاب يسود الشّعْر، قيل: إِنَّه ورق النّيل. وَيُقَال: وسمة بِإِسْكَان السِّين ووسمة بِكَسْرِهَا. وَأول من خضب بالوسمة من

(3/275)


أهل مَكَّة عبد الْمطلب. أخبرنَا سلمَان بن مَسْعُود قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك ابْن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عَليّ الْبَيْضَاوِيّ قَالَ أَبُو عمر بن حيويه قَالَ: حَدثنَا عمر بن سعد قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا قَالَ: حَدثنَا الْعَبَّاس بن هِشَام بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده: أَن عبد الْمطلب أول من خضب بالوسمة من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ أَنه قدم الْيمن فَنظر إِلَيْهِ بعض مُلُوكهَا فَقَالَ: يَا عبد الْمطلب هَل لَك أَن تغير هَذَا الْبيَاض فتعود شَابًّا؟ قَالَ: ذَاك إِلَيْك، فخضبه بِالْحِنَّاءِ، ثمَّ علاهُ بالوسمة، فَلَمَّا أَرَادَ الإنصراف زوده مِنْهُ شَيْئا كثيرا، وَأَقْبل عبد الْمطلب، فَلَمَّا دنا من مَكَّة اختضب ثمَّ دخل مَكَّة كَأَن رَأسه ولحيته حنك الْغُرَاب، فَقَالَت لَهُ نتيلة أم الْعَبَّاس: يَا شيبَة الْحَمد، مَا أحسن هَذَا الخضاب لَو دَامَ، فَقَالَ:
(لَو دَامَ لي هَذَا السوَاد حمدته ... وَكَانَ بديلا من شباب قد انصرم)

(تمتعت مِنْهُ والحياة قَصِيرَة ... وَلَا بُد من موت - نتيلة - أَو هرم)

(وماذا الَّذِي يجدي على الْمَرْء خفضه ... وَنعمته يَوْمًا إِذا عَرْشه انْهَدم)

قَالَ: فَخَضَّبَ بعده أهل مَكَّة.
وَكَانَ الْحسن وَالْحُسَيْن جَمِيعًا يخضبان بالوسمة. وَكَانَ عُثْمَان ابْن عَفَّان يخضب بِالسَّوَادِ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة. وَكَذَلِكَ عبد الله ابْن جَعْفَر بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَعقبَة بن عَامر والمغيرة ابْن شُعْبَة وَجَرِير بن عبد الله وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَهَؤُلَاء كلهم صحابة. وَمن التَّابِعين وَمن بعدهمْ عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان ومُوسَى

(3/276)


ابْن طَلْحَة وَعلي بن عبد الله بن عَبَّاس السَّجَّاد أَبُو الْخُلَفَاء أَبُو سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود وَإِسْمَاعِيل بن معد يكرب وَالزهْرِيّ وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ ومحارب بن دثار وَيزِيد الرشك وَالْحجاج بن أَرْطَأَة وَابْن أبي ليلى وَابْن جريج وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وغيلان بن جَامع القَاضِي وَنَافِع بن جُبَير وَهِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَأَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور وَعبد الله بن المعتز وَعمر بن عَليّ بن الْمقدمِي وَأَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَرَفَة الْمَعْرُوف بنفطويه، فِي آخَرين كلهم كَانُوا يخضون بِالسَّوَادِ، وَقد ذكرت أَخْبَار هَؤُلَاءِ بِالْأَسَانِيدِ فِي كتاب ((الشيب والخضاب)) .
1653 - / 2017 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن رجَالًا من الْأَنْصَار اسْتَأْذنُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: ائْذَنْ لنا فلنترك لِابْنِ أُخْتنَا عَبَّاس فداءه، فَقَالَ: ((لَا تدعون مِنْهُ درهما)) .
الْإِشَارَة إِلَى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَإِنَّهُ خرج يَوْم بدر مَعَ الْمُشْركين مكْرها، فَأسرهُ أَبُو الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو، فَقَالَت الْأَنْصَار هَذَا، وَأَرَادُوا بذلك أَمريْن: أَحدهمَا: إكرام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: لقرابة الْعَبَّاس مِنْهُم؛ فَإِن هاشما كَانَ قد تزوج امْرَأَة من بني النجار فَولدت لَهُ عبد الْمطلب، فَلذَلِك قَالُوا: ابْن أُخْتنَا، وَإِنَّمَا قَالُوا: ابْن أُخْتنَا لتَكون الْمِنَّة عَلَيْهِم فِي إِطْلَاقه، وَلَو قَالُوا: عمك، لَكَانَ منَّة عَلَيْهِ، وَهَذَا من قُوَّة الذكاء وَحسن الْأَدَب فِي الْخطاب. وَقد صحفه بعض قرأة الحَدِيث لجهله بِالنّسَبِ فَقَالَ: ابْن أخينا.

(3/277)


فَلم يَأْذَن لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِئَلَّا يكون فِي الدّين نوع مُحَابَاة، فَأخذ الْفِدَاء من الْعَبَّاس، وكلفه أَن يفْدي ابْني أَخِيه عقيل بن أبي طَالب وَنَوْفَل بن الْحَارِث. وَكَانَ الْعَبَّاس يَئِن لَيْلَة قيد، فَبَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساهرا، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: مَالك لَا تنام؟ فَقَالَ: ((سمت أَنِين الْعَبَّاس فِي وثَاقه)) فَقَامَ رجل مِنْهُم إِلَى الْعَبَّاس فَأرْخى من وثَاقه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((مَالِي لَا أسمع أَنِين الْعَبَّاس؟)) فَقَالَ رجل من الْقَوْم: إِنِّي أرخيت من وثَاقه، قَالَ: ((فافعل ذَلِك بالأساري كلهم)) .
1654 - / 2018 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أنسا رأى على أم كُلْثُوم بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برد حَرِير سيراء. قد تقدم تَفْسِير هَذَا فِي مُسْند عمر.
1655 - / 2019 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما)) وَفسّر نَصره ظَالِما بِأَن تَمنعهُ من الظُّلم.
اعْلَم أَن من منع شخصا من الظُّلم فقد نَصره على هَوَاهُ ونفعه بِالْمَنْعِ كَمَا يَنْفَعهُ بالنصر.
1656 - / 2020 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا

(3/278)


يَغْدُو يَوْم الْفطر حَتَّى يَأْكُل تمرات، ويأكلهن وترا.
وَأما التبكير بِالْأَكْلِ فللمبادرة إِلَى امْتِثَال أَمر الله تَعَالَى فِي الْإِفْطَار، كَمَا امتثل أمره فِي الصَّوْم. وَأما الْوتر فَإِنَّهُ كَانَ يحب الإيتار فِي كثير من الْأَشْيَاء.
1657 - / 2021 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ رَسُول الله إِذا تكلم بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تفهم عَنهُ، وَإِذا أَتَى على قوم فَسلم عَلَيْهِم سلم عَلَيْهِم ثَلَاثًا.
أما إِعَادَة الْكَلِمَة لتفهم فَلَا تعدو ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا ليفهم معنى اللَّفْظ بإعادته. أَو ليتضح اللَّفْظ فَيَنْقَطِع عَنهُ المحتملات، أَو لتحفظ فَيكون المُرَاد بالفهم الْحِفْظ.
وَأما إِعَادَة السَّلَام فَالْمُرَاد بِهِ الإستئذان إِذا لم يسمع السَّلَام الأول وَلم يجب، فَأَما إِذا مر على مجْلِس فعمهم بِالسَّلَامِ، أَو أَتَى دَارا فَسلم فَأَجَابُوا فَلَا وَجه للإعادة.
1658 - / 2023 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حج على رَحل وَكَانَ زاملته.
الرحل للبعير كالسرج للْفرس. وَأما الزاملة فَقَالَ ابْن فَارس: الزاملة: بعير يستظهر بِهِ الرجل يحمل عَلَيْهِ مَتَاعه. وَالْمرَاد أَنه لم يكن فِي هودج كَمَا يصنع المترفون، وَلَا كَانَ مَعَه غير ذَلِك الْبَعِير.

(3/279)


1659 - / 2030 - وَمَا بعد هَذَا قد تقدم تَفْسِيره إِلَى الحَدِيث السَّادِس عشر: وَفِيه: نهى عَن المحاقلة والمخاضرة وَالْمُلَامَسَة والمنابذة.
قد سبقت هَذِه الْأَشْيَاء، إِلَّا أَنا نشِير إِلَيْهَا فَنَقُول: المحاقلة: بيع الزَّرْع قبل إِدْرَاكه. والمخاضرة: اشْتِرَاء الثِّمَار وَهِي مخضرة وَلم يبد صَلَاحهَا. وَالْمُلَامَسَة: أَن يَقُول: إِذا لمست ثوبي أَو لمست ثَوْبك فقد وَجب البيع. والمنابذة: أَن يَقُول: إِذا نبذت إِلَيّ الثَّوْب أَو نَبَذته إِلَيْك فقد وَجب البيع.
1660 - / 2036 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: إِبَاحَة الكي.
وَقد سبق فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1661 - / 2039 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ((إِذا تقرب العَبْد إِلَيّ شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا)) .
المُرَاد بتقرب العَبْد: تقربه بِالطَّاعَةِ، وبتقرب الرب تقربه بالمغفرة.
والهرولة: شدَّة السَّعْي، وَهَذَا ضرب مثل. قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: ويروى عَن الْأَعْمَش فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث: ((تقربت مِنْهُ ذِرَاعا)) قَالَ: يَعْنِي بالمغفرة وَالرَّحْمَة، قَالَ: وَهَكَذَا فسر بعض أهل الْعلم هَذَا الحَدِيث. قَالُوا: مَعْنَاهُ: إِذا تقرب إِلَيّ بطاعتي سارعت إِلَيْهِ بمغفرتي ورحمتي.

(3/280)


1662 - / 2040 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدُور على نِسَائِهِ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة من النَّهَار، وَهن إِحْدَى عشرَة.
اعْلَم أَن الْعَرَب كَانَت تعد الْقُوَّة على النِّكَاح من كَمَال الْخلقَة وَقُوَّة البنية، كَمَا تعد الشجَاعَة مِنْهَا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتم النَّاس خلقَة، ثمَّ أعطي قُوَّة ثَلَاثِينَ، ثمَّ كَانَ فِي فعله ذَلِك رد على النَّصَارَى فِي التبتل طلبا للنسل.
1663 - / 2042 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: مشيت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخبْز شعير وإهالة سنخة، وسمعته يَقُول: ((مَا أصبح لآل مُحَمَّد إِلَّا صَاع وَلَا أَمْسَى وَإِنَّهُم لتسعة أَبْيَات)) .
الإهالة: الودك، وَهُوَ الشَّحْم الْمُذَاب. واستأهل الرجل: أكلهَا: والسنخة المتغيرة، يُقَال: سنخ الدّهن: إِذْ تغير.
والصاع: خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي.
والأبيات التِّسْعَة هِيَ أَبْيَات أَزوَاجه اللواتي توفّي عَنْهُن، وَهن عَائِشَة وَحَفْصَة وَسَوْدَة وَأم حَبِيبَة وَأم سَلمَة ومَيْمُونَة وَزَيْنَب بنت جحش وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة.
وَقَوله: مَا أصبح لآل مُحَمَّد إِلَّا صَاع، شرح للْحَال لَا شكوى، وَفَائِدَة ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: تَعْلِيم الْخلق الصَّبْر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنا أكْرم الْخلق على الله تَعَالَى وَهَذِه حَالي، فَإِذا ابتليتم فَاصْبِرُوا. وَالثَّانِي: إِعْلَام النَّاس بِأَن الْبلَاء يلصق بالأخيار ليفرح الْمُبْتَلى.

(3/281)


1664 - / 2043 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: ((ليصيبن أَقْوَامًا سفع من النَّار)) أَي أثر من لهيبها وعذابها.
1664 - / 2050 - وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْكُل على خوان حَتَّى مَاتَ، وَمَا أكل خبْزًا مرققا، وَلَا رأى شَاة سميطا، وَمَا علمت أَنه أكل على سكرجة.
الخوان: شَيْء ينصب كالمائدة وَيتْرك عَلَيْهِ الطَّعَام، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَالْخبْز المرقق: الْخَفِيف، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ من المرقاق: وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يرقق بهَا.
والسميط: المسموط الَّذِي جلده عَلَيْهِ، وَهُوَ مآكل المترفين، وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ جلد الشَّاة يَنْتَفِعُونَ بِهِ ثمَّ يشوونها.
وَأما السكرجة، فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: هِيَ السكرجة بِضَم السِّين وَالْكَاف وَفتح الرَّاء وتشديدها، قَالَ: وَكَانَ بعض أهل اللُّغَة يَقُول: الصَّوَاب أسكرجة بِالْألف وَفتح الرَّاء. وَهِي فارسية معربة، وترجمتها: مقرب الْخلّ، وَقد تَكَلَّمت بهَا الْعَرَب، قَالَ أَبُو عَليّ: فَإِن حقرت حذفت الْجِيم وَالرَّاء فَقلت: أسيكره، وَإِن عوضت عَن

(3/282)


الْمَحْذُوف قلت: أسيكيرة، وَقِيَاس مَا رَوَاهُ سِيبَوَيْهٍ فِي بريهم سكيرجة.
1665 - / 2052 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: أَن نعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهَا قبالان.
القبالان: زِمَام النَّعْل.
والجرداوان: لَا شعر عَلَيْهَا.
1666 - / 2055 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَن أم حَارِثَة بن سراقَة أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا نَبِي الله، أَلا تُحَدِّثنِي عَن حَارِثَة - وَقد قتل يَوْم بدر، أَصَابَهُ سهم غرب. فَقَالَ: ((إِن ابْنك أصَاب الفردوس الْأَعْلَى)) .
كَذَا رُوِيَ لنا فِي الحَدِيث: سهم بِالتَّنْوِينِ، غرب بتسكين الرَّاء مَعَ الرّفْع والتنوين. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْعَامَّة تَقول هَكَذَا، والأجود سهم غرب بِفَتْح الرَّاء وَإِضَافَة الغرب إِلَى السهْم. وَقَالَ يَعْقُوب بن السكت: يُقَال: أَصَابَهُ سهم غرب: إِذا لم يدر من أَي جِهَة رمي بِهِ، قَالَ أَبُو دؤاد:
(فألحقه وَهُوَ ساط بهَا ... كَمَا يلْحق الْقوس سهم الغرب)

يصف فرسا يعدو خلف عانة من حمير الْوَحْش ألحقهُ فارسه الْعَانَة

(3/283)


وَالْفرس ساط بهَا: أَي غَالب.
وَقد رُوِيَ عَن أبي زيد أَنه قَالَ: إِذا جَاءَ من حَيْثُ لَا يعرف فَهُوَ سهم غرب بِسُكُون الرَّاء، فَإِن رمي بِهِ إِنْسَان بِعَيْنِه فَأصَاب غَيره فَهُوَ سهم غرب بِفَتْح الرَّاء: وَقَالَ الْأَزْهَرِي: بِفَتْح الرَّاء لَا غير.
وَأما الفردوس فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ عَن الزّجاج قَالَ: الفردوس: أَصله رومي أعرب: وَهُوَ الْبُسْتَان، قَالَ: وَقد قيل: الفردوس مُذَكّر، وَإِنَّمَا أنث فِي قَوْله تَعَالَى: {يَرِثُونَ الفردوس هم فِيهَا خَالدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 11] لِأَنَّهُ عَنى بِهِ الْجنَّة، قَالَ: وَقَالَ الزّجاج: وَقيل: الفردوس: الأودية الَّتِي تنْبت ضروبا من النبت. وَقيل: هُوَ بالرومية، مَنْقُول إِلَى لفظ الْعَرَبيَّة. قَالَ: والفردوس أَيْضا بالسُّرْيَانيَّة كَذَا لَفظه فردوس، قَالَ: وَلم نجده فِي أشعار الْعَرَب إِلَّا فِي شعر حسان، وَحَقِيقَته أَنه الْبُسْتَان الَّذِي يجمع كل مَا يكون فِي الْبَسَاتِين، لِأَنَّهُ عِنْد أهل اللُّغَة كَذَلِك، وَبَيت حسان:
(وَإِن ثَوَاب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فِيهَا يخلد)

قَالَ: وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ بِإِسْنَادِهِ: الفردوس: الْبُسْتَان بلغَة الرّوم.
وَقَالَ فردوسا. وَقَالَ السّديّ: الفردوس أَصله بالنبطية فرداسا. وَقَالَ عبد الله بن الْحَارِث: الفردوس: الأعناب.

(3/284)


1667 - / 2059 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ غُلَام يَهُودِيّ يخْدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَرض فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ، فَقعدَ عِنْد رَأسه فَقَالَ لَهُ: ((أسلم)) فَنظر إِلَى أَبِيه، فَقَالَ: أطع أَبَا الْقَاسِم، فَأسلم.
فِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز اسْتِخْدَام الْيَهُودِيّ، وَجَوَاز عيادته، وتواضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومبالغته فِي النصح.
1668 - / 2062 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: (( (إِن أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ مَا سلكنا شعبًا إِلَّا وهم مَعنا)) قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1669 - / 2063 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَت العضباء لَا تسبق، فجَاء أَعْرَابِي على قعُود لَهُ فسبقها، فشق ذَلِك على الْمُسلمين، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((حق على الله أَلا يرْتَفع شَيْء فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه)) .
العضب: شقّ الْأذن، وَقد ذكرنَا هَذِه النَّاقة فِيمَا تقدم فِي مَوَاضِع، وحكينا أَن بَعضهم يَقُول: هُوَ لقب لَهَا لَا أَنَّهَا كَانَت مشقوقة الْأذن.
وَالْقعُود من الْإِبِل: مَا أعد للرُّكُوب خَاصَّة.
وَأما وضع كل مُرْتَفع من الدُّنْيَا فَلِأَنَّهَا لَيست بدار بُلُوغ الْأَغْرَاض،

(3/285)


وَإِنَّمَا هِيَ مَحل الْبلَاء والنغص.
1670 - / 2064 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: كَانَ إِذا قدم من سفر فَنظر إِلَى جدرات الْمَدِينَة أوضع رَاحِلَته.
الْمَعْنى: سَار سيرا سهلا سَرِيعا. وَوضع الْبَعِير يضع فِي سيره وضعا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ولأوضعوا خلالكم} [التَّوْبَة: 47] وَقيل: الإيضاع سير مثل الخبب.
1671 - / 2065 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: قد تقدم فِي مَوَاضِع.
1672 - / 2068 - وَمَا بعده قد تقدم إِلَى الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: وَفِيه: كَانَت الرّيح إِذا هبت عرف ذَلِك فِي وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقد بَين سَبَب هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة، وَأَنه كَانَ يخَاف أَن يكون عذَابا.
1673 - / 2069 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد بعض نِسَائِهِ، فَأرْسلت إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ بصحفة فِيهَا طَعَام، فَضربت الَّتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا يَد الْخَادِم فَسَقَطت الصحفة فانفلقت، فَجمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلق الصحفة ثمَّ جعل يجمع فِيهَا الطَّعَام الَّذِي كَانَ فِي الصحفة وَيَقُول: ((غارت أمكُم)) ثمَّ حبس الْخَادِم حَتَّى

(3/286)


أَتَى بصحفة من عِنْد الَّتِي هُوَ فِي بَيتهَا، فَدفع الصحفة الصَّحِيحَة إِلَى الَّتِي كسرت صحفتها، وَأمْسك الْمَكْسُورَة فِي بَيت الَّتِي كسرت.
الصحفة: الْقَصعَة. فَإِن قيل: الصحفة من ذَوَات الْقيم، فَكيف غرمها بِمِثْلِهَا؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: - أَحدهَا: أَن الظَّاهِر فِيمَا يحويه بَيته أَنه ملكه، فَنقل من ملكه إِلَى ملكه لَا على وَجه الغرامة بِالْقيمَةِ. وَالثَّانِي: أَنه أَخذ الْقَصعَة من بَيت الكاسرة عُقُوبَة لَهَا، والعقوبة بالأموال مَشْرُوعَة، من ذَلِك تغريم قيمَة مثلي الثَّمر الْمُعَلق على سارقه. وَأخذ الزَّكَاة وَشطر مَال الْمُمْتَنع، وتحريق رَحل الغال، وَعتق العَبْد الممثل بِهِ، وكل ذَلِك حكم بَاقٍ عندنَا، ذكره ابْن عقيل.
1674 - / 2070 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: بلغ عبد الله ابْن سَلام مقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَهُوَ فِي أَرض يخْتَرف، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَن مسَائِل، فَقَالَ: ((خبرني بِهن جِبْرِيل آنِفا)) .
يخْتَرف بِمَعْنى يجتني الثَّمَرَة.
وآنفا بِمَعْنى السَّاعَة.
وَقَوْلهمْ عَن جِبْرِيل: ذَلِك عَدو الْيَهُود. رُبمَا قَالَ قَائِل: مَا وَجه عداوتهم لملك؟ فَالْجَوَاب أَنهم كَانُوا يتعللون للتقاعد عَن الْإِيمَان بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، كَمَا قَالُوا: {قُلُوبنَا غلف} [الْبَقَرَة: 88] على أَنهم قد ذكرُوا وَجه المعاداة بِمَا يبين جهلهم، فَقَالُوا: إِنَّه ينزل بِالْحَرْبِ والشدة. أفتراهم

(3/287)


لم يعلمُوا أَنه مَأْمُور؟ وَمَا ذَنْب الْمَأْمُور؟ فالمعاداة للْآمِر.
وَينْزع: يمِيل وَيرجع.
وَقَوله: ((نَار تحْشر النَّاس)) هَذَا هُوَ الْحَشْر الأول قبل قيام السَّاعَة، تسلط النَّار على النَّاس فيهربون مِنْهَا، وَذَلِكَ من عَلَامَات الْقِيَامَة، ثمَّ يموتون، ثمَّ يحشرون إِلَى الْقِيَامَة.
وَأما أكلهم زِيَادَة كبد الْحُوت فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه حوت من الْجنَّة وثور من الْجنَّة، يتحفون بهما على معنى إتحاف الضَّيْف بِمَا يصنع لَهُ. وَسَيَأْتِي من مُسْند ثَوْبَان: أَن يَهُودِيّا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا تحفتهم حِين يدْخلُونَ الْجنَّة؟ قَالَ: ((زِيَادَة كبد الْحُوت)) قَالَ: فَمَا غذاؤهم فِي أَثَرهَا؟ قَالَ: ((ينْحَر لَهُم ثَوْر الْجنَّة الَّذِي يَأْكُل من أطرافها)) وَقَالَ كَعْب: يَقُول الله عز وَجل لأهل الْجنَّة: ((ادخلوها فَإِن لكل ضيف جزورا، وَإِنِّي أجزركم الْيَوْم، فَيُؤتى بثور وحوت يجزر لأهل الْجنَّة)) .
وَالثَّانِي: أَن الْحُوت الَّذِي عَلَيْهِ الأَرْض، فكأنهم أعلمُوا بِأَكْلِهِ أَن الدُّنْيَا ذهبت وَذهب مَا كَانَ يحملهَا فَلَا رُجُوع إِلَيْهَا، بل هَذِه الدَّار هِيَ منزل الْإِقَامَة. أَنبأَنَا أَبُو غَالب بن الْبناء قَالَ: أخبرنَا جَابر بن ياسين قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عُثْمَان قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو بكر النجاد قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عَليّ الْقطَّان قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عِيسَى قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن بشر قَالَ: حَدثنَا جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:

(3/288)


إِذا اجْتمع أهل الْجنَّة تَحت شَجَرَة ((طُوبَى)) أرسل الله عز وَجل إِلَيْهِم الْحُوت الَّتِي قَرَار الأَرْض عَلَيْهَا والثور الَّذِي تَحت الْأَرْضين، قَالَ: فينطح الثور الْحُوت بقرنيه فيذكيه لأهل الْجنَّة فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، فيجدون فِيهِ ريح كل طيب وَطعم كل ثَمَرَة، ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْفَارِسِي: الَّذِي يقرب إِلَيْهِم رَأس الثور الَّذِي كَانَت الأَرْض على قرنه وكبد الْحُوت الَّتِي كَانَت الأَرْض على ظَهره.
وَقَوله: إِن الْيَهُود قوم بهت. الْهَاء مَضْمُومَة، وَالْمعْنَى: أَنهم يبهتون بِالْكَذِبِ، فَإِن علمُوا بِإِسْلَامِي بَهَتُونِي عنْدك: أَي كذبُوا عَليّ مَعَ حضوري. والبهتان: الْكَذِب الَّذِي تتحير من بُطْلَانه وتعجب من إفراطه.
وَقَوله: حاشا لله. كلمة مُشْتَقَّة من قَوْلك: كنت فِي حَشا فلَان: أَي فِي ناحيته، وأنشدوا:
( ... ... ... بِأَيّ الحشا أَمْسَى الخليط المباين)

أَي: بِأَيّ النواحي. فَالْمَعْنى: فِي حَشا من ذَلِك، يعنون أَنه لَا يسلم.
والمسلحة: الحارس بِالسِّلَاحِ. والمسالح: قوم يَحْرُسُونَ مَكَان الْخَوْف.
1675 - / 2072 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَإِذا شهدُوا،

(3/289)


واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صَلَاتنَا، حرمت علينا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا)) .
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن معاملات النَّاس إِنَّمَا تحمل على الظَّوَاهِر.
1676 - / 2073 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: عَن أنس قَالَ: لم يبْق مِمَّن صلى الْقبْلَتَيْنِ غَيْرِي.
يَعْنِي قبْلَة بَيت الْمُقَدّس والكعبة. وَأنس هُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْبَصْرَةِ، وَآخر من رأى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موتا أَبُو الطُّفَيْل، وَسَيَأْتِي ذكره فِي مُسْنده إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1677 - / 2074 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: رَأَيْت على أنس برنسا أصفر من خَز.
الْبُرْنُس: كسَاء.
1678 - / 2075 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: كَانَ قرام لعَائِشَة سترت بِهِ جَانب بَيتهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أميطي عني، فَلَا تزَال تصاويره تعرض لي فِي صَلَاتي)) .
القرام: السّتْر الرَّقِيق.

(3/290)


والإماطة: الْإِزَالَة.
وَمعنى ((يعرض لي فِي صَلَاتي)) : أَي لما رَأَيْتهَا صَارَت عِنْد غيبتها تمثل لي.
1679 - / 2076 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: ((مَذْهَب الباس، شِفَاء لَا يُغَادر سقما)) .
الباس: الشدَّة. ويغادر بِمَعْنى: يتْرك.
1680 - / 2078 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((مَا من مُسلم يَمُوت لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أدخلهُ الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم)) .
الْحِنْث: الْإِثْم. وَالْمرَاد أَن يبلغ إِلَى الْحَد الَّذِي يجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ الْقَلَم بالسيئات والحسنات، وَإِنَّمَا اشْترط الصغر لِأَنَّهُ أَشد لمحبة الْآبَاء وشفقتهم. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1681 - / 2079 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: أَنه أُتِي بِمَال من الْبَحْرين، فَقَالَ: ((انثروه فِي الْمَسْجِد)) فجَاء الْعَبَّاس فَقَالَ: أَعْطِنِي، فَقَالَ: ((خُذ)) فَحَثَا فِي ثَوْبه ثمَّ ذهب يقلهُ فَلم يسْتَطع، فَقَالَ: مر بَعضهم: يرفعهُ إِلَيّ، قَالَ: ((لَا)) . قَالَ: فارفعه أَنْت عَليّ، قَالَ: ((لَا)) .

(3/291)


أما كَونه لم يلْتَفت إِلَيْهِ عِنْد خُرُوجه إِلَى الصَّلَاة فصيانة لتوجهه إِلَى الْعِبَادَة من شوب الْتِفَات إِلَى الدُّنْيَا.
ويقل بِمَعْنى يحمل. وَإِنَّمَا لم يَأْمر أحدا بإعانة الْعَبَّاس عَلَيْهِ، وَلم يعنه لينبه على أَنه هُوَ الْمَسْئُول عَنهُ، وَلَا أحد يحمل عَنهُ ثقل السُّؤَال.
والكاهل: مَا بَين الْكَتِفَيْنِ.
1682 - / 2080 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: ((اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي كَأَن رَأسه زبيبة)) .
اعْلَم أَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعمَّال والأمراء دون الْأَئِمَّة وَالْخُلَفَاء، فَإِن الْخلَافَة لقريش لَا مدْخل فِيهَا للحبشة، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش)) وَإِنَّمَا للأئمة تَوْلِيَة من يرَوْنَ، فَتجب طَاعَة ولاتهم.
وَصغر الرَّأْس مَعْرُوف فِي الْحَبَشَة، فَلذَلِك قَالَ: ((كَأَن رَأسه زبيبة)) .
1683 - / 2081 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: كَانَ قدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أنس قد انصدع، فسلسله بِفِضَّة، وَهُوَ قدح عريض من نضار.
انصدع بِمَعْنى انْشَقَّ. وسلسله بِمَعْنى ضببه.
وَاعْلَم أَن التضبيب إِذا كَانَ بِالذَّهَب فَحَرَام، سَوَاء كَانَ كَانَ كثيرا أَو

(3/292)


قَلِيلا، وَقد ذكر أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا أَنه يُبَاح يسير الذَّهَب.
وَأما المضبب بِالْفِضَّةِ فَلَا يَخْلُو من أَمريْن: إِمَّا أَن يكون كثيرا فَهُوَ حرَام، وَكَذَلِكَ إِن كَانَ يَسِيرا لغير حَاجَة كالحلقة فِي الْإِنَاء. وَأما إِذا كَانَ الْيَسِير لحَاجَة كتشعيب قدح وقبيعة سيف وشعيرة سكين فَإِن ذَلِك مُبَاح، لَكِن تكره مُبَاشرَة مَوضِع الْفضة بالإستعمال، وَقد رُوِيَ عَن أَحْمد أَن الْيَسِير مُبَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: لَا يكره المضبب بِحَال.
وَأما النضار فَقيل: هُوَ شَجَرَة الأثل. وَقيل: النضار: أقداح حمر شبهت بِالذَّهَب. وَقيل: هُوَ النبع، وَهُوَ شجر مَعْرُوف.
والنضار: الْخَالِص من كل شَيْء.
1684 - / 2083 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: نظر أنس إِلَى النَّاس يَوْم الْجُمُعَة فَرَأى طيالسة فَقَالَ: كَأَنَّهُمْ يهود خَيْبَر.
قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الطيلسان أعجمي مُعرب، بِفَتْح اللَّام، وَالْجمع طيالسة بِالْهَاءِ، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، وَأنْشد ثَعْلَب:
(كلهم مبتكر لشانه ... كاعم لحييْهِ بطيلسانه)

(3/293)


(وَآخر يزف فِي أعوانه ... مثل زفيف الهيق فِي حفانه)

(فَإِن تلقاك بقيراونه ... أَو خفت بعض الْجور من سُلْطَانه)

(فاسجد لقرد السوء فِي زَمَانه ... )

يزف من الزفيف، من قَوْله: {يزفون} [الصافات: 94] أَي يسرعون.
والهيق: ذكر النعام. وَفِي حفانه قَولَانِ: أَحدهمَا: فِي صغاره، قَالَه ابْن الْأَعرَابِي. وَالثَّانِي: إناثه، قَالَه الْأَصْمَعِي. والقيروان: الْجَمَاعَة.
وَهَذِه الطيالسة الَّتِي أنكرها أنس لبسة مَا كَانَ يعهدها.
1685 - / 2085 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ لكل صَلَاة.
وَإِنَّمَا كَانَ يفعل ذَلِك لموْضِع الْفَضِيلَة. وَصلى يَوْم الْفَتْح صلوَات بِوضُوء وَاحِد، وَقَالَ: ((عمدا فعلته)) ليعلم أَن الْوضُوء إِنَّمَا يجب لأجل الْحَدث، وَأَن الْوضُوء من غير حدث فَضِيلَة.
1686 - / 2086 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: أَتَيْنَا أنس بن مَالك نشكو إِلَيْهِ مَا نلقى من الْحجَّاج، فَقَالَ: ((اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُم زمَان إِلَّا الَّذِي بعده شَرّ مِنْهُ حَتَّى تلقوا ربكُم)) ، سمعته من نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(3/294)


إِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه هَذَا وَنحن نعلم أَنه جَاءَ بعد الْحجَّاج عمر ابْن عبد الْعَزِيز، فَبسط الْعدْل وَصلح الزَّمَان؟ فَالْجَوَاب: أَن الْكَلَام خرج على الْغَالِب، فَكل عَام تَمُوت سنة وتحيا بِدعَة، ويقل الْعلم، وَيكثر الْجُهَّال، ويضعف الْيَقِين، وَمَا يَأْتِي من الزَّمَان الممدوح نَادِر قَلِيل.
1687 - / 2088 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: شَهِدنَا بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي تدفن فَقَالَ: ((هَل فِيكُم من أحد لم يقارف اللَّيْلَة؟)) فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: أَنا، فَأنْزل فِي قبرها.
هَذِه الْبِنْت هِيَ رقية، وَقد أفْصح بذلك أنس فِيمَا رُوِيَ عَنهُ، وَقد غلط الْخطابِيّ فَقَالَ: يشبه أَن تكون هَذِه الْميتَة لبَعض بَنَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنسبت إِلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَفْسِير يقارف عَن بضع الروَاة، وَهُوَ فليح، فَإِنَّهُ قَالَ: أرَاهُ يَعْنِي الذَّنب، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه قد رُوِيَ مَا يمْنَع هَذَا، فَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أَنبأَنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا عَفَّان قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد قَالَ: حَدثنَا ثَابت عَن أنس: أَن رقية لما مَاتَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يدْخل الْقَبْر رجل قارف أَهله اللَّيْلَة)) . وَأخْبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي

(3/295)


قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن هبة الله الطَّبَرِيّ قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن ابْن الْفضل قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر بن درسْتوَيْه قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن سُفْيَان قَالَ: حَدثنِي مَحْفُوظ بن أبي تَوْبَة قَالَ: حَدثنَا عَفَّان قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس قَالَ: لما مَاتَت رقية بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يدخلن الْقَبْر أحد قارف أَهله البارحة)) قَالَ: فَتنحّى عُثْمَان بن عَفَّان.
وَالثَّانِي: أَنه لَو أَرَادَ الذَّنب كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكبار الْمُهَاجِرين أَحَق بذلك.
وَالثَّالِث: أَن يكون أَبُو طَلْحَة قد مدح نَفسه بِهَذَا وَلم يكن ذَلِك من خصالهم، وَإِنَّمَا المُرَاد الْوَطْء، يُقَال: قارف الرجل امْرَأَته: إِذا جَامعهَا. والقريب الْعَهْد بالشَّيْء يتذكره، فَلهَذَا طلب من لم يقرب عَهده بذلك.
1688 - / 2089 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: كَانَ يَقُول عِنْد المعتبة: ((مَاله، تربت يَمِينه)) .
المعتبة: العتاب.
وتربت: افْتَقَرت. قَالَ أَبُو عبيد: نرى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَعَمَّد الدُّعَاء بالفقر على من خاطبه، وَلكنهَا كلمة جَارِيَة على أَلْسِنَة الْعَرَب يَقُولُونَهَا، وهم لَا يُرِيدُونَ وُقُوع الْأَمر. وَقَالَ ابْن عَرَفَة: تربت يَمِينه

(3/296)


إِن لم يفعل مَا أَمر بِهِ. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1689 - / 2093 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: إِنَّكُم لتعملون أعمالا هِيَ أدق فِي أعينكُم من الشّعْر، كُنَّا نعدها على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الموبقات.
الْمَعْنى: تَعْمَلُونَ أعمالا لَيْسَ لَهَا عنْدكُمْ كثير وَقع احتقارا لَهَا، وَهِي من الموبقات أَي المهلكات، وَهَذِه الْأَعْمَال مثل قَول الرجل للرجل: قلبِي إِلَيْك، وَكنت على نِيَّة قصدك، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يكذب فِيهِ، أَو مدح الرجل الرجل بالشَّيْء الَّذِي لَيْسَ فِيهِ، وَرُبمَا كَانَ ذَلِك لسلطان جَائِر، وَقد يكون ذَلِك فِي الْمُعَامَلَات بالربا وعقوق الْوَالِدين، وَقذف المحصنة، وعيبة الْمُسلم، وَأَشْيَاء يحتقرها الْإِنْسَان وَيجْرِي فِيهَا مَعَ الْعَادَات وَهِي مهلكة.
1690 - / 2095 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اشْتَدَّ الْبرد بكر بِالصَّلَاةِ، وَإِذا اشْتَدَّ الْحر أبرد بِالصَّلَاةِ.
بكر بِمَعْنى قدم. وَقد ذكرنَا معنى الْإِبْرَاد فِي مُسْند أبي ذَر.
1691 - / 2096 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ فِي أَصْحَابه أشمط غير أبي بكر، فغلفها بِالْحِنَّاءِ والكتم.

(3/297)


قَوْله قدم: يَعْنِي الْمَدِينَة حِين هَاجر إِلَيْهَا.
والشمط: اخْتِلَاط الشيب بسواد الشّعْر، وَيُسمى الصَّباح أول مَا يَبْدُو شميطا لإختلاطه بباقي ظلمَة اللَّيْل.
وَقَوله: فغلفها - يَعْنِي لحيته، أَي عَمها بذلك. وَمِنْه غلاف الشَّيْء: وَهُوَ مَا أحَاط بِهِ وغطاه.
والكتم: نَبَات يسود الشّعْر، فَإِذا خلط مَعَ الْحِنَّاء صَار الشّعْر بَين الْحمرَة والسواد. وَيَجِيء فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: فغلفها بِالْحِنَّاءِ والكتم حَتَّى قنأ لَوْنهَا. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: القاني من الألوان: الشَّدِيدَة الْحمرَة الَّتِي يضْرب إِلَى السوَاد. وَقد كَانَ يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم خلق كثير من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ. وَقد ذكرتهم فِي كتاب: ((الشيب والخضاب)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا فَائِدَة خضاب الشيب؟ قيل لَهُ: فِيهِ ثَلَاث فَوَائِد: إِحْدَاهَا: امْتِثَال أَمر الشَّارِع، فَإِنَّهُ قَالَ: ((غيروا الشيب وَلَا تشبهوا باليهود)) أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي عمر قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن أَيُّوب قَالَ: أَنبأَنَا عبد الْملك بن مُحَمَّد بن بَشرَان قَالَ: أخبرنَا حَمْزَة بن مُحَمَّد بن الْفضل قَالَ: أَنبأَنَا عَبَّاس بن مُحَمَّد الدوري قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَسدي قَالَ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن

(3/298)


الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يخضبون فخالفوهم)) . وَقد روينَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((اختضبوا، فَإِن الْمَلَائِكَة يستبشرون بخضاب الْمُؤمن)) . قَالَ صَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل: لما مرض أبي دخل عَلَيْهِ رجل من جيراننا قد خضب فَقَالَ: إِنِّي لأرى الرجل يحيي شَيْئا من السّنة فَأَفْرَح بِهِ. وَقَالَ الْمروزِي: دخل على أبي عبد الله شيخ مخضوب فَقَالَ: إِنِّي لأسر أَن أرى الشَّيْخ قد خضب. فَهَذِهِ فَائِدَة من جِهَة مُوَافقَة الشَّرْع.
والفائدة الثَّانِيَة: تخْتَص الْمَرْأَة، وَالنِّسَاء يُكْرهن الشيب جدا، فَإِذا غير كَانَ أقرب حَالا عِنْدهن وَأصْلح لمعاشرتهن.
والفائدة الثَّالِثَة: تخْتَص بِالرجلِ وَهُوَ أَن الشيب يُؤثر فِيهِ صُورَة وَمعنى، فَأَما الصُّورَة فيشينه، وَلِهَذَا قَالَ أنس فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا شانه الله ببيضاء. فَقيل لَهُ: أَو شين هُوَ؟ فَقَالَ: كلكُمْ يكرههُ. وَأما فِي الْمَعْنى فَإِنَّهُ يضعف الأمل، وَيقطع الْقلب، لعلم الْإِنْسَان بِقرب الْأَجَل.
وَرُبمَا قَالَ قَائِل: فَنحْن إِنَّمَا ندور على مَا يقصر الأمل وَيذكر بِالآخِرَة، فَكيف نشرع فِيمَا ينسينا؟ فَالْجَوَاب: أَن النَّاس فِي هَذَا يَخْتَلِفُونَ، فَمنهمْ الشَّديد الْغَفْلَة عَن الْآخِرَة فَيحْتَاج إِلَى الموقظات،

(3/299)


وَمِنْهُم الشَّديد الْيَقَظَة فَيحْتَاج إِلَى التَّعْدِيل بالمباحات. وَمَتى نصب الْإِنْسَان ذكر الْمَوْت بَين عَيْنَيْهِ وَلم يغالط نَفسه وتبسط لَهَا فِي أملهَا لم يقدر على نشر علم، وَلم ينْتَفع بعيش، وَهَذَا لَا يفهمهُ إِلَّا الْعلمَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي ينفع الْعَالم الْعَاقِل من تَغْطِيَة شَيْء يعلم بَاطِنه؟ فَالْجَوَاب: أَن النَّفس تقنع بستر الْأَحْوَال، فطبع البشرية يتشاغل بالظواهر، فَإِن الْإِنْسَان لَو تصور فِي حَال مضغ الطَّعَام كَيفَ هُوَ وَقد اخْتَلَط بريقه مَا أمكنه بلعه، وَلِهَذَا لَو أخرج اللُّقْمَة اللذيذة ثمَّ أَرَادَ إِعَادَتهَا لم يُمكن، وَلَو تصور نَفسه وَمَا بِهِ من الدِّمَاء والأنجاس مَا طَابَ عيشه، أَو لَو تصور ذَلِك فِي جَسَد امْرَأَته لم يقدره على التَّمَتُّع، فتغطية الْحَال مصلحَة العَبْد، وَالنَّفس تقنع بذلك، وَلِهَذَا اقْتَضَت الْحِكْمَة تَغْطِيَة أجل الْإِنْسَان عَنهُ لينْتَفع بعيشه، وَفهم هَذِه الْأَشْيَاء لَا تحصل إِلَّا لذِي لب.
1592 - / 2099 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد مُسلم:
خرجت تلوث خمارها: أَي تلويه على رَأسهَا.
1693 - / 2101 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أم سليم خنجرا، فَقَالَت: إِن دنا مني أحد من الْمُشْركين بقرت بَطْنه. أَي: شققته وفتحته.
وَقَوْلها: اقْتُل من بَعدنَا من الطُّلَقَاء. والطلقاء: من أطلق وَمن

(3/300)


عَلَيْهِ من مسلمة الْفَتْح.
وَقَوْلها: انْهَزمُوا بك: أَي انْهَزمُوا من بَين يَديك يَوْم هوَازن، تَعْنِي يَوْم حنين. فَقَالَ: ((إِن الله كفى)) لِأَن تِلْكَ الْهَزِيمَة تعقبها النَّصْر وَالْغنيمَة.
1694 - / 2104 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن فِي ((الْمُلَاعنَة)) : ((إِن جَاءَت بِهِ سبطا قضيء الْعَينَيْنِ فَهُوَ لهِلَال)) .
السبط: السهل الشّعْر، وَهُوَ ضد الْجَعْد.
وقضيء الْعين: فاسدهما، وَهُوَ مَقْصُور، يُقَال: فِي عين فلَان قضأة: أَي فَسَاد.
وَقَوله: ((أكحل)) الْكحل: سَواد الْعين خلقَة.
وَقَوله: ((حمش السَّاقَيْن)) أَي: دقيقهما. يُقَال: رجل حمش السَّاقَيْن، وَامْرَأَة حمشاء السَّاقَيْن. وَالْمرَاد بذلك الدقة.
1695 - / 2107 - وَقد تكلمنا على الحَدِيث الْحَادِي عشر فِي مُسْند أبي سعيد.
1696 - / 2108 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَنه كتب إِلَى النَّجَاشِيّ، وَلَيْسَ بالنجاشي الَّذِي صلى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
اعْلَم أَن الْحَبَشَة كَانَ يسمون كل من يملكهم النَّجَاشِيّ، كَمَا أَن فَارس يسمون ملكهم كسْرَى.

(3/301)


1697 - / 2109 - والْحَدِيث الثَّالِث عشر: قد تقدم فِي مُسْند جَابر.
1698 - / 2110 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر: فِيهِ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاد رجلا قد خفت: أَي: ذهبت قوته.
1699 - / 2113 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قبر.
هَذَا يدل على جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر على الْإِطْلَاق. وَقد قَالَ أَكثر أَصْحَابنَا: يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَى شهر. قَالَ ابْن عقيل: وَالصَّحِيح عِنْدِي أَنه يصلى عَلَيْهِ بعد شهر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا دفن قبل أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَلِيّ صلي عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاث.
1700 - / 2114 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: شقّ صدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ لأمه.
أَي جمع طرفِي الشق.
قَوْله: وَهُوَ منتفع اللَّوْن: أَي متغير - اللَّوْن.
والمخيط: الإبرة الَّتِي يخاط بهَا. وَمِنْه ((أدو الْخياط والمخيط)) .
فالخياط: الْخَيط، والمخيط: الإبرة.
فَإِن قيل: قد خلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مختونا مَسْرُورا، فَهَلا ولد مطهر

(3/302)


الْقلب من حَظّ الشَّيْطَان. فَالْجَوَاب: أَن هَذِه الْأُمُور جعلت لامتحان الْعُقُول، كَمَا خلق القلفة وَأمر بقطعها، وحول من قبْلَة إِلَى قبْلَة.
فَمن اعْترض على تصاريف من تصرف اللَّيْل وَالنَّهَار فَهُوَ سَفِيه، وَإِنَّمَا يَقع الإعتراض لأَنهم يحملون أمره على الْمشَاهد، وَإِن من بنى ثمَّ هدم ثمَّ عَاد فَبنى كَانَ مستدركا أمرا لم يكن عمله، فَمَتَى لم يكن مستدركا كَانَ بالهدم عابثا، والأمران لَا يجوزان على الله تَعَالَى، وَأما الْمُحَقِّقُونَ فَإِنَّهُم يسلمُونَ. ثمَّ قد بَان وَجه الْحِكْمَة فِي هَذَا: أَن وِلَادَته مختونا مَسْرُورا تبين لِلْخلقِ إنعام الْحق فِي حَقه، وَلَو خلق سليم الْقلب مِمَّا أخرج فِي بَاطِنه لم يعلم بذلك، فالإعلام بِإِخْرَاج شَيْء كَانَ بَقَاؤُهُ يُؤْذِي إنعام آخر، على أَنه خلق طَاهِرا، لكنه زيد تنظيف طَرِيق الْوَحْي وتأكيد أَمر الْعِصْمَة.
1701 - / 2116 - وَفِي والْحَدِيث الْعشْرين: فَلَمَّا قفى: أَي ولى وَذهب.
1702 - / 2119 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: {فلنولينك قبْلَة ترضاها} [الْبَقَرَة: 144] أَي: تحبها.
(والشطر) : النَّحْو.
1703 - / 2120 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: جَاءَ رجل وَقد حفزه النَّفس. أَي: جهده من شدَّة السَّعْي. وأصل الحفز الدّفع العنيف.

(3/303)


وأرم الْقَوْم: سكتوا.
1704 - / 2121 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: كَانَ يَقُول يَوْم أحد: ((اللَّهُمَّ إِن تشأ لَا تعبد فِي الأَرْض)) .
وَهَذَا غلط؛ إِنَّمَا هُوَ يَوْم بدر. وَقد تقدم الْكَلَام على هَذَا فِي مُسْند عمر.
1705 - / 2122 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: وَردت عَلَيْهِم روايا قُرَيْش، فَقَالَ: ((هَذَا مصرع فلَان)) فَمَا مَاطَ أحد عَن مَوضِع يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الروايا: الْحَوَامِل للْمَاء، والواحدة راوية.
وماط بِمَعْنى زَالَ، وَمِنْه إمَاطَة الْأَذَى: وَهِي إِزَالَته.
1706 - / 2123 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: أَن قُريْشًا صَالحُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي: ((اكْتُبْ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)) فَقَالَ سُهَيْل: مَا نَدْرِي مَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، اكْتُبْ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ.
كَانَ الْقَوْم يَقُولُونَ: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا رحمان الْيَمَامَة، يعنون مُسَيْلمَة، فَلَمَّا ردوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عَلَيْهِ، لم ينفذها إِلَيْهِم

(3/304)


حِين أنفذ ((بَرَاءَة)) . وَقد ذكرنَا هَذَا الصُّلْح وشرحناه فِي مُسْند سهل بن حنيف والبراء بن عَازِب.
1707 - / 2124 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرد يَوْم أحد فِي سَبْعَة من الْأَنْصَار وَرجلَيْنِ من قُرَيْش، فَلَمَّا رهقوه قَالَ: ((من يردهم عَنَّا وَله الْجنَّة)) .
رهقوه: قربوا مِنْهُ، وَمِنْه الْمُرَاهق: وَهُوَ المقارب للحلم.
وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي عدد من ثَبت مَعَه يَوْم أحد؛ فَفِي هَذِه الرِّوَايَة تِسْعَة. وَقَالَ ابْن سعد: أَرْبَعَة عشر فيهم أَبُو بكر. وَقد ذكر فِيمَن ثَبت مَعَه طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن وَأَبُو عُبَيْدَة، وَكَأَنَّهَا حالات: يبعد عَنهُ فِيهَا قوم ويرجعون إِلَيْهِ. فَأَما عدد من قتل يَوْم أحد فَقَالَ ابْن إِسْحَاق: اسْتشْهد من الْمُسلمين يَوْم أحد خَمْسَة وَسِتُّونَ رجلا.
وَقَوله: ((مَا أنصفنا أَصْحَابنَا)) فَرُبمَا أشكل هَذَا على بعض النَّاس فَقَالَ: كَيفَ يَأْمُرهُم بِالْقِتَالِ ثمَّ يَقُول: ((مَا أنصفنا أَصْحَابنَا)) ، وَهل عِنْده غير الْإِنْصَاف؟ ! فَالْجَوَاب: أَنه يجب على النَّاس أَن يقوا رَسُول الله بِأَنْفسِهِم، فَلَمَّا قَالَ: ((من يردهم عَنَّا)) كَانَ يَنْبَغِي للْكُلّ أَن يُبَادر، فَتَأَخر بَعضهم لَيْسَ بإنصاف. وَيحْتَمل أَن يكون إِشَارَته بذلك إِلَى القرشيين، لِأَنَّهُمَا تركا الْأَنْصَار ينفردون بذلك.

(3/305)


1708 - / 2125 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: أَنه كسر رباعيته يَوْم أحد وشج فِي وَجهه، فَجعل يَسْلت الدَّم عَنهُ.
الرباعيات: الْأَسْنَان الَّتِي بعد الثنايا، وهما رباعيتان من فَوق ورباعيتان من أَسْفَل.
والشج: الْجراحَة فِي الْوَجْه وَالرَّأْس.
والسلت: الْمسْح والإزالة.
1709 - / 2127 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: ((من طلب الشَّهَادَة صَادِقا أعطيها وَلَو لم تصبه)) .
وَهَذَا لِأَن صدق الطّلب للشَّهَادَة يدل على تَسْلِيم النَّفس لَهَا ورضى الْقلب بهَا، فَكَأَنَّهَا وَقعت فَحصل أجرهَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قد صدقت الرءيا} [الصافات: 105] فَإِذا لم يجر الْقدر بالمطلوب فَذَاك لَيْسَ إِلَى الطَّالِب، فَيعْطى بِطَلَبِهِ مَا طلب.
1710 - / 2128 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: سبق فِي مُسْند جَابر.
1711 - / 2130 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ، فَمر بِهِ رجل، فَدَعَاهُ فجَاء، فَقَالَ: ((يَا فلَان، هَذِه زَوْجَتي)) .

(3/306)


هَذِه الْمَرْأَة صَفِيَّة بنت حييّ. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1712 - / 2131 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((رَأَيْت ذَات لَيْلَة كأنا فِي دَار عقبَة بن رَافع، فأتينا برطب من رطب ابْن طَابَ، فأولت الرّفْعَة لنا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقبَة فِي الْأُخْرَى، وَأَن ديننَا قد طَابَ)) .
هَذَا الحَدِيث أصل فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا على الْأَسْمَاء وَالْأَحْوَال.
1713 - / 2133 - والْحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: قد تقدم فِي مُسْند طَلْحَة. وَفِيه: فَخرج شيصا: وَهُوَ أردأ التَّمْر.
1714 - / 2135 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((دخلت الْجنَّة فَسمِعت خشفة، قلت: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذِه الغميصاء بنت ملْحَان)) .
الخشفة: الصَّوْت وَالْحَرَكَة.
وَهَذِه الغميصاء هِيَ أم سليم. وَسَيَأْتِي الْخلاف فِي اسْمهَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1715 - / 2136 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: فأحجم الْقَوْم أَي توقفوا.

(3/307)


1716 - / 2138 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((جعل إِبْلِيس يطِيف بِآدَم لما خلق، فَلَمَّا رَآهُ أجوف عرف أَنه خلق لَا يَتَمَالَك)) .
الأجوف: ضَعِيف الصَّبْر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لَا يثبت ثُبُوت مَا لَيْسَ بأجوف. وَالثَّانِي: أَنه مفتقر إِلَى الْغذَاء لَا يصبر عَنهُ، فيطمع فِيهِ إِبْلِيس من الْوَجْهَيْنِ.
1717 - / 2139 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: فَأَخذهُم سلما فاستحياهم. الْمَعْنى: أَخذهم بِلَا قتال مستسلمين. واستحياهم: استبقاهم.
1718 - / 2140 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: وآوانا: أَي صير لنا مأوى نأوي إِلَيْهِ. والمأوى: مَوضِع السُّكْنَى وَالْإِقَامَة.
1719 - / 2141 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا كَانَ يتهم بِأم ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي: ((اذْهَبْ فَاضْرب عُنُقه)) .
أم ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ مَارِيَة أم إِبْرَاهِيم، أهداها إِلَيْهِ الْمُقَوْقس صَاحب الْإسْكَنْدَريَّة فِي سنة سبع من الْهِجْرَة وَمَعَهَا أُخْتهَا سِيرِين، وَبعث مَعَهُمَا ألف دِينَار وَعشْرين ثوبا، وَبغلته الدلْدل، وَحِمَاره يَعْفُور، وَخَصِيًّا يُقَال لَهُ مَأْبُور كَانَ أَخا مَارِيَة، بعث ذَلِك مَعَ حَاطِب

(3/308)


ابْن أبي بلتعة، فَعرض حَاطِب الْإِسْلَام على مَارِيَة فَأسْلمت هِيَ وَأُخْتهَا، وَأقَام الْخصي على دينه حَتَّى أسلم بِالْمَدِينَةِ بعد ذَلِك على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَنزلت فِي عالية الْمَدِينَة، وَكَانَ رجل من القبط يَأْتِيهَا بِالْمَاءِ والحطب ويتردد إِلَيْهَا، فَقَالَ النَّاس: علج يدْخل على علجة، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا بقتْله، فَأَتَاهُ وَهُوَ فِي ركي - وَهِي الْبِئْر الَّتِي لم تطو، فَخرج فَإِذا هُوَ مجبوب، وَقيل: بل وجده على نَخْلَة، فَلَمَّا رأى السَّيْف وَقع فِي نَفسه مَا جَاءَ لأَجله فَألْقى كساءه، وَتكشف، فَإِذا هُوَ مجبوب: وَهُوَ الْمَقْطُوع الذّكر.
وعَلى هَذَا الحَدِيث اعْتِرَاض: وَهُوَ أَن يُقَال: كَيفَ أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل رجل بالتهمة؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن جرير فَقَالَ: جَائِز أَن يكون قد كَانَ من أهل الْعَهْد، وَقد تقدم إِلَيْهِ بِالنَّهْي عَن الدُّخُول على مَارِيَة فَعَاد، فَأمر بقتْله لنقض الْعَهْد.
1720 - / 2142 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: ((يُؤْتى بأنعم أهل الدُّنْيَا من أهل النَّار، فيصبغ فِي النَّار صبغة، ثمَّ يُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت خيرا قطّ؟ هَل مر بك نعيم قطّ؟ فَيَقُول: لَا وَالله. وَيُؤْتى بأشد النَّاس بؤسا فِي الدُّنْيَا من أهل الْجنَّة فَيُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت بؤسا قطّ؟ فَيَقُول: لَا وَالله يَا رب)) .
هَذَا الحَدِيث يحث على مُرَاعَاة العواقب، فَإِن التَّعَب إِذا أعقب الرَّاحَة هان، والراحة إِذا أثمرت النصب فَلَيْسَتْ رَاحَة، فالعاقل من

(3/309)


نظر فِي الْمَآل لَا فِي عَاجل الْحَال، وَقد كشف هَذَا الْمَعْنى الحَدِيث الَّذِي بعده: ((حفت الْجنَّة بالمكاره، وحفت النَّار بالشهوات)) وَقد قَالَت الْحُكَمَاء: لَا تنَال الرَّاحَة بالراحة، وَقل أَن يلمع برق لَذَّة إِلَّا وَتَقَع صَاعِقَة نَدم.
1721 - / 2145 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((من يدْخل الْجنَّة ينعم، لَا يبأس)) .
الْبُؤْس: الشَّقَاء وَسُوء الْعَيْش.
1722 - / 2146 - والْحَدِيث الْخَمْسُونَ: فِي مُسْند عمر.
1723 - / 2148 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: أَن عَائِشَة وَزَيْنَب تقاولتا حَتَّى استحثتا أَي: رمت كل وَاحِدَة صاحبتها بِالتُّرَابِ.
يُقَال: حثا التُّرَاب يحثوه.
وَقد رَوَاهُ قوم: حَتَّى استخبثتا: أَي: قَالَت كل وَاحِدَة لصاحبتها الهجر والخبيث من القَوْل. وَرَوَاهُ آخَرُونَ: حَتَّى استخبتا: أَي اصطخبتا. والصخب: رفع الصَّوْت فِي الْخُصُومَة، وَالسِّين وَالصَّاد يتعاقبان، وَاللَّفْظ الأول هُوَ الْمَحْفُوظ.
1724 - / 2149 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: بعث رَسُول الله

(3/310)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسيسة عينا.
يُقَال فِي هَذَا: بسيسة وبسبس أَيْضا، وَهُوَ ابْن عَمْرو بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ.
وَقَوله: ((قومُوا إِلَى جنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض)) أَي: كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض. قَالَ ابْن قُتَيْبَة. لم يرد الْعرض الَّذِي هُوَ خلاف الطول، وَإِنَّمَا أَرَادَ سعتها، وَالْعرب تَقول: بِلَاد عريضة: أَي وَاسِعَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَنْتُم تروون أَن أقل أهل الْجنَّة لَهُ بِقدر الدُّنْيَا عشر مَرَّات، فَكيف تكون الْجنَّة كلهَا بِعرْض السَّمَاء وَالْأَرْض؟ فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الدُّنْيَا بِالْإِضَافَة إِلَى السَّمَوَات كالذرة، وكل سَمَاء هِيَ أعظم من الَّتِي تَلِيهَا، فَإِذا أضيفت السَّمَوَات كلهَا كَانَت الدُّنْيَا عِنْدهَا كنطفة. وَالثَّانِي: أَن يكون المُرَاد بذلك صفة الْبُسْتَان الَّذِي يخْتَص بِكُل مُؤمن لَا صفة جَمِيع الْجنَّة.
وَقَوله: بخ بخ. هِيَ كلمة تقال عِنْد الْمَدْح: قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهَا تَعْظِيم الْأَمر وتفخيمه، وسكنت الْخَاء كَمَا سكنت اللَّام من هَل وبل، وَأَصله التَّشْدِيد فَخفف وَيُقَال: بخ بخ منونا تَشْبِيها بالأصوات كصه ومه. وَقَالَ ابْن السّكيت: بخ بخ وَبِه بِهِ بِمَعْنى وَاحِد. وَقَالَ الآخر: فِي بخ أَربع لُغَات: الْجَزْم والخفض وَالتَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف، وَأنْشد:

(3/311)


(روافده أكْرم الرافدات ... بخ لَك بخ لبحر خضم)

وَقَالَ آخر:
( ... . . ... بخ بخ لوالده وللمولود)

واخترج بِمَعْنى أخرج.
والقرن بِفَتْح الرَّاء: جعبة صَغِيرَة تضم إِلَى الجعبة الْكَبِيرَة.
1725 - / 2150 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْغَدَاة جَاءَ خدم الْمَدِينَة بآنيتهم فِيهَا المَاء، فَمَا يأْتونَ بِإِنَاء إِلَّا غمس يَده فِيهِ.
إِنَّمَا كَانُوا يطْلبُونَ بِهَذَا بركته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيَنْبَغِي للْعَالم إِذا طلب الْعَوام التَّبَرُّك بِهِ فِي مثل هَذَا أَلا يخيب ظنونهم، وَأَن يحملهم على مَا هم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ فِي هَذَا نوع مخاطرة لَهُ؛ إِلَّا أَن الْعَالم يعتصم من الْخطر بِعِلْمِهِ، وَيعرف نَفسه وَلَا يُؤثر فِيهِ فعل غَيره، وَإِنَّمَا يَقع الْخطر بالمتزهد الْقَلِيل الْعلم، فَرُبمَا أفْسدهُ مثل هَذَا، كَمَا قَالَ: مَا أبقى خَفق النِّعَال وَرَاء الحمقى من عُقُولهمْ شَيْئا.

(3/312)


1726 - / 2152 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: انْطلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أم أَيمن وَانْطَلَقت مَعَه، فناولته إِنَاء فِيهِ شراب، قَالَ: فَلَا أَدْرِي أصادقته صَائِما أَو لم يردهُ، فَجعلت تصخب عَلَيْهِ وتذمر عَلَيْهِ.
الصخب: الصَّوْت والجلبة. وَمَاء صخب الموج والجريان: إِذا كَانَ لَهُ صَوت. وَمعنى تصخب: تصيح. وتذمر: تغْضب. وَإِنَّمَا انبسطت عَلَيْهِ لِأَنَّهَا كَانَت حاضنته ومربيته.
1727 - / 2153 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْخَمْسُونَ: فِي مُسْند عَليّ.
1728 - / 2154 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: وَقت لنا فِي قصّ الشَّارِب وتقليم الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة أَن لَا نَتْرُك أَكثر من أَرْبَعِينَ لَيْلَة.
اعْلَم أَنه مَتى زَاد الزَّمَان على هَذَا الْمِقْدَار كثرت الأوساخ، وَرُبمَا حصل تَحت الظفر مَا يمْنَع وُصُول المَاء إِلَيْهِ. ثمَّ إِنَّهَا تعدم الزِّينَة الَّتِي خصت بالأظفار والشارب.
1729 - / 2157 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: ((وَيُقَال لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي)) .

(3/313)


الْأَركان: الْأَعْضَاء.
وَقَوله: ((عنكن كنت أُنَاضِل)) المناضلة: الرَّمْي بِالسِّهَامِ، وَالْمرَاد بهَا هَا هُنَا المدافعة عَنْهَا والإعتذار.
1730 - / 2158 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: سُئِلَ عَن الْخمر، أتتخذ خلا؟ قَالَ: ((لَا)) .
هَذَا الحَدِيث دَلِيل على صِحَة مَذْهَبنَا؛ فَإِنَّهُ عندنَا لَا يجوز تَخْلِيل الْخمر، وَلَا تطهر إِذا خللت. وَعَن أَحْمد: أَن تخليلها يكره وتطهر.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز وتطهر. وَعَن مَالك كالروايتين.
1731 - / 2161 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: يَا خير الْبَريَّة. قَالَ: ((ذَاك إِبْرَاهِيم)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْبَريَّة: الْخلق، وَأكْثر الْعَرَب والقراء على ترك الْهمزَة لِكَثْرَة مَا جرت على الْأَلْسِنَة، وَهِي ((فعيلة)) بِمَعْنى ((مفعولة)) .
وَمن النَّاس من يزْعم أَنَّهَا مَأْخُوذَة من بريت الْعود، وَمِنْهُم من يزْعم أَنَّهَا من البرا: وَهُوَ التُّرَاب: أَي خلق من التُّرَاب، وَقَالُوا: لذَلِك لَا يهمز. وَقَالَ الزّجاج: لَو كَانَت من البرا وَهُوَ التُّرَاب لما قُرِئت بِالْهَمْز، وَإِنَّمَا اشتقاقها من: برأَ الله الْخلق.
فَإِن قيل: كَيفَ شهد لإِبْرَاهِيم أَنه خير الْبَريَّة وَهُوَ يَقُول: ((أَنا سيد

(3/314)


ولد آدم)) فَالْجَوَاب: أَن هَذَا مَحْمُول على مَا قَالَه قبل أَن يعلم أَنه خير الْخلق، فَلَمَّا عرف ذَلِك قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) .
1732 - / 2163 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَمْر، فَجعل يقسمهُ وَهُوَ محتفز، يَأْكُل مِنْهُ أكلا ذريعا. وَفِي لفظ: رَأَيْته مقعيا يَأْكُل تَمرا.
المحتفز: المستعجل الَّذِي لَيْسَ يتَمَكَّن. والذريع: السَّرِيع الحثيث.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: والإقعاء: أَن يجلس على وركيه، وَهُوَ الإحتفاز. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ أَن يلصق أليتيه بِالْأَرْضِ وَينصب سَاقيه وَيَضَع يَده بِالْأَرْضِ.
1733 - / 2164 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرّقية من الْعين والحمة والنملة.
أما الرّقية من الْعين فقد ذكرنَا الْعين وَمَا يتَعَلَّق بهَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَأما الْحمة فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْحمة: الْحَيَّات والعقارب وأشباهها من ذَوَات السمُوم. والنملة: قُرُوح فِي الْجنب. وَقَالَ

(3/315)


أَبُو عبيد: هِيَ قُرُوح تخرج بالجنب وَغَيره. قَالَ: ويحكى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز فِي رقية النملة: الْعَرُوس تحتفل وتقنأ وتكتحل، وكل شَيْء تفتعل، غير أَن لَا تَعْصِي الرجل. تقنأ: تتزين. فَأَما النملة بِضَم النُّون فَهِيَ النميمة. يُقَال: رجل نمل: إِذا كَانَ نماما.
1734 - / 2165 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: ((إِن لَهُ لظئرين)) .
الظِّئْر: الْمُرضعَة، وَأَصله من الْعَطف، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث.
1735 - / 2166 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج مسيرَة ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة فراسخ صلى رَكْعَتَيْنِ.
هَذَا شَيْء لَا يَقُول بِهِ أحد من أَرْبَاب الْمذَاهب الظَّاهِرَة، وَإِن كَانَ هَذَا الحَدِيث مذهبا لجَماعَة من السّلف، فقد كَانَ أنس يقصر فِيمَا بَينه وَبَين خَمْسَة فراسخ، وَقَالَ ابْن عمر: إِنِّي لأسافر السَّاعَة من النَّهَار فأقصر. وَإِنَّمَا يحمل هَذَا الحَدِيث على أحد شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بنية السّفر الطَّوِيل فَلَمَّا سَار ثَلَاثَة أَمْيَال

(3/316)


قصر، ثمَّ عَاد من سَفَره، فَحكى أنس مَا رأى. وَالثَّانِي: أَن يكون مَنْسُوخا.
1736 - / 2167 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: قد تقدم فِي مُسْند عمر وَغَيره.

(3/317)


(80) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي هُرَيْرَة الدوسي

وَاخْتلفُوا فِي اسْمه وَاسم أَبِيه على ثَمَانِيَة عشر قولا قد ذكرتها فِي كتاب ((التلقيح)) ، وأشهرها عبد شمس. وَكَانَت لَهُ فِي قديم أمره هرة صَغِيرَة فكني بهَا. وَقدم الْمَدِينَة سنة سبع وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر، فَسَار إِلَى خَيْبَر حَتَّى قدم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمَا حفظ لأحد من الصَّحَابَة أَكثر من حَدِيثه؛ فَإِنَّهُ روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة آلَاف حَدِيث وثلثمائة وَأَرْبَعَة وَسبعين، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) سِتّمائَة وَتِسْعَة أَحَادِيث.
1737 - / 2168 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن الله كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِك لَا محَالة)) .

(3/318)


اللمم: مقاربة الْمعْصِيَة من غير مواقعة لَهَا. وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ أَن النّظر والنطق وشهوة النَّفس تقَارب الزِّنَا.
وَقَوله: ((أدْرك ذَلِك)) أَي قضي عَلَيْهِ، فَلَا بُد من إِصَابَة شَيْء من ذَلِك.
وَالزِّنَا مَقْصُور وَقد يمد. وَإِنَّمَا سمي النّظر زنا لِأَنَّهُ مُقَدّمَة ذَلِك.
وَقَوله: ((والفرج يصدق ذَلِك)) دَلِيل على أَن المتلوط زَان، وَأَنه يحد حد الزَّانِي.
1738 - / 2169 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قَالَ ابْن عَبَّاس: قدم مُسَيْلمَة الْمَدِينَة، فَجعل يَقُول: إِن جعل لي مُحَمَّد الْأَمر من بعده تَبعته.
أما مُسَيْلمَة فاسمه ثُمَامَة بن قيس، وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ رحمان، يسمونه باسمه الَّذِي يَدعِي أَنه يَأْتِيهِ. وَكَانَ مُسَيْلمَة قد خاصمه قومه لما ادّعى النُّبُوَّة، فَقَالَ: أَنا أُؤْمِن بِمُحَمد وَلَكِنِّي قد أشركت مَعَه فِي النُّبُوَّة، فكاتبه بَنو حنيفَة وأنزلوه حجرا، فَكتب ثُمَامَة بن أَثَال يخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مُسَيْلمَة قد دَعَا إِلَى أمره، وَغلب على حجر، وَشهد لَهُ الرِّجَال بِأَنَّهُ قد أشرك فِي النُّبُوَّة، فأضل عَامَّة من كَانَ معي. ثمَّ قدم كتاب مُسَيْلمَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ رجلَيْنِ يُقَال لَهما: عبد الله بن النواح وَعبد الله بن حُجَيْر، وَكَانَ فِي كِتَابه: أَن الأَرْض نصفهَا لنا وَنِصْفهَا لقريش، وَلَكِن قُريْشًا قوم لَا يعدلُونَ، ويدعوه فِي كِتَابه إِلَى الْمُقَاسَمَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَوْلَا أَن الرُّسُل لَا تقتل لقتلتكما)) ثمَّ أجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من مُحَمَّد إِلَى مُسَيْلمَة الْكذَّاب، أما بعد فَإِن الأَرْض لله

(3/319)


يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين. وَقد أهلكت أهل حجر، أقادك الله وَمن صوب مَعَك)) وَقدم مُسَيْلمَة الْمَدِينَة وَجرى لَهُ مَا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث، ثمَّ توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتغوفل عَنهُ، فاستفحل أمره إِلَى أَن قَتله الله عز وَجل بيد وَحشِي الَّذِي قتل حَمْزَة.
وَكَانَ من قرآنه الَّذِي يَدعِي أَنه يُوحى إِلَيْهِ: ((وَاللَّيْل الأطخم. وَالذِّئْب الأدلم. والجزع الأزلم، مَا انتهكت أسيد من محرم)) ((وَاللَّيْل الدامس. وَالذِّئْب الهامس. مَا قطت أسيد من رطب وَلَا يَابِس)) ((وَالشَّاء وألوانها. وأعجبها السود وَأَلْبَانهَا. وَالشَّاة السَّوْدَاء. وَاللَّبن الْأَبْيَض، إِنَّه لعجب مَحْض. وَقد حرم المذق فَمَا لكم لَا تمجعون)) ((ضفدع بنت ضفدعين. نقي مَا تنقين. أعلاك فِي المَاء وأسفلك فِي الطين. لَا الشَّارِب تمنعين وَلَا المَاء تكدرين)) .
((والمندبات زرعا. والحاصدات حصدا. والذاريات قمحا. والطاحنات طحنا. والخابزات خبْزًا. والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. إهالة وَسمنًا. لقد فضلْتُمْ على أهل الْوَبر. وَمَا سبقكم أهل الْمدر)) ، ((الْفِيل وَمَا أَدْرَاك مَا الْفِيل. لَهُ ذَنْب وثيل. وخرطوم طَوِيل)) .
وتمضمض يَوْمًا مُسَيْلمَة ورماه فِي بِئْر فغارت، وَمسح على رَأس صبي فقرع، ودعا لآخر فَعميَ، ودعا لآخر فَمَاتَ من يَوْمه، وَمسح

(3/320)


ضرع نَاقَة لتدر فيبست أخلافها وَانْقطع درها.
وَأما الجريد فَهُوَ سعف النّخل، الْوَاحِدَة جَرِيدَة، وَسميت بذلك لِأَنَّهُ قد جرد مِنْهَا الخوص.
وَقَوله: ((ليَعْقِرنك)) أَي ليهلكنك.
وَقَوله: ((وَهَذَا ثَابت يجيبك عني)) كَانَ ثَابت بن قيس بن شماس خطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَكَلَّم عَنهُ، وَهَذَا لِأَن الْقَوْم ألفوا تشقيق الْكَلَام وإنشاد الشّعْر، وَكَانَ ثَابت للخطب، وَحسان للشعر. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على جَوَاز تشقيق الْكَلَام إِذا كَانَ صدقا وصحيحا.
وَأما الْعَنسِي فَهُوَ الْأسود، واسْمه عبهلة بن كَعْب، وَكَانَ يُقَال لَهُ ذُو الْخمار، يزْعم أَن الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو خمار. وَأول ردة كَانَت فِي الْإِسْلَام بِالْيمن، على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على يَدي الْأسود الْعَنسِي، وَكَانَ الْأسود كَاهِنًا ومشعبذا، وَكَانَ يُرِيهم الْأَعَاجِيب، وَيَسْبِي الْقُلُوب بمنطقه، فكاتبته مذْحج، وواعدوه نَجْرَان، فَوَثَبُوا بهَا فأخرجوا عَمْرو بن حزم وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ، وأنزلوه منزلهما، وَصفا لَهُ ملك الْيمن، وَلم يقر برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا طَالبه أَتْبَاعه بِهَذَا، وَلم يكْتب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَيْرُوز الديلمي فَقتله، فَأُوحي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، فَقَالَ: ((قتل الْأسود البارحة، قَتله رجل مبارك من أهل بَيت مباركين)) قيل: وَمن؟ قَالَ:

(3/321)


((فَيْرُوز، فَازَ فَيْرُوز)) .
وَكَانَ قد ادّعى النُّبُوَّة أَيْضا طليحة بن خويلد فِي بني أَسد، وَكَانَ يُقَال لَهُ ذُو النُّون، بِأَن الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو النُّون، وَاجْتمعت عَلَيْهِ الْعَرَب، وَأَرْسلُوا وفودا فعرضوا أَن يقيموا الصَّلَاة ويعفوا عَن الزَّكَاة، فَصَعدَ أَبُو بكر الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِن الله توكل بِهَذَا الْأَمر، فَهُوَ نَاصِر من لزمَه، وخاذل من تَركه، وَإنَّهُ بَلغنِي أَن وفودا من وُفُود الْعَرَب قدمُوا يعرضون الصَّلَاة ويأبون الزَّكَاة. أَلا وَإِنَّهُم لَو مَنَعُونِي عقَالًا مِمَّا أَعْطوهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ فرائضهم مَا قبلته مِنْهُم. أَلا بَرِئت الذِّمَّة من رجل من هَؤُلَاءِ الْوُفُود أَخذ بعد يَوْمه وَلَيْلَته بِالْمَدِينَةِ. فتواثبوا يتخطون رِقَاب النَّاس حَتَّى مَا بَقِي فِي الْمَسْجِد مِنْهُم أحد. ثمَّ دَعَا نَفرا فَأَمرهمْ بأَمْره، فَأمر عليا بِالْقيامِ على نقب من أنقاب الْمَدِينَة، وَأمر الزبير بِالْقيامِ على نقب آخر، وَأمر طَلْحَة بِالْقيامِ على نقب آخر، وَأمر عبد الله بن مَسْعُود بعسس مَا وَرَاء ذَلِك بِاللَّيْلِ والإرتباء نَهَارا. وجد فِي أمره، وَقَامَ على سَاق، وَخرج أَبُو بكر حَتَّى انْتهى إِلَى الربذَة، فلقي بني عبس وذبيان فَقَاتلهُمْ، فَهَزَمَهُمْ الله وفلهم، ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة فَقطع فِيهَا الْجنُود، وَعقد أحد عشر لِوَاء، [لِوَاء] مِنْهَا لخَالِد ابْن الْوَلِيد، وَأمره بطليحة بن خويلد فَإِذا فرغ مِنْهُ سَار إِلَى مَالك بن نُوَيْرَة، ولعكرمة وَأمره بمسيلمة، وللمهاجر بن أبي أُميَّة فَأمره بِجُنُود

(3/322)


الْعَنسِي، ولخالد بن سعيد بن العَاصِي إِلَى مَشَارِق الشَّام، فَأَما طليحة فَإِنَّهُ عَاد إِلَى الْإِسْلَام، وَأما مُسَيْلمَة فَأَقَامَ على حَاله فَقتله الله تَعَالَى.
1739 - / 2170 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ((أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي)) .
اعْلَم أَن صدق رَجَاء الْمُؤمن لفضل الله عز وَجل وجوده يُوجب حسن الظَّن بِهِ، وَلَيْسَ حسن الظَّن بِهِ مَا يَعْتَقِدهُ الْجُهَّال من الرَّجَاء مَعَ الْإِصْرَار على الْمعاصِي، وَإِنَّمَا مثلهم فِي ذَلِك كَمثل من رجا حصادا وَمَا زرع، أَو ولدا وَمَا نكح. وَإِنَّمَا الْعَارِف بِاللَّه عز وَجل يَتُوب ويرجو الْقبُول، ويطيع ويرجو الثَّوَاب. أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا عبد الْعَزِيز بن عَليّ قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُفِيد يَقُول: حَدثنَا الْحسن بن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الفِهري عَن أَبِيه عَن الْحسن قَالَ: إِن قوما ألهتهم أماني الْمَغْفِرَة حَتَّى خَرجُوا من الدُّنْيَا وَلَيْسَت لَهُم حَسَنَة، يَقُول: إِنِّي لحسن الظَّن بربي، وَكذب، لَو أحسن الظَّن بربه لأحسن الْعَمَل.
((وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي)) أَي بِالْحِفْظِ والحراسة وَحسن الْجَزَاء.
وَقَوله: ((ذكرته فِي ملإ خير مِنْهُم)) الْمَلأ: الْأَشْرَاف، وَالْمرَاد بهم الْمَلَائِكَة. وَبَاقِي الحَدِيث قد سبق فِي مُسْند أنس بن مَالك.

(3/323)


1740 - / 2171 - والْحَدِيث الرَّابِع: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1741 - / 2172 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تضطرب أليات نسَاء دوس على ذِي الخلصة)) .
الأليات جمع ألية: وَهِي الْعَجز.
وَذُو الخلصة: بَيت كَانَ فِيهِ صنم يُقَال لَهُ الخلصة، وَكَانَ لدوس وخثعم، وَكَانَ يُسمى الْكَعْبَة اليمانية، فَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جرير بن عبد الله لهدمه، وَعقد لَهُ لِوَاء، فهدمه، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن النَّاس يعودون فِي آخر الزَّمَان إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان. وَإِنَّمَا ذكر اضْطِرَاب الأليات ليصف قُوَّة الْحِرْص على السَّعْي حول ذَلِك الصَّنَم الَّذِي كَانَ يعبد حَتَّى حرص النِّسَاء إِلَى أَن تضطرب أعضاؤهن لشدَّة الْحَرَكَة.
1742 - / 2174 - والْحَدِيث السَّابِع: قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة.
1743 - / 2715 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((مَا من مَوْلُود يُولد إِلَّا نخسه الشَّيْطَان، فَيَسْتَهِل صَارِخًا)) .
الإستهلال: رفع الصَّوْت.

(3/324)


والنخس بالشَّيْء المحدد كرؤوس الْأَصَابِع.
والحجاب هَاهُنَا المشيمة.
وَقَوله: ((نزغة من الشَّيْطَان)) أَي قصد للْفَسَاد.
1744 - / 2176 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: ((ليوشكن أَن ينزل ابْن مَرْيَم حكما مقسطا، فيكسر الصَّلِيب، وَيقتل الْخِنْزِير، وَيَضَع الْجِزْيَة)) .
الوشيك: الْقَرِيب. وَأَرَادَ قرب ذَلِك الْأَمر.
وَالْحكم: الْحَاكِم. والمقسط: الْعَادِل. يُقَال: أقسط فَهُوَ مقسط: إِذا عدل، وقسط فَهُوَ قاسط: إِذا جَار.
وَفِي قَوْله: ((وَيَضَع الْجِزْيَة)) قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يحمل النَّاس على دين الْإِسْلَام، وَلَا يبْقى أحد تجْرِي عَلَيْهِ الْجِزْيَة. وَالثَّانِي: أَنه لَا يبْقى فِي النَّاس فَقير يحْتَاج إِلَى المَال، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ الْجِزْيَة فتصرف فِي الْمصَالح، فَإِذا لم يبْق للدّين خصم عدمت الْوُجُوه الَّتِي تصرف فِيهَا الْجِزْيَة فَسَقَطت. ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ. وَيحْتَمل وَجها ثَالِثا: وَهُوَ أَنه يضْرب الْجِزْيَة على من يدين بدين النَّصَارَى كَمَا هِيَ الْيَوْم، وَذَلِكَ لِأَن شَرعه نسخ، فَلَمَّا نزل اسْتعْمل شرعنا، وَمن شرعنا ضرب الْجِزْيَة وَقتل الْخِنْزِير.
وَقَوله: ((حَتَّى تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خيرا من الدُّنْيَا)) كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى

(3/325)


صَلَاح النَّاس، وَإِيمَانهمْ، وإقبالهم على الْخَيْر، فهم لذَلِك يؤثرون الرَّكْعَة على الدُّنْيَا، وَلذَلِك قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اقْرَءُوا إِن شِئْتُم: {وَإِن من أهل الْكتاب إِلَّا ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته وَيَوْم الْقِيَامَة يكون عَلَيْهِم شَهِيدا} [النِّسَاء: 159] وَيدل على صَلَاح النَّاس عِنْد نزُول عِيسَى قَوْله: ((وَتذهب الشحناء والتباغض)) .
وَأما قَوْله: ((وإمامكم مِنْكُم)) فقد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله أَنه: ((إِذا نزل عِيسَى قَالَ أَمِير النَّاس: صل لنا، فَيَقُول: لَا، إِن بَعْضكُم على بعض أُمَرَاء)) . وَهَذَا معنى قَوْله: ((فأمكم مِنْكُم)) أَي وَاحِد مِنْكُم. وَفِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي ذِئْب تَفْسِير آخر، فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ: أمكُم بِكِتَاب الله وَسنة نبيه. وَمَا ذكرنَا فِي حَدِيث جَابر يبطل هَذَا التَّأْوِيل.
والقلاص جمع قلُوص: وَهِي الْأُنْثَى من الْإِبِل، وَقيل: القلوص: الْبَاقِيَة على السّير من النوق.
وَقَوله: ((لَا يسْعَى عَلَيْهَا)) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يسْتَغْنى عَن رعيها لِكَثْرَة المَال. وَالثَّانِي: لَا يسْعَى عَلَيْهَا إِلَى جِهَاد لإسلام النَّاس.
1745 - / 2187 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ((يتقارب الزَّمَان، وَينْقص الْعلم)) .
فِي معنى تقَارب الزَّمَان أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه قرب الْقِيَامَة،

(3/326)


وَالْمعْنَى: إِذا قربت الْقِيَامَة كَانَ من أشراطها الشُّح والهرج. وَالثَّانِي: قصر مُدَّة الْأَزْمِنَة كَمَا جرت بِهِ الْعَادة، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: ((يتقارب الزَّمَان حَتَّى تكون السّنة كالشهر، والشهر كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَة كَالْيَوْمِ)) . وَالثَّالِث: أَنه قصر الْأَعْمَار. وَالرَّابِع: أَنه تقَارب أَحْوَال النَّاس فِي غَلَبَة الْفساد عَلَيْهِم، فَيكون الْمَعْنى: يتقارب أهل الزَّمَان: أَي تتقارب صفاتهم فِي القبائح، وَلِهَذَا ذكر على إثره: الْهَرج وَالشح.
وَأما نقص الْعلم وَقَبضه فقد سبق بَيَانه فِي مُسْند أنس.
وَقَوله: ((يلقى الشُّح)) على وَجْهَيْن: أَحدهمَا يلقى من الْقُلُوب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: ((وَيفِيض المَال)) . وَالثَّانِي: يلقى فِي الْقُلُوب فَيُوضَع فِي قلب من لَا شح عِنْده، وَيزِيد فِي قلب الشحيح. وَوجه هَذَا أَن الحَدِيث خَارج مخرج الذَّم، فوقوع الشُّح فِي الْقُلُوب مَعَ كَثْرَة المَال أبلغ فِي الذَّم. قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: وَقد رَأَيْت من يمِيل إِلَى أَن لفظ الحَدِيث يلقى بتَشْديد الْقَاف، وَالْمعْنَى: يتلَقَّى ويتعلم ويتواصى بِهِ. وَقد سبق تَفْسِير الشُّح فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
والهرج: الْقَتْل.
والدجال: الْكذَّاب.

(3/327)


وفيض المَال: كثرته.
والأرب: الْحَاجة.
والمروج جمع مرج. قَالَ ابْن فَارس: المرج: أَرض ذَات نَبَات تمرج فِيهَا الدَّوَابّ.
1746 - / 2178 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر: قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
1747 - / 2179 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا قوما نعَالهمْ الشّعْر)) .
هَذَا شعار للترك، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي: هم البربر.
وَأما المجان فَجمع مجن: وَهُوَ الترس. قَالَ أَبُو عبيد: والمطرقة: الَّتِي أطرقت بالجلود والعقب: أَي ألبست، وَكَذَلِكَ النَّعْل المطرقة: هِيَ الَّتِي قد أطبقت عَلَيْهَا أُخْرَى. شبه عرض وُجُوههم ونتو جباههم بِظُهُور الترسة الَّتِي قد ألبست الأطرقة.
وَقَوله: ((ذلف الأنوف)) : الذلف: قصر الْأنف وانبطاحه. وَقَالَ الزّجاج: قصر الْأنف وصغره. يُقَال: امْرَأَة ذلفاء: إِذا كَانَت كَذَلِك. والفطس انفراش الْأنف وطمأنينة وَسطه.

(3/328)


والبارز: مَوضِع.
وَقَوله: ((تَجِدُونَ خير النَّاس أَشَّدهم كَرَاهِيَة لهَذَا الْأَمر)) كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى الولايات.
وَقَوله: ((النَّاس معادن)) الْإِشَارَة إِلَى أصل الْموضع، فمعدن الذَّهَب ينْبت الذَّهَب، ومعدن القار والنفط لَا يَجِيء مِنْهُ إِلَّا ذَلِك، ويوضح هَذَا قَوْله: ((خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام)) الْمَعْنى أَن الأَصْل الْجيد فِي الْجَاهِلِيَّة يزِيدهُ الْإِسْلَام جودة.
وَقَوله: ((وليأتين على أحدكُم زمَان لِأَن يراني)) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون خطابا للصحابة، يتمنون بعد عَدمه رُؤْيَته، إِمَّا للشوق إِلَيْهِ، أَو لظُهُور الْفِتَن، وَالثَّانِي: أَن يكون للتابعين وَمن بعدهمْ، فَيكون قَوْله: ((أحدكُم)) أَي أحد أمتِي. وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: ((من أَشد أمتِي حبا لي نَاس يكونُونَ بعدِي، يود أحدهم لَو رَآنِي بأَهْله وَمَاله)) .
1748 - / 2180 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ)) .
يرْوى بِضَم الْغَيْن على معنى الْخَبَر، وبكسرها على معنى الْأَمر.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هُوَ لفظ خبر وَمَعْنَاهُ الْأَمر، يَقُول: ليكن الْمُؤمن

(3/329)


حازما حذرا، لَا يُؤْتى من نَاحيَة الْغَفْلَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا.
1749 - / 2181 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ((أَيّمَا مُؤمن سببته أَو جلدته فَاجْعَلْ ذَلِك لَهُ قربَة إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة)) .
فَإِن قيل: جَمِيع أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغَضَب وَالرِّضَا حق وصواب، فَلم اعتذر عَن مثل هَذِه الْأَشْيَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الإعتذار من فعل شَيْء غَيره أولى مِنْهُ، فَإِن الْعَفو فِي الْغَالِب أولى من الْعقُوبَة.
1750 - / 2182 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: فَقَامَ عكاشة يجر نمرة.
النمرة: كسَاء ملون.
والْحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1751 - / 2183 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((إِن لله مائَة رَحْمَة، أنزل مِنْهَا رَحْمَة وَاحِدَة بَين الْجِنّ وَالْإِنْس والبهائم والهوام، فبها يتعطافون، وَبهَا يتراحمون، وَبهَا تعطف الْوَحْش على أَوْلَادهَا، وَأخر تسعا وَتِسْعين رَحْمَة يرحم بهَا عباده يَوْم الْقِيَامَة)) .
اعْلَم أَن رَحْمَة الله عز وَجل صفة من صِفَات ذَاته وَلَيْسَت على معنى

(3/330)


الرقة كَمَا فِي صِفَات بني آدم، وَإِنَّمَا ضرب مثلا بِمَا يعقل من ذكر الْأَجْزَاء أَو رَحْمَة المخلوقين، وَالْمرَاد أَنه أرْحم الرَّاحِمِينَ.
1752 - / 2184 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: قَالَ ابْن الْمسيب: الْبحيرَة الَّتِي يمْنَع درها للطواغيت فَلَا يحلبها أحد من النَّاس.
والسائبة: مَا يسيبونها لآلهتهم لَا يحمل عَلَيْهَا شَيْء. قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((رَأَيْت عَمْرو بن عَامر الْخُزَاعِيّ يجر قصبه فِي النَّار، كَانَ أول من سيب السوائب)) .
الْبحيرَة: هِيَ الْأُنْثَى تلدها النَّاقة بعد أَرْبَعَة أبطن. وَقيل: بعد عشرَة أبطن، كَانُوا يشقون أذنها وتخلى.
وَاخْتلفُوا فِي السائبة، فَقيل: هِيَ النَّاقة، كَانَت إِذا نتجت عشرَة أبطن كُلهنَّ إناث سيبت فَلم تركب وَلم يجز لَهَا وبر، وَلم يشرب لَبنهَا إِلَّا ضيف. وَقيل: السائبة مَا كَانُوا يخرجونه من أَمْوَالهم فَيَأْتُونَ بِهِ خَزَنَة الْآلهَة فيطعمون ابْن السَّبِيل من ألبانه ولحومه.
عَمْرو وَهَذَا هُوَ أَبُو خُزَاعَة وَفِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: ((رَأَيْت عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خندف أَخا بني كَعْب وَهُوَ يجر قصبه فِي النَّار)) وَقد روينَا أَنه عَمْرو بن عَامر، فأظن لحيا لقب لعامر. وقمعة

(3/331)


بِفَتْح الْقَاف وَالْمِيم، كَذَلِك ضبط فِي نسب الزبير بن بكار.
والقصب: المعى.
وَقَوله: ((كَانَ أول من سيب السوائب)) أَي أول من ابتدع هَذَا وَجعله دينا.
1753 - / 2185 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((قلب الشَّيْخ شَاب على حب اثْنَتَيْنِ: طول الْحَيَاة وَحب المَال)) .
قد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أنس، وَقُلْنَا: إِن أحب الْأَشْيَاء إِلَى الْإِنْسَان نَفسه، فَمَا تزَال محبته لَهَا تقوى، خُصُوصا إِذا أَيقَن بِقرب الرحيل، ثمَّ إِنَّه يحب مَا هُوَ سَبَب قوامها وَهُوَ المَال، لموْضِع محبته إِيَّاهَا.
1754 - / 2186 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَر، فَقَالَ لرجل مِمَّن يَدعِي الْإِسْلَام: ((هَذَا من أهل النَّار)) فَذكر مثل حَدِيث سهل بن سعد الْمُتَقَدّم فِي مُسْنده، وَقَالَ فِيهِ: ((إِن الله يُؤَيّد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر)) .
قد ذكرنَا خبر ذَلِك الرجل فِي مُسْند سهل، وَبينا أَن اسْم الرجل قزمان، وَأَن ذَلِك كَانَ يَوْم أحد. وَيُمكن أَن يكون قد جرى مثل هَذَا لآخر يَوْم خَيْبَر، وَالله أعلم.

(3/332)


1755 - / 2187 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: ((نعما للمملوك يحسن عبَادَة ربه وصحابة سَيّده)) .
فِي نعم أَربع لُغَات: نعم بِفَتْح النُّون وَكسر الْعين مثل علم. وَنعم بكسرهما. وَنعم بِفَتْح النُّون وتسكين الْعين. وَنعم بِكَسْر النُّون وتسكين الْعين. قَالَ الزّجاج: و ((مَا)) فِي تَأْوِيل الشَّيْء، وَالْمعْنَى: نعم الشَّيْء.
1756 - / 2188 - وَقد سبق الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ.
1757 - / 2189 - وَالثَّانِي وَالْعشْرُونَ، وَفِيه فِي صفة مُوسَى: أَنه مُضْطَرب، رجل الرَّأْس. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله فِي صفة مُوسَى أَنه ضرب من الرِّجَال: وَهُوَ الْخَفِيف الْجِسْم، وَكَأن هَذَا إِشَارَة إِلَى ذَاك.
وَأما الرجل فَهُوَ الَّذِي فِي شعره سهولة.
وَفِي صفة عِيسَى: كَأَنَّمَا خرج من ديماس. وَقد فسر فِي الحَدِيث أَنه الْحمام. وَقَالَ الْخطابِيّ: الديماس: السرب. يُقَال: دمست

(3/333)


الرجل: إِذا قبرته، وَأَرَادَ أَنه من نَضرة وَجهه وَحسنه كَأَنَّهُ خرج من كن.
1758 - / 2190 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ قد سبق فِي مُسْند عمر.
1759 - / 2191 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((قَاتل الله الْيَهُود، اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد)) .
قَاتل بِمَعْنى لعن، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَتلهمْ الله.
وَهَذَا قَالَه قبل مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِئَلَّا يتَّخذ قَبره مَسْجِدا. وَقد تقدم بَيَان مثل هَذَا، وَأَن الْقُبُور لَا يَنْبَغِي أَن تعظم، إِنَّمَا تحترم بكف الْأَذَى عَنْهَا.
والعوام الْيَوْم مغرون بتعظيمها وَالصَّلَاة عِنْدهَا.
1760 - / 2192 - والْحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: فِيهِ ذكر ذِي السويقتين. وَقد سبق هَذَا، وَبينا أَنه إِنَّمَا صغرهما لدقتهما، وَفِي سوق الْحَبَشَة دقة.
1761 - / 2193 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((الْحلف منفقة

(3/334)


للسلعة، ممحقة للكسب)) .
المُرَاد بِالْحلف هَا هُنَا الْيَمين الْفَاجِرَة، فَإِن السّلْعَة تنْفق بهَا: أَي تخرج. وَالْكَسْب لموْضِع الْغرُور وَالْكذب يمحق.
1762 - / 2194 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِنَّمَا يُسَافر إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْكَعْبَة، ومسجدي، وَمَسْجِد إيلياء)) .
وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد.
وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ: إيلياء: بَيت الْمُقَدّس، وَهُوَ مُعرب، قَالَ الفرزدق:
(وبيتان بَيت الله نَحن ولاته ... وَبَيت بِأَعْلَى إيلياء مشرف)

1763 - / 2195 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم)) .
وَقد شرحناه فِي مُسْند أبي سعيد. إِلَّا أَن فِي هَذَا الحَدِيث: ((الصَّوْم جنَّة)) وَفِيه وَجْهَان: أَحدهمَا: جنَّة من الْمعاصِي. وَالثَّانِي: من النَّار.
وَقَوله: ((فَلَا يرْفث)) الرَّفَث: الْكَلَام الْقَبِيح، والصخب، وَرفع الصَّوْت عِنْد الْغَضَب بالْكلَام السيء.

(3/335)


وَفِي قَوْله: ((فَلْيقل إِنِّي صَائِم)) وَجْهَان: أَحدهمَا: فَلْيقل لِسَانه ليمتنع الشاتم من شَتمه إِذا علم أَنه معتصم بِالصَّوْمِ. وَالثَّانِي: فَلْيقل لنَفسِهِ أَنا صَائِم فَكيف أُجِيب من يجهل؟
1764 - / 2196 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: ((لَيْسَ الشَّديد بالصرعة)) .
الصرعة بِفَتْح الرَّاء: الَّذِي يصرع الرِّجَال. وبسكونها: الَّذِي يصرعونه، قَالَه أَبُو عبيد. فَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَيْسَ الْعجب فِي قُوَّة الْبدن، إِنَّمَا الْعجب فِي قُوَّة النَّفس، فَاعْتبر قُوَّة الْمَعْنى دون الصُّورَة، وأنشدوا فِي هَذَا الْمَعْنى:
(لَيْسَ الشجاع الَّذِي يحمي كتيبته ... يَوْم النزال ونار الْحَرْب تشتعل)

(لَكِن فَتى غض طرفا أَو ثنى بصرا ... عَن الْحَرَام، فَذَاك الْفَارِس البطل)

1765 - / 2197 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: أَن عمر قَالَ: صلى رجل فِي تبان وقباء، فِي تبان ورداء.
التبَّان: سَرَاوِيل إِلَى نصف الْفَخْذ يلبسهَا الفرسان والمصارعون.
والقباء مَمْدُود: وَهُوَ ثوب مفرج يجمع فرجه بخيط. وَقد تقدم ذكره فِي مُسْند ابْن عمر. والرداء مَعْرُوف.

(3/336)


1766 - / 2198 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1767 - / 2200 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا اقْترب الزَّمَان لم تكد رُؤْيا الْمُؤمن تكذب)) .
فِي اقتراب الزَّمَان ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه قرب الْقِيَامَة.
وَالثَّانِي: أَنه تقَارب زمَان اللَّيْل وَالنَّهَار وَقت استوائهما أَيَّام الرّبيع أَو الخريف، وَذَلِكَ وَقت تعتدل فِيهِ الأمزجة، فَحِينَئِذٍ تكون الرُّؤْيَا سليمَة فِي الْغَالِب من الأخلاط. وَالثَّالِث: أَنه زمَان التكهل؛ لِأَن الكهل قد بعد عَنهُ تخايل الظنون الْفَاسِدَة، وركدت عِنْده نوازع الشَّهَوَات، فَكَانَت نَفسه أقبل لمشاهدة الْغَيْب، وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله: ((أصدقكم رُؤْيا أصدقكم حَدِيثا)) .
وَقَوله: ((جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا)) قد تقدم فِي مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت.
قَوْله: ((حَدِيث النَّفس)) مَعْنَاهُ أَن الْإِنْسَان يكثر حَدِيث نَفسه بِشَيْء فيراه فِي الْمَنَام، وَقد يرِيه الشَّيْطَان مَا يحزنهُ كَمَا ذكرنَا أَن رجلا رأى

(3/337)


كَأَن رَأسه ضرب فَوَقع، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يحدثن أحدكُم بتلاعب الشَّيْطَان بِهِ)) وَمثل هَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يقصه على أحد.
وَقَوله فِي هَذَا الحَدِيث: وَكَانَ يكره الغل فِي النّوم، وَيُعْجِبهُ الْقَيْد، هَذَا من كَلَام أبي هُرَيْرَة أدرج فِي الحَدِيث فيتوهم أَنه مَرْفُوع، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقد بَينه معمر بن رَاشد فِي رِوَايَته عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين. وَبَعْضهمْ ينْسبهُ إِلَى ابْن سِيرِين.
1768 - / 2201 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا فرع وَلَا عتيرة)) وَقد فسر فِي الحَدِيث.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْفَرْع والفرعة: أول ولد تلده النَّاقة، وَكَانُوا يذبحونه لآلهتهم فنهوا عَنهُ. وَأما العتيرة: فَإِنَّهَا الرجبية: وَهِي ذَبِيحَة كَانَت تذبح فِي رَجَب يتَقرَّب بهَا أهل الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ جَاءَ الْإِسْلَام، وَكَانَ على ذَلِك حَتَّى نسخ بعد. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((إِن على كل مُسلم فِي كل عَام أضحاة وعتيرة)) . يُقَال مِنْهُ: عترت أعتر عترا.

(3/338)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سميت عتيرة لِأَنَّهَا تعتر: أَي تذبح.
وَأما الطواغيت فَجمع طاغوت، والطاغوت اسْم مَأْخُوذ من الطغيان، والطغيان مجاوز الْحَد، وَالْمرَاد بِالطَّوَاغِيتِ: آلِهَتهم.
1769 - / 2202 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((يتركون الْمَدِينَة على خير مَا كَانَت، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا العوافي)) وَفِي لفظ: ((ليتركنها مذللة للعوافي)) .
العوافي: عوافي الوحوش وَالطير وَالسِّبَاع، اجْتمع فِيهَا شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا طالبة لأقواتها، من قَوْلك: عَفَوْت فلَانا أعفوه فَأَنا عاف، وَالْجمع عفاة: إِذا أَتَوْهُ يطْلبُونَ معروفه. وَالثَّانِي: طلبَهَا للعفاء: وَهُوَ الْموضع الْخَالِي الَّذِي لَا أنيس بِهِ وَلَا ملك عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((مذللة)) : أَي مُمكنَة للعوافي غير ممتنعة عَلَيْهَا لخلو الْمَكَان وَذَهَاب أَهله عَنهُ.
وَقَوله: ((راعيان ينعقان)) النعيق: زجر الْغنم، يُقَال: نعق بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقا ونعقانا، وَكسر الْعين من ينعق مسموع من أَكثر الْعَرَب، وَمِنْهُم من يفتحها وَهُوَ كثير فِي كَلَامهم؛ لأَنهم يَقُولُونَ يَجْعَل ويرغب.
وَقَوله: ((فيجدانها وحوشا)) الْوَاو مَفْتُوحَة، وَالْمعْنَى أَنَّهَا خَالِيَة.

(3/339)


1770 - / 2203 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: ((لَو رَأَيْت الظباء بِالْمَدِينَةِ ترتع مَا ذعرتها)) .
الذعر: الْفَزع. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1771 - / 2204 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: اقْتتلَتْ امْرَأَتَانِ من هُذَيْل، فرمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر فقتلتها وَمَا فِي بَطنهَا، فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن دِيَة جَنِينهَا غرَّة: عبد أَو وليدة، وَقضى بدية الْمَرْأَة على عاقلتها. فَقَالَ حمل بن النَّابِغَة: يَا رَسُول الله، كَيفَ أغرم من لَا شرب وَلَا أكل، وَلَا نطق وَلَا اسْتهلّ، فَمثل ذَلِك يطلّ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِنَّمَا هَذَا من إخْوَان الْكُهَّان)) من أجل سجعه الَّذِي سجع.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ اسْم إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ مليكَة وَالْأُخْرَى عطيف.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْغرَّة: عبد أَو أمة، قَالَ مهلهل:
(كل قَتِيل فِي كُلَيْب غره ... حَتَّى ينَال الْقَتْل آل مره)

أَي كلهم لَيْسَ بكفؤ لكليب، إِنَّمَا هم بِمَنْزِلَة العبيد وَالْإِمَاء إِن

(3/340)


قَتلتهمْ حَتَّى أقتل آل مرّة فَإِنَّهُم الْأَكفاء.
وَاعْلَم أَنه عَنى بالغرة الْجِسْم كُله، كَمَا يُقَال رَقَبَة. وَقد أَنبأَنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا ابْن النقور قَالَ: أَنبأَنَا المخلص قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد السكرِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو يعلى الْمنْقري قَالَ: حَدثنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء فِي قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((فِي الْجَنِين غرَّة عبد أَو أمة)) لَوْلَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بالغرة معنى لقَالَ: فِي الْجَنِين عبد أَو أمة، وَلكنه عَنى الْبيَاض، فَلَا يقبل فِي الدِّيَة إِلَّا غُلَام أَبيض. قلت: وَهَذَا الَّذِي ذهب إِلَيْهِ لَا أعرفهُ مذهبا لأحد من الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا قَالَ بَعضهم: هَذَا مُسْتَحبّ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: فسر الْفُقَهَاء الْغرَّة بالنسمة من الرَّقِيق عبد أَو أمة، فقوموها نصف عشر دِيَة الْجَنِين.
وَمعنى الإستهلال: رفع الصَّوْت.
ويطل: يهدر، من قَوْلك طل دم الرجل يطلّ طلا. وَقد رَوَوْهُ: بَطل بِالْبَاء، وَالْأولَى أولى.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَلم يعبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله لأجل السجع

(3/341)


نَفسه، فقد يُوجد فِي تضاعيف كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا يخفى، كَقَوْلِه للْأَنْصَار: ((إِنَّكُم تقلون عِنْد الطمع، وتكثرون عِنْد الْفَزع)) وَقَوله: ((خير المَال سكَّة مأبورة ومهرة مأمورة)) . وَقَوله: ((يَا أَبَا عُمَيْر، مَا فعل النغير)) وَقَوله: ((أعوذ بك من علم لَا ينفع، وَقَول لَا يسمع، وقلب لَا يخشع، وَنَفس لَا تشبع، أعوذ بك من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَع)) وَلكنه إِنَّمَا عَابَ مِنْهُ رده الحكم وترتيبه القَوْل فِيهِ بالسجع على مَذْهَب الْكُهَّان، فِي ترويج أباطيلهم بالأساجيع الَّتِي يولعون بهَا، فيوهمون النَّاس أَن تحتهَا طائلا.
1772 - / 2205 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا قلت لصاحبك: أنصت، يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت)) .
اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل يحرم الْكَلَام حَال سَماع الْخطْبَة على رِوَايَتَيْنِ، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، فَإِن قُلْنَا: يحرم، فلظاهر هَذَا الحَدِيث، وَإِن قُلْنَا: لَا يحرم حمل هَذَا على الْأَدَب. واللغو: مَا

(3/342)


لَا فَائِدَة فِيهِ.
1773 - / 2206 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((حج مبرور)) وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر أَنه قَالَ: ((الْحَج المبرور لَيْسَ لَهُ ثَوَاب دون الْجنَّة)) قيل: مَا بره؟ فَقَالَ: ((العج والثج)) والعج: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. والثج: نحر الْإِبِل وَغَيرهَا، وَأَن يثج دَمهَا: وَهُوَ سيلان الدَّم، فعلى هَذَا يكون معنى المبرور الَّذِي قد أُقِيمَت فروضه وسننه.
وَفِي حَدِيث جَابر: قيل: يَا رَسُول الله، مَا بر الْحَج؟ قَالَ: ((إطْعَام الطَّعَام، وإفشاء السَّلَام)) فَيكون المُرَاد على هَذَا فعل الْبر فِي الْحَج.
وَقيل: المبرور: المقبول.
1774 - / 2207 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: ((لَا يَمُوت لأحد من الْمُسلمين ثَلَاثَة من الْوَلَد فَتَمَسهُ النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم)) .
تَحِلَّة الْقسم إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها} [مَرْيَم: 71] .
وَقَوله: ((فتحتسبه)) أَي يكون هَذَا فِي حِسَابهَا الَّذِي ترجوه فِي

(3/343)


ثَوَابهَا، وَهَذَا لَا يكون إِلَّا من مُؤمن بالجزاء.
والحنث: الْحلم. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أنس.
والإحتظار: الإمتناع. والحظار: مَا منع من وُصُول مَكْرُوه إِلَى من فِيهِ، وَأَصله الحظيرة الَّتِي يحظر بهَا على الْغنم وَغَيرهَا.
والدعاميص جمع دعموص: وَهُوَ دويبة من دَوَاب المَاء صَغِيرَة تضرب إِلَى السوَاد، كَأَنَّهُ شبههم بهَا فِي الصغر وَسُرْعَة الْحَرَكَة. وَقَالَ المرزباني: الدعموص: دويدة صَغِيرَة تكون فِي المَاء، وَأنْشد:
(إِذا التقى البحران عَم الدعموص ... فعي أَن يسبح أَو يغوص)

وصنفة الثَّوْب: حَاشِيَته الَّتِي فِيهَا الهدب.
1775 - / 2208 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((هَل فِي إبلك أَوْرَق؟)) .
الأورق: المغبر الَّذِي لَيْسَ بناصع الْبيَاض كلون الرماد، وَسميت الْحَمَامَة وَرْقَاء لذَلِك.
وَقَوله: ((عَسى أَن يكون نَزعه عرق)) يُقَال: نزع إِلَيْهِ فِي الشّبَه: إِذا أشبهه. والعرق: الأَصْل، كَأَنَّهُ نزع فِي الشّبَه إِلَى أجداده من جِهَة الْأَب أَو الْأُم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث حكم الْفراش على اعْتِبَار الشّبَه. وَفِيه زجر عَن تَحْقِيق ظن السوء.
1776 - / 2209 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((لَا تسموا الْعِنَب

(3/344)


الْكَرم؛ فَإِن الْكَرم الْمُسلم)) .
قد علم اشتهار الْعِنَب عِنْد الْعَرَب بِهَذَا الإسم، وَقد أكثرت شعراؤهم فِي هَذَا، فَقَالَ بَعضهم:
(إِذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة ... تروي عِظَامِي بعد موتِي عروقها)

وَإِنَّمَا كَانُوا يسمونها كرما لما يدعونَ من إحداثها فِي قُلُوب شاربيها من الْكَرم، فَنهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن تَسْمِيَتهَا بِهَذَا الإسم الَّذِي يشيرون إِلَى فَضلهَا، تَأْكِيدًا لتحريمها، وَقَالَ: ((إِنَّمَا الْكَرم قلب الْمُؤمن)) يُشِير بذلك إِلَى مَا فِيهِ من نور الْإِيمَان وبركات التقى.
1777 - / 2210 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: مر عمر فِي الْمَسْجِد وَحسان ينشد، فلحظ إِلَيْهِ: أَي نظر إِلَيْهِ نظر الْمُنكر عَلَيْهِ.
وروح الْقُدس: جِبْرِيل. وَفِي الْقُدس ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الله عز وَجل، قَالَه كَعْب وَالربيع وَابْن زيد والمفضل بن سَلمَة، فَيكون الْمَعْنى: أَن جِبْرِيل روح الله، كَمَا سمي بذلك عِيسَى. وَالثَّانِي: أَن الْقُدس الْبركَة، قَالَه السّديّ. وَالثَّالِث: أَن الْقُدس الطَّهَارَة، فَكَأَنَّهُ روح الطَّهَارَة وخالصها، فشرف بِهَذَا الإسم وَإِن كَانَ جَمِيع الْمَلَائِكَة

(3/345)


روحانيين. وَقيل: إِنَّمَا سمي روحا لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْبَيَانِ عَن الله عز وَجل فتحيا بِهِ الْأَرْوَاح.
وَقد ذكرنَا حكم الشّعْر فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَغَيرهمَا.
1778 - / 2211 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: بَينا الْحَبَشَة يَلْعَبُونَ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِرَابِهِمْ دخل عمر فَأَهوى إِلَى الْحَصْبَاء، فحصبهم بهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((دعهم يَا عمر)) وَإِنَّمَا حصبهم عمر لِأَنَّهُ رأى ذَلِك عَبَثا. وَإِنَّمَا نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن كل شَيْء يحْتَاج إِلَى المناضلة بِهِ فِي الْحَرْب يجوز اللّعب بِهِ فِي غير الْحَرْب ليتمرن عَلَيْهِ ويتدرج إِلَى تعلمه لأجل الْحَرْب، كالرمي بِالسِّهَامِ والحراب والمسابقة بِالْخَيْلِ.
1779 - / 2212 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: ((قَالَ الله تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْن آدم، يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر)) .
كَانَت الْعَرَب إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة يسبون الدَّهْر، وَيَقُولُونَ عِنْد ذكر موتاهم. أبادهم الدَّهْر، ينسبون ذَلِك إِلَيْهِ، ويرونه الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَلَا يرونها من قَضَاء الله عز وَجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} [الجاثية: 24] .
وَقَالَ عَمْرو بن قميئة:

(3/346)


(رمتني بَنَات الدَّهْر من حَيْثُ لَا أرى ... فَكيف بِمن يَرْمِي وَلَيْسَ برامي)

(فَلَو أَنَّهَا نبل إِذن لاتقيتها ... ولكنما أرمى بِغَيْر سِهَام)

(على الراحتين مرّة وعَلى الْعَصَا ... أنوء ثَلَاثًا بعدهن قيامي)

وَقَالَ آخر:
(واستأثر الدَّهْر الْغَدَاة بهم ... والدهر يرميني وَمَا أرمي)

(يَا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت فِي الْعظم)

(وسلبتنا مَا لست تعقبنا ... يَا دهر مَا أنصفت فِي الحكم)

فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر)) أَي هُوَ الَّذِي يُصِيبكُم بِهَذِهِ المصائب، فَإِذا سببتم فاعلها فكأنكم قصدتم الْخَالِق، وَكَانَ أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ يروي هَذَا الحَدِيث: ((وَأَنا الدَّهْر)) مَفْتُوحَة الرَّاء مَنْصُوبَة على الظَّرْفِيَّة: أَي أَنا طول الدَّهْر بيَدي الْأَمر، وَكَانَ يَقُول: لَو كَانَ مضموما لصار اسْما من أَسمَاء الله عز وَجل.
وَهَذَا الَّذِي ذهب إِلَيْهِ بَاطِل من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه خلاف أهل النَّقْل، فَإِن الْمُحدثين الْمُحَقِّقين لم يضبطوا هَذِه اللَّفْظَة إِلَّا بِضَم الرَّاء، وَلم يكن ابْن دَاوُد من الْحفاظ وَلَا من عُلَمَاء النقلَة. وَالثَّانِي:

(3/347)


أَن هَذَا الحَدِيث قد ورد بِأَلْفَاظ صِحَاح يبطل تَأْوِيله، فَمن ذَلِك مَا أخرجه البُخَارِيّ من طَرِيق أبي سَلمَة، وَأخرجه مُسلم من طَرِيق أبي الزِّنَاد، كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((لَا تَقولُوا يَا خيبة الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر)) . وَأخرج مُسلم من طَرِيق ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تسبوا الدَّهْر، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر)) وَالثَّالِث: أَن تَأْوِيله يَقْتَضِي أَن تكون عِلّة النَّهْي لم تذكر؛ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: ((لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَأَنا الدَّهْر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار)) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر فَأَنا أقلبه. وَمَعْلُوم أَنه يقلب كل خير وَشر، وتقليبه للأشياء لَا يمْنَع من ذمها، وَإِنَّمَا يتَوَجَّه الْأَذَى فِي قَوْله: ((يُؤْذِينِي ابْن آدم)) على مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.
1780 - / 2214 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((الْفطْرَة خمس: الْخِتَان والإستحداد وقص الشَّارِب وتقليم الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط)) .
قد ذكرنَا معنى الْفطْرَة فِي مُسْند ابْن عمر.
فَأَما الْخِتَان فعندنا أَنه وَاجِب على الرجل، وَلنَا فِي الْمَرْأَة رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: يجب على الْكل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَيْسَ بِوَاجِب. وَكَانَ بعض الْعلمَاء يحْتَج على وُجُوبه بِأَن كشف الْعَوْرَة

(3/348)


محرم بِالْإِجْمَاع، فلولا أَنه وَاجِب لم يجز هتك الْعَوْرَة الْمحرم لفعل سنة.
وَأما الإستحداد فَهُوَ حلق الْعَانَة بالحديدة. والإستحداد: الإستحلاق بالحديدة.
وقص الشَّارِب قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وتقليم الْأَظْفَار: قصها. والقلم: الْقطع.
والآباط جمع إبط: وَهُوَ مَا تَحت الْيَد. قَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: وَبَعض المتحذلقين يَقُول الْإِبِط بِكَسْر الْبَاء، وَالصَّوَاب سكونها، وَلم يَأْتِ فِي الْكَلَام شَيْء على ((فعل)) إِلَّا إبل وإطل وَحبر: وَهِي صفرَة الْأَسْنَان. وَفِي الصِّفَات: امْرَأَة بلز: وَهِي السمينة. وأتان إبد: تَلد كل عَام، وَقيل: هِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا الدَّهْر. وَأما الإطل فَهِيَ الخاصرة.
1781 - / 2215 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: بعثت بجوامع الْكَلم، ونصرت بِالرُّعْبِ)) .
أما جَوَامِع الْكَلم فَهُوَ جمع الْمعَانِي الْكَثِيرَة فِي الْأَلْفَاظ الْيَسِيرَة.
وَفِي هَذَا حث على التفهم والإستنباط.
والرعب: الْخَوْف والفزع كَانَ يَقع فِي قُلُوب أعدائه وَبَينه وَبينهمْ

(3/349)


مسيرَة شهر على مَا سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله، وَذكرنَا هُنَالك إحلال الْمَغَانِم، وَجعل الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا، وإرساله إِلَى الْخلق كَافَّة.
وَفِي مَفَاتِيح الخزائن قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا يفتح لأمته من الْبِلَاد والممالك. وَالثَّانِي: مَا يحصل بِملكه الأَرْض من الْمَعَادِن.
وتنتثلونها بِمَعْنى تثيرونها من موَاضعهَا وتستخرجونها، يُقَال: نثلت الْبِئْر وانتثلتها: إِذا استخرجت ترابها. وتنتقلونها: من نقل الشَّيْء. وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: ((وَأَنْتُم ترغثونها)) أَي تستخرجون درها وترتضعونها، يُقَال: نَاقَة رغوث وشَاة رغوث: أَي كَثِيرَة اللَّبن.
1782 - / 2216 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((أحناه على طِفْل، وأرعاه على زوج)) .
أحناه من الحنو: وَهُوَ الْعَطف والشفقة. وأرعاه من الإرعاء: وَهُوَ الْإِبْقَاء.
1783 - / 2217 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: نهى أَن يَبِيع حَاضر لباد.
قد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَكَذَلِكَ التلقي. وَسبق النجش فِي مُسْند ابْن عمر.

(3/350)


وَقَوله: ((لَا يبع الرجل على بيع أَخِيه)) هَذَا النَّهْي يتَعَلَّق بالحالة الَّتِي يعلم فِيهَا سُكُون البَائِع إِلَى المُشْتَرِي، وَذَلِكَ يكون قبيل التواجب، فَأَما فِي حَالَة السّوم قبل ظُهُور مُوجب الرِّضَا فَجَائِز.
وَكَذَلِكَ قَوْله: ((أَن يستام الرجل على سوم أَخِيه)) يَعْنِي بِهِ: إِذا سكن البَائِع إِلَى المُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ الْخطْبَة إِنَّمَا ينْهَى عَنْهَا عِنْد سُكُون الْمَرْأَة إِلَى الْخَاطِب.
وَقَوله: ((لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا)) قَالَ أَبُو عبيد: تَعْنِي بأختها ضَرَّتهَا. وَقَوله: ((لتكفأ)) مَأْخُوذ من كفأت الْقدر وَغَيرهَا: إِذا كببتها ففرغت مَا فِيهَا. وَفِي لفظ: ((لتكتفىء)) تفتعل من ذَلِك.
وَقَوله: ((فَإِذا أَتَى سَيّده)) أَي رب الْمَتَاع السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ.
وَسَيَأْتِي ذكر التصرية فِي هَذَا الْمسند إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1784 - / 2218 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: نعي النَّجَاشِيّ، وَالصَّلَاة عَلَيْهِ. وَقد سبق فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1785 - / 2219 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع رَأسه من الرَّكْعَة الثَّانِيَة قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ بِمَكَّة. اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِين كَسِنِي يُوسُف)) .

(3/351)


أما الْوَلِيد فَهُوَ الْوَلِيد بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة بن عبد الله، كَانَ على دين قومه، وَخرج مَعَهم إِلَى بدر، فَأسرهُ يَوْمئِذٍ عبد الله بن جحش، وَيُقَال: سليط بن قيس، وَقدم فِي فدائه أَخَوَاهُ خَالِد وَهِشَام، فافتكاه بأَرْبعَة آلَاف، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بلغ ذَا الحليفة، فَأَفلَت فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسلم، فَقَالَ لَهُ خَالِد: هلا كَانَ هَذَا قبل أَن تفتدى؟ فَقَالَ: مَا كنت لأسلم حَتَّى أفتدى بِمثل مَا افتدي بِهِ قومِي، وَلَا تَقول قُرَيْش: إِنَّمَا تبع مُحَمَّدًا فِرَارًا من الْفِدَاء، ثمَّ خرجا بِهِ إِلَى مَكَّة وَقد أمنهما، فحبساه بهَا مَعَ سَلمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَكَانَ سَلمَة قد أسلم بِمَكَّة قَدِيما وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة، فَأَخذه أَبُو جهل فحبسه وضربه وأجاعه، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت فِي صَلَاة الْفجْر وَيَدْعُو لَهُم.
وَالْوَطْأَةُ: الْبَأْس والعقوبة، وَهِي مَا أَصَابَهُم من الْجُوع والشدة.
وَالْمرَاد بسني يُوسُف سنو المجاعة.
وَقَوله: ((على مُضر)) إِشَارَة إِلَى قُرَيْش لأَنهم من أَوْلَاد مُضر.
وَسَيَأْتِي بعد أَحَادِيث: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَأهل الْمشرق يَوْمئِذٍ من مُضر مخالفون لَهُ.
1786 - / 2220 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: ((إِذا أَمن الإِمَام فَأمنُوا، فَإِنَّهُ من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه)) .
قَوْله: (فَأمنُوا)) دَلِيل على أَنه سنة.

(3/352)


وَفِي الحَدِيث إِضْمَار: وَهُوَ الْخَبَر عَن تَأْمِين الْمَلَائِكَة، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذا قَالَ الإِمَام: آمين، فَقولُوا: آمين كَمَا تَقول الْمَلَائِكَة، فَمن وَافق ... وَلَوْلَا ذَلِك لم يَصح تعقيبه بِالْفَاءِ. وَقد ذكرنَا معنى آمين وَمَا يتَعَلَّق بهَا فِي مُسْند أبي مُوسَى.
1787 - / 2221 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: ((إِذا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَة فامشوا إِلَى الصَّلَاة وَعَلَيْكُم السكينَة وَالْوَقار)) .
قد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي قَتَادَة، وَبينا أَن المُرَاد بالتثبت حسن الْأَدَب، وَذكرنَا هُنَاكَ الْخلاف فِيمَا يُدْرِكهُ الْمَأْمُوم. هَل هُوَ آخر صلَاته أَو أَولهَا؟
فَأَما قَوْله: ((إِذا ثوب بِالصَّلَاةِ. .)) فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: المُرَاد بِهِ هَا هُنَا الْإِقَامَة، وأصل التثويب رفع الصَّوْت بالإعلام، وأصل هَذَا أَن يلوح الرجل بِثَوْبِهِ عِنْد الْفَزع يعلم بذلك أَصْحَابه، فَسُمي رفع الصَّوْت هَا هُنَا تثويبا. قَالَ: وَقيل: التثويب مَأْخُوذ من ثاب الرجل بِمَعْنى عَاد إِلَى الشَّيْء بعد ذَهَابه، فَقيل للمؤذن إِذا قَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم ثمَّ عَاد إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى فَقَالَهَا: قد ثوب: أَي ردد القَوْل مرّة أُخْرَى، وَكَذَلِكَ قَوْله: قد قَامَت الصَّلَاة مرَّتَيْنِ.
1788 - / 2222 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أنزل الله: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} [الشُّعَرَاء: 214] فَقَالَ: ((يَا

(3/353)


معشر قُرَيْش، اشْتَروا أَنفسكُم، لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا)) .
الْعَشِيرَة: الرَّهْط الأدنون. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَهُوَ ينْهَى عَن اغترار الْقَرِيب بقرابته من أهل الصّلاح، فَإِنَّهُ إِنَّمَا فضل الصَّالح بصلاحه. وَإِنَّمَا قَالَ: ((سلاني من مَالِي)) لِأَنَّهُ يملك مَاله، وَلَو ملك نجاة شخص لأنجى أمه وأباه وَعَمه.
وَقَوله: ((سَأَبلُّهَا بِبلَالِهَا)) قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: بللت رحمي أبلها بِلَا وبلالا: إِذا وصلتها ونديتها بالصلة. وَإِنَّمَا شبهت قطيعة الرَّحِم بالحرارة تطفأ بالبرد كَمَا قَالُوا: سقيته شربة بردت بهَا عطشه، قَالَ الْأَعْشَى:
(أما لطَالب نعْمَة تممتها ... ووصال رحم قد بردت بلالها)

قلت: هَكَذَا ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد: ((بِبلَالِهَا)) بِكَسْر الْبَاء، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْبَاء مَفْتُوحَة، من بله يبله، كالملال من مله يمله.
1789 - / 2223 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: ((تفضل صَلَاة الْجَمِيع صَلَاة الرجل وَحده بِخمْس وَعشْرين جُزْءا)) .
قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر بِسبع وَعشْرين وَلَعَلَّ هَذَا التَّفَاوُت

(3/354)


يرجع إِلَى أَحْوَال الْمُصَلِّين.
وَقَوله: ((تَجْتَمِع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر)) وَذَلِكَ لِأَن الْفجْر تصلى عِنْد انْفِصَال اللَّيْل، فَتكون مَلَائِكَة اللَّيْل قد هَمت بالرحيل وملائكة النَّهَار قد نزلت فَيَشْهَدُونَ صَلَاة الْفجْر، وَذَلِكَ معنى قَوْله: {كَانَ مشهودا} [الْإِسْرَاء: 78] وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمسند بعد السّبْعين وَمِائَة أَنهم يَجْتَمعُونَ فِي صَلَاة الْعَصْر أيضاُ.
1790 - / 2224 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: ((العجماء جرحها جَبَّار)) .
قَالَ أَبُو عبيد: العجماء: الْبَهِيمَة، وَإِنَّمَا سميت عجماء لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم، وكل من لَا يقدر على الْكَلَام فَهُوَ أعجم ومستعجم. والجبار الهدر. وَإِنَّمَا يَجْعَل جرح العجماء هدرا إِذا كَانَت منفلتة لَيْسَ لَهَا قَائِد وَلَا سائق وَلَا رَاكب، فَإِذا كَانَ مَعهَا أحد هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فَهُوَ ضَامِن لِأَن الْجِنَايَة حِينَئِذٍ لَيست للعجماء إِنَّمَا هِيَ جِنَايَة صَاحبهَا.
وَقَوله: ((الْبِئْر جَبَّار)) هِيَ الْبِئْر يسْتَأْجر عَلَيْهَا صَاحبهَا رجلا يحفرها فِي ملكه فتنهار على الْحَافِر، فَلَيْسَ على صَاحبهَا ضَمَان، وَكَذَلِكَ الْبِئْر تكون فِي ملك الرجل فَيسْقط فِيهَا إِنْسَان أَو دَابَّة فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْبِئْر العادية الْقَدِيمَة الَّتِي لَا يعلم لَهَا حافر يَقع فِيهَا الْإِنْسَان أَو الدَّابَّة.

(3/355)


قَوْله: ((والمعدن جَبَّار)) الْمَعْدن اسْم لكل مَا فِيهِ شَيْء من الخصائص المنتفع بهَا كالذهب وَالْفِضَّة والياقوت والزبرجد والصفر والزجاج والزئبق والكحل والقار والنفط وَمَا أشبه ذَلِك، فيستأجر قوما لحفره فينهار عَلَيْهِم، فدماؤهم هدر.
وَقَوله: ((فِي الرِّكَاز الْخمس)) الرِّكَاز مَا وجد من دفن الْجَاهِلِيَّة، وَيعرف ذَلِك بِأَن ترى عَلَيْهِ عَلَامَات الْجَاهِلِيَّة، وَسَوَاء كَانَ فِي موَات أَو فِي مَكَان مَمْلُوك لكنه لَا يعرف مَالِكه، فَهَذَا يجب فِيهِ الْخمس فِي الْحَال، أَي نوع كَانَ من المَال، خلافًا لأحد قولي مَالك وَللشَّافِعِيّ فِي أَنه لَا يجب الْخمس إِلَّا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَعِنْدنَا أَنه لَا يعْتَبر فِيهِ النّصاب، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي.
وَفِي مصرف هَذَا الْخمس رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد: أَنه مصرف خمس الْفَيْء، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَالثَّانيَِة: مصرف الزَّكَاة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
وَأما إِذا كَانَ الْمَكَان يعرف مَالِكه فَإنَّك تنظر: فَإِن كَانَ الْمَالِك مُسلما أَو ذِمِّيا فَهُوَ للْمَالِك، وَإِن كَانَ حَرْبِيّا نظرت: فَإِن كَانَ الْوَاجِد لَهُ قد قدر عَلَيْهِ بِنَفسِهِ فَهُوَ ركاز، وَإِن لم يقدر عَلَيْهِ إِلَّا بِجَمَاعَة الْمُسلمين فَهُوَ غنيمَة.
وَإِن لم يكن على الرِّكَاز عَلامَة الْإِسْلَام أَو لم يكن عَلامَة فَهُوَ لقطَة.
وَأما حكم الْمَعْدن فَإِنَّهُ من استخرج من مَعْدن مَا يبلغ نِصَابا أَو قيمَة نِصَاب تعلق بِهِ الْحق، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يتَعَلَّق الْحق إِلَّا

(3/356)


بِالذَّهَب وَالْفِضَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يتَعَلَّق بِكُل مَا ينطبع، ثمَّ اخْتلفُوا فِي مِقْدَار الْحق الْمُتَعَلّق بِهِ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه ربع الْعشْر، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَالثَّانِي: الْخمس، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَعَن الشَّافِعِي كالقولين، وَله قَول ثَالِث: إِن أَصَابَهُ مُتَفَرقًا بتعب فربع الْعشْر وَإِلَّا فالخمس.
واتفقت الْجَمَاعَة على أَن ذَلِك الْحق يجب فِي الْحَال كَمَا يجب فِي الرِّكَاز إِلَّا دَاوُد، فَإِنَّهُ يعْتَبر الْحول.
وَأما مصرف ذَلِك الْحق فعندنا أَنه مصرف الزَّكَاة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مصرف الْفَيْء.
فَإِن وجد الْإِنْسَان فِي دَاره معدنا أَو ركازا فَإِنَّهُ يجب فِيهِ عندنَا مَا يجب فِي الْموَات. وَأما مَا يُصِيبهُ الْإِنْسَان من الْبَحْر كَاللُّؤْلُؤِ والمرجان والعنبر والسمك وَغير ذَلِك فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد: إِحْدَاهمَا: أَنه تجب الزَّكَاة إِذا بلغت قِيمَته مِائَتي دِرْهَم أَو عشْرين دِينَارا. وَالثَّانيَِة: لَا شَيْء فِي ذَلِك، وَهِي قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: فِي اللُّؤْلُؤ والعنبر الْخمس، وَلَا شَيْء فِي الْمسك والسمك.
1791 - / 2225 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَة: 260] وَيرْحَم الله لوطا، لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد. وَلَو لَبِثت فِي السجْن

(3/357)


مَا لبث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي)) .
مخرج هَذَا الحَدِيث مخرج التَّوَاضُع وَكسر النَّفس، وَلَيْسَ فِي قَوْله: ((نَحن أَحَق بِالشَّكِّ)) إِثْبَات شكّ لَهُ وَلَا لإِبْرَاهِيم، وَإِنَّمَا يتَضَمَّن نفي الشَّك عَنْهُمَا، لِأَن قوما ظنُّوا فِي قَوْله ( {أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} أَنه شكّ، فنفى ذَلِك عَنهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: إِذا لم أَشك أَنا فِي قدرَة الله تَعَالَى على إحْيَاء الْمَوْتَى فإبراهيم أولى أَلا يشك، فَكَأَنَّهُ رَفعه على نَفسه. وَدلّ بِهَذَا على أَن إِبْرَاهِيم مَا سَأَلَ لأجل الشَّك وَلَكِن لزِيَادَة الْيَقِين؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُشَاهدَة الَّتِي لَا يبْقى مَعهَا وسواس. وَقد ذكر ابْن الْأَنْبَارِي وَجها آخر فَقَالَ: لما أنكر قوم الْخَلِيل إحْيَاء الْمَوْتَى سَأَلَ ربه أَن يرِيه مَا أَيقَن بِهِ عقله من قدرَة ربه على إحْيَاء الْمَوْتَى، وَأَرَادَ أَن يعلم مَنْزِلَته عِنْد ربه بإجابة دَعوته، وَشك: هَل تقع الْإِجَابَة أم لَا؛ لِأَنَّهُ قد يكون من الْمصلحَة أَلا يُجَاب الْمُؤمن إِلَى مَا يسْأَل، فَلَمَّا شكّ إِبْرَاهِيم على هَذَا التَّأْوِيل الْحسن لَا على الْمَعْنى المذموم - قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَنا أولى بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم)) أَي أَنا أولى أَن أسأَل مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم الَّذِي يشك السَّائِل فِي إِجَابَة ربه فِيهِ، وَإِنَّمَا صَار أَحَق لما عانى من تَكْذِيب قومه لَهُ، وردهم عَلَيْهِ، وتعجبهم من ذكر الْبَعْث، فَقَالَ: أَنا أَحَق أَن أسأَل مَا سَأَلَ إِبْرَاهِيم لعَظيم مَا جرى عَليّ من قومِي، ولمعرفتي بتفضيل الله عز وَجل إيَّايَ على الْأَنْبِيَاء، وَلَكِنِّي لَا أسأَل.
فَأَما قصَّة لوط فَإِن لوطا لم يغْفل عَن الله عز وَجل، وَلم يتْرك

(3/358)


التَّوَكُّل عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر السَّبَب، وَذكره للسبب وَحده يتخايل مِنْهُ السَّامع نسيانه لله، فَأَرَادَ مِنْهُ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام أَلا نقُول مَا يُوهم هَذَا.
وَأما مدحه يُوسُف فَبَالغ؛ لِأَن يُوسُف أَرَادَ أَن يخرج خُرُوج من لَهُ الْحجَّة لَا خُرُوج من قد عُفيَ عَنهُ.
1792 - / 2226 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: إِن إخوتي من الْمُهَاجِرين كَانَ يشغلهم الصفق بالأسواق، وَكنت من أهل الصّفة.
وَأما الصفق بالأسواق فقد بَيناهُ من الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين من مُسْند أبي سعيد. وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ أَرْبَاب تِجَارَات، وَالْأَنْصَار أَرْبَاب نخل وَزرع، فَكَانُوا يغيبون أَكثر النَّهَار، فَلذَلِك حفظ أَبُو هُرَيْرَة مَا لم يحفظوا.
وَالصّفة مَكَان مُرْتَفع من الْمَسْجِد، كَانَ يأوي إِلَيْهِ الْمَسَاكِين.
والنمرة: شملة مخططة من مآزر الْعَرَب.
وَجَاء فِي بعض الْأَلْفَاظ عَنهُ: كنت ألزم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين لَا آكل الْخَبِير، وَلَا ألبس الحبير. والخبير: الْخبز المأدوم.
والحبير: الثِّيَاب المحبرة كالبرود اليمانية.
1793 - / 2227 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: هَل نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة؟
قَالَ: ((هَل تمارون فِي رُؤْيَة الْقَمَر؟ هَل تمارون فِي الشَّمْس؟)) فَذكر نَحْو

(3/359)


حَدِيث أبي سعيد الثَّانِي وَالْعِشْرين من مُسْنده، وَقد فسرناه هُنَاكَ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((فينصب الصِّرَاط بَين ظهراني جَهَنَّم)) أَي على وَسطهَا. يُقَال: نزلت بَين ظهريهم وظهرانيهم بِفَتْح النُّون: أَي فِي وَسطهمْ مُتَمَكنًا بَينهم لَا فِي أَطْرَافهم.
وَفِيه: ((وَمِنْهُم من يوبق، وَمِنْهُم من يخردل)) والموبق: المهلك، يُقَال: أوبقته ذنُوبه: أَي أهلكته، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا} ) [الشورى: 34] والمخردل: المقطع، يُقَال: خَرْدَل الشَّاة: إِذا قطعهَا.
وَفِيه: ((قد قشبني رِيحهَا، وأحرقني ذكاؤها)) قشبني من القشب، والقشب: السم، كَأَنَّهُ قَالَ: قد سمني رِيحهَا، وَيُقَال لكل مَسْمُوم قشيب ومقشب. وذكاء النَّار: اشتعالها، يُقَال: ذكت النَّار تذكو.
وَفِيه: ((فَإِذا رأى بهجتها وَمَا فِيهَا من النضرة انفهقت لَهُ الْجنَّة)) الْبَهْجَة: الْحسن. والنضرة: الرونق. وانفهقت: انفتحت واتسعت.
وَمِنْه قيل: صحراء فيهق: أَي وَاسِعَة.
1794 - / 2228 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند أبي سعيد.

(3/360)


وَفِيه: ((وَلَا أَقُول: إِن أحدا أفضل من يُونُس بن مَتى)) وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1795 - / 2229 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: أَتَى رجل من أسلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن الْأُخَر قد زنى - يَعْنِي نَفسه، فَأَعْرض عَنهُ.
هَذَا الرجل الْأَسْلَمِيّ هُوَ مَاعِز بن مَالك.
والشق: الْجَانِب.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه لَا يجْرِي فِي الْإِقْرَار إِلَّا أَربع مَرَّات.
وَقد ذكرنَا هَذَا وَالْخلاف فِيهِ فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة، وَبينا هُنَاكَ معنى الْأُخَر.
وأذلقته الْحِجَارَة: أَي بلغت مِنْهُ فقلق وَلم يصبر.
وجمز: وثب هَارِبا. والحرة: مَوضِع فِيهِ حِجَارَة سود.
1796 - / 2230 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: ((سَتَكُون فتن الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم)) قد تقدم هَذَا فِي مُسْند أبي بكرَة.
وَقَوله: ((من تشرف لَهَا)) أَي تطلع إِلَيْهَا، تطلعت إِلَيْهِ. يُقَال: استشرفت الشَّيْء: إِذا رفعت بَصرك لتنظر إِلَيْهِ.
والمعاذ: الملجأ. يَقُول: من قدر أَن يبعد عَنْهَا ويلجأ مِنْهَا إِلَى مَا يخلصه فَلْيفْعَل.

(3/361)


وَقَوله: ((من الصَّلَاة صَلَاة من فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وتر أَهله)) يَعْنِي الْعَصْر، وَقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند ابْن عمر.
1797 - / 2231 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن)) .
قَالَ الْعلمَاء: الْمَعْنى: وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان. كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: ((مَا آمن من لم يَأْمَن جَاره بوائقه)) أَي مَا اسْتكْمل الْإِيمَان. وَيحْتَمل وَجها آخر: وَهُوَ أَن الْهوى يُغطي الْإِيمَان، فَصَاحب الْهوى لَا يرى إِلَّا هَوَاهُ وَلَا ينظر إِلَى إيمَانه الناهي لَهُ، فَكَأَن الْإِيمَان قد عدم.
وَقَوله: ((وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف)) أَي ذَات قدر.
والغلول: أَخذ شَيْء من الْمغنم فِي خُفْيَة. قَالَ ابْن عَرَفَة: سمي الْغلُول غلولا لِأَن الْأَيْدِي مغلولة عَنهُ: أَي مَمْنُوعَة.
1798 - / 2232 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: ((بَيْنَمَا رَاع فِي غنمه عدا الذِّئْب فَأخذ مِنْهَا شَاة، فطلبها حَتَّى استنقذها مِنْهُ، فَقَالَ الذِّئْب: من لَهَا يَوْم السَّبع، يَوْم لَا راعي لَهَا غَيْرِي؟)) فَقَالَ النَّاس: سُبْحَانَ الله! فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((فَإِنِّي أُؤْمِن بِهَذَا وَأَبُو بكر وَعمر)) وَمَا هما ثمَّ.

(3/362)


فَأَما يَوْم السَّبع فَأكْثر الْمُحدثين يرونه بِضَم الْبَاء، وعَلى هَذَا يكون الْمَعْنى: إِذا أَخذهَا السَّبع لم تقدر على استخلاصها، فَلَا يرعاها حِينَئِذٍ غَيْرِي. أَي إِنَّك تهرب وأكون أَنا قَرِيبا مِنْهَا أنظر مَا يفضل لي مِنْهَا. وَقد ذكر الْأَزْهَرِي فِي كتاب ((تَهْذِيب اللُّغَة)) عَن ابْن الْأَعرَابِي أَن السَّبع بتسكين الْبَاء: وَهُوَ الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ الْمَحْشَر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من لَهَا يَوْم الْقِيَامَة؟ .
وَأما إخْبَاره بِإِيمَان أبي بكر وَعمر فَلِأَنَّهُ علم أَنَّهُمَا يؤمنان بِمَا آمن بِهِ، فَكَذَلِك عَامَّة أَصْحَابه، غير أَنه خصهما لِشَرَفِهِمَا.
1799 - / 2233 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: ((قرصت نملة نَبيا من الْأَنْبِيَاء، فَأمر بقرية النَّمْل فأحرقت)) .
قَرْيَة النَّمْل: مَوضِع اجتماعهن، وَالْعرب تفرق فِي الأوطان بَين الْأَسْمَاء. فَيَقُولُونَ: قطن الْإِنْسَان، وعطن الْإِبِل، وعرين الْأسد، وكناس الظبي، ووجار الذِّئْب والضبع، وعش الطَّائِر، وكور الزنابير، ونافقاء اليربوع، وقرية النَّمْل.
وَهَذَا النَّبِي لما آذته استجاز قتل مَا يُؤْذِي، فَأُرِيد مِنْهُ صُورَة الْعدْل فِي قتل المؤذي فَحسب، فَقيل لَهُ: ((فَهَلا نملة وَاحِدَة)) .
1800 - / 2234 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((فِي الْحبَّة السَّوْدَاء شِفَاء من كل دَاء إِلَّا السام)) وَقد فسر فِي الحَدِيث، فَقَالَ الزُّهْرِيّ: السام: الْمَوْت. والحبة السَّوْدَاء: الشونيز.

(3/363)


وَظَاهر قَوْله: ((من كل دَاء)) عُمُوم الأدواء كلهَا. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَفْظَة كل هَا هُنَا لَفْظَة عُمُوم وَالْمرَاد بهَا الْخُصُوص كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، وَقَوله: {تدمر كل شَيْء} [الْأَحْقَاف: 25] وَقَوله: {وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين} [الْبَقَرَة: 47] وَالْمرَاد بهَا شِفَاء من أدواء الرُّطُوبَة والبلغم من جِهَة أَن الشونيز حَار يَابِس، فَهُوَ يقطع البلغم، وينقي، وينفع الزُّكَام، وَيقتل الديدان، ويدر الطمث. ويسقى بِالْمَاءِ الْحَار وَالْعَسَل للحصاة فِي المثانة والكلية، وَيحل الحميات البلغمية والسوداوية، ودخانه يهرب مِنْهُ الْهَوَام، إِلَى غير ذَلِك من الْمَنَافِع. فَلَمَّا عَمت منفعَته أطلقت عَلَيْهِ لَفْظَة ((كل)) .
1801 - / 2235 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: ((لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هَذَا فِي الرجل يحْفر الْبِئْر فِي الأَرْض الْموَات فيملكها بِالْإِحْيَاءِ، وحول الْبِئْر أَو بقربها موَات فِيهِ كلأ، وَلَا يُمكن النَّاس أَن يرعوه إِلَّا بِأَن يبْذل لَهُم مَاءَهُ، فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا يمنعهُم مَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذا فعل ذَلِك فقد مَنعهم الْكلأ. وَاخْتلف الْعلمَاء: هَل هَذَا على وَجه التَّحْرِيم أَو على وَجه الْكَرَاهَة.

(3/364)


1802 - / 2236 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتعْمل رجلا على خَيْبَر، فجَاء بِتَمْر جنيب، فَقَالَ: ((أكل تمر خَيْبَر هَكَذَا؟)) قَالَ: إِنَّا لنأخذ الصَّاع بالصاعين، والصاعين بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تفعل، بِعْ الْجمع بِدَرَاهِم ثمَّ ابتع بِالدَّرَاهِمِ جنيبا)) وَقَالَ فِي الْمِيزَان مثل ذَلِك.
الجنيب من جيد التَّمْر. وَالْجمع من النّخل: كل لون لَا يعرف اسْمه، فَيكون تمره من أردأ التَّمْر، فَنَهَاهُ عَن المفاضلة فِي مَال الرِّبَا.
وَقَالَ فِي الْمِيزَان - أَي فِيمَا يُوزن - مثل ذَلِك، وَهَذَا لِأَن التَّمْر أَصله الْكَيْل لَا الْوَزْن.
1803 - / 2238 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: ((إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته)) .
المُرَاد بِالسَّجْدَةِ: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث بعد الثَّالِث وَالسِّتِّينَ وَالْمِائَة من هَذَا الْمسند، وَلَفظه: ((من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك من الْعَصْر رَكْعَة قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك)) وَهَذَا يدل

(3/365)


على أَن من طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وَقد صلى رَكْعَة من الْفجْر، أَو غربت وَقد صلى رَكْعَة من الْعَصْر، أَنه يتم الصَّلَاة، وَأَنَّهَا صَحِيحَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صلَاته.
1804 - / 2239 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: ((لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة، فتعجل كل نَبِي دَعوته، وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي)) .
هَذَا من حسن ظن نظره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اخْتَار أَن تكون دَعوته فِيمَا يبْقى.
فَإِن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: {هَب لي ملكا} [ص: 35] وَاخْتِيَار الْبَاقِي أحزم.
وَمن فضل كرمه أَنه جعلهَا لأمته، وَجعلهَا شَفَاعَة للمذنبين، فَكَأَنَّهُ هيأ النجَاة للمنقطعين ليلحقهم بالسابقين. وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند جَابر وَأنس.
1805 - / 2240 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: النَّهْي عَن الْوِصَال فِي الصَّوْم. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((فاكلفوا من الْعَمَل مَا تطيقون)) اللَّام فِي اكلفوا مَفْتُوحَة وَالْمعْنَى: تكلفوا طاقتكم. وَقد سبق بَيَان هَذَا.

(3/366)


1806 - / 2241 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: التَّكْبِير فِي كل خفض وَرفع، وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَغَيره.
وَفِيه: ((سمع الله لمن حَمده)) أَي: قبل.
وَفِيه: ((اشْدُد وطأتك على مُضر)) وَقد تقدم آنِفا.
1807 - / 2242 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: ((مَا أذن الله لشَيْء مَا أذن لنَبِيّ أَن يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ)) وَفِي لفظ: ((مَا أذن الله لشَيْء كَإِذْنِهِ لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يجْهر بِهِ)) وَفِي لفظ: ((لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) .
أما اللَّفْظ الأول فَهَكَذَا ورد: ((أَن يتَغَنَّى)) وَالَّذِي أرَاهُ أَن لَفْظَة ((أَن)) من زِيَادَة بعض الروَاة؛ لأَنهم يروون بِالْمَعْنَى فَيَقَع الْخَطَأ فِي كثير من الرِّوَايَات، وَإِذا ثبتَتْ ((أَن)) كَانَ من الْإِذْن: بِمَعْنى الْإِطْلَاق فِي الشَّيْء، وَلَيْسَ هُوَ المُرَاد بِالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا أذن هَا هُنَا بِمَعْنى اسْتمع، يُقَال: أَذِنت للشَّيْء: أذنا: إِذا استمعت لَهُ، قَالَ عدي:
(فِي سَماع يَأْذَن الشَّيْخ لَهُ ... وَحَدِيث مثل ماذي مشار)

وَاخْتلف الْعلمَاء فِي معنى ((يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ)) على أَرْبَعَة أَقْوَال:

(3/367)


أَحدهَا: أَنه تَحْسِين الصَّوْت بِهِ، روى أَبُو دَاوُد فِي ((سنَنه)) عَن ابْن أبي مليكَة أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقيل لَهُ: أَرَأَيْت إِن لم يكن حسن الصَّوْت؟ فَقَالَ: ((يُحسنهُ مَا اسْتَطَاعَ)) وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: يَسْتَغْنِي بِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن وَكِيع وَابْن عُيَيْنَة، وَقد روى أَنهم دخلُوا على سعد وَعِنْده مَتَاع رث، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) فَهَذَا دَلِيل على أَنه الإستغناء. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: من قَرَأَ آل عمرَان فَهُوَ غَنِي. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ تَرْجِيع الْقِرَاءَة لَكَانَ من لم يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من النَّبِي، قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب أَن يَقُولُوا: تَغَنَّيْت تغَنِّيا، وَتَغَانَيْت تَغَانِيًا: بِمَعْنى اسْتَغْنَيْت، قَالَ الْأَعْشَى:
(وَكنت امْرأ زَمنا بالعراق ... عفيف المناخ طَوِيل التغن)

يُرِيد الإستغناء. وَقَالَ الْمُغيرَة بن حبناء يُعَاتب أَخَاهُ:
(كِلَانَا غَنِي عَن أَخِيه حَيَاته ... وَنحن إِذا متْنا أَشد تَغَانِيًا)

فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: من لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ عَن الْإِكْثَار من

(3/368)


الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ ينبهه على ترك الفضول ويحثه على طلب الْآخِرَة.
وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى يتحزن بِهِ ويترنم، قَالَه الشَّافِعِي، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ عندنَا تحزين الْقِرَاءَة. وَالرَّابِع: أَنه التشاغل بِهِ عَن مَكَان التَّغَنِّي، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: كَانَت الْعَرَب تتغنى بالركبان إِذا ركبت الْإِبِل، وَإِذا جَلَست فِي الأفنية، وعَلى أَكثر أحوالها، فَلَمَّا نزل الْقُرْآن أحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون الْقُرْآن هجيراهم مَكَان التَّغَنِّي بالركبان.
ويوضح هَذَا الْوَجْه مَا أَنبأَنَا بِهِ عَليّ بن أبي عمر قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن أَيُّوب قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو عَليّ بن شَاذان قَالَ: أخبرنَا أَبُو سهل أَحْمد بن مُحَمَّد الْقطَّان قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد البرتي قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن الْمليكِي عَن ابْن أبي مليكَة عَن عبد الله بن السَّائِب عَن سعد هُوَ ابْن أبي وَقاص قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((غنوا بِالْقُرْآنِ، لَيْسَ من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) يَعْنِي منا.
1808 - / 2243 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: ((ننزل غَدا إِن شَاءَ الله بخيف بني كنَانَة حَيْثُ تقاسموا على الْكفْر)) يُرِيد المحصب.
قَالَ ابْن فَارس الْخيف: مَا ارْتَفع عَن الْوَادي وَانْحَدَرَ عَن الْجَبَل.
وتقاسموا بِمَعْنى تحالفوا، وَقد ذكر تَفْسِير هَذَا فِي الحَدِيث: وَهُوَ

(3/369)


أَن قُريْشًا وكنانة حصروا بني هَاشم وَبني الْمطلب فِي الشّعب. وَقَالَ بعض الروَاة: أَو بني عبد الْمطلب، وَهُوَ غلط، وَإِنَّمَا هُوَ: وَبني الْمطلب - وتحالفوا أَلا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا يؤوهم حَتَّى يسلمُوا إِلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكتب الْقَوْم بذلك كتابا وتركوه فِي الْكَعْبَة، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عَمه أبي طَالب فَأخْبرهُ أَن الأرضة قد لحست مَا فِي كِتَابهمْ من جور وظلم وأبقت مَا فِيهِ من ذكر الله عز وَجل، فَخرج أَبُو طَالب إِلَيْهِم فَأخْبرهُم بذلك، وَقَالَ: إِن كَانَ ابْن أخي صَادِقا فانزعوا عَمَّا أَنْتُم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ كَاذِبًا أسلمته إِلَيْكُم. فَقَالُوا: قد أنصفت، ففتحوا الْكتاب فوجدوه كَمَا قَالَ، فنكسوا على رؤوسهم وسكتوا، فَلَمَّا خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى مَكَّة فِي حجَّته، قَالَ: ((منزلنا إِن شَاءَ الله بخيف بني كنَانَة)) فآثر النُّزُول بذلك الْمَكَان شكرا لنعمة الله سُبْحَانَهُ فِي التَّمْكِين لَهُ، ونقضا لعهدهم.
1809 - / 2244 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: ((اشتكت النَّار إِلَى رَبهَا، فَأذن لَهَا بنفسين: نفس فِي الشتَاء وَنَفس فِي الصَّيف، فَهُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ من الْحر وَمن الزَّمْهَرِير)) .
تَشْبِيه الْحر وَالْبرد فِي ابْتِدَائه وامتداده وقوته وَضَعفه بِالنَّفسِ من أحسن التَّشْبِيه. والزمهرير: شدَّة الْبرد. وَبَاقِي الحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند أبي ذَر.
1810 - / 2245 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: ((الْفَخر وَالْخُيَلَاء -

(3/370)


وَفِي لفظ: والرياء - فِي الْفَدادِين. .)) وَفِي رِوَايَة: ((أَتَاكُم أهل الْيمن، هم أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة)) .
الْخُيَلَاء: التكبر والإعجاب بِالنَّفسِ. وَمن يقْصد الترفع عَن النَّاس يحب أَن يرى مَاله الْكثير.
والفدادون مُفَسّر فِي مُسْند أبي مَسْعُود البدري، وَكَذَلِكَ قَوْله: ((الْإِيمَان يمَان)) هُنَالك أَيْضا. وَقد بَينا ثمَّ أَنه أَشَارَ بذلك إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة، وَإِنَّمَا أثنى على أهل الْيمن لمبادرتهم إِلَى الْإِيمَان، وَإِذا رقت الأفئدة ولانت الْقُلُوب وصلت إِلَيْهَا المواعظ وأثرت فِيهَا.
وَالْحكمَة: الْفِقْه. والسكينة: السّكُون.
وَفِي هَذَا الحَدِيث ثَنَاء على الْأَنْصَار.
وَقَوله: ((وَرَأس الْكفْر قبل الْمشرق)) وَذَاكَ لِأَن الدَّجَّال يخرج مِنْهُ ويأجوج وَمَأْجُوج، وتغلب العجمة على ساكنيه وَقلة الْفَهم، وَلذَلِك أضَاف طُلُوع قرن الشَّيْطَان إِلَيْهِ، وَيُرِيد بِطُلُوع قرن الشَّيْطَان ظُهُور إِبْلِيس بالفتن هُنَالك.
1811 - / 2246 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: ((التَّسْبِيح للرِّجَال والتصفيق للنِّسَاء)) وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند سهل بن سعد.
1812 - / 2250 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: ((إِذا نُودي بِالصَّلَاةِ

(3/371)


أدبر الشَّيْطَان، فَإِذا قضى التثويب أقبل)) .
قد ذكرنَا التثويب آنِفا فِي هَذَا الْمسند. وَالْمرَاد بِهِ هَا هُنَا الْإِقَامَة، فَإِنَّهَا إِعْلَام بِقِيَام الصَّلَاة. وَالْأَذَان إِعْلَام بِوَقْت الصَّلَاة.
والحصاص يكون بمعنيين: الحصاص: الْعَدو. والحصاص: الضراط. وَقَالَ عَاصِم بن أبي النجُود: إِذا صر أُذُنَيْهِ ومصع بِذَنبِهِ: أَي حركه يَمِينا وَشمَالًا وَعدا، فَذَلِك الحصاص.
فَإِن قيل: كَيفَ يهرب من الْأَذَان وَيَدْنُو من الصَّلَاة، وَفِي الصَّلَاة الْقُرْآن ومناجاة الْحق عز وَجل؟ فَالْجَوَاب: أَنه يبعد عَن الْأَذَان لغيظه من ظُهُور الدّين وَغَلَبَة الْحق، وعَلى الْأَذَان هَيْبَة يشْتَد انزعاجه لَهَا، وَلَا يكَاد يَقع فِي الْأَذَان رِيَاء وَلَا غَفلَة عِنْد النُّطْق بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تحضر النَّفس، فَأَما الصَّلَاة فَإِن النَّفس تحضر فِيهَا عَن إِطْلَاقهَا قبلهَا، فَيفتح لَهَا الشَّيْطَان أَبْوَاب الوساوس فترتع فِيهَا بِالْقَلْبِ.
1813 - / 2251 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: ((مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة)) .

(3/372)


الْفطْرَة تقال على وُجُوه، قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب، فَأَما المُرَاد بهَا هَا هُنَا: فَاعْلَم أَن معرفَة الْحق عز وَجل مركوزة فِي النُّفُوس، ثمَّ قد نصبت لَهَا عَلَيْهَا أَدِلَّة، فَإِذا سلمت فطرتها من صَاد عَن الْهدى بَان لَهَا الْحق بدليله، يدل على هَذَا من حَيْثُ الْمَعْنى وَمن حَيْثُ الْوُقُوع: أما من حَيْثُ الْمَعْنى فَإِن الْأَدِلَّة إِنَّمَا ترد النَّفس إِلَى معلومها الأول الَّذِي قد ثَبت عِنْدهَا، فَأَنا إِذا قلت: لَا بُد من صانع، فَهَذَا مركوز فِي النُّفُوس، وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل الَّذِي يَنْفِي الشوائب عَنهُ. وَأما من حَيْثُ الْوُقُوع فقد اسْتدلَّ جمَاعَة على الوحدانية كقس بن سَاعِدَة، فَإِذا وَقع الصَّاد غير الْفطْرَة ووقفت ظلمته فِي وُجُوه نورها، فَاشْتَبَهَ على النَّفس الْأَمر، فاحتاجت إِلَى قُوَّة معالجة من الدَّلِيل. وَقد ذكر ابْن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: هَذَا حِين أَخذ الله عز وَجل الْعَهْد على الْخلق فِي أصلاب آبَائِهِم {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} [الْأَعْرَاف: 172] فلست واجدا أحدا إِلَّا وَهُوَ مقرّ بِأَن لَهُ صانعا ومدبرا وَإِن سَمَّاهُ بِغَيْر اسْمه، وَعبد شَيْئا دونه. قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله} [الزخرف: 87] فَالْمَعْنى: كل مَوْلُود فِي الْعَالم على ذَلِك الْعَهْد وَالْإِقْرَار الأول وَهُوَ الْفطْرَة، وَمعنى الْفطْرَة: ابْتِدَاء الْخلقَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [الْأَنْعَام: 14] أَي مبتدئها، وَهِي الحنيفية الَّتِي وَقعت لأوّل الْخلق وَجَرت فِي فطر الْعُقُول، ثمَّ يهود الْيَهُود أَبْنَاءَهُم، ويمجس الْمَجُوس أَبْنَاءَهُم: أَي يعلمونهم ذَلِك،

(3/373)


وَلَيْسَ الْإِقْرَار الأول مِمَّا يَقع بِهِ حكم أَو عَلَيْهِ ثَوَاب، أَلا ترى أَن الطِّفْل من أَطْفَال الْمُشْركين مَحْكُوم عَلَيْهِ بدين أَبَوَيْهِ، فَإِن خرج عَنْهُمَا إِلَى مُسلم حكم عَلَيْهِ بدين مَالِكه، وَمن وَرَاء ذَلِك علم الله فِيهِ. فَفرق مَا بَيْننَا وَبَين الْقَدَرِيَّة فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْفطْرَة عِنْدهم الْإِسْلَام، وَعِنْدنَا الْإِقْرَار بِاللَّه والمعرفة بِهِ.
وَقَوله: ((كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء)) تنْتج: مَضْمُومَة التَّاء الأولى مَفْتُوحَة الثَّانِيَة، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ السليمة، سميت بذلك لإجتماع السَّلامَة فِي أعضائها.
والجدعاء: المقطوعة الْأنف وَالْأُذن.
واللكز: الطعْن بِجَمِيعِ الْكَفّ.
والحضنان: الجنبان، وهما مَا دون الْإِبِط إِلَى الخصر.
وَقَوله: ((الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين)) قد سبق بَيَانه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَذكرنَا هُنَاكَ خلاف النَّاس فيهم.
1814 - / 2252 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: ((من ترك كلا فإلينا)) .
الْكل: الْعِيَال والثقل.
((فعلي قَضَاؤُهُ)) هَذَا فِيمَن ترك دينا لَا وَفَاء لَهُ فَإِنَّهُ يقْضى من الْفَيْء.

(3/374)


والضياع بِفَتْح الضَّاد وَهُوَ مصدر ضَاعَ يضيع، وَالْمعْنَى: من ترك شَيْئا ضائعا كالأطفال فَليَأْتِنِي ذَلِك الضائع ((فَأَنا مَوْلَاهُ)) أَي وليه. وَرَوَاهُ بَعضهم ((ضيَاعًا)) بِكَسْر الضَّاد، وَهُوَ جمع ضائع، كَمَا تَقول: جَائِع وجياع، وَالْأول أصح.
وَفِي لفظ: ((فَأَيكُمْ ترك مَالا فَإلَى الْعصبَة)) قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: عصب الْقَوْم بفلان: أحاطوا بِهِ، وَسميت الْعصبَة وهم قرَابَة الرجل لِأَبِيهِ. وعصبت الْإِبِل بِالْمَاءِ: إِذا دارت بِهِ.
1815 - / 2253 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: ((أَنا أولى النَّاس بِابْن مَرْيَم، الْأَنْبِيَاء أَوْلَاد علات)) .
أَوْلَاد العلات: الْإِخْوَة من أَب وَاحِد وأمهاتهم شَتَّى. وَأَوْلَاد الْأَعْيَان: الْإِخْوَة من أَب وَاحِد وَأم وَاحِدَة. وَالَّذِي أَرَادَ أَن أصل دين الْأَنْبِيَاء وَاحِد وَإِن كَانَت شرائعهم مُخْتَلفَة، كَمَا أَن أَوْلَاد العلات أبوهم وَاحِد وَإِن كَانَت أمهاتهم شَتَّى.
أما قَوْله: ((لَيْسَ بَيْننَا نَبِي)) فَإِن قيل: فقد ذكر أَن بعد عِيسَى أَنْبيَاء.
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الحَدِيث أصح، والاعتماد عَلَيْهِ وَإِن جَوَّزنَا وجود نَبِي ذُو شرع متجدد.
1816 - / 2254 - ((من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي)) .

(3/375)


وَهَذَا قد تقدم فِي مُسْند أبي قَتَادَة وَغَيره.
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: ((من رَآنِي فِي الْمَنَام فسيراني فِي الْيَقَظَة)) وَهَذَا كالبشارة لمن يرَاهُ بِأَنَّهُ يلقاه يَوْم الْقِيَامَة.
1817 - / 2255 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين: ((من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه. .)) وَفِي وَرَايَة: ((من صَامَ. .)) .
وَقَوله: ((إِيمَانًا واحتسابا)) أَي تَصْدِيقًا بالمعبود الْآمِر لَهُ، وعلما بفضيلة الْقيام وَوُجُوب الصّيام، وخوفا من عِقَاب تَركه، ومحتسبا جزيل أجره، وَهَذِه صفة الْمُؤمن.
وَقَوله: ((فيوافقها)) يَعْنِي لَيْلَة الْقدر. وَهَذَا دَلِيل على زِيَادَة أجر الْمُجْتَهد إِذا أصَاب.
والأوزاع: جماعات من النَّاس. والرهط دون الْعشْرَة. وَيُقَال: إِلَى الْأَرْبَعين.
1818 - / 2256 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: ((لَا عدوى وَلَا صفر وَلَا هَامة)) فَقَالَ أَعْرَابِي: يَا رَسُول الله، فَمَا بَال إبل تكون فِي الرمل كَأَنَّهَا الظباء فَيَأْتِي الْبَعِير الأجرب فَيدْخل فِيهَا فيجربها؟ قَالَ: ((فَمن أعدى الأول؟)) .
قد تكلمنا فِي الْعَدْوى والطيرة. وَفِي قَوْله: ((لَا يُورد ممرض على مصح)) وَفِي قَوْله: ((فر من المجذوم)) فِي مُسْند ابْن عمر، وَبينا أَنه

(3/376)


إِنَّمَا نهى عَن التَّعَرُّض بِالْمرضِ لِئَلَّا يظنّ الصَّحِيح إِذا مرض عِنْد المقاربة للْمَرِيض أَن ذَلِك من بَاب الْعَدْوى.
والممرض: الَّذِي إبِله مراض، وضده المصح.
وفسرنا قَوْله: ((لَا صفر)) فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
وَقَوله: ((وَخَيرهَا الفأل)) قَالَ ابْن عون: هَذَا مثل أَن يكون مَرِيضا فَيسمع: يَا سَالم، وباغيا فَيسمع: يَا وَاجِد. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الفأل فِيمَا يحسن ظَاهره ويرجى وُقُوعه بِالْخَيرِ. والطيرة لَا تكون إِلَّا فِيمَا يسوء.
وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا صَار الفأل خير أَنْوَاع هَذَا الْبَاب لِأَنَّهُ يصدر عَن نطق وَبَيَان، فَكَأَنَّهُ خير جَاءَ من غيب. فَأَما سنوح الطير وبروحها فتكلف من المتطير مَا لَا أصل لَهُ فِي الْبَيَان، إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ نطق فيستدل بِهِ على معنى فِيهِ.
وَقَوله: ((لَا هَامة)) قَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: كَانَت الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة تزْعم أَن عِظَام الْمَيِّت تَجْتَمِع فَتَصِير هَامة فتطير، وَكَانُوا يسمون الطَّائِر الَّذِي يخرج مِنْهَا الصدى. وَقَالَ غَيره: كَانُوا يسمون

(3/377)


الْأُنْثَى من هَذِه الطير: هَامة، وَالذكر: الصدى، فَإِذا قتل الْإِنْسَان قَالَ هَذَا الطَّائِر: اسقوني، حَتَّى يقتل قَاتله فيهدأ، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَو أَن ليلى الأخيلية سلمت ... عَليّ، ودوني تربة وصفائح)

(لسلمت تَسْلِيم البشاشة أَو زقا ... إِلَيْهَا صدى من جَانب الْقَبْر صائح)

فَأبْطل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا. وَقَالَ أَبُو عبيد: قَالَ أَبُو زيد: الهامة مُشَدّدَة الْمِيم، يذهب إِلَى وَاحِد الْهَوَام: وَهِي دَوَاب الأَرْض. قَالَ: وَلَا أرى أَبَا زيد حفظ هَذَا.
وَأما نِسْيَان أبي هُرَيْرَة الحَدِيث فقد جرى هَذَا لجَماعَة كَثِيرَة حدثوا بأَشْيَاء ثمَّ نسوا، وَفِيهِمْ من كَانَ يخبر بِمَا أخبر بِهِ فَيَقُول: حَدثنِي فلَان عني.
وَقَوله: فرطن بالحبشية: أَي تكلم بهَا، وكل كَلَام لَا تفهمه الْعَرَب من كَلَام الْعَجم تسميه رطانة.
والمماراة: الْمُرَاجَعَة على وَجه الْمُخَالفَة.
والنوء: من أنواء الْمَطَر، وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند زيد بن خَالِد.

(3/378)


1819 - / 2257 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((ينزل رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر)) وَفِي رِوَايَة: ((إِذا ذهب ثلث اللَّيْل الأول)) .
أصح الرِّوَايَات عَن أبي هُرَيْرَة: ((إِذا بَقِي ثلث اللَّيْل الآخر)) كَذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ. وَحَدِيث النُّزُول قد رَوَاهُ جمَاعَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم أَبُو بكر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَجبير بن مطعم وَرِفَاعَة الْجُهَنِيّ والنواس بن سمْعَان وَأَبُو ثَعْلَبَة الْخُشَنِي وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَعَائِشَة فِي آخَرين. وَقد ذكرت فِيمَا تقدم من مُسْند ابْن عمر وَأنس وَغَيرهمَا فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء أَنه يجب علينا أَن نَعْرِف مَا يجوز على الله سُبْحَانَهُ وَمَا يَسْتَحِيل. وَمن المستحيل عَلَيْهِ الْحَرَكَة والنقلة والتغير، فَيبقى مَا ورد فِي هَذَا فَالنَّاس فِيهِ قائلان: أَحدهمَا: السَّاكِت عَن الْكَلَام فِيهِ، وَقد حكى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ عَن مَالك بن أنس وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعبد الله بن الْمُبَارك أَنهم قَالُوا فِي هَذِه الْأَحَادِيث: أمروها بِلَا كَيفَ، فَهَذِهِ كَانَت طَريقَة عَامَّة السّلف.
وَالثَّانِي: المتأول، فَهُوَ يحملهَا على مَا توجبه سَعَة اللُّغَة، لعلمه بِأَن مَا يتضمنه النُّزُول من الْحَرَكَة مُسْتَحِيل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: {وَجَاء رَبك} [الْفجْر: 22] أَي جَاءَ أمره.

(3/379)


وَقَوله: ((من يقْرض غير عديم)) أصل الْقَرْض الْقطع، وَكَأَنَّهُ يَقُول: من يقطع قِطْعَة من مَاله أَو عمله فيجعلها لله. والعديم بِمَعْنى العادم.
1820 - / 2258 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: ((إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يصبغون فخالفوهم)) .
المُرَاد بِالْحَدِيثِ تَغْيِير الشيب. وَقد كَانَ السّلف يغيرونه بأنواع من الخضاب وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي كتاب ((الشيب والخضاب)) .
1821 - / 2259 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: ((مثل المهجر كَمثل الَّذِي يهدي بَدَنَة)) .
روى النَّضر بن شُمَيْل عَن الْخَلِيل قَالَ: التهجير إِلَى الْجُمُعَة: التبكير إِلَيْهَا، فَقَوله: ((مثل المهجر)) أَرَادَ المبكر، وَهِي لُغَة حجازية.
وَقَوله: ((من رَاح)) قَالَ أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ: مَعْنَاهُ: من خف إِلَى الْجُمُعَة، وَلم يرد رواح آخر النَّهَار. وَيُقَال: رَاح الْقَوْم: إِذا سَارُوا فِي أَي وَقت كَانَ.
وَقَوله: ((فِي السَّاعَة الأولى)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: لم يرد تَحْدِيد

(3/380)


السَّاعَات، لكنه تجوز فِي الْكَلَام، كَمَا تَقول: قعدت عِنْد فلَان سَاعَة.
وَأما طي الْمَلَائِكَة الصُّحُف فَالْمُرَاد بِهِ صحف الْفضل لَا صحف الْفَرْض، لِأَن الْفَرْض يسْقط بالإتيان بعد ذَلِك، وَإِنَّمَا المُرَاد أَنه قد ذهب وَقت الْفَضِيلَة وَلزِمَ السَّعْي.
1822 - / 2261 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين: ((لقد كَانَ فِيمَا قبلكُمْ من الْأُمَم محدثون، فَإِن يَك فِي أمتِي أحد فَإِنَّهُ عمر)) قَالَ ابْن وهب: محدثون: ملهمون. وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: مفهمون.
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد قوما يصيبون إِذا ظنُّوا وحدسوا، فكأنهم حدثوا بِشَيْء فقالوه، قَالَ أَوْس:
(الألمعي الَّذِي يظنّ لَك الظَّن كَأَن قد رأى وَقد سمعا ... )

وَيُقَال فِي بعض الْأَمْثَال: ((من لم ينفعك ظَنّه لم ينفعك يقينه)) .
1823 - / 2262 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: ((تحاج آدم ومُوسَى)) .
الإحتجاج: انتزاع الْحجَّة لغَلَبَة الْخصم. وَاعْلَم أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد

(3/381)


حكم بِالْحجَّةِ لآدَم، وَذَاكَ فِي معنى خَاص، لِأَنَّهُ لَو كَانَت لَهُ الْحجَّة عَلَيْهِ لما ليم بقوله تَعَالَى: {ألم أنهكما} [الْأَعْرَاف: 22] وَلما عُوقِبَ بقوله: {اهبطا} [طه: 123] فَلَمَّا أَخذ مُوسَى فِي لومه وتوبيخه بقوله: ((أَنْت الَّذِي اصطفاك الله ... وَأَنت ... وَأَنت)) أَخذ آدم يُعَارضهُ بِذكر الْقدر وَيَقُول: " أَنْت اصطفاك الله برسالته وبكلامه)) وَالْمعْنَى: كَيفَ تكون بِهَذِهِ الْمنزلَة وَيخْفى عَنْك أَنه لَا محيص من الْقدر؟ وَكِلَاهُمَا حق لَا يبطل صَاحبه. وَمَتى قضي للقدر على الْكسْب أخرج إِلَى مَذْهَب الْقَدَرِيَّة أَو للكسب على الْقدر أخرج إِلَى مَذْهَب الجبرية. وَرُبمَا وَقعت الْغَلَبَة لآدَم لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ لمخلوق أَن يلوم مخلوقا فِيمَا قضي عَلَيْهِ، إِلَّا أَن يَأْذَن الشَّرْع بلومه، فَيكون هُوَ اللائم، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((إِذا زنت أمة أحدكُم فليجلدها الْحَد وَلَا يثرب)) فَلَمَّا أَخذ مُوسَى يلومه وَلم يُؤذن لَهُ عَارضه بِالْقدرِ فَسكت. وَالثَّانِي: أَن الْمعْصِيَة قد اجْتمع فِيهَا الْقدر وَالْكَسْب، فالتوبة تمحو أثر الْكسْب، وَقد تَابَ الله عَلَيْهِ فَلم يبْق إِلَّا الْقدر، وَالْقدر لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ لوم.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اجْتمعَا وَمَتى اجْتمعَا؟ فَالْجَوَاب: أَنه يجب الْإِيمَان بِكُل مَا نخبر بِهِ عَن الصَّادِق المصدوق وَإِن لم نطلع على كيفيته، فَمن الْجَائِز اجْتِمَاع الْأَرْوَاح، وَمن الْجَائِز خصومتهما فِي الْقِيَامَة بعد الْحَشْر، وَمن الْجَائِز أَن يكون المُرَاد شرح حَال بِضَرْب مثل: أَي لَو اجْتمعَا قَالَا، وَيكون تَخْصِيص مُوسَى بِالذكر دون غَيره من الْأَنْبِيَاء لِأَنَّهُ أول نَبِي جَاءَ بالتكاليف الشَّدِيدَة. وَهَذَا وَإِن احْتمل فَالْأول

(3/382)


أولى لكَونه حَقِيقَة، وَالله وَرَسُوله أعلم بالمراد.
وَلَيْسَ هَذَا بِأول خبر يجب علينا الْإِيمَان بِهِ وَإِن جهلنا مَعْنَاهُ، فَإِن عَذَاب الْقَبْر ونعيمه. وسؤال مُنكر وَنَكِير فِيهِ حق، وَلَا يطلع على حَقِيقَة ذَلِك، وَمَتى ضَاقَتْ الْحِيَل فِي كشف المشكلات للإحساس لم يبْق إِلَّا فرض التَّسْلِيم.
فَإِن قيل: مَا معنى تَحْدِيد أَرْبَعِينَ سنة فِي الْمَكْتُوب؛ وَفِي الحَدِيث: ((إِن الله قدر الْمَقَادِير قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرضين بِخَمْسِينَ ألف سنة)) . فَالْجَوَاب: أَن المعلومات كلهَا قد أحَاط بهَا الْعلم الْقَدِيم قبل وجود مَخْلُوق، وَلكنه كتبهَا فِي زمَان، فَجَائِز أَن يكون كتب خَطِيئَة آدم قبل أَن يخلقه بِأَرْبَعِينَ عَاما، وَجَائِز أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى مُدَّة لبثه طينا، فَإِنَّهُ بَقِي أَرْبَعِينَ سنة طينا، فَكَأَنَّهُ يَقُول: كتب عَليّ قبل أَن أعصي مُنْذُ سواني طينا قبل أَن ينْفخ فِي الرّوح.
1824 - / 2263 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين: ((إِن الله حبس عَن مَكَّة الْفِيل، وسلط عَلَيْهَا رَسُوله وَالْمُسْلِمين، وَإِنَّهَا لَا تحل لأحد قبلي، وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار)) .
كَانَ أَبْرَهَة بن الأشرم قد بنى بيعَة وَقَالَ: لأضيفن إِلَيْهَا حج الْعَرَب، فَسمع بذلك رجل من بني كنَانَة فَدَخلَهَا لَيْلًا فأحدث فِيهَا، فَبلغ ذَلِك أَبْرَهَة، فَحلف ليسيرن إِلَى الْكَعْبَة وليهدمنها، فَسَار بجُنُوده

(3/383)


واستصحب الْفِيل، فَلَمَّا دنا من مَكَّة أَمر أَصْحَابه بالغارة على نعم النَّاس، فَأَصَابُوا إبِلا لعبد الْمطلب، وَبعث أَبْرَهَة بعض جُنُوده فَقَالَ: سل عَن شرِيف مَكَّة وَأخْبرهُ أَنِّي لم آتٍ لقِتَال إِنَّمَا جِئْت لأهدم هَذَا الْبَيْت. فَانْطَلق فلقي عبد الْمطلب، فَقَالَ: إِن الْملك أَرْسلنِي إِلَيْك لأخبرك أَنه لم يَأْتِ لقِتَال إِلَّا أَن تقاتلوه، إِنَّمَا جَاءَ لهدم هَذَا الْبَيْت ثمَّ ينْصَرف عَنْكُم، فَقَالَ عبد الْمطلب: مَاله عندنَا قتال، وَمَا لنا بِهِ يدان، سنخلي بَينه وَبَين مَا جَاءَ لَهُ، فَإِن هَذَا بَيت الله الْحَرَام وَبَيت خَلِيله إِبْرَاهِيم، فَإِن يمنعهُ فَهُوَ بَيته، وَإِن يخل بَينه وَبَين ذَلِك فوَاللَّه مَا لنا بِهِ قُوَّة. قَالَ: فَانْطَلق معي إِلَى الْملك، فَانْطَلق، فَلَمَّا دخل على أَبْرَهَة أكْرمه وأجله، وَقَالَ لِترْجُمَانِهِ: قل: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ لَهُ الترجمان، فَقَالَ: حَاجَتي أَن يرد عَليّ مِائَتي بعير أَصَابَهَا. فَقَالَ أَبْرَهَة لِترْجُمَانِهِ: قل لَهُ، لقد كنت أعجبتني حِين رَأَيْتُك، وَلَقَد زهدت الْآن فِيك؛ جِئْت إِلَى بَيت هُوَ دينك وَدين آبَائِك لأهدمه فَلم تكلمني فِيهِ وكلمتني فِي إبل أصبتها. فَقَالَ عبد الْمطلب: أَنا رب هَذِه الْإِبِل، وَلِهَذَا الْبَيْت رب سيمنعه. فَأمر بإبله فَردَّتْ عَلَيْهِ، فَخرج فَأخْبر قُريْشًا، وَأمرهمْ أَن يتفرقوا فِي الشعاب ورؤوس الْجبَال تخوفا عَلَيْهِم من معرة الْجَيْش إِذا دخل، فَفَعَلُوا، وأتى عبد الْمطلب الْكَعْبَة فَأخذ بِحَلقَة الْبَاب وَجعل يَقُول:
(يَا رب لَا أَرْجُو لَهُم سواكا ... يَا رب فامنع مِنْهُم حماكا)

(إِن عَدو الْبَيْت من عاداكا ... امنعهم أَن يخربوا قراكا)

(3/384)


وَقَالَ أَيْضا:
(لَا هم إِن الْمَرْء يمْنَع ... رَحْله فامنع حلالك)

(لَا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك)

(جروا جموع بِلَادهمْ ... والفيل كي يسبوا عِيَالك)

(عَمدُوا حماك بكيدهم ... جهلا وَمَا رقبوا جلالك)

(إِن كنت تاركهم وكعبتنا ... - فَأمر مَا بدا لَك)

ثمَّ إِن أَبْرَهَة أصبح متهيأ للدخول، فبرك الْفِيل فبعثوه فَأبى، فضربوه فَأبى، فوجهوه إِلَى الْيمن رَاجعا فهرول، ووجهوه إِلَى الشَّام فهرول، وَإِلَى الْمشرق فَكَذَلِك، فوجهوه إِلَى الْحرم فَأبى، وَأرْسل الله تَعَالَى عَلَيْهِم طيرا من الْبَحْر، وَاخْتلفُوا فِي صفتهَا: فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت لَهَا خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الْكلاب. وَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَت لَهَا رُؤُوس كرؤوس السبَاع. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَت كالخطاطيف. وَاخْتلفُوا فِي ألوانها على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا كَانَت خضرًا، قَالَه عِكْرِمَة. وَالثَّانِي: سُودًا، قَالَه عبيد بن عُمَيْر: وَالثَّالِث: بيضًا، قَالَه قَتَادَة. قَالَ: وَكَانَ مَعَ كل طَائِر ثَلَاثَة أَحْجَار: حجران فِي رجلَيْهِ وَحجر فِي منقاره. وَاخْتلفُوا فِي صفة الْحِجَارَة: فَقَالَ بَعضهم: كَانَت كأمثال الحمص والعدس، وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر: بل كَانَ الْحجر كرأس الرجل وكالجمل، فَلَمَّا غشيت الْقَوْم أرسلها عَلَيْهِم، فَكَانَ الْحجر يَقع على رَأس الرجل فَيخرج من دبره، وَبعث الله على أَبْرَهَة دَاء فِي جسده، فتساقطت أنامله وانصدع صَدره قطعتين عَن قلبه فَهَلَك، وَرَأى أهل مَكَّة الطير قد أَقبلت من نَاحيَة الْبَحْر فَقَالَ

(3/385)


عبد الْمطلب: إِن هَذِه الطير غَرِيبَة، ثمَّ بعث ابْنه عبد الله على فرس لينْظر، فَرجع يرْكض وَيَقُول: هلك الْقَوْم جَمِيعًا، فَخرج عبد الْمطلب وَأَصْحَابه فغنموا أَمْوَالهم، وَقيل: لم ينج مِنْهُم إِلَّا أَبُو يكسوم، فَسَار وطائر يطير من فَوْقه وَلَا يشْعر بِهِ حَتَّى دخل على النَّجَاشِيّ فَأخْبرهُ بِمَا أصَاب الْقَوْم، فَلَمَّا أتم كَلَامه رَمَاه الطير فَمَاتَ.
وَقد اعْترض بعض الْمُلْحِدِينَ فَقَالَ: لم حبس الْفِيل فِي زمَان الْجَاهِلِيَّة عَن الْكَعْبَة، وَلم يمْنَع الْحجَّاج وَقد نصب المنجنيق على الْكَعْبَة وَقتل ابْن الزبير وَسَفك بهَا الدَّم الْحَرَام، وَلم يحبس عَنْهَا القرامطة وَقد سلبوا الْكَعْبَة ومرقوا حطيمها وقلعوا الْحجر وَقتلُوا الْحَاج عِنْد الْكَعْبَة؟ فَأجَاب بعض الْعلمَاء بِأَن حبس الْفِيل كَانَ علما لنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ آباؤه عمارها، فَكَانَ ذَلِك حجَّة عَلَيْهِم فِي إِثْبَات نبوته، فَأَما إِذْ أقرّ الله الدّين وأعز أنصاره، فَلم يكن مَا جرى عَلَيْهَا مضرا بِالدّينِ وَلَا قادحا فِي بصائر الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ((وسلط عَلَيْهَا رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ)) دَلِيل على أَنَّهَا فتحت عنْوَة.
وَقَوله: ((وَمن قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين: إِمَّا أَن يفدى، أَو يقتل)) فِيهِ بَيَان أَن ولي الْقَتِيل بِالْخِيَارِ بَين أحد أَمريْن أَيهمَا شَاءَ أعْطِيه.

(3/386)


وَإِلَى هَذَا ذهب فُقَهَاء الْحجاز، وَقَالَ أهل الْعرَاق: لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقصاص، فَإِن ترك حَقه مِنْهُ لم يكن لَهُ أَن يَأْخُذ الدِّيَة.
وَأما أَبُو شاه فَإِنَّهُ رجل من الْيمن، وَأَرَادَ: اكتبوا لي هَذِه الْخطْبَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اكتبوا لأبي شاه)) وَفِي هَذَا دَلِيل على جَوَاز كِتَابَة الْعلم، وَأَن النَّهْي عَن كِتَابَة غير الْقُرْآن مَنْسُوخ.
وَقد سبق بَيَان بَاقِي الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1825 - / 2264 - وَقد سبق الْكَلَام فِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: فِي مُسْند ابْن عمر.
1826 - / 2265 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: ((من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليمنحها أَخَاهُ)) قد بَينا هَذَا فِيمَا تقدم. وَذكرنَا فِي مُسْند رَافع بن خديج أَنهم كَانُوا يكرون الأَرْض بِمَا يخرج من بَعْضهَا، فنهوا عَن ذَلِك.
1827 - / 2266 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: ((لَا تنْكح الأيم حَتَّى تستأمر، وَلَا تنْكح الْبكر حَتَّى تستأذن)) قَالُوا: كَيفَ إِذْنهَا؟ قَالَ ((أَن تسكت)) .

(3/387)


الأيم هَا هُنَا هِيَ الْمَرْأَة الَّتِي يطلقهَا زَوجهَا أَو يَمُوت عَنْهَا.
فَإِن قيل: مَا الْفرق بَين الإستئمار والإستئذان؟ فقد فرق الْخطابِيّ فَقَالَ: الإستئمار: طلب الْأَمر من قبلهَا، وأمرها لَا يكون إِلَّا بنطق.
فَأَما الإستئذان فَهُوَ طلب الْإِذْن، وإذنها قد يعلم بسكوتها، لِأَنَّهَا إِذا سكتت اسْتدلَّ بِهِ على رِضَاهَا.
وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن الثّيّب الْبَالِغ لَا يجوز لأَبِيهَا إجبارها على النِّكَاح، لِأَنَّهَا قد عرفت وجربت. وَاخْتلفُوا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة: فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يجوز لَهُ إجبارها، وَلنَا وَجْهَان. وَلَا فرق عندنَا بَين حُصُول الثيوبة بِوَطْء مُبَاح أَو محرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: إِذا حصلت الثيوبة بِوَطْء محرم كَانَ حكمهَا حكم الْبكر.
فَأَما الْبكر فَإِن كَانَت بَالغا فَهَل يملك الْأَب إجبارها على النِّكَاح؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يملك، وَحمل الحَدِيث على غير الْأَب. وَالثَّانيَِة: لَا يملك، كَقَوْل أبي حنيفَة. وَإِن لم تكن بَالغا فَلَا يَخْلُو من أَمريْن: إِمَّا أَن تكون قد بلغت تسع سِنِين فَلَا إِذن لَهَا، وَلَا يجوز لغير الْأَب - عندنَا - تَزْوِيجهَا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز لكل وَارِث. وَعَن أبي حنيفَة أَيْضا: يجوز لكل عصبَة، وَيكون لَهَا الْخِيَار بعد الْبلُوغ، وَعند أَحْمد مثله. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز للْجدّ.
وَأما إِذن الثّيّب فَهُوَ النُّطْق، وَإِذن الْبكر الصمات.

(3/388)


1828 - / 2267 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات)) .
أما فتن الْمحيا فَأكْثر من أَن تحصر. وَأما فتْنَة الْمَمَات فتحتمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: حَالَة الْمَوْت؛ فَإِن الشَّيْطَان يفتن الْآدَمِيّ حِينَئِذٍ، تَارَة بتشكيكه فِي خالقه وَفِي معاده، وَتارَة بالتسخط على الأقدار، وَتارَة بإعراضه عَن التهيؤ للقدوم إِلَى ربه بتوبة من زلَّة، واستدراك لهفوة، إِلَى غير ذَلِك. وَالثَّانِي: أَنَّهَا فتْنَة الْقَبْر بعد الْمَوْت.
أما الْمَسِيح الدَّجَّال فقد سبق ذكره فِي مُسْند ابْن عمر.
1829 - / 2268 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: ((إِن الله يغار)) وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1830 - / 2269 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: سجد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي: {إِذا السَّمَاء انشقت} و {اقْرَأ باسم رَبك} .
هَذَا دَلِيل على صِحَة مَذْهَبنَا، خلافًا لإحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك فِي قَوْله: لَا سُجُود فِي الْمفصل.
1830 - / 2270 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: ((لَا يتقدمن أحدكُم رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ إِلَّا أَن يكون رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه)) .

(3/389)


فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى مَا فعل النَّصَارَى فِي صومهم، فَإِنَّهُم زادوا فِيهِ، وتحذير من مثل ذَلِك، وَأمر بِالْوُقُوفِ على حُدُود الشَّرْع، وإفراد الْفَرْض من غَيره ليتميز التَّطَوُّع من الْفَرْض.
1831 - / 2271 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: ((من أنْفق زَوْجَيْنِ فِي سَبِيل الله دَعَاهُ خَزَنَة الْجنَّة: أَي فل، هَلُمَّ)) .
الزَّوْج فِي اللُّغَة: كل شَيْء كَانَ لَهُ قرين من جنسه، فَهُوَ اسْم يَقع على كل وَاحِد من المقترنين، يُقَال: لفُلَان زوجان من حمام، أَي ذكر وَأُنْثَى، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((من أنْفق زَوْجَيْنِ من مَاله ابتدرته حجبة الْجنَّة)) فَقيل: مَا هَذَانِ الزَّوْجَانِ؟ قَالَ: ((إِن كَانَ خيلا ففرسان، وَإِن كَانَت إبِلا فبعيران)) حَتَّى عد أَصْنَاف المَال كُله.
وَقَوله: ((أَي فل)) ترخيم فلَان.
وَقَوله: ((هَلُمَّ)) قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَلُمَّ ((هَا)) ضمت إِلَيْهَا لم وجعلتا كالكلمة الْوَاحِدَة. وَأكْثر اللُّغَات أَن يُقَال: هَلُمَّ للْوَاحِد والاثنين وَالْجَمَاعَة، بذلك جَاءَ الْقُرْآن. وَمن الْعَرَب من يثني وَيجمع وَيُؤَنث، فَيَقُول للذّكر: هَلُمَّ، وللمرأة: هَلُمِّي، وللإثنين: هلما، وللجماعة: هلموا، وللنسوة: هلممن. وَقَالَ الْخَلِيل: أَصْلهَا لم

(3/390)


وزيدت الْهَاء فِي أَولهَا. وَقَالَ الْفراء: بل أَصْلهَا: هَل، ضمت إِلَيْهَا أم، والرفعة الَّتِي فِي اللَّام من همزَة أم لما تركت انْتَقَلت إِلَى مَا قبلهَا. وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: معنى هَلُمَّ: أقبل، وَأَصله أم يَا رجل: أَي اقصد، فضموا هَل إِلَى أم وجعلوها حرفا وَاحِدًا، وأزالوا أم عَن التَّصَرُّف، وحولوا ضمة همزَة أم إِلَى اللَّام، وأسقطوا الْهمزَة فاتصلت الْمِيم بِاللَّامِ. وَإِذا قَالَ الرجل للرجل: هَلُمَّ، فَأَرَادَ أَن يَقُول لَا أفعل، قَالَ: لَا أهلم.
والتوى مَقْصُور: وَهُوَ الْهَلَاك. يُقَال: توى مَاله توى شَدِيدا، قَالَه الْأَصْمَعِي:
فَإِن قيل: إِذا كَانَت الْمنَازل تَتَفَاوَت، فَكيف يَقُول كل خَازِن من خَزَنَة الْجنَّة عَن بَابه: هَذَا خير؟ فَالْجَوَاب: أَنه لاطلاعه على مَا هُوَ خازنه وَنَظره فِي عجائبه يظنّ أَنه لَا يكون شَيْء خيرا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لم يطلع على غَيره.
وَأما تَسْمِيَته بَاب الصَّوْم بِبَاب الريان فَإِنَّهُ لَائِق بِالْحَال؛ لِأَن جَزَاء الصَّائِم والعطشان أَن يرْوى، فَسُمي باسم الْجَزَاء، وَلم يحسن أَن يُقَال:

(3/391)


بَاب الصَّوْم، لما يتضمنه من الْمَشَقَّة.
1832 - / 2275 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَلَكت. قَالَ: ((مَالك؟)) قَالَ: وَقعت على امْرَأَتي وَأَنا صَائِم ... فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: فَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعرق فِيهِ تمر، قَالَ: ((خُذ هَذَا فَتصدق بِهِ)) فَقَالَ الرجل: أَعلَى أفقر مني؟ فوَاللَّه مَا بَين لابتيها أهل بَيت أفقر مني. وَفِي رِوَايَة: أَن رجلا أفطر فِي رَمَضَان، فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكفر بِعِتْق رَقَبَة.
أما الْعرق فَفِي الحَدِيث أَنه المكتل الضخم. وَقَالَ أَبُو عبيد: الْعرق: السفيفة المنسوجة وَمن الخوص قبل أَن يَجْعَل مِنْهَا زبيل، فَسُمي الزبيل عرقا لذَلِك، وَيُقَال: العرقة أَيْضا، وكل شَيْء مصطف مثل الطير إِذا صفت فِي السَّمَاء فَهِيَ عرقة، قَالَ أَبُو كَبِير:
(نغدو فنترك فِي المزاحف من ثوى ... ونمر فِي العرقات من لم يقتل)

والعرقات: النسوع، وَالْمعْنَى نأسرهم ونشدهم.
واللابة: الْحِجَارَة السود. وَقد سبقت فِي مَوَاضِع. وأصل ذَلِك فِي أطناب الْبيُوت، فَشبه الْمَدِينَة ببساط، واللابتين بطنبين.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْكَفَّارَة إِنَّمَا تجب بِالْوَطْءِ فَحسب، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، إِلَّا أَن بعض الروَاة روى هَذَا الحَدِيث بِالْمَعْنَى فَقَالَ: إِن رجلا أفطر فِي رَمَضَان فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعِتْق رَقَبَة، فَبنى عَلَيْهِ

(3/392)


قوم من الْفُقَهَاء، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا أفطر بِالْأَكْلِ وَالشرب وَجَبت الْكَفَّارَة، إِلَّا أَن يفْطر ببلع الْحَصَاة وَمَا فِي مَعْنَاهَا وبالقيء وبالسعوط.
وَقَالَ مَالك: تجب الْكَفَّارَة بِجَمِيعِ ذَلِك. فَإِن قَالَ الْخصم: فقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بلفظين آخَرين: أَحدهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الَّذِي أفطر يَوْمًا من رَمَضَان بكفارة الظِّهَار. وَالثَّانِي: أَن رجلا أكل فِي رَمَضَان، فَأمره بِالْكَفَّارَةِ. وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص قَالَ: جَاءَ رجل فَقَالَ: أفطرت يَوْمًا من رَمَضَان مُتَعَمدا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أعتق رَقَبَة)) وروت عَائِشَة أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، احترقت، أفطرت فِي رَمَضَان، فَأمره بالتكفير.
وَالْجَوَاب: أَن هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا هِيَ حَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي وَقع على أَهله وَإِنَّمَا عبر بعض الروَاة عَن الْجِمَاع بِالْفطرِ، والْحَدِيث مُبين فِي الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد. قَالَ الدراقطني: أَكثر الروَاة بينوا أَن إفطار ذَلِك الرجل بِالْجِمَاعِ، وَأما اللَّفْظ الَّذِي فِيهِ أَنه أمره بكفارة الظِّهَار فيرويه يحيى الْحمانِي، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: كَانَ يكذب جهارا، وَقَالَ الدراقطني: إِنَّه مُرْسل. وَأما اللَّفْظ الَّذِي فِيهِ أَن رجلا أكل فِي

(3/393)


رَمَضَان، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يرويهِ أَبُو معشر نجيح، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَقَالَ يحيى بن معِين: يبْقى من حَدِيثه الْمسند. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وأصل هَذَا الحَدِيث أَن رجلا أفطر، كَذَلِك رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، فَعدل بِهِ الرَّاوِي إِلَى: أكل، لِأَن المجامع مفطر. وَلَفظ حَدِيث عَائِشَة الَّذِي فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) : احترقت، أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان.
وَقَوله فَضَحِك حَتَّى بَدَت أنيابه. قد بَينا الأنياب والنواجذ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَقَوله: ((أطْعمهُ أهلك)) اعْلَم أَن كَفَّارَة الْجِمَاع على رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد: إِحْدَاهمَا: أَنَّهَا على التَّخْيِير بَين الْعتْق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام، فبأيها كفر أَجزَأَهُ. وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى: على التَّرْتِيب، فقد كَانَ يجب على هَذَا الرجل عتق رَقَبَة، فَإِن لم يجد وَجب عَلَيْهِ صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين، فَإِن لم يسْتَطع وَجب عَلَيْهِ إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا، فَإِن لم يجد سَقَطت. فَأعْطَاهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أعطَاهُ وَقَالَ: ((تصدق بِهِ)) ظنا مِنْهُ أَنه يُعينهُ على الْكَفَّارَة، وَأَنه قد يجد بَعْضهَا، فَلَمَّا أخبرهُ بِشدَّة فقره أسقط الْوُجُوب عَنهُ، وَقَالَ: ((أطْعمهُ أهلك)) . وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا خَاص لذَلِك الرجل. قَالَ: وَقَالَ قوم: هَذَا مَنْسُوخ وَلم يذكر مَا نسخه.
قَالَ: وَأحسن مَا سَمِعت فِيهِ قَول الْبُوَيْطِيّ: إِنَّه لما أخبرهُ بحاجته لم ير أَن يتَصَدَّق على غَيره، وَأمره بِأَكْلِهِ، وَبقيت الْكَفَّارَة فِي ذمَّته إِلَى أَن يجد وَفَاء. قلت: فدعوى الْخُصُوص والنسخ وَبَقَاء الْكَفَّارَة فِي

(3/394)


ذمَّته لَا دَلِيل على شَيْء مِنْهُ، وَالَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أصح.
1833 - / 2276 - والْحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة: حَدِيث الَّذِي قَالَ لِبَنِيهِ: إِذا مت فأحرقوني.
وَقد سبق فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَحُذَيْفَة.
1834 - / 2277 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَة: ((من حلف مِنْكُم فَقَالَ فِي حلفه: وَاللات والعزى، فَلْيقل: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَمن قَالَ لصَاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: إِنَّمَا أوجب قَول لَا إِلَه إِلَّا الله على من حلف بِاللات شَفَقَة عَلَيْهِ من الْكفْر أَن يكون قد لزمَه، لِأَن الْيَمين إِنَّمَا تكون بالمعبود الْمُعظم، فَإِذا حلف فقد ضاهى الْكفَّار فِي ذَلِك، فَأمر أَن يتداركه بِكَلِمَة التَّوْحِيد المبرئة من الشّرك.
قلت: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: من سبق لِسَانه إِلَى الْحلف بِاللات لموْضِع الْعَادة قبل الْإِسْلَام فَلْيقل لَا إِلَه إِلَّا الله مستدركا بهَا ذَلِك الْغَلَط.
وَهَذَا أبين من قَول الْخطابِيّ، لِأَن الْمُسلم لَا يقْصد الْيَمين بِاللات.
وَكَذَلِكَ قَوْله: تعال أقامرك، جري على الْعَادة قبل الْإِسْلَام.
وَفِي قَوْله: ((فليتصدق)) قَولَانِ: أَحدهمَا: فليتصدق بِالْمَالِ الَّذِي يُرِيد أَن يقامر عَلَيْهِ، قَالَه الْأَوْزَاعِيّ. وَالثَّانِي: فليتصدق بِصَدقَة تكون

(3/395)


كَفَّارَة لما جرى على لِسَانه من ذَلِك.
1835 - / 2278 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ، إِلَّا أَن فِي هَذَا: ((إِذا تنخع أحدكُم)) والنخامة والنخاعة والبصاق بِمَعْنى وَاحِد، إِلَّا أَن البصاق من أدنى الْفَم، والنخاعة من أقْصَى الْفَم، كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من النخاع: وَهُوَ الْخَيط الْأَبْيَض المستبطن فقار الْعُنُق الْمُتَّصِل بالدماغ.
1836 - / 2279 - والْحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة: فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1837 - / 2280 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: ((يَأْتِي الشَّيْطَان أحدكُم فَيَقُول: من خلق كَذَا؟ حَتَّى يَقُول: من خلق رَبك؟ فَإِذا بلغه فليستعذ بِاللَّه ولينته)) .
الْمَعْنى: فليعرض عَن مساكنة الْفِكر بعد هَذَا؛ فَإِن كل خصم رُبمَا انْتهى جدله، ووسوسة الشَّيْطَان لَا تَنْتَهِي، فَلَيْسَ إِلَّا التَّعَوُّذ وَقطع المساكنة لَهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَعِين إِبْلِيس على هَذِه الوسوسة بالحس لَا بِالْعقلِ، والحس لم يعرف وجود شَيْء إِلَّا من شَيْء وبشيء، فَأَما الْعقل فَيقطع على وجود خَالق لَيْسَ بمخلوق، على مَا بَينا فِي مُسْند أنس بن مَالك، فَإِن هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ.

(3/396)


1838 - / 2282 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة: ((من أدْرك مَاله بِعَيْنِه عِنْد رجل قد أفلس فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره)) .
أصل أفلس أَنه بِمَعْنى صَار ذَا فلوس بعد أَن كَانَ ذَا دَرَاهِم.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: فَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: إِذا أفلس المُشْتَرِي بِالثّمن فَوجدَ البَائِع عين مَاله عِنْده والمفلس حَيّ وَلم يقبض البَائِع من ثمنه شَيْئا فَهُوَ أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء، فَإِن قبض من الثّمن شَيْئا كَانَ أُسْوَة الْغُرَمَاء. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ أَحَق بِهِ فِي الْمَوْت والحياة، فَإِن قبض مِنْهُ شَيْئا كَانَ أَحَق بِمَا بَقِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء بِكُل حَال.
1839 - / 2283 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: ((كل أمتِي معافى إِلَّا المجاهرين، وَمن المجاهرة أَن يعْمل الرجل بِاللَّيْلِ عملا ثمَّ يصبح وَقد ستره الله عَلَيْهِ فَيَقُول: يَا فلَان، عملت البارحة كَذَا وَكَذَا، وَقد بَات يستره ربه)) .
المجاهرون: الَّذين يجاهرون بالفواحش وَيَتَحَدَّثُونَ بِمَا قد فَعَلُوهُ مِنْهَا سرا، وَالنَّاس فِي عَافِيَة من جِهَة الْهم مستورون، وَهَؤُلَاء مفتضحون.
1840 - / 2284 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: ((مَا بَين بَيْتِي

(3/397)


ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة، ومنبري على حَوْضِي)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى الحَدِيث تَفْضِيل الْمَدِينَة وخصوصا الْبقْعَة الَّتِي بَين الْبَيْت والمنبر، يَقُول: من لزم طَاعَة الله فِي هَذِه الْبقْعَة آلت بِهِ الطَّاعَة إِلَى رَوْضَة من رياض الْجنَّة، وَمن لزم عبَادَة الله عِنْد الْمِنْبَر سقِِي فِي الْقِيَامَة من الْحَوْض.
1841 - / 2285 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة: ((سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله)) فَذكر فيهم: رجلا قد تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه.
قد ذكر النَّاس فِي هَذَا أقوالا: فَقَالَ بَعضهم: لَا يعلم جليسه عَن شِمَاله. وَقَالَ قوم: لَا يرائي بِنَفَقَتِهِ فَلَا يَكْتُبهَا صَاحب الشمَال.
وَالصَّوَاب أَنه للْمُبَالَغَة، وَأَنه بَالغ فِي الكتم، فَلَو تصور أَن لَا تعلم شِمَاله مَا علمت.
1842 - / 2286 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: ((إِن الْإِيمَان ليأرز إِلَى الْمَدِينَة)) أَي يجْتَمع إِلَيْهَا بِهِجْرَة الْمُهَاجِرين.
1843 - / 2287 - والْحَدِيث الْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد وَغَيره.

(3/398)


1844 - / 2288 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((يُوشك الْفُرَات أَن يحسر عَن كنز من ذهب)) وَفِي رِوَايَة ((عَن جبل)) .
يُوشك: أَي يقرب، يُقَال: أوشك الشَّيْء، وَأمر وشيك: أَي قريب. ويحسر: يكْشف.
1845 - / 2289 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((إِن العَبْد ليَتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ مَا يتَبَيَّن فِيهَا، يزل بهَا فِي النَّار أبعد من الْمشرق وَالْمغْرب)) .
يتَبَيَّن من الْبَيَان: أَي إِنَّه مَا بَينهَا بِعِبَارَة تَامَّة.
والبال: الْقلب. ويلقي بِالْقَافِ من الْإِلْقَاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَو ألْقى السّمع} [ق: 37] أَي أحضرهُ. وَالْمعْنَى: لَا يحضر لَهَا قلبه كل الْحُضُور. وَمن قَرَأَهُ بِالْفَاءِ فغلط؛ لِأَنَّهُ لَا معنى لَهُ هَا هُنَا.
وَهَذِه الْكَلِمَات لَيست مِمَّا تعلم عَنهُ، بل لَو قَالَ للوالي الجائر: النَّاس فِي زَمَانك فِي عَيْش. أَو قَالَ عِنْد غيبَة الْمُسلم: يسْأَل الله الْعَافِيَة، خفت أَن تكون هَذِه من كَلِمَات الشَّرّ الَّتِي تووعد عَلَيْهَا. وَلَو قَالَ للجائر: إِنَّك مسئول عَن رعيتك، رَجَوْت أَن تكون من الْكَلِمَات الَّتِي يرفع بهَا.

(3/399)


1846 - / 2290 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فليستنثر ثَلَاث مَرَّات، فَإِن الشَّيْطَان يبيت على خياشيمه)) .
النثرة: الْأنف. والخياشيم: الأنوف. فَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الإستنشاق، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الإمتخاط.
1847 - / 2291 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: نهى أَن تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، وَالْمَرْأَة على خَالَتهَا.
إِنَّمَا نهى عَن الْجمع بَين هَاتين لِأَن التنافس يَقع بَين الضرائر فَيحصل بَين هَاتين التقاطع.
وَقَوله: ((طَلَاق أُخْتهَا)) ينْهَى ضَرَّتهَا، فَهِيَ أُخْتهَا فِي الْإِسْلَام ومماثلتها فِي الزَّوْج. وتكتفىء ((تفتعل)) : من كفأت الْقدر: إِذا كببتها لتفرغ مَا فِيهَا. والصحفة: الْقَصعَة.
وَقد بَينا فِي الحَدِيث الْخمسين من هَذَا الْمسند أَن النَّهْي عَن خطْبَة الرجل على خطْبَة أَخِيه إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا كَانَت الْمَرْأَة قد سكنت إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي السّوم.
1848 - / 2292 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((يُسْتَجَاب لأحدكم مَا لم يعجل، يَقُول: قد دَعَوْت فَلم يستجب لي،

(3/400)


فيستحسر عِنْد ذَلِك ويدع الدُّعَاء)) .
اعْلَم أَن الله عز وَجل لَا يرد دُعَاء الْمُؤمن، غير أَنه قد تكون الْمصلحَة فِي تَأْخِير الْإِجَابَة، وَقد لَا يكون مَا سَأَلَهُ مصلحَة فِي الْجُمْلَة فيعوضه عَنهُ مَا يصلحه. وَرُبمَا أخر تعويضه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَيَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَلا يقطع الْمَسْأَلَة لِامْتِنَاع الْإِجَابَة؛ فَإِنَّهُ بِالدُّعَاءِ متعبد، وبالتسليم إِلَى مَا يرَاهُ الْحق لَهُ مصلحَة مفوض.
ويستحسر بِمَعْنى يَنْقَطِع، من قَوْله عز وَجل: {وَلَا يستحسرون} [الْأَنْبِيَاء: 19] .
1849 - / 2293 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((لِأَن يحتطب أحدكُم حزمة على ظَهره خير من أَن يسْأَل)) وَهَذَا سبق فِي مُسْند الزبير.
وَفِيه ((ذَلِك بِأَن الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى)) وَهَذَا قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1850 - / 2294 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.

(3/401)


1851 - / 2295 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((من قذف مَمْلُوكه وَهُوَ بَرِيء مِمَّا قَالَ جلد يَوْم الْقِيَامَة)) .
اعْلَم أَن الْمَمْلُوك عبد لله كَمَا أَن الْمَالِك عبد لَهُ، وَالْحق عز وَجل عَادل، فَإِذا لم يجلد لموْضِع قذفه لَهُ فِي الدُّنْيَا من جِهَة استعلائه عَلَيْهِ بالملكة جلد لَهُ فِي الْقِيَامَة. أخبرنَا الْمُبَارك بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ ابْن الْفَتْح قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن سكينَة قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد ابْن الْقَاسِم بن مهْدي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن أبي قيس قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو بكر الْقرشِي قَالَ: حَدثنِي هَارُون بن سُفْيَان قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر عَن إِسْمَاعِيل بن أبي سعيد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: من النَّاس من يقتل يَوْم الْقِيَامَة وَيقطع، يقْتَصّ مِنْهُ. وَعَن إِسْمَاعِيل بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِن من النَّاس من يقتل يَوْم الْقِيَامَة ألف قتلة، يَعْنِي: يقْتَصّ مِنْهُ.
1852 - / 2296 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((من غَدا إِلَى الْمَسْجِد أَو رَاح أعد الله لَهُ نزلا)) .
النزل: مَا يهيأ للنزيل، والنزيل: الضَّيْف.
1853 - / 2297 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((لَيْسَ الْمِسْكِين بِالَّذِي ترده التمرة وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي يتعفف)) .

(3/402)


الْمِسْكِين اسْم مَأْخُوذ من المسكنة، والمسكنة ((مفعلة)) من السّكُون، كَأَن الْحَاجة أسكنته ومنعته التَّصَرُّف.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي صفة الْفَقِير والمسكين على سِتَّة أَقْوَال قد ذَكرنَاهَا فِي التَّفْسِير. والمنصور مِنْهَا عندنَا أَن الْمِسْكِين أحسن حَالا من الْفَقِير؛ لِأَن الْفَقِير أَصله فِي اللُّغَة المفقور الَّذِي نزعت فقرة من فقر ظَهره، فَكَأَنَّهُ انْقَطع ظَهره من شدَّة الْفقر، فصرف عَن مفقور إِلَى فَقير، كَمَا قيل: جريح وطريح وطبيخ، حَكَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره.
إِلَّا أَن هَذَا الحَدِيث قد جعل من لَا يسْأَل لسكوته أعظم حَاجَة من السَّائِل، وَقد نبه على تحري المتعففين بِالصَّدَقَةِ دون الملحفين؛ فَإِن الْمُلْحِف غَنِي بسؤاله، والإلحاف كَثْرَة السُّؤَال.
1854 - / 2298 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((مَا يُصِيب الْمُؤمن من وصب وَلَا نصب حَتَّى الْهم إِلَّا كفر بِهِ من سيئاته)) .
الوصب: الْمَرَض والألم. وَالنّصب: الإعياء والتعب. والهم: مرض يخْتَص بِهِ الْبَاطِن، فَلذَلِك يكفر بِهِ عَن السَّيِّئَات.
1855 - / 2299 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أمرت بقرية تَأْكُل الْقرى يَقُولُونَ يثرب، وَهِي الْمَدِينَة)) .
الْقرْيَة: اسْم لما يجمع جمَاعَة من النَّاس، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْجمع، وَمِنْه: قريت المَاء فِي الْحَوْض.

(3/403)


وَفِي معنى تَأْكُل الْقرى قَولَانِ: أَحدهمَا: يَأْكُل أَهلهَا الْقرى: أَي يفتحون الْقرى فيأكلونها. أخبرنَا عبد الْحق بن عبد الْخَالِق قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد لن مَرْزُوق قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن عمر الْمُقْرِئ قَالَ: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عَليّ الخطبي قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أمرت بقرية تَأْكُل الْقرى)) قَالَ: تَفْسِيره - وَالله أعلم - تفتح الْقرى، فتحت مَكَّة بِالْمَدِينَةِ، وَمَا حول الْمَدِينَة بهَا. وَالثَّانِي: تفرغ الْقرى بِوُجُوب الْهِجْرَة إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا أكلتها.
وَأما يثرب فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يثرب اسْم أَرض، ومدينة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَاحيَة مِنْهَا. وَالْمَدينَة إِذا أطلقت أُرِيد بهَا دَار الْهِجْرَة الَّتِي فِيهَا بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومنبره وقبره. وَقد سبق بَيَان اشتقاق الْمَدِينَة فِي أول الْكتاب.
وَقَوله: ((تَنْفِي النَّاس)) أَي تخرج من لَا يصلح ((كَمَا يَنْفِي الْكِير)) وَهُوَ الْمَبْنِيّ للنار الَّتِي يدْخل فِيهَا الْحَدِيد. وخبث الْحَدِيد: رَدِيئَة.
1856 - / 2300 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((إِن الرَّحِم شجنة من الرَّحْمَن)) .

(3/404)


أَي وَصله. وأصل ذَلِك الْغُصْن من أَغْصَان الشّجر إِذا التف بِالْآخرِ، قَالَ أَبُو عبيد: شجنة: أَي قرَابَة مشتبكة كاشتباك الْعُرُوق، وَكَأن قَوْلهم: ((الحَدِيث ذُو شجون)) مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ تمسك بعضه بِبَعْض وَقَالَ: هَذَا شجر متشجن: إِذا التف بعضه بِبَعْض. والشجنة والشجنة كالغصن يكون من الشّجر.
وَهَذَا الحَدِيث لَا يَخْلُو مَعْنَاهُ من أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا أَن يُرَاد أَن الْحق عز وَجل يُرَاعِي الرَّحِم بوصل من وَصلهَا وَقطع من قطعهَا وَالْأَخْذ لَهَا بِحَقِّهَا، كَمَا يُرَاعِي الْقَرِيب قرَابَته، فَإِنَّهُ يزِيدهُ فِي المراعاة على الْأَجَانِب. أَو أَن يُرَاد أَن الرَّحِم بعض حُرُوف الرَّحْمَن، فَكَأَنَّهُ عظم قدره بِهَذَا الِاسْم.
1857 - / 2302 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((مَا تصدق أحد بِصَدقَة من طيب - وَلَا يتَقَبَّل الله إِلَّا الطّيب - إِلَّا أَخذهَا الرَّحْمَن بِيَمِينِهِ)) .
الطّيب: الْحَلَال.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَإِنَّمَا جرى ذكر الْيَمين ليدل بِهِ على حسن الْقبُول، لِأَن فِي عرف النَّاس أَن أَيْمَانهم مرصدة لما عز من الْأُمُور.
وَمعنى التربية المضاعفة.

(3/405)


وَأما الفلو فَهُوَ المفطوم، يُقَال: فلوته عَن أمه: أَي فَطَمته، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُحْتَاج إِلَى تربية غير الْأُم.
والفصيل: ولد النَّاقة إِذا فصل عَن أمه، وَأَصله من الْقطع، يُقَال: فصلت الشَّيْء من الشَّيْء.
والقلوص: الصَّغِير من الْإِبِل، وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن القلوص النَّاقة القوية على السّير من الْإِبِل، فَيكون الْمَعْنى: كَمَا تربى هَذِه النَّاقة إِلَى أَن تصير قلوصا.
1858 - / 2303 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أَيّمَا رجل أعتق امْرأ مُسلما استنقذ الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ حَتَّى فرجه بفرجه)) .
الإستنقاذ: الإستخلاص. والإرب: الْعُضْو. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على فضل عتق الذّكر على الْأُنْثَى.
1859 - / 2304 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أذْنب عبد فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لي)) فَذكر الحَدِيث، وَأَنه عاود مرَارًا، فَقَالَ الله: ((قد غفرت لعبدي، فَلْيفْعَل مَا شَاءَ)) .
وَجه هَذَا الحَدِيث أَن التَّوْبَة لَا تعجز عَن أحد وَإِن عاود الذُّنُوب،

(3/406)


فَمن صدق فِي تَوْبَته ثمَّ قدر لَهُ أَن يعود من غير عزم عِنْد التَّوْبَة على الْعود، فتوبته مَقْبُولَة.
1860 - / 2305 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: حَدِيث الأبرص والأقرع وَالْأَعْمَى، وَأَن أحدهم أعطي نَاقَة عشراء.
العشراء: وَاحِدَة العشار: وَهِي النوق الْحَوَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا عشرَة أشهر.
قَوْله: ((فأنتج هَذَانِ)) الناتج للنوق كالقابلة للنِّسَاء، وَالْمعْنَى: افْتقدَ مَا تَلد عِنْد وِلَادَته. ((وَولد هَذَا)) أَي فعل كَفعل الناتج.
والمولدة: الْقَابِلَة.
والحبال: العهود والوسائل وكل مَا يُرْجَى بِهِ الْفرج، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قد انْقَطَعت بِي الْأَسْبَاب الَّتِي كنت أَرْجُو التَّوَصُّل فِي سَفَرِي. فَلَا بَلَاغ. الْبَلَاغ وَالْبُلُوغ: الْوُصُول إِلَى الْغَرَض الْمَقْصُود.
وَقَوله: ((ورثته كَابِرًا عَن كَابر)) أَي كَبِيرا عَن كَبِير فِي الشّرف والعز.
وَقَوله: ((لَا أجهدك)) أَي لَا أشق عَلَيْك بِالرَّدِّ والإمتنان.
وَقد جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح وَلم يذكرهُ الْحميدِي: ((أَن ثَلَاثَة بَدَأَ الله أَن يبتليهم)) كَذَلِك رَوَاهُ الْخطابِيّ وَقَالَ: مَعْنَاهُ: قضى الله، وَهُوَ معنى البدء، لِأَن الْقَضَاء سَابق. قَالَ: وَقد رَوَاهُ بَعضهم: ((بدا لله أَن يبتليهم)) وَهُوَ غلط؛ لِأَن البداء على الله غير جَائِز.

(3/407)


1861 - / 2306 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث: إِذا حدث كذب، وَإِذا وعد أخلف، وَإِذا اؤتمن خَان)) .
الْآيَة: الْعَلامَة.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: النِّفَاق لفظ إسلامي لم تكن الْعَرَب تعرفه قبل الْإِسْلَام، وَهُوَ مَأْخُوذ من نافقاء اليربوع: وَهُوَ جُحر من جحرته يخرج مِنْهُ إِذا أَخذ عَلَيْهِ الْجُحر الَّذِي دخل فِيهِ، قَالَ: وَقَالَ الزيَادي عَن الْأَصْمَعِي: ولليربوع أَرْبَعَة حجرَة: النافقاء وَهُوَ الَّذِي يخرج مِنْهُ كثيرا وَيدخل مِنْهُ كثيرا. والقاصعاء سمي بذلك لِأَنَّهُ يخرج تُرَاب الْجُحر ثمَّ يقصع بِبَعْضِه، كَأَنَّهُ يسد بِهِ فَم الْجُحر، وَمِنْه يُقَال: جرح فلَان قد قصع بِالدَّمِ: إِذا امْتَلَأَ وَلم يسل. والداماء سمي بذلك لِأَنَّهُ يخرج التُّرَاب من فَم الْجُحر، كَأَنَّهُ يطليه بِهِ، وَمِنْه يُقَال: ادمم قدرك بشحم: أَي اطلها بِهِ. والراهطاء، وَلم يذكر اشتقاقه. وَإِنَّمَا يتَّخذ هَذِه الْحُجْرَة عددا لَهُ، فَإِذا أَخذ عَلَيْهِ بَعْضهَا خرج من بعض. قلت: فَيخرج من هَذَا فِي تَسْمِيَة الْمُنَافِق منافقا ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يدْخل فِي الْإِسْلَام بِاللَّفْظِ وَيخرج مِنْهُ بِالْعقدِ، كَمَا يدْخل اليربوع من بَاب وَيخرج من بَاب، قَالَه أَبُو زيد النَّحْوِيّ. وَالثَّانِي: أَنه يستر كفره كَمَا يسْتَتر اليربوع. وَالثَّالِث: أَنه يظْهر غير مَا يضمر، كَمَا أَن ظَاهر جُحر

(3/408)


اليربوع تُرَاب كالأرض وَمَا تَحْتَهُ حفر.
وَقَوله: ((وَإِذا وعد أخلف)) خلف الْوَعْد: الرُّجُوع عَنهُ، وَهَذَا مَحْمُول على من وعد وَهُوَ على عزم الْخلف، أَو ترك الْوَفَاء من غير عذر، فَأَما من عزم على الْوَفَاء فَعرض لَهُ عذر مَنعه من الْوَفَاء فَلَيْسَ بمنافق، إِلَّا أَنه يَنْبَغِي أَن يحتزر من صُورَة النِّفَاق كَمَا يحْتَرز من حَقِيقَته.
وأصل الْخِيَانَة النَّقْص، يُقَال: فلَان يتخونني حَقي: أَي يتنقصني.
1862 - / 2307 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة: ((إِذا دخل رَمَضَان سلسلت الشَّيَاطِين)) . أَي: جعلت فِي السلَاسِل.
فَإِن قيل: إِذا سلسلت الشَّيَاطِين فَكيف تقع الْمعاصِي؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمعاصِي تقع بميل الطَّبْع إِلَى الشَّهَوَات الْمُحرمَة، وَلَيْسَ للشَّيْطَان إِلَّا التزيين والتحريض، وَإِذا بعد المحرض عَن الْمِقْدَام لم يبطل إقدامه.
1863 - / 2308 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: انطلقنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ عبد لَهُ، فَجَاءَهُ سهم عائر.
العائر من السِّهَام وَالْحِجَارَة: الَّذِي لَا يدرى من أَيْن أَتَى.
وَهَذَا العَبْد اسْمه مدعم، وَقد ذكر فِي الحَدِيث. وَكَانَ لرَسُول الله

(3/409)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من أَرْبَعِينَ مولى قد حصرت أَسْمَاءَهُم فِي كتاب ((التلقيح)) .
1864 - / 2310 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((اجتنبوا السَّبع الموبقات)) يَعْنِي المهلكات.
1865 - / 2311 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يقوم رجل من قحطان يَسُوق النَّاس بعصاه)) .
إِنَّمَا ضرب الْعَصَا مثلا، وَالْمعْنَى أَن النَّاس ينقادون وَله ويطيعونه كَمَا ينقاد المسوق بالعصا، وَمثل هَذَا: وَلَا ترفع عصاك عَن أهلك.
أَي: لَا تتْرك حملهمْ على الإنقياد والتزام الطَّاعَة، وَلم يرد الْعَصَا الَّتِي يضْرب بهَا.
1866 - / 2312 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((يعرق النَّاس حَتَّى يذهب عرقهم فِي الأَرْض سبعين باعا)) .
الباع والبوع: مَا بَين طرفِي الذراعين إِذا مدتا يَمِينا وَشمَالًا. وَذكر الإلجام اسْتِعَارَة، وَالْمعْنَى أَنه يبلغ إِلَى آذانهم، وَهُوَ مَوضِع اللجام من الدَّابَّة.
1867 - / 2313 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: {وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم} [الْجُمُعَة: 3] . فَوضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده

(3/410)


على سلمَان ثمَّ قَالَ: ((لَو كَانَ الْإِيمَان عِنْد الثريا لَنَالَهُ رجال من هَؤُلَاءِ)) أَو قَالَ: ((من أَبنَاء فَارس)) .
قَوْله: (وَآخَرين) مَعْطُوف على مَا قبله. وَالْمعْنَى: هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين - وهم الْعَرَب. وَسموا أُمِّيين لأَنهم لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يقرأون، نِسْبَة إِلَى الْأُمَّهَات، إِذْ الْخط فِي الرِّجَال لَا فِي النِّسَاء غَالِبا.
(رَسُولا) يَعْنِي مُحَمَّدًا. (مِنْهُم) أَي من جنسهم ونسبهم ليكونوا أفهم عَنهُ من غَيره. (وَآخَرين) أَي وَبعث مُحَمَّدًا فِي آخَرين: وَفِيهِمْ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم الْعَجم، قَالَه ابْن عمر وَسَعِيد بن جُبَير، فعلى هَذَا إِنَّمَا قَالَ: (مِنْهُم) لأَنهم إِذا أَسْلمُوا صَارُوا مِنْهُم، إِذْ الْمُسلمُونَ يَد وَاحِدَة. وَالثَّانِي: أَنهم التابعون، قَالَه مُجَاهِد. وَالثَّالِث: جَمِيع من دخل فِي الْإِسْلَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه مُجَاهِد.
وَقَوله: {لما يلْحقُوا بهم} أَي لم يلْحقُوا بهم.
فَأَما فَارس فَهُوَ ابْن سَام بن نوح. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: فَارس اسْم أبي هَذَا الجيل من النَّاس، أعجمي مُعرب.
1868 - / 2314 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة)) .

(3/411)


قَالَ ابْن دُرَيْد: الفرسن: ظَاهر الْخُف، وَالْجمع فراسن.
1869 - / 2315 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((مَا من الْأَنْبِيَاء نَبِي إِلَّا أعطي من الْآيَات مَا مثله آمن عَلَيْهِ الْبشر، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتيت وَحيا أوحاه الله إِلَيّ)) .
الْإِشَارَة بِالْآيَاتِ إِلَى الحسيات كناقة صَالح وعصا مُوسَى وإحياء الْمَوْتَى، فَهَذِهِ معجزات ترى بِعَين الْحس، ومعجزة نَبينَا الْكُبْرَى هِيَ الْقُرْآن الفصيح، فَهِيَ تشاهد بِعَين الْعقل. وَقد كَانَ فِي جُمْهُور الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة بلادة حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ: {اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} والبليد لَا يصلح إِلَّا بآيَات الْحس. وَالَّذين بعث إِلَيْهِم نَبينَا كَانُوا أَرْبَاب ذكاء وفطنة فكفاهم الْقُرْآن معْجزَة؛ غير أَن الْقَضَاء قضى على قوم من أذكيائهم بالشقاء مَعَ وجود الْفَهم، كَمَا قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: تِلْكَ عقول كادها بارئها فأنفوا لكبرهم من ذل الإتباع، وغاروا على سلفهم من تخطئتهم فِي عبَادَة الْأَصْنَام، وحسدوا الرَّسُول لما ميز عَنْهُم، {إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر مَا هم ببالغيه} [غَافِر: 56] على أَنه لم يكن للأنبياء معْجزَة إِلَّا ولنبينا من جِنْسهَا، فَإِن الرعب الَّذِي أيد بِهِ كَانَ يُوقع فِي قُلُوب أعدائه مَا لم توقعه عَصا مُوسَى فِي قلب فِرْعَوْن، ونبع المَاء من بَين أَصَابِعه أحسن من ظُهُوره من حجر مُوسَى، إِذْ الْعَادة قد جرت

(3/412)


بجريانه من حجر، وخطاب الذِّرَاع المسموم لَهُ أعجب من تكليم الْمَوْتَى لعيسى.
1870 - / 2317 - والْحَدِيث الْخَمْسُونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأبي سعيد.
1871 - / 2319 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: قيل: يَا رَسُول الله، من أكْرم النَّاس؟ قَالَ: ((أَتْقَاهُم)) .
هَذَا مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13] وَالْكَرم بِمَعْنى الشّرف. وَمن اتَّقى الله عز وَجل عز وَشرف؛ لِأَن التَّقْوَى تحمله على أَسبَاب الْعِزّ؛ فَإِنَّهَا تبعده عَن الطمع فِي كثير من الْمُبَاح فضلا عَن المأثم. وَمَا ذل إِلَّا من أسره هَوَاهُ.
وَأما ذكره ليوسف فَيحْتَمل أَمريْن: أَحدهمَا: أَن يكون خصّه بِالذكر لِاجْتِمَاع شرف نبوته مَعَ شرف آبَائِهِ. وَالثَّانِي: لِصَبْرِهِ عَن الْهوى؛ فَإِنَّهُ شرف الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
ومعادن الْعَرَب: أصولهم الَّتِي ينتسبون إِلَيْهَا ويتفاخرون بهَا، والمعدن مَرْكَز كل شَيْء وَأَصله الَّذِي يعرف بِهِ وَيُؤْخَذ مِنْهُ، فَإِذا ركز الشّرف فِي الطَّبْع فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ جَاءَ الْإِسْلَام صَارَت المآثر دينية، فَأَما من هُوَ خسيس الهمة فِي كفره، فَقل أَن تعلو همته؛ لِأَن الطَّبْع غَالب.

(3/413)


1872 - / 2320 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((فاظفر بِذَات الدّين تربت يداك)) .
قد شرحناه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1873 - / 2321 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: دخل رجل فصلى وَسلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرد فَقَالَ: ((ارْجع فصل، فَإنَّك لم تصل)) ثمَّ علمه الصَّلَاة، وَذكر لَهُ الطُّمَأْنِينَة.
وَهَذَا يدل على وجوب الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالرَّفْع مِنْهُمَا، وَتلك أَرْكَان عندنَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَدَاوُد خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر)) وَقد احْتج بِهِ الحنفيون وَقَالُوا: هَذَا يدل على أَنه لَا يتَعَيَّن الْفَاتِحَة. وجوابهم أَنه يحْتَمل أَن يكون ذَلِك قبل نزُول الْفَاتِحَة وتعيينها، وَأَن يكون وَقت الصَّلَاة قد ضَاقَ وَهُوَ يحفظ غَيرهَا، فَيجوز لَهُ قِرَاءَة مَا يحفظ، وَأَن يكون المُرَاد بِمَا تيَسّر مَا بعد الْفَاتِحَة، وَلم يذكرهَا اتكالا على الْعلم بِوُجُوبِهَا.
وَإِذا جَازَت على الحَدِيث هَذِه المحتملات لم يجز ترك الصَّرِيح، وَهُوَ قَوْله: ((لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب)) .

(3/414)


فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ للرسول عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُؤَخر الْبَيَان وَقت الْحَاجة ويردد هَذَا الرجل إِلَى صَلَاة لَيست صَحِيحَة؟ فَالْجَوَاب: من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون ترديده لتفخيم الْأَمر وتعظيمه عِنْده، وَرَأى أَن الْوَقْت لم يفت، فَأَرَادَ بالترداد إيقاظ الفطنة للمتروك. وَالثَّانِي: أَن يكون الرجل قد أدّى قدر الْوَاجِب فَأَرَادَ مِنْهُ فعل الْمسنون وَالْمُسْتَحب، فَيكون قَوْله: ((لم تصل)) يَعْنِي بِهِ الصَّلَاة الْكَامِلَة.
1874 - / 2322 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ بعد الْمِائَة: ((إِذا زنت الْأمة فليجلدها الْحَد وَلَا يثرب عَلَيْهَا)) .
أَي لَا يعيرها بعد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لسِتَّة أَشْيَاء: أَحدهَا: لِأَن الْمَقْدُور كَائِن. وَالثَّانِي: لِأَن الْهوى غَالب. وَالثَّالِث: لِأَن الْحَد حد عقوبتها الشَّرْعِيَّة، فَلَا يُزَاد عَلَيْهَا مَا لم يشرع. وَالرَّابِع: أَنَّهَا رُبمَا تكون قد نَدِمت وتابت. وَالْخَامِس: أَنه رُبمَا سمع تعييره لَهَا من لم يكن يعلم حَالهَا. وَالسَّادِس: أَنه من يَأْمَن الْمُعير أَن يبتلى.
1875 - / 2323 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((إِذا أَوَى أحدكُم إِلَى فرَاشه فلينفضه بداخلة إزَاره، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي مَا خلف عَلَيْهِ)) .
أَوَى مَقْصُور، يُقَال: أَوَى يأوي أويا: أَي صَار إِلَى مَأْوَاه،

(3/415)


والمأوى: الْمَكَان الَّذِي يؤوى إِلَيْهِ.
وداخلة الْإِزَار: طرفه الَّذِي يَلِي الْجَسَد.
وَقَوله: ((لَا يدْرِي مَا خلف عَلَيْهِ)) أَي مَا صَار بعده خلفا وبدلا مِنْهُ إِذا غَابَ عَنهُ من الْهَوَام وَغَيرهَا.
وَأما الإضطجاع على الشق الْأَيْمن فقد ذكرنَا فَائِدَته فِي مُسْند الْبَراء ابْن عَازِب.
1876 - / 2324 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: حَدِيث ثُمَامَة بن أَثَال، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أسره ربطه بِسَارِيَة، فَذكر الحَدِيث وَفِيه: ((أطْلقُوا ثُمَامَة)) فَانْطَلق إِلَى نخل قريب من الْمَسْجِد فاغتسل.
فِي هَذَا الحَدِيث أَن هَذَا الرجل لم يسلم من تَحت الْأسر لعزة نَفسه، وَكَأن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحس مِنْهُ بذلك فَقَالَ: ((أَطْلقُوهُ)) فَلَمَّا أطلق أسلم.
وَقَوله: انْطلق إِلَى نخل. هَكَذَا ضبطناه عَن أشياخنا نخل بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من فَوْقهَا، وَذَلِكَ أَن المَاء يكون فِي الْبَسَاتِين عِنْد النّخل. وَقد ذهب بعض الْمُحدثين إِلَى أَنه نجل بِالْجِيم الْمُعْجَمَة من تحتهَا وَقَالَ: النجل: النز. وَوجه هَذَا حَدِيث عَائِشَة الَّذِي يَأْتِي فِي مسندها: كَانَ بطحان - وَهُوَ وَاد بِالْمَدِينَةِ - يجْرِي نجلا - أَي نزا -

(3/416)


فَيمكن أَن يكون مضى إِلَى ذَلِك الْمَكَان، وَالْأول أظهر لما أخبرنَا بِهِ عَليّ بن عبد الله الزَّاغُونِيّ قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن النقور قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن مردك قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن حَمَّاد الطهراني قَالَ: أخبرنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ: أخبرنَا عبيد الله وَعبد الله ابْنا عمر عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة: أَن ثُمَامَة الْحَنَفِيّ أسر فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْدُو إِلَيْهِ فَيَقُول: ((مَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟)) فَيَقُول: إِن تقتل تقتل ذَا ذَنْب، وَإِن تمن تمن على شَاكر، وَإِن ترد المَال تعط مِنْهُ مَا شِئْت. وَكَانَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحبونَ الْفِدَاء وَيَقُولُونَ: مَا نصْنَع بقتل هَذَا؟ فَمن عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا، فَأسلم، فَحله وَبعث بِهِ إِلَى حَائِط أبي طَلْحَة، فَأمره أَن يغْتَسل، فاغتسل وَصلى رَكْعَتَيْنِ.
1877 - / 2325 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((لَا يمْنَع جَار جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره)) .
عندنَا أَنه يجوز للْجَار أَن يضع خَشَبَة فِي جِدَار جَاره عِنْد الْحَاجة إِلَى ذَلِك بِشَرْط أَلا يضير بِالْحَائِطِ، فَإِن امْتنع الْجَار أجْبرهُ الْحَاكِم على ذَلِك، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، إِلَّا أَنه قَالَ: لَا يحكم عَلَيْهِ الْحَاكِم بذلك. وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَا يجوز إِلَّا بِإِذن الْمَالِك. وَفِي الحَدِيث حجَّة لنا.

(3/417)


وَأما النَّهْي عَن الشّرْب من السقاء فقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1878 - / 2326 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((شَرّ الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة)) .
الْوَلِيمَة: طَعَام الْعرس، قَالَ أَبُو عبيد: الطَّعَام الَّذِي يصنع عِنْد الْعرس الْوَلِيمَة، وَالَّذِي عِنْد الإملاك النقيعة، وَطَعَام الْبناء الوكيرة، وَمَا يصنع عِنْد الْولادَة فَهُوَ الخرس، وَمَا يصنع عِنْد الْخِتَان فَهُوَ الْإِعْذَار. وكل طَعَام صنع بعد الدعْوَة فَهُوَ مأدبة ومأدبة. والنقيعة: مَا صنعه الرجل عِنْد قدومه من سَفَره.
فَإِن قيل: فَلم قَالَ: ((شَرّ الطَّعَام)) ؟ فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا ذكر حَالهَا على الْأَغْلَب، والأغلب منع الْفُقَرَاء المحتاجين وَجمع الْأَغْنِيَاء عَلَيْهَا. والإجابة إِلَيْهِ وَاجِبَة على مَا ذكرنَا فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
1879 - / 2327 - وَفِي الحَدِيث السِّتين بعد الْمِائَة: ((من شهد الْجِنَازَة حَتَّى يصلى عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاط)) .
ذكر القيراط تَمْثِيل وتقريب إِلَى الْفَهم، وَلما كَانَ الْإِنْسَان يعرف القيراط ويرغب فِيهِ وَيعْمل الْعَمَل فِي مُقَابلَته وعد من جنس مَا يعرف،

(3/418)


وَضرب لَهُ الْمثل بِمَا يعلم. وَكَانَ ابْن عقيل يَقُول: القيراط نصف سدس أَو نصف عشر دِينَار.
وَالْإِشَارَة بِهَذَا الْمِقْدَار إِلَى الْأجر الْمُتَعَلّق بِالْمَيتِ، من تَجْهِيزه وغسله وَدَفنه والتعزية بِهِ، وَحمل الطَّعَام إِلَى أَهله وتسليتهم، وَالصَّبْر على الْمُصَاب فِيهِ، فَكَانَ للْمُصَلِّي عَلَيْهِ قِيرَاط، وللذي يُصَلِّي ويلبث حَتَّى يدْفن قيراطان.
وَأما قَوْله: ((حَتَّى يوضع فِي اللَّحْد)) فقد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند أبي سعيد.
1880 - / 2329 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((قُرَيْش وَالْأَنْصَار وجهينة وَمُزَيْنَة وَأسلم وَأَشْجَع وغفار موَالِي، لَيْسَ لَهُم مولى دون الله وَرَسُوله)) .
الْمولى بِمَعْنى الْوَلِيّ. وَهَؤُلَاء أَسْلمُوا، فَلهَذَا تولاهم، وَقَالَ فِي بعض الحَدِيث: ((هَؤُلَاءِ خير عِنْد الله من أَسد وطي وغَطَفَان)) لِأَن أُولَئِكَ كَانُوا على العناد.
1881 - / 2330 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتُّونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم عِنْد الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين من هَذَا الْمسند.
1882 - / 2331 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((إِذا

(3/419)


سَمِعْتُمْ نهاق الْحمير فتعوذوا بِاللَّه من الشَّيْطَان)) .
نهاق الْحمير: صَوتهَا عِنْد الصياح. وَالْعرب تَقول: نهق الْحمار وشهق، وزقا الديك وسقع: إِذا صاحا.
والديكة بِكَسْر الدَّال وَفتح الْيَاء جمع ديك.
وَالْملك فِي الْأَغْلَب لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير، فَلذَلِك قَالَ: ((وسلوا الله من فَضله)) .
1883 - / 2332 - وَفِي اللحديث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ". . إِنَّهَا بَدَنَة، قَالَ: " اركبها، وَيلك " الْبَدنَة: هِيَ الَّتِي تهدى إِلَى بَيت الله عز وَجل، سميت بَدَنَة لأَنهم يستسمنونها. يُقَال: رجل بادن وبدين: إِذا عظم جِسْمه، وبدن: إِذا سمن، فَأَما بدن بتَشْديد الدَّال فمعناها: أسن.
وَالْوَيْل كلمة تقال لمن وَقع فِي هلكة، ويقولها هُوَ أَيْضا لنَفسِهِ.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَيُقَال: أَصله وي لفُلَان: أَي حزن لفُلَان، فَكثر الإستعمال للحرفين فوصلت اللَّام بوي وَجعلت حرفا وَاحِدًا، ثمَّ جبر عَن ويل بلام أُخْرَى.
وَقد ذكرنَا ركُوب الْبَدنَة فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.

(3/420)


1884 - / 2233 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((لَا يمش أحدكُم فِي نعل وَاحِدَة)) .
وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
وَأما الْبِدَايَة فِي اللّبْس بِالْيَمِينِ فلشرفها وتقديمها على الْيُسْرَى.
والبداية بِالْخلْعِ بالشمال ليزِيد مكث الْيُمْنَى إِكْرَاما لَهَا.
1885 - / 2334 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يمر الرجل بِقَبْر الرجل فَيَقُول: يَا لَيْتَني مَكَانَهُ)) .
هَذَا إِنَّمَا يكون لظُهُور الْفِتَن وَتغَير الْأَدْيَان، فيخاف الْمُؤمن على نَفسه فيتمنى الْمَوْت.
1886 - / 2335 - والْحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتُّونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عبد الله بن مُغفل.
1887 - / 2336 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تتلقى الركْبَان للْبيع)) .
وَأما تلقي الركْبَان وَالنَّهْي عَن أَن يَبِيع حَاضر لباد فقد سبقا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.

(3/421)


وَأما قَوْله: ((لَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض)) وَالنَّهْي عَن النجش، فقد سبقا فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما التصرية فأصلها الْحَبْس والإمساك. والمصراة: النَّاقة أَو الْبَقَرَة أَو الشَّاة الَّتِي قد صري اللَّبن فِي ضرْعهَا: أَي حقن، وَيُقَال: صريت المَاء وصريته، وَهَذَا مَاء صرى مَقْصُور، وَمِنْه سميت الصراة، كَأَنَّهَا مياه اجْتمعت. فالمصراة لَا تحلب أَيَّامًا ليعظم ضرْعهَا فيظن المُشْتَرِي أَن ذَلِك مِنْهَا كل يَوْم فيغتر بذلك فيشتري. وَهَذَا سَبَب لإِثْبَات خِيَار الرَّد، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل خلافًا لأبي حنيفَة، والْحَدِيث نَص لَا يُمكنهُم تَأْوِيله، غير أَن الْقَوْم تحيروا فِيهِ فَفرُّوا من الزَّحْف لَا إِلَى فِئَة. ثمَّ انقسموا: فَمنهمْ من اجترأ فَقَالَ: هَذَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَزعم أَن السّلف توقفوا فِي قبُول حَدِيثه، وَهَذَا كَلَام لَا يحل سَمَاعه إِلَّا لمنكر؛ لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع: أما الْكتاب فَإِن الله تَعَالَى أثنى على جَمِيع الصَّحَابَة، فَقَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار} [الْفَتْح: 29] وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} [الْبَقَرَة: 143] وَأما السّنة فَقَوله: ((إِن الله اختارني وَاخْتَارَ لي أصحابا)) . وَأما الْإِجْمَاع فمنعقد على عَدَالَة

(3/422)


أبي هُرَيْرَة، وَقد روى عَنهُ طَلْحَة بن عبيد الله وَأَبُو أَيُّوب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأنس وَغَيرهم من الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: كَانَ فِي الصَّحَابَة من يخْتَار التحديث بِمَا سَمعه من أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التحديث بِمَا سَمعه هُوَ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لجودة حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَضَبطه. وَقَالَ البُخَارِيّ: روى عَن أبي هُرَيْرَة من أَبنَاء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار سَبْعمِائة، وَمَا شكّ فِيهِ أحد قطّ. فَلَمَّا عجبوا من إكثاره قَالَ: كنت أحضر إِذا غَابُوا. وَقد ذكرنَا أَنه أَكثر الصَّحَابَة حَدِيثا، وَأَنه أخرج لَهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مَا لم يخرج لغيره، ومعظم الشَّرْع يَدُور على حَدِيثه، قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: حصرنا أَخْبَار الْأَحْكَام فَكَانَت ثَلَاثَة آلَاف، روى مِنْهَا أَبُو هُرَيْرَة ألفا وَسَبْعمائة.
وَقد روى بعض الْخُصُوم عَن هَذَا فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث يُخَالف الْأُصُول، وَلَا يقبل مَا يُخَالف الْأُصُول إِلَّا إِذا كَانَ رَاوِيه فَقِيها، وَلم يكن أَبُو هُرَيْرَة فَقِيها. فَالْجَوَاب: من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن الحَدِيث أصل فِي نَفسه، لِأَن الْأُصُول هِيَ الْقُرْآن وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس. فَإِن تعلقتم بِأَنَّهُ يُخَالف الْقيَاس فَالْقِيَاس فرع، فَكيف يقْدَح فِي الأَصْل. ويوضح هَذَا أَن الْقيَاس مستنبط يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ، والْحَدِيث الصَّحِيح قَول مَعْصُوم، فَوَجَبَ تَقْدِيمه. ثمَّ قد بَان لنا وَجه

(3/423)


الْحِكْمَة فِي ذكر الصَّاع، فصلح الْأَمر بِمَا بَان لنا أَن يكون مُوَافقا لِلْأُصُولِ لَا مُخَالفا لَهَا، وَذَلِكَ أَن اللَّبن لَا يدّخر فَيرد، وَلَا يعلم مِقْدَاره، والنزاع يَقع فِي إِيجَاب مثله أَو قِيمَته، وَهُوَ من أَمْوَال الرِّبَا، فَرُبمَا أَخذ فِي مُقَابلَته أَكثر مِنْهُ، فَجعل الشَّرْع مِقْدَارًا من غير الْجِنْس يقطع بِهِ التشاجر. وَالثَّانِي: أَن أَبَا حنيفَة قد ارْتكب مثل هَذَا، فَأجَاز الْوضُوء بالنبيد بِحَدِيث ضَعِيف يُخَالف الْقيَاس. وَالثَّالِث: أَن أَبَا حنيفَة يقدم قَول الصَّحَابِيّ على الْقيَاس، فَكيف لَا يقدم قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالرَّابِع: أَنا لَو رددنا من قضايا الشَّرْع مَا يُخَالف المطرد مِنْهَا لردت قضايا كَثِيرَة؛ فَإِن الشَّرْع قد قوم النَّفس بِمِائَة من الْإِبِل، ثمَّ جعل الْغرَّة فِي مُقَابلَة الْجَنِين، وَسوى فِي الدِّيَة بَين دِيَة اللِّسَان والعينين وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ، وَأوجب أهل الرَّأْي فِي الحاجبين وأهداب الْعَينَيْنِ وَفِي اللِّحْيَة الدِّيَة كَامِلَة، وَأَيْنَ مَنَافِع الحاجبين من اللِّسَان وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ؟ ثمَّ قد رَأينَا أَن الشَّرْع جبر نقص السن فِي الزَّكَاة بشاتين أَو عشْرين درهما، وَقد لَا يعتدل هَذَا فِي كل زمَان، فَوَجَبَ علينا أَن نعطي كل دَلِيل حكمه.
وَأما قَوْلهم: لَا يقبل إِلَّا إِذا كَانَ رَاوِيه فَقِيها. فَالْجَوَاب: أَن اشْتِرَاط الْفِقْه فِي الرَّاوِي تحكم لَا وَجه لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذ عَلَيْهِ الْعَدَالَة والضبط، وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((رب حَامِل فقه غير فَقِيه)) ثمَّ إِن الشَّهَادَة أَكثر شُرُوطًا. وَأما قَوْلهم: لم يكن أَبُو هُرَيْرَة فَقِيها. فَجَوَابه

(3/424)


من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه كَانَ من سَادَات الْفُقَهَاء الْمُفْتِينَ مَعَ كبار الصَّحَابَة، وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد مِنْهُم. وَالثَّانِي: أَن أَبَا حنيفَة قد قبل خَبره فِيمَن أكل نَاسِيا لصومه، وَفِي غير ذَلِك مِمَّا يُخَالف الْقيَاس.
وَالثَّالِث: أَنه لم يفرق أحد من الصَّحَابَة وَغَيرهم فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة بَين مَا يُوَافق الْقيَاس وَمَا يُخَالِفهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى رَأْيكُمْ.
وَقَوله: لَا سمراء. أَي لَا حِنْطَة. وَفِي لفظ: ورد مَعهَا صَاعا من طَعَام لَا سمراء. وَيَعْنِي بِالطَّعَامِ هَا هُنَا التَّمْر، فَعبر عَنهُ الرَّاوِي؛ لِأَن الْحِنْطَة لَا تجوز فِي مُقَابلَة هَذَا. وَأما مَا روى أَبُو دَاوُد: ((وَمَعَهَا صَاع من قَمح)) فيرويه جَمِيع بن عُمَيْر التَّمِيمِي، قَالَ ابْن نمير: هُوَ من أكذب النَّاس. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الحَدِيث. والقمح: الْبر.
وَحَدِيث الْمُصراة أصل فِي كل من بَاعَ سلْعَة وَقد زينها بِالْبَاطِلِ، فَإِذا رأى المُشْتَرِي الْغِشّ كَانَ لَهُ الرَّد.
1888 - / 2337 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ: ((فِيهِ سَاعَة لَا يُوَافِقهَا عبد مُسلم وَهُوَ قَائِم

(3/425)


يُصَلِّي يسْأَل الله شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ إِيَّاه)) - وَأَشَارَ بِيَدِهِ يقللها - يزهدها.
أما هَذِه السَّاعَة فقد اخْتلفت فِيهَا الْأَحَادِيث، وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي مُسْند أبي مُوسَى.
والإشكال فِي هَذَا الحَدِيث أَن يُقَال: كَيفَ يسْأَل وَهُوَ يُصَلِّي؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون السُّؤَال فِي الصَّلَاة، وَذَلِكَ على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون فِي التِّلَاوَة، فَإِنَّهُ إِذا قَرَأَ: {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} ) [الْبَقَرَة: 286] فقد سَأَلَ. وَالثَّانِي: أَن يسْأَل بعد الْقِرَاءَة، كَمَا سبق فِي مُسْند حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كَانَ إِذا مر بِآيَة رَحْمَة سَأَلَ، وَإِذا مر بِآيَة عَذَاب استعاذ. وَقد تكلمنا هُنَاكَ على هَذَا الحَدِيث، وَبينا هَل يجوز هَذَا فِي الْفَرْض أَو فِي النَّفْل.
وَالثَّالِث: أَن يسْأَل عِنْد انْقِضَاء التَّشَهُّد، فَإِنَّهُ يسن عندنَا أَن يَدْعُو عقب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِمَّا بآيَات من الْقُرْآن، أَو بِمَا صَحَّ فِي الحَدِيث، وَعند الشَّافِعِي: يَدْعُو بِمَا شَاءَ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يسلم وَيسْأل والساعة لم تنقض، فَيكون معنى سُؤَاله فِي الصَّلَاة: عِنْد فراغها.
ويزهدها فِي معنى يقللها.

(3/426)


1889 - / 2338 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أنس بن مَالك.
1890 - / 2339 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ)) .
يتعاقبون: يَأْتِي بَعضهم فِي عقب بعض.
قَوْله: ((ويجتمعون فِي صَلَاة الْعَصْر وَصَلَاة الْفجْر)) وَذَاكَ أَن مَلَائِكَة اللَّيْل تهبط عِنْد صَلَاة الْعَصْر، وملائكة النَّهَار تهبط قبل صَلَاة الْفجْر. وَإِنَّمَا فعل الْحق سُبْحَانَهُ ذَلِك ليظْهر للْمَلَائكَة فَضِيلَة هَذِه الْأمة، وَلِهَذَا فِي تَمام الحَدِيث: ((فَيَقُول لَهُم: كَيفَ تركْتُم عبَادي؟ فَيَقُولُونَ: تركناهم وهم يصلونَ، وأتيناهم وَهُوَ يصلونَ)) .
1891 - / 2340 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((مطل الْغَنِيّ ظلم)) .
قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: مطلت الحديدة أمطلها مطلا: إِذا مددتها لتطول، واشتقاق المطل فِي الْحَاجة مِنْهُ. وَدَلِيل قَوْله: ((مطل الْغَنِيّ ظلم)) أَنه إِذا لم يقدر على الْأَدَاء لم يكن بالمطل ظَالِما.
وَقَوله: ((وَإِن أتبع أحدكُم على مَلِيء فَليتبعْ)) قَالَ الْخطابِيّ:

(3/427)


أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: إِذا اتبع بتَشْديد التَّاء، وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب اتبع على وزن أفعل، وَالْمعْنَى: إِذا أُحِيل على مَلِيء فَليَحْتَلْ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِثْبَات الْحِوَالَة، وَأَن الْحق يتَحَوَّل بهَا إِلَى الْمحَال عَلَيْهِ وَيسْقط عَن الْمُحِيل، فَلَو توى المَال على الْمحَال عَلَيْهِ لم يرجع الْمحَال على الْمُحِيل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يرجع فِي موضِعين أَحدهمَا: أَن يجْحَد الْمحَال عَلَيْهِ الدّين وَيحلف عَلَيْهِ وَيَمُوت مُفلسًا، فَأَما إِن أفلس وَهُوَ حَيّ لم يرجع عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالك: إِن أَحَالهُ على مُفلس والمحتال لَا يعلم فَلهُ الرُّجُوع.
وَاخْتلف الْعلمَاء: هَل يعْتَبر رضى الْمُحْتَال؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يعْتَبر، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَفِي الْأُخْرَى: لَا يعْتَبر، فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون قَوْله ((فَليتبعْ)) على الْوُجُوب وعَلى غَيرهَا يكون ندبا. وَاخْتلفُوا فِي رضى الْمحَال عَلَيْهِ، فعندنا لَا يعْتَبر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يعْتَبر. وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ بَينهمَا عَدَاوَة اعْتبر رِضَاهُ، وَإِلَّا لزمَه.
1892 - / 2341 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ بعد الْمِائَة قد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.

(3/428)


1893 - / 2342 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يقتسم ورثتي دِينَارا)) وَهَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند أبي بكر.
1894 - / 2343 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((اختتن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بالقدوم)) .
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: الْقدوم مُخَفّفَة، وَهُوَ اسْم مَوضِع. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَكَذَلِكَ الْقدوم الَّذِي يعتمل بِهِ، خَفِيف أَيْضا.
1895 - / 2344 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو، فَإِذا لقيتموهم فَاصْبِرُوا)) .
اعْلَم أَن تمني لِقَاء الْعَدو يتَضَمَّن أَمريْن: أَحدهمَا: استدعاء الْبلَاء. وَالثَّانِي: ادِّعَاء الصَّبْر، وَمَا يدْرِي الْإِنْسَان كَيفَ يكون صبره على الْبلَاء. وَالْمُدَّعِي متوكل على قوته، معرض بِدَعْوَاهُ عَن مُلَاحظَة الأقدار وتصرفها، وَمن كَانَ كَذَلِك وكل إِلَى دَعْوَاهُ، كَمَا تمنى الَّذِي فَاتَتْهُمْ غزَاة بدر فَلم يثبتوا يَوْم أحد، وكما أعجبتهم كثرتهم يَوْم حنين فهزموا.
وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على أَنه لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يتَمَنَّى الْبلَاء بِحَال، وَقد قَالَ بعض السّلف: كنت أسأَل الله الْغَزْو، فَهَتَفَ بِي هَاتِف: إِنَّك

(3/429)


إِن غزوت أسرت، وَإِن أسرت تنصرت.
1896 - / 2345 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((إِنَّه ليَأْتِي الرجل الْعَظِيم السمين يَوْم الْقِيَامَة لَا يزن عِنْد الله جنَاح بعوضة)) .
الْبَعُوضَة: صَغِيرَة البق. وَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى أَن الْقدر إِنَّمَا يكون بِالْإِيمَان وَالتَّقوى، وَكم من عَظِيم الجثة لَا وَقع لَهُ، لِأَن الوقع إِنَّمَا يكون بالمعاني لَا بالصور. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} [الْكَهْف: 105] مَا لفُلَان عندنَا وزن: أَي قدر، لخسته. وَالْمعْنَى: لَا يعْتد بهم وَلَا يكون لَهُم عِنْد الله قدر وَلَا منزلَة.
1897 - / 2346 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لما خلق الله الْخلق كتب فِي كِتَابه، فَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش: إِن رَحْمَتي تغلب غَضَبي)) وَفِي لفظ: ((سبقت غَضَبي)) .
رُبمَا وَقع فِي وهم الْقَلِيل الْعلم أَن بعض صِفَاته قد سبق بَعْضًا، أَو غلب، أَو أَن ((عِنْده)) تَقْتَضِي مَكَانا يُوجب الْقرب إِلَى الذَّات وَلَيْسَ كَمَا يَقع لَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا الْخطاب على سَبِيل التَّقْرِيب إِلَى الأفهام مَا تعرفه من سبق الشَّيْء وغلبته، فَإِنَّهُ لما بَدَأَ سُبْحَانَهُ بالإنذار قبل التعذيب

(3/430)


وَحكم وأمهل وَعَفا، كَانَ معنى هَذَا سبق رَحمته وغلبتها، وَتَحْلِيل العندية على مَا نفهمه محَال فِي حَقه، وَقد قَالَ فِي حِجَارَة قوم لوط: {مسومة عِنْد رَبك} [هود: 83] أَي فِي قَبضته وَقدرته.
1898 - / 2347 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ بعد الْمِائَة: ((النَّاس تبع لقريش فِي هَذَا الشَّأْن، مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم)) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَفْضِيل قُرَيْش على سَائِر الْعَرَب، وتقديمهم فِي الْإِمَامَة والإمارة. وَقَوله: ((فِي هَذَا الشَّأْن)) يَعْنِي الْإِمَارَة. وَقَوله: ((مسلمهم تبع لمسلمهم)) هَذَا أَمر للْمُسلمِ بطاعتهم ومتابعتهم. وَقَوله: ((وكافرهم تبع لكافرهم)) حِكَايَة للْحَال الَّتِي كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة، وَالْمعْنَى: أَنهم مَا زَالُوا متبوعين، وَقد خصوا بالسدانة والسقاية إِلَى غير ذَلِك.
وَقَوله: ((النَّاس معادن)) قد سبق فِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: ((تَجِدُونَ من خير النَّاس أَشَّدهم كَرَاهِيَة لهَذَا الشَّأْن حَتَّى يَقع فِيهِ)) يَعْنِي الْإِمَارَة، فَإِن المتقي لله عز وَجل يكرهها من حَيْثُ الحذر على دينه، فَإِذا وَقع فِيهَا لم يشته الْعَزْل كَذَلِك، قَالَ بعض الصَّحَابَة لعمر وَقد عَزله: مَا سرتني الْولَايَة، وَلَا سَاءَنِي الْعَزْل.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: معنى الْكَلَام: إِذا وَقَعُوا فِيهَا لم يجز أَن يكرهوها لأَنهم إِن كَانَ قيامهم بهَا عَن كره ضيعوا حُقُوقهَا، فليقبلوا عَلَيْهَا

(3/431)


وليجتهدوا فِيهَا.
وَقَوله: ((تَجِدُونَ شَرّ النَّاس ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْه وَهَؤُلَاء بِوَجْه)) وَهَذَا مثل أَن يمدح رجلا فِي وَجهه ثمَّ يَأْتِي إِلَى عدوه.
1899 - / 2348 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين بعد الْمِائَة: ((لَو أَن رجلا اطلع عَلَيْك بِغَيْر إِذن فخذفته بعصاة ففقأت عينه مَا كَانَ عَلَيْك جنَاح)) قد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سهل بن سعد.
1900 - / 2349 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين بعد الْمِائَة: ((إِن أخنع الْأَسْمَاء عِنْد الله رجل تسمى ملك الْأَمْلَاك)) قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: سَأَلت أَبَا عَمْرو عَن أخنع فَقَالَ: أوضع.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْمَعْنى: أَشد الْأَسْمَاء ذلا وأوضعها. والخانع: الذَّلِيل الخاضع. وَكَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة يَقُول: هُوَ مثل شاهان شاه.
قَالَ: وَقَالَ غَيره: هُوَ أَن يتسمى الْإِنْسَان بأسماء الله تَعَالَى مثل الْعَزِيز والجبار. وَقد روى فِي بعض الْأَلْفَاظ: أنخع، ذكره أَبُو عبيد وَقَالَ: الْمَعْنى أقتل الْأَسْمَاء وأهلكها. والنخع هُوَ الْقَتْل الشَّديد، وَمِنْه النخع فِي الذَّبِيحَة: وَهُوَ أَن يجوز بِالذبْحِ إِلَى النخاع.

(3/432)


وَأما أخنى فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون من الْخَنَا فِي الْكَلَام: وَهُوَ الْفَاحِش، فَيكون الْمَعْنى: أفحش الْأَسْمَاء وأقبحها.
وَالثَّانِي: بِمَعْنى الْهَلَاك، يُقَال: أخنى عَلَيْهِم الدَّهْر، وَالثَّالِث: أَنه بِمَعْنى الْفساد، يُقَال: أخنيت عَلَيْهِ: أَي أفسدت.
1901 - / 2350 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين بعد الْمِائَة: ((قَالَ الله عز وَجل: ((أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت)) .
اعْلَم أَن الله عز وَجل وعد الصَّالِحين من جنس مَا يعرفونه من مطعم ومشرب وملبس ومنكح وَغير ذَلِك، ثمَّ زادهم من فَضله مَا لَا يعرفونه فَقَالَ: ((مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت)) وَلَا يخْطر على الْقلب تَصْوِير مَا لم ير وَلم يسمع، فَقَالَ: ((وَلَا خطر على قلب بشر)) .
وَقَوله: ((بله مَا أطْلعكُم عَلَيْهِ)) أَي سوى مَا أطْلعكُم. وَقَالَ أَبُو عبيد: دع مَا أطلعهم عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو زبيد الطَّائِي:
(حمال أثقال أهل الود آونة ... أعطيهم الْجهد مني بله مَا أسع))
فَإِن قيل: مَا معنى: دع مَا أطلعهم عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمَعْنى: إِن مَا أطلعهم عَلَيْهِ محتقر بِالْإِضَافَة إِلَى مَا لم يطلعوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر مَا يعرفونه أَولا لسببين: أَحدهمَا: لأنسهم بِمَا يعْرفُونَ. وَالثَّانِي: أَنه لَو وعدهم بِمَا لَا يعْرفُونَ لم يشتاقوا إِلَى مَا لم يعرفوا، ولطلبوا مَا

(3/433)


يعْرفُونَ، فَوَعَدَهُمْ مَا يعْرفُونَ وَزَادَهُمْ مَا لم يعرفوا.
1902 - / 2351 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: ((إِن لله تِسْعَة وَتسْعُونَ اسْما، من حفظهَا دخل الْجنَّة)) وَفِي لفظ: ((من أحصاها)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث إِثْبَات هَذِه الْأَسْمَاء، وَلَيْسَ فِيهِ نفي مَا عَداهَا من الزِّيَادَة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا وَقع التَّخْصِيص لهَذِهِ الْأَسْمَاء لِأَنَّهَا أشهر الْأَسْمَاء وأبينها مَعَاني، فجملة هَذَا الحَدِيث قَضِيَّة وَاحِدَة لَا قضيتان. فتمام الْفَائِدَة فِي خبر ((إِن)) فِي قَوْله: ((من أحصاها دخل الْجنَّة)) لَا فِي قَوْله: ((إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما)) . وَهَذَا بِمَنْزِلَة قَوْلك: إِن لزيد مائَة دِرْهَم أعدهَا للصدقة، فَلَا يدل ذَلِك على أَنه لَيْسَ عِنْده من الدَّرَاهِم أَكثر من ذَلِك، وَإِنَّمَا يدل على أَن الَّذِي أعده للصدقة هَذَا. وَيدل على هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث ابْن مَسْعُود: ((أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك، سميت بِهِ نَفسك، أَو أنزلته فِي كتابك، أَو عَلمته أحدا من خلقك، أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك)) فَهَذَا يدل على أَن لله

(3/434)


أَسمَاء لم ينزلها فِي كِتَابه حجبها عَن خلقه.
وَفِي قَوْله: ((إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما)) دَلِيل على أَن أشهر الاسماء وأعلاها فِي الذّكر ((الله)) وَلذَلِك أضيفت الْأَسْمَاء إِلَيْهِ.
فَأَما قَوْله: ((من أحصاها)) فَفِي مَعْنَاهُ أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن معنى الإحصاء الْعد، يُرِيد أَنه يعدها ليستوفيها حفظا، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: ((من حفظهَا)) . وَالثَّانِي: أَن يكون الإحصاء بِمَعْنى الطَّاقَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {علم أَن لن تحصوه} [المزمل: 20] أَي لن تُطِيقُوا قيام اللَّيْل، فَمَعْنَاه: من أطَاق الْعَمَل بهَا. وَبَيَان الْعَمَل بهَا أَن من أَسْمَائِهِ الْحَكِيم، فَالْعَمَل بذلك التَّحْكِيم لحكمته حَتَّى لَا يُوجد من العَبْد اعْتِرَاض على أَفعاله. وَمِنْهَا السَّمِيع، فَالْعَمَل بذلك الْحيَاء مِنْهُ وكف اللِّسَان عَن الْقَبِيح لِأَنَّهُ يسمع، وعَلى هَذَا سَائِر الْأَسْمَاء. وَهَذَا الْوَجْه اخْتِيَار ابْن عقيل. وَالثَّالِث: أَن يكون الإحصاء بِمَعْنى الْعقل والمعرفة، فَيكون مَعْنَاهُ: من عرفهَا وعقل مَعْنَاهَا وآمن بهَا دخل الْجنَّة، مَأْخُوذ من الْحَصَاة وَهُوَ الْعقل، قَالَ طرفَة:
(وَإِن لِسَان الْمَرْء مَا لم يكن لَهُ ... حَصَاة على عوراته لدَلِيل)

وَالْعرب تَقول: فلَان ذُو حَصَاة: أَي عقل. قَالَ الْخطابِيّ: وَالرَّابِع: أَن يكون المُرَاد بِالْحَدِيثِ: من قَرَأَ الْقُرْآن حَتَّى يختمه

(3/435)


فيستوفي هَذِه الْأَسْمَاء فِي الْقُرْآن، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَان عَن أبي عبد الله الزبيرِي.
فَلَمَّا رَأينَا فِي بعض طرق الصَّحِيح أَن معنى الإحصاء الْحِفْظ اخترنا ذَلِك الْوَجْه وَآثرنَا ذكر هَذِه الْأَسْمَاء لتحفظ. وَقد اخْتلفت أَلْفَاظ الروَاة فِي عدهَا، وَهَذَا سِيَاق مَا ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة من طَرِيق أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: الله، الرَّحْمَن، الرَّحِيم، الْملك، القدوس، السَّلَام، الْمُؤمن، الْمُهَيْمِن، الْعَزِيز، الْجَبَّار، المتكبر، الْخَالِق، البارئ، المصور، الْغفار، القهار، الْوَهَّاب، الرَّزَّاق، الفتاح، الْعَلِيم، الْقَابِض، الباسط، الْخَافِض، الرافع، الْمعز، المذل، السَّمِيع، الْبَصِير، الحكم، الْعدْل، اللَّطِيف، الْخَبِير، الْحَلِيم، الْعَظِيم، الغفور، الشكُور، الْعلي، الْكَبِير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الْجَلِيل، الْكَرِيم، الرَّقِيب، الْمُجيب، الْوَاسِع، الْحَكِيم، الْوَدُود، الْمجِيد، الْبَاعِث، الشَّهِيد، الْحق، الْوَكِيل، الْقوي، المتين، الْوَلِيّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الْحَيّ، القيوم، الْوَاجِد، الْمَاجِد، الْوَاحِد، الْأَحَد، الصَّمد، الْقَادِر، المقتدر، الْمُقدم، الْمُؤخر، الأول، الآخر، الظَّاهِر، الْبَاطِن، الْوَالِي، المتعالي، الْبر، التواب، المنتقم، الْعَفو، الرءوف، مَالك الْملك، ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام، المقسط، الْجَامِع، الْغَنِيّ، الْمُغنِي، الْمَانِع، الضار، النافع، النُّور، الْهَادِي، البديع، الْبَاقِي، الْوَارِث، الرشيد، الصبور.

(3/436)


وَقد رُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن الْحصين عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما)) فَذكرهَا، وعد مِنْهَا: الرب، المنان، الْكَافِي، البادئ، الدَّائِم، الْمولى، النصير، الْجَمِيل، الصَّادِق، الْمُحِيط، الْمُبين، الْقَرِيب، الفاطر، العلام، المليك، الأكرم، الْمُدبر، الْوتر، ذُو المعارج، ذُو الطول، ذُو الْفضل. غير أَن عبد الْعَزِيز هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي النَّقْل.
فصل: ونشير إِلَى تَفْسِير الْمُشكل من هَذِه الْأَسْمَاء: فَأَما الله فَروِيَ عَن الْخَلِيل رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه لَيْسَ بمشتق، وَالثَّانيَِة: أَنه مُشْتَقّ. وَقَالَ بعض من رَآهُ مشتقا: إِنَّه من الوله؛ لِأَن الْقُلُوب توله نَحوه. وَقَالَ قوم: أَله يأله بِمَعْنى عبد يعبد.
والقدوس: الطَّاهِر من الْعُيُوب.

(3/437)


وَالسَّلَام: الَّذِي سلم من كل عيب وَنقص.
وَالْمُؤمن: الَّذِي آمن الْمُؤمنِينَ من عَذَابه.
والمهيمن: الشَّهِيد.
والفتاح: الْحَاكِم.
وَالْحكم: الْحَاكِم أَيْضا.
وَالْعدْل: الَّذِي لَا يجور.
واللطيف: الْبر بعباده الَّذِي يلطف بهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ، ويسبب لَهُم مصالحهم.
والشكور: الَّذِي يشْكر الْيَسِير من الطَّاعَة فيثيب عَلَيْهِ.
والحفيظ: الْحَافِظ.
والمقيت: المقتدر.
والحسيب: الْكَافِي.
والجليل: الْعَظِيم.
والرقيب: الْحَافِظ.
وَفِي الْوَدُود وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون ((فعولًا)) فِي مَحل ((مفعول)) ، كَمَا يُقَال هيوب بِمَعْنى مهيب، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مودود فِي قُلُوب أوليائه. وَالثَّانِي: أَن يكون بِمَعْنى الواد، أَي أَنه يود عباده الصَّالِحين، بِمَعْنى أَنه يُحِبهُمْ ويرضى عَنْهُم.
والمجيد: الْوَاسِع الْكَرم.

(3/438)


قَالَ الْفراء: وَالْوَكِيل: الْكَافِي.
والمتين: الشَّديد الْقُوَّة.
وَالْوَلِيّ: النَّاصِر.
والحميد: الْمَحْمُود.
والقيوم: الْقَائِم الدَّائِم بِلَا زَوَال.
والواجد: الْغَنِيّ.
والماجد بِمَعْنى الْمجِيد.
والأحد: الْمُنْفَرد بالمعني الَّذِي لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد.
وَالْوَاحد: الْمُنْفَرد بِالذَّاتِ.
والصمد: السَّيِّد.
وَالظَّاهِر: بالحجج.
وَالْبَاطِن: المحتجب عَن الْأَبْصَار.
والوالي: الْمُتَوَلِي للأشياء.
والرءوف: الرَّحِيم.
وَمعنى ((ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام)) أَنه أهل أَن يجل وَيكرم.
والمقسط: الْعَادِل.
وَالْمَانِع: النَّاصِر.
وَمعنى النُّور: أَنه بنوره يبصر ذُو العماية.

(3/439)


والبديع: المبتدع.
وَالْوَارِث: الْبَاقِي بعد فنَاء الْخلق.
والرشيد: ((فعيل)) بِمَعْنى ((مفعل)) فَمَعْنَاه الَّذِي أرشد الْخلق إِلَى مصالحهم.
والصبور: الَّذِي لَا يعاجل العصاة.
والمنان: الْكثير الْعَطاء.
والبادئ بِمَعْنى المبدئ.
والجميل: الْمُجْمل.
والمبين: الْبَين أمره فِي الوحدانية.
والأكرم: الَّذِي لَا يوازيه كريم، وَقد يكون بِمَعْنى الْكَرِيم، كالأعز بِمَعْنى الْعَزِيز.
والمعارج: الدرج، فَهُوَ الَّذِي يصعد إِلَيْهِ بأعمال الْعباد.
والطول: الْفضل.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: الْوَاسِع: وَهُوَ الْغَنِيّ.
1903 - / 2352 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين بعد الْمِائَة: جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِفنَاء بَيت فَاطِمَة فَقَالَ: ((أَثم لكع؟)) .
الفناء: مَا حول الدَّار.

(3/440)


واللكع: الصَّغِير، إِمَّا فِي السن أَو فِي الْعلم أَو فِي الْقدر أَو فِي الْعقل. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هَذَا يُقَال على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: الإستصغار. وَالثَّانِي: الذَّم. وَالَّذِي أَرَادَهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإستصغار.
وَأما الَّذِي طلبه فَهُوَ الْحسن بن عَليّ.
والسخاب: القلادة. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ خيط ينظم فِيهِ خرز ويلبسه الصّبيان والجواري، وَالْجمع سخب. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هُوَ قلادة يتَّخذ خرزها من الطّيب من غير ذهب وَلَا فضَّة.
وَقَوله: فجَاء يشْتَد: أَي يعدو.
1904 - / 2353 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَة: ((نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة)) .
الْمَعْنى: نَحن الْآخرُونَ فِي الزَّمَان، السَّابِقُونَ فِي دُخُول الْجنَّة.
وَقيل: إِنَّه لما تخيرت الْيَهُود السبت وَالنَّصَارَى الْأَحَد، وهدانا الله ليَوْم الْجُمُعَة - وَهِي سَابِقَة لليومين، سبقناهم فِي الدُّنْيَا ونسبقهم فِي الْآخِرَة. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث وَالْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند حُذَيْفَة، وَبينا معنى قَوْله: ((هَذَا يومهم الَّذِي فرض عَلَيْهِم)) وَأَنَّهُمْ أمروا بِالْجمعَةِ فَاخْتَارُوا السبت.
فَأَما قَوْله: ((بيد أَنهم)) فَقَالَ أَبُو عبيد: غير أَنهم، وعَلى أَنهم.

(3/441)


قَالَ: وَيُقَال: ميد بِالْمِيم. وَالْمِيم تدخل على الْبَاء نَحْو أغبطت عَلَيْهِ الْحمى وأغمطت. وسبد رَأسه وسمده.
وَقَوله: ((حق على كل مُسلم أَن يغْتَسل)) ظَاهره الْوُجُوب، فَيكون مَنْسُوخا، وَيحْتَمل أَن يكون الْحق بِمَعْنى اللَّازِم فِي بَاب الإستحباب.
وَقد شرحناه هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1905 - / 2354 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: ضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْبَخِيل والمتصدق كَمثل رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جنتان من حَدِيد.
الْجنَّة: مَا استتر بِهِ من سلَاح أَو غَيره. وَالْجنَّة: الترس، وَفِي رِوَايَة: ((جبتان)) بِالْبَاء، والتراقي جمع ترقوة، وللإنسان ترقوتان: وهما العظمان المشرفان فِي أَعلَى الصَّدْر، وَهَذَا مثل ضربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للبخيل والجواد، فشبههما برجلَيْن أَرَادَ كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يلبس درعا يستجن بهَا، فصبها على رَأسه ليلبسها.
والدروع: أول مَا يَقع على الصَّدْر والثديين إِلَى أَن يدْخل اللابس يَدَيْهِ فِي كميها. فَجعل مثل الْمُنفق مثل من لبس درعا سابغة فاسترسلت عَلَيْهِ حَتَّى سترت جَمِيع بدنه، وَهُوَ معنى قَوْله: ((حَتَّى يعْفُو أَثَره)) أَي يستر جَمِيع بدنه. وَجعل الْبَخِيل كَرجل قد غلت يَدَاهُ إِلَى عُنُقه، فَكلما أَرَادَ لبسهَا اجْتمعت فِي عُنُقه فلزمت ترقوته، وَهُوَ معنى: قلصت: أَي تضامت وَاجْتمعت. وَالْمرَاد أَن الْجواد إِذا هم بِالصَّدَقَةِ،

(3/442)


اِنْفَسَحَ بهَا صَدره، والبخيل، إِذا حدث نَفسه بِالصَّدَقَةِ ضَاقَ صَدره وانقبضت يَده.
1906 - / 2355 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين بعد الْمِائَة: ((يحْشر النَّاس على ثَلَاثَة طرائق: راغبين، وراهبين، وَاثْنَانِ على بعير وَثَلَاثَة على بعير وَأَرْبَعَة على بعير)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هَذَا الْحَشْر إِنَّمَا يكون قبل قيام السَّاعَة، يحْشر النَّاس أَحيَاء إِلَى الشَّام. فَأَما الْحَشْر الَّذِي يكون بعد الْبَعْث من الْقُبُور فَإِنَّهُ على خلاف هَذِه الصُّورَة من ركُوب الْإِبِل والمعاقبة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ على مَا ورد فِي الْخَبَر أَنهم يبعثون حُفَاة عُرَاة غرلًا.
1907 - / 2356 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أرسل ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكه ففقأ عينه.
الصَّك: ضرب الْوَجْه برؤوس الْأَصَابِع. وفقأ عينه: قلعهَا.
والكثيب من الرمل: مَا اجْتمع مِنْهُ وارتفع.
وَقد اعْترض بعض الْمُلْحِدِينَ على هَذَا الحَدِيث بأَرْبعَة أَشْيَاء:

(3/443)


أَحدهَا: كَيفَ يقدر الْآدَمِيّ أَن يفقأ عين ملك الْمَوْت، فَلَيْسَ الْملك بجسم كثيف؟ وَالثَّانِي: كَيفَ جَازَ لمُوسَى أَن يفعل ذَلِك برَسُول ربه وَفِي طي هَذَا مراغمة الْمُرْسل؟ وَالثَّالِث: أَيْن شوق مُوسَى إِلَى لِقَاء الله تَعَالَى؟ وَالرَّابِع: كَيفَ خَالف الْملك مرسله فَعَاد وَلم يقبض نَفسه؟
فَالْجَوَاب: لما أكْرم الله عز وَجل مُوسَى بِكَلَامِهِ ومحبته إِيَّاه بعث إِلَيْهِ الْملك فِي صُورَة رجل ليتلطف فِي قبض روحه، فصادفه بشرا يكره الْمَوْت طبعا لما يعلم من ملاقاة مشاقه، فَدفعهُ عَن نَفسه وَهُوَ لَا يعلم أَنه ملك الْمَوْت، وَقد يخفى الْملك على النَّبِي إِذا جَاءَ فِي صُورَة الْبشر كَمَا خفيت الْمَلَائِكَة على إِبْرَاهِيم وَلُوط، وخفي جِبْرِيل على نَبينَا لما جَاءَهُ فِي صُورَة رجل فَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان. فروى الحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ من وُجُوه، فَفِي بَعْضهَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((مَا خَفِي عَليّ جِبْرِيل قطّ مثل الْيَوْم)) وَفِي لفظ: ((مَا عَرفته حَتَّى ولى)) وَفِي لفظ: ((مَا أَتَانِي قطّ فَلم أعرفهُ قبل مرتي هَذِه)) وَفِي لفظ: ((مَا أَتَانِي فِي صُورَة قطّ إِلَّا عَرفته غير هَذِه الصُّورَة)) . فعلى هَذَا نقُول: دَفعه مُوسَى وَلم يعرفهُ، فصادفت تِلْكَ الدفعة عينة المركبة فِي الصُّورَة البشرية لَا الْعين الملكية، فَلَمَّا ذهب ملك الْمَوْت عَاد وَقد ردَّتْ عينه، فَتبين مُوسَى أَنه الْملك فاستسلم لقَضَاء الله سُبْحَانَهُ. وَقَالَ ابْن عقيل: يجوز أَن يكون مُوسَى قد أذن لَهُ فِي ذَلِك الْفِعْل بِملك الْمَوْت وابتلي ملك الْمَوْت بِالصبرِ عَلَيْهِ، كقصة الْخضر مَعَ مُوسَى.
فَأَما الشوق إِلَى لِقَاء الله سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ لَا يُنَاقض كَرَاهِيَة الْمَوْت على

(3/444)


مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة عِنْد قَوْله: ((من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه)) .
وَأما عود الْملك فَإِنَّهُ أَمر بالتلطف فِي الْقَبْض، وَلم يجْزم لَهُ الْأَمر بِالْقَبْضِ فِي وَقت مَعْرُوف.
وَأما سُؤال مُوسَى أَن يدنى من الأَرْض المقدسة فَلِأَنَّهُ مَاتَ فِي أَرض التيه.
1908 - / 2357 - وَفِي الحَدِيث التسعين بعد الْمِائَة: ((قَالَ سُلَيْمَان: لأطوفن اللَّيْلَة بِمِائَة امْرَأَة تَلد كل امْرَأَة مِنْهُنَّ غُلَاما يُقَاتل فِي سَبِيل الله عز وَجل)) .
فِي عدد النِّسَاء أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: مائَة. وَالثَّانِي: تسعون.
وَالثَّالِث: سَبْعُونَ. وَالرَّابِع: سِتُّونَ. وَكلهَا فِي الصَّحِيح.
وَالْمرَاد بالإستثناء قَول: إِن شَاءَ الله. وَتَعْلِيق الْأَمر بِالْمَشِيئَةِ تَسْلِيم للقدر. وَإِنَّمَا ترك سُلَيْمَان الإستثناء نِسْيَانا فَلم يسامح بِتَرْكِهِ وَهُوَ نَبِي كريم، حَتَّى أثر التّرْك فقد الْغَرَض ونفع قَول إِن شَاءَ الله قوما كَافِرين، فَإِنَّهُ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: إِن يَأْجُوج وَمَأْجُوج يحفرون السد كل يَوْم وَيَقُولُونَ: غَدا نتمه، فيجيئون وَقد عَاد كَمَا كَانَ، فَإِذا أذن فِي خُرُوجهمْ قَالَ قَائِلهمْ: إِن شَاءَ الله، فيجيئون وَهُوَ على حَاله

(3/445)


فيفتحونه. فَبَان لهَذَا مرتبَة الْمَشِيئَة وأدب نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتَعَلَّق بهَا، فَقيل لَهُ: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا (23) إِلَّا أَن يَشَاء الله} [الْكَهْف: 23، 24] أَي: إِلَّا أَن تَقول: إِن شَاءَ الله، فَكَانَ يَقُولهَا فِي الْمُتَيَقن كَمَا يَقُولهَا فِي المظنون، فَإِذا مر على الْقُبُور قَالَ: ((وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن لِسُلَيْمَان أَن يخلق من مَائه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مائَة غُلَام، لَا يجوز أَن يكون بِوَحْي لِأَنَّهُ مَا وَقع، وَلَا يجوز أَن يكون الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا مَا يُريدهُ الله؟ فَالْجَوَاب: إِنَّه من جنس التَّمَنِّي على الله، وَالسُّؤَال لَهُ أَن يفعل، وَالْقسم عَلَيْهِ، كَقَوْل أنس بن النَّضر: وَالله لَا تكسر سنّ الرّبيع. غير أَنه لما خلا لَفظه من اسْتثِْنَاء لم يسامح مثله بِتَرْكِهِ، ذَلِك لِأَنَّهُ نَبِي يقْتَدى بِهِ.
1909 - / 2358 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((يفتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه)) وَعقد تسعين.
الرَّدْم: الْحَائِط الْمَبْنِيّ فِي وُجُوههم. وَقد سبق ذكر يَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1910 - / 2359 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((إِن أمتِي

(3/446)


يدعونَ يَوْم الْقِيَامَة غرا محجلين من آثَار الْوضُوء)) .
الْغرَّة: بَيَاض فِي الْوَجْه وغرة كل شَيْء أكْرمه. والتحجيل: بَيَاض فِي الرجلَيْن.
وَقَوله: ((أَسْبغ الْوضُوء)) أَي أتمه.
وأشرع فِي الْعَضُد: بِمَعْنى أدخلهُ فِي الْغسْل، وَمِنْه إشراع الْبَاب والجناح. وَقَالَ الزّجاج: يُقَال: أشرعت الرمْح نَحْو الْعَدو: إِذا صوبته إِلَيْهِ وحددته نَحوه.
والعضد: مَا بَين الْمرْفق إِلَى الْكَتف. والمنكب: مُجْتَمع رَأس الْعَضُد فِي الْكَتف. والإبط: مَا تَحت الْيَد. وَقد تقدما.
والحلية المُرَاد بهَا النُّور الَّذِي يزين بِهِ الْمُتَوَضِّئ.
وَبَاقِي الحَدِيث مِمَّا يتَعَلَّق بالحوض قد سبق فِي مُسْند سهل بن سعد وَغَيره.
وَقَوله: ((السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين)) قد سبق فِي مُسْند بُرَيْدَة.
فَإِن قيل: كَيفَ سمى من لم يره إخْوَانًا واشتاق إِلَيْهِم والإخوان أفضل من الْأَصْحَاب، وَقد ثَبت فضل أَصْحَابه على غَيرهم؟ فَالْجَوَاب: أَن الْأُخوة تَقْتَضِي المشابهة والمشاكلة، كَمَا يُقَال: هَذِه الْحبَّة من اللُّؤْلُؤ أُخْت هَذِه، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا نريهم من آيَة إِلَّا هِيَ أكبر من أُخْتهَا} [الزخرف: 48] وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((شيبتني هود وَأَخَوَاتهَا)) . يُرِيد

(3/447)


أشكالها من السُّور المتضمنة قصَص الْأُمَم السالفة. وَكَانَ يَقُول: ((رحم الله أخي مُوسَى)) ، ((رحم الله أخي عِيسَى)) وَذَلِكَ لموْضِع الْمُشَاركَة لَهُ فِي الدعاية، فَأَرَادَ بإخوانه فِي آخر الزَّمَان: القائمين بشرعه عِنْد فَسَاد الْأمة، فقد شابهوه فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنه جَاءَ على فَتْرَة من الرُّسُل وَقد تشبث حب الْأَصْنَام بالقلوب، وَخيَار أمته يظْهر كل مِنْهُم فِي زمن قد يتشبث الْهوى فِيهِ بالنفوس فيسلكون سنَن الإستقامة وَيدعونَ النَّاس إِلَى الصّلاح. وَالثَّانِي: أَنه ظهر غَرِيبا وَأظْهر دينه، فَكَانَ غَرِيبا، وَكَذَلِكَ صالحو الْمُتَأَخِّرين يكونُونَ غرباء ويظهرون مَا قد صَار غَرِيبا، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فطوبى للغرباء)) قيل: من الغرباء؟ قَالَ: ((الَّذين يصلحون إِذا فسد النَّاس)) وَالثَّالِث: أَنهم يظهرون فِي زمَان خَال عَن نَذِير، فينفرد الْوَاحِد مِنْهُم عَن معِين، كَمَا ظهر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ هَذَا حَال صحابته مَعَ وجوده، فَإِن النَّاس استغنوا بِهِ عَنْهُم، فَلم يصلحوا إخْوَانًا لهَذَا الْمَعْنى وَإِن كَانَت مرتبتهم لَا توازى.
فَإِن قيل: فَهَلا كَانَت هَذِه مرتبَة الصَّحَابَة بعد مَوته؟ قُلْنَا: لَا يَصح؛ لِأَن الْعَهْد قريب، والبدع نادرة، والمدافع عَن الشَّرّ من أهل الْعلم كثير.
وَإِنَّمَا اشْتَدَّ شوقه إِلَيْهِم لمَكَان اجتهادهم فِي إِثْبَات الدَّلِيل على نبوته، فَإِن الصَّحَابَة رَأَوْا مِنْهُ مَا لم ير هَؤُلَاءِ من الْآيَات الخارقة والمعجزات العجيبة، كنبع المَاء من بَين أَصَابِعه، وحنين الْجذع إِلَيْهِ،

(3/448)


وإخباره بالغائبات، فَكَانَت كَمَا قَالَ؛ والمتأخرون لم يشاهدوا مثل هَذَا، وَإِنَّمَا نقل إِلَيْهِم.
والدهم: السود: والبهم: من قَوْلك: أسود بهيم، وَهُوَ الَّذِي لَا يخالط لَونه لون سواهُ.
1911 - / 2360 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((على أنقاب الْمَدِينَة مَلَائِكَة، لَا يدخلهَا الطَّاعُون وَلَا الدَّجَّال)) .
الأنقاب جمع نقب: وَهُوَ الطَّرِيق بَين الجبلين.
وَقد ذكرنَا الدَّجَّال وتسميته بالمسيح فِي مُسْند ابْن عمر.
ودبر أحد: ظهر الْجَبَل.
1912 - / 2361 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((من تَوَضَّأ فليستنثر، وَمن استجمر فليوتر)) .
الإستنثار: نفض مَا فِي الْأنف بعد استنشاق المَاء. وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: من تَوَضَّأ فليستنشق؛ لِأَن النثرة الْأنف.
والإستجمار: الإستنجاء بِالْحِجَارَةِ.
وَقَوله: ((فليوتر)) دَلِيل على وجوب اسْتِيفَاء عدد الثَّلَاث فِي الإستنجاء؛ إِذا كَانَ معقولا أَنه لم يرد بِهِ الْوتر الَّذِي هُوَ الْوَاحِد، لِأَنَّهُ

(3/449)


زِيَادَة وصف على اسْم، والإسم لَا يحصل بِأَقَلّ من وَاحِد، فَعلم أَنه قصد بِهِ مَا زَاد على الْوَاحِد، وَأَدْنَاهُ الثَّلَاث. وَمن أنقى وَأحب الزِّيَادَة اسْتحبَّ لَهُ أَن تكون زِيَادَته وترا لهَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: ((وَإِذا اسْتَيْقَظَ فليغسل يَده)) أما غسل الْيَد عِنْد الانتباه من نوم اللَّيْل فَإِن بعض أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة ذكر غسل الْيَد مُطلقًا، وَبَعْضهمْ ذكر الْغسْل ثَلَاثًا، فَمن الَّذين ضبطوا الثَّلَاث جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن شَقِيق وَأَبُو رزين وَأَبُو صَالح كلهم عَن أبي هُرَيْرَة بِذكر الثَّلَاث. وَمذهب أَحْمد أَن ذَلِك على الْوُجُوب خلافًا للأكثرين.
1913 - / 2362 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي عَبده وَلَا فرسه)) .
وَالصَّدَََقَة هَا هُنَا الزَّكَاة، وَالْمرَاد العَبْد وَالْفرس اللَّذَان للْخدمَة دون مَا يتَّخذ من ذَلِك للتِّجَارَة.
1914 - / 2363 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((من رغب عَن أَبِيه فَهُوَ كفر)) .
الْكفْر أَصله التغطية. وَهَذَا يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا: أَنه تَغْطِيَة

(3/450)


للصحيح. وَالثَّانِي: أَنه فعل الْكفَّار لَا فعل الْمُسلمين.
1915 - / 2364 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بيع الْعَرَايَا بِخرْصِهَا من التَّمْر، مَا دون خَمْسَة أوسق أَو فِي خَمْسَة أوسق. شكّ الرَّاوِي.
قد سبق الْكَلَام فِي الْعَرَايَا أَنه إِنَّمَا جَازَ لأجل الْحَاجة، فِي مُسْند زيد بن ثَابت، وَلَا يجوز إِلَّا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق، لِأَن الرَّاوِي شكّ فأسقطنا الْمَشْكُوك فِيهِ.
1916 - / 2365 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((يسلم الرَّاكِب على الْمَاشِي)) .
الرَّاكِب بِالْإِضَافَة إِلَى الْمَاشِي كَأَنَّهُ مار على قَاعد لمَكَان إسراعه، وَكَذَلِكَ الْمَاشِي مَعَ الْقَاعِد. وَالْمرَاد من السَّلَام الْأمان. والماشي يخَاف الرَّاكِب، والقاعد يخَاف الْمَاشِي، فَأمر بِالسَّلَامِ ليَقَع الْأَمْن.
فَأَما الْعدَد الْكثير فَلهُ زِيَادَة مرتبَة بِالْكَثْرَةِ، فشرع تَسْلِيم النَّاقِص على الْكَامِل، وَكَذَلِكَ الصَّغِير على الْكَبِير.
1917 - / 2366 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يزَال أحدكُم فِي صَلَاة مَا دَامَت الصَّلَاة تحبسه)) .
إِذا قعد الْمُتَوَضِّئ ينْتَظر الصَّلَاة أعطي حكم الْمُصَلِّي، فَإِذا أحدث

(3/451)


خرج عَن تِلْكَ الْحَالة.
1918 - / 2367 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَتَيْنِ: ((لعن الله السَّارِق يسرق الْبَيْضَة فتقطع يَده، وَيسْرق الْحَبل فتقطع يَده)) . فِي هَذَا الحَدِيث ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه عَنى بالبيضة بيض الْحَدِيد، وبالحبل: الْعَظِيم من حَبل السفن، وكل من هذَيْن يبلغ دَرَاهِم كَثِيرَة، وَهَذَا مَذْكُور فِي الحَدِيث عَن الْأَعْمَش يحكيه عَن الْعلمَاء. وَكَانَ يحيى بن أَكْثَم يذهب إِلَى هَذَا التَّفْسِير ويعجب بِهِ. وَالثَّانِي: أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نزل عَلَيْهِ: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] قَالَ هَذَا الحَدِيث أخذا بِظَاهِر الْآيَة، ثمَّ أعلم بِالْوَحْي بعد أَن الْقطع لَا يكون إِلَّا فِي ربع دِينَار فَمَا فَوْقه: وَهَذَا اخْتِيَار ابْن قُتَيْبَة، وَأنكر القَوْل الأول وَقَالَ: لَا يَقُوله إِلَّا من لَا معرفَة لَهُ باللغة ومخارج الْكَلَام، فَإِن هَذَا لَيْسَ بِموضع تَكْثِير لما يَأْخُذهُ السَّارِق، وَلَيْسَ من عَادَة النَّاس أَن يَقُولُوا: قبح الله فلَانا، عرض نَفسه للضرب فِي عقد جَوْهَر وجراب مسك، وَإِنَّمَا الْعَادة أَن يُقَال: تعرض لقطع الْيَد فِي حَبل رث، وَكلما كَانَ أَحْقَر كَانَ أبلغ. وَالثَّالِث: أَن المُرَاد أَنه يقطع فِي السّرقَة حَتَّى فِي الشَّيْء المحتقر إِذا بلغ نِصَابا، فَذكر الْبَيْضَة وَالْحَبل لبَيَان جنس المحتقرات، لِئَلَّا يظنّ أَن الْقطع يخْتَص بنفائس الْأَمْوَال.
1919 - / 2368 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: ((من تردى من

(3/452)


جبل فَقتل نَفسه فَهُوَ فِي نَار جَهَنَّم يتردى فِيهَا خَالِدا مخلدا فِيهَا أبدا)) .
تردى بِمَعْنى سقط.
ويتوجأ بهَا: أَي يضْرب بهَا.
فَإِن قيل: غَايَة هَذِه الْأَشْيَاء أَنَّهَا مَعْصِيّة لَا كفر فِيهَا، فَمَا وَجه الخلود؟ فَالْجَوَاب: أَن ذكر الخلود إِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد رَوَاهُ سعيد المَقْبُري والأعرج عَن أبي هُرَيْرَة وَلم يذكرَا فِيهِ ((خَالِدا مخلدا أبدا)) قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا أصح.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هَذَا مَحْمُول على من فعل ذَلِك مستحلا لقَتله ومكذبا بِتَحْرِيم ذَلِك، بِدَلِيل الْأَحَادِيث المروية فِي أَن الْمُسلمين لَا يخلدُونَ.
1920 - / 2369 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَتَيْنِ: ((ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله: رجل على فضل مَاء بالفلاة يمنعهُ من ابْن السَّبِيل، فَيَقُول الله لَهُ يَوْم الْقِيَامَة: الْيَوْم أمنعك كَمَا منعت فضل مَا لم تعْمل يداك)) .
يُرِيد بِهَذَا أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خلق المَاء وأنزله من السَّمَاء وأجراه من الْعُيُون، وَأما تَخْصِيص مَا بعد الْعَصْر بِالْحِنْثِ فَلِأَنَّهُ وَقت يعظمه أهل الْأَدْيَان، وَهُوَ وَقت اجْتِمَاع النَّاس فِيهِ.
وَقَوله فِي الْمُبَايعَة للْإِمَام: ((إِن أعطَاهُ وفى)) أعلم أَن الْمُبَايعَة يَنْبَغِي

(3/453)


أَن تكون للدّين لَا للدنيا، فَإِذا عكس الْأَمر وَقعت الْعقُوبَة.
1921 - / 2370 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَتَيْنِ: ((مَا بَين النفختين أَرْبَعُونَ)) .
النفخة الأولى فِي الصُّور هِيَ الَّتِي تَمُوت الْخَلَائق عِنْدهَا. والنفخة الثَّانِيَة هِيَ الَّتِي يحيون عِنْدهَا.
وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أَبيت، لِأَنَّهُ إِنَّمَا سمع ((أَرْبَعِينَ)) وَلم يعين لَهُ.
قَوْله: ((ويبلى كل شَيْء من الْإِنْسَان إِلَّا عجب الذَّنب)) وَهُوَ العصعص، وَهُوَ الْعظم الَّذِي يجد اللامس مَسّه فِي وسط الْوَرِكَيْنِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا فَائِدَة إبْقَاء هَذَا الْعظم دون سَائِر الْجَسَد؟ فقد أجَاب ابْن عقيل فَقَالَ: لله سُبْحَانَهُ فِي هَذَا سر لَا نعلمهُ، لِأَن من ينحت الْوُجُود من الْعَدَم لَا يحْتَاج أَن يكون لفعله شَيْء يبْنى عَلَيْهِ، فَإِن علل هَذَا، فَيجوز أَن يكون الْبَارِي سُبْحَانَهُ جعل ذَلِك للْمَلَائكَة عَلامَة على أَنه يحيي كل إِنْسَان بجواهره بِأَعْيَانِهَا، وَلَا يحصل الْعلم للْمَلَائكَة بذلك إِلَّا بإبقاء عظم من كل شخص ليعلم أَنه إِنَّمَا أَرَادَ بذلك إِعَادَة الْأَرْوَاح إِلَى تِلْكَ الْأَعْيَان الَّتِي هَذَا جُزْء مِنْهَا، كَمَا أَنه لما أمات عُزَيْرًا وَحِمَاره، أبقى عِظَام الْحمار وَكَسَاهَا ليعلم أَن هَذَا المنشأ ذَلِك الْحمار لَا غَيره، وَلَوْلَا إبْقَاء شَيْء لجوزت الْمَلَائِكَة أَن تكون الْإِعَادَة للأرواح إِلَى أَمْثَال الأجساد لَا إِلَى أعيانها.

(3/454)


1922 - / 2371 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أثقل صَلَاة على الْمُنَافِقين صَلَاة الْعشَاء وَصَلَاة الْفجْر)) .
إِنَّمَا ثقلت هَاتَانِ الصَّلَاتَان على الْمُنَافِقين لإيثارهم النّوم وكراهتهم التعسف فِي الْخُرُوج وَالْمَشْي فِي الظلمَة.
والحبو: زحف الصَّغِير.
والعرق: الْعظم الَّذِي تقشر عَنهُ مُعظم اللحوم وَبقيت عَلَيْهِ مِنْهُ بَقِيَّة.
والمرماة يُقَال بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا، قَالَ أَبُو عبيد: وَهِي مَا بَين ظلفي الشَّاة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَقَالَ غير أبي عبيد: المرماة: سهم يتَعَلَّم عَلَيْهِ الرَّمْي. وَقَالَ الْحميدِي: هِيَ السهْم الَّذِي يرْمى بِهِ.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب صَلَاة الْجَمَاعَة.
1923 - / 2372 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يصومن أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم قبله أَو بعده)) .
إِفْرَاد يَوْم الْجُمُعَة بالصيام مَكْرُوه عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يكره، والْحَدِيث نَص. وَأما تَخْصِيص لَيْلَة

(3/455)


الْجُمُعَة بِالْقيامِ فمكروه؛ لِأَن السهر يُؤثر فِي وظائف يَوْم الْجُمُعَة وَيمْنَع النشاط لَهَا.
1924 - / 2373 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير من أَن يمتلئ شعرًا)) .
قد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص، إِلَّا أَن حَدِيث سعد فِيهِ: ((حَتَّى يرِيه)) وَلَيْسَ هَا هُنَا ((حَتَّى)) فنرى جمَاعَة من المبتدئين ينصبون ((يرِيه)) هَا هُنَا جَريا على الْعَادة فِي قِرَاءَة الحَدِيث الَّذِي فِيهِ ((حَتَّى)) ، وَلَيْسَ هَا هُنَا مَا ينصب، سمعته من عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ.
1925 - / 2374 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة)) .
الْبضْع من الشَّيْء: الْقطعَة مِنْهُ، وَيُقَال: هُوَ من الْوَاحِد إِلَى الْعشْرَة، وَقيل: مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع.
والشعبة: قِطْعَة من الشَّيْء، وَالْمرَاد بِهَذِهِ الْخِصَال أصُول الْخَيْر من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال. وَالْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ تَصْدِيق الْقلب، وَهَذِه الْخِصَال تنبعث عَنهُ فسميت إِيمَانًا. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر تَفْسِير قَوْله: ((الْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان)) .

(3/456)


1926 - / 2375 - والْحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1927 - / 2376 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَتَيْنِ: ((السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب)) .
السّفر مُشْتَقّ من السّفر وَهُوَ الْكَشْف، يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا، وأسفر الصُّبْح: إِذا أَضَاء، فَسُمي الْخُرُوج إِلَى الْموضع الْبعيد سفرا لِأَنَّهُ يكْشف عَن أَخْلَاق الْمُسَافِر وأحواله.
وَالْعَذَاب: الْأَلَم المستمر. وَالْمُسَافر يتَأَذَّى بِالْمَشْيِ وَالرُّكُوب والسهر وَغير ذَلِك.
والنهمة: الْحَاجة والإرادة من الشَّيْء، وَالْمرَاد بِالْوَجْهِ الْمَقْصد الَّذِي قَصده فِي السّفر.
1928 - / 2377 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((تعوذوا بِاللَّه من جهد الْبلَاء)) .
تعوذوا: بِمَعْنى الجأوا إِلَيْهِ ولوذوا بِهِ.
والجهد: الْمَشَقَّة.
والدرك: الْإِدْرَاك.

(3/457)


والشقاء: الْهَلَاك. وَقد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْهَلَاك، كالنصب وَغَيره.
والشماتة: الْفَرح ببلية الْعَدو.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الْكَلَام المسجوع إِذا لم يكن عَن تكلّف لم يكره.
فَإِن قيل: هَل تَنْفَع الإستعاذة مِمَّا قضي؟ فَالْجَوَاب: أَنَّهَا مِمَّا قضي أَيْضا، فقد يقْضى على الْإِنْسَان بلَاء ويسبق فِي الْقَضَاء أَنه يَدْعُو فَيدْفَع عَنهُ، فَيكون فِي الْقَضَاء الدَّافِع والمدفوع. وَفَائِدَة الدُّعَاء التَّعَبُّد بِهِ وَإِظْهَار الْفَاقَة من العَبْد.
1929 - / 2378 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْعمرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا)) .
الْعمرَة مَعْرُوفَة، وَأَصلهَا فِي اللُّغَة الزِّيَارَة. وَالْحج: الْقَصْد.
والمبرور: المقبول، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: المبرور: الَّذِي لَا يخالطه شَيْء من المآثم، وَكَذَلِكَ البيع المبرور: الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ وَلَا خِيَانَة، وَقد سبق بَيَان هَذَا.
وَقَوله: ((من حج لله)) إِشَارَة إِلَى الْإِخْلَاص.
والرفث: الْكَلَام المستقبح. وَالْفِسْق: الْخُرُوج عَن طَاعَة الله عز وَجل.
وَقَوله: ((كَيَوْم وَلدته أمه)) أَي رَجَعَ بِغَيْر ذَنْب.

(3/458)


1930 - / 2379 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((بَيْنَمَا رجل يمشي فَإِذا كلب يَلْهَث يَأْكُل الثرى من الْعَطش)) .
اللهث: صَوت النَّفس من شدَّة الإعياء.
وَالثَّرَى هَا هُنَا الأَرْض.
ورقي بِكَسْر الْقَاف: أَي صعد.
وَالْبَغي: الْفَاجِرَة.
ويطيف: يَدُور حولهَا.
وأدلع: أخرج لِسَانه من الْعَطش.
والموق: الْخُف، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الموق: الْخُف، فَارسي مُعرب. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الموق: نوع من الْخفاف مَعْرُوف وَسَاقه إِلَى الْقصر. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الموق فَارسي مُعرب، وَيجمع على الأمواق. وَفِي حَدِيث عمر أَنه لما قدم الشَّام عرضت لَهُ مخاضة فَنزل عَن بعيره وَنزع موقيه. وَقَالَ النمر بن تولب:
(فترى النعاج بِهِ تمشي خلفة ... مشي العباديين فِي الأمواق)

العباديون: قوم تزهدوا وَقَالُوا: نَحن عباد الله.

(3/459)


1931 - / 2380 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول ثمَّ لم يَجدوا إِلَّا أَن يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا)) .
النداء: الْأَذَان. والاستهام: الْقرعَة. وَإِنَّمَا قيل فِي الإقراع استهام لِأَنَّهَا سِهَام يكْتب عَلَيْهَا الْأَسْمَاء، فَمن وَقع لَهُ مِنْهَا سهم حَاز الْحَظ الموسوم.
والتهجير: التبكير بِصَلَاة الظّهْر. والهاجرة: نصف النَّهَار.
وَالشُّهَدَاء جمع شَهِيد. وَفِي تَسْمِيَة الشَّهِيد شَهِيدا سَبْعَة أَقْوَال قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر بن الْخطاب.
وَأما المطعون فَهُوَ صَاحب الطَّاعُون، وَهُوَ مرض مَعْرُوف.
والمبطون: صَاحب الْبَطن، وَهُوَ ذُو الإسهال.
وَالْهدم بِفَتْح الدَّال: هُوَ اسْم مَا يَقع، قَالَه لنا ابْن الخشاب.
وَأما بتسكينها فَهُوَ الْفِعْل. وَالَّذِي يَقع هُوَ الَّذِي يقتل، وَيجوز أَن ينْسب الْقَتْل إِلَى الْفِعْل، إِلَّا أَن الأول أظهر.
وَقَوله: ((خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا)) لأَنهم قد أمروا بالتقدم، فَخَيرهمْ من بَادر الْفَضِيلَة، على عكس حَال النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ قد أمرن بالتأخر خوف الإفتتان بِهن.

(3/460)


1932 - / 2383 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ)) وَقد سبق فِي مُسْند أبي ذَر.
1933 - / 2384 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَتَيْنِ ((لَا أجد حمولة)) .
الحمولة: مَا يحمل الزَّاد وَالْمَتَاع من الْإِبِل.
وَقَوله: ((انتدب الله)) أَي أَجَابَهُ إِلَى غفرانه، يُقَال: ندبته للْجِهَاد فَانْتدبَ، أَي أجَاب.
وَقَوله: ((قتلت ثمَّ أَحييت)) دَلِيل على فضل الشَّهَادَة، وحث على مبادرة الْفَضَائِل وَحمل المشاق فِي تكلفها نظرا إِلَى مآلها.
1934 - / 2385 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: فِي ذكر الْخَيل: ((رجل ربطها فَأطَال لَهَا فِي مرج أَو رَوْضَة)) .
قَوْله: ((أَطَالَ لَهَا)) أَي أرْخى لَهَا الْحَبل. والطول: الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ الدَّابَّة، قَالَ طرفَة:
(لعمرك إِن الْمَوْت مَا أَخطَأ الْفَتى ... لكالطول المرخى وثنياه بِالْيَدِ)

والطيل لُغَة فِي الطول.
والمرج: أَرض ذَات نَبَات تمرج فِيهَا الدَّوَابّ: أَي ترسل للرعي.
وَالرَّوْضَة: الْمَكَان المخضر.

(3/461)


والإستنان: الْعَدو، وَقد شرحناه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
والشرق: الْموضع الْمشرق: ومشارق الأَرْض: أعاليها.
والتغني: الإستغناء.
وَقَوله: ((ثمَّ لم ينس حق الله فِي رقابها وظهورها)) عِنْد أبي حنيفَة أَن الزَّكَاة وَاجِبَة فِي الْخَيل، وَعِنْدنَا لَا تجب، وَلنَا فِي هَذَا الحَدِيث وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يدعى نسخه بِمَا قد سبق قبل أوراق من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي فرسه وَعَبده)) وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام: ((عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق)) وَفِي حَدِيث آخر: ((لَيْسَ فِي الْجَبْهَة وَلَا النخة صَدَقَة)) .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْجَبْهَة: الْخَيل. والنخة الرَّقِيق. وَالثَّانِي: أَن يكون الْحق بِمَعْنى الْمَعْرُوف، كَمَا سبق فِي حَدِيث جَابر أَنه سُئِلَ عَن حق الْإِبِل فَقَالَ: حلبها على المَاء، ومنيحتها وإعارة دلوها. وَمَعْلُوم أَنه لم يجب فِيهَا سوى الزَّكَاة، وَأَن الْحَلب على المَاء والمنحة مَنْدُوب إِلَيْهِمَا.

(3/462)


وَأما قَوْله: ((فخرا ورياء)) أَي يفاخر بهَا ويري النَّاس كَثْرَة مَاله.
وَقيل: بل يُرِيهم أَنه يُرِيد الْجِهَاد ويضمر غير ذَلِك.
وَقَوله: ((ونواء لأهل الْإِسْلَام)) أَي معاداة لَهُم، يُقَال: ناوأت الرجل نواء ومناوأة: إِذا عاديته، وَأَصله من ناء إِلَيْك ونؤت إِلَيْهِ: أَي نهضت إِلَيْهِ نهوض المغالبة.
والأشر: التكبر والمرح وَالْعجب. والبطر: الطغيان فِي النِّعْمَة.
وَقَالَ الزّجاج: البطر. أَن يطغى فيتكبر عِنْد الْحق فَلَا يقبله.
يَعْنِي المفردة الَّتِي جمعت على انفرادها حكم الْحَسَنَات والسيئات، وَهِي وَقَوله: ((هَذِه الْآيَة الجامعة الفاذة)) يَعْنِي المفردة الَّتِي جمعت على انفرادها حكم الْحَسَنَات والسيئات، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7] ومثقال الشَّيْء: زنته. والذرة: أَصْغَر النَّمْل.
والصفائح وَاحِدهَا صفيحة. وَالْإِشَارَة بذلك إِلَى اتساع صفائحها وانبساط أقطارها. فأحمي عَلَيْهَا: أَي أوقد عَلَيْهَا حَتَّى تحمى.
والجبين: مَا عَن يَمِين الْجَبْهَة وشمالها، وهما جبينان. والجبهة: مَوضِع السُّجُود.
وَقَوله: ((وَمن حَقّهَا حلبها يَوْم وردهَا)) قد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند جَابر، وَبينا أَنه إِنَّمَا يكون قد كَانَ وَاجِبا قبل الزَّكَاة أَو أَن يشار بِالْحَقِّ إِلَى فعل الْمَعْرُوف، وفسرنا هُنَاكَ القاع والقرقر والأخفاف.
والشجاع: الْحَيَّة. والأقرع: الَّذِي لِكَثْرَة مَا فِي رَأسه من السم كَأَنَّهُ قد قرع.

(3/463)


والعقصاء: الملتوية القرنين. والجلحاء: هِيَ الْجَمَّاء الَّتِي لَا قرن لَهَا، والعضباء: الْمَكْسُورَة الْقرن. والعضب فِي الْأذن: قطعهَا.
والأظلاف قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند أبي ذَر.
واليعار: صَوت الشَّاء. والرغاء: صَوت الْبَعِير.
وَقَوله: ((لَهُ زَبِيبَتَانِ)) قَالَ أَبُو عبيد: هما النكتتان السوداوان فَوق عَيْنَيْهِ، وَهُوَ أوحش مَا يكون من الْحَيَّات وأخبثه. قَالَ: وَيُقَال فِي الزبيبتين إنَّهُمَا الزبدتان اللَّتَان تَكُونَانِ فِي الشدقين إِذا غضب الْإِنْسَان أَو أَكثر الْكَلَام حَتَّى يُزْبِد، قَالَت أم غيلَان بنت جرير الخطفي: رُبمَا أنشدت أبي حَتَّى يتزبب شدقاي. قَالَ الراجز:
(إِنِّي إِذا مَا زبب الأشداق ... وَكثر الضجاج واللقلاق)

(ثَبت الْجنان مرجم وداق ... )

اللقلاق: الصَّوْت. والمرجم: الَّذِي يرْجم الْكَلَام.
وَقَوله: ((بِلِهْزِمَتَيْهِ)) يَعْنِي شدقيه. واللهزمتان: الشدقان.
وَقَوله: ((الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر)) قد سبق فِي مُسْند عُرْوَة الْبَارِقي.
1935 - / 2386 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((تسموا

(3/464)


باسمي)) قد سبق فِي مُسْند جَابر، وَبينا حكمه.
وَقَوله: ((من رَآنِي فِي الْمَنَام)) قد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
وَقَوله: ((من كذب عَليّ)) قد تقدم فِي مُسْند عَليّ.
1936 - / 2387 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: ((سَمِعت اللَّيْلَة خشف نعليك)) وَفِي رِوَايَة: ((دف نعليك فِي الْجنَّة)) .
الخشف: الْحَرَكَة وَالصَّوْت الَّذِي لَيْسَ بِالْقَوِيّ. والدف: الْحَرَكَة الْخَفِيفَة أَيْضا.
وَقد حث هَذَا الحَدِيث على إتباع الْوضُوء بِالصَّلَاةِ لِئَلَّا يبْقى الْوضُوء خَالِيا عَن مَقْصُوده.
1937 - / 2388 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دَعْوَة، فَرفع إِلَيْهِ الذِّرَاع وَكَانَت تعجبه، فنهس مِنْهَا نهسة.
قَالَ ابْن فَارس: الدعْوَة إِلَى الطَّعَام بِالْفَتْح. والدعوة فِي النّسَب بِالْكَسْرِ. وَحكي عَن أبي عُبَيْدَة أَنه قَالَ: هَذَا أَكثر كَلَام الْعَرَب إِلَّا

(3/465)


عدي الربَاب، فَإِنَّهُم ينصبون الدَّال فِي النّسَب ويكسرونها فِي الطَّعَام.
وَأما الذِّرَاع فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: هِيَ مُؤَنّثَة، وَجَمعهَا أَذْرع لَا غير.
وَقَالَ ابْن قتبية: الذِّرَاع تذكر وتؤنث، وَمثلهَا الموس والسكين والسبيل وَالطَّرِيق والسوق والدلو وَاللِّسَان، من ذكره قَالَ أَلْسِنَة، وَمن أنثه قَالَ: ألسن، والعنق والعاتق والمتن وَالسِّلَاح والكراع والصاع وَالْحَال والفهر وَالْخمر وَالْعَسَل وَالسُّلْطَان وَالسّلم - وَهُوَ الصُّلْح - والقليب.
وَمِمَّا يكون للذكور وَالْإِنَاث وَفِيه عَلامَة التَّأْنِيث: السخلة تكون للذّكر وَالْأُنْثَى، والبهمة كَذَلِك، والرشأ: ولد الغزال، والعسبارة: ولد الضبع من الذِّئْب، والحية وَالشَّاة، وبطة وحمامة ونعامة، لَا تَقول هَذِه نعَامَة ذكر حَتَّى تَقول: ظليم. وكل هَذِه تجمع بطرح الْهَاء إِلَّا حَيَّة فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِي جمعهَا حَيّ. وَمن الْأَسْمَاء المؤنثة الَّتِي لَا أَعْلَام فِيهَا للتأنيث: السَّمَاء وَالشَّمْس والنعل والعصى والرحى وَالدَّار وَالضُّحَى وَدرع الْحَدِيد، وَأما درع الْمَرْأَة وَهُوَ قميصها فمذكر.
والنهس: أَخذ مَا على الْعظم بأطراف الْأَسْنَان.
وَقَوله: ((أَنا سيد ولد آدم)) أَي: أَنا الْمُقدم عَلَيْهِم. إِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين ((لَا تفضلُونِي على يُونُس)) ؟
فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون نَهْيه عَن تفضيله قبل

(3/466)


إِعْلَامه بِأَنَّهُ سيد ولد آدم. وَالثَّانِي: أَن يكون علم، غير أَنه نهى عَن تفضيله على يُونُس لثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَن فِي تَفْضِيل شخص على شخص نوع نقص للْآخر، وَالْمعْنَى: قُولُوا مَا قيل لكم وَلَا تخَيرُوا برأيكم، وَلَيْسَ المُرَاد أَن لَا تعتقدوا تَفْضِيل قوم على قوم، فقد قَالَ الله تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} [الْبَقَرَة: 253] وَالثَّانِي: أَن يفضل عَلَيْهِ فِي صبره ومعاناة قومه، فَإِن نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يفضل الْأَنْبِيَاء بمعاناة قومه بل بموهبة الله عز وَجل لَهُ الْفضل.
وَالثَّالِث: أَن يكون دلّ النَّاس على التَّوَاضُع، لِأَنَّهُ إِذا تواضع هُوَ مَعَ شرفه فَغَيره أولى بذلك.
وَالْوَجْه الثَّالِث من الْجَواب: أَن السِّيَادَة التَّقَدُّم، فَأَشَارَ بتقدمه فِي الْقِيَامَة فِي الشَّفَاعَة على الْخلق وَلم يتَعَرَّض بِذكر فضل.
وَأما الصَّعِيد فالأرض المستوية.
وَأما قَول إِبْرَاهِيم: إِنِّي كذب، فَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ قلت قولا يشبه الْكَذِب فِي ظَاهر القَوْل وَهُوَ صدق عِنْد الْبَحْث والتفتيش. وسنوضح هَذَا بعد سَبْعَة وَعشْرين حَدِيثا.
والمصراع: أحد شقي الْبَاب. والصرعان فِي اللُّغَة: المثلان، يُقَال: هَذَا صرع هَذَا: أَي مثله، وَيُشبه أَن يكون اشتقاق المصراعين من هَذَا.
وأعضاد كل شَيْء: مَا يشد حوله.

(3/467)


وَأما مَكَّة فَقَالَ ابْن فَارس: قَالَ قوم: سميت مَكَّة لِأَنَّهَا مثابة يؤمها النَّاس من كل فج، وَكَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تجذبهم إِلَيْهَا، من قَول الْعَرَب: امتك الفصيل مَا فِي ضرع النَّاقة: إِذا استقصى. وَقَالَ آخَرُونَ: سميت مَكَّة من قَوْلك: مككت الرجل: إِذا رددت نخوته، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا مَكَّة الْفَاجِر مكي مكا ... وَلَا تمكي مذحجا وعكا)

قَالَ: وَيُقَال: سميت مَكَّة لجهد أَهلهَا.
وَأما مَا بَينهَا وَبَين هجر فمسافة بعيدَة تقطع فِي نَحْو عشْرين يَوْمًا.
وتزلف: تقرب.
وَقَوله: ((وَترسل الْأَمَانَة وَالرحم فتقومان جنبتي الصِّرَاط)) المُرَاد: أَنه من أدّى الْأَمَانَة وَوصل الرَّحِم نجا، وَمن لم يفعل لم يسلم.
والمكردس: الَّذِي جمعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ فِي وُقُوعه.
والخريف يُرَاد بِهِ هَا هُنَا السّنة.
1938 - / 2389 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند عمر.
1939 - / 2390 - وَسبق الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ:

(3/468)


فِي مُسْند طَلْحَة.
1940 - / 2391 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر الْغلُول.
الْغلُول: أَخذ الشَّيْء من الْمغنم فِي سر قبل أَن يقسم.
وَقَوله: ((لَا أَلفَيْنِ)) أَي: لَا أجدن، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [الْبَقَرَة: 170] .
والرغاء: صَوت الْبَعِير. والثغاء: صَوت الشَّاة. أخبرنَا مُحَمَّد ابْن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا ثَابت بن بنْدَار قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن رزمة قَالَ: أخبرنَا أَبُو سعيد السيرافي قَالَ: حَدثنِي ابْن أبي الْأَزْهَر النَّحْوِيّ قَالَ: قَالَ لنا الزبير بن بكار: سَمِعت الْعَرَب تَقول فِي مثل صَوت الْإِنْسَان من ذِي الْحَافِر صَهل الْفرس يصهل صهيلا، وحمحم حَمْحَمَة، وشهق الْحمار، ونهق ينهق نهيقا، وشحج الْبَغْل يشحج ويشحج شحيجا وشحاجا، ورغا الْبَعِير يرغو رُغَاء، وجرجر وهدر وقبقب، وثغت الشَّاة تغثو ثُغَاء، ويعرت تَيْعر يعارا، وثأجت النعجة تثأج، وبغم الظبي يبغم بغاما، ونزب ينزب، وزأر الْأسد يزأر زئيرا، ونأم نئيما، ونهت ونأت، ووعوع الذِّئْب وعوعة، ونهم الْفِيل ينهم نهما، ورقح القرد يرقح رقحا، وضبح الثَّعْلَب يضبح ضباحا، وعوى الْكَلْب يعوي عواء، ونبح أَيْضا، ومأت السنور تموء، وصأت

(3/469)


الْفَأْرَة تصئوا صئيا. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَيُقَال فِي الْحمار يسحل ويسحل، والجمل يرغو ويهدر، والناقة تئط وتحن، واليعار للمعز، والثؤاج للضأن، والتيس ينب ويهب: إِذا أَرَادَ السفاد، وَالذِّئْب يعوي ويتضور: إِذا جَاع، والأفعى تفح بفيها، وتكش بجلدها، قَالَ الشَّاعِر:
(كشيش أَفْعَى أَجمعت لعض ... فَهِيَ تحك بَعْضهَا بِبَعْض)

والحية تنضنض، وَيُقَال: النضنضة: تحريكها لسانها. وَابْن آوى يعوي. والغراب ينغق بالغين مُعْجمَة، وينعب، والديك يزقو ويسقع، والدجاجة تنق وتنقض: إِذا أَرَادَت الْبيض، والنسر يصفر، وَالْحمام يهدر ويهدل، والمكاء يزقو ويغرد، والقرد يضْحك، والنعام يعار عرارا، يُقَال ذَلِك فِي الظليم، وَالْأُنْثَى تزمر زمارا، وَالْخِنْزِير يقبع، والأرنب تضغب، وَالْعَقْرَب تنق وتصأى، وَيُقَال: صأى الفرخ وَالْخِنْزِير والفيل والفأرة واليربوع يصأى صئيا وصئيا، والضفادع تنقض وتنق، وَكَذَلِكَ الفراريج، وَالْجِنّ تعزف. والشخير من الْفَم، والنخير من المنخرين، والكرير من الصَّدْر، والخرير صَوت المَاء، والغرغرة صَوت الْقدر، والوسواس صَوت الْحلِيّ، والجرس

(3/470)


والجرس صَوت حَرَكَة الْإِنْسَان، والركز الصَّوْت الْخَفي، وَكَذَلِكَ الهمس. وَيُقَال: هجهجت بالسبع: إِذا صحت بِهِ، وَلَا يُقَال ذَلِك لغير السَّبع. وشايعت بِالْإِبِلِ، ونعقت بالغنم، ودجدجت بالدجاجة، وسأسأت بالحمار، وجأجأت بِالْإِبِلِ: دعوتها للشُّرْب، وهأهأت بهَا للعلف. وأشليت الْكَلْب: دَعوته.
وَقَوله: ((نفس لَهَا صياح)) وَهِي الَّتِي تغل من الْمغنم.
وَقَوله: ((رقاع تخفق)) وَهُوَ مَا يغل من الثِّيَاب. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: المُرَاد بالرقاع مَا عَلَيْهِم من الْحُقُوق الْمَكْتُوبَة فِي الرّقاع.
قلت: وَفِي هَذَا بعد، لِأَن الحَدِيث سيق لذكر الْغلُول.
وَأما الصَّامِت فَهُوَ الذَّهَب وَالْفِضَّة.
1941 - / 2392 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((هَلَاك أمتِي على يَد أغيلمة من قُرَيْش)) .
الأغيامة جمع غُلَام. وَقد بَينا معنى الْغُلَام فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: ((لَو أَن النَّاس اعتزلوهم)) قد أَمر أَحْمد بن حَنْبَل بترك هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ الْخلال: قَالَ عبد الله: قَالَ أبي فِي مَرضه: اضْرِب

(3/471)


على هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ خلاف الْأَحَادِيث. قَالَ الْخلال: وَحدثنَا الْمَرْوذِيّ قَالَ: بَلغنِي أَن أَبَا عبد الله قَالَ فِي مَرضه: اضربوا من حَدِيثي على حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((لَو أَن النَّاس اعتزلوهم)) . قَالَ الْمَرْوذِيّ: كنت أسمعهُ يَقُول: هُوَ حَدِيث رَدِيء يحْتَج بِهِ فِي ترك الْجُمُعَة. قَالَ الْخلال: وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمد فِي حَدِيث ثَوْبَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((اسْتَقِيمُوا لقريش مَا استقاموا لكم، فَإِن لم يستقيموا لكم فاحملوا سُيُوفكُمْ على أَعْنَاقكُم فأبيدوا خضراءهم)) قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: الْأَحَادِيث خلاف هَذَا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((اسْمَع وأطع)) قلت: فَهَذَا دَلِيل على أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة لم يثبت عِنْد أَحْمد وَإِن كَانَ قد أخرج فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، فَيحمل على أَنه وهم من الروَاة. وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: ((لَو أَن النَّاس اعتزلوهم)) أَي تركُوا الْإِنْكَار عَلَيْهِم ظَاهرا وصبروا على أفعالهم لِئَلَّا تقع فتْنَة، فَهَذَا تَأْوِيل حسن.
1942 - / 2393 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أول زمرة يدْخلُونَ الْجنَّة على صُورَة الْقَمَر)) .
الزمرة: الْجَمَاعَة. وَالْإِشَارَة إِلَى نور الْقَمَر لَا إِلَى صورته،

(3/472)


ويوضح هَذَا مَا بعده. وَقد ذكرنَا معنى لَيْلَة الْبَدْر فِي مُسْند سهل بن سعد.
وَقَوله: ((لَا يَتَغَوَّطُونَ)) أَي لَا يأْتونَ الْغَائِط: وَهُوَ الْمَكَان المطمئن من الأَرْض لقَضَاء الْحَاجة.
وَقَوله: ((لَا يَتْفلُونَ)) أَي لَا يبصقون. وَقد سبق أَن التفل لَا يكون إِلَّا وَمَعَهُ شَيْء من الرِّيق.
وَقَوله: ((مجامرهم الألوة)) قَالَ أَبُو عبيد: الألوة: الْعود الَّذِي يتبخر بِهِ، فارسية معربة، وَفِيه لُغَتَانِ: ألوة وألوة.
فَأَما الألنجوج فَقَالَ ابْن السّكيت: اليلنجوج: الْعود، وَيُقَال ألنجوج وألنجج وأنجوج.
وَأما الْحور فَقَالَ مُجَاهِد: هن النقيات الْبيَاض. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْحور: الشَّدِيدَة بَيَاض الْعين، الشَّدِيدَة سَواد سوادها. قَالَ الزّجاج: وَالْعين: كبار الْعُيُون حسانها، واحدتهن عيناء.
وَقَوله: ((على خلق رجل)) أَرَادَ بِهِ الطول فِي الْبدن.

(3/473)


1943 - / 2395 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((انتدب الله لمن خرج فِي سَبيله)) .
قد تقدم آنِفا معنى انتدب، وَأَنه بِمَعْنى أجَاب وَضمن. وَقد جَاءَ بِأَلْفَاظ مِنْهَا: تكفل، وتوكل، وتضمن.
وَقَوله: ((فَهُوَ عَليّ ضَامِن)) أَي مَضْمُون.
1944 - / 2396 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((مَا من مكلوم يكلم فِي سَبِيل الله)) .
الكلوم وَالْكَلَام: الْجِرَاحَات، وَاحِدهَا كلم.
وَقَوله: ((فِي سَبِيل الله)) إِشَارَة إِلَى الْإِخْلَاص وَصِحَّة الْقَصْد، وَإِنَّمَا تَأتي الْجِرَاحَات على حَالهَا ليبين بهَا فضل الشَّهِيد وفخره، فليجتهد الْمُجَاهِد أَن تكون الكلوم فِيمَا أقبل مِنْهُ لَا فِيمَا أدبر، لِأَنَّهَا إِذا كَانَت فِيمَا أدبر مِنْهُ دلّت على الْهَزِيمَة، فَهُوَ يفتخر بِتِلْكَ ويستحيي من هَذِه، كَمَا قَالَ الْقَائِل:
(ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... وَلَكِن على أقدامنا تقطر الدما)

1945 - / 2398 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: أَي الصَّدَقَة أعظم أجرا؟ قَالَ: ((أَن تصدق وَأَنت صَحِيح شحيح)) .

(3/474)


اعْلَم أَن الْمُتَصَدّق مخرج لمحبوبه عَن يَده، وَهَذَا المحبوب معد للإنفاق فِي الْأَغْرَاض، ومعظم الْأَغْرَاض تكون فِي الصِّحَّة، فَإِذا كَانَ أخرجه فِي الْمَرَض فقد بَدَت أَمَارَات الإستغناء عَن المَال فَلَا يلْحق بِدَرَجَة الْمُعْطِي فِي الصِّحَّة. أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر الأرموي قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ الْمهْدي قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن الصَّباح قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن معن قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حَيَّان قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي حَبِيبَة الطَّائِي عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((مثل الَّذِي يعْتق عِنْد الْمَوْت كَمثل الَّذِي يهدي إِذا شبع)) .
1946 - / 2399 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين)) فَقَالُوا: وللمقصرين. فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين)) حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: (وللمقصرين)) .
وَهَذَا لِأَنَّهُ حلق رَأسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكرر الدُّعَاء لمن وَافقه فِي فعله وَقصر بِمن قصر، وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عمر سَبَب توقفهم عَن الحلاق.
1947 - / 2401 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند عبد الله بن أبي أوفى.

(3/475)


1948 - / 2402 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا)) .
طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا آيَة تعم الْكل، وتدل على الصَّانِع المقلب للأشياء، وَقد سبق الْوَعْد بذلك فِي الْقُرْآن، فَإِذا اضطرهم ذَلِك إِلَى التَّصْدِيق لم يقبل إِيمَان من يُؤمن حِينَئِذٍ، وَلَقَد زعم الْمُلْحِدُونَ وَأهل النُّجُوم أَن ذَلِك لَا يكون، فيبين كذبهمْ، وَيظْهر الْقُدْرَة على مَا طلبه الْخَلِيل من نمْرُود بقوله: {فأت بهَا من الْمغرب} [الْبَقَرَة: 258] والدجال قد سبقت الْأَخْبَار عَنهُ. وَالدُّخَان مَذْكُور فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. وَالدَّابَّة هِيَ الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا وَقع القَوْل عَلَيْهِم أخرجنَا لَهُم دَابَّة من الأَرْض تكلمهم} [النَّمْل: 82] وَهِي دَابَّة تخرج فِي آخر الزَّمَان تكلم الْإِنْس وتنكت فِي وَجه الْكَافِر نُكْتَة سَوْدَاء فيسود وَجهه، وتنكت فِي وَجه الْمُؤمن نُكْتَة بَيْضَاء فيبيض وَجهه، فَيعرف الْمُؤمن من الْكَافِر. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي صفتهَا وَمَكَان خُرُوجهَا على مَا ذَكرْنَاهُ فِي ((التَّفْسِير)) ، وَإِنَّمَا تخرج هَذِه الدَّابَّة لعقوبة الْكفَّار وفضيحتهم؛ فَإِنَّهُم رَأَوْا من الْآيَات مَا يشفي وَيَكْفِي فَلم ينتفعوا بِمَا رَأَوْا، فَخَرجُوا بالأغراض عَن فهم الدَّلِيل عَن حيّز الْآدَمِيَّة إِلَى حيّز الْحَيَوَان البهيم، فأخرجت لعقوبتهم دَابَّة.

(3/476)


وَقَوله: ((أَو خَاصَّة أحدكُم)) أَي مَا يَخُصُّهُ من الْمَوْت الَّذِي يمنعهُ من الْعَمَل. ((أَو أَمر الْعَامَّة)) يَعْنِي الْقِيَامَة، لِأَنَّهَا تعم النَّاس جَمِيعًا بِالْمَوْتِ، يَقُول: فبادروا الْمَوْت وَالْقِيَامَة بِالْأَعْمَالِ.
1949 - / 2404 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ)) .
الْوَاو عاطفة لكَلَام مُقَدّر تَقْدِيره: وَبِحَمْدِهِ سبحته.
1950 - / 2405 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اللَّهُمَّ اجْعَل رزق آل مُحَمَّد قوتا)) .
الْقُوت: مَا مَا يمسك الرمق. يُقَال: مَا عِنْده قوت لَيْلَة وقيت لَيْلَة، فَكَأَنَّهُ طلب مِقْدَار الْكِفَايَة من الرزق؛ لِأَن فضول الدُّنْيَا تشغل الْقلب وَتخرج إِلَى حب الدُّنْيَا.
1951 - / 2407 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اسْتَوْصُوا بِالنسَاء)) .
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أوصوهن، وَقد جَاءَ استفعل بِمَعْنى أفعل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فليستجيبوا لي} [الْبَقَرَة: 186] وَقَوله: {ويستجيب الَّذين آمنُوا} [الشورى: 26] وَكَذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
( ... ... ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب)

وَالثَّانِي: أَن يكون استفعل على أَصله وَهُوَ طلب الْفِعْل، فَيكون

(3/477)


مَعْنَاهُ: اطْلُبُوا الْوَصِيَّة. وَإِنَّمَا خص النِّسَاء بِالذكر لضعفهن واحتياجهن إِلَى من يقوم بأمورهن.
وَقَوله: ((فَإِن الْمَرْأَة خلقت من ضلع)) فروى السّديّ عَن أشياخه: أَن آدم نَام نومَة فِي الْجنَّة فَاسْتَيْقَظَ فَإِذا عِنْد رَأسه امْرَأَة قَاعِدَة خلقهَا الله تَعَالَى من ضلعه، فَسَأَلَهَا: من أَنْت؟ قَالَت: امْرَأَة. قَالَ: وَلم خلقت. قَالَت: تسكن إِلَيّ. وَقَالَ عبد الله بن عمر: خلقت حَوَّاء من ضلع آدم الْأَيْسَر.
وَقَوله: ((وفيهَا عوج)) قَالَ ثَعْلَب: العوج عِنْد الْعَرَب بِكَسْر الْعين فِي كل مَا لَا يحاط بِهِ. والعوج بِفَتْح الْعين فِي كل مَا يتَحَصَّل، فَيُقَال: فِي الأَرْض عوج وَفِي الدّين عوج؛ لِأَن هذَيْن يتسعان وَلَا يدركان.
وَفِي الْعَصَا عوج وَفِي السن عوج؛ لِأَنَّهُمَا يحاط بهما ويبلغ كنههما.
1952 - / 2409 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لقد عجب الله من صنيعكما)) .
قَالَ ابْن عقيل: الْعجب فِي الأَصْل استغراب الشَّيْء، والإستغراب حَقِيقَة علم مَا لم يعلم، وَإِلَّا فَكل شَيْء أنس بِهِ لَا يتَصَوَّر الْعجب مِنْهُ، كَمَا لَو رأى إِنْسَان حجر المغناطيس يجذب الْحَدِيد وَلم يكن رَآهُ قبلهَا فَإِنَّهُ يعجب، أَو رأى النعام تزدرد الْجَمْر. وَإِذا كَانَ البارئ سُبْحَانَهُ لَا يعزب عَن علمه شَيْء، وَلَا يصدر شَيْء إِلَّا عَن فعله وخلقه، فَأَيْنَ

(3/478)


الْعجب مِنْهُ؟ فَلم يبْق للْحَدِيث معنى إِلَّا أَن يكون فعل فِي حق هَذَا من الثَّوَاب وَالْجَزَاء فعل من أعجبه فعله. وَكَذَلِكَ قَوْله: ((ضحك الله)) لِأَن الضحك لَا يصدر إِلَّا عَن رَاض غير ساخط، فَيكون الْمَعْنى: يصدر عَنهُ فعل الراضي الضاحك وإثابته.
1953 - / 2410 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: مَا عَابَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما قطّ.
اعْلَم أَنه قد يكره الْإِنْسَان شَيْئا وَلَا يكرههُ غَيره، فَإِذا عابه نفر عَنهُ من لم يكرههُ، فَيتْرك فيضيع.
1954 - / 2412 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْصَرف من اثْنَتَيْنِ وَخرج سرعَان النَّاس.
السِّين وَالرَّاء مفتوحتان، وَهَكَذَا ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب ابْن قُتَيْبَة وَغَيره. وَقَالَهُ أَبُو عمر الزَّاهِد بتسكين الرَّاء. قَالَ الْخطابِيّ: الصَّوَاب فتحهما. فَأَما قَوْلهم: سرعَان مَا فعلت، فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات: سرعَان وسرعان وسرعان، وَالرَّاء فِيهِ سَاكِنة وَالنُّون نصب أبدا.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن من تكلم فِي الصَّلَاة نَاسِيا أَو جَاهِلا بِتَحْرِيم الْكَلَام لم تبطل صلَاته، وَقد ذكرنَا هَذَا وَبينا الْخلاف فِيهِ فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن. وَقد اعْترض الْخصم علينا بسؤالين:

(3/479)


أَحدهمَا: الطعْن، وَذَلِكَ من جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: أَن رَاوِيه أَبُو هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا أسلم فِي سنة سبع، قَالُوا: وَذُو الْيَدَيْنِ قتل ببدر، فَكيف يَحْكِي أَبُو هُرَيْرَة حَالَة مَا شَاهدهَا؟ قَالُوا: وَكَذَلِكَ عمرَان بن حُصَيْن هجرته مُتَأَخِّرَة.
وَالثَّانِي: أَن أَلْفَاظه تخْتَلف، وَذَلِكَ يدل على وهاه. فَتَارَة يرْوى: فَسلم من رَكْعَتَيْنِ، وَتارَة: من ثَلَاث.
وَالسُّؤَال الثَّانِي: أَنهم قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي حَال كَون الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة، وَلِهَذَا تكلم أَبُو بكر وَعمر عَامِدين.
فَالْجَوَاب: أما الطعْن فَلَا وَجه لَهُ؛ لِاتِّفَاق الْأَئِمَّة على الصِّحَّة.
وَأما ذُو الْيَدَيْنِ فاسمه الْخِرْبَاق كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن، وعاش الْخِرْبَاق بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا الْمَقْتُول يَوْم بدر ذُو الشمالين، واسْمه عُمَيْر. وَإِنَّمَا أَخذ الْخصم فِي هَذَا الحَدِيث الزُّهْرِيّ، وَالزهْرِيّ يَقُول فِي هَذِه الْقِصَّة: فَقَامَ ذُو الشمالين. قَالَ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: وهم فِي هَذَا الزُّهْرِيّ لِأَنَّهُ ظن أَن ذَا الشمالين وَذَا الْيَدَيْنِ وَاحِد. وَأما عمرَان فَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: أسلم قَدِيما، وغزا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غزوات. وَأما اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فَإِنَّمَا يروي الثَّلَاث عمرَان بن حُصَيْن لَا أَبُو هُرَيْرَة. ثمَّ الشَّك فِي الْعدَد لَا يقْدَح فِي حفظ أصل الحَدِيث وَثُبُوت الْكَلَام نَاسِيا، وَلَعَلَّه من الروَاة لَا من الصَّحَابَة. ثمَّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة أقوى للإتفاق عَلَيْهِ، وَحَدِيث عمرَان انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم.

(3/480)


وَأما تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة فقد بَيناهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَأما كَلَام أبي بكر وَعمر وَالنَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم فقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند عمرَان.
فَإِن قيل: لما قضى مَا فَاتَهُ وَقد خرج سرعَان النَّاس، لم لم يقل: يَا بِلَال، نَاد فِي النَّاس ليتموا صلَاتهم؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل بجوابين، أَحدهمَا: أَنه لم يتَعَرَّض لأمر لَا يلْزمهُم، بل تَركهم كَمَا ترك السَّائِلين عَن مَاء الغدير. وَالثَّانِي: أَن يكون وكل ذَلِك إِلَى عَادَة النَّاس فِي تَبْلِيغ ذَلِك بَعضهم إِلَى بعض، وَلَوْلَا ذَلِك لطال عَلَيْهِ تلبيغ كل مَا يحدث بِهِ.
1955 - / 2413 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: نهى أَن يُصَلِّي الرجل مُخْتَصرا.
وَهُوَ وضع الْيَد على الخصر، وَهَذَا يُنَافِي الْخُشُوع والتعبد. قَالَ أَبُو عبيد: وَجَاء فِي حَدِيث: إِنَّه رَاحَة أهل النَّار.
1956 - / 2414 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أسلم سَالَمَهَا الله)) وَفِي سبق فِي مُسْند أبي ذَر.
1957 - / 2414 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لم

(3/481)


يكذب إِبْرَاهِيم قطّ إِلَّا ثَلَاث كذبات: قَوْله إِنِّي سقيم، وَقَوله: بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا. وَقَوله عَن سارة: أُخْتِي)) .
اعْلَم أَن الْكَذِب لَا يجوز على الْأَنْبِيَاء بِحَال، فَهَذَا أصل يَنْبَغِي أَن يعْتَقد وَلَا يُنَاقض بأخبار الْآحَاد، فَإِنَّهُ ثَابت بِدَلِيل أقوى مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: أَن إِبْرَاهِيم قَالَ قولا يشبه الْكَذِب. قَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: كَلَام إِبْرَاهِيم كَانَ صدقا عِنْد الْبَحْث، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ قولا يشبه الْكَذِب فِي الظَّاهِر وَلَيْسَ بكذب. قَالَ ابْن عقيل: دلَالَة الْعقل تصرف ظَاهر هَذَا اللَّفْظ، وَذَاكَ أَن الْعقل قطع بِأَن الرَّسُول يَنْبَغِي أَن يكون موثوقا بِهِ ليعلم صدق مَا جَاءَ بِهِ عَن الله، وَلَا ثِقَة مَعَ تَجْوِيز الْكَذِب عَلَيْهِ، فَكيف مَعَ وجود الْكَذِب مِنْهُ، وَإِنَّمَا استعير ذكر الْكَذِب لِأَنَّهُ بِصُورَة الْكَذِب فَسَماهُ كذبا مجَازًا، وَلَا يجوز سوى هَذَا.
قلت: وَاعْلَم أَن تِلْكَ الْكَلِمَات إِنَّمَا كَانَت من إِبْرَاهِيم على جِهَة المعاريض، غير أَن الْأَنْبِيَاء يحذرون من كلمة تشبه الْكَذِب، وَلذَلِك يَقُول الْخَلِيل إِذا قيل لَهُ فِي الْقِيَامَة: اشفع لنا: إِنِّي كذبت. وَبَيَان أَنَّهَا كَانَت من جِهَة المعاريض أَنه رُوِيَ عَن الْكسَائي أَنه كَانَ يقف عِنْد قَوْله: {بل فعله} [الْأَنْبِيَاء: 63] وَيَقُول: فعله من فعله وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ: إِن كَانُوا ينطقون فقد فعله كَبِيرهمْ هَذَا. وَكَذَلِكَ: {إِنِّي سقيم} [الصافات: 89]

(3/482)


أَي سأسقم، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّك ميت} [الزمر: 30] أَي سَتَمُوتُ.
وَقَوله: {لَا تؤاخذني بِمَا نسيت} [الْكَهْف: 73] قَالَ ابْن عَبَّاس: لم ينس، وَلكنه من معاريض الْكَلَام.
وَكَذَلِكَ قَوْله هِيَ أُخْتِي: فقد بَين أَنه أَرَادَ أخوة الْإِسْلَام.
وعَلى هَذَا إِشْكَال مَا زَالَ يختلج فِي نَفسِي وَهُوَ أَن يُقَال: مَا معنى توريته عَن الزَّوْجَة بالأخت؟ وَمَعْلُوم أَن ذكرهَا بِالزَّوْجِيَّةِ أسلم لَهَا؛ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: هَذِه أُخْتِي، قَالَ: زوجنيها. وَإِذا قَالَ: امْرَأَتي، سكت، هَذَا إِذا كَانَ الْملك يعْمل بِالشَّرْعِ، فَأَما إِذا كَانَ كَمَا وصف من جوره وَمد يَده إِلَيْهَا ظلما، فَمَا يُبَالِي أَكَانَت زَوْجَة أَو أُخْتا. وَمَا زلت أبحث عَن هَذَا وأسأل فَلم أجد أحدا يشفي بِجَوَاب، إِلَى أَن وَقع لي أَن الْقَوْم كَانُوا على دين الْمَجُوس، وَفِي دينهم أَن الْأُخْت إِذا كَانَت زَوْجَة كَانَ أَخُوهَا الَّذِي هُوَ زَوجهَا أَحَق بهَا من غَيره، فَكَأَن الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ أَن يستعصم من الْجَبَّار بِذكر الشَّرْع الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ الْجَبَّار، فَإِذا الْجَبَّار لَا يُرَاعِي جَانب دين، فَنظر الله عز وَجل إِلَى خَلِيله بِلُطْفِهِ وكف كف الْفَاجِر.
وَقد اعْترض على هَذَا فَقيل: إِنَّمَا جَاءَ بِمذهب الْمَجُوس زاردشت وَهُوَ مُتَأَخّر عَن زمَان الْخَلِيل. وَالْجَوَاب: أَن لمَذْهَب الْقَوْم أصلا قَدِيما فَادَّعَاهُ زرادشت وَزَاد عَلَيْهِ، وَقد كَانَ نِكَاح الْأَخَوَات جَائِزا فِي زمن آدم، وَقيل: إِنَّمَا حرمه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَيدل على أَن دين

(3/483)


الْمَجُوس لَهُ أصل مَا روى أَبُو دَاوُد فِي ((سنَنه)) أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر. وَمَعْلُوم أَن الْجِزْيَة لَا تُؤْخَذ إِلَّا مِمَّن لَهُ كتاب أَو شبه كتاب. ثمَّ سَأَلت عَن هَذَا بعض عُلَمَاء أهل الْكتاب فَقَالَ: كَانَ من مَذْهَب الْقَوْم أَنه من كَانَ لَهُ زَوْجَة لَا يجوز أَن يتَزَوَّج بهَا إِلَّا أَن يقتل الزَّوْج، فَعلم إِبْرَاهِيم هَذَا فَقَالَ عَن سارة: أُخْتِي، وَكَأَنَّهُ يَقُول: إِن كَانَ الْملك عادلا فَخَطَبَهَا مني أمكن مَنعه، وَإِن كَانَ ظَالِما فَأَخذهَا تخلصت من الْقَتْل.
وَقَوله: مَهيم؟ سُؤال عَن الْحَال والقصة، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أنس.
وَقَول أبي هُرَيْرَة: فَتلك أمكُم يَا بني مَاء السَّمَاء. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يَعْنِي الْعَرَب، وَذَلِكَ أَنهم يعيشون بِمَاء السَّمَاء ويتبعون مَوَاضِع الْقطر فِي بواديهم. قَالَ: وَيُقَال: إِنَّمَا أَرَادَ زَمْزَم أنبطها لهاجر فعاشوا بهَا فصاروا كَأَنَّهُمْ أَوْلَادهَا.
وَقَوله: ((كبت الْفَاجِر)) : أَي صرفه وأذله.
1959 - / 2416 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: حَدِيث جريج، وَفِيه أَنه قَالَ: ((أُمِّي وصلاتي)) .
اعْلَم أَن قلَّة الْعلم أوقع جريجا فِيمَا أوقعه فِيهِ، فَإِن طَاعَة الوالدة

(3/484)


وإجابتها لَازِمَة وَصلَاته كَانَت تَطَوّعا، فَلَمَّا قل علمه قدم التَّطَوُّع على الْوَاجِب.
والمومسة: الْفَاجِرَة، وَجَمعهَا مومسات وميامس. وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ مياميس بِزِيَادَة يَاء، قَالَ لنا ابْن الخشاب: لَيْسَ قَوْلهم صَحِيحا.
وَقَوله: يَا بابوس. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: البابوس: الصَّبِي الرَّضِيع، قَالَ ابْن أَحْمَر:
(حنت قلوصي إِلَى بابوسها جزعا ... وَمَا حنينك أم مَا أَنْت وَالذكر)

وَلما ترك جريج مَا يجب عَلَيْهِ من إِجَابَة أمه سمع دعاؤها فِيهِ لِأَنَّهَا مظلومة بِمَنْع حَقّهَا، وَلما كَانَ أصل إيثاره لطاعة الله عز وَجل نظر إِلَى ذَلِك فأنطق الطِّفْل.
وَالدَّابَّة الفارهة: النشيطة. والشارة الْحَسَنَة: الْجمال الظَّاهِر فِي الْهَيْئَة واللباس. وَأما حِكَايَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارتضاع الصَّبِي فلزيادة التفهيم للقصة.
1960 - / 2417 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل وَشرب فليتم صَوْمه؛ فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه)) .
هَذَا صَرِيح فِي الرَّد على مَالك فَإِنَّهُ يَقُول: إِن النَّاسِي إِذا أكل بَطل صَوْمه.

(3/485)


1961 - / 2418 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((فقدت أمة من بني إِسْرَائِيل لَا يدرى مَا فعلت، وَإِنِّي لَا أَرَاهَا إِلَّا الفأر)) .
أَي لَا أظنها، وَالظَّاهِر أَنه قَالَ هَذَا بظنه ثمَّ أعلم بعد ذَلِك فَقَالَ مَا سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود: ((إِن الله لم يمسخ مسخا فَيجْعَل لَهُ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَة)) .
1962 - / 2419 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَو آمن بِي عشرَة من الْيَهُود لم يبْق على ظهرهَا يَهُودِيّ إِلَّا أسلم)) .
كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَشَارَ إِلَى أَن الْقَوْم يقلدون أَحْبَارهم لَا بِالدَّلِيلِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} [الْبَقَرَة: 78]
فَإِن قيل: فقد أسلم أَكثر من عشرَة. فَالْجَوَاب: أَن بعض الْعلمَاء يَقُول: مَا أسلم مِنْهُم عشرَة، بل أقل، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا إِشْكَال، وَإِلَّا فَالْحَدِيث على أَمريْن: أَحدهمَا: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى الرؤساء الْكِبَار. وَالثَّانِي: إِلَى اجْتِمَاع عشرَة فِي الْإِسْلَام فِي وَقت وَاحِد.
1963 - / 2421 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: أَن امْرَأَة كَانَت تقم الْمَسْجِد فَمَاتَتْ، فَقَالَ: ((دلوني على قبرها))

(3/486)


فصلى عَلَيْهَا.
تقم: أَي تكنسه وتنظفه. وَالْقُمَامَة: الكناسة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر وإعادتها فِي حق من لم يصل.
1964 - / 2423 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع ثمَّ جهدها فقد وَجب الْغسْل)) .
فِي الشّعب الْأَرْبَع قَولَانِ: أَحدهمَا: اليدان وَالرجلَانِ. وَالثَّانِي: الفخذان والاسكتان: وهما حرفا الْفرج.
وَقَوله جهدها: أَي اجْتهد فِي الْوُصُول إِلَيْهَا، وَالْإِشَارَة إِلَى التقاء الختانين، فَإِنَّهُ مُبين فِي حَدِيث آخر.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن قَوْله: ((المَاء من المَاء)) مَنْسُوخ.
1965 - / 2425 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((من أعتق شقيصا من مَمْلُوك فَعَلَيهِ خلاصه من مَاله)) .
الشّقص والشقيص: الشّرك والنصيب، وَالْأَصْل فِي الشقيص الطَّائِفَة فِي الشَّيْء، وَأهل الْحجاز يَقُولُونَ: هُوَ شقيصي: أَي شَرِيكي.
وَقَوله: ((فَإِن لم يكن لَهُ مَال فقوم الْمَمْلُوك ثمَّ استسعى)) الْمَعْنى:

(3/487)


إِذا أعتق الْمُعسر نصِيبه سعى العَبْد فِي فكاك مَا قد بَقِي مِنْهُ رَقِيقا حَتَّى يُؤَدِّي إِلَى الَّذِي لم يعْتق قيمَة نصِيبه، فَسُمي تَكْلِيفه للإكتساب استسعاء، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة، وَعَن أَحْمد نَحوه، وَقد أوضحنا هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر.
1966 - / 2426 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْعُمْرَى مِيرَاث لأَهْلهَا)) وَقد شرحناه فِي مُسْند جَابر.
1967 - / 2428 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِن الله عز وَجل تجَاوز لأمتي عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تعْمل أَو تكلم)) .
تحديث النَّفس بالشَّيْء والوسواس بِهِ حَرَكَة فِي الْبَاطِن بتخييله وتمثيله، وَالنَّظَر فِي تَحْصِيله، وَمنع ذَلِك من جولانه فِي الْبَاطِن لَا يدْخل تَحت طوق العَبْد، وَإِنَّمَا غَايَة قدرته أَن يعرض عَن مساكنة ذَلِك، وَلَو أَنه حدث نَفسه بِمَعْصِيَة لم يُؤَاخذ، فَأَما إِذا عزم على الْمعْصِيَة فَإِنَّهُ يخرج عَن تحديث النَّفس وَيصير من أَعمال الْقلب، فَإِن عقد النِّيَّة على الْفِعْل من عمل الْقلب، فَحِينَئِذٍ يَأْثَم بنية السِّرّ. وَبَيَان الْفرق بَين الهمة والعزم أَنه لَو حدث نَفسه وَهُوَ فِي الصَّلَاة بقطعها لم تَنْقَطِع، فَإِذا عزم حكمنَا بقطعها، وَكَذَلِكَ إِذا نوى الْإِفْطَار فقد أفطر. وَقد سُئِلَ سُفْيَان الثَّوْريّ: أيؤاخذ العَبْد بالهمة؟ فَقَالَ: إِذا كَانَت عزما. أخبرنَا مُحَمَّد ابْن أبي الْقَاسِم قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن

(3/488)


عبد الله الْحَافِظ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْفضل قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق قَالَ: حَدثنَا أَبُو همام قَالَ: حَدثنَا مطرف بن مَازِن قَالَ: سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: الْملكَانِ يجدان ريح الْحَسَنَات والسيئات إِذا عقد الْقلب.
1968 - / 2429 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِن عفريتا من الْجِنّ تفلت عَليّ)) .
العفريت: المارد الْخَبيث من الْجِنّ. يُقَال: عفريت نفريت وعفر: إِذا كَانَ قَوِيا خبيثا مُنْكرا.
وَقَوله: ((تفلت عَليّ)) أَي تعرض لي فلتة: أَي فَجْأَة ليغلبني على صَلَاتي.
وَقَوله: ((فَذكرت دَعْوَة أخي)) وَالْمعْنَى أَن سُلَيْمَان أعطي ملكة الْجِنّ فَلم أرد أَن أزاحمه فِيمَا أعطي.
وَقَوله: ((فرددته خاسئا)) الخاسئ. المبعد الصاغر، يُقَال: خسأته فخسأ وخسئ وانخسأ: أَي أبعدته فَبعد.
1969 - / 2430 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أما يخْشَى أحدكُم إِذا رفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يحول الله رَأسه رَأس حمَار، أَو يَجْعَل صورته صُورَة حمَار)) .
هَذِه اللَّفْظَة الْأَخِيرَة تَأْوِيل من قَالَ: رَأس حمَار فِي البلادة،

(3/489)


وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه لَو عقل أمره لعرف عَظمَة المعبود، فَأوجب التَّعَبُّد عَلَيْهِ الْخُشُوع، فَإِذا لم يعرف كَانَ كالبهيمة، فَلم يَأْمَن أَن يمسخ بَهِيمَة.
1970 - / 2431 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أَسْبغُوا الْوضُوء؛ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((ويل لِلْعَرَاقِيبِ من النَّار)) .
إسباغ الْوضُوء: إِتْمَامه، يُقَال: ثوب سابغ، وَدرع سابغ.
والعراقيب جمع عرقوب، قَالَ الزّجاج: العرقوب: هُوَ الْعصبَة الْوَاصِلَة بَين السَّاق والعقب من وَرَاء الْقدَم، والأعقاب جمع عقب: وَهُوَ مَا أصَاب الأَرْض من مُؤخر الرجل إِلَى مَوضِع الشرَاك، وَالْمعْنَى: ويل لَهَا إِذا عوقبت بالنَّار يَوْم الْقِيَامَة.
1971 - / 2432 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: أَخذ الْحسن تَمْرَة من تمر الصَّدَقَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((كخ كخ)) .
هَذَا زجر للصَّبِيّ وردع لَهُ؛ لِأَن الصَّدَقَة لم تكن تحل لَهُ.
1972 - / 2433 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَتَيْنِ: ((صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غمي عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ)) كَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن آدم. وَفِي لفظ لمُسلم: ((فعدوا ثَلَاثِينَ)) وَفِي لفظ لَهُ: ((فصوموا ثَلَاثِينَ)) .

(3/490)


الأول حجَّة لمن لم ير صَوْم يَوْم الْغَيْم، وهم يدعونَ أَنه حجَّة قَاطِعَة، وَإِذا شِئْنَا أَن نتكلم عَلَيْهِ نصرا لرِوَايَة وجوب الصَّوْم إِذا غم الْهلَال قُلْنَا: هَذَا اللَّفْظ إِنَّمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن آدم عَن شُعْبَة. وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكره البُخَارِيّ وَقَالَ فِيهِ: ((فَإِن غم عَلَيْكُم الشَّهْر فعدوا ثَلَاثِينَ)) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَقد روينَا هَذَا الحَدِيث عَن غنْدر وَابْن مهْدي وَابْن علية وَعِيسَى بن يُونُس وشبابة وَعَاصِم بن عَليّ وَالنضْر بن شُمَيْل وَيزِيد بن هَارُون وَأَبُو دَاوُد كلهم عَن شُعْبَة وَلم يذكر أحد مِنْهُم: ((فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ)) فَيجوز أَن يكون آدم قَالَ ذَلِك من عِنْده على وَجه التَّفْسِير للْخَبَر، وَإِلَّا فَلَيْسَ لانفراد البُخَارِيّ عَنهُ بِهَذَا من بَين من رَوَاهُ عَنهُ وَجه. وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِيهِ: ((فعدوا ثَلَاثِينَ)) يَعْنِي عدوا شعْبَان ثَلَاثِينَ. وَقَالَ: أخرجه البُخَارِيّ عَن آدم فَقَالَ فِيهِ: ((فعدوا شعْبَان)) وَلم يقل: يَعْنِي. وَهَذَا يدل على أَن قَوْله يَعْنِي من بعض الروَاة، وَالظَّاهِر أَنه آدم وَأَنه قَوْله. وَقد روى هَذَا الحَدِيث ابْن عَبَّاس مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلم يقل فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: ((فأكملوا عدَّة شعْبَان)) غير آدم أَيْضا، وَهَذَا يدل على أَن الْكل تَفْسِير مِنْهُ.
وَمَا ذكرنَا من اللَّفْظ الْأَخير، وَهُوَ قَوْله: ((فصوموا ثَلَاثِينَ)) يدل على أَن المُرَاد بقوله: ((فعدوا)) عد رَمَضَان لَا شعْبَان، وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((صُومُوا

(3/491)


لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ، ثمَّ أفطروا)) وَكَذَلِكَ رُوِيَ من حَدِيث رَافع بن خديج. وعَلى هَذَا لَا يبْقى لَهُم حجَّة فِي الحَدِيث.
1973 - / 2434 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لأذودن رجَالًا عَن حَوْضِي)) .
أَي لأطردن، يُقَال: ذدته أذوده ذودا: إِذا طردته، وَإِذا وَردت الْإِبِل المَاء فَدخلت فِيهَا غَرِيبَة من غَيرهَا طردت وَضربت حَتَّى تخرج.
وَقَوله: ((فيحلئون عَنهُ)) أَي يمْنَعُونَ، يُقَال: حلأت الرجل عَن المَاء: إِذا منعته أَن يرد، قَالَ الشَّاعِر:
( ... . . ... محلأ عَن سَبِيل الود مصدود)

وَمن روى ((يجلون)) بِالْجِيم أَرَادَ يطردون، يُقَال: جلا الْقَوْم عَن مَنَازِلهمْ وأجليتهم أَنا: إِذا أخرجتهم.
والقهقرى: الرُّجُوع إِلَى الْخلف.

(3/492)


والهمل: الْمُهْملَة الَّتِي لَيْسَ مَعهَا رَاع وَلَا حَافظ وَلَا يكَاد يسلم مِنْهَا من السبَاع وَغَيرهَا إِلَّا الْقَلِيل. وَقيل: الهمل: مَا يهمل فَلَا يرْعَى وَلَا يسْتَعْمل، بل يتْرك مهملا فيضيع وَيهْلك.
1974 - / 2435 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((بَينا رجل يتبختر)) .
التَّبَخْتُر: مشْيَة فِيهَا تمايل.
والحلة: ثَوْبَان من جنس وَاحِد، وَقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر.
والجمة من الْإِنْسَان: مجمع شعر ناصيته، وَهِي جمة إِذا بلغت الْمَنْكِبَيْنِ، فَإِذا كَانَت إِلَى شحمة الْأُذُنَيْنِ فَهِيَ وفرة.
والخسف: غموض ظَاهر الأَرْض وسؤوخها بِمَا عَلَيْهَا.
وَقَوله: ((فَهُوَ يتجلجل فِيهَا)) الجلجلة: الْحَرَكَة المزعجة، وكل شَيْء حرك وخلط بعضه بِبَعْض فقد جلجل. وَالْمعْنَى أَنه يهوى بِهِ ويزعج فِي الْخَسْف بالحركة العنيفة.
1975 - / 2437 - والْحَدِيث السبعون بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِيه: ((هلك كسْرَى ثمَّ لَا يكون كسْرَى بعده، وَقَيْصَر ليهلكن ثمَّ لَا يكون قَيْصر بعده)) وَقد سبق الْكَلَام فِي اسْم كسْرَى فِي مُسْند عدي بن حَاتِم، وَفِي اسْم قَيْصر فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة،

(3/493)


وفسرنا معنى الحَدِيث هُنَالك.
1976 - / 2438 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((غزا نَبِي فَقَالَ: لَا يَتبعني رجل ملك بضع امْرَأَة وَهُوَ يُرِيد أَن يَبْنِي بهَا وَلم يبن)) .
الْبضْع: الْفرج، والمباضعة: المجامعة.
وَالْبناء بِالْمَرْأَةِ: الدُّخُول بهَا، وأصل ذَلِك أَنهم كَانُوا يبنون بِنَاء لمن أَرَادَ أَن يدْخل بِزَوْجَتِهِ.
والخلفات جمع خلفة: وَهِي النَّاقة الْحَامِل، وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة جمع الْهم، فَإِن الْهم إِذا تفرق ضعف فعل الْجَوَارِح، وَإِذا اجْتمع قوي، وَكَانَ من عَادَة الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة أَنهم إِذا غزوا فغنموا نزلت نَار فَأكلت الْغَنَائِم، وَكَأَنَّهُم كَانُوا يحملون بِهَذَا على خلوص النِّيَّة فِي الْغَزَوَات لِئَلَّا يَقع قِتَالهمْ لأجل الْغَنِيمَة، فأبيحت الْغَنَائِم لهَذِهِ الْأمة لطفا بهَا، وَكَأَنَّهَا لما غلب الْإِخْلَاص عَلَيْهَا لم تحتج إِلَى باعث عَلَيْهِ، فَكَانَ الْإِخْلَاص فِي الْجِهَاد أصل قَصدهَا، فَصَارَت الْغَنِيمَة تبعا.
1977 - / 2439 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((قيل لبني إِسْرَائِيل: ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة، فبدلوا فَدَخَلُوا يزحفون على أستاههم، وَقَالُوا: حَبَّة فِي شَعْرَة)) .

(3/494)


من تَأمل هَذَا الحَدِيث علم فرق مَا بَين أمتنَا وَبني إِسْرَائِيل، فَإِن أُولَئِكَ لما أذنبوا دلوا على طَرِيق التَّوْبَة وأتوها متلاعبين بِالدّينِ، وَهَذَا يدل على أَن الذُّنُوب مَا آلمتهم، وَلَا دخل خوف الْجَزَاء عَلَيْهَا فِي قُلُوبهم، وَلَا اكترثوا بالتحذير من عواقبها، وَلَا سروا بِالدّلَالَةِ على طَرِيق النجَاة من شَرها. وَمن كَانَ تلاعبه فِي أصل دينه وَمَعَ نبيه وَفِي بَاب تَوْبَته فَهُوَ فِي غَايَة الْبعد. وَهَذِه الْأمة إِذا أذْنب مذنبهم انْكَسَرَ وَبكى وَاعْتذر، ثمَّ لَا يزَال ينصب ذَنبه بَين عَيْنَيْهِ وَيَوَد أَن لَو مُحي بِكُل مَا يقدر عَلَيْهِ، فَالْحَمْد لله الَّذِي جعلنَا من هَذِه الْأمة.
1978 - / 2440 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((كَانَ مُوسَى يغْتَسل وَحده، فَقَالُوا: مَا يمنعهُ أَن يغْتَسل مَعنا إِلَّا أَنه آدر)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الآدر: عَظِيم الخصيتين، يُقَال: رجل آدر بَين الأدرة والأدرة. والشرج: أَن تعظم وَاحِدَة وتصغر الْأُخْرَى.
والمويه تَصْغِير المَاء.
وجمح: أسْرع إسراعا لَا يردهُ شَيْء.
وَالْمَلَأ: الْأَشْرَاف.
وطفق: أَخذ فِي الْفِعْل.

(3/495)


وَالنَّدْب: الْأَثر، قَالَ ذُو الرمة:
( ... ... ... ملساء، لَيْسَ بِهِ خَال وَلَا ندب)

فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جَازَ لمُوسَى أَن يمشي بَين بني إِسْرَائِيل مَكْشُوف الْعَوْرَة؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مُوسَى كَانَ فِي خلْوَة كَمَا بَين فِي الحَدِيث، فَلَمَّا تبع الْحجر لم يكن عِنْده أحد، فاتفق أَنه جَازَ على قوم فرأوه، وجوانب الْأَنْهَار وَإِن خلت لَا يُؤمن وجود قريب مِنْهَا، فَبنى مُوسَى الْأَمر وَأَنه لَا يرَاهُ أحد على مَا رَآهُ من خلاء الْمَكَان، فاتفق من رَآهُ. وَالثَّانِي: أَن مُوسَى إِنَّمَا نزل إِلَى المَاء مؤتزرا، فَلَمَّا خرج يتبع الْحجر وَهُوَ مبتل بِالْمَاءِ تبين أَنه لَيْسَ بآدر، لِأَن الأدرة تبين تَحت الثَّوْب المبتل بِالْمَاءِ، سمعته من الْحسن عَن أبي بكر النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه.
وَقَوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} [الْأَحْزَاب: 69] أَي لَا تُؤْذُوا مُحَمَّد كَمَا آذَى بَنو إِسْرَائِيل مُوسَى. وَقد اخْتلف الْعلمَاء بِمَاذَا آذوا مُوسَى على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم قَالُوا: آدر، كَمَا ذكرنَا. وَالثَّانِي: أَنه صعد الْجَبَل وَمَعَهُ هَارُون فَمَاتَ هَارُون فَقَالُوا: أَنْت قتلته، قَالَه عَليّ بن أبي طَالب. وَالثَّالِث: أَن قَارون اسْتَأْجر بغية لتقذف مُوسَى بِنَفسِهَا على مَلأ من بني إِسْرَائِيل فعصمها الله وبرأ مُوسَى من ذَلِك، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة. وَالرَّابِع: أَنهم رَمَوْهُ بِالسحرِ وَالْجُنُون،

(3/496)


حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَقَوله: {وَكَانَ عِنْد الله وجيها} قَالَ ابْن عَبَّاس: حظيا، لَا يسْأَله شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ.
1979 - / 2441 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ)) وَسبق بَيَان الحَدِيث فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1980 - / 2442 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِذا أنفقت الْمَرْأَة من كسب زَوجهَا من غير أمره فَلهُ نصف أجره)) .
وَأما إنفاقها من كَسبه عَن غير أمره فَالْمُرَاد بِهِ مَا جعله بحكمها كالملك لَهَا وَلم يأمرها بالتصدق مِنْهُ، فلهَا أجر الصَّدَقَة وَله أجر الْكسْب.
وَالْمرَاد بِالصَّوْمِ النَّافِلَة، فَإِنَّهُ لَا يجوز لَهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ رُبمَا أرادها. وَلَا يجوز لَهَا أَن تَأذن فِي بَيته إِلَّا بِإِذْنِهِ.
1981 - / 2443 - والْحَدِيث السَّادِس وَالسَّبْعُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند أبي ذَر.
1982 - / 2444 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ:

(3/497)


((خلق الله آدم وَطوله سِتُّونَ ذِرَاعا)) وَفِي بعض الرِّوَايَات: ((خلق الله آدم على صورته، ثمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسلم على أُولَئِكَ الْمَلَائِكَة فاستمع مَا يحيونك بِهِ. فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، فَقَالُوا: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، فزادوه: وَرَحْمَة الله)) .
أما قَوْله: ((خلق الله آدم على صورته)) فللناس فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب: أَحدهَا: مَذْهَب جُمْهُور السّلف وَهُوَ السُّكُوت عَن تَفْسِير هَذَا وَأَمْثَاله. وَالثَّانِي: أَن الْهَاء رَاجِعَة إِلَى آدم، فَيكون الْمَعْنى: أَنه خلقه على تِلْكَ الْحَال وَلم يَنْقُلهُ من نُطْفَة إِلَى علقَة، وَهَذَا مَذْهَب أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ. وَالثَّالِث: أَنَّهَا ترجع إِلَى الله سُبْحَانَهُ، فَهِيَ مُضَافَة إِضَافَة ملك لَا إِضَافَة ذَات، كَمَا أضَاف الرّوح الَّتِي نفخت فِي آدم إِلَيْهِ فَقَالَ: {ونفخت فِيهِ من روحي} [ص: 72] وَهَذَا مَذْهَب ابْن عقيل. قَالَ: وَإِنَّمَا خص آدم بِإِضَافَة الصُّورَة إِلَيْهِ لخصيصة فِيهِ، وَهِي السلطنة الَّتِي تشاكل الإلهية استعبادا وسجودا واستخداما وأمرا نَافِذا وسياسات يعمر بهَا الْبِلَاد وَيصْلح بهَا من أَمر الْعباد، وَلَيْسَ فِي الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة من يجْتَمع على طَاعَته نَوعه وقبيله سوى الْآدَمِيّ، وَهَذِه الصُّورَة هِيَ حَال، وَالصُّورَة قد تقع على الْحَال، فَهَذَا مَوضِع حمل الصُّورَة على الصُّورَة، وَهِي حمل حَال الْخلَافَة والمملكة والسلطنة على حَال الإلهية.
وَأما التَّحِيَّة هَا هُنَا فَهِيَ السَّلَام. وَقَوله: السَّلَام عَلَيْك قد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.

(3/498)


فَأَما الزِّيَادَة على الْمُسلم فَهُوَ أَنه إِذا قَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، قيل لَهُ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله، فَإِذا قَالَ هَذَا كُله قيل لَهُ مثله وَزيد: وَبَرَكَاته، أَو يُقَال لَهُ: وَعَلَيْكُم السَّلَام، فَيكون ذَلِك رد الْكل، وَإِلَى هَذَا يَنْتَهِي السَّلَام.
1983 - / 2445 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((رأى عِيسَى بن مَرْيَم رجلا يسرق، فَقَالَ لَهُ: أسرقت؟ قَالَ: كلا، وَالَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِيسَى: آمَنت بِاللَّه وكذبت عَيْني)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: أَعلَى الْيَقِين الْمُشَاهدَة، فَكيف يكذب وَيقدم قَول زاعم؟ فَالْجَوَاب: من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّاظر إِلَى الشَّيْء قد لَا يتثبت فِي نظره فَلَا يحصل لَهُ الْيَقِين. وَالثَّانِي: أَن يكون هَذَا من المعاريض، وَيكون تَقْدِيره: كذبت عَيْني فِي غير هَذَا.
1984 - / 2446 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اشْترى رجل عقارا)) .
وَالْعَقار: الضَّيْعَة وَالنَّخْل.
1985 - / 2447 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما وَاحِدَة. .))
الفئة: الْجَمَاعَة.

(3/499)


وَالدَّعْوَى: الإنتماء، كَمَا فسرناه دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فِي مُسْند جَابر. وَمعنى ((دعواهما وَاحِدَة)) انتماؤهما إِلَى دين وَاحِد.
وَقَوله: ((حَتَّى يبْعَث دجالون)) أصل الْبَعْث الإثارة. والدجال: الْكذَّاب. وَقبض الْعلم قد سبق فِي مُسْند أنس.
وَقَوله: ((يتقارب الزَّمَان)) قد فسرناه فِي أول هَذَا الْمسند.
واللقحة وَاحِد اللقَاح: وَهِي النَّاقة ذَات اللَّبن، وَيُقَال: الملاقيح والملاقح أَيْضا للحوامل.
ولاط فلَان حَوْضه يلوطه ويليطه: إِذا طينه بالطين وسد خروقه ليحفظ لَهُ المَاء فِي سقِِي دوابه. وأصل اللوط اللصوق، يُقَال: لَا يلتاط هَذَا بصفري: أَي لَا يلتصق بقلبي.
والأكلة: اللُّقْمَة. قَالَ لنا شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: الْأكلَة بِالضَّمِّ: اللُّقْمَة، والأكلة بِالْفَتْح: الْمرة، والإكلة بِالْكَسْرِ: الْحَالة.
1986 - / 2448 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اشْتَدَّ غضب الله على قوم فعلوا بِنَبِيِّهِ - يُشِير إِلَى رباعيته - اشْتَدَّ غضب الله على رجل يقْتله رَسُول فِي سَبِيل الله)) .
الرّبَاعِيّة مبينَة فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. وَإِنَّمَا اشْتَدَّ غضب الله على

(3/500)


رجل يقْتله رَسُول الله، لِأَن الرَّسُول يُرْجَى مِنْهُ الرَّحْمَة، فَإِذا اشْتَدَّ غَضَبه وَأخرج إِلَى الْقَتْل دلّ على أَن الْمَقْتُول فِي غَايَة الشَّقَاء. وَقد قتل عَلَيْهِ السَّلَام أبي بن خلف يَوْم أحد.
1987 - / 2449 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((تَحَاجَّتْ الْجنَّة وَالنَّار)) .
وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند أبي سعيد، وفسرنا هُنَاكَ معنى المتكبرين والضعفاء.
وَقَوْلها: أُوثِرت: أَي خصصت.
والسقط: المزدرى بِهِ.
وَقَوله: ((وغرتهم)) الْغرَّة كالغفلة، والغر: الَّذِي لم يجرب الْأُمُور.
وَالْعجز جمع عَاجز، وَكَأَنَّهُم عجزوا عَن اكْتِسَاب الدُّنْيَا شغلا باكتساب الْآخِرَة.
وَقَوله: ((يضع قدمه)) قد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند أنس، وَبينا معنى قطّ قطّ، وتكلمنا هُنَاكَ فِي قَوْله: ((وينشئ للجنة خلقا)) .
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: ((يضع رجله)) مَكَان قَوْله ((قدمه)) وَهُوَ من رِوَايَة مُحَمَّد بن رَافع، وَكَانَ رجلا صَالحا، ظن أَن الْقدَم

(3/501)


بِمَعْنى الرجل. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أنس أَيْضا. وَبينا أَن الرجل تكون بِمَعْنى الْجَمَاعَة، كَمَا يُقَال رجل من جَراد.
1988 - / 2450 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْعين حق)) وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: لعن الْوَاصِلَة. قد ذكرنَا الْوَاصِلَة والواشمة فِي مُسْند ابْن عمر.
1989 - / 2451 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ)) وَقد تقدم هَذَا فِي هَذَا الْمسند.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((وَالله لِأَن يلج أحدكُم بِيَمِينِهِ فِي أَهله آثم لَهُ عِنْد الله من أَن يُعْطي كَفَّارَته الَّتِي افْترض الله عَلَيْهِ)) وَفِي لفظ: ((من استلج فِي أَهله بِيَمِينِهِ فَهُوَ أعظم، لَيْسَ تغني الْكَفَّارَة)) .
لج واستلج واستلجج فِي يَمِينه، من اللجاج: وَهُوَ أَن يسْتَمر على حكم الْيَمين وَترك التَّكْفِير وَهُوَ يعلم أَن الْحِنْث أفضل، كَأَنَّهُ حلف أَلا يصل قرَابَته وَلَا يطَأ زَوجته، فإقامته على ذَلِك شَرّ لَهُ من أَن يكفر وَإِن كَانَت الْكَفَّارَة لَيست شرا.
وَقَوله: ((لَيْسَ تغني الْكَفَّارَة)) كَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى إثمه فِي قَصده أَلا يبر

(3/502)


وَلَا يفعل الْخَيْر، فَلَو كفر لم تدفع الْكَفَّارَة سوء ذَلِك الْقَصْد.
وَبَعْضهمْ يفتح نون تغني، من قَول عُثْمَان: أغنها عَنَّا: أَي اصرفها عَنَّا واتركها، فَيكون الْمَعْنى أَن الْكَفَّارَة لَا يَنْبَغِي أَن تتْرك.
1990 - / 2452 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يشر أحدكُم إِلَى أَخِيه بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَان ينزغ فِي يَده فَيَقَع فِي حُفْرَة من النَّار)) .
قد فسره أَبُو عبد الله الْحميدِي على أَن نيزع بالغين الْمُعْجَمَة وَقَالَ: النزغ: الْفساد، وَمِنْه: {نَزغ الشَّيْطَان بيني وَبَين إخوتي} [يُوسُف: 100] أَي أفسد، قَالَ: فَنهى عَن الْإِشَارَة بالحديد خوفًا من أَن يتَّفق الْفساد فِي ذَلِك فيأثم، وَيحْتَمل أَن يكون ينْزع بِالْعينِ، من نزعت فِي الْقوس: إِذا مددتها، فَيكون الْمَعْنى: لَعَلَّ الشَّيْطَان يمد يَده عِنْد الْإِشَارَة فيجرح الْمُسلم أَو يقْتله.
1991 - / 2453 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يقل أحدكُم: أطْعم رَبك، وَليقل: سَيِّدي، مولَايَ. وَلَا يقل أحدكُم: عَبدِي وَأمتِي، وَليقل: فَتَاي وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)) .
المُرَاد بهَا نفي الْمُشَاركَة فِيمَا هُوَ اسْم علم لله عز وَجل، فَإِن

(3/503)


الرب من أَسمَاء الْحق - سُبْحَانَهُ - الْأَعْلَام، وَكَذَلِكَ العَبْد إِنَّمَا يُضَاف غَالِبا إِلَى الله عز وَجل.
1992 - / 2454 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَوْلَا بَنو إِسْرَائِيل لم يخنز اللَّحْم، وَلَوْلَا حَوَّاء لم تخن أُنْثَى زَوجهَا)) .
قَوْله: ((لم يخنز اللَّحْم)) لم يتَغَيَّر وينتن. قَالَ أَبُو عبيد: خنز يخنز، وخنز يخنز، وخزن يخزن، وَقَالَ طرفَة:
(ثمَّ لَا يخزن فِينَا لَحمهَا ... إِنَّمَا يخزن لحم المدخر)

وَيُقَال: صل اللَّحْم وأصل، وخم وأخم، وثنت ونثت: إِذا أروح وَتغَير.
وَأما خِيَانَة حَوَّاء زَوجهَا فَإِنَّهَا كَانَت فِي ترك النَّصِيحَة فِي أَمر الشَّجَرَة لَا فِي غير ذَلِك. وَالْمرَاد أَن بني إِسْرَائِيل لما نهوا أَن يدخروا فخالفوا فسد اللَّحْم، واطردت الْحَال فِيهِ عِنْد كل مدخر. وَلما خانت حَوَّاء زَوجهَا اطردت الْحَال فِي بناتها.
1993 - / 2455 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا ينظر الله إِلَى من جر إزَاره بطرا)) .

(3/504)


البطر: الطغيان عِنْد النِّعْمَة. وَالْمعْنَى أَن الله معرض عَنهُ غير مقبل عَلَيْهِ.
1994 - / 2456 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت، إِمَّا محسنا فَلَعَلَّهُ يزْدَاد، أَو مسيئا فَلَعَلَّهُ يستعتب)) .
اعْلَم أَن تمني الْمَوْت اخْتِيَار من العَبْد لنَفسِهِ مَا يظنّ فِيهِ الْخيرَة، والخيرة غَائِبَة عَن الْآدَمِيّ لَا يعلمهَا، وَالْمُؤمن إِذا بَقِي ازْدَادَ خيرا أَو تَابَ من شَرّ.
والإستعتاب: الرُّجُوع عَن الْإِسَاءَة إِلَى الْإِحْسَان.
1995 - / 2457 - وَفِي الحَدِيث التسعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((وَلَقَاب قَوس أحدكُم فِي الْجنَّة خير مِمَّا تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس أَو تغرب)) .
القاب: الْقدر. وَقيل: القاب من الْقوس: مَا بَين المقبض إِلَى السية، وَلكُل قَوس قابان. وسية الْقوس: طرفها.
والغدو: أول النَّهَار، والغدوة: الفعلة الْوَاحِدَة. والرواح: من زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل. والروحة: الفعلة الْوَاحِدَة.
1996 - / 2458 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِذا قَاتل أحدكُم أَخَاهُ فليجتنب الْوَجْه، فَإِن الله خلق آدم على صورته)) .
قد أوسعنا الْكَلَام فِي هَذَا قبل عشرَة أَحَادِيث، وَبينا أَن كثيرا من

(3/505)


السّلف كَانَ يسكت عَن الْكَلَام فِي هَذَا. وَقد قَالَ قوم: المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث أَن الله تَعَالَى خلق آدم على صُورَة هَذَا الْمَضْرُوب، فَيَنْبَغِي أَن يحترم لأجل آدم.
1997 - / 2460 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((يضْحك الله إِلَى رجلَيْنِ)) .
قد ذكرنَا أَن أَكثر السّلف كَانُوا يمتنعون من تَفْسِير مثل هَذَا ويمرونه كَمَا جَاءَ، وَيَنْبَغِي أَن تراعى قَاعِدَة فِي هَذَا قبل الإمرار: وَهِي أَنه لَا يجوز أَن يحدث لله صفة، وَلَا تشبه صِفَاته صِفَات الْخلق، فَيكون معنى إمرار الحَدِيث الْجَهْل بتفسيره. وَقَالَ الْخطابِيّ: الضحك الَّذِي يعتري الْبشر عِنْدَمَا يستخفهم الْفَرح أَو يستفزهم الطَّرب غير جَائِز على الله سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مثل مَضْرُوب لهَذَا الصَّنِيع الَّذِي يحل مَحل الْعجب عِنْد الْبشر، فَإِذا رَأَوْهُ أضحكهم. وَمعنى يضْحك فِي صفة الله عز وَجل الْإِخْبَار عَن الرِّضَا بِفعل أحد هذَيْن وَالْقَبُول للْآخر ومجازاتهما على صنيعهما الْجنَّة مَعَ تبَاين مقاصدهما.
1998 - / 2461 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْمُؤمن يَأْكُل فِي معى وَاحِد)) قد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند أبي مُوسَى.

(3/506)


1999 - / 2465 - وَمَا بعد هَذَا قد تقدم إِلَى الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ،، فِيهِ: ((لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كل صَلَاة)) .
وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب: لِأَنَّهُ أعلمهم أَنه لَو أَمر لوَجَبَ. وَلَا يحسن أَن يُقَال: يجوز أَن يَأْمُرهُم وَيكون أَمر ندب، لِأَنَّهُ لَا يصرف أمره إِلَى النّدب إِلَّا بِقَرِينَة، وَهُوَ بِهَذَا القَوْل قد ندب.
2000 - / 2466 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((حجبت النَّار بالشهوات صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحجبت الْجنَّة بالمكاره)) وَفِي لفظ: ((حفت)) .
حجبت بِمَعْنى سترت. وَالشَّيْء لَا يُوصل إِلَيْهِ إِلَّا بعد كشف ستره ومجاوزه مَا حف بِهِ، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أنس.
2001 - / 2467 - وَفِي الحَدِيث الثلاثمائة: ((لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض، وَلَكِن الْغنى غنى النَّفس)) .
الْعرض: جَمِيع الْأَمْوَال. وَالْمرَاد بِهِ أَنه من افْتَقَرت نَفسه لم يغنه شَيْء، وافتقارها يكون بالشره فَلَا يغنيها مَا يكفيها، وأنشدوا فِي هَذَا الْمَعْنى:

(3/507)


(غنى النَّفس لمن يعقل ... خير من غنى المَال)

(وَفضل النَّاس فِي الْأَنْفس ... لَيْسَ الْفضل فِي الْحَال)

2002 - / 2468 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الثلاثمائة: ((لَا يصل أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء)) .
قَالَ الزّجاج: صفحة الْعُنُق من مَوضِع الرِّدَاء من الْجَانِبَيْنِ يُقَال لَهَا العاتق.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على مَذْهَبنَا، فَإِن عندنَا أَن ستر الْمَنْكِبَيْنِ وَاجِب فِي صَلَاة الْفَرْض دون النَّفْل. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يجب فيهمَا وَإِنَّمَا يسْتَحبّ.
2003 - / 2469 - والْحَدِيث الثَّانِي بعد الثلاثمائة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2004 - / 2470 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الثلاثمائة: ((دَعونِي مَا تركتكم؛ إِنَّمَا أهلك من كَانَ قبلكُمْ سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ)) .
قد بَين فِي الحَدِيث سَبَب قَوْله هَذَا، وَهُوَ أَنه لما قَالَ: ((أَيهَا

(3/508)


النَّاس، قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا)) . قَالَ رجل: كل عَام؟ فَسكت، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ وَلما اسْتَطَعْتُم)) ثمَّ قَالَ: ((ذروني مَا تركتكم)) فَأَرَادَ مِنْهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقومُوا بظواهر الْأَوَامِر من غير تعمق وتكلف، فَإِن قَوْله: ((قد فرض عَلَيْكُم الْحَج)) يَكْفِي فِي امْتِثَال هَذَا حجَّة وَاحِدَة، فالسؤال: هَل هُوَ كل عَام؟ تكلّف وتعمق. وَمثل هَذَا جرى لبني إِسْرَائِيل حِين قَالَ لَهُم: (اذبحوا بقرة) فَلَو اعْترضُوا بقرة فذبحوها كَانُوا قد عمِلُوا بِمُقْتَضى الْخطاب، وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد عَلَيْهِم.
وَقَوله: ((إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم)) قد دلّ على وجوب الْمَقْدُور عَلَيْهِ من جَمِيع المأمورات، فَإِن من لم يُمكنهُ الصَّلَاة قَاعِدا صلى على جنب، وَكَذَلِكَ إِذا وجد من المَاء بعض مَا يَكْفِي فِي الطَّهَارَة فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلهُ ثمَّ يتَيَمَّم لما بَقِي، إِن كَانَت جَنَابَة فَلَا خلاف فِي الْمَذْهَب، وَإِن كَانَ وضُوءًا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَان، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ، الْمَنْصُور عندنَا وَعِنْدهم اسْتِعْمَاله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يلْزم اسْتِعْمَاله فِي الطهارتين.
2005 - / 2471 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الثلاثمائة: ((لَا يَأْتِي ابْن آدم النّذر بِشَيْء لم أكن قدرته)) . وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند ابْن عمر.
2006 - / 2472 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الثلاثمائة: أَن رجلا

(3/509)


خرج بِصَدقَة فَوَقَعت فِي يَد سَارِق، ثمَّ خرج بِصَدقَة فَوَقَعت فِي يَد زَانِيَة ... .
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن الثَّوَاب يكون بنية الْمُتَصَدّق وَإِن لم يُصَادف أَهلا.
2007 - / 2473 - والْحَدِيث السَّادِس بعد الثلاثمائة: قد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
2008 - / 2474 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الثلاثمائة: ((كَانَت امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابناهما، فجَاء الذِّئْب فَذهب بِابْن إِحْدَاهمَا، فَقَالَت لصاحبتها: إِنَّمَا ذهب بابنك، فتحاكمتا إِلَى دَاوُد، فَقضى بِهِ للكبرى، فَقَالَ سُلَيْمَان: ائْتُونِي بالسكين أشقه بَينهمَا، فَقَالَت الصُّغْرَى: لَا تفعل، هُوَ ابْنهَا، فَقضى بِهِ للصغرى)) .
أما دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَرَأى استواءهما فِي الْيَد فَقدم الْكُبْرَى لأجل السن، وَأما سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَرَأى الْأَمر مُحْتملا، فاستنبط فَأحْسن، فَكَانَ أحد فطنة من دَاوُد، وَكِلَاهُمَا حكم بالإجتهاد، لِأَنَّهُ لَو كَانَ دَاوُد حكم بِالنَّصِّ لم يسع سُلَيْمَان أَن يحكم بِخِلَافِهِ، وَلَو كَانَ مَا حكم بِهِ نصا لم يخف على دَاوُد.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن الفطنة والفهم موهبة لَا بِمِقْدَار السن،

(3/510)


قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: وَفِيه دَلِيل على أَن الْحق فِي جِهَة وَاحِدَة، لِأَن سُلَيْمَان لَو وجد مساغا أَلا ينْقض على دَاوُد حكمه لفعل.
2009 - / 2475 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الثلاثمائة: ((يَد الله ملأى، لَا يغيضها نَفَقَة، سحاء اللَّيْل وَالنَّهَار)) .
يغيض: ينقص.
والسحاء: الدائمة الصب. يُقَال: سَحَابَة سحوح: أَي كَثِيرَة الصب. وَفرس مسح: أَي سريعة شَدِيدَة الْعَدو، تشبه بانصباب الْمَطَر.
وَقَوله: ((بِيَدِهِ الْمِيزَان)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: ذكر الْمِيزَان مثل، وَإِنَّمَا هُوَ قسمه بِالْعَدْلِ بَين الْخلق، يخْفض من يَشَاء وَيرْفَع من يَشَاء، ويوسع على من يَشَاء، كَمَا يصنع الْوزان عِنْد الْوَزْن.
قَوْله: ((وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْض وَالْقَبْض)) الْفَيْض من فاض الشَّيْء، فيشار بِهَذَا إِلَى سَعَة الْعَطاء. وَالْقَبْض ضد الْبسط، فيشار بِهَذَا إِلَى الْمَنْع، وَهُوَ أليق لمقابلته الْإِعْطَاء.
2010 - / 2478 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الثلاثمائة: ((إِن لله مَلَائِكَة سيارة فضلا)) . أَي يزِيدُونَ على كتاب النَّاس ويفضلون عَنْهُم.
2011 - / 2479 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الثلاثمائة: ((الْوَلَد

(3/511)


للْفراش، وللعاهر الْحجر)) .
الْمَعْنى: الْوَلَد لصَاحب الْفراش وَهُوَ الزَّوْج؛ لِأَن الزَّانِي لَا فرَاش لَهُ. وَقَالَ قوم: الْفراش: الزَّوْج، وَاحْتَجُّوا بقول جرير:
(باتت تعارضه وَبَات فراشها ... ... . .)

قَالَ ابْن فَارس: وعَلى هَذَا يجوز أَن يكون الزَّوْج قد استعير لَهُ اسْم الْمَرْأَة كَمَا اشْتَركَا فِي اللبَاس وَالزَّوْج.
والعهر: الزِّنَا. وَمعنى قَوْله: ((للعاهر الْحجر)) أَي: لَا حَظّ لَهُ فِي نسب الْوَلَد، كَمَا تَقول: لَهُ التُّرَاب، أَي لَا شَيْء لَهُ.
2012 - / 2480 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الثلاثمائة: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تشاجروا فِي الطَّرِيق بسبعة أَذْرع.
تشاجروا واشتجروا بِمَعْنى تنازعوا وَاخْتلفُوا. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَوجه هَذَا الحَدِيث أَن يكون هَذَا فِي الطَّرِيق الشارعة الَّتِي هِيَ معبر النَّاس، وَقد يكون ذَلِك فِي الطَّرِيق الْوَاسِع من شوارع الْمُسلمين يقْعد فِي حافتيه قوم من الباعة يرتفقون بهَا، فَإِن كَانَ الشَّارِع الْمَتْرُوك فِيهِ للمارة سَبْعَة أَذْرع لم يمنعوا من الْقعُود فِيهِ والإرتفاق بِهِ، وَإِن كَانَ ذَلِك

(3/512)


أقل منعُوا لِئَلَّا تضيق الطَّرِيق على أَهلهَا.
2013 - / 2481 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الثلاثمائة: ((يعْقد الشَّيْطَان على قافية رَأس أحدكُم إِذا هُوَ نَام ثَلَاث عقد، يضْرب على كل عقدَة مَكَانهَا: عَلَيْك ليل طَوِيل فارقد)) .
قافية الرَّأْس: مؤخره، وَقفا كل شَيْء وقافيته: آخِره، وَمِنْه سمي آخر بَيت الشّعْر قافية. قَالَ أَبُو عبيد: فَكَأَن معنى الحَدِيث: على قفا أحدكُم ثَلَاث عقد للشَّيْطَان.
وَقَوله: ((عَلَيْك ليل طَوِيل)) أَي يَقُول لَهُ ذَلِك. وَمَتى مَا انتبه الْإِنْسَان وَقد أَخذ حظا من نَومه يَكْفِيهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتعلل عَن الْقيام، فَإِنَّهُ رُبمَا أَخذه النّوم إِلَى الْفجْر، وَقد كَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: إِذا انْتَبَهت لم أقل نَفسِي. وَكَانَ آخر من الْعباد يَقُول: إِذا انْتَبَهت ثمَّ عدت أَنَام فَلَا أَنَام الله عَيْني.
2014 - / 2482 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الثلاثمائة: ((إِذا نظر أحدكُم إِلَى من فضل عَلَيْهِ فِي المَال والخلق فَلْينْظر إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ)) .
هَذَا من أحسن الْأَدَب، وَبِه يطيب الْعَيْش، فَإِن النَّفس تحب أَلا يفوقها أحد فِي شَيْء، فَإِذا نظرت إِلَى من قد فاقها انْكَسَرت، وَرُبمَا

(3/513)


تسخطت مَا هِيَ فِيهِ، فَإِذا نظرت إِلَى من دونهَا عرفت قدر النِّعْمَة فَشَكَرت.
وأجدر بِمَعْنى أَحَق.
والازدراء: الاحتقار.
وَمَا أحسن مَا قَالَ بعض الْعَرَب:
(إِذا شِئْت أَن تحيا غَنِيا فَلَا تكن ... على حَالَة إِلَّا رضيت بِدُونِهَا)

2015 - / 2484 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الثلاثمائة: ((إيَّاكُمْ وَالظَّن؛ فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث)) .
المُرَاد بِهَذَا الظَّن القَوْل بِمُقْتَضى الظَّن، فَإِنَّهُ حكم على مَا لم يتَيَقَّن فَلذَلِك كَانَ أكذب الحَدِيث، فَأَما خواطر الْقلب فَإِنَّهَا لَا تملك فَلَا ينْهَى عَنْهَا. قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: الظَّن ظنان: فَظن هُوَ إِثْم: وَهُوَ أَن يظنّ وَيتَكَلَّم بِهِ، وَظن لَيْسَ بإثم: وَهُوَ أَن يظنّ وَلَا يتَكَلَّم بِهِ.
وَمَا بعد هَذَا من الحَدِيث قد سبق إِلَى قَوْله: ((وَلَا تجسسوا)) والتجسس: التبحث وَالِاسْتِقْصَاء والفحص عَن بواطن الْأُمُور، وَأكْثر مَا يُقَال ذَلِك فِي الشَّرّ، والجاسوس: صَاحب سر الشَّرّ، والناموس: صَاحب سر الْخَيْر.
وَأما قَوْله: ((وَلَا تحسسوا)) بِالْحَاء فَقَالَ قوم - مِنْهُم أَبُو عُبَيْدَة: الْجِيم والحاء بِمَعْنى، فعلى هَذَا إِنَّمَا ذكره تَأْكِيدًا، فَخَالف بَين اللفظتين، كَقَوْل الشَّاعِر:

(3/514)


( ... . . ... وألفى قَوْلهَا كذبا ومينا)

قَالَ قوم - مِنْهُم يحيى بن أبي كثير: التَّجَسُّس بِالْجِيم: الْبَحْث عَن عورات النَّاس، وَبِالْحَاءِ: الِاسْتِمَاع لحَدِيث الْقَوْم. وَكَانَ أَبُو بكر ابْن مقسم يذهب بِالْجِيم إِلَى الإجتهاد فِي الطّلب، وَيَقَع على جَمِيع الْجَوَارِح، وَيذْهب بِالْحَاء إِلَى التسمع وَمد الْعين، من قَوْلك: أحسست الشَّيْء: إِذا سَمِعت حسه.
والمنافسة: الْحِرْص على الشَّيْء بِطَلَب طَالبه الإنفراد بِهِ، وَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي طلب الدُّنْيَا أوجب التباغض، وَأما احتقار الْمُسلمين فَإِنَّمَا ينشأ من الْكبر.
2016 - / 2485 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الثلاثمائة: ((لَا يُؤمن أحدكُم الَّذِي لَا يَأْمَن جَاره بوائقه)) وَفِي لفظ: ((لَا يدْخل الْجنَّة. .)) .
قَالَ أَبُو عبيد: البوائق: الغوائل وَالشَّر، يُقَال: أَصَابَتْهُم بائقة: أَي داهية، وباقتهم تبوقهم بوقا، وَكَذَلِكَ فقرتهم الفاقرة، وصلتهم الصالة، والصالة: الداهية.
فَإِن قيل: فَهَل يخرج بِهَذَا من الْإِيمَان؟ فَالْجَوَاب: يخرج من كَمَال الْإِيمَان وَيُمكن أَن يُقَال إِن هَذِه الصّفة لَيست من صِفَات الْمُؤمن.

(3/515)


فَإِن قيل: فَهَل يمْنَع هَذَا دُخُول الْجنَّة؟ فقد سبق مثل هَذَا مشروحا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2017 - / 2486 - والْحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الثلاثمائة: قد سبق فِي مُسْند أبي مُوسَى.
2018 - / 2487 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الثلاثمائة: ((نعم المنيحة اللقحة منيحة، وَالشَّاة الصفي تَغْدُو بِإِزَاءِ وَتَروح بِإِنَاء)) .
المنيحة: الْعَطِيَّة، وَهِي هَا هُنَا عَارِية يمنح قوم لَبنهَا ثمَّ يردونها.
واللقحة بِكَسْر اللَّام: الشَّاة الَّتِي لَهَا لبن. وَبِفَتْحِهَا: الْمرة الْوَاحِدَة من الْحَلب. وَقيل: فِيهِ لُغَتَانِ: كسر اللَّام وَفتحهَا.
وَالشَّاة الصفي والناقة الصفي: الْكَثِيرَة اللَّبن. وصفايا الْإِبِل: الغزار مِنْهَا.
والصبوح: الشّرْب فِي وَقت الْغَدَاة. والغبوق: شرب الْعشي.
وَفِي هَذَا الحَدِيث كَلِمَات أخر كلهَا قد سبق شرحها.
2019 - / 2488 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الثلاثمائة: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر على الصَّدَقَة، فَقيل: منع ابْن جميل وخَالِد ابْن الْوَلِيد وعباس بن عبد الْمطلب، فَقَالَ: ((مَا ينقم ابْن جميل إِلَّا أَن

(3/516)


كَانَ فَقِيرا فأغناه الله وَرَسُوله، وَأما خَالِد فَإِنَّكُم تظْلمُونَ خَالِدا، قد احْتبسَ أدراعه وأعبده)) - وَفِي لفظ: ((وأعتاده - فِي سَبِيل الله. وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا)) - وَفِي رِوَايَة: ((فَهِيَ عَليّ وَمثلهَا مَعهَا)) .
قَوْله: ((مَا ينقم)) أَي مَا يكره، يُقَال: نقم ينقم، ونقم ينقم، وَالْمعْنَى: أَنه لَا ينقم شَيْئا، قَالَ الله عز وَجل: {وَمَا نقموا مِنْهُم إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه} [البروج: 8] وأنشدوا:
(مَا نقم النَّاس من أُميَّة إِلَّا ... أَنهم يحلمون إِن غضبوا)

(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك وَلَا ... يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)

وَالْمعْنَى: مَا ينقمون مِنْهُم شَيْئا، وَهَذَا من جنس قَول الشَّاعِر:
(وَلَا عيب فيهم غير أَن سيوفهم ... بِهن فلول من قراع الْكَتَائِب)

أَي لَا عيب فيهم أصلا.
وَقَوله: ((تظْلمُونَ خَالِدا)) فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه اعتذر لخَالِد، فَكَأَنَّهُ يَقُول: من تبرع بِمَا لَا يجب من الْوَقْف كَيفَ يبخل بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَن يكون خَالِد طُولِبَ بِالزَّكَاةِ عَن أَثمَان الدروع والأعبد لكَونهَا من مَال التِّجَارَة فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا زَكَاة عَلَيْهِ، لِأَن المزكى قد خرج عَن يَده. وَالثَّالِث: أَن يكون خَالِد قد

(3/517)


تصدق بِتِلْكَ الدروع والأعبد على الْمُجَاهدين على وَجه الْقيمَة فِي الزَّكَاة فحسبها لَهُ. وَالرَّابِع: أَن لفظ هَذَا الحَدِيث الأول: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة، وَظَاهر هَذَا يدل على أَنَّهَا تطوع فَلذَلِك عذره.
وَأما الأعتاد فَقَالَ الْخطابِيّ: أعتاد: كل مَا أعده الرجل من سلَاح ومركوب وَآلَة الْجِهَاد. وَيُقَال: أعتدت الشَّيْء للرجل: إِذا هيأته لَهُ.
وَأما قَوْله فِي صَدَقَة الْعَبَّاس: ((فَهِيَ عَلَيْهِ وَمثلهَا مَعهَا)) فَقَالَ أَبُو عبيد: نرى أَنه كَانَ أخر الصَّدَقَة عَاميْنِ وَلَيْسَ وَجه ذَلِك إِلَّا حَاجَة الْعَبَّاس إِلَيْهَا. قَالَ: وَيجوز للْإِمَام أَن يؤخرها إِذا كَانَ على وَجه النّظر ثمَّ يَأْخُذهَا بعد. قَالَ لنا ابْن نَاصِر: وَيجوز أَن يكون قد قَالَ: هِيَ عَلَيْهِ بتَشْديد الْيَاء وَلم يبين ذَلِك الرَّاوِي. وَأما من روى ((فَهِيَ عَلَيْهِ)) فقد روى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُوسَى بن طَلْحَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِنَّا كُنَّا احتجنا فتعجلنا من الْعَبَّاس صَدَقَة مَاله سنتَيْن)) وَبِهَذَا الحَدِيث قُلْنَا نَحن وَأَبُو حنيفَة: يجوز تَعْجِيل زَكَاة سنتَيْن. وَيحْتَمل

(3/518)


أَن يكون الْمَعْنى: هِيَ عَليّ: أَي أَنا أؤديها عَنهُ لما لَهُ عَليّ من الْحق، وَلِهَذَا قَالَ: ((عَم الرجل صنو أَبِيه)) والصنو: الْمثل. قَالَ الْخطابِيّ: وَفِي حَدِيث مُوسَى بن عقبَة: ((فَهِيَ لَهُ وَمثلهَا مَعهَا)) أَي فَهِيَ عَلَيْهِ، وَله بِمَعْنى عَلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَهُم اللَّعْنَة} [الرَّعْد: 25]
2020 - / 2490 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الثلاثمائة: ((الْغَرْقَد من شجر الْيَهُود)) .
الْغَرْقَد: شجر لَهُ شوك. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2021 - / 2491 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الثلاثمائة: ((إِن فرس الْمُجَاهِد ليستن فِي طوله)) .
أَي ليعدو فِي حبله الَّذِي قد شدّ بِهِ. وَقد سبق هَذَا فِي هَذَا الْمسند. وَالَّذِي بعده أَيْضا.
2022 - / 2494 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِيمَن زنا وَلم يحصن بِنَفْي عَام وبإقامة

(3/519)


الْحَد عَلَيْهِ.
إِذا زنى الْمُكَلف وَجب عَلَيْهِ الْحَد، فَإِن كَانَ مُحصنا فحده الرَّجْم حَتَّى يَمُوت، وَهل يجلد قبل الرَّجْم أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.
والمحصن من كَانَ بَالغا قد جَامع فِي نِكَاح صَحِيح من هُوَ على مثل حَاله، فَإِن اخْتَلَّ شَرط من ذَلِك فِي أَحدهمَا فَلَا إِحْصَان لَهما. فَإِن زنا مُحصن بِغَيْر مُحصن رجم الْمُحصن وَجلد الآخر وَغرب. وَإِن كَانَ الزَّانِي غير مُحصن وَهُوَ حر فحده مائَة جلدَة وتغريب عَام، وَهُوَ المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث بِنَفْي عَام. وَهَذَا النَّفْي عندنَا وَاجِب، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب، والْحَدِيث نَص.
وَقَوله: بِإِقَامَة الْحَد: أَي مَعَ إِقَامَة الْحَد: وَهُوَ الْجلد.
2023 - / 2496 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى، وابدأ بِمن تعول)) .
وَاعْلَم أَن الصَّدَقَة نَافِلَة، وإغناء النَّفس والأهل وَاجِب، فَإِذا أغنوا حسنت الصَّدَقَة بعد ذَلِك، فَهَذَا معنى قَوْله: ((وابدأ بِمن تعول)) .
فَإِن قيل: فَكيف الْجمع بَين هَذَا وَبَين قَوْله: ((أفضل الصَّدَقَة جهد مقل)) ؟ .
فَالْجَوَاب: من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون جهد الْمقل بعد إغناء من يلْزم إغناؤه، فَكَأَنَّهُ يستسل من فواضل الْغنى شَيْئا فَيتَصَدَّق بِهِ.

(3/520)


وَالثَّانِي: أَن الْمقل إِذا آثر وصبر فَهُوَ غَنِي بِالصبرِ.
وَقَوله: ((وَالْيَد الْعليا)) قد سبق تَفْسِيرهَا فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: ((وَمن يستعفف يعفه الله)) قد فسرناه فِي مُسْند أبي سعيد.
2024 - / 2497 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي شَاب، وَإِنِّي أَخَاف على نَفسِي الْعَنَت، وَلَا أجد مَا أَتزوّج بِهِ، كَأَنَّهُ يسْتَأْذن فِي الإختصاء، قَالَ: فَسكت عني، ثمَّ قلت مثل ذَلِك مرَارًا، فَقَالَ: ((جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لَاق، فاختص على ذَلِك أَو ذَر)) .
الْعَنَت: الزِّنَا، وأصل الْعَنَت الْحمل على مشقة لَا تطاق، وَإِنَّمَا ذكر الْقدر ليمنعه من ذَلِك الْفِعْل. وَالْمعْنَى: مَا تقدر أَن تخرج على الْمَقْدُور.
وَقَوله: ((فاختص)) لَيْسَ بِأَمْر، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: إِن فعلت أَو لم تفعل فلابد من نُفُوذ الْقدر. وَقد رَأينَا بعض جهال الْأَحْدَاث تزهد فِي صباه، فَلَمَّا اشتدت عَلَيْهِ الْعُزُوبَة جب نَفسه. وَكُنَّا قد سمعنَا عَن بعض القدماء أَنه جب نَفسه حَيَاء من الله عز وَجل. فَانْظُر إِلَى مَا يصنع الْجَهْل بأَهْله، فَأول مَا يُقَال لهَذَا: لَيْسَ لَك أَن تتصرف إِلَّا بِإِذن الله عز وَجل، وَهَذَا أَمر لَا يُقَال: مَا أذن فِيهِ، بل قد حرمه. ثمَّ يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الله تَعَالَى وضع هَذَا الْأَمر لحكمة هِيَ إِيجَاد النَّسْل، فَمن

(3/521)


تسبب فِي قطع النَّسْل فقد ضاد الْحِكْمَة. ثمَّ من النِّعْمَة على الرجل خلقه رجلا وَلم يَجْعَل امْرَأَة، فَإِذا جب نَفسه اخْتَار النَّقْص على التَّمام، ثمَّ إِنَّه يفعل مَا نهي عَنهُ، فَلَو مَاتَ فِي ذَلِك اسْتحق النَّار، ثمَّ يكابد شدَّة لَا تُوصَف، ثمَّ يمْنَع نَفسه لَذَّة عاجلة وَوُجُود ولد يذكر بِهِ أَو يُثَاب عَلَيْهِ، ثمَّ قد كَانَ نسبه مُتَّصِلا من آدم إِلَيْهِ فتسبب لقطع ذَلِك الْمُتَّصِل، ثمَّ قد شوه نَفسه، ثمَّ هُوَ أبعد مِمَّا رجاه؛ فَإِن قطع الْآلَة لَا تزيل مَا فِي الْقلب من الشَّهْوَة، فالشهوة فِي الْقلب على حَالهَا والفكر فِي ذَلِك لَا يَنْقَطِع، وَالْعجب من ذَلِك المتزهد الأحمق الَّذِي استحيا من الله عز وَجل مِمَّا وَضعه الله تَعَالَى، فَلَو شَاءَ الله تَعَالَى لم يضع هَذَا فِي النَّفس، فنعوذ بِاللَّه من الْجَهْل، فَإِنَّهُ ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض.
2025 - / 2498 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ((إِنِّي لأستغفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم أَكثر من سبعين مرّة)) .
اعْلَم أَن هفوات الطباع لَا يسلم مِنْهَا أحد، فالأنبياء وَإِن عصموا من الْكَبَائِر لم يعصموا من الصَّغَائِر، ثمَّ يَتَجَدَّد للطبع غفلات يفْتَقر إِلَى الاسْتِغْفَار.
2026 - / 2500 - والْحَدِيث الثَّامِن: قد سبق فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
2027 - / 2501 - وَالتَّاسِع فِي مُسْند ابْن عمر.

(3/522)


2028 - / 2502 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشارب فَقَالَ: ((اضْرِبُوهُ)) فمنا الضَّارِب بِيَدِهِ، والضارب بنعله، والضارب بِثَوْبِهِ.
كَانَت إِقَامَة الْحَد فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَارَة بِالْأَيْدِي، وَتارَة بِالْجَرِيدِ، وَتارَة بالثياب، وَكَانَ الْمَقْصُود الإيلام بِالضَّرْبِ. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند عَليّ الْكَلَام على الْحَد.
قَوْله: فَقَالَ بعض الْقَوْم: أخزاك الله. قَالَ ابْن فَارس: الْمَعْنى: أبعده ومقته.
وَقَوله: ((وَلَا تعينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَان)) وَذَاكَ لِأَن مُرَاد الشَّيْطَان إذلال الْمُسلم، وَالْحَد يَكْفِي طهره، فَلَا يجوز أَن يُضَاف إِلَيْهِ مَا لم يشرع فَيكون ذَلِك تعاطيا على الشَّرْع، ثمَّ من أَيْن يَأْمَن الْمُعير أَن يلقى مَا لَقِي.
2029 - / 2504 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّانِي عشر فِي مُسْند ابْن عمر.
2030 - / 2505 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((الشَّمْس وَالْقَمَر يكوران يَوْم الْقِيَامَة)) .

(3/523)


اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى هَذَا التكوير، فروى عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس: أَنه الذّهاب والتعطيل. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الاضمحلال. وَقَالَ قَتَادَة: يذهب ضوءهما. وَقَالَ غَيره: تجمع الشَّمْس وَالْقَمَر ويرمى بهما فِي الْبَحْر، وَقيل: فِي النَّار.
2031 - / 2506 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر الَّذِي اسْتقْرض ألف دِينَار ثمَّ اتخذ خَشَبَة فنقرها وَوضع فِيهِ ألف دِينَار، ثمَّ زجج موضعهَا.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: معنى قَوْله زجج: سوى مَوضِع النقر وَأَصْلحهُ، وَأَحْسبهُ مأخوذا من تزجيج الحواجب: وَهُوَ حذف زَوَائِد الشّعْر، فَشبه مَا يكون من تَسْوِيَة النقر بذلك، وَإِن كَانَ النقر قد وَقع فِي طرف الْخَشَبَة فَشد عَلَيْهَا زجا لم يُنكر ذَلِك.
2032 - / 2507 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ((أريقوا على بَوْل الْأَعرَابِي سجلا من مَاء)) .
السّجل: الدَّلْو الْكَبِير. وَقد ذكرنَا حكم الحَدِيث فِي مُسْند أنس.
2033 - / 2508 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((إِن الله تَعَالَى قَالَ:

(3/524)


من عادى لي وليا فقد آذنته بِالْحَرْبِ)) .
فِي هَذَا الحَدِيث إشكالات سَبْعَة: أَحدهَا: أَن يُقَال: كَيفَ يعادي الْإِنْسَان الْأَوْلِيَاء والأولياء قد تركُوا الدُّنْيَا وانفردوا عَن الْخلق، فَإِن جهل عَلَيْهِم جَاهِل حلموا، والعداوة إِنَّمَا تكون عَن خُصُومَة؟ والإشكال الثَّانِي: قَوْله: ((فقد آذنته بِالْحَرْبِ)) وَكَيف يتَصَوَّر الْحَرْب بَين الْخَالِق والمخلوق؟ والمحارب مناظر وَهَذَا الْمَخْلُوق فِي أسر قَبْضَة الْخَالِق. والإشكال الثَّالِث: ((وَمَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِشَيْء أحب إِلَيّ مِمَّا افترضت عَلَيْهِ)) وَالْعَادَة قد جرت بِأَن التَّقَرُّب يكون بِمَا لَا يجب كالهدايا إِلَى الْمُلُوك دون أَدَاء الْخراج، فَإِن مؤدي اللَّازِم لَا يكَاد يحمد، وَإِنَّمَا يشْكر من فعل مَا لَا يجب. وَالرَّابِع: أَن يُقَال: فَإِذا كَانَت الْفَرَائِض أفضل القربات، فَكيف أثمرت النَّوَافِل الْمحبَّة وَلم تثمرها الْفَرَائِض؟ وَالْخَامِس: قَوْله: ((كنت سَمعه وبصره وَيَده)) فَمَا صُورَة هَذَا؟ وَالسَّادِس: قَوْله: ((وَلَئِن سَأَلَني لأعطينه)) وَكم قد رَأينَا من عَابِد وَصَالح يَدْعُو ويبالغ وَلَا يرى إِجَابَة. وَالسَّابِع: قَوْله: ((وَمَا ترددت عَن شَيْء)) والتردد إِنَّمَا يَقع إِذا أشكلت الْمصلحَة فِي العواقب، وَذَلِكَ ينشأ عَن ضعف التَّدْبِير، وَالْحق عز وَجل منزه عَن ذَلِك.
وَالْجَوَاب: أما الْإِشْكَال الأول: فَإِن معاداة الْأَوْلِيَاء يَقع من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن يعاديهم الْإِنْسَان عصبية لغَيرهم، كَمَا يعادي الرافضي أَبَا بكر وَعمر. وَالثَّانِي: مُخَالفَة لمذهبهم كَمَا يعادي أهل الْبدع أَحْمد ابْن حَنْبَل. وَالثَّالِث: احتقارا لَهُم، فَيكون الْفِعْل بهم فعل الْأَعْدَاء،

(3/525)


كَمَا كَانَ بعض الْجُهَّال يحصب أويسا الْقَرنِي. وَالرَّابِع: أَنه قد يكون بَين الْوَلِيّ وَبَين النَّاس معاملات وخصومات وَلَيْسَ كل الْأَوْلِيَاء ينفردون فِي الزوايا، فَرب ولي فِي السُّوق.
وَأما الْإِشْكَال الثَّانِي: فَإِن الْإِنْسَان إِنَّمَا خُوطِبَ بِمَا يعقل، وَنِهَايَة الْعَدَاوَة الْحَرْب، ومحاربة الله عز وَجل للْإنْسَان أَن يهلكه، وَتَقْدِير الْكَلَام: فقد تعرض لإهلاكي إِيَّاه.
وَأما الْإِشْكَال الثَّالِث: فَإِن فِي أَدَاء الْوَاجِبَات احتراما لِلْأَمْرِ وتعظيما لِلْأَمْرِ، وَبِذَلِك الإنقياد تظهر عَظمَة الربوبية، وَيبين ذل الْعُبُودِيَّة.
وَأما الرَّابِع: فَإِنَّهُ لما أدّى الْمُؤمن جَمِيع الْوَاجِبَات ثمَّ زَاد بالتنفل وَقعت الْمحبَّة لقصد التَّقَرُّب، لِأَن مؤدي الْفَرْض رُبمَا فعله خوفًا من الْعقَاب، والمتقرب بالنفل لَا يَفْعَله إِلَّا إيثارا للْخدمَة والقرب، فيثمر لَهُ ذَلِك مَقْصُوده.
وَأما الْخَامِس: فَإِن قَوْله: ((كنت سَمعه وبصره)) مثل، وَله أَرْبَعَة أوجه: أَحدهمَا: كنت كسمعه وبصره فِي إيثاره أَمْرِي، فَهُوَ يحب طَاعَتي ويؤثر خدمتي كَمَا يحب هَذِه الْجَوَارِح. وَالثَّانِي: أَن كليته مَشْغُولَة، فَلَا يصغي بسمعه إِلَّا إِلَى مَا يرضيني، وَلَا يبصر إِلَّا عَن أَمْرِي. وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى أَنِّي أحصل لَهُ مقاصده كَمَا يَنَالهُ بسمعه وبصره. وَالرَّابِع: كنت لَهُ فِي العون والنصرة كبصره وَيَده اللَّذين يعاونانه على عدوه.

(3/526)


وَأما السَّادِس: فَإِنَّهُ مَا سُئِلَ ولي قطّ إِلَّا وَأجِيب، وَإِلَّا أَنه قد تُؤخر الْإِجَابَة لمصْلحَة، وَقد يسْأَل مَا يظنّ فِيهِ مصلحَة وَلَا يكون فِيهِ مصلحَة فيعوض سواهُ.
وَأما السَّابِع فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون التَّرَدُّد للْمَلَائكَة الَّذين يقبضون الْأَرْوَاح، فأضافه الْحق عز وَجل إِلَى نَفسه لِأَن ترددهم عَن أمره، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك} [مَرْيَم: 64] وَتردد الْمَلَائِكَة إِنَّمَا يكون لإِظْهَار كَرَامَة الْآدَمِيّ كَمَا تردد ملك الْمَوْت إِلَى آدم وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَما أَن يكون التَّرَدُّد لله فمحال فِي حَقه، وَهَذَا مَذْهَب الْخطابِيّ. فَإِن اعْترض على هَذَا فَقيل: مَتى أَمر الْملك بِقَبض الرّوح لم يجز لَهُ التَّرَدُّد فَكيف يتَرَدَّد؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون إِنَّمَا تردد فِيمَا لم يجْزم لَهُ فِيهِ على وَقت، كَمَا رُوِيَ: ((أَنه لما بعث ملك الْمَوْت إِلَى الْخَلِيل قيل لَهُ: تلطف بعبدي)) . وَالثَّانِي: أَن يكون تردد رقة ولطف بِالْمُؤمنِ، لَا أَنه يُؤَخر الْقَبْض، فَإِنَّهُ إِذا نظر إِلَى قدر الْمُؤمن من احترمه فَلم تنبسط يَده لقبض روحه، وَإِذا ذكر أَمر الْإِلَه لم يكن لَهُ يَد فِي امتثاله.
وَالثَّانِي: أَنه خطاب لنا بِمَا نعقل، وَقد تنزه الرب عز وَجل عَن حَقِيقَته كَمَا قَالَ: ((من أَتَانِي يمشي أَتَيْته هرولة)) فَكَمَا أَن أَحَدنَا يتَرَدَّد فِي ضرب وَلَده فيأمره التَّأْدِيب بضربه وتمنعه الْمحبَّة، فَإِذا أخبر بالتردد فهمنا قُوَّة محبته لَهُ بِخِلَاف عَبده فَإِنَّهُ لَا يتَرَدَّد فِي ضربه، فَأُرِيد تفهيمنا تَحْقِيق الْمحبَّة للْوَلِيّ بِذكر التَّرَدُّد. وَمن الْجَائِز أَن يكون تركيب الْوَلِيّ يحْتَمل خمسين سنة، فيدعو عِنْد الْمَرَض فيعافى ويقوى تركيبه فيعيش عشْرين أُخْرَى، فتغيير التَّرْكِيب والمكتوب من الْأَجَل كالتردد، وَذَلِكَ

(3/527)


ثَمَرَة الْمحبَّة.
2034 - / 2509 - والْحَدِيث السَّابِع عشر: قد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2035 - / 2510 - وَالثَّامِن عشر قد تقدم فِي مُسْند كَعْب بن مَالك.
2036 - / 2511 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ((إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله فانتظر السَّاعَة)) .
أَي أسندت الْولَايَة والإمارة.
2037 - / 2515 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: ((إِن أَيُّوب خر عَلَيْهِ رجل جَراد من ذهب)) .
أَي جمَاعَة من جَراد، وَهَذَا من أَسمَاء الْجَمَاعَات الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، يُقَال: رجل من جَراد، وسرب من ظباء، وخيط من نعام، وعانة من حمير.
2038 - / 2516 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((خفف على دَاوُد الْقُرْآن)) .

(3/528)


يَعْنِي الْقِرَاءَة لكتابه الزبُور.
2039 - / 2517 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ((من يرد الله بِهِ خيرا يصب مِنْهُ)) .
عَامَّة الْمُحدثين يقرءونه بِكَسْر الصَّاد يجْعَلُونَ الْفِعْل لله عز وَجل، وَسمعت أَبَا مُحَمَّد، ابْن الخشاب يفتح الصَّاد، وَهُوَ أحسن وأليق.
وَاعْلَم أَن سَلامَة الْبدن وَالْمَال توجب غَفلَة وإعراضا، فَإِن وجد الشُّكْر فَلَا عَن حرقة. وَالْبَلَاء يكسر النَّفس عَن أشرها وشرها وشرهها، ويثمر صدق اللجأ إِلَى الله سُبْحَانَهُ، وَيحصل ثَوَاب الْآخِرَة.
2040 - / 2524 - وَمَا بعد هَذَا قد تقدم إِلَى الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ، وَفِيه: ((يلقى إِبْرَاهِيم آزر وعَلى وَجه آزر قترة وغبرة، فَينْظر فَإِذا هُوَ بذيخ ملتطخ)) .
آزر اسْم أَبِيه.
والقترة: الظلمَة. وَقَالَ الزّجاج: سَواد كالدخان. والغبرة: الْغُبَار، وَقَالَ مقَاتل: سَواد وكآبة.
والذيخ: ذكر الضباع.
وملتطخ: أَي بعذرة ونجاسة. وَالْمعْنَى: أَنه يمسخ آزر ويغير حَاله.

(3/529)


2041 - / 2525 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن الله يحب العطاس وَيكرهُ التثاؤب)) .
إِن قَالَ قَائِل: لَيْسَ العطاس دَاخِلا تَحت الْكسْب وَلَا التثاؤب، فَمَا حِيلَة العَبْد فِي تَحْصِيل المحبوب وَنفي الْمَكْرُوه؟ فَالْجَوَاب: أَن العطاس إِنَّمَا يكون مَعَ انفتاح المسام وخفة الْبدن وتيسير الحركات، وَسبب هَذِه الْأَشْيَاء تَخْفيف الْغذَاء والتقلل من الْمطعم، فَأَما التثاؤب فَإِنَّهُ يكون مَعَ ثقل الْبدن وامتلائه واسترخائه للنوم، فَحَمدَ العطاس لِأَنَّهُ يعين على الطَّاعَة، وذم التثاؤب لِأَنَّهُ يثبط عَن الْخَيْر.
وَإِنَّمَا يضْحك الشَّيْطَان من قَول المتثائب ((هَا)) لمعنيين: أَحدهمَا: أَنه يرى ثَمَرَة تحريضه على الشِّبَع فيضحك فَرحا بِأَن أثمرت شجرات غرسه. وَالثَّانِي: أَن الْمسنون للمتثائب أَن يَكْظِم وَيحبس مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذا ترك الْأَدَب وَقَالَ: ((هَا)) ضحك الشَّيْطَان لقلَّة أدبه.
وَأما التشميت فقد سبق تَفْسِيره فِي مُسْند أبي مُوسَى.
والبال: الْحَال.
وَلما أبان العطاس عَن صَلَاح - على مَا بَينا - ناسب ذَلِك أَن يَقُول الْعَاطِس: الْحَمد لله، وَلما كَانَ ذَلِك الصّلاح برحمة الله ناسب ذَلِك أَن يُقَال للعاطس: يَرْحَمك الله: أَي يزيدك رَحْمَة، وَلما قَامَ الرَّاد بِحَق الْمُسلم ناسب ذَلِك أَن يَقُول: وَيصْلح بالكم، أَي يصلح حالك بالسلامة وَالنعْمَة كَمَا أصلح حَالي بالعطاس.

(3/530)


2042 - / 2526 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن هَذَا الدّين يسر)) .
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الشَّرِيعَة سهلة فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيد على النَّفس. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: إِنَّمَا ينَال الدّين بالتلطف، وَيدل على هَذَا الْوَجْه قَوْله: ((وَلنْ يشاد الدّين أحد إِلَّا غَلبه)) .
وَقَوله: ((فسددوا)) أَي استعملوا السداد وَالصَّوَاب وقاربوا ذَلِك إِذا عجزتم عَنهُ.
والدلجة: سير اللَّيْل. وَذكر الغدوة والروحة والدلجة مثل للتلطف؛ فَإِن الْمُسَافِر لَو قطع اللَّيْل وَالنَّهَار بالسير انْقَطع، وَإِنَّمَا يسير الغدوة والروحة وشيئا من اللَّيْل ليجمع بَين قطع الطَّرِيق والتلطف بالرواحل.
وَقَوله: ((الْقَصْد الْقَصْد)) الْمَعْنى: اقتصدوا فِي الْعِبَادَة وَلَا تحملوا مِنْهَا مَا لَا تطيقونه.
وَقَوله: ((لن يُنجي أحدا مِنْكُم عمله)) قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
2043 - / 2527 - والْحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ: قد تقدم فِي مُسْند أنس.
2044 - / 2528 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: ((أعذر الله إِلَى

(3/531)


امْرِئ أخر أَجله حَتَّى بلغ سِتِّينَ سنة)) .
أعذر: أَي أَقَامَ الْعذر فِي تَطْوِيل التَّعْمِير.
وَاعْلَم أَن الْأَسْنَان أَرْبَعَة: سنّ الصَّبِي، وَسن الشَّبَاب، وَسن الكهولة، وَسن الشيخوخة. فسن الصَّبِي هُوَ الَّذِي يكون فِيهِ الْبدن دَائِم النشوء والنمو، وَهُوَ إِلَى خمس عشرَة سنة. وَسن الشَّبَاب هُوَ الَّذِي يتكامل فِيهِ النمو ويبتدئ عَقِيبه بالإنحطاط، ومنتهاه فِي غَالب الْأَحْوَال خمس وَثَلَاثُونَ سنة، وَقد يبلغ أَرْبَعِينَ. وَبَعْضهمْ يُسمى مَا بَين الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعين سنّ الْوُقُوف، كَأَن الْقُوَّة وقفت فِيهِ. ثمَّ من الْأَرْبَعين يَأْخُذ فِي النَّقْص، قَالَ الشَّاعِر:
(كَأَن الْفَتى يرقى من الْعُمر سلما ... إِلَى أَن يجوز الْأَرْبَعين وينحط)

وَسن الكهول الَّذِي قد تبين فِيهِ الإنحطاط وَالنُّقْصَان مَعَ بَقَاء من الْقُوَّة، ومنتهاه فِي أَكثر الْأَحْوَال سِتُّونَ سنة، فَمن بلغ السِّتين فقد انْتهى وَأثر فِيهِ ضعف الْقُوَّة وجاءته نذر الْمَوْت وَدخل فِي سنّ الْمَشَايِخ، وَفِي ذَلِك الزَّمَان يزِيد انحطاط الْقُوَّة ويقوى ظُهُور الضعْف إِلَى آخر الْعُمر.
وَقد أخبرنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم قَالَ: أخبرنَا حمد بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله الْحَافِظ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَكِيم قَالَ: حَدثنَا أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ: حدثونا

(3/532)


عَن يحيى بن يمَان قَالَ: سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: من بلغ سنّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليرتد لنَفسِهِ كفنا.
2045 - / 2531 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((يَقُول الله تَعَالَى: مَا لعبدي الْمُؤمن عِنْدِي جَزَاء إِذا قبضت صَفيه من أهل الدُّنْيَا ثمَّ احتسبه إِلَّا الْجنَّة)) .
الصفي: الْمُصْطَفى كَالْوَلَدِ وَالْأَخ وكل مَحْبُوب مُؤثر.
2046 - / 2532 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: ((قَالَ الله تَعَالَى: ثَلَاثَة أَنا خصمهم يَوْم الْقِيَامَة: رجل أعْطى بِي ثمَّ غدر. وَرجل بَاعَ حرا فَأكل ثمنه. وَرجل اسْتَأْجر أَجِيرا فاستوفى مِنْهُ وَلم يُعْطه أجره)) .
قَوْله: ((أعْطى بِي)) أَي حلف بِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اجترأ على ربه عز وَجل. وَأما الَّذِي بَاعَ حرا فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يضْرب الرّقّ على الْكَافِر، فَأَما الْمُؤمن فَإِنَّهُ عبد لله خَالص، فَمن بَاعه بَاعَ عبدا لله خَالِصا، وَمن جنى على عَبده فخصمه سَيّده. وَأما الَّذِي اسْتَأْجر أَجِيرا، فَإِن الْأَجِير وثق بأمانة الْمُسْتَأْجر، فَإِن خَان الْأَمَانَة تولى الله جزاءه.
2047 - / 2533 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((مَا أَسْفَل الْكَعْبَيْنِ من الْإِزَار فَفِي النَّار)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هَذَا يتَأَوَّل على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَا دون

(3/533)


الْكَعْبَيْنِ من قدم صَاحبه فِي النَّار عُقُوبَة على فعله. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: أَن فعل ذَلِك مَعْدُود فِي أَفعَال أهل النَّار)) .
2048 - / 2534 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: حفظت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعاءين، فَأَما أَحدهمَا فبثثته، وَأما الآخر فَلَو بثثته قطع هَذَا البلعوم)) .
الْوِعَاء: مَا يوضع فِيهِ الشَّيْء.
وبثثته بِمَعْنى نشرته وفرقته. وَالْمرَاد بِهِ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ.
والبلعوم: مجْرى الطَّعَام.
وَلقَائِل أَن يَقُول: كَيفَ استجاز كتم الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ: ((بلغُوا عني)) وَكَيف يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا إِذا ذكر قتل رَاوِيه؟ وَكَيف يستجيز الْمُسلمُونَ من الصَّحَابَة الأخيار وَالتَّابِعِينَ قتل من يروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الَّذِي كتمه لَيْسَ من أَمر الشَّرِيعَة؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز كتمانها، وَقد كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: لَوْلَا آيَة فِي كتاب الله مَا حدثتكم، وَهِي قَوْله: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى} [الْبَقَرَة: 159] فَكيف يظنّ بِهِ أَن يكتم شَيْئا من الشَّرِيعَة بعد هَذِه الْآيَة، وَبعد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبلغ عَنهُ، وَقد كَانَ يَقُول لَهُم: ((ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب)) . وَإِنَّمَا هَذَا المكتوم مثل أَن يَقُول:

(3/534)


فلَان مُنَافِق، وستقتلون عُثْمَان، و ((هَلَاك أمتِي على يَدي أغيلمة من قُرَيْش)) بَنو فلَان، فَلَو صرح بِأَسْمَائِهِمْ لكذبوه وقتلوه.
2049 - / 2536 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: كنت ألزم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبع بَطْني حِين لَا آكل الخمير وَلَا ألبس الْحَرِير.
وَالْمرَاد بالخمير: خبز الخمير.
وَقَوله: وَلَا ألبس الْحَرِير. كَذَا وَقع بِخَط الْحميدِي، وَإِنَّمَا هُوَ الحبير: وَهُوَ الثِّيَاب الْحبرَة.
والعكة: ظرف الْعَسَل.
2050 - / 2537 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: فِي الْإِمَارَة: ((فَنعم الْمُرضعَة وبئست الفاطمة)) .
يَعْنِي أَن الْأَمر وَالنَّهْي فِي الْإِمَارَة لذيد، والمؤاخذة بِحَق الْإِمَارَة فِي الْقِيَامَة صَعب كالفطام على الصَّبِي.
2051 - / 2542 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أهديت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة فِيهَا سم، وَقَالُوا: أردنَا أَن نعلم إِن كنت نَبيا لم يَضرك.
وَقد سبق بَيَان هَذَا، وَبينا أَن الْمَرْأَة الَّتِي سمته اسْمهَا زَيْنَب، وَأَنه قَتلهَا. وَهَذَا كَانَ فِي غزَاة خَيْبَر.

(3/535)


وَقَوْلهمْ: إِن كنت نَبيا لم يَضرك. جهل مَحْض؛ لِأَن الْأَنْبِيَاء بشر، فَمَا يُؤْذِي الْبشر يؤذيهم.
2052 - / 2543 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: ((حرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة على لساني)) .
اللابة: الْحِجَارَة السود. وَقد ذكرنَا حُدُود حرم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2053 - / 2547 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: قَالَت الْأَنْصَار: اقْسمْ بَيْننَا وَبينهمْ النّخل. قَالَ: ((لَا، يكفونا الْعَمَل ويشركونا فِي الثَّمَرَة)) .
هَذَا كَانَ حِين قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة، فَإِنَّهُم دخلوها فُقَرَاء فمنحهم الْأَنْصَار من أَمْوَالهم الْكثير، فَلَمَّا افتتحت خَيْبَر أعادوا منائحهم عَلَيْهِم على مَا بَينا فِي مُسْند أنس.
2054 - / 2549 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْخَمْسُونَ: قد تقدم فِي مُسْند أنس أَيْضا.
2055 - / 2550 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((الَّذِي يخنق

(3/536)


نَفسه يخنقها فِي النَّار)) .
يَعْنِي أَنه يفعل ذَلِك بِنَفسِهِ، كَأَنَّهُ يضْطَر إِلَى ذَلِك الْفِعْل عُقُوبَة لما فعل بِنَفسِهِ.
2056 - / 2553 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِن كنت لأشد الْحجر على بَطْني من الْجُوع.
أما شدّ الْحجر فعادة كَانَت الْعَرَب إِذا اشْتَدَّ بهم الْجُوع وخوى الْبَطن فَإِنَّهُ لَا يُمكن مَعَ ذَلِك انتصاب الْقَامَة، فَيَأْخُذ أحدهم الْحجر الَّذِي يكون بطول الْكَفّ إِلَّا أَنه خَفِيف فيشده على الْبَطن فَيرد الْقَامَة بعض الرَّد.
والقدح: السهْم.
وَالنعَم: الْإِبِل، وحمرها: أفضلهَا.
2057 - / 2554 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: لجأوا إِلَى فدفد.
الفدفد: الأَرْض المستوية.
وَقَوله: ((اقتلهم بددا)) ذكره ابْن السّكيت فِي كتاب ((الْأَلْفَاظ)) بِفَتْح الْبَاء، وَقَالَ: الْعَرَب تَقول: اقتلهم بددا، والبدد: التَّفَرُّق، وَيُقَال: بُد رجلَيْهِ فِي المقطرة: أَي فرقهما.

(3/537)


والدبر: النَّحْل.
وَفِيه: فَقَامَ أَبُو سروعة إِلَى خبيب فَقتله. أَبُو سروعة اسْمه عقبَة بن الْحَارِث، كَانَ خبيب قد قتل أَبَاهُ يَوْم بدر، فَلَمَّا أسر خبيب اشْتَرَاهُ مِنْهُ الْحَارِث فَقتله عقبَة، ثمَّ أسلم وروى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرج لَهُ فِي الصَّحِيح مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2058 - / 2555 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2059 - / 2556 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((تعس عبد الدِّينَار وَالدِّرْهَم)) .
فِي تعس لُغَتَانِ: فتح الْعين وَكسرهَا، وَمعنى تعس: عثر فَسقط لوجهه.
والقطيفة: نوع من الأكسية.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الخميصة عِنْد الْعَرَب كسَاء مربح أسود لَهُ علمَان.
وَقَوله: ((إِن أعطي رَضِي)) يَعْنِي أَنه يعْمل للدنيا.
وانتكس قَالَ ابْن السّكيت: سقط على رَأسه، تَقول: نكست

(3/538)


الشَّيْء: إِذا قلبته.
وَقَوله: ((شيك)) أَي أصَاب الشوك جسده.
فَلَا انتقش: أَي فَلَا قدر على إِخْرَاجه من بدنه وَلَا اسْتَطَاعَ، يُقَال: نقشت الشوك: إِذا استخرجته.
وطوبى ((فعلى)) من الطّيب، وأصل طُوبَى: طيبي، فقلبت الْيَاء للضمة قبلهَا واوا، كَذَلِك قرأته على شَيخنَا أبي مَنْصُور.
وَقَوله: ((إِن كَانَ فِي الحراسة، وَإِن كَانَ فِي السَّاقَة)) الْمَعْنى أَنه خامل الذّكر لَا يقْصد السمو، فَأَيْنَ اتّفق لَهُ كَانَ فِيهِ.
2060 - / 2557 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: قَالَ: يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أوصني، قَالَ: ((لَا تغْضب)) .
فَإِن قيل: الْغَضَب جبلة فِي الْآدَمِيّ فَكيف يُؤمر بصرفها؟ فَالْجَوَاب: أَن الْغَضَب لَهُ جوالبه وثمرات، فَمن جوالبه الْكبر، فَإِذا رَاض الْإِنْسَان نَفسه بِاسْتِعْمَال التَّوَاضُع ذلت. وَمن ثَمَرَات الْغَضَب السب وَالضَّرْب وَمَا يعود بثلب دين الغضبان وبدنه قبل أَذَى المغضوب عَلَيْهِ، فَإِن بعض النَّاس استشاط يَوْمًا من الْغَضَب فصاح، فنفث الدَّم وَأَدَّاهُ ذَلِك إِلَى السل. وَضرب رجل رجلا على فَمه فَانْكَسَرت أَصَابِع الضَّارِب وَلم يكبر أَذَى الْمَضْرُوب. وَقد أثر غضب خلق كثير فِي بطشهم بأولادهم وأهاليهم وتطليق زوجاتهم، ثمَّ طَالَتْ ندامتهم وَفَاتَ الإستدراك، فقد روينَا فِي الحَدِيث: ((أَن الله تَعَالَى يَقُول: يَا ابْن

(3/539)


آدم، اذْكُرْنِي حِين تغْضب أذكرك حِين أغضب، فَلَا أمحقك فِيمَن أمحق)) فَكَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَاهُ عَن جوالب الْغَضَب وثمراته ومساكنته، وَقد أَمر بمداواته إِذا عرض، فَقَالَ فِي حَدِيث أبي ذَر: ((إِذا غضب أحدكُم وَهُوَ قَائِم فليجلس، فَإِذا ذهب عَنهُ الْغَضَب وَإِلَّا فليضطجع)) وَهَذَا لِأَن الْقَائِم متهيء للحركة والبطش، والقاعد دونه فِي هَذَا الْمَعْنى، والمضطجع مَمْنُوع مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا أمره بذلك لِئَلَّا يبدر مِنْهُ فِي حَال قِيَامه وقعوده مَا ينْدَم عَلَيْهِ فِيمَا بعد، وَقد قَالَ الْأَحْنَف بن قيس: مَا اعْترض التثبت فِي الْغَضَب إِلَّا قهر سُلْطَان العجلة. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: أول الْغَضَب جُنُون وَآخره نَدم.
2061 - / 2558 - والْحَدِيث السَّادِس وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند سهل بن سعد.
2062 - / 2560 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: نهى رَسُول الله عَن كسب الْإِمَاء.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: كَانَ لأهل مَكَّة وَلأَهل الْمَدِينَة إِمَاء عَلَيْهِنَّ ضَرَائِب، تخدمن النَّاس: يخبزن ويسقين المَاء، إِلَى غير ذَلِك من الصناعات، ويؤدين الضرائب إِلَى ساداتهن. وَالْإِمَاء إِذا دخلن تِلْكَ المداخل وتبذلن ذَلِك التبذل لم يُؤمن أَن يكون مِنْهُنَّ الْفُجُور وَأَن

(3/540)


يكسبن بالسفاح، فَنهى عَن كَسْبهنَّ تَنْزِيها، وَمَتى لم يكن لعملهن وَجه مَعْلُوم يكتسبن بِهِ فَهُوَ أبلغ فِي النَّهْي وَأَشد فِي الْكَرَاهَة. وَقد روى أَبُو دَاوُد السجسْتانِي من حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى عَن كسب الْأمة إِلَّا مَا عملت بِيَدَيْهَا، وَقَالَ بأصابعه هَكَذَا نَحْو الْخبز والغزل والنفش، يَعْنِي نفش الصُّوف.
2063 - / 2561 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: ((لَو دعيت إِلَى كرَاع أَو ذِرَاع لَأَجَبْت)) .
والكراع: كرَاع الشَّاة، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الكراع من الْإِنْسَان إِلَى مَا دون الرّكْبَة، وَمن الدَّوَابّ مَا دون الكعب. قلت: وَقد غلط من فسره بكراع الغميم؛ لِأَن الذِّرَاع يُنَاسب الكراع لَا الْمَكَان.
2064 - / 2562 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: ((عجب الله من قوم يدْخلُونَ الْجنَّة فِي السلَاسِل)) .
الْمَعْنى أَنهم يحملون على الْإِسْلَام بالكره، وعَلى هَذَا يحْتَمل ذكر الْجنَّة وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون المُرَاد بِالْجنَّةِ الْإِسْلَام، لِأَن مآل الدَّاخِل فِيهِ إِلَى الْجنَّة، فَسُمي بهَا. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى أَنهم أكْرهُوا على الْإِسْلَام، فَلَو بقوا على كراهتم لِلْإِسْلَامِ لم يدخلُوا الْجنَّة، وَكَانَ السَّبَب الْإِكْرَاه فِي الأول.

(3/541)


وَقد ذكرنَا معنى الْعجب الْمُضَاف إِلَى الله عز وَجل فِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ من هَذَا الْمسند.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2065 - / 2566 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: ((الرَّهْن يركب بِنَفَقَتِهِ، وَيشْرب لبن الدّرّ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وعَلى الَّذِي يركب وَيشْرب النَّفَقَة)) .
عِنْد أَحْمد - رَحمَه الله - يجوز أَن يركب الرَّهْن ويحلب ويستخدم بِمِقْدَار النَّفَقَة عَلَيْهِ على شَرط أَن يجْرِي الْعدْل فِي ذَلِك بِمُقْتَضى هَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ لَهُ أَن ينْتَفع بِهِ فِي غير هَذَا، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: يجوز اسْتِخْدَام العَبْد الْمَرْهُون وَالْجَارِيَة، وركوب الدَّابَّة وَأخذ أجرتهَا، وجز الصُّوف، وحلب اللَّبن.
2066 - / 2567 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: كُنَّا عِنْد أبي هُرَيْرَة وَعَلِيهِ ثَوْبَان ممشقان من كتَّان، فَقَالَ: بخ بخ.
الممشق: الْمَصْبُوغ بالمشق: وَهُوَ الْمغرَة بِفَتْح الْغَيْن.
وَقَوله: بخ بخ، قد سبقت فِي مُسْند أنس.

(3/542)


2067 - / 2569 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: أَعْطَانِي سبع تمرات إِحْدَاهُنَّ حَشَفَة شدت من مضاغي.
الحشف: أردأ التَّمْر.
والمضاغ: الطَّعَام يمضغ. وَكَأَنَّهُ يَقُول: قويت فِي مضغي فطال زمَان التَّمَتُّع بهَا.
2068 - / 2573 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرض على قوم الْيَمين فَأَسْرعُوا، فَأمر أَن يُسهم بَينهم فِي الْيَمين: أَيهمْ يحلف.
ويسهم بِمَعْنى يقرع. وَإِنَّمَا فعل هَذَا فِي حق الَّذين تَسَاوَت درجاتهم فِي أَسبَاب الإستحقاق، مثل أَن يكون الشَّيْء فِي يَدي اثْنَيْنِ، كل وَاحِد مِنْهُم يَدعِيهِ وَيُرِيد أَن يحلف ويستحقه.
2069 - / 2574 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ: قد سبق فِي مُسْند أبي ابْن كَعْب.
2070 - / 2575 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو؛ فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب.

(3/543)


اعْلَم أَن الله تَعَالَى بَارك لأبي هُرَيْرَة، فقد ذكرنَا أَنه روى أَكثر من خَمْسَة آلَاف حَدِيث، وَأَن عبد الله بن عَمْرو لم يضْبط عَنهُ أَكثر من سَبْعمِائة حَدِيث، مَعَ أَنه قَالَ: حفظت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف مثل، وَقد عَاشَ بعد أبي هُرَيْرَة سِتّ سِنِين، وَقيل: سبع سِنِين.
2071 - / 2576 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِخَيْبَر، فَقلت لَهُ: أسْهم لي، فَقَالَ بعض بني سعيد بن الْعَاصِ: لَا تسهم لَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: هَذَا قَاتل ابْن قوقل. فَقَالَ ابْن سعيد ابْن الْعَاصِ: وَاعجَبا لوبر تدلى علينا من قدوم شَاة.
اسْم هَذَا الْقَائِل أبان بن سعيد بن الْعَاصِ، وَلَا أَدْرِي من يَعْنِي بِابْن قوقل، إِلَّا أَن النُّعْمَان بن مَالك بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ، وثعلبة هُوَ قوقل، كَانَ يَقُول للخائف قوقل حَيْثُ شِئْت، فَإنَّك آمن. وَقتل النُّعْمَان يَوْم أحد شَهِيدا، وَالَّذِي قَتله صَفْوَان بن أُميَّة، وَقتل من القواقلة يَوْمئِذٍ الْعَبَّاس بن عبَادَة، قَتله صَفْوَان أَيْضا.
والتدلي: تعلق من علو إِلَى سفل، وَقد بَين فِي اللَّفْظ الآخر من الحَدِيث: يَا وَبرا تحدر من رَأس ضَأْن. والوبر بتسكين الْبَاء: دويبة طحلاء، وَمعنى طحلاء أَنَّهَا تشبه الطحال، فَمَعْنَى تدلى: وَقع أَو تعلق.
والقدوم: مَا يقدم من الشَّاة: وَهُوَ رَأسهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ احتقاره وَأَنه

(3/544)


لَا قدر لَهُ عِنْده، فشبهه بالوبر الَّذِي يتدلى من رَأس الضَّأْن فِي قلَّة الْمَنْفَعَة والمبالاة، كَذَا فسره بعض الْعلمَاء، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَقَالَ: تدلى علينا من قدوم ضال، بِاللَّامِ، قَالَ الْخطابِيّ: الْوَبر: دويبة يُقَال إِنَّهَا تشبه السنور، وأحسب أَنَّهَا تُؤْكَل، لِأَنِّي وجدت بعض السّلف يُوجب فِيهَا الْفِدْيَة. قَالَ: وقدوم ضان، بالنُّون: اسْم مَوضِع: جبل أَو ثنية، وَهُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات ضال، بِاللَّامِ.
وَقَوله: ينعى عَليّ: أَي يعيب عَليّ. وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث على وَجه آخر: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَانَا على سَرِيَّة من الْمَدِينَة قبل نجد، فَقدم أبان وَأَصْحَابه على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر بَعْدَمَا افتتحها، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقلت: يَا رَسُول الله، لَا تقسم لَهُم، فَقَالَ أبان: وَأَنت بِهَذَا يَا وبر تحدر من رَأس ضَأْن. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((يَا أبان، اجْلِسْ)) وَلم يقسم لَهُم.
وَقَوله: أَنْت بِهَذَا الْكَلَام، ويروى: أَنْت بهَا. أَي: أَنْت بِهَذِهِ الْكَلِمَة، فَهَذَا على مَذْهَب الْعَرَب فِي الإختصار والحذف. وَكَانَ ابْن عمر إِذا أصَاب فِي رميه الهدف قَالَ: أَنا بهَا، أَي: أَنا الفائز بالإصابة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة دون من لحقهم بعد إحرازها. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لحق الْجَيْش بعد أَخذ

(3/545)


الْغَنِيمَة وَقبل قسمتهَا فَهُوَ شريك الْغَانِمين.
2072 - / 2577 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: ((مَا بعث الله عز وَجل نَبيا إِلَّا رعى الْغنم)) فَقَالَ أَصْحَابه: وَأَنت؟ فَقَالَ: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مَكَّة)) .
وَقد سبق وَجه الْحِكْمَة فِي رعي الْغنم فِي مُسْند جَابر. وَقد روى هَذَا الحَدِيث سُوَيْد بن سعيد عَن عَمْرو بن يحيى بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ: ((كنت أرعاها بالقراريط)) قَالَ سُوَيْد: يَعْنِي كل شَاة بقيراط. قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: قراريط مَوضِع، وَلم يرد بذلك القراريط من الْفضة.
وَهَذَا أصح؛ لِأَن سويدا لَا يعْتَمد على قَوْله.
2073 - / 2578 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: اتبعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((ابغني أحجارا أستنفض بهَا)) .
ابغني بِمَعْنى ابغ لي، تَقول: بغيت لَك كَذَا وَكَذَا، وبغيتك كَذَا: أَي طلبته لَك، قَالَ الله عز وَجل: {يبغونكم الْفِتْنَة} [التَّوْبَة: 47] أَي يَبْغُونَ لكم.
وأستنفض بهَا: أَي أزيل عني الْأَذَى. وَالْإِشَارَة إِلَى الإستجمار؛ لِأَن المستجمر ينفض عَن نَفسه أَذَى الْحَدث بالأحجار.

(3/546)


2074 - / 2579 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: ((تنتهك ذمَّة الله)) .
أَي يستباح مَالا يحل. وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي أَفْرَاد مُسلم من هَذَا الْمسند إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2075 - / 2580 - والْحَدِيث الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ: قد سبق فِي مُسْند جَابر.
2076 - / 2581 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: ((إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه ثمَّ لينزعه؛ فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء وَالْآخر شِفَاء)) .
قد تعجب قوم من اجْتِمَاع الدَّاء والدواء فِي شَيْء وَاحِد وَلَيْسَ بعجيب، فَإِن النحلة تعسل من أَعْلَاهَا وتلقي السم من أَسْفَلهَا، والحية الْقَاتِل سمها يدْخلُونَ لَحمهَا فِي الدرياق، ويدخلون الذُّبَاب فِي أدوية الْعين ويسحقونه مَعَ الإثمد ليقوى الْبَصَر، ويأمرون بستر وَجه الَّذِي يعضه الْكَلْب من الذُّبَاب، وَيَقُولُونَ: إِن وَقع عَلَيْهِ تعجل هَلَاكه.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه إِذا مَاتَ فِي المَاء الْيَسِير مَا لَيست لَهُ نفس سَائِلَة لم ينجس، خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي.

(3/547)


2077 - / 2582 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((إِذا قضى الله الْأَمر فِي السَّمَاء ضربت الْمَلَائِكَة أَجْنِحَتهَا خضعانا لقَوْله كَأَنَّهُ سلسلة على صَفْوَان، فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم)) .
الخضعان والخضوع: التطامن.
والصفوان: الْحجر الأملس، وَإِذا جرت السلَاسِل عَلَيْهِ أزعجت الْقُلُوب بِالرُّعْبِ.
وفزع عَن قُلُوبهم: أزيل عَنْهَا الْفَزع.
2078 - / 2581 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: ((من صلى فِي ثوب فليخالف بَين طَرفَيْهِ)) .
وَالْمرَاد يكمل السّتْر والإستيثاق مِنْهُ.
2079 - / 2582 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَغَيره.
2080 - / 2586 - والْحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: قد تقدم فِي هَذَا الْمسند، فِي الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة.
2081 - / 2587 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قفل

(3/548)


من غَزْوَة خَيْبَر سَار لَيْلَة حَتَّى إِذا أدْركهُ الْكرَى عرس وَقَالَ لِبلَال: ((اكلأ لنا اللَّيْل)) .
قفل: بِمَعْنى رَجَعَ.
والكرى: النّوم.
وعرس: نزل فِي سَفَره فِي آخر اللَّيْل.
واكلأ: بِمَعْنى احفظ، يُقَال: كلأك الله، وَأَصله الْهَمْز وَقد يُخَفف.
وَقَوله: فاقتادوا رواحلهم. إِن قيل: كَيفَ اشْتغل بالرحل عَن تَعْجِيل الْقَضَاء؟ وَكَيف خَفِي الْوَقْت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ لَا ينَام قلبه؟ فقد أجبنا عَن ذَلِك فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
2082 - / 2588 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّالِث فِي مُسْند ابْن عمر.
2083 - / 2589 - وَالرَّابِع: فِي مُسْند زيد بن ثابث.
2084 - / 2591 - وَالسَّادِس: فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَفِيه المزادة المجبوبة: يَعْنِي المقطوعة.
والجب: الْقطع.

(3/549)


2085 - / 2592 - وَالسَّابِع: فِي مُسْند أبي حميد السَّاعِدِيّ.
2086 - / 2593 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((يدْخل الْجنَّة أَقوام أفئدتهم مثل أَفْئِدَة الطير)) .
هَؤُلَاءِ قوم رقت قُلُوبهم فَاشْتَدَّ خوفهم من الْآخِرَة وَزَاد على الْمِقْدَار، فشبههم بالطير الَّتِي تفزع من كل شَيْء وتخافه.
2087 - / 2594 - وَقد سبق الحَدِيث التَّاسِع.
2088 - / 2595 - وَفِي الْعَاشِر: ((وَلَا هِيَ أرسلتها تَأْكُل من خشَاش الأَرْض، ترمرم)) .
يَقُولُونَ: الْبَقر ترمرم من كل الشّجر.
وخشاش الأَرْض: هوامها.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2089 - / 2598 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((كفى بِالْمَرْءِ كذبا أَن يحدث بِكُل مَا سمع)) .
كذبا أَي تَكْذِيبًا. وَذَلِكَ لِأَن من حدث بِكُل مَا سمع من غير أَن يُمَيّز بَين مَا تقبله الْعُقُول مِمَّا لَا تقبله، أَو من يصلح أَن يسمع مَا

(3/550)


يحدث بِهِ مِمَّن لَا، نسب إِلَى الْكَذِب
2090 - / 2599 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر: قد سبق فِي مُسْند عبَادَة. وَفِيه: ((إِلَّا مَا اخْتلفت ألوانه)) يَعْنِي أجناسه.
2091 - / 2601 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة)) .
وَهَذَا لِأَنَّهُ قد صَار الحكم لَهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَن يتشاغل بالأنقص مَعَ حُضُور الْأَكْمَل، وَقد قَالَ أَبُو حنيفَة: من كَانَ خَارج الْمَسْجِد وَلم يخْش فَوَات الرُّكُوع فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من الْفجْر صلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل، والْحَدِيث يرد هَذَا.
2092 - / 2602 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: ((أَيْن المتحابون بجلالي)) .
أَي أَنهم اجْتمعت قُلُوبهم فِي الْمحبَّة لتعظيمي.
2093 - / 2603 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((من اشْترى طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يكتاله)) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ لمروان: أحللت بيع الرِّبَا، أحللت بيع الصكاك وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الطَّعَام حَتَّى يسْتَوْفى.

(3/551)


الصكاك: رقاع كَانَت تكْتب لَهُم فِي أَرْزَاقهم بأطعمة، وَكَانُوا يبيعون مَا فِي الصكاك قبل اسْتِيفَائه. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَابْن عمر.
2094 - / 2605 - وَقد سبق الحَدِيث الْعشْرُونَ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2095 - / 2606 - وَالْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِي مُسْند سهل بن سعد.
2096 - / 2607 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((سَمِعْتُمْ بِمَدِينَة جَانب مِنْهَا فِي الْبر وجانب فِي الْبَحْر؟)) .
وَهَذِه قسطنطينة، وَقد بيّنت فِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين الَّذِي يَأْتِي.
2097 - / 2612 - وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين وَفِيه: ((الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف)) .
الْإِشَارَة بِالْقُوَّةِ هَا هُنَا إِلَى الْعَزْم والحزم والإحتياط لَا إِلَى قُوَّة الْبدن.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.

(3/552)


2098 - / 2615 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: ((من عرض عَلَيْهِ ريحَان فَلَا يردهُ، فَإِنَّهُ خَفِيف الْمحمل طيب الرّيح)) .
كَأَن الْإِشَارَة بالريحان إِلَى مَا لَهُ من ريح طيبَة.
2099 - / 2616 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
2100 - / 2617 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: نهى عَن بيع الْحَصَاة، وَعَن بيع الْغرَر.
وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنهم كَانُوا يجْعَلُونَ عَلامَة إِيجَاب البيع رمي حَصَاة، فَنهى عَن هَذَا، وَجعل الْإِيجَاب وَالْقَبُول عَلامَة شَرْعِيَّة.
وَبيع الْغرَر مثل بيع اللَّبن فِي الضَّرع، فَإِنَّهُ رُبمَا لَا يكون فِيهِ لبن، أَو يكون قَلِيلا وَهُوَ يَظُنّهُ كثيرا.
2101 - / 2618 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا دعِي أحدكُم إِلَى طَعَام وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم)) .
قد بَينا أَنه إِنَّمَا تجب الْإِجَابَة إِلَى طَعَام الْعرس.
وَقَوله: ((فَلْيقل إِنِّي صَائِم)) أَي فليعرفهم عذره فِي ترك الْأكل لِئَلَّا يستوحشوا لانقباضه.
وَقَوله: ((فَليصل)) قَالَ أَبُو عبيد: أَي فَليدع لَهُم بِالْبركَةِ وَالْخَيْر،

(3/553)


وكل دَاع مصل، قَالَ الْأَعْشَى:
(عَلَيْك مثل الَّذِي صليت فاغتمضي ... يَوْمًا، فَإِن لجنب الْمَرْء مُضْطَجعا)

أَي: ليكن لَك مثل الَّذِي دَعَوْت لي بِهِ.
2102 - / 2619 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن الله تَعَالَى يبْعَث ريحًا من الْيمن، فَلَا تدع أحدا فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من إِيمَان إِلَّا قَبضته)) .
هَذَا يكون عِنْد قيام السَّاعَة.
2103 - / 2620 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا يقْعد قوم يذكرُونَ الله إِلَّا حفتهم الْمَلَائِكَة)) .
حفتهم: أحاطت بهم.
والسكينة ((فعيلة)) من السّكُون.
وَنَفس: فرج. والتنفيس: التَّخْفِيف.
2104 - / 2621 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: ((الْعِزّ إزَارِي، والكبرياء رِدَائي)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى الْكَلَام: أَن الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة

(3/554)


صفتان لله اخْتصَّ بهما لَا يشركهُ فيهمَا أحد، وَلَا يَنْبَغِي لمخلوق أَن يتعاطاهما؛ لِأَن صفة الْمَخْلُوق التَّوَاضُع والتذلل. وَضرب الرِّدَاء والإزار مثلا، يَقُول - وَالله أعلم: كَمَا لَا يُشْرك الْإِنْسَان فِي رِدَائه وَإِزَاره أحد، فَكَذَلِك لَا يشركني فِي الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة مَخْلُوق.
2105 - / 2622 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن لكم أَن تنعموا وَلَا تبتئسوا)) .
المبتئس: الحزين الذَّلِيل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36] أَي لَا تحزن وَلَا تضعف وَلَا يضيق صدرك.
وَأما يبأس فَفِيهِ لُغَتَانِ: يبأس ويبئس، وَالْمعْنَى: لَا يرى الْبُؤْس: وَهُوَ شدَّة الْحَاجة.
2106 - / 2624 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((دِينَار أنفقته فِي سَبِيل الله، ودينار أنفقته فِي رَقَبَة، ... أعظمها أجرا الَّذِي أنفقته على أهلك)) .
وَجه هَذَا أَن النَّفَقَة على الْأَهْل وَاجِبَة، وَلَيْسَ الْوَاجِب كالنفل.
2107 - / 2625 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: هم النَّاس بنحر بعض حمائلهم.

(3/555)


الحمائل والحمالات جمع حمل. وَقد سبق الحَدِيث فِي مُسْند أبي سعيد.
2108 - / 2629 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((وَمن مس الْحَصَا فقد لغى)) .
وَهَذَا لِأَن مس الْحَصَى يظْهر مِنْهُ صَوت كَمَا يظْهر من الْمُتَكَلّم صَوت.
2109 - / 2630 - والْحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ: قد كشفناه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2110 - / 2631 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاس هما بهم كفر: الطعْن فِي النّسَب، والنياحة على الْمَيِّت)) .
فِي المُرَاد بالْكفْر وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون كفر النِّعْمَة، فَإِن من طعن فِي نسب غَيره فقد كفر بِنِعْمَة الله عَلَيْهِ بسلامته من ذَلِك الطعْن، وَمن ناح على ميت فقد كفر نعْمَة الله عَلَيْهِ إِذْ لم يكن هُوَ الْمَيِّت.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: أَنَّهُمَا من أَفعَال الْكفَّار لَا من خلال الْمُسلمين.
2111 - / 2632 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يجد ثَلَاث خلفات)) .
الخلفة: النَّاقة الْحَامِل، وَجَمعهَا خلفات.

(3/556)


2112 - / 2633 - والْحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ: قد تقدم فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقد سبق مَا بعده.
2113 - / 2636 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: قد تقدم فِي مُسْند أبي سعيد.
2114 - / 2637 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: ((أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد، فَأَكْثرُوا الدُّعَاء)) .
إِنَّمَا كَانَ السُّجُود موطن قرب لِأَنَّهُ غَايَة ذل الْآدَمِيّ، فَلذَلِك تقرب من مَوْلَاهُ.
2115 - / 2638 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي سُجُوده: ((اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي كُله، دقه وجله)) .
أَي قَلِيله وَكَثِيره، قَالَ الشَّاعِر:
(بَكت وأدقت فِي البكا وأجلت ... )

أَي أَتَت بِقَلِيل الْبكاء وَكَثِيره. والجلة: الْإِبِل المسان.
2116 - / 2640 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: ((تعرض أَعمال النَّاس فِي كل جُمُعَة مرَّتَيْنِ، فَيغْفر فِي ذَلِك الْيَوْم لكل امْرِئ لَا يُشْرك بِاللَّه

(3/557)


شَيْئا، إِلَّا امْرأ كَانَت بَينه وَبَين أَخِيه شَحْنَاء، فَيُقَال: اتْرُكُوا - أَو اركوا، وَفِي لفظ: أنظروا هذَيْن حَتَّى يفيئا)) .
الشحناء: الْعَدَاوَة.
واركوا هذَيْن: أخروهما حَتَّى يرجعا عَن التقاطع. يُقَال: ركاه يركوه: إِذا أَخّرهُ. وأنظروا: أخروا. وَقد ذكرنَا حكم هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
2117 - / 2642 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: ((أعوذ بِكَلِمَات الله التامات)) .
قد شرحنا هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2118 - / 2644 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: ((اللَّهُمَّ أصلح لي ديني الَّذِي هُوَ عصمَة أَمْرِي)) .
أَي بِهِ أستمسك، وَعَلِيهِ فِي نجاتي أعول.
2119 - / 2645 - والْحَدِيث السِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص.

(3/558)


2120 - / 2646 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: ((يَمِينك على مَا يصدقك بِهِ صَاحبك)) وَفِي لفظ: ((الْيَمين على نِيَّة المستحلف)) .
وَمعنى الحَدِيث أَنَّك إِذا تأولت فِي يَمِينك لم ينفعك تأويلك.
2121 - / 2647 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ على جبل حراء، فَتحَرك.
وَقد تقدم فِي مُسْند أنس أَنه صعد أحدا. وَكَذَلِكَ روى سهل بن سعد: أحدا. وَأحد بِالْمَدِينَةِ وحراء بِمَكَّة، فقد اتّفق صُعُوده مَعَ أَصْحَابه على الجبلين، وتزلزل الجبلان تَحْتهم. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أنس عِلّة تحرّك الْجَبَل. وَذكرنَا حراء فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2122 - / 2648 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: أَن سعد بن عبَادَة قَالَ: أَرَأَيْت الرجل يجد مَعَ امْرَأَته رجلا، أَيَقْتُلُهُ؟ قَالَ: ((لَا)) . قَالَ: بلَى وَالَّذِي أكرمك بِالْحَقِّ. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اسمعوا إِلَى مَا يَقُول سيدكم. إِنَّه لغيور، وَأَنا أغير مِنْهُ، وَالله أغير مني)) .
قَوْله: ((اسمعوا)) إِشَارَة إِلَى الْخَزْرَج لِأَنَّهُ نقيبهم، فَقَالَ: ((اسمعوا إِلَى مَا يَقُول سيدكم)) لِأَنَّهُ قَالَ: بلَى، فِي مُقَابلَة قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا)) . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لشدَّة غيرته لَا لقصد الْمُخَالفَة. وَأما غيرَة

(3/559)


الْحق عز وَجل فقد تكلمنا عَلَيْهَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2123 - / 2649 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند عدي ابْن حَاتِم.
2124 - / 2650 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: ثمَّ يَدْعُو أَصْغَر وليد.
الْوَلِيد: الصَّبِي الصَّغِير، وَجمعه ولدان، وَجمع وليدة ولائد.
2125 - / 2652 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((إِذا قَالَ الرجل: هلك النَّاس، فَهُوَ أهلكهم)) . ((أهلكهم)) على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: بِضَم الْكَاف، وَالْمعْنَى: هُوَ أَشَّدهم هَلَاكًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لأحد مَعْنيين: إِمَّا للإزراء عَلَيْهِم والإحتقار لَهُم وتفضيل نَفسه، أَو للْقطع عَلَيْهِم بِاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة، فَكَأَنَّهُ يقنطهم من رَحْمَة الله. وَالْوَجْه الثَّانِي: بِفَتْح الْكَاف، على معنى: هُوَ الَّذِي يحكم عَلَيْهِم بِالْهَلَاكِ بِرَأْيهِ لَا بِدَلِيل من أَدِلَّة الشَّرْع.
وَالْأول أظهر وَأشهر.
2126 - / 2653 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(3/560)


إِذا كَانَ فِي سفر وأسحر. أَي دخل فِي وَقت السحر، يَقُول: ((سمع سامع بِحَمْد الله)) أَي انْتَشَر ذَلِك وَأظْهر فَسَمعهُ السامعون.
وَقَوله: ((وَحسن بلائه علينا)) الْبلَاء: النعم.
وَمعنى: صاحبنا: احفظنا، وَمن صَحبه الله فقد حفظه.
2127 - / 2654 - والْحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند أبي طَلْحَة.
2128 - / 2655 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: ((رغم أنف عبد)) .
أَي الْتَصق بالرغام وَهُوَ التُّرَاب.
2129 - / 2656 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: أَرَادَت عَائِشَة أَن تشتري جَارِيَة فتعتقها. وَهُوَ حَدِيث بَرِيرَة. وَسَيَأْتِي مشروحا فِي مُسْند عَائِشَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَفِيه ((إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق)) وَقد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2130 - / 2657 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: قد أُشير إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمسند آنِفا.

(3/561)


2131 - / 2658 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: ((من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا)) .
أَي لَيْسَ على أَخْلَاقنَا.
والغش خلاف النصح، وَإِظْهَار مَا لَيْسَ فِي الْبَاطِن.
2132 - / 2659 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: ((فَيلقى العَبْد فَيَقُول: أَي فل، ألم أكرمك)) .
فل ترخيم فلَان.
وَقَوله: ((ألم أسودك)) أَي أجعلك سيدا. وَالسَّيِّد: الَّذِي يفوق قومه فينقادون لَهُ.
وترأس: تصير رَئِيسا.
وترتع. قَالَ الْحميدِي: كَأَن الأَصْل ترتع بِالتَّاءِ، وَأما أَصْحَاب الْعَرَبيَّة وَأهل اللُّغَة فَقَالُوا: تربع بِالْبَاء: تَأْخُذ المرباع. والمرباع: مَا كَانَ يَأْخُذهُ الرئيس من الْغَنِيمَة. قَالَ: وترتع أَيْضا مُمكن، أَي تتنعم وتنبسط فِيمَا شِئْت.
قَوْله: ((فَإِنِّي أنساك)) أَي أتركك من الرَّحْمَة.
وَقَوله لِلْمُؤمنِ: ((هَا هُنَا إِذا)) أَي أَنه يرفعهُ ويكرمه.

(3/562)


وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2133 - / 2663 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: فتساورت لَهَا: أَي ثرت وانزعجت وتطلعت.
وَقَوله: فَوقف وَلم يلْتَفت فَصَرَخَ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: على مَاذَا أقَاتل النَّاس؟
هَذَا من حسن الْأَدَب؛ لِئَلَّا يرجع عَن حَاجَة قد توجه إِلَيْهَا وَمَا قَضَاهَا.
2134 - / 2667 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: ((إِذا سافرتم فِي الخصب فأعطوا الْإِبِل حظها من الأَرْض)) .
أَي مكنوها من المرعى، وارفقوا بهَا فِي السّير.
((وَإِذا سافرتم فِي السّنة)) يَعْنِي الجدب والشدة وَعدم المرعى ((فبادروا بهَا نقيها)) والنقي: السّمن، وَقد عبروا بالنقي عَن مخ الْعِظَام وشحم الْعين اسْتِدْلَالا على الْقُوَّة وَالسمن، وَالْمعْنَى: بَادرُوا بهَا الْخُرُوج من تِلْكَ الشدَّة مَا دَامَ بهَا نقي وفيهَا قُوَّة.
والتعريس: نزُول آخر اللَّيْل.
وَقَوله: ((فَاجْتَنبُوا الطّرق)) أَي لَا تنزلوا على الْجواد.
2135 - / 2668 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: ((لَا تصْحَب

(3/563)


الْمَلَائِكَة رفْقَة فِيهَا كلب أَو جرس)) .
أما الْكَلْب فلنجاسته. وَأما الجرس فَلِأَن صَوته يشغل الْقلب فيذهله عَن الْفِكر فِي الْخَبَر، وَرُبمَا أطرب، وَلذَلِك سَمَّاهَا: ((مَزَامِير الشَّيْطَان)) .
2136 - / 2670 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: ((الْأَرْوَاح جنود مجندة، فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف، وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: معنى الحَدِيث الْإِخْبَار عَن مُبْتَدأ كَون الْأَرْوَاح وتقدمها الأجساد الَّتِي هِيَ ملابستها على مَا رُوِيَ فِي الحَدِيث: ((إِن الله خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد بِكَذَا وَكَذَا)) فَأعْلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا خلقت أول مَا خلقت على قسمَيْنِ من ائتلاف وَاخْتِلَاف، كالجنود المجندة إِذا تقابلت وتواجهت. وَمعنى تقَابل الْأَرْوَاح مَا جعلهَا الله عَلَيْهِ من السَّعَادَة والشقاوة من مبدأ الْكَوْن، الأجساد الَّتِي فِيهَا الْأَرْوَاح تلتقي فِي الدُّنْيَا فتأتلف وتختلف على حسب مَا جعلت عَلَيْهِ من التشاكل والتنافر فِي بَدْء الْخلقَة، فترى الْبر الْخَيْر يحب شكله وينفر عَن ضِدّه، وَكَذَلِكَ الْفَاجِر. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْأَرْوَاح لَيست بأعراض؛ فَإِنَّهَا قد كَانَت مَوْجُودَة قبل الأجساد، وَأَنَّهَا تبقى بعد فنَاء الأجساد. وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلق من

(3/564)


شجر الْجنَّة)) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((النَّاس معادن)) وَقد سبق تَفْسِيره.
2137 - / 2671 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: ((إِذا قَامَ أحدكُم من مَجْلِسه ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ)) .
وَهَذَا لِأَن الْمجْلس لمن جلس فِيهِ، ولابد أَن يعرض للْإنْسَان حوائج لَازِمَة، فَجعل عِنْد الذّهاب فِيهَا كَأَنَّهُ لم يرح.
2138 - / 2672 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّمَانُونَ: قد سبق فِي مُسْند سعد.
2139 - / 2673 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ: قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند ابْن عمر.
2140 - / 2674 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: ((من قتل وزغة فِي أول ضَرْبَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة، وَمن قَتلهَا فِي الضَّرْبَة الثَّانِيَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة)) لدوّنَ الأولى.
كَأَن الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى توقير ثَوَاب الْإِقْدَام والشجاعة على الضعْف والجبن.

(3/565)


2141 - / 2675 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((لَا يَجْزِي ولد عَن وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه)) .
اعْلَم أَن من اشْترى أَبَاهُ عتق عَلَيْهِ بِنَفس الشرى من غير أَن يتَلَفَّظ بِالْعِتْقِ، وَإِنَّمَا ذكر الْعتْق بعد الشرى لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ تسبب إِلَى الْعتْق، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور، إِلَّا أَن دَاوُد أَخذ بِظَاهِر الحَدِيث وَقَالَ: لَا يعْتق عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ حَتَّى يعتقهُ. وَكَانَ ابْن عقيل يستحسن مَذْهَب دَاوُد فِي هَذَا وَيَقُول: مَا أحسن مَا قَالَ؛ لِأَن لفظ الحَدِيث مَعَه، وَالْمعْنَى أَيْضا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجزى إِذا أعتق. قَالَ: وَنحن نقُول: إِذا تسبب فِي الْعتْق كَانَ حرا.
2142 - / 2676 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: ((منعت الْعرَاق درهمها وقفيزها)) .
الْمَعْنى: ستمنع، فَلَمَّا كَانَ إِخْبَارًا عَن متحتم الْوُقُوع حسن الْإِخْبَار عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي تَحْقِيقا لكَونه، يدل عَلَيْهِ أَنه فِي بعض الْأَلْفَاظ: ((كَيفَ أَنْتُم إِذا لم تجتبوا دِينَارا وَلَا درهما)) ، وَقد كَانَ بعض الْعلمَاء يَقُول: إِنَّمَا منعُوا هَذَا لأَنهم أَسْلمُوا. قَالَ: وَهَذَا إِخْبَار عَن إِجْمَاع الْكل على الْإِسْلَام. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ قد سبق صَرِيحًا فِي هَذَا الْمسند فِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين من أَفْرَاد البُخَارِيّ: قَالَ

(3/566)


أَبُو هُرَيْرَة: كَيفَ أَنْتُم إِذا لم تجتبوا دِينَارا وَلَا درهما. قيل: وَكَيف؟ قَالَ: تنهتك ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله، فيشد الله قُلُوب أهل الذِّمَّة فيمنعون مَا فِي أَيْديهم. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى الحَدِيث أَن هَذِه الْبِلَاد ستفتح للْمُسلمين وَيُوضَع عَلَيْهَا الْخراج شَيْئا مُقَدرا بالمكاييل والأوزان، وسيمنع ذَلِك فِي آخر الزَّمَان.
والمدي: مكيال لأهل الشَّام، يُقَال: إِنَّه يسع خَمْسَة عشر مكوكا.
والإردب: مكيال لأهل مصر، يُقَال: إِنَّه يسع أَرْبَعَة وَعشْرين صَاعا.
2143 - / 2682 - وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين، وَفِيه: ((صنفان من أهل النَّار لم أرهما: قوم مَعَهم سياط كأذناب الْبَقر يضْربُونَ بهَا النَّاس، وَنسَاء كاسيات عاريات)) .
الْإِشَارَة بأصحاب السِّيَاط يشبه أَن يكون للظلمة من أَصْحَاب الشَّرْط.
وَفِي قَوْله: ((كاسيات عاريات)) ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنَّهُنَّ يلبسن ثيابًا رقاقا تصف مَا تحتهَا، فهن كاسيات فِي الظَّاهِر، عاريات فِي الْمَعْنى. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ يكشفن بعض أجسامهن، فهن عاريات، أَي بَعضهنَّ منكشف. وَالثَّالِث: كاسيات من نعم الله عز وَجل عاريات من الشُّكْر.
وَفِي قَوْله: ((مائلات مميلات)) أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى

(3/567)


وَاحِد، كَمَا يُقَال: جاد مجد. وَالثَّانِي: مائلات إِلَى الشَّرّ مميلات للرِّجَال إِلَى الإفتتان بِهن. وَالثَّالِث: مائلات زائغات عَن طَاعَة الله، مميلات: أَي معلمات غَيْرهنَّ الدُّخُول فِي مثل فعلهن. وَالرَّابِع: مائلات: أَي متبخترات فِي مشيتهن، مميلات أعطافهن وأكتافهن.
قَوْله: ((رؤوسهن كأسنمة البخت)) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُنَّ يعظمن رؤوسهن بِمَا يصلنه من الشّعْر وبالخمر عَلَيْهِنَّ فَيُشبه أسنمة البخت فِي ارتفاعها. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ يطمحن إِلَى الرِّجَال وَلَا يغضضن، وَلَا ينكسن رؤوسهن.
وَقَوله: ((لم أرهما)) أَي سَيكون بعدِي.
2144 - / 2684 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ.
2145 - / 2685 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: ((لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّار اجتماعا يضر أَحدهمَا الآخر)) قيل: من هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: ((مُؤمن قتل كَافِرًا ثمَّ سدد)) .
الْمَعْنى أَنه إِن دخل الْمُؤمن النَّار بمعاصيه أخرج، فَلَا يتساوى مكثه وَمكث الْكَافِر، وَلَا يجْتَمع مَعَه فِيمَا هُوَ فِيهِ.
2146 - / 2686 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: ((من سَأَلَ النَّاس

(3/568)


أَمْوَالهم تكثرا)) .
والتكثر: مَا فَوق الْحَاجة.
2147 - / 2687 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكره الشكال من الْخَيل.
الشكال فِي الْفرس: أَن يكون فِي رجله الْيُمْنَى بَيَاض، وَفِي يَده الْيُسْرَى أَو فِي يَده الْيُمْنَى وَرجله الْيُسْرَى. وَقد جَاءَ هَذَا مُبينًا فِي الحَدِيث عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ أَن يكون ثَلَاث قَوَائِم مِنْهُ محجلة وَوَاحِدَة مُطلقَة، أَخذ من الشكال الَّذِي تشكل بِهِ الْخَيل لِأَنَّهُ يكون فِي ثَلَاث قَوَائِم، أَو تكون الثَّلَاث مُطلقَة وَرجل محجلة، وَلَا يكون الشكال إِلَّا فِي الرجل، لَا يكون فِي الْيَد.
2148 - / 2688 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا هُوَ بِأبي بكر وَعمر فَقَالَ: ((مَا أخرجكما؟)) قَالَا: الْجُوع. قَالَ: ((وَأَنا)) .
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ أظهرُوا مَا كِتْمَانه أفضل؟ فَالْجَوَاب: أَن أَبَا بكر وَعمر لم يبدآ بِذكر ذَلِك، إِنَّمَا سَأَلَهُمَا عَن سَبَب خروجهما، والصدق وَاجِب، وكتمان الْحَال فَضِيلَة، فآثرا فعل الْوَاجِب. على أَنه إِنَّمَا

(3/569)


يكتم مثل هَذَا لخوف رِيَاء وَسُمْعَة، وَأما إِذا أظهر لمثل الرَّسُول، أَو لمريد يقْصد الإتباع والإقتداء فَلَا بَأْس بِهِ. وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وَأَنا)) فَإِنَّهُ مِمَّا قواهما بِهِ على مَا هما فِيهِ، فَجمع فِي إخبارهما بِحَالهِ شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يصبرا، فقد ابْتُلِيَ هُوَ. وَالثَّانِي: أَن يبشرهما بِأَنَّهُ قد سلك بكما فِي طريقي.
وَأما الرجل الَّذِي أَتَوْهُ فَهُوَ أَبُو الْهَيْثَم مَالك بن التيهَان، شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء الإثني عشر، وَشهد بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَوله: مرْحَبًا وَأهلا، الْمَعْنى: أتيت رحبا: أَي سَعَة، وَأهلا أَي: أتيت أَهلا لَا غربا، فأمن وَلَا تستوحش. وَيَقُولُونَ أَيْضا: وسهلا، أَي أتيت سهلا لَا حزنا، وَهَذَا كُله فِي مَذْهَب الدُّعَاء، كَمَا تَقول: لقِيت خيرا.
وَقَوْلها: يستعذب: أَي يطْلب المَاء العذب.
والعذق بِكَسْر الْعين: الكباسة، وَهُوَ الَّذِي تسميه الْعَامَّة العثق.
والمدية: السكين.
والحلوب: ذَات الدّرّ وَاللَّبن.
وَقَوله: ((لتسألن)) أَي عَن شكر هَذَا، فَإِن تسهيل حُصُوله وسهولة تنَاوله من النعم الَّتِي يَنْبَغِي أَن تشكر.

(3/570)


2149 - / 2689 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: ((تقيء الأَرْض أفلاذ كَبِدهَا أَمْثَال الأسطوان من الذَّهَب وَالْفِضَّة)) .
أَي تخرج الْكُنُوز المدفونة فِيهَا. قَالَ ابْن السّكيت: الفلذ لَا يكون إِلَّا للبعير، وَهُوَ قِطْعَة من كبده، وفلذة وَاحِدَة، وَجَمعهَا فلذ وأفلاذ: وَهِي الْقطع المقطوعة طولا. وَسمي مَا فِي بَاطِن الأَرْض كبدا تَشْبِيها بالكبد الَّذِي فِي بطن الْبَعِير، وَكَذَلِكَ قَوْله تقيء، وقيئها: إخْرَاجهَا.
والأسطوان: العمود، والأساطين: الأعمدة. وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قبيل الْقِيَامَة وهم فِي شغل، وَيحْتَمل أَن يكون فِي الْقِيَامَة.
2150 - / 2690 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: ((ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله: شيخ زَان، وَملك كَذَّاب، وعائل مستكبر)) .
هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أبعد النَّاس مِمَّا تعاطوه، فَإِن شبق الشَّبَاب يغلب أَصْحَابه فيقصدون قَضَاء الوطر لَا الْمُخَالفَة، وَالشَّيْخ إِنَّمَا يَزْنِي على تكلّف، فالمعصية فِي حَقه أقوى من الإلتذاذ. وَأما الْملك فَلَيْسَ فَوْقه أحد يحْتَاج إِلَى مكاذبته، فقد أَتَى ذبنا لَا معنى لَهُ. والعائل: الْفَقِير، والتكبر مَعَ الْفقر لَا وَجه لَهُ. وَهَذِه الذُّنُوب قبيحة مِمَّن كَانَت، وَلكنهَا من هَؤُلَاءِ أقبح، كَمَا أَن الْمعاصِي من كل أحد قبيحة، لَكِنَّهَا من الْعلمَاء أقبح.

(3/571)


2151 - / 2691 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة: ((إِن الله طيب لَا يقبل إِلَّا طيبا)) .
هَذَا إِخْبَار عَن كَمَال صِفَاته الَّتِي لَا يدخلهَا نقص وَلَا عيب، كَمَا أَن الله جميل.
وَقَوله: ((لَا يقبل إِلَّا طيبا)) يَعْنِي بِهِ الْحَلَال.
والأشعث: الَّذِي قد تغير شعر رَأسه وَتَلَبَّدَ لبعد عَهده بالدهن والإمتشاط.
وَقد بَين الحَدِيث أَن أكل الْحَرَام يمْنَع من إِجَابَة الدُّعَاء، وَنبهَ على أَن جَمِيع الْمعاصِي تمنع.
2152 - / 2692 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو جهل: هَل يعفر مُحَمَّد وَجهه بَين أظْهركُم؟
تعفير الْوَجْه: إلصاقه بِالتُّرَابِ، وَيُقَال للتراب العفر.
وَقَوله: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ أَي: فَمَا بادرهم مِنْهُ إِلَّا نكوصه على عقبه. وينكص: يرجع إِلَى خَلفه.
والعقب: مُؤخر الْقدَم.
والإختطاف: الإستلاب بِسُرْعَة.

(3/572)


و {كلا} بِمَعْنى حَقًا. و {الْإِنْسَان} هَا هُنَا أَبُو جهل، كَانَ إِذا أصَاب مَالا أشر وبطر فِي لِبَاسه ومراكبه وَطَعَامه. {أَن رَآهُ} أَي أَن رأى نَفسه.
و {الرجعى} الْمرجع.
{أَرَأَيْت} تعجيب للمخاطب، وَإِنَّمَا كررها لتأكيد التعجيب.
وَالْمرَاد بالناهي أَو جهل. وَكَانَ قد رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فَقَالَ: ألم أَنْهَك عَن هَذَا؟ وَالْمرَاد بِالْعَبدِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أَرَأَيْت إِن كَانَ الْمنْهِي عَن الْهدى، أَرَأَيْت إِن كذب الناهي. قَالَ الْفراء: الْمَعْنى: أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى عبدا إِذا صلى وَهُوَ كَاذِب مول عَن الذّكر، فَأَي شَيْء أعجب من هَذَا؟ وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: تَقْدِيره: أرأيته مصيبا؟ ألم يعلم - يَعْنِي أَبَا جهل - بِأَن الله يرى ذَلِك فيجازيه؟ {كلا} أَي لَا يعلم ذَلِك {لَئِن لم ينْتَه} عَن تَكْذِيب مُحَمَّد وَشَتمه وإيذائه {لنسفعا بالناصية} والسفع: الْأَخْذ. والناصية: مقدم الرَّأْس. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: سفعت بِيَدِهِ: أَي أخذت بهَا.
وَقَالَ الزّجاج: يُقَال: سفعت بالشَّيْء: إِذا قبضت عَلَيْهِ وجذبته جذبا شَدِيدا. وَالْمعْنَى: ليجزن ناصيته إِلَى النَّار.
قَوْله: {نَاصِيَة} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ بدل فَلذَلِك جرها. وَقَالَ الزّجاج: الْمَعْنى بناصية. صَاحبهَا كَاذِب خاطىء، كَمَا يُقَال: نَهَاره

(3/573)


صَائِم وليله قَائِم، أَي هُوَ صَائِم فِي نَهَاره وقائم فِي ليله.
{فَليدع نَادِيه} أَي أهل نَادِيه، وهم أهل مَجْلِسه فليستنصر بهم.
{سَنَدع الزَّبَانِيَة} قَالَ عَطاء: هم الْمَلَائِكَة الْغِلَاظ الشداد. وَقَالَ مقَاتل: هم خَزَنَة جَهَنَّم. وَقَالَ قَتَادَة: الزَّبَانِيَة فِي كَلَام الْعَرَب: الشَّرْط. وَقَالَ الْفراء: كَانَ الْكسَائي يَقُول: لم أسمع للزبانية بِوَاحِد، ثمَّ قَالَ بِأخرَة: وَاحِد الزَّبَانِيَة زبني، فَلَا أَدْرِي أقياسا مِنْهُ أم سَمَاعا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَاحِد الزَّبَانِيَة زبنية: وَهُوَ كل متمرد من إنس أَو جَان.
وَيُقَال: فلَان زبنية عفرية. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ مَأْخُوذ من الزَّبْن: وَهُوَ الدّفع، كَأَنَّهُمْ يدْفَعُونَ أهل النَّار إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن دُرَيْد: الزَّبْن: الدّفع، يُقَال: نَاقَة زبون، إِذا زبنت حالبها ودفعته برجلها، وتزابن الْقَوْم: تدارؤوا.
وَقَوله: {كلا} أَي لَيْسَ الْأَمر على مَا عَلَيْهِ أَبُو جهل. {لَا تطعه} فِي ترك الصَّلَاة. {واسجد} أَي صل لله {واقترب} إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ. هَذَا قَول الْجُمْهُور: أَن قَوْله: {واقترب} خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد قيل: إِنَّه خطاب لأبي جهل، ثمَّ فِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا: اسجد أَنْت يَا مُحَمَّد واقترب أَنْت يَا أَبَا جهل من النَّار، قَالَه زيد بن أسلم. وَالثَّانِي: واقترب أَنْت يَا أَبَا جهل من مُحَمَّد، تهددا لَهُ: أَي لَو اقْتَرَبت لهلكت.
2153 - / 2693 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: ((ضرس الْكَافِر -

(3/574)


أَو نَاب الْكَافِر - مثل أحد، وَغلظ جلده مسيرَة ثَلَاث)) .
فِي تَعْظِيم خلق أهل النَّار خمس فَوَائِد: إِحْدَاهُنَّ: زِيَادَة عَذَابهمْ، لِأَنَّهُ كلما عظم الْعُضْو كثر عَذَابه لاتساع محَال الْأَلَم. وَالثَّانيَِة: لتشويه الْخلقَة. وَالثَّالِثَة: ليزدحموا، فَإِن الإزدحام نوع عَذَاب، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مُقرنين فِي الأصفاد} [إِبْرَاهِيم: 49] وَالرَّابِعَة: ليستوحش بَعضهم من بَعضهم، فَإِن الْأَشْخَاص الهائلة المستبشعة عَذَاب أَيْضا.
وَالْخَامِسَة: أَن يكون جَمِيع أَجزَاء الْكَافِر الَّتِي انفصلت مِنْهُ فِي الدُّنْيَا حَال كفره أُعِيدَت إِلَيْهِ لتذوق جَمِيع أَجْزَائِهِ الْعَذَاب.
2154 - / 2696 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
2155 - / 2700 - والْحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء.
2156 - / 2703 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة: تَذَاكرنَا لَيْلَة الْقدر عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ((أَيّكُم يذكر حِين طلع الْقَمَر وَهُوَ مثل شقّ جَفْنَة)) .

(3/575)


الشق: النّصْف. والجفنة: جَفْنَة الطَّعَام. شبه الْقَمَر فِيمَا بعد الْعشْرين بشق الْجَفْنَة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ لَيْلَة سبع وَعشْرين.
2157 - / 2704 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: ((فَإِن فِي عُيُون الْأَنْصَار شَيْئا)) .
يَعْنِي بعض مَا لَا يسْتَحبّ من زرقة أَو صغر أَو نَحْو ذَلِك.
والأواقي جمع أُوقِيَّة، وَقد ذكرنَا وَزنهَا فِي مُسْند جَابر.
وَعرض الْجَبَل: جَانِبه.
2158 - / 2706 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سمع وجبة.
الوجبة: السقطة من علو إِلَى أَسْفَل بِصَوْت مزعج كصوت الْهدم، يُقَال: وَجب الْحَائِط.
وَقَوله: يهوي فِي النَّار: أَي يسْقط، يُقَال: هوى الشَّيْء: كَأَنَّهُ ألقِي فِي هوة بِسُرْعَة. والمهواة: الحفرة الْبَعِيدَة القعر، والقعر: نِهَايَة عمق الشَّيْء.
2159 - / 2708 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل فليفتتح الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين)) .
إِنَّمَا أَمر بِهَذَا لتدريج الْبدن إِلَى الْعِبَادَة لِئَلَّا يهجم على التَّطْوِيل فِي

(3/576)


أول مرّة.
2160 - / 2710 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((أَن رجلا زار أَخا لَهُ فِي قَرْيَة أُخْرَى، فأرصد الله تَعَالَى على مدرجته ملكا فَقَالَ: هَل لَك عَلَيْهِ من نعْمَة تربها؟)) .
أرصد: أَقَامَ رصدا: أَي منتظرا لَهُ.
والمدرجة: الطَّرِيق، وَجَمعهَا مدارج.
وتربها: تراعيها لتدوم لَك.
وَفِي هَذَا الحَدِيث فضل زِيَارَة الإخوان، وَهَذَا أَمر بَقِي اسْمه وَذهب رسمه، فَإِن الإخوان فِي الله عز وَجل أعز من الكبريت الْأَحْمَر، وَكَانَ أَبُو الْحسن بن الفاعوس الزَّاهِد ينشد:
(مَا هَذِه الْألف الَّتِي قد زدتم ... فدعوتم الخوان بالإخوان)

(مَا صَحَّ لي أحد أصيره أَخا ... فِي الله حَقًا لَا وَلَا الشَّيْطَان)

(إِمَّا مول عَن ودادي مَا لَهُ ... وَجه، وَإِمَّا من لَهُ وَجْهَان)

2161 - / 2711 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((يَقُول الله عز وَجل: مَرضت فَلم تعدني)) .
لما أَقَامَ الْمُؤمن ربه عز وَجل مقَام نَفسه كَمَا أخبر عَنهُ فِي قَوْله:

(3/577)


((فَكنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ، وبصره الَّذِي يبصر بِهِ)) أَقَامَ الْحق عز وَجل نَفسه مقَام عَبده فَقَالَ: ((مَرضت)) أَي مرض عَبدِي، وَهَذَا من بَاب الْكَرم فِي الْجَزَاء ومقابلة الشَّيْء بِأَفْضَل مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فاذكروني أذكركم} [الْبَقَرَة: 152] وَقَوله: ((من ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي)) .
2162 - / 2712 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((كَانَ زَكَرِيَّا نجارا)) .
اعْلَم أَن الْأَنْبِيَاء لما بعثوا داعين لِلْخلقِ إِلَى الْحق عز وَجل لم يطلبوا من الْخلق جَزَاء، وَلم يكن بُد من الجريان مَعَ الْأَسْبَاب، فاشتغل كل مِنْهُم بِسَبَب، فَكَانَ آدم حراثا، ونوح نجارا، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا، وَإِدْرِيس خياطا، وَكَذَلِكَ لُقْمَان، وَدَاوُد زرادا، وَإِبْرَاهِيم زراعا، وَكَذَلِكَ لوط، وَصَالح تَاجِرًا، ومُوسَى وَشُعَيْب وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُعَاة، وَهَذِه سيرة الْعلمَاء من بعدهمْ وَالصَّالِحِينَ، فَكَانَ أَبُو بكر الصّديق وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَطَلْحَة وَابْن سِيرِين وَمَيْمُون بن مهْرَان بزازين، وَكَانَ الزبير وَعَمْرو بن الْعَاصِ وعامر بن كريز جزارين، وَكَانَ سعد بن أبي وَقاص يبري النبل، وَعُثْمَان بن طَلْحَة الحَجبي خياطا، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ يَبِيع السختيان - وَيُونُس ابْن عبيد جزارا، وَمَالك بن دِينَار وراقا يكْتب الْمَصَاحِف، وَكَانَ سعيد

(3/578)


ابْن الْمسيب يحتكر الزَّيْت، وسُفْيَان الثَّوْريّ يباضع.
وَاعْلَم أَن الإشتغال بِالْكَسْبِ والتسبب إِلَى الْغنى عَن النَّاس يحفظ الدّين، وَيمْنَع من الرِّيَاء، وَيكون أدعى إِلَى قبُول القَوْل. وَقد سبق مدح الْكسْب وَالْمَال فِي مُسْند أبي سعيد، وَالله الْمُوفق.
2163 - / 2715 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل فاستعجم الْقُرْآن على لِسَانه فليضطجع)) .
استعجم بِمَعْنى لم يتَوَجَّه لَهُ فِيهِ وَجه الْقِرَاءَة، يُقَال: استعجم: إِذا لم يفهم.
2164 - / 2716 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أَيّمَا قَرْيَة أتيتموها وأقمتم فِيهَا فسهمكم فِيهَا، وَأَيّمَا قَرْيَة عَصَتْ الله وَرَسُوله فَإِن خمسها لله وَلِرَسُولِهِ ثمَّ هِيَ لكم)) .
أما الْقرْيَة الَّتِي يأتونها ويقيمون فِيهِ فَهِيَ مَا فتح صلحا، وَذَلِكَ على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يصالحونا على أَن ملك الأَرْض لنا ونقرها فِي أَيْديهم بالخراج، فَهَذِهِ تصير وَقفا بَين الْمُسلمين. وَالثَّانِي: أَن نصالحهم على أَن ملكهَا لَهُم وَلنَا الْخراج عَنْهَا، فَهَذَا الْخراج فِي حكم الْجِزْيَة.
وَأما الْقرْيَة الَّتِي عَصَتْ الله فَهِيَ الَّتِي تفتح عنْوَة، فَحكمهَا حكم الْغَنِيمَة، وَالْغنيمَة تقسم خَمْسَة أَخْمَاس: فَخمس مِنْهَا لله وَلِلرَّسُولِ

(3/579)


يقسم على خَمْسَة أسْهم: سهم لله وَلِلرَّسُولِ يصرف فِي الْمصَالح، وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَسَهْم لِلْيَتَامَى والفقراء، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم لأبناء السَّبِيل، وَأَرْبَعَة أخماسها لمن شهد الْوَقْعَة، وَهُوَ معنى قَوْله ((لكم)) .
وَقَوله: ((أتيتموها وأقمتم فِيهَا)) أَي فتحتموها صلحا.
2165 - / 2717 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((خلق الله الْبَريَّة يَوْم السبت)) .
الْبَريَّة: الأَرْض. وَذكر ابْن جرير وَغَيره من الْعلمَاء أَن كل يَوْم من هَذِه الْأَيَّام مِقْدَاره ألف سنة، وَلَا أَدْرِي لم قَالُوا هَذَا، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ من قَوْله تَعَالَى: {ويستعجلونك بِالْعَذَابِ وَلنْ يخلف الله وعده وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ} [الْحَج: 47] وَتلك إِشَارَة إِلَى أَيَّام الْآخِرَة. فَأَما الْأَيَّام الَّتِي هِيَ السبت والأحد. . فَهِيَ الَّتِي عرف مقدارها.
فَإِن قيل: فالقرآن يدل على أَن خلق الْأَشْيَاء فِي سِتَّة أَيَّام، وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنَّهَا فِي سَبْعَة.
فَالْجَوَاب: أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا خلق فِي سِتَّة أَيَّام، وَخلق آدم من الأَرْض، وَالْأُصُول خلقت فِي سِتَّة، وآدَم كالفرع من بَعْضهَا.
2166 - / 2718 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قَالَ

(3/580)


أَبُو هُرَيْرَة: إِنَّمَا أتوضأ فِي أثوار أقط أكلتها، لِأَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((توضأوا مِمَّا مست النَّار)) .
الأثوار جمع ثَوْر. والثور: الْقطعَة من الأقط: والأقط شَيْء يعْمل من اللَّبن ويجفف. وَهَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ، روى ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل عرقا أَو كَتفًا ثمَّ مضى إِلَى الصَّلَاة وَلم يتَوَضَّأ.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل اللَّحْم ثمَّ يقوم إِلَى الصَّلَاة وَلم يمس مَاء. وَقد أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن أَحْمد الْخياط قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن حَمْزَة قَالَ: أَنبأَنَا يزِيد بن عبد الصَّمد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَيَّاش قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر قَالَ: كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار. وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة.
2167 - / 2719 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((ليهلن ابْن مَرْيَم بفج الروحاء)) .
والإهلال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ.

(3/581)


وَقَوله: ((أَو ليثنيهما)) أَي يجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة.
2168 - / 2720 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((بَينا رجل بفلاة)) .
الفلاة: الْمَفَازَة، وَالْجمع فلوات وفلا.
والحديقة: الأَرْض ذَات النّخل وَالشَّجر.
والسحاب: الْغَمَام، سمي سحابا لإنسحابه فِي الْهَوَاء.
والحرة: أَرض ذَات حِجَارَة سود.
والشراج: مسايل المَاء من الأَرْض المرتفعة إِلَى السهل، وَاحِدهَا شرج وشرجة.
والمسحاة مَأْخُوذَة من السحو، تَقول: سحوت الشَّيْء أسحاه وأسحوه: إِذا قشرته، سحوا وسحيا، فَأَنا أسحى وأسحي وأسحو، ثَلَاث لُغَات.
2722 - / 2169 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((من صلى صَلَاة لم يقْرَأ فِيهِ بِفَاتِحَة الْكتاب فَهِيَ خداج)) .
قَالَ أَبُو عبيد: معنى خداج نُقْصَان، مثل خداج النَّاقة إِذا ولدت ولدا نَاقص الْخلق أَو لغير تَمام، يُقَال: خدجت النَّاقة: إِذا أَلْقَت وَلَدهَا قبل أَوَان النِّتَاج وَإِن كَانَ تَامّ الْخلق، وأخدجت: إِذا ألقته نَاقص الْخلق وَإِن كَانَ لتَمام الْحمل، وَمِنْه قيل لذِي الثدية: إِنَّه مُخْدج الْيَد:

(3/582)


أَي ناقصها. قَالَ الزّجاج: خدجت النَّاقة وأخدجت بِمَعْنى، وَهُوَ أَن تلقي وَلَدهَا لغير تَمام. وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: قَوْله: ((فَهِيَ خداج)) أَي فَهِيَ ذَات خداج: أَي ذَات نُقْصَان فحذفت ذَات وأقيم الخداج مقَامهَا على مَذْهَبهم فِي الإختصار. قَالَ: وَيجوز أَن يكون خداج بِمَعْنى مخدجة: أَي نَاقِصَة، فأحل الْمصدر مَحل الْفِعْل، كَمَا قَالُوا: عبد الله إقبال وإدبار، يُرِيدُونَ: مقبل ومدبر.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على تعْيين الْفَاتِحَة، فَإِن الصَّلَاة النَّاقِصَة بَاطِلَة.
وَقَوله: ((قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي)) يُرِيد بِالصَّلَاةِ الْقِرَاءَة، وَلِهَذَا فسره بقوله: ((فَإِذا قَالَ العَبْد: الْحَمد لله)) وَبَيَان الْقِسْمَة أَن نصف الْفَاتِحَة ثَنَاء على الله عز وَجل، فَهُوَ يخْتَص بِهِ، وَنِصْفهَا دُعَاء فَهُوَ يخْتَص بِالْعَبدِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْبَسْمَلَة لَيست من الْفَاتِحَة، من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه ابْتَدَأَ بقوله: ((الْحَمد)) وَلَو كَانَت الْبَسْمَلَة مِنْهُ لبدأ بهَا. وَالثَّانِي: أَنه قسمهَا نِصْفَيْنِ، فَجعل نصفهَا ثَنَاء وَنِصْفهَا دُعَاء، وَلَو كَانَت الْبَسْمَلَة مِنْهَا كَانَت آيَات الثَّنَاء أَرْبعا وَنصفا، وآيات الدُّعَاء اثْنَتَيْنِ وَنصفا.

(3/583)


2170 - / 2723 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((لَا يغْتَسل أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَهُوَ جنب)) .
الدَّائِم: الْوَاقِف، وَلَا يَخْلُو أَن يكون دون الْقلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ يصير باغتسال الْجنب فِيهِ مُسْتَعْملا، فَيمْتَنع رفع الْأَحْدَاث بِهِ، أَو يزِيد على الْقلَّتَيْنِ فدوام اغتسال الْجنب مِنْهُ يُوجب استقذاره.
2171 - / 2724 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((فذلكم الرِّبَاط)) .
أَي قَائِم مقَام المرابطة فِي الْجِهَاد. وأصل الرِّبَاط أَن يرْبط هَؤُلَاءِ خيولهم وَهَؤُلَاء خيولهم.
2172 - / 2725 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة: ((لَا يَنْبَغِي لصديق أَن يكون لعانا)) .
الصّديق: من تكَرر مِنْهُ الصدْق. وَاللّعان: من تكَرر مِنْهُ اللَّعْن، فَلَا تصلح هَذِه الْحَال لصَاحب هَذِه الْحَال.
2173 - / 2727 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2174 - / 2728 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((أَو

(3/584)


أعْطى فاقتنى)) أَي ادخره لنَفسِهِ فِي الْآخِرَة.
2175 - / 2730 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((يَبِيع دينه بِعرْض الدُّنْيَا)) .
الْعرض: مَا يعرض من الدُّنْيَا، وَيدخل فِيهِ جَمِيع المَال.
2176 - / 2731 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((اتَّقوا اللاعنين)) قَالُوا: وَمَا اللاعنان؟ قَالَ: ((الَّذِي يتخلى فِي طَرِيق النَّاس أَو فِي ظلهم)) .
يتخلى: يَتَّخِذهُ خلاء لقَضَاء الْحَاجة، فَإِن ذَلِك سَبَب للعن من فعله، فَسمى الْمَكَان لاعنا لِأَنَّهُ سَبَب للعن.
وَطَرِيق النَّاس: الْموضع المطروق بِالْمَشْيِ فِيهِ.
وظلهم: كل مَا يَسْتَظِلُّونَ بِهِ من حَائِط أَو شَجَرَة.
2177 - / 2735 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد الْمِائَة: ((لتؤدن الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا يَوْم الْقِيَامَة)) .
أَصْحَاب الحَدِيث يضمون التَّاء ويفتحون الدَّال على مَا لم يسم فَاعله. وَأهل اللُّغَة يمْنَعُونَ من ذَلِك، قَالَ لي أَبُو مُحَمَّد الخشاب: لَا يجوز إِلَّا بِضَم الدَّال، لِأَنَّهَا لَو كَانَت مَفْتُوحَة لَكَانَ: لتؤدين بياء.

(3/585)


فَإِن قيل: فَكيف يُقَال: لتؤدن أَنْتُم حَتَّى يُقَاد للشاة؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا لجنس المخلوقين، الْمَعْنى: لتؤدن أَنْتُم يَا بني آدم حَتَّى يُقَاد للشاة.
والجلحاء: الَّتِي لَا قرن لَهَا.
والقرناء: ذَات الْقرن.
2178 - / 2736 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((مَا نقصت صَدَقَة من مَال)) .
قد اعْترض معترض فَقَالَ: كَيفَ يخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يُنَافِي الْحَقَائِق، وَنحن نعلم أَن من تصدق من دِينَار بقيراط نقص؟ فَأجَاب الْعلمَاء فَقَالُوا: إِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْصد هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن الْبركَة تخلف الْجُزْء الْمُنْفَصِل فَيكون كَأَنَّهُ لم يزل. وَوَقع لي فِي هَذَا جَوَاب آخر ينطبق على أصل السُّؤَال، فَقلت: للْإنْسَان داران، فَإِذا نقل بعض مَاله بِالصَّدَقَةِ إِلَى الدَّار الْأُخْرَى لم ينقص مَاله حَقِيقَة، وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث: ((فيربيها لأحدكم حَتَّى تكون كالجبل)) وَصَارَ كمن بعث بعض مَاله إِلَى إِحْدَى داريه أَو قسمه فِي صندوقين، فيراد من هَذَا أَن مَا خرج مِنْك لم يخرج عَنْك.
وَقَوله: ((وَمَا زَاد الله عبدا بِعَفْو إِلَّا عزا)) وَذَاكَ لِأَن الْعَافِي فِي مقَام الْوَاهِب والمتصدق، فيعز بذلك.
وَقَوله: ((وَمَا تواضع أحد لله إِلَّا رَفعه الله)) أَي رفع قدره فِي الْقُلُوب

(3/586)


لإخلاصه فِي التَّوَاضُع.
2179 - / 2737 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((المستبان مَا قَالَا فعلى البادئ مَا لم يعْتد الْمَظْلُوم)) .
وَهَذَا لِأَن البادئ ظَالِم بابتدائه بالسب، فَجَوَابه جَزَاء، فَإِذا اعْتدى الْمَظْلُوم كَانَ عَلَيْهِ إِثْم.
2180 - / 2738 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((أَتَدْرُونَ مَا الْغَيْبَة؟ ذكر أَخَاك بِمَا يكره)) .
الْغَيْبَة: ذكر الْغَائِب بِمَا فِيهِ مِمَّا يكرههُ، وَإِذا لم يكن ذَلِك فِيهِ كَانَ بهتانا، والبهت: الْكَذِب الَّذِي يتحير مِنْهُ ويعجب من إفراطه، وَالْعرب تَقول: ((يَا للبهيتة)) .
وَقد سبق مَا بعد هَذَا وَمِنْه ظَاهر إِلَى:
2181 - / 2745 - الحَدِيث السِّتين بعد الْمِائَة: ((قَالَ الله تَعَالَى: ((من عمل عملا أشرك فِيهِ معي غَيْرِي تركته وشركه)) .
اعْلَم أَن الْأَعْمَال ثَلَاثَة: عمل خَالص لله، وَهُوَ مَا لم يقْصد بِهِ سواهُ، فَهَذَا المقبول. وَعمل لأجل الْخلق، لولاهم مَا عمل، فَهَذَا الْمَرْدُود، وَهُوَ المُرَاد بقوله فِي الحَدِيث الآخر: ((إِنَّمَا قَرَأت ليقال:

(3/587)


فلَان قَارِئ)) . وَعمل يجْتَمع فِيهِ قصد الْحق والخلق، مثل أَن يُصَلِّي قَاصِدا للثَّواب ثمَّ يدرج فِي ضمن ذَلِك قصد مِدْحَة الْخلق، وَأَن يروه بِعَين التَّعَبُّد، فَهَذَا المُرَاد بالشرك فِي هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ إِلَى الرَّد أقرب.
2182 - / 2746 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((سِيرُوا، سبق المفردون)) قَالُوا: وَمَا المفردون؟ قَالَ: ((الذاكرون الله كثيرا وَالذَّاكِرَات)) .
هَذَا الحَدِيث يرْوى بِفَتْح الرَّاء وبكسرها، وَالْكَسْر أشهر. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: المفردون: الَّذين هلك أقرانهم ولداتهم وطالت أعمارهم فانفردوا لذكر الله عز وَجل وعبادته. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: هم المنقطعون عَن النَّاس لذكر الله عز وَجل، فكأنهم أفردوا أنفسهم للذّكر. والفارد والفرد فِي اللُّغَة: الثور الوحشي لإنفراده عَن الْإِنْس بالإنس. وَقَالَ غَيره: استولى عَلَيْهِم الذّكر فأفردهم عَن كل شَيْء إِلَّا عَن الله عز وَجل، فهم يفردونه بِالذكر وَلَا يضمون إِلَيْهِ سواهُ.
2183 - / 2747 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((فَكَأَنَّمَا

(3/588)


يسفهم المل)) .
المل وَالْملَّة: التُّرَاب الْحَار والرماد. وَفِي معنى يسفهم قَولَانِ: أَحدهمَا: يسفي فِي وجههم. وَالثَّانِي: يُطعمهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهر، من قَوْلك: سففت الدَّوَاء أسفه، وَالْمعْنَى: أَنَّك مَنْصُور عَلَيْهِم، فقد انْقَطع احتجاجهم عَلَيْك بِحَق الْقَرَابَة كَمَا يَنْقَطِع كَلَام من سف الْملَّة، وَمثل هَذَا قَول الْعَرَب: بفيك الإثلب: أَي الْحجر الَّذِي يسكت النَّاطِق، وَمَعَهُ هَذَا فقد دخل عَلَيْهِم الْإِثْم فِي أديانهم بِفعل مَا لَا يجوز فِي حَقك كَمَا يدْخل على من يتَنَاوَل الرماد الْحَار من الْأَلَم والتنغيص.
والظهير: العون.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا الحَدِيث إِلَى:
2184 - / 2750 - الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة وَفِيه: ((من خير معاش النَّاس لَهُم رجل مُمْسك عنان فرسه فِي سَبِيل الله، يطير على مَتنه كلما سمع هيعة أَو فزعة طَار عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْل مظانه. أَو رجل فِي رَأس شعفة)) .
المعاش: الْعَيْش.
ويطير على مَتنه: يسْرع بركضه وَهُوَ على ظَهره.
والهيعة: الصَّوْت المفزع الْمخوف من عَدو أَو غَيره، قَالَ الطرماح:

(3/589)


(أَنا ابْن حماة الْمجد من آل مَالك ... إِذا جعلت خور الرِّجَال تهيع))
أَي تجبن وتضعف. والخور جمع خوار: وَهُوَ الضَّعِيف.
وَقَوله: ((يَبْتَغِي الْقَتْل مظانه)) أَي فِي مظانه. ومظان الشَّيْء: مَكَانَهُ الَّذِي يظنّ وجوده فِيهِ، أَو وقته. ومظنة الشَّيْء: معدنه.
والشعفة: الْوَاحِدَة من شعفات الْجبَال: وَهِي أعاليها. والشعبة وَالْجمع الشعاب: وَهِي الطّرق فِي الْجبَال.
2183 - / 2751 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعمى فَقَالَ: لَيْسَ لي قَائِد قَالَ: ((هَل تسمع النداء بِالصَّلَاةِ؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((فأجب)) .
الْأَعْمَى هُوَ ابْن أم مَكْتُوم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب الْجَمَاعَة.
2186 - / 2752 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون فيستغفرون فَيغْفر لَهُم)) .
هَذَا دَلِيل على أَن المُرَاد من العَبْد الذل؛ فَإِن المذنب منكسر لذنبه، منكس الرَّأْس لجرمه، وَبِهَذَا يبين ذل الْعُبُودِيَّة وَيظْهر عز الربوبية، وَفِيه تَقْوِيَة لرجاء المذنب فِي الْعَفو.
2187 - / 2753 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((يقطع

(3/590)


الصَّلَاة الْكَلْب وَالْمَرْأَة وَالْحمار)) وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند أبي ذَر.
2188 - / 2576 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يفرك مُؤمن مُؤمنَة؛ إِن كره مِنْهَا خلقا رَضِي آخر)) .
الفرك بِكَسْر الْفَاء: البغض، يُقَال: فرك يفرك فركا، وَرجل مفرك: إِذا أبغضته النِّسَاء.
وَالْمرَاد من الحَدِيث أَن المؤمنة يحملهَا الْإِيمَان على اسْتِعْمَال خِصَال محمودة يُحِبهَا الْمُؤمن، فَيحمل مَا لَا يُحِبهُ لما يُحِبهُ.
2189 - / 2761 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يشربن أحد مِنْكُم قَائِما، فَمن نسي فليستقئ)) .
أَي فليستدع الْقَيْء. وَهَذَا مِمَّا يَدعِي قوم أَنه مَنْسُوخ. وَالصَّحِيح أَن الشّرْب قَائِما مَكْرُوه، وَذكر الْقَيْء للْمُبَالَغَة. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2190 - / 2762 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((سَيكون فِي آخر أمتِي أنَاس يحدثونكم بِمَا لم تسمعوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم، فإياكم وإياهم)) .

(3/591)


الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْكَذَّابين، ويوضحه أَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: ((يكون فِي آخر الزَّمَان دجالون كذابون يأتونكم من الْأَحَادِيث بِمَا لم تسمعوا)) وَفِي هَذَا تحذير من أهل الْكَذِب. وَإِنَّمَا يعرف الْكذَّاب من نقلة الحَدِيث بالبحث عَنهُ وَالنَّظَر فِيمَا قيل فِيهِ من قدح. وَقد تورع جمَاعَة من جهلة المتزهدين عَن سَماع الْقدح فِي الْكَذَّابين، قَالُوا: هَذَا غيبَة، وَلم يعلمُوا أَنه قصد لتصحيح الصَّحِيح وإفساد الْفَاسِد، وَلَوْلَا جهابذة النَّقْل لأدخل فِي الشَّرِيعَة مَا يُفْسِدهَا، وَلَقَد أدخلُوا وبالغوا، غير أَن الله تَعَالَى لَا يخلي كل زمن من ناقد يَنْفِي عَن الحَدِيث كذب الْكَذَّابين وتحريف الْجَاهِلين، حفظا لشريعته، وَالله غَالب على أمره.
2191 - / 2764 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أتيت حَائِطا فَلم أجد لَهُ بَابا، فَإِذا ربيع يدْخل، فاحتفرت فَدخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والحائط: الْبُسْتَان.
وَالربيع: الْجَدْوَل.
واحتفرت: افتعلت من الْحفر، فَكَأَنَّهُ حفر ليتسع لَهُ مَوضِع الدُّخُول.
وَقَوله: فَضرب بَين ثديي. الثديان معروفان. قَالَ الزّجاج:

(3/592)


ومغرز الثدي يُقَال لَهُ الثندوة.
وأجهشت بالبكاء: أَي تهيأت لَهُ.
وركبني عمر: أَي لَحِقَنِي.
وَقَوله: أخْشَى أَن يتكل عَلَيْهَا النَّاس: أَي يقتنعون بهَا ويتركون التَّعَبُّد.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول بِرَأْيهِ، إِذْ لَو كَانَ أَمر بذلك عَن وَحي لما تَركه لقَوْل عمر.
وَفِي الحَدِيث تَنْبِيه على أَنه يَنْبَغِي للمصحوب أَن يحمل انبساط الصاحب إِذا علم صِحَة قَصده وَقُوَّة محبته، وَأَن عمر لم يقْصد خلاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا رأى الْمصلحَة للْمُسلمين فَلذَلِك حمله وَلم يُنكر عَلَيْهِ.
2192 - / 2765 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ بعد الْمِائَة: ((الْخمر من هَاتين الشجرتين: النَّخْلَة والعنبة)) .
الْإِشَارَة إِلَى مُعظم مَا يتَّخذ مِنْهُ الْخمر. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند عمر.
2193 - / 2766 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين بعد الْمِائَة: أتيت أُمِّي فصرت إِلَى الْبَاب، فَإِذا هُوَ مُجَاف.

(3/593)


المجاف: المغلق.
وخشف الْقدَم: صَوته وحركته.
وخضحضة المَاء: صَوت تحريكه.
2194 - / 3768 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: خرج رجل من الْمَسْجِد بعد مَا أذن، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أما هَذَا فقد عصى أَبَا الْقَاسِم.
يشبه أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهيا عَن الْخُرُوج بعد الْأَذَان، ثمَّ إِن الْأَذَان إِنَّمَا هُوَ استدعاء للغائبين، فَإِذا خرج الْحَاضِر فقد فعل ضد المُرَاد.
2195 - / 2769 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: فِي حَدِيث فتح مَكَّة: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزبير على إِحْدَى المجنبتين.
المجنبة: قِطْعَة من الْعَسْكَر تسير فِي أحد جَانِبي الْعَسْكَر.
والحسر جمع حاسر: وَهُوَ الَّذِي لَا درع لَهُ وَلَا مغفر.
والراجل أَكثر مَا يكون حاسرا، هَكَذَا لفظ الحَدِيث وَهَذَا تَفْسِيره.
وَقد رَوَاهُ ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: الْحَبْس بِالْبَاء الساكنة قبل السِّين، وَقَالَ: هم الرجالة، سموا بذلك لتحبسهم عَن الركْبَان فِي السّفر وتأخرهم، قَالَ: وأحسب الْوَاحِد حَبِيسًا، ((فعيل)) بِمَعْنى ((مفعول)) .
قَالَ: وَيجوز أَن يكون: حابسا، كَأَنَّهُ يحبس من يسير من الركْبَان بمسيره.

(3/594)


وَأما البياذقة فَقيل: إِنَّهُم الرجالة، سموا بياذقا لخفة حركتهم وَسُرْعَة تقلبهم إِذْ لم يتكلفوا حمل السِّلَاح.
والكتبية: قِطْعَة من الْعَسْكَر مجتمعة.
وَقَوله: ((ووبشت قُرَيْش)) أَي: جمعت جموعا من قبائل شَتَّى.
والأوباش والأوشاب: الأخلاط.
وَقَوله: وَقَالَ بِيَدِهِ على الْأُخْرَى. يُشِير إِلَى حصادهم بِالْقَتْلِ.
وَقَوله: وأحفى بِيَدِهِ. أَي أَشَارَ بحافتها وَصفا للحصد وَالْقَتْل.
وَقَوله: أبيدت خضراء قُرَيْش: أَي أهلكت واستؤصلت.
وخضراؤها: سوادها ومعظمها، وَالْعرب تعبر بِالسَّوَادِ عَن الْكَثْرَة.
وَقَوله: ((من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن)) قَالَ ثَابت الْبنانِيّ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أوذي بِمَكَّة دخل دَار أبي سُفْيَان فأمن، فكافأه على هَذَا بِهَذَا القَوْل.
والضن: الْبُخْل وَالشح. يُقَال: ضننت بالشَّيْء بِكَسْر النُّون، أضن بِفَتْح الضَّاد، وضننت بِفَتْح النُّون، أضن بِكَسْر الضَّاد لُغَة أُخْرَى.
وَقَوله: اسْتَلم الْحجر: أَي لمسه بِيَدِهِ.
وسية الْقوس: طرفها.
وأناموه: قَتَلُوهُ.
2196 - / 2770 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين بعد الْمِائَة: ((من

(3/595)


خرج عَن الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة)) .
الْإِشَارَة إِلَى طَاعَة الْأُمَرَاء. وَقد ذكرنَا هَذَا، وشرحنا معنى الْميتَة الْجَاهِلِيَّة فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: ((من قَاتل تَحت راية عمية)) قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ الْأَمر الْأَعْمَى الَّذِي لَا يستبان وَجهه بالعصبية. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: هَذَا فِي قتال الْقَوْم فِي العصبية. والعصبية نصْرَة الْقَوْم على هواهم، وَإِن خَالف الشَّرْع.
والقتلة مَكْسُورَة الْقَاف: الْحَالة، كالقعدة والجلسة وَالركبَة. وَإِنَّمَا قَالَ: ((قتلة جَاهِلِيَّة)) لِأَن بَعضهم كَانَ يقتل بَعْضًا عصبية للآخرين.
2197 - / 2771 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَة: ((ثمَّ يخلف قوم يحبونَ السمانة)) .
الْمَعْنى: أَنهم يكثرون المطاعم فَيحدث عَن ذَلِك السّمن. وَقد قيل: إِن الْمَعْنى: يُرِيدُونَ الإستكثار من الْأَمْوَال، وَيدعونَ مَا لَيْسَ لَهُم من الشّرف، ويفخرون بِمَا لَيْسَ فيهم من الْخَيْر، فاستعار السّمن لهَذِهِ الْأَحْوَال.
2198 - / 2772 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: ((ينْطَلق بِهِ إِلَى ربه)) يَعْنِي الْمُؤمن، فَيَقُول: ((انْطَلقُوا بِهِ إِلَى آخر الْأَجَل)) يُشِير

(3/596)


إِلَى الْبَعْث. وَذكر روح الْكَافِر، فَرد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ريطة كَانَت عَلَيْهِ على أَنفه.
الريطة: كل ملاءة لم تكن لفقين، وَجَمعهَا ريط. ورياط.
وَحكى ابْن السّكيت: أَن كل ثوب رَقِيق لين فَهُوَ ريط. وَإِنَّمَا ردهَا على أَنفه ليعلم بنتن ريح روح الْكَافِر.
2199 - / 2773 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين بعد الْمِائَة: ((أفضل الصّيام بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم)) .
قَالَ أَبُو عبيد: إِنَّمَا نسبه إِلَى الله عز وَجل - والشهور كلهَا لَهُ - لتشريفه وتعظيمه، وكل مُعظم ينْسب إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا خصّه بقوله: ((الْمحرم)) دون بَاقِي الْمُحرمَات لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفا بذلك الإسم.

(3/597)