كشف المشكل من
حديث الصحيحين (118) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي
أُمَامَة الْبَاهِلِيّ
واسْمه صدي بن عجلَان، وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِائَتَا حَدِيث وَخَمْسُونَ
حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة.
2367 - / 3000 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول من
أَفْرَاد البُخَارِيّ: " الْحَمد لله كثيرا غير مكفي وَلَا
مُودع وَلَا مُسْتَغْنى عَنهُ، رَبنَا، وَلَا مكفور ".
قَوْله: " غير مكفي " إِشَارَة إِلَى الطَّعَام.
وَالْمعْنَى: رفع هَذَا الطَّعَام غير مكفي: أَي غير مقلوب
عَنَّا، من قَوْلك: كفأت الْإِنَاء: إِذا قلبته.
وَالْمعْنَى: غير مُنْقَطع عَنَّا.
وَقَوله: " وَلَا مُودع " يَعْنِي الطَّعَام الَّذِي رفع.
" وَلَا مُسْتَغْنى عَنهُ " عَائِذ إِلَيْهِ أَيْضا. ثمَّ
قَالَ: " رَبنَا " بِفَتْح الْبَاء، وَالْمعْنَى: يَا
رَبنَا، فَحذف حرف النداء. وَبَعض الْمُحدثين يَقُولُونَ:
" رَبنَا " بِالرَّفْع، وَالْمعْنَى على مَا شرحناه.
وَكَذَلِكَ قَوْله: " غير مكفور " يرجع إِلَى الطَّعَام.
وَالْمعْنَى: لَا نكفر
(4/147)
نِعْمَتك بِهَذَا الطَّعَام. وَقَالَ
شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: صَوَابه: غير مكافأ،
فَيَعُود إِلَى الله تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا تكافأ
نعْمَته.
2368 - / 3001 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن أبي
أُمَامَة أَنه رأى سكَّة وشيئا من آلَة الْحَرْث فَقَالَ:
سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا
يدْخل هَذَا بَيت قوم إِلَّا دخله الذل ".
السِّكَّة: الحديدة الَّتِي يحرث بهَا.
وَوجه الذل فِي ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا يلْزم
الزراع من حُقُوق الأَرْض فيطالبهم السُّلْطَان بذلك.
وَالثَّانِي: أَن الْمُسلمين إِذا أَقبلُوا على
الزِّرَاعَة شغلوا عَن الْغَزْو، وَفِي ترك جِهَاد الْعَدو
نوع ذل.
2369 - / 3002 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِنَّمَا
كَانَت حليتهم العلابي والآنك ".
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: العلابي: العصب، الْوَاحِدَة
علْبَاء، وَبِه سمي الرجل، وَكَانَت الْعَرَب تشد بالعلابي
وَهِي رطبَة أجفان السيوف فتجف عَلَيْهَا، وتشد الرمْح
بهَا إِذا خيف أَن ينكسر. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان:
العلابي جمع العلباء: وَهُوَ عصب الْعُنُق، وهما علباوان،
والعلباء أمتن مَا يكون فِي الْبَعِير من الأعصاب.
(4/148)
فَأَما الآنك فَقَالَ أَبُو الْحسن
الْهنائِي اللّغَوِيّ: الآنك: الأسرب، وَهُوَ الرصاص
القلعي، وَلَيْسَ فِي الْكَلَام اسْم على " أفعل " غَيره.
2370 - / 3003 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" وَلَا يلام على كفاف ".
الكفاف: قدر الطَّاقَة الَّتِي لَا فضل فِيهَا، فَهُوَ مَا
كف وَكفى. وَالْفضل: مَا فضل عَن الكفاف وَصَارَ ذخيرة بعد
الْقُوت.
2371 - / 3005 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: جَاءَ رجل
فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت حدا، فأقمه عَليّ -
ثَلَاث مَرَّات -. فَقَالَ: " أَلَيْسَ تَوَضَّأت وَشهِدت
الصَّلَاة مَعنا؟ " قَالَ: نعم، قَالَ: " فَإِن الله قد
غفر لَك حدك " أَو قَالَ: " ذَنْبك ".
هَذَا الرجل مَا ذكر شَيْئا يُوجب عَلَيْهِ شَيْئا،
فَلذَلِك سكت عَنهُ وَجعل ندمه وَصلَاته مكفرة لذنبه، وَقد
سبق هَذَا.
2372 - / 3006 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " اقْرَءُوا
الزهراوين، فَإِنَّهُمَا يأتيان كَأَنَّهُمَا غمامتان أَو
غيايتان، أَو كَأَنَّهُمَا فرقان من طير صواف ".
(4/149)
وَقَالَ فِي " الْبَقَرَة ": " لَا
تستطيعها البطلة ".
الزهراوان: المنيرتان. يُقَال لكل مُنِير زَاهِر. والزهرة:
الْبيَاض النير.
وَقَوله: " كَأَنَّهُمَا غمامتان " الغمامة والغمام:
الْغَيْم الْأَبْيَض، وَسمي غماما لِأَنَّهُ يغم
السَّمَاء: أَي يغطيها، يُقَال: غامت السَّمَاء وأغامت
وتغيمت وغيمت وغمت وأغمت وغيمت.
وَقَوله: " أَو غيايتان " قَالَ أَبُو عبيد: الغياية: كل
شَيْء أظل الْإِنْسَان فَوق رَأسه مثل السحابة والغبرة.
وَيُقَال: غايا الْقَوْم فَوق رَأس فلَان بِالسَّيْفِ،
كَأَنَّهُمْ أظلوه، قَالَ لبيد:
(فتدليت عَلَيْهِ قَافِلًا ... وعَلى الأَرْض غيايات
الطِّفْل)
وَقَوله: " كَأَنَّهُمَا فرقان " الْفرق: الْقطعَة من
الشَّيْء، قَالَ عز وَجل: {فَكَانَ كل فرق كالطود
الْعَظِيم} [الشُّعَرَاء: 63] ، وَيُقَال للقطيع من
الْغنم: فرق. وَمعنى قَوْله: " فرقان " قطعتان.
وَقَوله: " صواف " أَي مصطفة متضامة لتظلل قَارِئهَا.
البطلة: السَّحَرَة.
(4/150)
(119) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن
بسر السكونِي
أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان. انْفِرَاد
البُخَارِيّ بِحَدِيث وَاحِد.
2373 - / 3007 - وَفِيه: كَانَ فِي عنفقته شَعرَات بيض.
العنفقة: مَا تَحت الشّفة السُّفْلى من شعر اللِّحْيَة.
2374 - / 3008 - وَانْفَرَدَ مُسلم بِحَدِيث وَهُوَ: نزل
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي فَقَرَّبْنَا
إِلَيْهِ طَعَاما ورطبة.
كَذَا فِي كتاب مُسلم فِيمَا وَقع إِلَيْنَا، وَحَكَاهُ
أَبُو مَسْعُود صَاحب " التعليقة " بِالْوَاو فَقَالَ:
ووطبة. وَلَا شكّ أَنه قد وجده فِي نُسْخَة أُخْرَى وَقد
رَوَاهُ البرقاني فِي كِتَابه بِالْوَاو كَمَا حَكَاهُ
أَبُو مَسْعُود، وَذكر عَن النَّضر ابْن شُمَيْل فِي
تَفْسِيره أَن الوطبة الحيس. قَالَ: وَذَلِكَ أَنه يجمع
بَين التَّمْر البرني والأقط المدقوق وَالسمن الْجيد ثمَّ
يسْتَعْمل. وَالنضْر بن شُمَيْل هُوَ الَّذِي روى الحَدِيث
عَن شُعْبَة على الصِّحَّة ثمَّ فسره، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيح، وَمن رَوَاهُ بالراء من أَصْحَاب الحَدِيث
فَإِنَّهُ لم يعرف الوطبة وَعرف
(4/151)
الرّطبَة، وَقَلِيل من الْمُحدثين يعرف
الْعَرَبيَّة.
(4/152)
(120) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي مَالك
أَو أبي عَامر الْأَشْعَرِيّ
كَذَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن غنم فَشك أَي الرجلَيْن
حَدثهُ، وَهُوَ حَدِيث وَاحِد أخرجه البُخَارِيّ
تَعْلِيقا. وَأما أَبُو مَالك فَاخْتَلَفُوا فِي اسْمه
وَاسم أَبِيه على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا عَمْرو.
وَالثَّانِي: عبيد. وَالثَّالِث: كَعْب بن عَاصِم.
وَالرَّابِع: الْحَارِث بن مَالك. وَجُمْلَة مَا روى
سَبْعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، وَمَا أخرج عَنهُ سوى مُسلم،
فَإِنَّهُ أخرج لَهُ حديثين من غير شكّ، وَسَيَأْتِي بعد
هَذَا، وَأخرج هَذَا الحَدِيث البُخَارِيّ على الشَّك.
وَأما أَبُو عَامر فاسمه عبيد بن هَانِئ، وَجُمْلَة مَا
روى حديثان، وَلم يخرج لَهُ سوى هَذَا الحَدِيث
الْمَشْكُوك فِيهِ.
2375 - / 3009 - وَفِي الحَدِيث الْمَشْكُوك فِيهِ: "
يسْتَحلُّونَ الْخَزّ وَالْحَرِير وَالْمَعَازِف، ولينزلن
أَقوام إِلَى جنب علم تروح عَلَيْهِم سارحة لَهُم فيبيتهم
الله، وَيَضَع الْعلم ".
الَّذِي فِي هَذَا الحَدِيث الْخَزّ بِالْخَاءِ وَالزَّاي،
وَهُوَ مَعْرُوف. وَقد جَاءَ
(4/153)
فِي حَدِيث يرويهِ أَبُو ثَعْلَبَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يسْتَحل الْحر
وَالْحَرِير " يُرَاد بِهِ استحلال الْحَرَام من الْفروج،
فَهَذَا بِالْحَاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ
مخفف، فَذَكرنَا هَذَا لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنَّهُمَا
شَيْء وَاحِد.
وَأما المعازف فَهِيَ الملاهي المصوتة، مَأْخُوذَة من عزفت
الْجِنّ: إِذا صوتت، وَهِي فِي الْعرف اسْم لنَوْع
مَخْصُوص يلْعَب بِهِ. والعزف: اللّعب بالمعازف.
وَالْعلم: الْجَبَل، وَجمعه أَعْلَام، وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى: {وَله الْجوَار الْمُنْشَآت فِي الْبَحْر
كالأعلام} [الرَّحْمَن: 24] ، وأنشدوا:
(إِذا قطعن علما بدا علم ... )
والسارحة: الْمَاشِيَة الَّتِي تسرح بِالْغَدَاةِ إِلَى
مراعيها. وَمعنى تروح عَلَيْهِم: أَي بالْعَشي.
قَوْله: " فيبيتهم الله " أَي يُهْلِكهُمْ بِاللَّيْلِ،
والبيات والتبييت: إتْيَان الْعَدو لَيْلًا، وَبَيت الرجل
الْأَمر: إِذا دبره لَيْلًا، قَالَ الشَّاعِر:
(أَتَوْنِي فَلم أَرض مَا بيتوا ... وَكَانُوا أَتَوْنِي
بِشَيْء نكر)
والبيوت: الْأَمر يبيت عَلَيْهِ صَاحبه مهتما بِهِ. قَالَ
الْهُذلِيّ:
(وَأَجْعَل فقرتها عدَّة ... إِذا خفت بيُوت أَمر عضال)
(4/154)
وَقَوله: " وَيَضَع الْعلم " أَي يَرْمِي
بِالْجَبَلِ أَو يخسف بِهِ.
2376 - / 3010 - وَفِي الحَدِيث الأول من مُسْند أبي
مَالك: " الطّهُور شطر الْإِيمَان ".
الطّهُور هَاهُنَا يُرَاد بِهِ التطهر. والشطر: النّصْف.
وَكَأن الْإِشَارَة إِلَى الصَّلَاة وَأَنَّهَا لَا تصح
إِلَّا بِالطَّهَارَةِ فَكَأَنَّهَا نصفهَا. وَقد سمى الله
عز وَجل الصَّلَاة إِيمَانًا بقوله: {وَمَا كَانَ الله
لِيُضيع إيمَانكُمْ} [الْبَقَرَة: 143] .
وَقَوله: " سُبْحَانَ الله " هُوَ تَنْزِيه الله عز وَجل
عَن كل مَا نزه عَنهُ نَفسه.
وَقَوله: " الْحَمد لله " الْحَمد ثَنَاء على الْمَحْمُود،
ويشاركه الشُّكْر، إِلَّا أَن بَينهمَا فرقا: وَهُوَ أَن
الْحَمد ثَنَاء على الْإِنْسَان فِيمَا فِيهِ حسن؛ ككرم
وشجاعة وَحسب، وَالشُّكْر ثَنَاء عَلَيْهِ بِمَعْرُوف
أولاكه. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَقد يوضع الْحَمد مَوضِع
الشُّكْر فَيُقَال: حمدته على معروفه عِنْدِي، كَمَا
يُقَال: شكرت لَهُ، وَلَا يوضع الشُّكْر مَوضِع الْحَمد،
فَيُقَال: شكرت لَهُ على شجاعته.
وَقَوله: " وَالصَّلَاة نور " أَي بَين يَدي الْمُصَلِّي
فِي سبله.
وَقَوله: " وَالصَّدَََقَة برهَان " أَي حجَّة لطلب الْأجر
من جِهَة أَنَّهَا قرض.
وَقَوله: " وَالصَّبْر ضِيَاء " لِأَن مستعمله يرى طَرِيق
الرشد، وتارك الصَّبْر فِي ظلمات الْجزع.
وَقَوله: " فبائع نَفسه "؛ من بَاعَ نَفسه ربه عز وَجل
أعْتقهَا فنجت،
(4/155)
وَمن بَاعهَا للهوى وَسلم قياده إِلَيْهِ
أوبقها: أَي أهلكها. والموبق: المهلك.
2377 - / 3011 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " أَربع من
أَمر الْجَاهِلِيَّة: الْفَخر بِالْأَحْسَابِ، والطعن فِي
الْأَنْسَاب، وَالِاسْتِسْقَاء بالنجوم، والنياحة "
وَقَالَ: " النائحة إِذا لم تتب قبل مَوتهَا تُقَام يَوْم
الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال من قطران وردع من جرب ".
قد سبق معنى الْحسب آنِفا وَأَنه عد المفاخر وحسبانها،
وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تحترب فِي التفاخر.
فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ هَذَا من أَمر الْجَاهِلِيَّة،
فَمَا معنى: " تنْكح الْمَرْأَة لحسبها "؟
فَالْجَوَاب: أَن الْحسب إِذا انْفَرد لم يعْتَبر،
وَإِنَّمَا يعْتَبر إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْإِسْلَام
وَالتَّقوى، فَيكون حِينَئِذٍ وجوده فِي حق الْمسلمَة
زِيَادَة فِي الرُّتْبَة، كَمَا قَالَ: " النَّاس معادن،
خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام إِذا
فقهوا ".
وَأما الطعْن فِي الْأَنْسَاب فقذف.
وَأما الاسْتِسْقَاء بالنجوم فَالْمُرَاد بهَا الأنواء.
وَقد تقدم ذكر ذَلِك فِي مُسْند زيد بن خَالِد.
(4/156)
وَقَوله: " عَلَيْهَا سربال من قطران "
السربال: الْقَمِيص. والقطران: شَيْء يتحلب من شجر يهنأ
بِهِ الْإِبِل. وَإِنَّمَا جعلت سرابيلهم مِنْهُ لِأَن
النَّار إِذا لفحته قوي اشتعالها، فَاشْتَدَّ إحراقها
للجلود.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا وَبَين حَالهَا أَن نوحها
لما كَانَ سَببا لتحريق المحزونين ثِيَابهمْ ألبست ثوبا من
الْعَذَاب تود لَو أَنه تحرق. وَلما كَانَ نوحها كلما تردد
زَادَت اللوعة وَقَوي احتراق الْقُلُوب بِنَار الوجد جعل
لباسها من قطران؛ لِأَنَّهُ كلما لفحته النَّار زَاد
اشتعاله، وَكَذَلِكَ جعل لَهَا درع من جرب؛ لِأَن الجرب
يثير دَاء الحكة، ونوحها يثير مَا فِي بواطن الْقُلُوب من
الْجزع والأسى.
(4/157)
|