معالم السنن

كتاب الجهاد
ومن باب سكنى البدو
قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبى سعيد الخدري أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل قال نعم، قال فهل تؤدي صدقتها قال: نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يَتِرك من عملك شيئا.
وقوله لن يَتِرك معناه لن ينقصك ومن هذا قوله تعالى {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] والمعنى أنك قد تدرك بالنسبة أجر المهاجر وإن أقمت من وراء البحار وسكنت أقصى الأرض.

(2/233)


وفيه دلالة على أن الهجرة إنما كان وجوبها على من أطاقها دون من لا يقدر عليها.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبى شيبة قالا: حَدَّثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال سألت عائشة عن البداوه فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التِلاع وأنه أراد البداوة مرة فأرسل إلى ناقة مُحرّمة من إبل الصدقة فقال لي يا عائشة ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء إلاّ زانه ولا نزع من شىء قط إلاّ شانه.
البداوة الخروج إلى البدو والمقام به وفيه لغتان البداوة بفتح الباء والبداوة بكسرها. والناقة المحرمة هي التى لم تركب ولم تذلل فهي غير وطيئة ويقال أعرابي مُحرَّم إذا كان جلفا لم يخالط أهل الحضر. والتلاع جمع تَلعة وهي ما ارتفع من الأرض وغلظ وكان ما سفل منها مسيلاً لمائها.

ومن باب هل انقطعت الهجرة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا.
قال وحدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى عن جرير عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
قلت كانت الهجرة في أول الإسلام مندوباً إليها غير مفروضة وذلك قوله {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة} [النساء: 100] نزل حين اشتد أذى المشركين على المسلمين عند انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمروا

(2/234)


بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتظاهروا إن حزبهم أمر وليتعلموا منه أمر دينهم ويتفقهوا فيه وكان عظم الخوف في ذلك الزمان من قريش وهم أهل مكة فلما فتحت مكة ونخعت بالطاعة زال ذلك المعنى وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر فيها إلى الندب والاستحباب فهما هجرتان فالمنطقة منهما هي الفرض والباقية هي الندب فهذا وجه الجمع بين الحديثين على أن بين الإسنادين ما بينهما إسناد حديث ابن عباس متصل صحيح واسناد حديث معاوية فيه مقال.
وقوله إذا استنفرتم فانفروا فيه إيجاب النفير والخروج إلى العدو إذا وقعت الدعوة وهذا إذا كان فيمن بإزاء العدو كفاية فإن لم يكن فيهم كفاية فهو فرض على المقيمين المطيقين للجهاد والاختيار للمطيق له مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد. قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال {انفروا خفافا وثقالا} [التوبة: 41] نسخه قوله {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 212] الآية.

ومن باب سكنى الشام
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذَرهم نفسُ الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير.

(2/235)


قوله ستكون هجرة بعد هجرة معنى الهجرة الثانية الهجرة إلى الشام يرغب في المقام بها وهي مهاجر إبراهيم صلوات الله عليه. وقوله تقذرهم نفس الله تأويله أن الله يكره خروجهم إليها ومقامهم بها فلا يوفقهم لذلك فصاروا بالرد وترك القبول في معنى الشيء الذي تقذره نفس الإنسان فلا تقبله. وذكر النفس هاهنا مجاز واتساع في الكلام وهذا شبيه بمعنى قوله {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 46] .

ومن باب دوام الجهاد
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناواهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال.
قلت فيه بيان أن الجهاد لا ينقطع أبدا وإذا كان معقولا لأن الأئمة كلهم لا يتفق أن يكونوا عدلا فقد دل هذا على أن جهاد الكفار مع أئمة الجور واجب كهو مع أهل العدل وإن جورهم لا يسقط طاعتهم في الجهاد وفيما أشبه ذلك من المعروف. وقوله ناواهم يريد ناهضهم للقتال وأصله من ناء ينوء إذا نهض والمناوأة مهموزة مفاعلة منه.

ومن باب القفل في سبيل الله
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المصفى حدثنا علي بن عياش عن الليث بن سعد حدثنا حيوة عن ابن شُفي عن شُفي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قفلة كغزوة.
قلت هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد به القفول عن الغزو والرجوع

(2/236)


إلى الوطن يقول إن أجر المجاهد في انصرافه إلى أهله كأجره في إقباله إلى الجهاد وذلك لأن تجهيز الغازي يضر بأهله وفي قفوله إليهم إزالة الضرر عنهم واستجمام للنفس واستعداد بالقوة للعود، والوجه الآخر أن يكون أراد بذلك التعقيب وهو رجوعه ثانيا في الوجه الذي جاء منه منصرفا وإن لم يلق عدوا ولم يشهد قتالا وقد يفعل ذلك الجيش إذا انصرفوا من مغزاتهم وذلك لأحد أمرين أحدهما أن العدو إذا رأوهم قد انصرفوا عن ساحتهم أمنوهم فخرجوا من مكامنهم فإذا قفل الجيش إلى دار العدو نالوا الفرصة منهم فأغاروا عليهم. والوجه الاخر أنهم إذا انصرفوا من مغزاتهم ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهم غادون فربما استظهر الجيش أو بعضهم بالرجوع على أدراجهم بغضون الطريق فإن كان من العدو طلب كانوا مستعدين للقائهم وإلا فقد سلموا واحرزوا ما معهم من الغنيمة.

ومن باب ركوب البحر
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن زكريا عن مطرف عن بشر أبي عبد الله عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تركب البحر إلاّ حاجاً أو معتمراً وغازياً في سبيل الله فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً.
قلت في هذا دليل على أن من لم يجد طريقا إلى الحج غير البحر فإن عليه أن يركبه وقال غير واحد من العلماء إن عليه ركوب البحر إذا لم يكن له طريق غيره.

(2/237)


وقال الشافعي لا يتبين لي أن ذلك يلزمه وقد ضعفوا إسناد هذا الحديث.
وقوله إن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا تأويله تفخيم أمرالبحر وتهويل شأنه، وذلك لأن الآفة تسرع إلى راكبه ولا يؤمن الهلاك في ملابسة النار ومداخلتها والدنو منها.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بكار حدثنا مروان حدثنا هلال بن ميمون الرملى عن يعلى بن شداد عن أم حِرام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغريق له أجر شهيدين.
المائد هو الذى يدار برأسه من ريح البحر وصيده يقال ماد الرجل يميد إذا مال وغصن مياد إذا كان يتثنى ويتأود من لينه ومن ذلك قوله سبحانه {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [لقمان: 10] .
قال أبو داود: حدثنا عبد السلام بن عتيق الدمشقي حدثنا أبو مسهر حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا الأوزاعي حدثني سليمان بن حبيب، عَن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة كلهم ضامن على الله رجل خرج غازياً في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة. ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله. ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل.
قلت قوله ضامن على الله معناه مضمون فاعل بمعنى مفعول كقوله سبحانه {في عيشة راضية} [الحاقة: 21] أي مرضية وقوله عز وجل {من ماء دافق} [الطلاق: 6] أي مدفوق ومثله في الكلام كثير. وقوله ثلاثة كلهم ضامن يريد به كل واحد منهم وأنشدني أبو عمر، عَن أبي العباس في كل بمعنى الواحد.

(2/238)


فكلهم لا بارك الله فيهم …إذا جاء ألقى خده فتسمعا
يريد كل واحد منهم. وقوله ورجل دخل بيته بسلام يحتمل وجهين أحدهما أن يسلم إذا دخل منزله كما قال تعالى {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} [النور: 61] والوجه الاخر أن يكون أراد بدخول بيته بسلام أي لزم البيت طلب السلامة من الفتن يرغب بذلك في العزلة ويأمره بالإقلال من الخلطة.

ومن باب من مات غازياً
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة وهوالحوطي حدثنا بقية بن الوليد عن ابن ثوبان عن أبيه يرده إلى مكحول إلى عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وأن له الجنة.
قوله فصل معناه خرج وقوله وقصه فرسه معناه صرعه فدق عنقه والوقْص الدق والكسر ونحوهما والهامة إحدى الهوام وهي ذوات السموم القاتلة كالحية والعقرب ونحوهما.

ومن باب الحرس في سبيل الله
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية، يَعني ابن سلام عن زيد، يَعني ابن سلام أنه سمع أبا سلام قال حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية فحضرت صلاة الظهرعند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت

(2/239)


على جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله ثم قال من يحرسنا الليلة قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اركب فركب فرساً له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يُغرن من قبلك الليلة فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال هل أحسستم فارسكم قالوا يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال ابشروا فقد جاءكم فارسكم فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم فقال إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحداً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نزلت الليلة قال لا إلاّ مصليا أو قاضيا حاجة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها.
قوله على بكرة أبيهم كلمة للعرب يريدون بها الكثرة والوفور في العدد، والظعن النساء واحدتها ظعينة وأصل الظعينة الراحلة التى تظعن وترتحل فقيل للمرأة ظعينة إذا كانت تظعن مع الزوج حيثما ظعن أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت وهذا من باب تسمية الشيء باسم سببه كما سموا المطر سماء إذا كان نزوله من السماء وكما سموا حافر الدابة أرضا لوقوعه على الأرض ومثل هذا كثير.

ومن باب الجرأة والجبن
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح عن عبد الله بن يزيد عن موسى

(2/240)


بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد العزيز بن مروان قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسون الله صلى الله عليه وسلم يقول شر ما في رجل شح هالع وجُبن خالع.
أصل الهلع الجزع والهالع هاهنا ذو الهلع كقول النابغة [كليني لهم يا أميمةُ ناصب] أي ذو نصب ويقال إن الشح أشد من البخل ومعناه البخل يمنعه من إخراج الحق الواجب عليه فإذا استخرج منه هلع وجزع منه. والجبن الخالع هو الشديد الذي يخلع فؤاده من شدقه.

ومن باب الرمي
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومُنبله وارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ليس من اللهو إلاّ ثلاث تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها.
قوله منبله هو الذي يناول الرامي النبل وقد يكون ذلك على وجهين أحدهما أن يقوم مع الرامي بجنبه أو خلفه ومعه عدد من النبل فيناوله واحداً بعد واحد والوجه الآخر أن يرد عليه النبل المرمي به.
وقد روي من طريق آخر والممد به وأي الأمرين فعل فهو ممد به والنبل السهام العربية وهي لطاف ليست بطوال كسهام النشاب والحسبان أصغر من النبل

(2/241)


وهي التي ترمي بها على القسي الكبار في مجار من خشب واحدتها حُسبانة. ويقال انبلت الرجل إذا أعطيته نبلا ورجل نابل إذا كان سلاحه النبل كما يقال رامح إذا كان ذا رمح. وقوله ليس من اللهو إلاّ ثلاث يريد ليس المباح من اللهو إلاّ ثلاث، وقد جاء معنى ذلك مفسرا في هذا الحديث من رواية أخرى.
حدثنا الأصم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء أخبرنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلام عن ابن زيد ان عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء يلهو به الرجل باطل إلاّ رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق.
قلت وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها لأن كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح والشد على الأقدام ونحوهما مما يرتاض به الإنسان فيتوقح بذلك بدنه ويتقوى به على مجالدة العدو.
فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو كالنرد والشطرنج والمزاجلة بالحمام وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق ولا يستجم به لدرك واجب فمحظور كله.
وقد رخص بعض العلماء في اللعب بالشطرنج وزعم أنه قد يتبصر به في أمر الحرب ومكيدة العدو، فأما من قامر به فهو فاسق ومن لعب به على غير قمار وحمله الولوع بذلك على تأخير الصلاة عن وقتها أو جرى على لسانه الخنا والفحش إذا عالج شيئا منه فهو ساقط المروءة مردود الشهادة.

(2/242)


ومن باب فيمن يغزو يلتمس الدنيا
قال أبو داود: حدثنا حياة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية حدثني بحير عن خالد بن معدان، عَن أبي بحرية عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخراً ورياءً وسمعةً وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف.
قوله ياسر الشريك معناه الأخذ باليسر في الأمر والسهولة فيه مع الشريك والصاحب والمعاونة لهما يقال رجل يسر إذا كان سهل الخلق وقوم أيسار.

ومن باب فضل الشهادة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عوف حدثتنا خنساء بنت معاوية الصُريمية قالت: حدثنا عمي قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم من في الجنة. قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة.
قلت المولود هو الطفل الصغير والسقط ومن لم يدرك الحنث. والوئيد هو الموؤد أي المدفون في الأرض حياً وكانوا يئدون البنات، ومنهم من كان يئد البنين أيضاً عند المجاعة والضيق يصيبهم. ومن هذا قوله سبحانه {وإذا الموؤدة سُئلت بأي ذنبٍ قُتلت} [التكوير: 9] .

ومن باب الجعائل في الغزو
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أنا أبو سلمة ح قال وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا محمد بن حرب المعنى وأنا لحديثه أتقن،

(2/243)


عَن أبي سلمة سليمان بن سليم عن يحيى بن جابر الطائي عن ابن أخي أبي أيوب الأنصاري، عَن أبي أيوب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستفتح عليكم الأمصار وستكون جنود مجندة يقطع عليكم فيها بعوث يتكره الرجل منكم البعث فيها فيتخلص من قومه ثم يتصفح القبائل بعرض نفسه عليهم يقول من أكفيه بعث كذا من أكفيه بعث كذا الا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه.
قلت فيه دلالة على كراهة الجعائل وفيه دليل على أن عقد الإجارة على الجهاد غير جائز. وقد اختلف الناس في الأجير يحضر الوقعة هل يسهم له فقال الأوزاعي المستأجر على خدمة القوم لا سهم له وكذلك قال إسحاق بن راهويه، وقال سفيان الثوري يسهم له إذا غزا وقاتل، وقال مالك وأحمد يسهم له إذا شهد وكان مع الناس عند القتال.
قلت يشبه أن يكون معناه في ذلك أن الإجارة إذا عقدت على أن يجاهد عن المستأجر فإنه إذا صار جهاده لحضور الوقعة فرضاً عن نفسه بطل معنى الإجارة وصار الأجير واحداً من جملة من حضر الوقعة فإنه يعطى سهمه إلاّ أن حصة الأجرة لتلك المدة ساقطة عن المستأجر.

ومن باب الرخصة في أخذ الجعائل
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن المَصِيصي حدثنا حجاج، يَعني ابن محمد عن الليث بن سعد عن حياة بن شريح عن ابن شُفّي عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي.
قلت في هذا ترغيب للجاعل ورخصة للمجعول له واختلف العلماء في ذلك

(2/244)


فرخص فيه الزهري ومالك بن أنس، وقال أصحاب الرأي لا بأس به وكرهه قوم وروي عن ابن عمر أنه قال أرى الغازي يبيع غزوه وأرى هذا يفر من عدوه.
وكرهه علقمة. وقال الشافعي لا يجوز أن يغزو بجعل فلو أخذه فعليه رده وعن النخعي أنه قال لا بأس بإعطائه وأكره أخذه للأجر.

ومن باب الرجل يغزو وأبواه كارهان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما.
قلت الجهاد إذا كان الخارج فيه متطوعا فإن ذلك لا يجوز إلاّ بإذن الوالدين فأما إذا تعين عليه فرض الجهاد فلا حاجة به إلى إذنهما وإن منعاه من الخروج عصاهما وخرج في الجهاد. وهذا إذا كانا مسلمين فإن كانا كافرين فلا سبيل لهما إلى منعه من الجهاد فرضاً كان أو نفلا وطاعتهما حينئذ معصية الله ومعونة للكفار وإنما عليه أن يبرهما ويطيعهما فيما ليس بمعصية.
قلت ولا يخرج إلى الغزو إلاّ بإذن الغرماء إذا كان عليه لهم دين عاجل كما لا يخرج إلى الحج إلاّ بإذنهم فإن تعين عليه فرض الجهاد لم يعرج على الإذن.

ومن باب النساء يغزون
قال أبو داود: حدثنا عبد السلام بن مظهر حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار فيسقين الماء ويداوين الجرحى.

(2/245)


قلت في هذا الحديث دلالة على جواز الخروج بهن في الغزو لنوع من الرفق والخدمة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث أن نسوة خرجن معه فأمر بردهن.
قلت يشبه أن يكون رده إياهن لأحد معنيين إما أن يكون في حال ليس بالمستظهر بالقوة والغلبة على العدو فخاف عليهن فردهن أو يكون الخارجات معه من حداثة السن والجمال بالموضع الذي يخاف فتنتهن.
وقد اختلف الناس في النساء هل يسهم لهن من الغنيمة فقال عامة أهل العلم لا يسهم لهن كسهم الرجال، وقال ابن عباس يرضخ لهن وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال الشافعي.
وقال مالك لا يسهم لهن ولا يرضخن بشيء.

ومن باب الرجل بغزو يلتمس الأجر والغنيمة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا أسد بن موسى حدثنا معاوية بن صااح حدثني ضمرة أن ابن رغب الإيادي حدثه عن عبد الله بن حوالة الأزدي قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئاً وعرف الجهد في وجوهنا فقام فينا فقال اللهم لا تكلهم إليَّ فاضعف عنهم ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم ثم وضع يده على رأسي أوعلى هامتي ثم قال يابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك.
البلابل الهموم والأحزان، وبلبلة الصدر وسواس الهموم واضطرابها فيه

(2/246)


وإنما أنذر به صلى الله عليه وسلم أيام بني أمية وما حدث من الفتن في زمانهم والله أعلم.

ومن باب الدعاء عند اللقاء
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا موسى بن يعقوب الزمَعي، عَن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثنتان لا تردان أو قل ما تردان عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضه بعضا. قوله يلحم معناه حين يشتبك الحرب ويلزم بعضهم بعضاً ويقال لحمت الرجل إذا قتلته ومن هذا قولهم كانت بين القوم ملحمة أي مقتلة.

ومن باب فيمن سأل الله الشهادة
قال أبو داود: حدثنا هشام بن خالد هو أبو مروان الدمشقي وابن المصفى قالا: حَدَّثنا بقية عن ابن ثوبان عن أبيه يرده إلى مكحول إلى مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل حدثهم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد.
الفواق ما بين الحلبتين وقيل ما هو بين الشُخبين. الشخبان ما يخرج من اللبن.

ومن باب ما يكره من ألوان الخيل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن سلم هو ابن عبد الرحمن، عَن أبي زرعة، عَن أبي هريرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الشِكال في الخيل والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى بياض أو في يده اليمنى وفي رجله اليسرى.

(2/247)


قلت هكذا جاء التفسير من هذا الوجه وقد يفسر الشكال بأن يكون يد الفرس واحدى رجليه محجلة والرجل الأخرى مطلقة ولعله سقط من الحديث حرف والله أعلم.

ومن باب ما يؤمر من القيام على الدواب والبهائم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي حدثنا ابن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن جعفر قال أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسرّ إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حائش نخل قال فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرَفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفراه فسكت وقال من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال لي يا رسول الله قال أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه ويدئبه.
قلت الهدف كل ما كان له شخص مرتفع من بناء وغيره وقد استهدف لك الشيء إذا قام وانتصب لك. والحائش جماعة النخل الصغار لا واحد له من لفظه والذفري من البعير مؤخر رأسه وهو الموضع الذي يعرق من قفاه.
وقوله تدئبه يريد تكده وتتعبه.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثني محمد بن جعفرحدثنا شعبة عن حمزة الضبي سمعت أنس بن مالك قال كنا إذا نزلنا منزلاً لا نُسبح حتى تحل الرحال.
يريد لا نصلي سبحة الضحى حتى تحط الرحال ويجم المطي.
وكان بعض العلماء يستحب أن لا يطعم الراكب إذا نزل المنزل حتى يعلف الدابة.

(2/248)


وأنشدني بعضهم فيما يشبه هذا المعنى.
حق المطية أن يبدا بحاجتها ... لا أطعم الضيف حتى أعلف الفرسا

ومن باب تقليد الخيل الأوتار
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، قال فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا قال عبد الله بن أبي بكرحسبت أنه قال والناس في مبيتهم لا تُبقينَّ في رقبة بعير قلادة من وتر ولا قلادة إلاّ قطعت.
قال وحدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني أخبرنا محمد بن المهاجر حدثني عقيل بن شبيب، عَن أبي وهب الجُشمي وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وإعجازها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار.
قلت: أمره صلى الله عليه وسلم بقطع قلائد الخيل يتأول على وجوه؛ قال مالك بن أنس أرى أن ذلك من أجل العين، وقال غيره إنما أمر بقطعها لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس. وقال بعضهم إنما نهى عن تقليدها الأوتار لئلا تختنق بها عند شدة الركض، وقوله لا تقلدوها الأوتار يحتمل أن يكون أراد عين الوتر خاصة دون غيره من السيور والخيوط وغيرها، وقيل معناه لا تطلبوا عليها الأوتار والذحول ولا تركضوها في درك الثأر على ما كان من عاداتهم في الجاهلية.

(2/249)


ومن باب ركوب الجلالة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال نهى عن ركوب الجلالة.
الجلالة الإبل التي تأكل العذرة، والجَلة البعر كره صلى الله عليه وسلم ركوبها كما نهى عن أكل لحومها، ويقال إن الإبل إذا اجتلت أنتن روائحها إذا عرقت كما تنتن لحومها.

ومن باب الرجل يسمي دابته
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي الأحوص، عَن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ رضي الله عنه قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عُفَير.
قلت: عفير تصغير أعفر يحذفون الألف في تصغيره كما حذفوه في تصغير أسود فقالوا سويد وكما قالوا عوير من أعور وكان القياس أن يقال في تصغير أعفر أعيفر كما قالوا أحيمر من أحمر وأصيفر من أصفر.
وفيه أن الإرداف مباح إذا كانت الدابة تقوى على ذلك ولا يضربها الضرر البين، وتسمية الدواب شكل من أشكال العرب وعادة من عاداتها، وكذلك تسمية السلاح وأداة الحرب وكان سيفه صلى الله عليه وسلم يسمى ذا الفقار ورايته العُقاب ودرعه ذات الفضول وبغلته دُلدُل وبعض أفراسه السكب وبعضها البحر.

ومن باب النهي عن لعن البهيمة
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فسمع لعنة

(2/250)


فقال ما هذه قالوا هذه فلانة لعنت راحلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعوا عنها فإنها ملعونه فوضعوا عنها قال عمران فكأني انظر إليها ناقة ورقاء.
قلت زعم بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذك فيها لأنه قد استجيب لها الدعاء عليها باللعن واستدل على ذلك بقول فإنها ملعونه.
وقد يحتمل أن يكون إنما فعل ذلك عقوبة لصاحبها لئلا تعود إلى مثل قولها ومعنى ضعوا عنها أي ضعوا رحلها وأعروها لئلا تركب.

ومن باب وسم ادابة
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخ لي حين ولد ليحنكه فإذا هو في مربد يسِم غنماً أحسبه قال في آذانها.
قلت في هذا دلالة على أن الأذن ليس من الوجه لأنه قد نهى صلى الله عليه وسلم عن وسم الوجه وضربه.

ومن باب كراهة الحمر تنزى على الخيل
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي الخير عن ابن زُرير عن علي بن أبي طالب، قال: أحديت لرسول الله وص بغلة فركبها فقال عليّ لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون.
قلت: يشبه أن يكون المعنى في ذلك والله أعلم، إن الحمر إذا حملت على الخيل تعطلت منافع الخيل وقل عددها وانقطع نماؤها والخيل يحتاج إليها للركوب والركض والطلب وعليها يجاهد العدو وبها تحرز الغنائم ولحمها

(2/251)


مأكول ويسهم للفرس كما يسهم للفارس وليس للبغل شيء من هذه الفضائل فأحب صلى الله عليه وسلم أن ينمو عدد الخيل ويكثر نسلها لما فيها من النفع والصلاح، ولكن قد يحتمل أن يكون حمل الخيل على الحمر جائزاً لأن الكراهة في هذا الحديث إنما جاءت في حمل الحمر على الخيل لئلا تشغل أرحامها بنجل الحمر فيقطعها ذلك عن نسل الخيل فإذا كانت الفحولة خيلاً والأمهات حمرا فقد يحتمل أن لا يكون داخلا في النهي إلاّ أن يتأول متأول أن المراد بالحديث صيانة الخيل عن مزاوجة الحمر وكراهة اختلاط مائها بمائها لئلا يضيع طرقها ولئلا يكون منه الحيوان المركب من نوعين مختلفين فإن أكثر المركبات المتولدة بين جنسين من الحيوان أخبث طبعا من أصولها التي تتولد منها وأشد شراسة كالسِمع والعسبار ونحوهما، وكذلك البغل لما يعتريه من الشماس والحران والعضاض في نحوها من العيوب والآفات ثم هو حيوان عقيم ليس له نسل ولا نماء ولا يُذكي ولا يزكى.
قلت وما أرى هذا الرأي طائلا فإن الله سبحانه قال {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] فذكر البغال وامتن علينا بها كامتنانه بالخيل والحمير وأفرد ذكرها بالاسم الخاص الموضوع لها ونبه على ما فيها من الأرب والمنفعة. والمكروه من الأشياء مذموم لا يستحق المدح ولا يقع بها الامتنان، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم البغل واقتناه وركبه حضراً وسفراً وكان يوم حنين على بغلته حين رمى المشركين بالبحصباء وقال شاهت الوجوه فانهزموا ولو كان مكروهاً لم يقتنه ولم يستعمله والله أعلم.

ومن باب الوقوف على الدابة
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن يحيى بن

(2/252)


أبي عمرو الشيياني، عَن أبي مريم، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا ظهور دوابكم منابر فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم.
قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب على راحلته واقفا عليها فدل ذلك على أن الوقوف على ظهورها إذا كان لأرب أو بلوغ وطر لا يدرك مع النزول إلى الأرض مباح جائز، وأن النهي إنما انصرف في ذلك إلى الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه لكن بأن يستوطنه الإنسان ويتخذه مقعداً فيتعب الدابة ويضر بها من غير طائل.

ومن باب الدابة تعرقب في الحرب
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني ابن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، قال أبو داود وهو يحيى بن عباد قال حدثني أبي الذي أرضعني وهو أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزاة غزاة مؤتة قال والله لكأني انظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل.
قلت هذا يفعله الفارس في الحرب إذا أزهق وأيقن أنه مغلوب فينزل ويجالد العدو راجلا وإنما يعقر فرسه لئلا يظفر به العدو فيقوى به على قتال المسلمين.
وقد اختلف الناس في الفرس يقف على صاحبه فيعقره لئلا يظفر به العدو فرخص فيه مالك بن أنس. وعن أبي حنيفة أنه قال إذا ظفر السسلمون بدواب ومواش فعجزوا عن حملها ذبحوها وحرقوا لحومها، وكره ذلك الأوزاعي

(2/253)


والشافعى وأحمد بن حنبل، واحتج الشافعي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم من قتل عصفوراً فما فوقه بغير حقه سأله الله تعالى عن قتله، واحتج بنهيه عن قتل الحيوان إلا لمأكله، قال وأما أن يعقر بالفارس من المشركين فله ذلك لأن ذلك أمر يجد به السبيل إلى قتل من أمر بقتله. وضعف أبو داود إسناد حديث جعفر وكره أيضاً عقر الدابة.

ومن باب السبق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر الخيل يسابق بها.
قلت تضمير الخيل أن يعلف الحب والقضيم حتى تسمن وتقوى ثم تغشى بالجلال وتترك حتى تحمى فتعرق ولا تعلف إلاّ قوتا ًحتى تضمر ويذهب رهلها فيخف فإذا فعل ذلك بها فهي مضمرة ومن العرب من يطعمها اللحم واللبن في أيام التضمير.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله ممن سابق بها.
الأمد الغاية، قال النابغة:
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
يريد أنه جعل غاية المضامير أبعد من غاية ما لم يضمر منها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع،

(2/254)


عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل.
السبق بفتح الباء هو ما يجعل للسابق على سبقه من جعل أو نوال. فأما السبق بسكون الباء فهو مصدر سبقت الرجل أسبقه سبقاً، والرواية الصحيحة في هذا الحديث السبق مفتوحة الباء. يريدان الجعل والعطاء لا يستحق إلاّ في سباق الخيل والإبل وما في معناهما، وفي النصل وهو الرمي وذلك لأن هذه الأمور عدة في قتال العدو وفي وبذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد وتحريض عليه. ويدخل في معنى الخيل البغال والحمير لأنها كلها ذوات حوافر وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجائها لأنها تحمل أثقال العساكر وتكون معها في المغازي.
وأما السباق بالطير والزجل بالحمام وما يدخل في معناه مما ليس من عدة الحرب ولا من باب القوة على الجهاد فأخذ السبق عليه قمار محظور لا يجوز.

ومن باب المحلل
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير حدثنا سفيان بن حسين (ح) وحدثنا علي بن مسلم حدثنا عباد بن العوام أخبرنا سفيان بن حسين المعنى عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أدخل فرسا بين فرسين، يَعني وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار.
قلت الفرس الثالث الذي يدخل بينهما يسمى المحلل، ومعناه أنه يحلل للسابق ما يأخذه من السبق فيخرج به عقد التراهن عن معنى القمار الذي إنما هو مواضعة بين اثنين على مال يدور بينهما في الشقين فيكون كل واحد منهما إما غانما أو غارما، ومعنى المحلل ودخوله بين الفرسين المتسابقين هو لأن يكون أمارة

(2/255)


لقصدهما إلى الجري والركض لا إلى المال فيشبه حينئذ القمار وإذا كان فرس المحلل كفئا لفرسيهما يخافان أن يسبقهما فيحرز السبق اجتهدا في الركض وارتاضا به ومرنا عليه وإذا كان المحلل بليدا أو كؤودا مأموناً أن يسبق غير مخوف أن يتقدم فيحرز السبق لم يحصل به معنى التحليل وصار إدخاله بينهما لغوا لا معنى له وحصل الأمر على رهان بين فرسين لا محلل معهما وهو عين القمار المحرم.
وصورة الرهان والمسابقة في الخيل أن يتسابق الرجلان بفرسيهما فيعمدا إلى فرس ثالث كفء لفرسيهما يدخلانه بينهما ويتواضعان على مال معلوم يكون للسابق منهما فمن سبق أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه ولم يكن على المحلل شيء. فإن سبقهما المحلل أحرز السبقين معاً. وإنما يحتاج إلى السحلل فيما كان الرهن فيه دائرا بين اثنين. فأما إذا سبق الأمير بين الخيل وجعل للسابق منهما جعلا أو قال الرجل لصاحبه إن سبقت فلانا فلك عشرة دراهم فهذا جائز من غير محلل والله أعلم.
وفي الحديث دليل على أن التوصل إلى المباح بالذرائع جائز وأن ذلك ليس من باب الحيلة والتلجئة المكروهتين.

ومن باب الجلب على الخيل في السباق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن حميد الطويل عن الحسن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا جلب ولا جنب.
قلت هذا يفسر على أن الفرس لا يجلب عليه في السباق ولا يزجر الزجر الذي يزيد معه في شأوه وإنما يجب أن يركضا فرسيهما بتحريك اللجام وتعريكهما العنان

(2/256)


والاستحثاث بالسوط والمهماز وما في معناهما من غير إجلاب بالصوت، وقد قيل إن معناه أن يجمع قوم فيصطفوا وقوفا من الجانبين ويجلبوا فنهوا عن ذلك. وأما الجنب فيقال أنهم كانوا يجنبون الفرس حتى إذا قاربوا الأمد تحولوا عن المركوب الذي قد كده الركوب إلى الفرس الذي لم يركب فنهي عن ذلك.

ومن باب في السيف يحلى
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا جرير بن حازم حدثنا قتادة عن أنس قال كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة.
قبيعة السيف هي التَومة التي فوق المقبض ويستدل به على جواز تحلية اللجام باليسير من الفضة وسقوط الزكاة عنه على مذهب من يسقط الزكاة عن الحلي. وقد قيل إنه لا يجوز ذلك لأنه من زينة الدابة، وإنما جاز ذلك في السيف لأنه من زينة الرجل وآلته فيقاس عليه المنطقة ونحوها من أداة الفارس دون أداة الفرس.

ومن باب النهي عن السيف يتعاطى مسلولاً
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا قريش بن أنس حدثنا أشعث عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقد السير بين إصبعين.
قلت إنما نهى عن ذلك لئلا يعقر يده الحديد الذي يُقد السير به وهو شبيه بمعنى نهيه عن تعلطي السيف مسلولاً.

ومن باب الرجل ينادى بالشعار
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، عَن أبي إسحاق عن المهلب

(2/257)


بن أبي صفرة أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبَيَّتم فيلكن شعاركم حّم لا ينصرون.
قلت بلغني عن ابن كيسان النحوي أنه سأل أبا لعباس أحمد بن يحيى عنه فقال معناه الخبر ولو كان بمعنى الدعاء لكان مجزوماً أى لا ينصروا، وإنما هو اخبار كأنه قال والله لا ينصرون. وقد روي عن ابن عباس أنه قال حّم اسم من أسماء الله عز وجل فكأنه حلف بالله أنهم لا ينصرون.

ومن باب ما يقول الرجل إذا سافر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا محمد بن عجلان حدثني سعيد المقبري، عَن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر قال: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال. اللهم اطو لنا الأرض وهون علينا السفر.
قوله وعثاء السفر، معناه المشقة والشدة وأصله من الوعث وهو أرض فيها رمل تسوخ فيها الأرجل. ومعنى كآبة المنقلب أن ينقلب من سفره إلى أهله كئيباً حزيناً غير مقضي الحاجة أو منكوباً ذهب ماله أو أصابته آفة في سفره أو أن يرد على أهله فيجدهم مرضى أو يفقد بعضهم وما أشبه ذلك من المكروه.

ومن باب الدعاء عند الوداع
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن عبد العزيز بن عمر عن إسماعيل بن جرير عن قزعة قال: قال لي ابن عمر هلم أودعك كما ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
قلت الأمانة هاهنا أهله ومن يخلفه منهم وماله الذي يودعه ويستحفظه أمينه

(2/258)


ووكيله ومن في معناهما وجرى ذكر الدين مع الودائع لأن السفر موضع خوف وخطر وقد تصيبه فيه المشقة والتعب فيكون سببا لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين فدعا له بالمعونه والتوفيق.

ومن باب ما يقول إذا نزل المنزل
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية حدثني صفوان حدثني شريح بن عبيد عن الزبير بن الوليد عن عبد الله بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ومن شر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك وأعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد.
قوله ساكن البلد يريد به الجن الذين هم سكان الأرض. والبلد من الأرض ما كان مأوى للحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل ويحتمل أن يكون أراد بالوالد إبليس وما ولد الشياطين.

ومن باب كراهية سير أول الليل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن مسلم يعرف بابن أبي شعيب الحراني حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء فإن الشياطين تعيث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء.
قال أبو داود: الفواشي ما يفشو من كل شيء.
قلت الفواشي جمع الفاشية وهي ما يرسل من الدواب في الرعي ونحوه فينتشر ويفشو. وفحمة العشاء إقبال ظلمته شبه سواده بالفجر.

(2/259)


ومن باب الرجل يسافر وحده
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب.
قلت معناه والله أعلم أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان أو هو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه فقيل على هذا إن فاعله شيطان، ويقال إن اسم الشيطان مشتق من الشطون وهو البعد والنزوح، يقال بئر شطون إذا كانت بعيدة المهوى فيحتمل على هذا أن يكون المراد أن الممعن في الأرض وحده مضاه للشيطان في فعله وتشبه اسمه وكذلك الاثنان ليس معهما ثالث فإذا صاروا ثلاثة فهم ركب أي جماعة وصحب، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في رجل سافر وحده أرأيتم إن مات من اسأل عنه.
قلت المنفرد وحده في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويرد خبره عليهم ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ منها.

ومن باب القوم يسافرون يؤمر أحدهم
قال أبو داود: حدثنا علي بن بحر بن بري حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن نافع، عَن أبي سلمة، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم.
قلت إنما أمر بذلك ليكون أمرهم جميعا ولا يتفرق بهم الرأي ولا يقع بينهم

(2/260)


خلاف فيعنتوا. وفيه دليل على أن الرجلين إذا حكما رجلا بينهما في قضية فقضى بالحق فقد نفذ حكمه.

ومن باب دعاء المشركين
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه. قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً. وقال إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين واعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أنهم يكونوا مثل أعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي كان يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلاّ أن يجاهدوا في المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فان أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم.
قلت في هذا الحديث عدة أحكام منها دعاء المشركين قبل القتال، وظاهر الحديث يدل على أن لا يقاتلوا إلاّ بعد الدعاء.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك بن أنس لا يقاتلون حتى يدعوا أو يؤذَنوا.

(2/261)


وقال الحسن البصري يجوز أن يقاتلوا قبل أن يدعوا قد بلغتهم الدعوة. وكذلك قال الثوري وأصحاب الرأى، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. واحتج الشافعي في ذلك بقتل ابن الحقيق.
فأما من لم تبلغه الدعوة ممن بعدت داره ونأى محله فإنه لا يقاتل حتى يدعى فإن قتل منهم أحد قبل الدعوة وجبت فيه الكفارة والدية وفي وجوب الدية اختلاف بين أهل العلم.
وأما قوله فأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن المهاجرين كانوا أقواماً من قبائل مختلفة تركوا أوطانهم وهجروها في الله واختاروا المدينة داراً ووطناً ولم يكن لهم أو لأكثرهم بها زرع ولا ضرع فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم مما أفاء الله عليه أيام حياته ولم يكن للأعراب وسكان البدو في ذلك حظ إلاّ من قاتل منهم فإن شهد الوقعة أخذ سهمه وانصرف إلى أهله فكان فيهم.
وقوله وعليهم ما على المهاجرين أي من الجهاد والنفير أي وقت دعوا إليه لا يتخلفون. والأعراب من أجاب منهم وقاتل أخذ سهمه ومن لم يخرج في البعث فلا شيء له من الفيء ولا عتب عليه ما دام في أهل الجهاد كفاية.
وقوله إن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فظاهره يوجب قبول الجزية من كل مشرك كتابي أو غير كتابي من عبدة الشمس والنيران والأوثان إذا أذعنوا لها وأعطوها، وإلى هذا ذهب الأوزاعي. ومذهب مالك قريب منه. وحكي عنه أنه قال تقبل من كل مشرك إلاّ المرتد، وقال الشافعي لا تقبل الجزية إلاّ من أهل الكتاب وسواء كانوا عرباً أو عجما وتقبل من المجوس ولا تقبل من مشرك غيرهم.

(2/262)


وقال أبو حنيفة تقبل من كل مشرك من العجم ولا تقبل من مشركي العرب.
قلت لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حارب أعجميا قط ولا بعث إليهم جيشا، وإنما كانت عامة حروبه مع العرب، وكذلك بعوثه وسراياه فلا يجوز أن يصرف هذا الخطاب عن العرب إلى غيرهم.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى عن حسن بن صالح عن خالد بن الفِزْر حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانياً ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
قلت نهيه عن قتل النساء والصبيان يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون ذلك بعد الأسار نهى عن قتلهم لأنهم غنيمة للمسلمين. والوجه الآخر أن يكون ذلك عاماً قبل الأسار، وبعده نهى أن يقصدوا بالقتل وهم متميزون عن المقاتلة فأما وهم مختلطون بهم لا يوصل إليهم إلاّ بقتلهم فإنهم لا يحاشون. والمرأة إنما لا تقتل إذا لم تكن تقاتل فإن قاتلت قتلت وعلى هذا مذهب أكثر الفقهاء.
وقال الشافعي الصبي الذي يقاتل يجوز قتله وكذلك قال الأوزاعي وأحمد.
واختلفوا في الرهبان فقال مالك وأهل الرأي لا يجوز قتلهم.
وقال الشافعي يقتلون إلاّ أن يسلموا ويؤدوا الجزية. قال أصحاب الرأي لا يقتل شيخ ولا زمن ولا أعمى. وقال الشافعي هؤلاء كلهم يقتلون.

ومن باب الحرق في بلاد العدو
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر أن

(2/263)


رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله تعالى {ما قطعتم من لينة} [الحشر: 5] الآية.
واختلف العلماء في تأويل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال بعضهم إنما أمر بقطع النخيل لأنه كان مقابل القوم فأمر بقطعها ليتسع المكان له، وكره هذا القائل قطع الشجر واحتج بنهي أبي بكر عن ذلك، وإلى هذا المعنى ذهب الأوزاعي، وقال الأوزاعي لا بأس بقطع الشجر وتحريقها في بلاد المشركين وبهدم دورهم وكذلك قال مالك. وقال أصحاب الرأي لا بأس به وكذاك قال إسحاق.
وكره أحمد تخريب العامر إلاّ من حاجة إلى ذلك. قال الشافعي ولعل أبا بكر إنما أمرهم أن يكفوا عن أن يقطعوا شجراً مثمراً لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن بلاد الشام يفتح على المسلمين فأراد بقاءها عليهم.

ومن باب ابن السبيل
يأكل من الثمرة ويشرب من اللبن إذا مر به
قال أبو داود: حدثنا عياش بن الوليد الرقام حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتي أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجابه فليستأذنه وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل.
قلت هذا في المضطر الذي لا يجد طعاماً وهو يخاف على نفسه التلف فإذا كان كذلك جاز له أن يفعل هذا الصنيع.
وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أن هذا شيء قد ملكه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فهو له مباح لا يلزمه له قيمة.

(2/264)


وذهب أكثر الفقهاء إلى أن قيمته لازمة له يؤديها إليه إذا قدر عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل مال امرىء مسلم إلاّ بطيبة نفس منه.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة، عَن أبي بشر عن عباد بن شرحبيل قال أصابتني سنة فدخلت حائطا من حيطان المدينة ففركت سنبلاً فأكلت وحملت في ثوبي فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما علّمت إذ كان جاهلاً ولا أطعمت إذ كان جائعاً أو قال ساغبا وأمره فرد عليّ ثوبي وأعطاني وسقا أو نصف وسق من طعام.
السنة المجاعة تصيب الناس والساغب الجائع؛ وفيه أنه صلى الله عليه وسلم عذره بالجهل حين حمل الطعام فلام صاحب الحائط إن لم يطعمه إذ كان جائعاً.

ومن باب من قال لا يحلب
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتثل طعامه فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتَهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه.
المشربة كالعرقة يرفع فيها المتاع والشيء. وقوله ينتثل معناه يستخرج ويقال لما يخرج من تراب البئر إذا حفرت نثيل ومن هذا قولهم نثل الرجل كنانته إذا صبها على الأرض فأخرج ما فيها من النبل.
وفي هذا إثبات القياس والحكم للشيء بحكم نظيره. وفيه دليل على أن الشاة المبيعة إذا كان لها لبن مقدور على حلبه فإن للبن حصة من الثمن. وهذا يؤيد

(2/265)


خبر المصراة ويثبت حكمها في تقويم اللبن.
وفيه دليل على أن السارق إذا سرق من الطعام ما يبلغ قيمته ربع دينار قطع. واللبن وغيره من رطب الطعام ويابسه في ذلك سواء إذا أخذه من حرز.

ومن باب في الطاعة
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن زبيد عن سعد بن عبيدة، عَن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمرعليهم رجلا وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأجج ناراً وأمرهم أن يقتحموا فيها فأبى قوم أن يدخلوها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها لم يزالوا فيها وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف.
قلت هذه القصة وما ذكر فيها من شأن النار والوقوخفيها يدل على أن المراد به طاعة الولاة وأنها لا تجب إلاّ في المعروف كالخروج في البعث إذا أمر به الولاة والنفوذ لهم في الأمور التي هي طاعات ومعاون للمسلمين ومصالح لهم. فأما ما كان فيها معصية كقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا طاعة لهم في ذلك.
وقد يفسر قوله لا طاعة في معصية الله تفسيراً آخر وهو أن الطاعة لا تسلم لصاحبها ولا تخلص إذا كانت مشوبة بالمعصية، وإنما تصح الطاعات مع اجتناب المعاصي.

ومن باب كراهية تمني لقاء العدو
قال أبو داود: حدثنا محبوب بن موسى أبو صالح أخبرنا أبو إسحاق الفزاري

(2/266)


عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النَّضر مولى عمر بن عبيد الله بن معمر وكان كاتبا له، قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحرورية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، قال يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال اللهم منزل الكتاب مجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.
قلت معنى ظلال السيوف الدنو من القرن حتى يعلوه ظل سيفه لا يولي عنه ولا يفر منه وكل شيء دنا منك فقد أظلك كقول الشاعر:
ورنَّقت المنية فهي ظل ... على الأقران دانية الجَناح

ومن باب ما يدعى عند اللقاء
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرني أبي حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل.
قوله أحول معناه احتال قال ابن الأنباري الحَول معناه في كلام العرب الحيلة، يقال ما للرجل حول وماله محالة، قال ومنه قولك لا حول ولا قوة إلاّ بالله أي لا حيلة في دفع سوء ولا قوة في درك خير إلاّ بالله.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون معناه المنع والدفع، من قولك حال بين الشيئين إذا منع أحدهما عن الآخر يقول لا أمنع ولا أدفع إلاّ بك.

ومن باب دعاء المشركين
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس

(2/267)


أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير عند صلاة الصبح وكان يستمع فإذا سمع أذاناً أمسك وإلا أغار.
قلت فيه من الفقه ان إظهار شعار الإسلام في القتال وعند شن الغارة يحقن به الدم وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة التي يتسع فيها معرفة الأمور على حقائقها واستيفاء الشروط اللازمة فيها.
وفيه دليل على أن قتال الكفار من غير احداث الدعوة جائز، وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في ذلك في باب قبل هذا.
وقال الشافعي في هذا الحديث إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغير حتى يصبح ليس لتحريم الغارة ليلاً أو نهارا ولا غارين وفي كل حال ولكنه على أن يكون يبصر من معه كيف يغيرون احتياطاً أن يؤتوا من كمين ومن حيث لا يشعرون وقد يختلط أهل الحرب إذا غاروا ليلا فيقتل بعض المسلمين بعضا.
قلت وقد أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم على الماء تسقى، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب. وقال لأسامة أغر على أُبْنا صباحا وحرق فدل على إباحة البيات والإيقاع بهم وهم غارون. وقال سلمة بن الأكوع أمّرعلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فغزونا ناسا من المشركين فبيتناهم نقتلهم وكان شعارنا تلك الليلة امِتْ امت.

ومن باب المكر في الحرب
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها وكان يقول الحرب خَدعة.

(2/268)


قوله ورى بغيرها التورية أن يريد إنسان الشيء فيظهر غيره.
وقوله الحرب خدعة معناه إباحة الخداع في الحرب وإن كان محظورا في غيرها من الأمور، وهذا الحرف يروى على ثلاثة أوجه خَدْعة بفتح الخاء وسكون الدال، وخُدْعة بضم الخاء وسكون الدال، وخُدَعة الخاء مضمومة والدال منصوبة وأصوبها خَدْعة بفتح الخاء. أخبرني أبو رجاء الغنوي، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى، قال خدعة بفتح الخاء بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت معنى الخدعة أنها هي مرة واحدة أي إذا خُدع المقاتل مرة واحدة لم يكن له إقالة، ومن قال خُدْعة أراد الاسم كما يقال هذه لعبة، ومن قال خُدَعة بفتح الدال كان معناه أنها تخدع الرجال وتمنيهم ثم لا تفي لهم كما يقال رجل لعبه إذا كان كثير التلعب بالأشياء.

ومن باب لزوم الساقة
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن شَوكر حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، عَن أبي الزبير أن جابر بن عبد الله حدثهم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم.
قوله يزجي أي يسوق بهم، يقال أزجيت المطية إذا حثثتها في السوق.

ومن باب على ما يقاتل المشركون
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حَدَّثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش، عَن أبي ظبيان حدثنا أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحُرَقات فنذروا بنا فهر وا فأدركنا رجلاً فلما غشيناه

(2/269)


قال لا إله إلاّ الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال من لك بلا إلّه إلاّ الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح، قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا. من لك بلا إلّه إلاّ الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلاّ يومئذٍ.
فيه من الفقه أن الكافر إذا تكلم بالشهادة وإن لم يصف الأيمان وجب الكف عنه والوقوف عن قتله سواء كان بعد القدرة عليه أو قبلها.
وفي قوله هلا شققت عن قلبه دليل على أن الحكم إنما يجري على الظاهر وإن السرائر موكولة إلى الله سبحانه.
وفيه أنه لم يُلزمه مع إنكاره عليه الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه أن أصل دماء الكفار الإباحة، وكان عند أسامة أنه إنما تكلم بكلمة التوحيد مستعيذا من القتل لا مصدقا به فقتله على أنه كافر مباح الدم فلم تلزمه الدية إذ كان في الأصل مأمورا بقتاله والخطأ عن المجتهد موضوع.
ويحتمل أن يكون قد تأول فيه قول الله {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا} [غافر: 85] وقوله في قصة فرعون {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91] فلم يخلصهم إظهار الإيمان عند الضرورة والارهاق من نزول العقوبة بساحتهم ووقوع بأسه بهم.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت أن لقيت رجلا من الكفار يقاتلني فضرب إحدى

(2/270)


يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله افأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال.
قلت الخوارج ومن يذهب مذاهبهم في التكفير بالكبائر يتأولونه على أنه بمنزلته في الكفر. وهذا تأويل فاسد وإنما وجهه أنه جعله بمنزلته في إباحة الدم لأن الكافر قبل أن يسلم مباح الدم بحق الدين فإذا أسلم فقتله قاتل فإن قاتله مباح الدم بحق القصاص.
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لِمَ قال لا ترايا ناراهما.
قلت إنما أمر لهم بنصف العقل ولم يكمل لهم الدية بعد علمه بإسلامهم لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره فسقط حصة جنايته من الدية.
وأما اعتصامهم بالسجود فإنه لا يمحص الدلالة على قبول الدين لأن ذلك قد يكون منهم في تعظيم السادة والرؤساء فعذروا لوجود الشبه.

(2/271)


وفيه دليل على أنه إذا كان أسيرا في أيديهم فأمكنه الخلاص والانقلاب منهم لم يحل له المقام معهم وإن حلفوه فحلف لهم أن لا يخرج كان الواجب أن يخرج إلاّ أنه إن كان مكرها على اليمين لم تلزمه الكفارة، وإن كان غير مكره كانت عليه الكفارة عن يمينه. وعلى الوجهين جميعا فعليه الاحتيال للخلاص، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
وقوله لا ترايا ناراهما فيه وجوه أحدها معناه لا يستوي حكماهما قاله بعض أهل العلم. وقال بعضهم معناه أن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها.
وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام.
وفيه وجه ثالث ذكره بعض أهل اللغة قال معناه لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله والعرب تقول (ما نار بعيرك أي ما سمته) ومن هذا قولهم (نارها نجارها) يريدون أن ميسمها يدل على كومها وعتقها ومنه قول الشاعر:
حتى سقوا آبالهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار
يريد أنهم يعرفون الكرام منها بسماتها فيقدمونها في السقي على اللئام.

ومن باب التولي من الزحف
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاض الناس جيضة فكنت فيمن جاض فلما فررنا

(2/272)


قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فقلنا ندخل المدينة فنثبت فيها ونذهب فلا يرانا أحد، قال فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا قال فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكَّارون قال فدنونا فقبلنا يده فقال أنا فئة المسلمين.
يقال جاض الرجل إذا حاد عن طريقه أو انصرف عن وجهه إلى جهة أخرى.
وقوله أنتم العكارون، يريد أنتم العائدون إلى القتال والعاطفون عليه، يقال عَكَرت على الشيء إذا عطفت عليه وانصرفت إليه بعد الذهاب عنه.
وأخبرني ابن الزيبقي حدثنا الكديمي عن الأصمعي؛ قال رأيت أعرابيا يفلي ثيابه فيقتل البراغيث ويترك القمل فقلت لم تصنع هذا قال اقتل الفرسان ثم أعكر على الرجَّالة.
وقوله صلى الله عليه وسلم إنا فئة المسلمين يمهد بذلك عذرهم وهو تأويل قوله أو متحيزا إلى فئة.

ومن باب حكم الجاسوس إذا كان مسلما
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو وحدثه حسن بن محمد بن علي أخبره عبيد الله بن أبي رافع وكان كاتباً لعلي بن أبي طالب، قال سمعت علياً يقول بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا هلمي الكتاب فقالت ما عندي من كتاب قلت لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو

(2/273)


من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا حاطب فقال يا رسول الله لا تعجل عليَّ فإني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها وإن قريشا لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن اتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي والله ما كان بي كفر ولا ارتداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقكم فقال عمر رضي الله عنه دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
قلت في هذا الحديث من الفقه إن حكم المتأول في استباحة المحظور عليه خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل.
وفيه أنه إذا تعاطى شيئا من المحظور وادعى أمراً مما يحتمله التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن بخلافه، ألا ترى أن الأمر لما احتمل وأمكن أن يكون كما قال حاطب وأمكن أن يكون كما قاله عمر رضي الله عنه استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الظن في أمره وقبل ما ادعاه في قوله.
وفيه دليل على أن الجاسوس إذا كان مسلما لم يقتل.
واختلفوا فيما يفعل به من العقوبة فقال أصحاب الرأي في المسلم إذا كتب إلى العدو ودله على عورات المسلمين يوجع عقوبة ويطال حبسه.
وقال الأوزاعي إن كان مسلما عاقبه الإمام عقوبة منكلة وغربه إلى بعض الآفاق في وثاق وإن كان ذميا فقد نقض عهده.
وقال مالك لم أسمع فيه شيئا وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال الشافعي إذا كان هذا من الرجل ذي الهيئة بجهالة كما كان من حاطب بجهالة وكان غير متهم

(2/274)


أحببت أن يتجافى عنه وإن كان من غير ذي الهيئة كان للإمام تعزيره.
وفي الحديث من الفقه أيضاً جواز النظر إلى ما ينكشف من النساء لإقامة حد أو إقامة شهادة في إثبات حق إلى ما أشبه ذلك من الأمور.
وفيه دليل على أن من كفر مسلما أو نفقه على سبيل التأويل وكان من أهل الاجتهاد لم تلزمه عقوبة. ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال دعني أضرب عنق هذا المنافق وهو مؤمن قد صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من ذلك ثم لم يعنف عمر فيما قاله. وذلك أن عمر لم يكن منه عدوان في هذا القول على ظاهر حكم الدين إذ كان المنافق هو الذي يظهر نصرة الدين في الظاهر ويبطن نصرة الكفار وكان هذا الصنيع من حاطب شبيها بأفعال المنافقين إلاّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله تعالى قد غفر له ما كان منه من ذلك الصنيع وعفا عنه فزال عنه اسم النفاق والله أعلم.

ومن باب الحكم في الجاسوس المستأمن
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله أن هاشم بن القاسم حدثهم عن عكرمة أخبرني إياس بن سلمة قال حدثني أبي قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن قال فبينا نحن نتضحى وعامتنا مشاة وفينا ضعفة إذ جاء رجل على جمل أحمر فانتزع طلقا من حقو البعير فقيد به جمله، ثم جاء يتغدى مع القوم فلما رأى ضعفهم ورقة ظهرهم خرج يعدو إلى جمله فأطلقه ثم أناخه فقعد عليه ثم خرج يركضه وأتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء هي أمثل ظهر القوم، قال فخرجت أعدو فأدركته ورأس الناقة عند ورك الجمل وكنت عند ورك الناقة ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل

(2/275)


فأنخته فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب رأسه فنذر فجئت براحلته وما عليها أقوده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل الرجل فقالوا سلمة بن الأكوع قال له سلبه أجمع.
قوله نتضحى معناه نتغدى والضحاء ممدود الغداء والطلق سير يقيد به البعير وحقوه مؤخره. وقوله نذر، معناه بان منه وسقط، وفيه إثبات السلب للقاتل وأنه لم يخمسه.

ومن باب الخُيَلاء في الحرب
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حَدَّثنا أبان حدثنا يحيى عن محمد بن إبراهيم عن ابن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك، قال من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة وأما التي بغضها الله فالغيرة في غير ريبة وأن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي قال موسى والفخر.
قلت معنى الاختيال في الصدقة أن يهزه أريحية السخاء فيعطيها طيبة نفسه بها من غير من ولا تصريد. واختيال الحرب أن يتقدم فيها بنشاط نفس وقوة جنان ولا يكبع ولا يجبن.

ومن باب الرجل يستأسر
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب قال أخبرني عمر بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت

(2/276)


فنفروا لهم هذيل قريب من مائة رجل رام؛ فلما أحس بهم عاصم لجؤوا إلى قَرْدَد فقالوا لهم انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا يقتل منكم أحد، فقال عاصم أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة نفر ونزل إليهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها قال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء لأسوة فجرروه فأبى أن يصحبهم فقتلوه فلبث خبيب أسيرا حتى أجمعوا قتله فاستعار موسى يستحد بها فلما أخرجوه ليقتلوه قال لهم خبيب دعوني أركع ركعتين ثم قال والله لولا أن يحسبوا ما بي جزعا لزدت.
القردد رابية مشرفة على وهدة قال الشاعر:
متى ما تُررنا آخر الدهر تلقنا ... بقرقرةٍ ملساء ليست بقَرْدد
وقوله يستحد بها أي يحلق شعر عانته والاستحداد مأخوذ من الحديد.
وفيه من العلم أن المسلم يجالد العدو إذا أزهق ولا يستأسر له ما قدر على الامتناع منه، وإنما استحد خبيب خوفا أن تظهر عورته إذا صلبوه، ثم أنه من السنة فاستعمله متجهزا للموت.

ومن باب في الكمين
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء يحدث قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال فهزمهم الله قال فأنا والله رأيت النساء يسندن

(2/277)


على الجبل فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فأتوهم فصرفت وجوههم وأقبلوا منهزمين.
قوله تخطفنا الطير معناه الهزيمة يقول إن رأيتمونا وقد أسرعنا مولين فأثبتوا أنتم ولا تبرحوا، والعرب تقول فلان ساكن الطير إذا كان ركيناً ثابت الجأش وقد طار طير فلان إذا طاش وخف قال لقيط الإيادي.
هو الجلاء الذي يجتذ أصلكم ... إن طار طيركم يوماً وإن وقعا
وقوله يسندن على الجبل معناه يصعدن فيه يقال سند الرجل في الجبل إذا صعد فيه، والسند ما ارتفع من الأرض، والسناد الطويلة من النوق.

ومن باب الصفوف
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اصطففنا يوم بدر إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم.
قوله أكثبوكم معناه غشوكم وأصله من الكثب وهو القرب يقول إذا دنوا منكم فارموهم ولا ترموهم على بعد.

ومن باب المبارزة
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا إسرائيل، عَن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه، قال تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز فانتدب له شباب من الأنصار، فقال من أنتم فأخبروه فقال لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/278)


قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلف بين عبيدة والوليد ضربتين فأثخن كل واحد منهما صاحبه ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
قلت فيه من الفقه إباحة المبارزة في جهاد الكفار ولا أعلم اختلافا في جوازها إذا أذن الإمام فيها، وإنما اختلفوا فيها إذا لم تكن عن إذن من الإمام فكره سفيان الثوري وأحمد واسحاق أن يفعل ذلك إلاّ بإذن الإمام. وحكي ذلك أيضاً عن الأوزاعي.
وقال مالك والشافعي لا بأس بها كانت بإذن الإمام أو بغير إذنه، وقد روي ذلك أيضاً عن الأوزاعي.
قلت قد جمع هذا الحديث معنى جوازها بإذن الإمام وبغير إذنه، وذلك أن مبارزة حمزة وعلي رضي الله عنهما كانت بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه إذن من النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاريين الذين خرجوا إلى عتبة وشيبة قبل على وحمزة ولا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك.
وفي الحديث من الفقه أيضاً أن معونة المبارز جائزة إذا ضعف أو عجز عن قرنه ألا ترى أن عبيدة لما أثخن أعانه علي وحمزة في قتل الوليد.
واختلفوا في ذلك فرخص فيه الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الأوزاعي لا يعينونه عليه لأن المبارزة إنما تكون هكذا.

ومن باب النهي عن المثلة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن الهياج بن عمران أن عمران بن حصين أبق له غلام فجعل الله عليه

(2/279)


لئن قدر عليه ليقطعن يده فأرسلني لأسأل فأتيت سمرة بن جندب فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة.
قلت المثلة تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أذنه أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك من أعضائه.
قلت وهذا إذا لم يكن الكافر فعل مثل ذلك بالمقتول المسلم فإن مثل بالمقتول جاز أن يمثل به ولذلك قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيدي العرنيين وأرجلهم وسمر أعينهم وكانوا فعلوا ذلك برعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك هذا في القصاص بين المسلمين إذا كان القاتل قطع أعضاء المقتول وعذبه قبل القتل فإنه يعاقب بمثله وقد قال تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .

ومن باب قتل النساء
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا عمر بن المرقع بن صيفي بن رماح حدثني أبي عن جده رماح بن الربيع، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال انظر علام اجتمع هؤلاء فجاء فقال على امرأة قتيل، فقال ما كانت هذه لتقاتل قال وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفا.
قلت فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنها لا تقاتل فإذا قاتلت دل على جواز قتلها.
والعسيف الأجير والتابع؛ واختلفوا في جواز قتله فقال الثوري لا يقتل العسيف وهو التابع. وقال الأوزاعي نحوا منه وقال لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة، قال وكذلك لا يقتل صاحب الصومعة ولا شيخا فانيا ولا صغيرا

(2/280)


قال ويقتل الشاب المريض ويكف عن الأعمى. وقال الشافعي يقتل الفلاحون والشيوخ والأجراء حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية.
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا حجاج حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم.
قلت الشرخ هاهنا جمع شارخ وهو الحديث السن، يقال شارخ وشرخ كما قالوا راكب وركب وصاحب وصحب، يريد بهم الصبيان ومن لم يبلغ مبلغ الرجال. والشيوخ هاهنا المسان، فإذا قيل شرخ الشباب كان معناه أول الشباب قال حسان:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يعاصِ كان جنونا
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلاّ امرأة إنها لعندي تحدث تضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف بها هاتف باسمها أين فلانه. قالت أنا، قلت وما شأنك قال حدثاً أحدثته، قال فانطلق بها فضربت عنقها فما أنسى عجبا منها أنها تضحك ظهرا وبطنا وقد علمت أنها تقتل.
قلت يقال إنها كانت شتمت النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحدث الذي أحدثته وفي ذلك دلالة على وجوب قتل من فعل ذلك. ويحكى عن مالك أنه كان لا يرى لمن سب النبي صلى الله عليه وسلم توبة ويقبل توبة من ذكر الله سبحانه بسب أو شتم ويكف عنه.

(2/281)


وأخبرني بعض أهل العلم من أهل الأندلس أن هذه القضية جارية فيما بينهم وإن أمراءهم والقضاة يحكمون بها على من فعل ذلك، وربما بقي أسراء الروم في أيديهم فيطول مقامهم بينهم فيطلبون الخلاص بالموت فيجاهرون بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فعند ذلك لا ينهون أن يقتلوا، والغالب على بلاد الأندلس ونواحي المغرب رأي مالك.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هم منهم.
يريد أنهم منهم في حكم الدين وإباحة الدم، وفيه بيان أن قتلهم في البيات وفي الحرب إذا لم يتميزوا من آبائهم وإذا لم يتوصلوا إلى الكبار إلاّ بالإتيان عليهم جائز. وأن النهي عن قتلهم منصرف إلى حال التمييز والتفرق فإن الإبقاء عليهم إنما هو من أجل أنهم فيء للمسلمين لا من جهة أنهم على حكم الإسلام.

ومن باب كراهية تحريق العدو بالنار
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عَن أبي الزناد عن محمد بن حمزة الأسلمي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية قال فخرجت فيها، فقال إن وجدتم فلانا ًفأحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت إليه، قال إن وجدتموه فاقتلوه ولا تحرقوه فانه لا يعذب في النار إلاّ رب النار.
قلت هذا إنما يكره إذا كان الكافر أسيرا قد ظفر به وحصل في الكف وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرم النار على الكفار في الحرب وقال لأسامة اغز على أُبنا صباحا وحرق. ورخص سفيان الثوري والشافعي في أن يرمي أهل

(2/282)


الحصون بالنيران إلاّ أنه يستحب أن لا يرموا بالنار ما داموا يطاقون إلاّ أن يخافوا من ناحيتهم الغلبة فيجوز حينئذ أن يقذفوا بالنار.
قال أبو داود: حدثنا أبو صالح حدثنا محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري، عَن أبي إسحاق الشيباني عن ابن سعد قال غير أبي صالح الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش قلت أو تعرش فقال النبي صلى الله عليه وسلم من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال من حرق هذه قلنا نحن، قال أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاّ رب النار.
الحمرة طائر قوله تفرش أو تعرش معناه ترفرف. والتفريش مأخوذ من فرش الجناح وبسطه والتعريش أن يرتفع فوقهما ويظلل عليهما، ومنه أخذ العريش يقال عرشت عريشا أعرُشُه واعرَشه.
وفيه دلالة على أن تحريق بيوت الزنابير مكروه. وأما النمل فالعذر فيه أقل وذلك أن ضرره قد يمكن أن يزال من غير إحراق. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن نبيا من الأنبياء نزل على قرية نمل فقرصته نملة فأمر بالنمل فأحرقت فأوحي إليه إلاّ نملة واحدة.
قلت والنمل على ضربين أحدهما مؤذ ضرار فدفع عاديته جائز. والضرب الآخر لا ضرر فيه وهو الطوال الأرجل لا يجوز قتله.

(2/283)


ومن باب الرجل يكري دابته
على النصف أو بالسهم أو ببعض غنيمة
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدمشقي أبو النَّضر حدثنا محمد بن شعيب أخبرني أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عمرو بن عبد الله أنه حدثه عن واثلة بن الأسقع قال نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فخرجت في أهلي. فأقبلت وقد خرج أول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفقت في المدينة أنادي إلاّ من يحمل رجلا له سهمه، قال فإذا شيخ من الأنصار قال لنا سهمه على أن نحمله عقبة وطعامه معنا قلت نعم قال فسر على بركة الله قال فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا فأصابني قلائص فسقتهن حتى أتيته فخرج فقعد على حقيبة من حقائب إبله ثم قال سقهن مدبرات، ثم قال سقهن معبلات فقال ما أرى قلائصك إلاّ كراماً، فقلت إنما هي غنيمتك التي شرطت لك، قال خذ قلائصك ابن أخي فغير سهمك أردنا.
قلت اختلف الناس في هذا فقال أحمد بن حنبل فيمن يعطي فرسه على النصف مما يغنمه في غزاته أرجو أن لا يكون به بأس.
وقال الأوزاعي ما أراه إلاّ جائزا وكان مالك بن أنس يكرهه. وفي مذهب الشافعي لا يجوز أن يعطيه فرسا على سهم من الغنيمة فإن فعل فله أجر مثل ركوبه.
وقوله فغير سهمك أردنا يشبه أن يكون معناه إني لم أرد سهمك من الغنم إنما أردت مشاركتك في الأجر والثواب والله أعلم.

ومن باب الأسير يوثق
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا

(2/284)


عبد الوارث حدثنا محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن مسلم بن عبد الله عن جندب بن مكيث قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن غالب الليثي في سرية فكنت فيها وأمرهم أن يشنوا الغارة على بني الملوح بالكديد فخرجنا حتى إذا كنا بالكديد لقينا الحارث بن البرصاء الليثي فأخذناه، فقال إنما جئت أريد الإسلام وإنما خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا إن تك مسلما لم يضرك رباطنا يوما وليلة وإن تك غير ذلك نستوثق منك فشددناه وثاقا.
قوله فشنوا الغارة معناه بثوها من كل وجه؛ وأصل الشن الصب يقال شننت الماءإذا صببته صبا متفرقا، والشنان ما تفرق من الماء.
وفيه دلالة على جواز الاستيثاق من الأسير الكافر بالرباط والقيد والغل وما يدخل في معناها إن خيف انفلاته ولم يؤمن شره إن ترك مطلقا.

ومن باب الأسير ينال بضرب
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه فانطلق إلى بدر فأذاهم بروايا قريش فيها عبد أسود لبني الحجاج فأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه اين أبو سفيان فيقول والله ما لي بشيء من أمره علم ولكن هذه قريش قد جاءت فيهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف، فإذا قال لهم ذلك ضربوه فيقول دعوني أخبركم فإذا تركوه قال والله ما لي بأبي سفيان من علم ولكن هذه قريش قد أقبلت فيهم أبوجهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف قد أقبلوا والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يسمع ذلك فلما انصرف قال والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إذا كذبكم هذه قريش قد أقبلت لتمنع

(2/285)


أبا سفيان، قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مصرع فلان غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان غدا ووضع يده على الأرض، فقال والذي نفسي بيده ما جاوز أحد منهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأرجلهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر.
السحب الجر العنيف والقليب البئر التي لم تطو وإنما هي حفيرة قلب ترابها فسميت قليبا، والروايا الإبل التي يستقى عليها واحدتها راوية وأصل الراوية المزادة فقيل للبعير راوية لحملها المزادة.
وفيه دليل على جواز ضرب الأسير الكاقر إذا كان في ضربه طائل.

ومن باب الأسير يكره على الإسلام
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن أبي عدي عن شعبة، عَن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال كانت المرأة تكون مقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] الآية.
قلت المقلات هي المرأة التي لا يعيش لها ولد وأصله من القلت وهو الهلاك قال الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الطير مقلات نزور
وفيه دليل على أن من انتقل من كفر وشرك إلى يهودية أو نصرانية قبل مجيء دين الإسلام فإنه يقر على ما كان انتقل إليه وكان سبيله أهل الكتاب في أخذ الجزية منه وجواز مناكحته واستباحة ذبيحته. فأما من انتقل عن شرك

(2/286)


إلى يهودية أو نصرانية بعد وقوع نسخ اليهودية وتبديل ملة النصرانية فإنه لا يقر على ذلك، وأما قوله سبحانه {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] فإن حكم الآية مقصور على ما نزلت فيه من قصة اليهود، فأما إكراه الكفار على دين الحق فواجب ولهذا قاتلناهم على أن يسلموا أو يؤدوا الجزية ويرضوا بحكم الدين عليهم.

ومن باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن المفضل حدثنا إسباط بن نصر قال زعم السدي عن مصعب بن سعد عن سعد، قال لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله الناس إلاّ أربعة أنفس وامرأتين فذكر منهم ابن أبي السرح قال وكان قد اختبأ عند عثمان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى وقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى. فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه، فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك أفلا أومأت إلينا بعينك، قال أنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين.
قلت معنى خائنة الأعين أن يضمر بقلبه غير ما يظهره للناس فإذا كف بلسانه وأومأ بعينه إلى خلاف ذلك فقد خان. وكان ظهور تلك الخيانة من قبل عينيه فسميت خائنة الأعين، ومعنى الرشد هاهنا الفطنة لصواب الحكم في قتله.
وفيه دليل على أن ظاهر السكوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء يراه يصنع بحضرته يحل محل الرضا به والتقرير له.
قلت عبد الله بن أبي السرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فارتد عن الدين فلذلك

(2/287)


غلّظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما غلظ على غيره من المشركين.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه.
قلت في كون المغفر على رأسه دليل على جواز ترك الإحرام للخائف على نفسه إذا دخل مكة وعلى أن صاحب الحاجة إذا أراد دخول الحرم لم يلزمه الإحرام إذا لم يرد حجا أوعمرة، وكان ابن خطل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه مع رجل من الأنصار وأمر الأنصاري عليه، فلما كان ببعص الطريق وثب على الأنصاري فقتله وذهب بماله فلم ينفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم له الأمان وقتله بحق ما جناه في الإسلام.
وفيه دليل على أن الحرم لا يعصم من إقامة حكم واجب ولا يؤخره عن وقته.

ومن باب المن على الأسير بغير فداء
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما فأعتقهم فأنزل الله تعالى {وهوالذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} [الفتح: 24] إلى آخر الآية.
قوله سلما، يَعني اسراء، يقال رجل سلَم أي أسير وقوم سلم الواحد والجماعة سواء قال الشاعر:
فاتقين مروان في القوم السلَم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر

(2/288)


عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسارى بدر لو كان مطعم بن عدي حيا ثم حكمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له.
النتنى جمع النتن وهو المنتن، يقال نتن الشيء ينتن فهو نتن ويجمع على النتنى كما يقال زمن الرجل يزمن فهو زمن ويجمع على الزمنى.
وفيه دليل على جواز إطلاق الأسير والمن عليه من غير فداء.
قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشى حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة عن أبى العبس، عَن أبي الشعثاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.
قال أبو داود: حدثنا علي بن الحسين الرقي حدثني عبد الله بن جعفر الرقي أخبرني عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي مُعَيط قال من للصبية قال النار.
قلت في هذه الأحاديث الثلاثة حديث جبير بن مطعم وحديث ابن عباس وحديث عبد الله بن مسعود دليل على أن الإمام مخير في الأسارى البالغين إن شاء من عليهم وأطلقهم من غير فداء وإن شاء فاداهم بمال معلوم وإن شاء قتلهم أي ذلك كان أصلح ومن أمر الدين وإعزاز الإسلام أوقع. وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد وهو قول الأوزاعي وسفيان الثوري.

(2/289)


وقال أصحاب الرأي إن شاء قتلهم وإن شاء فاداهم وإن شاء استرقهم ولا يمن عليهم فيطلقهم بغير عوض فيكون فيه تقوية للكفار وزيادة في عددهم.
وزعم بعضهم أن المن كان خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره.
قلت التخصيص في أحكام الشريعة لا يكون إلاّ بدليل والنبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم في زمانه كان ذلك سنة وشريعة في سائر الأزمان وقد قال سبحانه {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء} [محمد: 4] الآية. وهذا خطاب لجماعة الأمة كلهم ليس فيه تخصيص للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان فعله امتثالا للآية، وأما الذين اعتلوا به من تقوية الكفر فإن الإمام إذا رأى أن يعطي كافرا عطية يستميله بها إلى الإسلام كان ذلك جائزا وإن كان في ذلك تقوية لهم فكذلك هذا. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الكفار غنما بين جبلين. حدثناه ابن الأعرابي حدثنا عبد الرحمن بن منصور الحارثي حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد العذري عن مالك بن أنس، عَن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، قال جاء رجل من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل شيئا بين جبلين فكتب له بها فأسلم ثم أتى قومه فقال لهم أسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة.
وفي أخذه في الفداء المال دليل على فساد قول من يقول أنه يفادي بالرجال ولا يفادي بالمال ويحكى نحو هذا القول عن مالك بن أنس.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة سبي هوازن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا عليهم نساءهم وأبنائهم فمن مسَّك بشيء من هذا الفيء فإن له علينا به ست

(2/290)


فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا ثم دنا من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال يا أيها الناس أنه ليس لي من هذا الفيء ولا هذا ورفع أصبعيه إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط فقام رجل في يده كُبّة من شعر فقال أخذت هذه لأصلح بها برذعة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك فقال أما إذا بلغت ما أرى فلا ارب لي فيها ونبذها.
قوله من مسَّك يريد أمسك، مسّكت بالشيء وأمسكته بمعنى واحد وفيه إضمار وهو الرد كأنه قال من أصاب شيئا من هذا الفيء فأمسكه ثم رده وقوله من أول شيء يفيئه الله علينا فإنه يريد الخمس الذي جعله الله له من الفيء وكان الخمس من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق منه على أهله ويجعل الباقي في مصالح الدين وسد حاجة المسلمين، وذلك معنى قوله إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم.
وقد استدل بعض أهل العلم بهذا على أن سهم النبي صلى الله عليه وسلم ساقط بعد موته ومردود على شركائه المذكورين معه في الآية، وكذلك سهم ذي القربى وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال بعضهم هو للخليفة بعده يصرفه فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه فيه أيام حياته.
وقال الشافعي هو موضوع في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر وإعداد كراع وسلاح وما دعا إلى مصلحة فيه.
وفي قوله ادوا الخياط والمخيط دليل على أن قليل ما يغنم وكثيره مقسوم بين من شهد الوقعة ليس لأحد أن يستبد بشيء منه وإن قل إلاّ الطعام الذي قد وردت فيه الرخصة وهذا قول الشافعي.

(2/291)


وقال مالك إذا كان شيئا خفيفا فلا أرى به بأسا أن يرتفق به آخذه دون أصحابه.

ومن باب التفريق بين السبي
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن الحكم عن ميمون بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فرد البيع. قال أبو داود ميمون لم يدرك علياً.
قلت لم يختلف أهل العلم في أن التفريق بين الولد الصغير وبين والدته غير جائز، إلاّ أنهم اختلفوا في الحد بين الصغير الذي لا يجوز معه التفريق وبين الكبير الذي يجوز معه. فقال أصحاب الرأي الحد في ذلك الاحتلام.
وقال الشافعي إذا بلغ سبعا أو ثمانياً. وقال الأوزاعي إذا استغنى عن أمه فقد خرج من الصغر. وقال مالك إذا ثغر. وقال أحمد لا يفرق بينهما بوجه وإن كبر الولد واحتلم.
قلت ويشبه أن يكون المعنى في التفريق عند أحمد قطيعة الرحم. وصلة الرحم واجبة مع الصغر والكبر. ولا يجوز عند أصحاب الرأي التفريق بين الأخوين إذا كان أحدهما صغيرا والاخر كبيرا فإن كانا صغيرين جاز.
وأما الشافعي فإنه يرى التفريق بين المحارم في البيع ويجعل المنع في ذلك مقصورا على الولد. ولا يختلف مذاهب العلماء في كراهة التفريق بين الجارية وولدها الصغير سواء كادت مسبية من بلاد الكفر أو كان الولد من زنا أو كان زوّجها أهلها في الإسلام فجاءت بولد ولا أعلمهم يختلفون في أن التفرقة بينهما في العتق جائز وذلك أن العتق لا يمنع من الحضانة كما يمنع منها البيع. والرهن

(2/292)


في ذلك بمعنى البيع.
واختلفوا في البيع إذا وقع على التفريق فقال أبو حنيفة هو ماض وإن كرهناه وغالب مذهب الشافعي أن البيع مردود. وقال أبو يوسف البيع مردود.
واحتجوا بخبر علي رضي الله عنه هذا إلاّ أن إسناده غير متصل كما ذكره أبو داود.

ومن باب الرخصة في المدركات يفرق بينهن
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي قال خرجنا مع أبي بكر رضي الله عنه وأمّره علينا رسول الله فغزونا فزارة فشننا الغارة ثم نظرت إلى عُنق من الناس فيه الذرية والنساء فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل فقاموا فجئت بهم إلى أبي بكر رضي الله عنه فيهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم معها ابنة لها من أحسن العرب فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها فقدمت المدينة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي يا سلمة هب لي المرأة، فقلت والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً فسكت حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك فقلت يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوباً وهي لك فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى ففداهم بتلك المرأة.
قوله عنق من الناس يريد جماعة منهم ومن هذا قوله تعالى {فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4] أي جماعاتهم ولو كان المراد به الرقاب لقيل خاضعات والله أعلم.
والقشع الجلد وفيه لغتان، يقال قَشْع وقِشْع ومنه قولك قشعت الشيء إذا أخذت قشره والقشاعة ما أخذته من جلدة وجه الأرض. وفي قوله نفلني أبو بكر ابنتها دليل على أن النفل قبل الخمس.

(2/293)


وفيه دليل على جواز التفريق بين الأم وولدها الكبير خلاف ما ذهب إليه أحمد بن حنبل. وفي قوله ما كشفت لها ثوباً وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم وتركه الإنكار عليه دليل على أنهم كانوا يستبيحون إذ ذاك وطء الوثنيات وذلك قبل نزوله من الحديبية ولولا إقامة هذه الجارية على كفرها لما ردت إلى أهل مكة وهم كفار إذ ذاك.

ومن باب المال يصيبه العدو من المسلمين
ثم يدركه صاحبه في الغنيمة
قال أبو داود: حدثنا صالح بن سهيل حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلاماً لابن عمر ابق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم.
قلت في هذا دليل على أن المشركين لا يحرزون على مسلم مالاً بوجه. وإن المسلمين إذا استنقذوا من أيديهم شيئا كان للمسلم وكان عليهم رده عليه ولا يغنمونه.
واختلفوا في هذا فقال الشافعي صاحب الشيء أحق به قسم أو لم يقسم وقال الأوزاعي والثوري إن أدركه صاحبه قبل أن يقسم فهو له وإن لم يدركه حتى قسم كان أحق به، وكذلك قال أبو حنيفة إلاّ أنه فرق بين المال يغلب عليه العدو وبين العبد يأبق فيأسره العدو فقال في المال مثل قول الأوزاعي، وقال في العبد مثل قول الشافعي.

ومن باب عبيد المشركين
يلحقون بالمسلمين فيسلمون
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد، يَعني ابن سلمة

(2/294)


عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم قالوا يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هرباً من الرق فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال هم عتقاء الله.
قلت هذا أصل في أن من خرج من دار الكفر مسلماً وليس لأحد عليه يد قدرة فأنه حر وإنما يعتبر أمره بوقت الخروج منها إلى دار الإسلام. فأما الحالة المتقدمة فلا عبرة بها وحكمها مهدوم بما تجدد له من الملكة في الإسلام. فلو أن رجلا من الكفار خرج إلينا وفي يده عبد له فأسلما جميعا قبل أن يقدر عليهما كان الحر منهما حراً والعبد عبداً وملك السيد مستقر عليه كما كان، فلو أن العبد غلب على سيده في دار الحرب ثم خرجا إلينا مسلمين ويد العبد ثابتة على السيد كان السيد مملوكا والمملوك مالكا وعلى هذا القياس.

ومن باب إباحة الطعام في أرض العدو
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن جيشاً غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يؤخذ منهم الخمس.
قلت لا أعلم خلافاً بين الفقهاء في أن الطعام لا يخمس في جملة ما يخمس من الغنيمة وإن لواجده أكله ما دام الطعام في حد القلة وعلى قدر الحاجة وما دام صاحبه مقيما في دار الحرب وهو مخصوص من عموم الآية ببيان النبي صلى الله عليه وسلم

(2/295)


كما خص منها السلب وسهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي ورخص أكثر العلماء في علف الدواب ورأوه في معنى الطعلم للحاجة إليه. وقال الشافعي فإن أكل فوق الحاجة أدى ثمنه في المغنم، وكذلك إن شرب شيئا من الأشربة والأدوية التي لا تجرى مجرى الأقوات أو أطعم صقوره أو بزاته لحماً منه أدى قيمته في المغنم، وإنما يحل له قدر الحاجة حسب وليست يده على الطعام في دار الحرب يد ملك حقيقة وإنما له يد الارتفاق والانتفاع به قدر الحاجة وهذا على أحد قولي الشافعي.

ومن باب النهي عن النُهْبى
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير، يَعني ابن حازم عن يعلى بن حكيم، عَن أبي لبيد، قال كنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها فقام خطيباً فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبي فردوا ما أخذوه فقسمه بينهم.
قلت النهبي اسم مبني على فعلى من النهب كالرغبى من الرغبة، وإنما نهي عن النهب، لأن الناهب إنما يأخذ ما يأخذه على قدر قوته لا على قدر استحقاقه فيؤدي ذلك إلى أن يأخذ بعضهم فوق حظه وأن يبخس بعضهم حقه وإنما لهم سهام معلومة للفرس سهمان وللراجل سهم، فإذا انتهبوا الغنيمة بطلت القسمة وعدمت التسوية.

ومن باب حمل الطعام من أرض العدو
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن ابن خُرشف الأزدي حدثه عن القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى

(2/296)


إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مُمْلأة.
واختلفوا فيما يخرج به المرء من الطعام من دار الحرب فقال سفيان يريد ما أخذ منه إلى الإمام، وكذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، وقال في موضع آخر. له أن يحمله لأنه إذا ملكه في دار الحرب فقد صار له فلا معنى لمنعه من الخروج به، وإلى هذا ذهب الأوزاعي إلاّ أنه قال لا يجوز له أن يبيعه إنما له الأكل فقط. فإن باعه وضع ثمنه في مغانم المسلمين.
وكان مالك بن أنس يرخص في القليل منه كاللحم والخبز ونحوهما. قال لا بأس أن يأكل في أهله وكذلك قال أحمد.

ومن باب بيع الطعام إذا فضل
عن الناس في أرض العدو
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن المبارك عن يحيى بن حمزة قال حدثني أبو عبد العزيز شيخ من أهل الأردن عن عبادة بن نُسيّ عن عبد الرحمن بن غنم قال رابطنا مدينة قنسرين مع شرحبيل بن السمط فلما فتحها أصاب فيها غنماً وبقراً فقسم فينا طائفة منها وجعل بقيتها في المغنم. فلقيت معاذ بن جبل فحدثته فقال معاذ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأصبنا فيها غنماً فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم.
قوله قسم فينا طائفة أي قدر الحاجة للطعام وقسم البقية بينهم على السهام. والأصل أن الغنيمة مخموسة ثم الباقي بعد ذلك مقسوم، إلاّ أن الضرورة لما دعت إلى إباحة الطعام للجيش والعلف لدوابهم صار قدر الكفاية منها مستثنى ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ومازاد على ذلك مردود إلى المغنم لا يجوز بيعه لآخذه والاستيثار بثمنه.

(2/297)


ومن باب الرجل ينتفع من الغنيمة بشيء
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور وعثمان بن أبي شيبة المعنى وأنا لحديثه أتقن قالا: حَدَّثنا أبومعاوية عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي مرزوق مولى تجيب عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه.
قلت أما في حال الضرورة وقيام الحرب فلا أعلم بين أهل العلم اختلافاً في جواز استعمال سلاح العدو ودوابهم، فأما إذا انقضت الحرب فإن الواجب ردها في المغنم. فأما الثياب والخُرثيّ والأدوات فلا يجوز أن يستعمل شيء منها إلاّ أن يقول قائل الثياب أنه إذا احتاج إلى شيء منها حاجة ضرورة كان له أن يستعمله مثل أن يشتد البرد فيستدفي بثوب ويتقوى به على المقام في بلاد العدو مرصداً لقتالهم، وسئل الأوزاعي عن ذلك فقال لا يلبس الثوب للبرد إلاّ أن يخاف الموت.

ومن باب الرخصة في السلاح
يقاتل به في المعركة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا إبراهيم بن يوسف قال أبو داود وهو إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي عن أبيه، عَن أبي إسحاق قال حدثني أبو عبيدة عن أبيه قال مررت فإذا أبوجهل صريع قد ضربت رجله فقلت يا عدو الله يا أبا جهل قد أخزى الله الأخِر قال ولا أهابه عند ذلك فقال أبعد

(2/298)


من رجل قتله قومه فضربته بسيف غير طائف فلم يغن شيئا حتى سقط سيفه من يده فضربته حتى برد.
قوله أبعد من رجل هكذا رواه أبو داود وهو غلط إنما هو أعمد من رجل بالميم بعد العين وهي كلمة للعرب معناها كأنه يقول هل زاد على رجل قتله قومه يهون على نفسه ما حل به من الهلاك حكاها أبو عبيد، عَن أبي عبيدة معمر بن المثنى وأنشد لابن ميّادة:
وأعمد من قوم كفاهم أخوهم ... صِدام الأعادي حين قلت ينوبها
يقول هل زادنا على أن كفانا إخواننا. وقوله برد يريد مات واصل الكلمة من الثبوت يريد سكون الموت وعدم حركة الحياة، ومن ذلك قولهم برد لي على فلان حق أي ثبت. وقوله غير طائل أي غير ماض، وأصل الطائل النفع والعائدة يقال أتيت فلاناً فلم أر عنده طائلا. وفيه أنه قد استعمل سلاحه في قتله وانتفع به قبل القسم.

ومن باب عقوبة الغال
قال أبو داود: حدثنا النفيلي وسعيد بن منصور قالا: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة قال دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه؛ قال فوجدنا في متاعه مصحفاً فسأل سالما عنه فقال بعه وتصدق بثمنه.
قلت أما تأديبه عقوبة في نفسه على سوء فعله فلا أعلم بين أهل العلم فيه خلافا وأما عقوبته في ماله فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال الحسن البصري يحرق

(2/299)


من ماله إلاّ أن يكون حيوانا أو مصحفا وقال الأوزاعي يحرق متاعه وكذلك قال أحمد وإسحاق قالوا ولا يحرق ما غل لأنه حق الغانمين يرد عليهم فإن استهلكه غرم قيمته.
وقال الأوزاعي يحرق متاعه الذي غزا به وسرجه وأكافه ولا يحرق دابته ولا نفقته إن كانت معه ولا سلاحه ولا ثيابه التي عليه.
وقال الشافعي لا يحرق رحله ولا يعاقب الرجل في ماله إنما يعاقب في بدنه جعل الله الحدود على الأبدان لا على الأموال، وإلى هذا ذهب مالك ولا أراه إلاّ قول أصحاب الرأي، ويشبه أن يكون الحديث عندهم معناه الزجر والوعيد لا الإيجاب والله أعلم.

ومن باب السلب يعطي القاتل
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح، عَن أبي محمد مولى أبي قتادة، عَن أبي قتادة أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حنين قال فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، قال فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه فأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أرسلني فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له ما بال الناس، قال أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه، قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال الثانية من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك يا أبا قتادة

(2/300)


فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من
القوم صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه، فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذاً يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فأعطه إياه، قال أبو قتادة فأعطانيه فبعت الدرع فابتعت به مَخْرِفاً في بني سلمة وأنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
قلت حبل العاتق وصلة ما بين العنق والكاهل. وقوله لاها الله إذاً هكذا يروى والصواب لا هآ الله ذا بغير ألف قبل الذال، ومعناه في كلامهم لا والله يجعلون الهاء مكان الواو ومعناه لا والله لا يكون ذا. والمخرف بفتح الميم البستان يريد حائط نخل منه الثمر، فأما المخرف بكسر الميم فالوعاء الذي يخترف فيه الثمر.
وقوله تأثلته معناه تملكته فجعلته أصل مال واثلة كل شيء أصله ويقال تأثل ملك فلان إذا كثر.
وفيه من الفقه أن السلب لا يخمس وأنه يجعل للقاتل قبل أن يقسم الغنيمة وسواء كان الإمام قاله ونادى به قبل الوقعة أو لم يفعل ذلك وسواء بارز القاتل المقتول أو لم يبارزه لأن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم شرع كقوله للفارس سهمان وللراجل سهم، فسواء قاله الإمام يوم الحرب أو لم يقله فإن الحكم به ماض والعمل به واجب.
وقد اختلف الناس في السلب فقال قوم السلب للقاتل سواء قتل القتيل مقبلا أو مدبراً بارزه أو لم يبارزه نادى به الإمام أو لم يناد كانت الحرب قائمة أو لا وعلى أي جهة قتل فالسلب لقاتله على ظاهر الحديث وهو قول جماعة

(2/301)


من أصحاب الحديث وإليه ذهب أبو ثور.
وقال الشافعي إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل والحرب قائمة والمشرك مقبل غير مدبر لأنه عطية أعطاها إياه لإبلائه في الحرب. فأما من أجهز على جريح فلا معنى لتخصيصه بالعطاء من غير إبلاء كان منه وسواء عنده بارز أو لم يبارز نادى الإمام به أو لم يناد.
وقال أحمد إنما يعطى السلب من بارز فقتل قِرنه دون من لم يبارز.
وقال مالك لا يكون السلب له إلاّ بإذن الإمام ولا يكون ذلك من الإمام إلاّ على وجه الاجتهاد.
وعن أبي حنيفة أنه قال إذا قتل الرجل وأخذ سلبه فإنه لا ينبغي للإمام أن ينفله إياه لأنه صار في الغنيمة. وعن يعقوب أنه قال إذا قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فله سلبه فهو جائز وهذا هو النفل. فأن إذا لم ينفله الإمام فلا نفل.
واختلفوا فيما يستحقه القاتل من السلب فقال الأوزاعي له فرسه الذي قاتل عليه وسلاحه وسرجه ومنطقته وخاتمه وما كان في سرجه وسلاحه من حلية ولا يكون له الهميان فإن كان مع العلج دراهم أو دنانير ليس مما يتزين به لحربه فلا شيء له من ذلك وهومغنم للجيش.
وقال الشافعي للقاتل كل ثوب عليه وكل سلاح ومنطقة وفرسه الذي هوراكبه أوممسكه، فأما التاج والاسوار من الذهب والفضة وما ليس من آلة الحرب فقد علق القول فيها، وقال إن ذهب ذاهب إلى أنها من سلبه كان مذهباً وإن ذهب إلى خلافه كان وجهاً.

(2/302)


وقال أحمد بن حنبل في المنطقة فيها الذهب والفضة هي من السلب وقال في الفرس ليس من سلبه، وسئل عن السيف فقال لا أدري وقيل للأوزاعي يسلبون حتى يتركوا عراة فقال ابعد الله عورتهم. وكره الثوري أن يتركوا عراة.

ومن باب الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مَدَديّ من أهل اليمن ليس معه غير سيفه فنحر رجل من المسلمين جزورا فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذم كهيئة الدرق ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يفري بالمسلمين فقعد له المدديّ خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ السلب قال عوف فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، قال بلى ولكني استكثرته قلت لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليه، قال عوف فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد ما حملك على ما صنعت قال يا رسول الله استكثرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد رد عليه ما أخذت منه، قال عوف فقلت دونك يا خالد ألم اف لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك، قال فأخبرته فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركون لي امرائي لكم ِصفوة أمرهم وعليهم كدره.

(2/303)


قوله يفري بالمسلمين معناه شدة النكاية فيهم، يقال فلان يفري الفري إذا كان يبالغ في الأمر، وأصل الفري القطع. وقوله لأعرفنكها يريد لأجازينك بها حتى تعرف صنيعك، قال الفراء العرب تقول للرجل إذا أساء إليه رجل لأعرفن لك عن هذا أي لأجازينك عليه، تقول هذا لمن تتوعده قد علمت ما علمت وعرفت ما صنعت، ومعناه سأجازيك عليه لا أنك تقصد إلى أن تعرفه أنك قد علمت فقط، ومنه قول الله عز وجل {عرف بعضه واعرض عن بعض} [التحريم: 3] قراءة الكسائي بالتخفيف. وقد روي ذلك أيضاً عن عاصم في إحدى الروايتين، قال ومعنى عرف جازى قال ومثله قوله {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} [البقرة: 197] وتأويله يعلمه الله فيجازي عليه.
وفي الحديث من الفقه أن الفرس من السلب؛ وأن السلب ما كان قليلا أو كثيرا فإنه للقاتل لا يخمس، ألا ترى أنه أمر خالدا برده عليه مع استكثاره إياه، وإنما كان رده إلى خالد بعد الأمر الأول بإعطائه القاتل نوعا من التكبر على معروف وردعاً له وزجرا لئلا يتجرأ الناس على الأئمة ولئلا يتسرعوا إلى الوقيعة فيهم، وكان خالد مجتهداً في صنيعه ذلك إذ كان قد استكثر السلب فأمضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهاده لما رأى في ذلك من المصلحة العامة بعد أن كان خطأه في رأيه الأول والأمر الخاص مغمور بالعام واليسير من الضرر محتمل للكثير من النفع والصلاح، ويشبه أن يكون النبي قد عوض المددي من الخمس الذي هوله وترضى خالدا بالنصح عنه وتسليم الحكم له في السلب.
وفيه دليل على أن نسخ الشيء قبل الفعل جائز، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإمساكه قبل أن يرده فكان في ذاك نسخ لحكمه الأول.

(2/304)


والصفوة مكسورة الصاد خلاصة الشيء وما صفا منه. إذا أثبت الهاء قلت صفوة بكسر الصاد وإذا حذفتها قلت صفو بفتحها.

ومن باب من جاء بعد الغنيمة لا سهم له
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري أن عنبسة بن سعيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يحدث سعيد بن العاص أن رسول الله بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قِبل نجد فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بخيبر بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف؛ فقال أبان أقسم لنا يا رسول الله قال أبوهريرة فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله فقال أبان أنت بها يا وَبْر تحدر علينا من رأس ضال فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجلس يا أبان ولم يقسم لهم.
قوله أنت بها فيه اختصار واضمار ومعناه أنت المتكلم بهذه الكلمة. وكان ابن عمر يرمي فإذا أصاب الخصل قال أنا بها أي أنا الفائز بالإصابة، والوبر دويبة في قد السنور أو نحوه، وضال يقال أنه جبل أو موضع يريد بهذا الكلام تصغير شأنه وتوهين أمره.
وفيه من الفقه أن الغنيمة لمن شهد الوقعة دون من لحقهم بعد إحرازها.
وقال أبو حنيفة من لحق الجيش بعد أخذ الغنيمة قبل قسمها في دار الحرب فهو شريك الغانمين. وقال الشافعي الغنيمة لمن حضر الوقعة أو كان ردأً لهم فأما من لم يحضرها فلا شيء له منها وهوقول مالك وأحمد. وكان الشافعي يقول إن مات قبل القتال فلا شيء له ولا لورثته، وإن مات بعد القتال وقبل القسم

(2/305)


كان سهمه لورثته. وكان الأوزاعي يقول إذا أدرب قاصداً في سبيل الله أسهم له شهد القتال أو لم يشهد. وقوله أدرب يريد دخل الدرب.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا يزيد، عَن أبي بردة، عَن أبي موسى قال قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال فأعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلاّ لمن شهد معه إلاّ أصحاب سفينتنا جعفر وأصحابه أسهم له معهم.
قلت يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس الذي هو حقه دون حقوق من شهد الوقعة وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا موسى وأصحابه بإذن أهل الحديبية ولم يتخلف عن خيبر أحد من أهل الحديبية.
قال أبو داود: حدثنا محبوب بن موسى الأنطاكي أبو صالح حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن كليب بن وائل عن هانىء بن قيس عن حبيب بن أبي مليكة عن ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، يَعني يوم بدر فقال إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره.
قلت هذا خاص لعثمان رضي الله عنه لأنه كان ممرض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهومعنى قوله حاجة الله وحاجة رسوله يريد بذلك حاجة عثمان في حق الله وحق رسوله وهذا كقوله سبحانه {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] وإنما هو رسول الله إليهم، ومن احتج بهذا في وجوب القسم لمن لحق الجيش قبل القسم فهو غير مصيب وذلك أن عثمان رضي الله عنه كان بالمدينة وهذا القائل لا يقسم لمن كان في المصر فلا موضع لاستدلاله فيه.

(2/306)


ومن باب المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر قال كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر.
المائح هو الذي ينزل إلى أسفل البئر فيملأ الدلو ويرفعها إلى الماتح وهو الذي ينزع الدلو.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا زيد بن الحباب حدثنا رافع بن سلمة بن زياد حدثني حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادس ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال قمن به. حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال فقلت لها يا جدة وما كان ذلك قالت تمراً.
قلت قد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النساء والعبيد والصبيان لا يسهم لهم. وإنما يرضخ لهم، إلاّ أن الأوزاعي قال يسهم لهن وأحسبه ذهب إلى هذا الحديث واسناده ضعيف لا تقوم الحجة بمثله، وقد قيل أيضاً إن المرأة إذا كانت تقاتل أسهم لها، وكذلك المراهق إذا قوي على القتال أسهم له.
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يرضخ للنساء من الغنيمة، وإنما يرضخ لهن من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في هذا الحديث أنها قالت أسهم لنا تمرا والتمر طعام وليس الطعام كسائر الأموال.
وقال مالك بن أنس لا يسهم للنساء ولا يرضخ لهن شيئا.

(2/307)


ومن باب سهمان الخيل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه.
قلت قوله سهما له اللام في هذه الإضافة لام التمليك. وقوله وسهمين لفرسه عطف على الكلام الأول، إلاّ أن اللام فيه لام التسبيب. وتحرير الكلام أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لأجل فرسه أي لغنائه في الحرب ولما يلزمه من مؤونته إذ كان معلوماً أن مؤنة الفرس متضاعفة على مؤنة صاحبه فضوعف له العرض من أجله، وهذا قول عامة العلماء إلاّ أن أبا حنيفة قال للفارس سهمان، وحكي أنه قال لا أفضل بهيمة على مسلم وخالفه صاحباه فكانا مع جماعة العلماء.
قلت وقد روى هذا الحديث من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فقال فيه للفارس سهمان وللراجل سهم وعبيد الله احفظ من عبد الله وأثبت باتقان أهل الحديث كلهم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري. قال سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري قال وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض ما بال الناس قالوا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا نوجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم {انا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1]

(2/308)


فقال رجل يا رسول الله أفتح هو، قال نعم والذي نفس محمد بيده أنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما.
قال أبو داود وحديث أبي معاوية أصح والعمل عليه. قال والوهم في حديث مجمع أنه قال كان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس.
قوله يهزون أي يحركون رواحلهم، والهز كالضغط للشيء وشدة الاعتماد عليه والايجاف الركض والإسراع يقال وجف البعير وجيفاً فأوجفه راكبه إيجافاً.

ومن باب النفل
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا، قال فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة كنا ردءاً لكم لو انهزمتم فئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى فأبى الفتيان وقالوا جعله الله صلى الله عليه وسلم لنا فأنزل الله سبحانه {يسألونك عن الأنفال} إلى قوله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} [الأنفال: 1-5] يقول فكان ذلك خيرا لهم فكذلك أيضاً فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم.
قلت النفل ما زاد من العطاء على القدر المستحق منه بالقسمة ومنه النافلة وهي الزيادة من الطاعة بعد الفرض وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الجيوش والسرايا تحريضا على القتال وتعويضا لهم عما يصيبهم من المشقة والكآبة ويجعلهم أسوة

(2/309)


الجماعة في سهمان الغنيمة فيكون ما يخصهم به من النفل كالصلة والعطية المستأنفة ولا يفعل ذلك إلاّ بأهل الغناء في الحروب وأصحاب البلاء في الجهاد.
وقد اختلف مذاهب العلماء في هذا الباب وفي تأويل ما روي فيه من الأخبار فكان مالك بن أنس لا يرى النفل ويكره أن يقول الإمام من قاتل في موضع كذا، أو قتل من العدو عدداً فله كذا، أو يبعث سرية في وجه من الوجوه فيقول ما غنمتم من شيء فلكم نصفه، ويكره أن يقاتل الرجل ويسفك دم نفسه في مثل هذا، وأثبت الشافعي النفل، وقال به الأوزاعي وأحمد بن حنبل.
وقال الثوري إذا قال الإمام من جاء برأسٍ فله كذا، ومن أخذ شيثا فهو له ومن جاء بأسير فله كذا جاز.

ومن باب نفل السرية تخرج من العسكر
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا الوليد عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر، قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قِبَل نجد وانبعث سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيراً، إثني عشر بعيراً ونفّل أهل السرية بعيرا بعيرا، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر ثلاثة عشر.
قلت في هذا من الفقه أن السرية إذا انفصلت من الجيش فجاءت بغنيمة فإنها تكون مشتركة بينهم وبين الجيش لأنهم ردءٌ لهم.
واختلفوا في هذه الزيادة التي هي النفل من أين أعطاهم إياها فكان ابن المسيب يقول إنما ينفل الإمام من الخمس، يَعني سهم النبي صلى الله عليه وسلم وهوخمس الخمس من الغنيمة وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو عبيد وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضعه حيث أراه الله عز وجل في مصالح أمر الدين ومعاون المسلمين.

(2/310)


قال الشافعي فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائهم من المسلمين نفل منه الإمام اتباعاً للسنة وإذا لم يكن ذلك لم ينفل.
وقال أبو عبيد الخمس مفوض إلى الإمام ينفل منه إن شاء، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ما لي مما أفاء الله عليكم إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم.
وقال غيرهم إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفلهم من الغنيمة التي يغنمونها كما نفل القاتل السلب من جملة الغنيمة.
قلت وعلى هذا دل أكثر ما روي من الأخبار في هذا الباب.
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت معها فأصبنا نعماً كثيراً فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان؛ ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيراً بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيراً بنفله.
قلت في هذا بيان واضح أن النفل إنما أعطاهم من جملة الغنيمة لا من الخمس الذي هو سهمه ونصيبه، وظاهر حديث ابن عمر أنه أعطاهم هذا النفل قبل الخمس كما نفلهم السلب قبل الخمس، وإلى هذا ذهب أبو ثور.

ومن باب من قال الخمس قبل النفل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيلن عن يزيد بن يزيد بن جابر الشامي عن مكحول عن زياد بن جارية التميمي عن حبيب بن مسلمة الفهري أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الثلث بعد الخمس.

(2/311)


قلت وفي هذا الحديث أنه أعطاهم ذلك بعد أن خمس الغنيمة فيشبه والله أعلم أن يكون الأمران معاً جائزين، وفيه أنه قد بلغ بالنفل الثلث.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مكحول والأوزاعي لا يجاوز بالنفل الثلث.
وقال الشافعي ليس في النفل حد لا يجاوز وإنما هو إلى اجتهاد الإمام.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان ومحمود بن خالد الدمشقيان المعنى قالا: حَدَّثنا مروان بن محمد حدثنا يحيى بن حمزة قال سمعت أبا وهب يقول سمعت مكحولا يقول كنت عبداً بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحداً يخبرني فيه بشيء حتى لقيت شيخاً يقال له زياد بن جارية التميمي فقلت له هل سمعت في النفل شيئا، قال نعم سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة.
قلت: أخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروي هذا الحديث ثم قال قد قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فرق بين البدأة والقفول حتى فضل إحدى العطيتين على الأخرى لقوة الظهر عند دخولهم وضعفه عند خروجهم لأنهم وهم داخلون انشط وأشهى للسير والإمعان في بلاد العدو وأجم، وهم عند القفول تضعف دوابهم وهم أشهى للرجوع إلى أوطانهم وأهاليهم لطول عهدهم بهم وحبهم للرجوع إليهم فنرى أنه زادهم في القفول لهذه العلل.
قلت كلام ابن المنذر في هذا ليس بالبين لأن فحواه يوهم أن معنى الرجعة

(2/312)


هو القفول إلى أوطانهم، وليس هو معنى الحديث، والبدأة إنما هي ابتداء سفر الغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر فأوقعت بطائفة العدو. فما غنموا كان لهم منه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه. فإن قفلوا من الغزاة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفل أشق والخطر فيه أعظم.

ومن باب السرية ترد على أهل العسكر
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثني هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم؛ يرد مُشدهم على مُضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده.
قلت قوله تتكافأ دماؤهم معناه أن أحرار المسلمين دماؤهم متكافئة في وجوب القصلص والقود لبعضهم من بعض لا يفضل منهم شريف على وضيع. فإذا كان المقتول وضيعا وجب القصاص على قاتله. إن كان شريفا لم يسقط القود عنه شرفه، وإن كان القتيل شريفا لم يقتص له إلاّ من قاتله حسب.
وكان أهل الجاهلية لا يرضون في دم الرجل الشريف بالاستقادة من قاتله ولا يرونه بَوآءً به حتى يقتصوا من عدة من قبيلة القاتل فأبطل الإسلام حكم الجاهلية وجعل المسلمين على التكافؤ في دمائهم وإن كان بينهم تفاضل وتفاوت في معنى آخر.

(2/313)


وقوله يسعى بذمتهم أدناهم، يريد أن العبد ومن كان في معناه من الطبقة الدنيا كالنساء والضعفاء الذين لا جهاد عليهم إذا أجاروا كافراً أمضي جوارهم ولم تخفر ذمتهم.
وقوله ويجير عليهم أقصاهم معناه أن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا عقد للكافر عقداً لم يك لأحد منهم أن ينقضه وإن كان أقرب دارا من المعقود له.
قلت وهذا إذا كان العقد والذمة منه لبعض الكفار دون عامتهم فإنه لا يجوز له عقد الأمان لجماعتهم، وإنما الأمر في بذل الأمان وعقد الذمة للكافة منهم إلى الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة فيه دون غيره. ولوجعل لأفناء الناس ولآحادهم أن يعقدوا لعامة الكفار كلما شاؤوا صار ذلك ذريعة إلى إبطال الجهاد وذلك غير جائز.
وقوله وهم يد على من سواهم فإن معنى اليد المعاونة والمظاهرة إذا استنفروا وجب عليهم النفير وإذا استنجدوا انجدوا ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا والمُشِد المقوي والمضعف من كانت دوابه ضعافاً، وجاء في بعض الحديث المضعف أمير الرفقة. يريد أن الناس يسيرون بسير الضعيف لا يتقدمونه فيتخلف عنهم ويبقى بمضيعة والمتسري هو الذي يخرج في السرية، ومعناه أن يخرج الجيش فينيخوا بقرب دار العدو ثم ينفصل منهم سرية فيغنموا فإنهم يردون ما غنموه على الذين هم ردء لهم لا ينفردون به، فأما إذا كان خروج السرية من البلد فأنهم لا يردون على المقيمين في أوطانهم شيئا.
وقوله لا يقتل مؤمن بكافر فإنه قد دخل فيه كل كافر له عهد وذمة أو لا عهد له ولا ذمة.

(2/314)


وقوله ولا ذو عهد في عهده فإن العهد للكفار على ضربين، أحدهما عهد متأبد كمن حقن دمه للجزية، والآخر من كان له عهد إلى مدة فإذا انقضت تلك المدة عاد مباح الدم كما كان.
وقد تأوله من ذهب من الفقهاء إلى أن المسلم يقتل بالذمي على أن قوله ولا ذو عهد في عهده معطوف على قوله لا يقتل مؤمن بكافر ويقع في الكلام على مذهبه تقديم وتأخير فيصير كأنه قال لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال الشافعي لا يقتل مسلم بوجه من الوجوه بأحد من الكفار على ظاهر الحديث وعمومه قال وقوله لا يقتل مسلم بكافر كلام تام بنفسه، ثم قال على أثره ولا ذو عهد في عهده أي لا يقتل معاهد ما دام في عهده، قال وإنما احتيج إلى أن يجري ذكر المعاهد ويؤكد تحريم دمه هاهنا لأن قوله لا يقتل مؤمن بكافر قد يوهم ضعفاً وتوهينا لشأنه ويوقع شبهة في دمه فلا يؤمن أن يستباح إذا علم أن لا قود على قاتله فوكد تحريمه بإعادة البيان لئلا يعرض الاشكال في ذلك.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال أغار عبد الرحمن بن عيينة على إيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل فجعلت وجهي قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات يا صباحاه ثم اتبعت القوم فجعلت ارمي واعقرهم وساق الحديث والقصة إلى أن قال ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه ذو قرد قال ونبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة فأعطاني سهم الفارس والراجل.

(2/315)


قوله حلأتهم عنه معناه طردتهم عنه وأصله الهمز، يقال حلأت الرجل عن الماء إذا منعته الورود؛ ورجل محلأ أي مذود عن الماء مصدود عن وروده، ومنه قول الشاعر:
لحائِم حام حتى لا حراك به محلأ!!! ... عن سبيل الماء مطرود
وقوله أعطاني سهم الفارس والراجل فإنه يشبه أن يكون إنما أعطاه من الغنيمة سهم الراجل حسب. لأن سلمة كان راجلاً في ذلك اليوم وأعطاه الزيادة نفلاً لما كان من حسن بلاءه.

ومن باب يستجن بالإمام في العهد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الإمام جنة يقاتل به.
قلت معناه أن الإمام هو الذي يعقد العهد والهدنة بين المسلمين وبين أهل الشرك فإذا رأى ذلك صلاحاً وهادنهم فقد وجب على المسلمين أن يجيزوا أمانه وأن لا يعرضوا لمن عقد لهم في نفس أومال، ومعنى الجنة العصمة والوقاية وليس لغير الإمام أن يجعل الأمة بأسرها من الكفار أماناً، وإنما معنى قوله صلى الله عليه وسلم يسعى بذمتهم أدناهم أن يكون ذلك في الأفراد والآحاد أو في أهل حصن أو قلعة ونحوها. فأما أن يجوز ذلك في جيل وأمة منهم فلا يجوز. وقد ذكرنا هذا فيما مضى.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره أنه قال بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبداً فقال إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد

(2/316)


ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت.
قلت قوله لا أخيس بالعهد معناه لا أنقض العهد ولا أفسده من قولك خاس الشيء في الوعاء إذا فسد.
وفيه من الفقه أن العقد يرعى مع الكافر كما يرعى مع المسلم وأن الكافر إذا عقد لك عقد أمان فقد وجب عليك أن تؤمنه وأن لا تغتاله في دم ولا مال ولا منفعة.
وقوله لا أحبس البرد فقد يشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابا والجواب لا يصل إلى المرسل إلاّ على لسان الرسول بعد انصرافه فصار كأنه عقد له العهد مدة مجيئه ورجوعه والله أعلم.

ومن باب ما يسير في العهد
نحو عدو ليقرب منهم فيغير بعد المدة عليهم
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة، عَن أبي الفيض عن سُليم بن عامر عن رجل من حمير، قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء فرجع معاوية.
الأمد الغاية، قال النابغة:
سبْق الجواد إذا استولى على الأمد

(2/317)


ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء أي يعلمهم أنه يريد أن يغذوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع فيكون الفريقان في ذلك على السواء.
وفيه دليل على أن العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلاّ بعد الإعلام به والإنذار فيه، ويشبه أن يكون عمرو إنما كره مسير معاوية إلى ما يتاخم بلاد العدو والإقامة بقرب دارهم من أجل أنه إذا هادنهم إلى مدة وهو مقيم في وطنه فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة كالمشروط مع المدة المضروبة في أن لا يغزوهم فيها فيأمنونه على أنفسهم. فإذا كان مسيره إليهم في أيام الهدنة حتى ينيخ بقرب دارهم كان إيقاعه بهم قبل الوقت الذي يتوقعونه فكان ذلك داخلا عند عمرو في معنى الغدر.

ومن باب الرسل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، عَن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرّب أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال ما بيني وبين أحد من العرب حِنة وإني مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجيء بهم فاستتابهم غير ابن النواحة فقال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق، ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق.
قوله حنة يريد الوتر والضغن واللغة الفصيحة احنة بالهمز قال الشاعر:
إذا كان في نفس ابن عمك احنة…… فلا تستثرها سوف يبدو دفينها
ويقال فلان مواحن لفلان إذا كان مضمراً له على عداوة، ويشبه أن يكون

(2/318)


مذهب ابن مسعود في قتله من غير استتابة أنه رأى قول النبي صلى الله عليه وسلم لولا أنك رسول لضربت عنقك حكما منه بقتله لولا علة الرسالة، فلما ظفر به وقد ارتفعت العلة أمضاه فيه ولم يستأنف له حكم سائر المرتدين.
وفيه حجة لمذهب مالك في قتل المستسر بالكفر وترك استابته ومعلوم أن هؤلاء لا يمكنهم إظهار الكفر بالكوفة في مسجدهم وهي دار الإسلام، وإنما كانوا يستبطنون الكفر ويسرون الإيمان بمسيلمة فاطلع على ذلك منهم حارثة فرفعهم إلى عبد الله وهو وال عليها فاستتاب قوما منهم وحقن بالتوبة دماءهم ولعلهم قد كانت داخلتهم شبهة في أمر مسيلمة ثم تبينوا الحق فراجعوا الدين فكانت توبتهم مقبولة عند عبد الله، ورأى أن أمر ابن النواحة بخلاف ذلك لأنه كان داعية إلى مذهب مسيلمة فلم يعرض عليه التوبة ورأى الصلاح في قتله.
وإلى نحو من هذا ذهب بعض العلماء في أمر هولاء القرامطة الذين يلقبون بالباطنية.
وأما قوله لولا أنك رسول لضربت عنقك فالمعنى في الكف عن دمه أن الله سبحانه قال {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} فحقن له دمه حتى يبلغ مأمنه ويعود بجواب ما أرسل به فتقوم به الحجة على مرسله.

ومن باب أمان المرأة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا وهب أخبرني عياض بن عبد الله عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس قال حدثتني أم هانئ بنت أبي

(2/319)


طالب أنها أجارت رجلاً من المشركين يوم الفتح فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من امّنت.
قلت في هذا حجة لمن ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لأنه لو كان صلحا لوقع به الأمان العام فلم يحتج إلى إجارة أمان أم هانىء ولا إلى تجديد الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأجمع عوام أهل العلم أن أمان المرأة جائز وكذلك قال أكثر الفقهاء في أمان العبد؛ غير أن أصحاب الرأي فرقوا بين العبد الذي يقاتل والذي لا يقاتل فأجازوا أمانه إن كان ممن يقاتل ولم يجيزوا أمانه إن كان لم يقاتل، فأما أمان الصبي فأنه لا ينعقد لأن القلم مرفوع عنه.

ومن باب صلح العدو
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثه عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة وذكر قصة الحديبية ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً.
قلت اختصر أبو داود هذا الحد اختصاراً ذهب فيه شطر من فوائد هذا الحديث فرأيت أن أذكر الحديث والقصة على وجهها وأبين ما فيها من السنن والمعاني ليستفاد علمه ويحصر نفعه والله الموفق له.
أخبرنا محمد بن هاشم حدثنا الدَبري عن عبد الرزاق عن معمر أخبرني الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما صاحبه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه

(2/320)


حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عُسفان أتاه عينه الخزاعي فقال إن كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً كثيرة وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن نجوا يكن عنقاً قطعها الله أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه، فقال أبو بكر رضي الله عنه يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فروحوا إذاً.
قال معمر قال الزهري وكان أبو هريرة يقول ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزهري في حديث المسور ومروان بن الحكم فراحوا وساق الحديث قال وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس حَل حل فقال خلأت القصواء وما كان لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت به قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمدَ قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضاً فلم يلبث الناس أن نزحوه فشُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم

(2/321)


أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه
فبيناهم كذلك إذ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي اعداد مياه الحديبية معهم العُوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجىء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب واضرت بهم فإن شاؤوا هادنتُهم مدة طويلة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا قد جموا وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره، فقال بُديل بن ورقاء سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا وساق الحديث إلى أن ذكر مجيء عروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال له قد والله أرى وجوهاً وأوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر رضي الله عنه امصص ببظر اللات انحن نفر منه وندعه، فقال من ذا فقالوا أبوبكر، فقال أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما اهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال أي غُدَراء ولست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم

(2/322)


فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء،
ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخامة إلاّ وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره؛ وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليم تعظيماً له، قال فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم وذكر القصة إلى أن قال اهم أنه، يَعني النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه وساق الحديث إلى أن قال فبينا مِكرز بن حفص يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، وقال معمر قال أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم قد سهل لكم من أمركم، قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن لك من العام المقبل فكتب قال سهيل وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك الا رددته إلينا فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً فبينا هو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين
فقال سهيل

(2/323)


هذا أول ما نقايضك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً قال النبي صلى الله عليه وسلم فأجره لي قال ما أنا بمجير لك قال بلى قال فافعل قال ما أنا بفاعل فقال مكرز بلى قد أجرناه لك فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين أُردُ إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله فقال عمر بن الخطاب والله ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له ألست نبي الله حقاً قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدِنْيةَ في ديننا إذاً قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أو لست كنت تحدثنا إنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى افأخبرتك إنك تأتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر، يَعني فقلت له مثل مقالتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الرجل أنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق وساق الحديث إلى أن قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو بحالقك فيحلقك فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة: 10]

(2/324)


حتى بلغ [بعصم الكوافر] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج أحدهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية،
ثم رجع رسول الله إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فأخذ أبو بصير سيف أحدهما فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه لقد رأى هذا ذُعراً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير، فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سِيف البحر قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلاّ لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، قال فوالله ما يسمعون بعير لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم إلاّ أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} [الفتح: 24] حتى بلغ {حمية الجاهلية} [الفتح: 26] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا بأنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينه وبين البيت.
قلت جمع هذا الحديث أنواعا من السنن والآداب وضروباً من الفقه والأحكام وقد تكلم عليها بعض أهل العلم ففسر بعضها وترك بعضها ونحن نقول في ذلك بمبلغ علمنا ومن الله التوفيق.

(2/325)


قوله حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة فيه بيان أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة لمن أراد أن يحج أو يعتمر، وفيه بيان أن تقليد الهدي سنة سواء كان عن واجب أو عن نفل. وفيه أن الإشعار سنة وأنه ليس من باب ما نهي عنه من المثلة وقد تكلمنا في هذا في كتاب المناسك.
وقوله وبعث بين يديه عينا له من خزاعة فيه استحباب تقديم الطلائع وبعث العيون بين يدي الجيوش والأخذ بالحزم والاحتياط في أمرالعدو لئلا ينالوا فرصة فيهجموا على المسلمين في حال غرة وأوان غفلة. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الخزاعي وبعثه عينا ثم صدقه في قوله وقبل خبره وهو كافر وذلك لأن خزاعة كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنهم وكافرهم احلف كانت بينهم في الجاهلية ولعله أيضاً لم يجد من المسلمين من ينوب عنه في تعرف الخبروالتجسس والبحث عن أمر العدو. ثم أن ذلك أمر لا يكاد يتحققه إلا من لابس العدو وداخلهم واستبطن سرهم وهذا المعنى متعذر وجوده غالباً في المسلمين.
وفيه دليل على جواز قبول قول المتطبب الكافر فيما يخبر به عن صفة العلة ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه وكان غير مظنون به الريبة في ذلك.
وقوله وجمعوا لك الأحابيش فإن الأحابيش يقال إنهم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشاً والتحبش التجمع.
وفي قوله لأصحابه اشيروا عليّ دليل على استحباب استشارة ذوي الرأي والنصح في الأمور المهمة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعملها كثيراً فيما لم ينزل عليه فيه وحي. وقد يحتمل أن يكون ذلك ليستن به من بعده في حوادث الأمر فينالوا بركتها وينكشف لهم وجه الرأي الملتبس فيها.

(2/326)


وفي قوله أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم دليل على جواز سبي ذراري المشركين قبل قتال الرجال.
وفي قوله أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه دايل على جواز قتال المحرم من صده عن البيت ومنعه عن بلوغ النسك. وفي القصة أيضاً دليل على أن العدو الذي يريد أن يصدك عن الحج إذا كان كافرا فأنه يجوز ترك الاشتغال بقتاله وطلب الخلاص من يده.
فأما إذا كان الصاد لك مسلما فقد قال بعض العلماء يجوز قتاله وتركه أولى.
وقوله بركت به راحلته فقال الناس حَلْ حل فإنه كلمة معناها الزجر، يقال في زجر البعير حل بالتخفيف؛ ويقال حَلْحَلتُ الإيل إذا زجرتها لتنبعث.
وفي قوله فالحت يريد أنها لزمت المكان فلم تنبعث ويقال تلحلح الرجل بالمكان إذا لزمه فلم يبرح وتحلحل عنه إذا زال وفارقه. وأما قوله خلأت القصواء فإن الخلاء في الإبل كالحران في الخيل، ومنه قول زهير:
بارزة الفقارة لم يخنها ... …قطاف في الركاب ولا خِلاء
والقصواء اسم ناقته وكانت مقصوة الأذن وهو أن يقطف طرفاً من الأذن يقال ناقة قصواء ولم يقولوا جمل اقصى ومعناه المقصوة جاء بلفظ فاعل ومعناه مفعول.
وقوله ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل يريد أن الخِلاء لم يكن لها بخلق فيما مضى ولكن الله حبسها عن دخول مكة كما حبس الفيل حين جاء به أبرهة الحبشي يريد هدم الكعبة واستباحة الحرم، ويشبه أن يكون المعنى في ذلك وفي التمثيل بحبس الفيل أن أصحابه لو دخلوا مكة لوقع بينهم وبين قريش قتال في الحرم وأريق فيه دماء وكان منه الفساد والفناء، ولعل الله سبحانه قد

(2/327)


سبق في علمه ومضى في قضائه أنه سيسلم جماعة من أولئك الكفار في غابر الزمان وسيخرج من أصلابهم قوم مؤمنون يعبدون الله ويوحدونه فلو استبيحت مكة وأتى القتل عليهم لانقطع ذلك النسل ولبطلت تلك العواقب.
وقوله والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها يريد والله أعلم المصالحة والجنوح إلى المسالمة وترك القتال في الحرم والكف عن إراقة الدم فيه وهو معنى تعظيم حرمات الله.
وقوله حتى نزل على ثمد فالثمَد الماء القليل، ويقال ماء مثمود إذا كثر عليه الشفاه حتى يفنى وينزف.
وقوله نتبرضه تبرضاً؛ معناه نأخذه قليلا قليلا، والبرْض اليسير من العطاء.
وقوله ما زال يجيش لهم بالري معناه يفور ماؤه ويرتفع كما يجيش المرجل بما فيه.
قوله وكان عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أنه موضع سر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة الذي يستنصحه ويأتمنه على أمره، وذلك أن الرجل إنما يودع عيبته حر المتاع ومصون الثياب ونحو ذلك فوقع التشبيه له بالعيبة من أجل ذلك.
وقوله العُوذ المطافيل، فإن معنى العوذ الحديثات النتاج يقال لواحدتها عائذ والمطافيل الأمهات التي معها أطفالها يريد أن هذه القبائل قد احتشدت لحربك ومقارعتك فساقت أموالها مع أنفسها.
وقوله نهكتهم الحرب أي أبلغت فيهم واضرت بهم ومن ذلك قولهم نهكته الحمى إذا هزلته وأنحلته. وقوله جَمُوا يريد الجمام والاستراحة. وقوله حتى تنفرد سالفتي، معناه حتى تبين رقبتي، والسالفة مقدمة العنق وسالف كل شيء أوله ومنه سلافة الخمر وهي ما يعصر أولاً منها.

(2/328)


وقوله إني أرى وجوها وأوشاباً من الناس فإن الأوشاب الأخلاط من الناس يقال هم أوشاب وإشابات إذا كانوا من قبائل شتى مختلفين؛ وفي قول أبي بكر رضي الله عنه حين ذكر اللات وسبها ما يدل على أن التصريح باسم الأعضاء التي هي عورات وذكرها عند الحاجة إليه ليس من الفحش ولا قائله خارج عن حد العدالة والمروءة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعز بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا.
وأما مس عروة بن مسعود لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء مخاطبته وتناوله إياها بيده فإن ذلك شكل من أشكال العرب وعادة من عاداتهم يفعل الرجل ذلك بصاحبه إذا حدثه ويجري ذلك مجرى الملاطفة من بعضهم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يدفعه عن ذلك استمالة لقلبه ولما كان يرجوه من إسلامه ثم هداه الله بعد فحسن إسلامه وكان رئيسا في ثقيف وكان المغيرة بن شعبة يمنعه من ذلك الفعل تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيراً له وإجلالا لقدره. وإنما يفعل الرجل ذلك لنظيره وخليطه المساوي له في الدرجة والمنزلة.
قال أبو سليمان وفي قيام المغيرة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن إقامة الرئيس الرجال على رأسه في مقام الخوف ومواطن الحروب جائز، وأن الذي نهى عنه وتوعد فيه من قوله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يَمْثُل له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار. إنما هو فيمن فعل ذلك قاصداً به الكبر وذاهبا فيه مذاهب النخوة والجبرية.
وقوله أي غدر فهو نعت ينعت الرجل به عند المبالغة في الغدر.

(2/329)


وفي قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء دليل على أن أموال أهل الشرك وإن كانت مباحة للمسلمين مغنومة إذا أخذوها منهم قهراً فإنها ممنوعة بالأمان لهم مردودة إلى أربابها إذا أخذت في حال المسالمة والأمان وذلك أن المغيرة إنما صحبهم صحبة الرفقاء في الأسفار والرفيق في السفر يأمن رفيقه على نفسه وماله فكان ما أتاه المغيرة من سفك دمائهم وأخذ أموالهم غدراً منه والغدر محظور غير جائز والأمانة مؤداة إلى البر والفاجر.
وفي قوله ما يتنخم نخامة إلاّ وقعت في يد رجل دليل على طهارة النخامة والبزاق. وفيه دليل على طهارة الماء الذي يتطهر به وهو الماء المستعمل.
وفي قوله حين جاء سهيل قد سهل لكم من أمركم دليل على استحباب التفاؤل بالاسم الحسن وإنما المكروه من ذلك الطيرة وهو التشاؤم.
وفي امتناع سهيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر كتاب الصلح ببسم الله الرحمن الرحيم ومطالبته إياه أن يكتب باسمك اللهم ومساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على ذلك باب من العلم فيما يجب من استعمال الرفق في الأمور ومداراة الناس فيما لا يلحق دين المسلم به ضرر ولا يبطل معه لله سبحانه حق، وذلك إن معنى باسمك اللهم هو معنى بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان فيها زيادة ثناء. قال النحويون اللهم يجمع نداء ودعاء كأنه يقول يا الله أُمَّ بنا خيراً أو أمنا بخير وما أشبه ذلك فحذف بعض الحروف لما كثر استعماله في كلامهم إرادة التخفف واختصاراً للكلام، وكذلك المعنى في تركه أن يكتب محمد رسول الله واقتصاره على أن يكتب محمد بن عبد الله لأن انتسابه إلى أبيه عبد الله لا ينفي نبوته ولا يسقط رسالته، وفي إجابته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى ذلك أن يرد إلى الكفار

(2/330)


من جاءه منهم مسلما دليل على جواز أن يقر الإمام فيما يصالح عليه العدو ببعض ما فيه الضيم على أهل الدين إذا كان يرجو لذلك فيما يستقبله عاقبة حميدة سيما إذا وافق ذلك زمان ضعف المسلمين عن مقاومة الكفار وخوفهم الغلبة منهم.
وقد تكلم العلماء في هذا الباب وتأولوا ما كان من رده أبا جندل بن سهيل إليهم على وجهين أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك على نفسه ورخص له أن يتكلم بالكفر مع التورية وإضمار الإيمان في رده إليهم إسلاماً له للهلاك مع وجوده السبيل إلى الخلاص منه بما رخص له فيه من التقية.
والوجه الآخر أنه إنما رده إلى أبيه ومعلوم أن أباه لا يقتله ولكن يستبقيه وينتظر به الرُجعي وفي ذلك أمان له وصلاح لعامة المسلمين ودرك لما راموه في عقد الصلح وقصدوه من البغية فيه وكذلك الأمر في رد أبي بصير إليهم وذلك أنه كان يأوي إلى عشيرة يذبون عنه وموالي يحامون عليه، فأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان يبتلي الله به صبر عباده ليثيب المجتهدين ويمحص بذلك ما في صدور المسلمين وهو أعلم بالسرائر ولله عاقبة الأمور.
وفي مراجعة عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاجته إياه في رده أبا جندل بن سهيل وقد جاء مسلما وتعجبه من ذلك الصنيع وضيق صدره بما خفي عليه من حكمته ولم يدركه من علم مغيبه وفيما كان من جواب أبي بكر إياه وخروج قوله في ذلك مطابقا لجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل واضح على أن أبا بكر أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بمعاني أموره وأشدهم اطلاعاً على ما في نفسه وإنما كانت تلك المحاجة والمساءلة من عمر على وجه الكشف عن الشبهة وعلى سبيل الاستبانة لوجه الحكمة فيما شاهده من ذلك الصنيع ولم يكن ذلك منه

(2/331)


اعتراضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اتهاماً له في شيء كان منه، وإنما حرك عمر على ذلك القول شدة حرصه على قوة أمر الدين وغلبة محبته أن يكون الظهور والغلبة للمسلمين، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لعمر افخبرتك أنك تأتيه العام وجوابه عنه بلا، وقوله فإنك آتيه ومطوف به دليل على أن من حلف بالله ليفعلن كذا وليطلقن امرأته من غير تحديد له بوقت معلوم أنه لا يحنث مدى عمره ما عاش.
وفي قوله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله دليل على إغفال من زعم أنه لا يصح أن يكتب في كتب الشروط هذا ما اشترى فلان بن فلان وهذا ما شهد عليه الشهود لزعمه أن ما هاهنا بمعنى الجحد وهو يبطل العقد.
قلت وهذا شيء قاله بعض الفقهاء من المتأخرين وليس الأمر كما توهمه وجل ما في هذا الموضع محل الاخبار لا محل الجحد.
ومعنى قوله قاضى أي فصل الأمر بالقضاء والأحكام له ووزنه فاعل من قضيت الشيء، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد فراغه من الكتاب أن ينحروا ويحلقوا رؤ وسهم دليل على أن من أحرم بحج أو عمرة فأحصر بعدو فإنه ينحر الهدي مكانه ويحل وإن لم يكن بلغ هديه الحرم والموضع الذي نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه فيه بالحديبية حِل إذ كان مصدودا عن دخول الحرم. والدليل على ذلك قوله تعالى {والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} [الفتح: 25] .
وقال الشافعي الشجرة التي بايع الناس تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحل وبني المسجد في موضعها وموضعها باق، وكان سبب البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عثمان إلى أهل مكة فجاء الخبر بأنهم قتلوه فعزم حينئذ على قتالهم وبايعه أصحابه على ذلك تحت تلك الشجرة وهي بيعة الرضوان وهم أصحاب الشجرة وكانوا

(2/332)


ألفا وأربعمائة.
وفي قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة أم سلمة عليه بأن يبدأ بنحر هديه وحلق رأسه دليل على جواز مشاورة النساء وقبول قولهن إذا كن مصيبات فيما يشرن به وإنما كان توقف الصحابة عن أمره الأول فلم ينفذوا له انتظاراً أن يحدث الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أمراً خلاف أمره الأول فيتم لهم حُرْمهم وقضاء نسكهم إذ كان لا ينكر في زمانه أن يؤمروا بالشيء ثم يتعقبه النسخ، فلما رأوه قد فعل النحر والحلاق في أمر نفسه علموا أنه ليس وراء ذلك عاقبة تنتظر فبادروا إلى الايتمار لقوله والايتساء بفعله.
وقوله في قصة أبي بصير فضربه بالسيف حتى برد معناه حتى مات وسكنت منه حرارة الحياة وأصل البرد السكون والثبوت.
وقوله ويل أمه مسعر حرب كلمة تعجب يصفه بالمبالغة في الحروب وجودة معالجتها وسرعة النهوض فيها، يقال فلان مسعر حرب إذا كان أول من يوقد نارها ويصلي حرها من قولك سعرت النار إذا أوقدتها، ومنه السعير وهو النار الموقدة.
وفي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أبي بصير إليهم وهو بناحية سِيف البحر دليل على أن من جاء منهم (إلى غير دار الإمام فليس عليه رده إليهم وإنما عقدوا الصلح على أن من جاءه منهم) رده إليهم فكان في ذلك دليل على الموضع الذي هو فيه مقيم.
وأما قوله ثم جاءت نسوة مؤمنات فأنزل الله سبحانه فيهن {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة: 10] الآية فقد اختلف العلماء في هذا على قولين أحدهما أن النساء لم يدخلن في الصلح، وإنما وقع بينهم على رد الرجال. وهذا

(2/333)


أشبه القولين بالصواب وسل على صحة ذلك قوله في هذه الرواية وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلاّ رددته والقول الآخر أن الصلح كان معقودا بينهم على رد الرجال والنساء معاً لأن في بعض الروايات ولا يأتيك منا أحد إلاّ رددته فاشتمل عمومه على الرجال والنساء، إلاّ أن الله نسخ ذلك بالآية ومن ذهب إلى هذا الوجه أجاز نسخ السنة بالكتاب.
وفيه دليل على أن الإمام إذا شرط في العقد ما لا يجوز فعله في حكم الدين فإن ذلك الشرط باطل وقد قال صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهوباطل.
وفيه على هذا التأويل دليل على جواز وقوع الخطأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور ولكن لا يجوز تقريره عليه.
واختلف في تأويل قوله تعالى {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] فقال أكثر أهل التفسير معنى النفقة الصدقة.
واختلفوا هل يجب العمل به اليوم أم لا إذا شرطه في معاهدة المشركين؛ فقال قوم لا يجب شيء من ذلك، وزعموا أن الآية منسوخة وإذا سقط هذا الحكم من أصله سقط ما تعلق به من العوض، قال الزهري انقطع ذلك يوم الفتح لا يعاض زوجها منها شيئاً، وكذلك قال عطاء وقتادة.
وقال الثوري لا يعمل به اليوم، وقال قوم الآية غير منسوخة وروي ذلك عن مجاهد ويعوضون.
وقال الشافعي فيها قولان أحدهما سقوط العوض كقول من تقدم، والقول الآخر أن المرأة الحرة من أهل الهدنة إذا جاءت مسلمة مهاجرة من دار الحرب فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض وإذا طلبها زوجها منعها

(2/334)


وأعطي العوض وهو الصداق وذلك إذا كان الزوج قد دفع إليها صداقها ولايعطى شيئاً إن كان لم يدفعه إليها.
واختلفوا في مقدار المدة التي يجوز أن يهادن إليها الكفار. فقال الشافعي أقصاها عشر سنين لا يزاد عليها وما وراءها محظور لأن الله سبحانه أمر بقتال الكفار فاستثنينا ما أباحه رسول الله في قصة الحديبية وما وراء ذلك محظور.
وقال قوم لا يجوز ذلك أكثر من أربع سنين وقال قوم ثلاث سنين لأن الصلح لم يبق فيما بينهم أكثر من ثلاث سنين. ثم أن المشركين نقضوا العهد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وكان الفتح.
وقال بعضهم ليس لذلك حد معلوم وهو إلى الإمام يفعل ذلك على حسب ما يرى من المصلحة فيه.
قلت كان سبب نقض العهد إن خزاعة كانت حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم بنو بكر فأعانت قريش بني بكر على خزاعة فنقضوا بذلك العهد.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس سمعت ابن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال.
قال الشيخ عيبة مكفوفة المشرجة وهي المشدودة بشرجها والعيبة هاهنا مثل والمعنى أن بيننا صدوراً سليمة وعقائد صحيحة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا، وقد يشبّه صدرَ الإنسان الذي هو مستودع وموضع مكنون أمره بالعيبة التي يودعها حر متاعه ومصون ثيابه قال الشاعر:

(2/335)


وكادت عياب الود منا ومنكم ... وإن قيل أبناء العمومة تَصفِر
وقوله لا أسلال ولا أغلال فإن الأسلال من السلة وهي السرقة والأغلال الخيانة، يقال أغل الرجل إذا خان أغلالاً وغل في الغنيمة غلولاً. يقول إن بعضنا يأمن بعضاً في نفسه وماله فلا يتعرض لدمه ولا لماله سراً ولا جراً ولا يخونه في شيء من ذلك.
وقال بعضهم معنى الأغلال لبس الدرع للحرب والأسلال من سل السيف وزيف أبو عبيد هذا القول ولم يرتضه.

ومن باب العدو يؤتى على غرة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمة فقال أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله قال نعم قال فاذن لي أن أقول شيئاً قال نعم قال فأتاه فقال إن هذا الرجل قد سألنا الصدقة وقد عنّانا قال وأيضاً لَتَملُّنهُ قال فاتبعناه فنحن نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين قال كعب أي شيء ترهنوني، قالوا وما تريد منا قال نساءكم، قالوا سبحان الله أنت أجمل العرب نرهنك نساءنا فيكون ذلك عارا علينا، قال فترهنوني أولادكم، قالوا سبحان الله يسب ابن أحدنا فيقال رهنت بوسق أو وسقين، قالوا نرهنك اللامة يريد السلاح، قال نعم فلما أتاه ناداه فخرج إليه وهومتطيب ينضح رأسه فلما أن جلس إليه وقد كان جاء معه بثلاثة نفر أو أربعة فذكروا له فقال عندي فلانة وهي أعطر نساء الناس، فقال تأذن لي فأشم، قال نعم فأدخل يده في رأسه

(2/336)


فشمه فقال أعود قال نعم فأدخل يده في رأسه فلما استمكن منه قال دونكم فضربوه حتى قتلوه.
قلت في هذا من الفقه اسقاط الحرج عمن تأول الكلام فأخبر عن الشيء بما لم يكن إذا كان يريد بذلك استصلاح أمر دينه أو الذب عن نفسه وذويه. ومثل هذا الصنيع جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغرة وأوان الغفلة وكان كعب هذا قد لهج بسب النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه فاستحق القتل مع كفره بسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب معنى ذلك على قوم فتوهموا أن ذلك الصنيع من قتله كان غدرا أو فتكاً، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتك.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن حُزابة حدثنا إسحاق، يَعني ابن منصور حدثنا أسباط، يَعني الهمداني عن السدي عن أبيه، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن.
قلت الفتك إنما هو فجأة قتل من له أمان وكان كعب بن الأشرف ممن خلع الأمان ونقض العهد وقد روي لنا في أمره قصة عن بعض من داخلته الشبهة فتوهم أن قتله كان غدراً.
حدثنا الأصم حدثنا بحر بن نصر الخولاني حدثنا ابن وهب أخبرني سفيان بن عيينة عن محمد بن سعيد أخي سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه عن عباية، قال ذكر قتل كعب بن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة يا معاوية ايُغدّر عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تنكر والله

(2/337)


لا يظلني وإياك سقف بيت أبداً ولا يخلو إليَّ دم هذا إلاّ قتلته.
قال الشيخ أبعد الله ابن يامين وقبح رأيه هذا. كان كعب بن الأشرف لعنه الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه فعاهده أن لا يعين عليه ولحق بمكة ثم نقض العهد وجاء معلناً بمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحق القتل لغدره ولنقضه العهد مع كفره.
حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك حدثنا الحسن بن علي بن زياد السري حدثنا ابن أبي أويس حدثنا إبراهيم بن جعفر بن محمود عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعين عليه ولا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلناً بمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم فكان أول ما خزع منه قوله:
أذاهبٌ أنت لم تحلل بمرقبَة ... وتارك أنت أمّ الفضل بالحرم
في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتله.
قال السيخ قوله خزع معناه قطع عهده وفد فسره في كتاب غريب الحديث.

ومن باب الطُروق
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمرو وحدثنا مسلم بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا شعبة عن محارب بن دثار عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً.
قوله طروقا أي ليلا يقال لكل ما أتاك ليلاً طارق، ومنه قوله تعالى {والسماء والطارق} أي النجم لأنه يطرق بطلوعه ليلا.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم حدثنا سيار عن الشعبي عن جابر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما تهيأنا لندخل قال امهلوا لكي

(2/338)


تمتشط الشعثة وتستحد المُغِيبة.
قال الشيخ وتستحد أي تصلح من شأن نفسها والاستحداد مشتق من الحديد ومعناه الاحتلاق بالموسى يقال استحد الرجل إذا احتلق بالحديد واستعان بمعناه إذا حلق عانته.

ومن باب كراء المقاسم
قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الزمعي عن الزبير بن عثمان بن عبد الله بن سراقة أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم والقُسامة قالوا وما القسامة قال الشيء يكون بين الناس فينتقص منه.
قال الشيخ القسامة مضمومة القاف اسم لما يأخذه القسام لنفسه في القسمة كالنشارة لما ينشر والفصالة لما يفصل والعجالة لما يعجل للضيف من الطعام، وليس في هذا تحريم لأجرة القسام إذا أخذها بإذن المقسوم لهم؛ وإنما جاء هذا فيمن ولى أمر قوم فكان عريفاً عليهم أو نقيباً فإذا قسم بينهم سهامهم أمسك منها شيئاً لنفسه يستأثر به عليهم وقد جاء بيان ذلك في الحديث الآخر.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن شريك بن أبي نمرعن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، قال فيه الرجل يكون على الفِئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا.
قال الشيخ الفئام الجماعات. قال الفرزدق نفئام ينهضون إلى فئام.

ومن باب حمل السلاح إلى أرض العدو
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا أبي، عَن أبي إسحاق

(2/339)


هو السبيعي عن ذي الجوشن رجل من الضباب، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ من أهل بدر بفرس لي يقال لها القرحاء، فقلت يا محمد إني قد جئتك لتتخذه فقال لا حاجة لي فيه فإن شثت أن أقيضك به المختارة من دروع بدر فعلت؛ قلت ما كنت لأقيضه اليوم بغُرة قال فلا حاجة لي فيه.
قوله أقيضك به معناه أبدلك به وأعوضك منه، والمقايضة في البيوع المعاوضة أن يعطي متاعاً ويأخذ آخر لا نقد فيه، وفيه أنه سمى الفرس غرة وأكثرما جاء ذكر الغرة في الحديث إنما يراد بها النسمة من أولاد آدم عليه السلام عبد أوأمة وعلى ذلك تفسير قوله في الجنين وقضائه فيه بغرة عبد أو أمة، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول لا تكون الغرة إلاّ عبداً أبيض أو جارية بيضاء.
أخبرني به أبو محمد الكراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا المنقري حدثنا الأصمعي، عَن أبي عمرو، وقد روي حديث الجنين عيسى بن يونس فجاء بزيادة تفرد بها لم يذكرها غيره من رواة الحديث فقال عبد أو فرس أو بغل فجعل الفرس والبغل غرة.
تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله كتاب الإمارة
وذلك في الثلاثين من شهر ربيع الأول
سنة 1352

(2/340)