معالم السنن

كتاب الضحايا
قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا بشر عن عبد الله بن عون عن عامر بن أبي رملة قال أنبأنا مخنف بن سليم قال ونحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة هذه التي تقول الناس الرجبية. قال أبو داود العتيرة منسوخة.
قلت العتيرة تفسيرها في الحديث أنها شاة تذبح في رجب وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث ويليق بحكم التدين، فأما العتيرة التي كان يعترها أهل الجاهلية فهي الذبيحة تذبح للصنم فيصب دمها على رأسه، والعتر بمعنى الذبح ومنه قول الحارث بن حلزة:
عننا باطلا وظلما كما تعتر عن حجرة الربيض الظباء
أي تذبح واختلفوا في وجوب الأضحية فقال أكثر أهل العلم إنها ليست بواجبة ولكنها مندوب إليها.
وقال أبو حنيفة هي واجبة وحكاه عن إبراهيم، وقال محمد بن الحسن هي واجبة على المياسير.
قلت هذا الحديث ضعيف المخرج وأبو رملة مجهول.

(2/226)


ومن باب الرجل يأخذ من شعره
وهو يريد أن يضحي
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو حدثنا عمرو بن مسلم الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت أم سلمة تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي.
قلت الذِبح بكسر الذال الضحية التي يذبحها المضحي. واختلف العلماء في القول بظاهر هذا الخبر فكان سعيد بن المسيب يقول به ويمنع المضحي من أخذ أظفاره وشعره أيام العشر من ذي الحجة، وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وإليه ذهب أحمد وإسحاق.
وكان مالك والشافعي يريان ذلك على الندب والاستحباب. ورخص أصحاب الرأي في ذلك.
قلت وفي حديث عائشة دليل على أن ذلك ليس على الوجوب وهو قولها فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدتها ثم بعث بها ثم لم يحرم عليه شيء كان أحله الله له حتى نحر الهدي.
وأجمعوا أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المحرم فدل ذلك على سبيل الندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب.

ومن باب ما يستحب من الضحايا
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني حياة حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عروة عن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد فأتي به

(2/227)


فضحى به، قال فقال يا عائشة هلمي المدية ثم قال أشحثيها بحجر ففعلت فأخذها وأخذ الكبش فأضجعه وذبحه وقال بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به.
قوله يطأ في سواد يريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود وسائر بدنه أبيض. وقوله أشحثيها إنما هو اشحذيها والثاء والذال قريبا المخرج. وفي قوله تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد دليل على أن الشاة الواحدة تجزىء عن الرجل وأهله وإن كثروا وروي، عَن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي عياش عن جابر بن عبد الله قال ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجبين فلما وجههما قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله الله أكبر ثم ذبح.
الأملح من الكباش هو الذي في خلال صوفه الأبيض طاقات سود.
وقوله موجبين يريد منزوعي الأنثيين والوجاء الخصاء يقال وجأت الدابة فهي موجوءة إذا خصيتها.
وفي هذا دليل على أن الخصي في الضحايا غير مكروه، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو وهذا نقص ليس بعيب لأن الخصاء يفيد اللحم طيبا وينفي

(2/228)


منه الزهومة وسوء الرائحة.
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حفص عن جعفرعن أبيه، عَن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبش أقرن فحيل ينظر في سواد ويأكل في سواد ويمشي في سواد.
قلت الفحيل الكريم المختار للفحلة، فان الفحل فهو عام في الذكور منها وقالوا في ذكورة النخل فحال فرقا بينه وبين سائر الفحول من الحيوان.

ومن باب ما يجوز من السن في الضحايا
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا منصور عن الشعبي عن البراء قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك شاة لحم قال فإن عندي عناقا جذعة وهي خير من شاتي فهل تجزي عني قال نعم ولن تجزي عن أحد بعدك.
في هذا بيان أن الجذع من المعز لا تجزي عن أحد ولا خلاف أن الثني من المعز جائز.
وقال أكثر أهل العلم إن الجذع من الضأن يجزي غير أن بعضهم اشترط أن يكون عظيماً.
وحكي عن الزهري أنه قال لا يجزي من الضأن إلاّ الثني فصاعدا كالإبل والبقر.
وفيه من الفقه أن من ذبح قبل الصلاة لم يجزه عن الأضحية.
واختلفوا في وقت الذبح فقال كثير من أهل العلم لا يذبح حتى يصلي الإمام

(2/229)


ومنهم من شرط انصرافه بعد الصلاة ومنهم من قال حتى ينحر الإمام.
وقال الشافعي وقت الأضحى قدر ما يدخل الإمام في الصلاة حين تحل الصلاة وذلك إذا نورت الشمس فيصلي ركعتين ثم يخطب خطبتين خفيفتين فإذا مضى من النهار مثل هذا الوقت حل الذبح. وأجمعوا أنه لا يجوز الذبح قبل طلوع الشمس.
وقد استدل بعض من يوجب الأضحية بقوله تجزىء عنك ولن تجزىء عن أحد بعدك. قلت وهذا لا يدل على ما قاله لأن أحكام الأصول مراعاة في إبدالها فرضاً كانت أو نفلا وإنما هو على الندب كما كان الأصل على الندب، ومعناه أنها تجزىء عنك إن أردت الأضحية ونويت الأجر فيها.

ومن باب ما يكره من الضحايا
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد بن فيروز قال سألنا البراء بن عازب ما لا يجوز في الأضاحي فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اربع لا يجزي في الأضاحي العوراء بين عورها والمريضة بين مرضها والعرجاء بين ظلعها والكسير التي لا تنقى.
قوله لا تنقى أي لا نِقيَ لها وهو المخ، وفيه دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه ألا تراه يقول بين عورها وبين مرضها وبين ظلعها فالقليل منه غير بين فكان معفواً عنه.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن ثور حدثني أبو حميد الرُعيني أخبرني يزيد ذو مُضَر قال أتيت عتبة بن عبد السلمي فسألته فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُصَفّرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء. فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو سماخها والمستأصلة قرنها من أصله والبخقاء التي

(2/230)


تبخق عينها والمشيِّعة التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفاً والكسراء الكسير.
قال الشيخ إنما سميت الشاة التي استؤصلت أذنها مصفرة لأن الأذن إذا زالت صفِر مكانها أى خلا والمشيعة هي التي لا تلحق الغنم لضعفها وهزالها فهي تشيعها من ورائها وبَخْق العين فقؤها.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن شريح بن النعمان، وكان رجل صدق عن علي رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مُدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء، قال زهير فقلت لأبي إسحاق أذكر عضباء قال لا قلت فما المقابلة قال يقطع طرف الأذن، قلت فما المدابرة قال يقطع مؤخر الأذن قلت فما الشرقاء قال يشق الأذن قلت فما الخرقاء قال تخرق أذنها السمة.
قلت تفسير هذه الحروف عند أهل اللغة كنحو مما ذكر في الحديث، والعضب كسر القرن وكبش أعضب ونعجة عضباء. وقوله نستشرف العين والأذن معناه الصحة والعظم ويقال أذن شُرافية. قال أبو عبيد قال الأصمعي الشرقاء من الغنم المشقوقة الأذنين والخرقاء أن يكون في الأذن ثقب مستدير والمقابلة أن يقطع من مقدم أذنها شيء ثم يترك معلقا كأنه زنمة والمدابرة أن يفعل ذلك بمؤخر الأذن من الشاة.
واختلف العلماء في مقادير هذه العيوب وما يجوز منها في الضحايا وما لا يجوز فقال مالك إذا كان القطع قليلا والشق لم يضر فإن كثر لم يجز.
وقال أصحاب الرأي إذا بقي أكثر من النصف من الأذن والذنب والعين أجزأ.
وقال إسحاق بن راهويه إذا كان الثلث فما دونه أجزأ وإن كان أكثر من الثلث لم يجزه.

(2/231)


واختلفوا في المكسورة القرن فأجازها مالك والشافعي وكذلك قال أصحاب الرأي، وقال إبراهيم النخعي إن كان قرنها الداخل صحيحا فلا بأس، يَعني المشاش.

ومن باب حبس لحوم الأضاحي
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت سمعت عائشة تقول دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي قالت فلما كان بعد ذلك قيل يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك أو كما قال قالوا يا رسول الله نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفّتْ فكلوا وتصدقوا وادّخروا.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد الحذاء، عَن أبي المليح عن نُبيشة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا الأوان هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله.
قول دف ناس معناه أقبلوا من البادية والدف سير سريع يقارب فيه بين الخطو يقال دف الرجل دفيفا وهم دافة أي جماعة يدفون وإنما أراد قوماً أقحمتهم السنة وأقدمتهم الجماعة يقول إنما حرمت عليكم الإدخار فوق ثلاث لتواسوهم وتتصدقوا عليهم فأما وقد جاء الله بالسعة فادخروا وما بدا لكم.
وقوله واتجروا أصله ايتجروا على وزن افتعلوا يريد الصدقة التي يبتغي أجبرها وثوابها، ثم قيل اتجروا كما قيل اتخذت الشيء وأصله أيتخذته وهو من الأخذ

(2/232)


كهو من الأجر وليس من باب التجارة لأن البيع في الضحايا فاسد إنما تؤكل ويتصدق منها.
وقوله هذه الأيام أيام أكل وشرب فيه دليل على أن صوم أيام التشريق غير جائز لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر ثم لم يجز صيامه فكذلك أيام التشريق. وسواء كان ذلك تطوعاً من الصائم أو سيراً أوصامها الحاج عن التمتع. وقوله يجملون الودك معناه يذيبونه قال لبيد:
* واشتوى ليلة ريح واجتمل *
ومن هذا قيل فلان جميل الوجه يريدون به الحسن والنضارة كأنه دهين صقيل.