كشف المشكل من حديث الصحيحين

 (96) كشف الْمُشكل من مُسْند جُبَير بن مطعم

جملَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عشرَة.
2245 - / 2851 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الرَّابِع: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْمغرب بِالطورِ، فَلَمَّا بلغ: {أم خلقُوا من غير شَيْء أم هم الْخَالِقُونَ} [الطّور: 35] ، إِلَى قَوْله: { ... المسيطرون} [الطّور: 37] كَاد قلبِي أَن يطير.
الطّور: الْجَبَل، قَالَ مُجَاهِد: الطّور: الْجَبَل بالسُّرْيَانيَّة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الطّور: مَا لَا ينْبت من الْجبَال وَمَا أنبت فَلَيْسَ بطور.
وَيُمكن أَن يكون قَرَأَ جَمِيع السُّورَة وَيُمكن أَن يكون قَرَأَ بَعْضهَا، فَقَالَ: سمعته يقْرَأ بِالطورِ. وَالْبَاء قد تكون بِمَعْنى من، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عينا يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا} [الْإِنْسَان: 6] أَي مِنْهَا.
وَقَوله: {أم خلقُوا من غير شَيْء} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى لَيْسُوا بأشد من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَقد خلقت من غير شَيْء وهم

(4/44)


خلقُوا من آدم. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: أم خلقُوا لغير شَيْء؛ أَي: أخلقوا عَبَثا، ذكرهمَا الزّجاج. وَالثَّالِث: أم خلقُوا فوجدوا بِلَا خَالق، وَذَلِكَ مَا لَا يجوز، لِأَن تعلق الْخلق بالخالق من ضَرُورَة الِاسْم: {أم هم الْخَالِقُونَ} لأَنْفُسِهِمْ، فَإِذا ثَبت أَن لَهُم خَالِقًا فليؤمنوا بِهِ، ذكره الْخطابِيّ، قَالَ: وَقَول: {بل لَا يوقنون} هِيَ الْعلَّة الَّتِي منعتهم عَن الْإِيمَان، وَلِهَذَا انزعج جُبَير بن مطعم لحسن مَعْرفَته بِمَا تحوي الْآيَة.
2246 - / 2852 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَرَفَة وَاقِفًا مَعَ النَّاس بِعَرَفَة، فَقلت: هَذَا وَالله من الحمس، فَمَا شَأْنه هَاهُنَا؟
كَانَت قُرَيْش وَبَنُو كنَانَة يسمون الحمس، لأَنهم تحمسوا فِي دينهم: أَي تشددوا، والحماسة: الشدَّة فِي كل شَيْء، وَكَانُوا يقفون عَشِيَّة عَرَفَة بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ: نَحن قطن الْبَيْت، وَكَانَ بَقِيَّة الْعَرَب وَالنَّاس يقفون بِعَرَفَات، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} [الْبَقَرَة: 199] ، وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي الْإِسْلَام وَذَاكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهَذَا الرجل إِنَّمَا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَاهِلِيَّة، فَكَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالف قومه فِي هَذَا مَعَ مَا خَالف.
فَأَما حجَّة الْوَدَاع فَإِنَّهُ لم يكن ثمَّ مُشْرك. وَسَيَأْتِي هَذَا مُبينًا فِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين من مُسْند عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.

(4/45)


2247 - / 2853 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لامْرَأَة: " إِن لم تجديني فَأتي أَبَا بكر ".
وَهَذَا من النُّصُوص الْخفية على خلَافَة أبي بكر.

2248 - / 2854 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي أُسَارَى بدر: " لَو كَانَ الْمطعم بن عدي حَيا ثمَّ كلمني فِي هَؤُلَاءِ النتنى لتركتهم لَهُ ".
النتنى جمع نَتن، كالزمنى جمع زمن. وَإِنَّمَا خص الْمطعم بِهَذَا لِأَنَّهُ لما مَاتَ عَمه أَبُو طَالب وَمَاتَتْ خَدِيجَة خرج إِلَى الطَّائِف وَمَعَهُ زيد بن حَارِثَة، فَأَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة فِي جوَار الْمطعم بن عدي، فَأحب مكافأته لَو أمكن.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على جَوَاز إِطْلَاق الْأَسير والمن عَلَيْهِ من غير فدَاء. وَعِنْدنَا أَن الإِمَام مُخَيّر فِي الْأُسَارَى الْبَالِغين، إِن شَاءَ من عَلَيْهِم من غير فدَاء، وَإِن شَاءَ فاداهم، وَإِن شَاءَ قَتلهمْ، أَي ذَلِك كَانَ أصلح وأعز لِلْإِسْلَامِ فعل، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: إِن شَاءَ قَتلهمْ، وَإِن شَاءَ فاداهم، وَإِن شَاءَ استرقهم، وَلَا يمن عَلَيْهِم بِغَيْر عوض؛ فَإِن ذَلِك تَقْوِيَة للْكفَّار، وَزعم بَعضهم أَن الْمَنّ كَانَ خَاصّا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا.

(4/46)


2249 - / 2855 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: اضطروه إِلَى سَمُرَة فخطفت رِدَاؤُهُ.
السمرَة: شَجَرَة الطلح. والعضاة: شجر من شجر الشوك كالطلح والعوسج.
والاختطاف: الاستلاب بِسُرْعَة.
2250 - / 2856 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: مشيت أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: يَا رَسُول الله! أَعْطَيْت بني عبد الْمطلب وَتَرَكتنَا، وَنحن وهم مِنْك بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنو الْمطلب وَبَنُو هَاشم شَيْء وَاحِد ".
إِنَّمَا مَشى جُبَير وَعُثْمَان لِأَن جبيرا من بني نَوْفَل، وَعُثْمَان من بني عبد شمس، وهما أخوا هَاشم وَالْمطلب، إِلَّا أَن هاشما وَالْمطلب وَعبد شمس أخوة لأَب وَأم، وَنَوْفَل أخوهم لأبيهم لَا لأمهم. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أعْطى بني هَاشم وَبني الْمطلب من خمس خَيْبَر وَلم يُعْط بني عبد شمس، فَمضى عُثْمَان يطْلب لكَونه من بني عبد شمس، وَمضى جُبَير يطْلب لِأَنَّهُ من بني نَوْفَل، وَقَالا: نَحن وهم مِنْك بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، يعنون أَن الْكل أخوة، فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنو الْمطلب وَبَنُو هَاشم شَيْء وَاحِد " أَي حكمهمَا وَاحِد. وَكَانَ يحيى ابْن معِين يرويهِ بِالسِّين الْمُهْملَة فَيَقُول: سي وَاحِد: أَي مثل وَاحِد، يُقَال: هَذَا سي هَذَا، وهما سيان. قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ أَجود.

(4/47)


أما قَوْله: " لم يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام " سَمِعت شَيخنَا أَبَا الْفضل ابْن نَاصِر يَقُول: بَنو الْمطلب دخلُوا مَعَ بني هَاشم إِلَى الشّعب لما حصرهم الْمُشْركُونَ دون غَيرهم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِثْبَات سهم ذِي الْقُرْبَى؛ لِأَن عُثْمَان وجبيرا إِنَّمَا طَالبا لقرابتهما.
وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم:
2251 - / 2857 - " لَا حلف فِي الْإِسْلَام، وَأَيّمَا حلف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لم يزده الْإِسْلَام إِلَّا شدَّة ".
أصل الْحلف: المعاقدة والمعاهدة على المعاضدة، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّة على الْقِتَال والغارات فَذَلِك الَّذِي أبْطلهُ الشَّرْع بقوله: " لَا حلف فِي الْإِسْلَام "، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّة على نصر الْمَظْلُوم وصلَة الْأَرْحَام، فَهُوَ الَّذِي لم يزده الْإِسْلَام إِلَّا شدَّة.

(4/48)


(97) كشف الْمُشكل من مُسْند الْمسور بن مخرمَة

وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة أَحَادِيث.
2252 - / 2858 - فَفِي الحَدِيث الأول: أَن عَليّ بن أبي طَالب خطب بنت أبي جهل.
أما بنت أبي جهل هَذِه فاسمها جوَيْرِية، أسلمت وبايعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخَطَبَهَا عَليّ، فجَاء عمومتها يستأذنون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك فَقَالَ هَذَا الْكَلَام.
وَقَوله: " أَخَاف أَن تفتن " أصل الْفِتْنَة الاختبار والابتلاء، ثمَّ قد يُطلق على الْمخوف من الِابْتِلَاء، فَيُقَال: فتن فلَان فِي دينه: بِمَعْنى وَقع فِيمَا لَا يجوز. وَالضَّمِير الَّذِي ذكره مَا بنى عَلَيْهِ هُوَ أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع زوجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْنَته زَيْنَب.
وَقَوله: " لست أحرم حَلَالا وَلَا أحل حَرَامًا " الْمَعْنى: إِن هَذَا وَإِن جَازَ

(4/49)


فَمَا يَقع، وَكَأن قَوْله: وَالله لَا تَجْتَمِع بنت نَبِي الله وَبنت عَدو الله " من جنس قَول أنس بن النَّضر: وَالله لَا يكسر سنّ الرّبيع، وَقَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَو أقسم على الله لَأَبَره ". وَيحْتَمل أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شَرط على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام حِين زوجه فَاطِمَة أَلا يتَزَوَّج عَلَيْهَا، وَالشّرط فِي مثل هَذَا صَحِيح، وَلِهَذَا قَالَ: " لَا آذن " وَهَذَا الْوَجْه أولى من الأول، وَيدل عَلَيْهِ أَنه أثنى على أبي الْعَاصِ وشكره. وَجَاء فِي بعض الحَدِيث أَنه قَالَ: " حَدثنِي فوفى لي ".
والبضعة: الْقطعَة من اللَّحْم.
وَقَوله: " يريبني مَا رابها " يُقَال: رَابَنِي الرجل: إِذا استبنت مِنْهُ الرِّيبَة، وأرابنى: إِذا ظَنَنْت بِهِ ذَلِك وَلم تستبنه. قَالَ الشَّاعِر:
(أَخُوك الَّذِي إِن ربته قَالَ إِنَّمَا ... أربت، وَإِن عاتبته لَان جَانِبه)

فَمَعْنَى أربت: ظَنَنْت وَلم تحقق، وَقَالَ الْفراء وَأَبُو عُبَيْدَة: راب وأراب بِمَعْنى.
2253 - / 2859 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبية.
القباء فَارسي مُعرب، وَقيل: هُوَ عَرَبِيّ واشتقاقه من القبو وَهُوَ الضَّم

(4/50)


وَالْجمع، كَذَلِك قرأته على شَيخنَا أبي مَنْصُور.

2254 - / 2860 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزمن الْحُدَيْبِيَة.
الْحُدَيْبِيَة مُخَفّفَة، وَرُبمَا شددها من لَا يعرف، وَسميت بذلك لأجل شَجَرَة جدباء كَانَت هُنَاكَ.
والثنية: طَرِيق مُرْتَفع بَين جبلين.
وَقَوله: حل حل: زجر للناقة، يُقَال: حلحلت بِالْإِبِلِ: إِذا زجرتها لتنبعث.
فألحت: أَي لَزِمت مَكَانهَا. يُقَال: تلحلح الرجل: إِذا لزم مَكَانَهُ، وتحلحل عَنهُ: إِذا فَارقه.
وَقَوْلهمْ: خلأت. هُوَ مثل قَوْلهم: حرن الْفرس. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لَا يكون الخلأ إِلَّا للنوق خَاصَّة.
وَقَوله: " مَا ذَاك لَهَا بِخلق " أَي مَا هُوَ من عَادَتهَا.
وَقَوله: " حَبسهَا حَابِس الْفِيل " يَعْنِي أَن الله تَعَالَى حَبسهَا كَمَا حبس الْفِيل حِين جَاءَ بِهِ أَبْرَهَة الحبشي ليهْدم الْكَعْبَة. وَوجه الْحِكْمَة فِي جَرَيَان

(4/51)


الْقدر بذلك أَنه لَو دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة عامئذ لم يُؤمن وُقُوع قتال كثير، وَقد سبق فِي الْعلم الْقَدِيم إِسْلَام جمَاعَة مِنْهُم وَوُجُود ذُرِّيَّة مُسلمين، فحبس عَن ذَلِك كَمَا حبس الْفِيل؛ إِذْ لَو دخل أَصْحَاب الْفِيل مَكَّة قتلوا خلقا، وَقد سبق الْعلم بِإِيمَان قوم، فَلم يكن للفيل عَلَيْهِم سَبِيل، فَمنع سَببه.
وَقَوله: " لَا يَسْأَلُونِي خطة يعظمون فِيهَا حرمات الله إِلَّا أَعطيتهم "، الخطة: الْحَال، قَالَ الزُّهْرِيّ: وَلِهَذَا لما قَالُوا: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن وَلَا نكتب رَسُول الله، وافقهم على مَا أَرَادوا.
والثمد: المَاء الْقَلِيل الَّذِي لَا مَادَّة لَهُ.
ويتبرضه النَّاس: أَي يأخذونه قَلِيلا قَلِيلا.
ونزحوه: أخذُوا جَمِيعه.
وتجيش: تَفُور وترتفع. يُقَال: جَاشَتْ الْقدر: إِذا غلت.
وصدروا: رجعُوا بعد ورودهم.
قَوْله: وَكَانُوا عَيْبَة نصح رَسُول الله: أَي مَوضِع سره وثقته، مُسلم الْقَوْم وكافرهم، لحلف كَانَ بَينهم فِي الْجَاهِلِيَّة.
وتهامة سميت بذلك لشدَّة حرهَا.
وَقَوله: تركت كَعْب بن لؤَي. أَي بني كَعْب بن لؤَي، وَهُوَ من قدماء الأجداد، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ ابْن عبد الله بن الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي. وعامر أَخُو كَعْب.
وَقَوله: نزلُوا أعداد مياه الْحُدَيْبِيَة، الْأَعْدَاد جمع عد: وَهُوَ المَاء الْكثير

(4/52)


الجم الَّذِي لَا انْقِطَاع لمادته، كَمَاء الْعين، وَالْمعْنَى نزلُوا على هَذِه الْمِيَاه.
والعوذ المطافيل: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد النِّسَاء وَالصبيان. والعوذ جمع عَائِذ: وَهِي النَّاقة إِذا وضعت وَبعدهَا تضع أَيَّامًا حَتَّى يقوى وَلَدهَا قَلِيلا، فَإِذا مَشى فَهُوَ مرشح، فَإِذا تبعها فَهِيَ متلية؛ لِأَنَّهُ يتلوها.
والمطافيل: الأمات، جمع مطفل: وَهِي النَّاقة مَعهَا طفلها، وَإِنَّمَا اسْتعَار ذَلِك. قَالَ ابْن فَارس: كل أُنْثَى إِذا وضعت فَهِيَ سَبْعَة أَيَّام عَائِذ بَيِّنَة العوذ، وَالْجمع عوذ، كَأَنَّهَا تعوذ بِوَلَدِهَا وتشتغل بِهِ.
وَقَوله: قد نهكتهم الْحَرْب. الْهَاء مكسوره، وَالْمعْنَى: أضرت بهم وأثرت فيهم، يُقَال: نهكته الْحمى: إِذا بلغت مِنْهُ وأثرت فِيهِ.
وَقَوله: " فقد جموا " يَعْنِي استراحوا، والجمام: الرَّاحَة بعد التَّعَب.
وَقَوله: " تنفرد سالفتي " السالفة: صفحة الْعُنُق من لدن مُعَلّق القرط، وهما سالفتان عَن يَمِين وشمال، وَإِنَّمَا عَنى الْهَلَاك؛ لِأَن السالفة لَا تنفرد عَمَّا يَليهَا إِلَّا بِالْقَتْلِ.
وَقَوله: استنفرت أهل عكاظ أَي دعوتهم إِلَى الْقِتَال. فَلَمَّا بلحوا عَليّ أَي أَبَوا. وأصل التبليح: الإعياء وَالْعجز، يُقَال: بلح الرجل: إِذا انْقَطع من الإعياء وَعجز عَن الْحَرَكَة، وَقد يُقَال بلح بِالتَّخْفِيفِ.
قَوْله: قد عرض خطة رشد، الخطة: الْحَال، والرشد: الصَّوَاب.
والاستئصال: الإفراط فِي قطع الْأُصُول، وَنَحْوه الاجتياح.

(4/53)


وَقَوله: أرى أشوابا، الأشواب والأوشاب والأوباش والأشايب: الأخلاط من النَّاس من قبائل شَتَّى.
وَقَوله: خليقا أَن يَفروا: أَي لَا يبعد ذَلِك مِنْهُم.
وَقَوله: امصص بظر اللات، البظر: مَا تبقيه الخافضة عِنْد الْقطع، وَالْمرَاد شتم آلِهَتهم.
وَقَوله: فَكلما كَلمه أَخذ بلحيته، هَذِه كَانَت عَادَة من عادات الْعَرَب تجْرِي مجْرى الملاطفة، وَلم يَدْفَعهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك حلما عَنهُ واستمالة لَهُ.
ونعل السَّيْف: مَا يكون أَسْفَل القراب من حَدِيد أَو فضَّة، وَإِنَّمَا فعل بِهِ الْمُغيرَة هَذَا لِأَن تِلْكَ الْعَادة كَانَت تجرى بَين النظراء.
وَأما قيام الْمُغيرَة على رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ كَانَ كالحراسة لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مقَام حَرْب، فَلَا يجوز أَن يُؤْخَذ من هَذَا جَوَاز الْقيام على رَأس الرئيس على وَجه الْكبر؛ فَإِنَّهُ قد نهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن ذَلِك بقوله: " من أحب أَن يتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قيَاما فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ".
قَوْله: أَي غدر، الْغَيْن مَضْمُومَة وَالدَّال مَفْتُوحَة، وَهُوَ نعت للمبالغ فِي الْغدر.
وَقَوله: أَلَسْت أسعى فِي غدرتك؟ ؛ كَانَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة قد خرج مَعَ نفر من بني مَالك إِلَى الْمُقَوْقس وَمَعَ الْقَوْم هَدَايَا، فقبلها مِنْهُم الْمُقَوْقس

(4/54)


ووصلهم بجوائز، وَقصر بالمغيرة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْقَوْم، فجلسوا فِي بعض الطَّرِيق يشربون، فَلَمَّا سَكِرُوا وناموا قَتلهمْ الْمُغيرَة جَمِيعًا وَأخذ مَا كَانَ مَعَهم، وَقدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: مَا فعل المالكيون الَّذين كَانُوا مَعَك؟ قَالَ: قَتلتهمْ وَجئْت بأسلابهم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليخمسها أَو يرى فِيهَا رَأْيه فَإِنَّمَا هِيَ غنيمَة من الْمُشْركين، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أما إسلامك فنقبله، وَلَا آخذ من أَمْوَالهم شَيْئا وَلَا أخمسه؛ لِأَن هَذَا غدر، والغدر لَا خير فِيهِ ". وَإِنَّمَا امْتنع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخذ تِلْكَ الْأَمْوَال لِأَن الرفقاء يصطحبون على الْأَمَانَة، وَالْأَمَانَة مُؤَدَّاة إِلَى الْمُسلم وَالْكَافِر، وَبلغ الْخَبَر ثقيفا بِالطَّائِف فتداعوا لِلْقِتَالِ، ثمَّ اصْطَلحُوا على أَن يحمل عَنهُ عُرْوَة بن مَسْعُود - وَهُوَ عَم الْمُغيرَة - ثَلَاثَة عشر دِيَة، فَلذَلِك قَالَ: أَي غدر! أَلَسْت أسعى فِي غدرتك؟ .
وَقَوله: جعل يرمق أَصْحَاب رَسُول الله، أَي يلحظهم كالمسارق للنَّظَر.
وتنخم، من النخامة: وَهُوَ مَا يَأْتِي من أقْصَى الْفَم.
وَقَوله: يعظمون الْبدن: أَي يعظمون مَا أهدي إِلَى الْبَيْت احتراما للبيت.
وَقَوله: " رجل فَاجر "؛ أصل الْفُجُور: الْخُرُوج عَن الْحق.
وَقَوله: " قد سهل لكم من أَمركُم " دَلِيل على اسْتِحْبَاب التفاؤل بِالِاسْمِ الْحسن، وَإِنَّمَا يكره التشاؤم وَهُوَ التطير.

(4/55)


وَفِيمَا جرى من موافقتهم فِي كتب مَا أَرَادوا تَعْلِيم لِلْخلقِ حسن المداراة والتلطف، وَلَا يَنْبَغِي أَن تخرج المداراة عَن الشَّرْع؛ فَإِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا وافقهم إِلَّا فِي جَائِز؛ لِأَن قَوْله: " بِاسْمِك اللَّهُمَّ " يتَضَمَّن معنى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَنسبه إِلَى أَبِيه لَا يُخرجهُ عَن النُّبُوَّة.
وَأما قَول سُهَيْل: أما الرَّحْمَن فوَاللَّه مَا أَدْرِي مَا هُوَ. فَإِنَّهُم كَانُوا يعْرفُونَ الرَّحْمَن، إِلَّا أَنه قَلِيل فِي لغتهم، قَالَ ثَعْلَب: هُوَ اسْم عبراني. قَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: يذهب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَن الرَّحْمَن اتّفقت فِيهِ لُغَة الْعَرَب ولغة الْعَجم، وَقد كَانَت الْعَرَب تعرف الرَّحْمَن فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ بَعضهم:
(أَلا ضربت تِلْكَ الفتاة هجينها ... أَلا قضب الرَّحْمَن رَبِّي يَمِينهَا)

وَقَالَ سَلامَة بن جندل:
( ... ... ... ... ... ... ... . . ... وَمَا يَشَأْ الرَّحْمَن يعْقد وَيُطلق)

وَقَوله: هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّد؛ أَي فصل الحكم عَلَيْهِ. قَالَ الزّجاج: الْقَضَاء فِي اللُّغَة على ضروب، مرجعها إِلَى انْقِطَاع الشَّيْء وَتَمَامه.
وَقَوله: أَخذنَا ضغطة، الضغظة: الْقَهْر والتضييق.

(4/56)


وَقد ذكرنَا قصَّة أبي جندل فِي مُسْند سهل بن حنيف.
والرسف: مشي الْمُقَيد.
وَقَوله: فَأَجره لي. هَكَذَا ضَبطه الْحميدِي بالراء. وَالزَّاي أليق.
وَأما غضب عمر ومراجعته، وتسكين أبي بكر فورة عمر، فَذَلِك دَلِيل على أَن أَبَا بكر أعلم النَّاس برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعرفهم ببواطن أُمُوره، وَإِن كَانَ عمر إِنَّمَا سَأَلَ لكشف الشُّبْهَة وتعرف أوجه الْحِكْمَة، لَا على وَجه الِاعْتِرَاض على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وجرأه على ذَلِك حرصه على ظُهُور الدّين وعزه، كَمَا اجترأ يَوْم الصَّلَاة على ابْن أبي.
وَقَوله: لم نعطى الدنية؟ يَعْنِي: الدون.
وَقَول أبي بكر: استمسك بغرزه. الغرز للرحل بِمَنْزِلَة الركاب من السرج.
قَول عمر: فَعمِلت لذَلِك أعمالا، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَنه اسْتغْفر مِمَّا فعل وَاعْتذر.
وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه: " قومُوا فَانْحَرُوا واحلقوا " دَلِيل على أَن من أحرم بِحَجّ أَو عمْرَة ثمَّ أحْصر فَإِنَّهُ ينْحَر الْهَدْي مَكَانَهُ وَيحل وَإِن لم يكن هَدْيه قد بلغ الْحرم.
وَأما توقف الصَّحَابَة وَهُوَ يَأْمُرهُم فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا أَن

(4/57)


يَكُونُوا ظنُّوا أَنه يَأْمُرهُم بِالرُّخْصَةِ وَيلْزم هُوَ الْعَزِيمَة من بَقَائِهِ على الْإِحْرَام، فأحبوا مُوَافَقَته، أَو أَن يكون لرجاء أَن يَأْتِي الْوَحْي بِأَمْر يتمم لَهُم نسكهم، أَو أَن يَكُونُوا بهتُوا لذَلِك مفكرين فِيمَا قد لحقهم من الذل مَعَ بذل النُّفُوس لإعزاز الدّين.
وَأما مُشَاورَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم سَلمَة وَقبُول قَوْلهَا فَفِيهِ دَلِيل على جَوَاز الْعَمَل بمشاورة النِّسَاء، ووهن لما يُقَال: شاوروهن وخالفوهن.
وَقَوله: {إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات} [الممتحنة: 10] ، لما وَقع الصُّلْح وَشرط فِيهِ رد من جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَاء أَبُو جندل فَرده على مَا شرحنا فِي مُسْند سهل بن حنيف، فَجَاءَت أم كُلْثُوم بنت عقبَة ابْن أبي معيط، فَخرج فِي أَثَرهَا أَخَوَاهَا الْوَلِيد وَعمارَة ابْنا عقبَة فَقَالَا: يَا مُحَمَّد، ف لنا بشرطنا. فَقَالَت أم كُلْثُوم: يَا رَسُول الله {أَنا امْرَأَة، وَحَال النِّسَاء إِلَى الضعْف مَا قد علمت، فتردني إِلَى الْكفَّار يفتنونني وَلَا صَبر لي} فنقض الله الْعَهْد فِي النِّسَاء وَأنزل فِيهِنَّ هَذِه الْآيَة، وَحكم بِحكم رضوه كلهم.
والامتحان أَن يَقُول: وَالله مَا أخرجكن إِلَّا حب الله وَرَسُوله، وَمَا خرجتن لزوج وَلَا مَال، فَإِذا قُلْنَ ذَلِك تركن فَلم يرددن.
وَالْمَشْهُور أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أم كُلْثُوم. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا فِي سبيعة بنت الْحَارِث، وَقيل: فِي أُمَيْمَة بنت بشر. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل دخل رد النِّسَاء فِي عقد الْهُدْنَة لفظا أَو عُمُوما؟

(4/58)


فَقَالَت طَائِفَة: كَانَ شَرط ردهن فِي عقد الْهُدْنَة لفظا صَرِيحًا، فنسخ الله تَعَالَى ردهن من العقد، وَمنع مِنْهُ وأبقاه فِي الرِّجَال على مَا كَانَ. وَهَذَا يدل على أَن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجْتَهد بِرَأْيهِ فِي الْأَحْكَام، وَلَكِن الله عز وَجل لَا يقره على خطأ. وَقَالَت طَائِفَة: لم يشرط ردهن فِي العقد لفظا صَرِيحًا وَإِنَّمَا أطلق العقد، فَكَانَ ظَاهر الْعُمُوم اشتماله عَلَيْهِنَّ مَعَ الرِّجَال؛ لأَنهم قَالُوا: لَا يَأْتِيك منا أحد، فَبين الله عز وَجل خروجهن من عُمُوم اللَّفْظ، وَفرق بَينهُنَّ وَبَين الرِّجَال لأمرين: أَحدهمَا: أَنَّهُنَّ ذَوَات فروج فحرمن عَلَيْهِم. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ أرق قلوبا وأسرع تقلبا. فَأَما المقيمة على شركها فمردودة عَلَيْهِم.
وَقَوله: {الله أعلم بإيمانهن} أَي إِن هَذَا الامتحان لكم وَالله أعلم بِهن. {فَإِن علمتموهن مؤمنات} وَذَلِكَ بإقرارهن.
وَقَوله: {وَآتُوهُمْ} يَعْنِي أَزوَاجهم الْكفَّار {مَا أَنْفقُوا} يَعْنِي الْمهْر. وَهَذَا إِذا تزَوجهَا مُسلم، وَإِن لم يَتَزَوَّجهَا أحد فَلَيْسَ لزَوجهَا شَيْء، وَهَذَا مِمَّا نسخ.
وَقَوله: {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} يَعْنِي المهور.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الحربية إِذا هَاجَرت بعد دُخُول زَوجهَا بهَا: فمذهب الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل أَن الْفرْقَة تقف على انْقِضَاء عدتهَا، فَإِن أسلم الزَّوْج قبل انْقِضَاء عدتهَا فَهِيَ امْرَأَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تقع الْفرْقَة باخْتلَاف الدَّاريْنِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} ؛ عصمتهن: عقد نِكَاحهنَّ، وَالْمرَاد نهي الْمُؤمنِينَ عَن الْمقَام على نِكَاح الكوافر؛ لِأَن

(4/59)


عصمتهن قد انْقَطَعت.
قَالَ الزّجاج: وأصل الْعِصْمَة الْحَبل، وَالْمعْنَى قد انبت عقد النِّكَاح.
وَقَوله تَعَالَى: {واسألوا مَا أنفقتم} أَي إِن لحقت امْرَأَة مِنْكُم بِأَهْل الْعَهْد من الْكفَّار مرتدة فسلوهم مهرهَا إِذا لم يدفعوها إِلَيْكُم. {وليسألوا} يَعْنِي الْمُشْركين الَّذين لحقت أَزوَاجهم بكم مؤمنات، ليطلبوا مهورهن مِمَّن يتزوجهن مِنْكُم. وَالْمعْنَى: عَلَيْكُم أَن تغرموا الْمهْر كَمَا يغرمون لكم.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم} أَي أصبتموهم بعقوبة حَتَّى غَنِمْتُم. وَقَالَ الزّجاج: كَانَت العقبى لكم بِأَن غلبتم {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم} أَي أعْطوا الْأزْوَاج من رَأس الْغَنِيمَة مَا أَنْفقُوا، وَهُوَ الْمهْر.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْأَحْكَام من أَدَاء الْمهْر، وَأَخذه من الْكفَّار، وتعويض الزَّوْج من الْغَنِيمَة، كل ذَلِك مَنْسُوخ بِآيَة السَّيْف، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي زمَان الْهُدْنَة.
وَأما أَبُو بَصِير فاسمه عتبَة بن أسيد بن جَارِيَة، أسلم بِمَكَّة قَدِيما، فحبسه الْمُشْركُونَ عَن الْهِجْرَة، وَذَلِكَ قبل عَام الْحُدَيْبِيَة، فَلَمَّا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحُدَيْبِيَة وقاضى قُريْشًا على مَا قاضاهم عَلَيْهِ وَقدم الْمَدِينَة أفلت أَبُو بَصِير من قومه، فَسَار على قَدَمَيْهِ سبعا حَتَّى أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،

(4/60)


فَكتب الْأَخْنَس بن شريق وأزهر بن عبد عَوْف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتابا، فِيهِ أَن يردهُ إِلَيْهِم على مَا اصْطَلحُوا عَلَيْهِ، وبعثاه مَعَ خُنَيْس بن جَابر، فَخرج خُنَيْس وَمَعَهُ مَوْلَاهُ كوثر، فَدفعهُ إِلَيْهِمَا فَخَرَجَا بِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِذِي الحليفة عدا أَبُو بَصِير على خُنَيْس فَقتله، وهرب كوثر حَتَّى قدم الْمَدِينَة، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرجع أَبُو بَصِير فَقَالَ: وفت ذِمَّتك يَا رَسُول الله، دفعتني إِلَيْهِم فَخَشِيت أَن يفتنوني عَن ديني فامتنعت، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكوثر: " خُذْهُ فَاذْهَبْ بِهِ " فَقَالَ: أَخَاف أَن يقتلني، فَتَركه وَرجع إِلَى مَكَّة، فَأخْبر قُريْشًا، وَخرج أَبُو بَصِير إِلَى الْعيص فَنزل نَاحيَة على طَرِيق عير قُرَيْش إِلَى الشَّام، فَجعل من بِمَكَّة من المحبوسين يَتَسَلَّلُونَ إِلَى أبي بَصِير، فَاجْتمع عِنْده مِنْهُم قريب من سبعين، مِنْهُم أَبُو جندل والوليد ابْن الْوَلِيد، فَجعلُوا لَا يظفرون بِأحد من قُرَيْش إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا بعير لَهُم إِلَّا اقتطعوها، وكتبت قُرَيْش إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسألونه بأرحامهم إِلَّا أَدخل أَبَا بَصِير وَأَصْحَابه إِلَيْهِ فَلَا حَاجَة لنا بهم، فَكتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أبي بَصِير أَن يقدم عَلَيْهِ مَعَ أَصْحَابه، فَجَاءَهُ الْكتاب وَهُوَ يَمُوت، فَجعل يقرأه ويقبله ويضعه على عَيْنَيْهِ، فَمَاتَ وَهُوَ فِي يَده، فَغسله أَصْحَابه وصلوا عَلَيْهِ ودفنوه هُنَاكَ، ثمَّ قدمُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبروه، فترحم عَلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ حسن أَن يرد مُسلما إِلَى الْكفَّار؟ فَالْجَوَاب: أَن أَبَا بَصِير هَذَا كَانَت لَهُ عشيرة وموال يَذبُّونَ عَنهُ، ثمَّ غَايَة مَا يحملونه عَلَيْهِ التَّكَلُّم بالْكفْر، وَذَلِكَ جَائِز على جِهَة التقية على مَا بَينا فِي قصَّة أبي جندل فِي مُسْند سهل بن حنيف.

(4/61)


وَقَوله: " ويل أمه، مسعر حَرْب "؛ ويل أمه كلمة تعجب، يصفه بالإقدام، والمسعر: الموقد، فَالْمَعْنى أَنه موقد حَرْب. يُقَال: سعرت النَّار وأسعرتها فَهِيَ مسعرة ومسعورة. والمسعر: الْخشب الَّذِي تسعر بِهِ النَّار: أَي توقد.
وَسيف الْبَحْر: ساحله.
والعصابة: الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ لَهَا وَاحِد من ألفاظها. وَأما الْعصبَة فنحو الْعشْرَة، وَقيل: هِيَ الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين، وَجَمعهَا عصب.
وَقَوله: طلق عمر امْرَأتَيْنِ، كَانَ عمر قد تزوج فِي الشّرك قريبَة بنت أبي أُميَّة، وَأم كُلْثُوم بنت جَرْوَل، وَكَانَت قد ولدت لعمر زيدا وَهُوَ الْأَصْغَر، وَعبيد الله.
وَقَوله: وَهِي عاتق، العاتق من الْجَوَارِي الَّتِي تحدر حِين تدْرك.
والأحابيش: الْجَمَاعَات المجتمعون من قبائل شَتَّى، والتحبش: التجمع.

2255 - / 2861 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " حَتَّى يرفع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمركُم ".
العرفاء جمع عريف، والعريف: الَّذِي يتعرف أَحْوَال الْقَوْم وأمورهم كالنقيب.
2256 - / 2862 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِن سبيعة نفست ".

(4/62)


أَي ولدت. يُقَال: نفست الْمَرْأَة ونفست بِضَم النُّون وَفتحهَا: إِذا ولدت، فإمَّا إِذا حَاضَت فبفتح النُّون.

(4/63)


(98) كشف الْمُشكل من مُسْند حَكِيم بن حزَام

أسلم يَوْم الْفَتْح، وَكَانَ يبكي على تَأَخّر إِسْلَامه وَيَقُول: مَا أهلكنا إِلَّا الِاقْتِدَاء بِآبَائِنَا وكبرائنا.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة.
2257 - / 2865 - وَفِي الحَدِيث الأول: " إِن هَذَا المَال خضر حُلْو ".
كل غض ناعم خضر، وَأَصله من خضرَة الشَّجَرَة
وَقَوله: " فَمن أَخذه بسخاوة نفس " أَي بِلَا شَره وَلَا إلحاح، وَقل من يَأْخُذ الشَّيْء بشره إِلَّا وَيَأْخُذهُ بِغَيْر حَقه وَمن غير وَجهه.
وَقَوله: " بإشراف نفس " أَي بتطلع إِلَيْهِ وحرص عَلَيْهِ وطمع فِيهِ.
وَقَوله: " الْيَد الْعليا " قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: " لَا أرزأ أحدا بعْدك " أَي لَا أُصِيب مِنْهُ شَيْئا. يُقَال: فلَان كريم مرزأ: أَي يُصِيب النَّاس من رفده وعطائه. وأصل الرزء النُّقْصَان، وَسميت الْمُصِيبَة رزءا لِأَنَّهَا نقص من المَال والأحباب.

(4/64)


وَقد كَانَ حَكِيم بن حزَام يعد من الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، ثمَّ اسْتَقر الْإِيمَان فِي قلبه فَصَارَ أثبت من الْجبَال، فَكَانَ لَا يَأْخُذ حَقه من بَيت المَال، لَا من أبي بكر وَلَا من عمر.
2258 - / 2866 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت أمورا كنت أتحنث بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة من صَلَاة وعتاقة وَصدقَة، هَل لي فِيهَا أجر؟ فَقَالَ: " أسلمت على مَا سلف لَك من خير ".
أتحنث بِمَعْنى أَتَعبد وأقصد الْبر. وَكَانَ حَكِيم بن حزَام قد أعتق مائَة رَقَبَة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَحمل على مائَة بعير، ونرى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورى عَن جَوَابه، فَإِنَّهُ سَأَلَهُ: هَل لي فِيهَا أجر؟ يُرِيد ثَوَاب الْآخِرَة، وَمَعْلُوم أَنه لَا ثَوَاب فِي الْآخِرَة لفعل كَافِر، فَقَالَ لَهُ: " أسلمت على مَا سلف لَك من خير " فالعتق فعل خير، وَقد قَالَ شُعَيْب لِقَوْمِهِ " {إِنِّي أَرَاكُم بِخَير} [هود: 84] يُشِير إِلَى رخص الأسعار، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّك قد فعلت خيرا، وَالْخَيْر يمدح فَاعله، وَقد يجازى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَقد سبق فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أما الْكَافِر فيطعم بحسناته فِي الدُّنْيَا، فَإِذا لَقِي الله عز وَجل لم يكن لَهُ حَسَنَة يعْطى بهَا خيرا ". وَقد يدْفع عَن الْكَافِر بعض الْعَذَاب، كَمَا دفع عَن أبي طَالب فَكَانَ أخف أهل النَّار عذَابا، وَقد أجَاب أَبُو سُلَيْمَان البستي بِجَوَاب آخر فَقَالَ: قد رُوِيَ أَن حَسَنَات الْكَافِر إِذا ختم لَهُ بِالْإِسْلَامِ

(4/65)


مَقْبُولَة ومحتسبة لَهُ، فَإِن مَاتَ على كفره كَانَ هدرا، وَإِن صَحَّ هَذَا كَانَ الْمَعْنى: أسلمت على قبُول مَا لَك من خير.
2259 - / 2867 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2260 - / 2868 - وَالرَّابِع: بعضه فِي مُسْند ابْن عمر، وَبَعضه فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.

(4/66)