معالم السنن

الجزء الثالث
*******************
بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الإمارة والفيء والخراج
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
قال الشيخ: معنى الراعي ههنا الحافظ المؤتمن على ما يليه يأمرهم بالنصيحة فيما يلونه ويحذرهم أن يخونوا فيما وكل إليهم منه أو يضيعوا وأخبر أنهم مسؤولون عنه ومؤاخذون به.
وفي قوله المرأة راعية على بيت بعلها دليل على سقوط القطع عن المرأة إذا سرقت من مال زوجها.
وفي قوله والرجل راع على أهل بيته دلالة على أن للسيد أن يقيم الحد على عبيده وإمائه وقد جاء أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم.

ومن باب الضرير يولى
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله المُخرمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي

(3/2)


حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين.
قلت إنما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة دون القضايا والأحكام فإن الضرير لا يجوز له أن يقضي بين الناس لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان ولا يدري لمن يحكم وعلى من يحكم وهومقلد في كل ما يليه من هذه الأمور والحكم بالتقليد غير جائز، وقد قيل أنه صلى الله عليه وسلم إنما ولاه الإمامة بالمدينة إكراماً له وأخذاً بالأدب فيما عاتبه الله عليه من أمره في قوله سبحانه {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1-2] وروي أن الآية نزلت فيه وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم له كلما أقبل ويقول مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، وفيه دليل على أن إمامة الضرير غير مكروهة.

ومن باب العرافة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا غالب القطان عن رجل عن أبيه عن جده أنهم كانوا على منهل من المناهل فلما بلغهم الإسلام جعل صاحب الماء لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا وقسم الإبل بينهم وبدا له أن يرتجعها منهم فأرسل ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ائت النبي صلى الله عليه وسلم فقل له أن أبي شيخ كبير وهو عريف ماء وأنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده فأتاه فقال إن أبي يقرئك السلام فقال عليك وعلى أبيك السلام فقال إن أبي جعل لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا وحسن إسلامهم، ثم بدا له أن يرتجعها منهم فهو أحق بها أم هم قال إن بدا له أن يسلمها إليهم فليسلمها وإن بدا له أن يرتجعها منهم فهو أحق بها منهم فإن أسلموا فلهم إسلامهم وإن لم يسلموا قوتلوا على الإسلام. وقال ان أبي شيخ كبير وهو عريف الماء وانه يسألك أن

(3/3)


تجعل لي العرافة بعده، فقال إن العرافة حق ولا بد للناس من عرفاء ولكن العرفاء في النار.
العَريف القيم بأمر القبيلة والمحلة يلي أمورهم ويتعرف الأمير منهم أحوالهم قال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليَّ عريفهم يتوسم
وقوله العرافة حق يريد ان فيها مصلحة للناس ورفقا في الأمور، ألا تراه يقول ولا بد للناس من عرفاء، وقوله العرفاء في النار معناه التحذير من التعرض للرياسة والتأمر على الناس لما في ذلك من المحنة وأنه إذا لم يقم بحقه ولم يؤد الأمانة فيه أثم واستحق من الله سبحانه العقوبة وخيف عليه دخول النار.
وفيه من الفقه أن من أعطى رجلاً مالاً على أن يفعل أمراً هو لازم الأخذ له مفروضا عليه فعله فإن للمعطي ارتجاعه منه، وذلك أن الإسلام كان فرضاً واجبا عليهم فلم يجز لهم أن يأخذوا عليه جعلا وهذا مخالف لما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، وذلك أنه لم يشارطهم على أن يسلموا فيعطيهم جعلا على الإسلام وإنما أعطاهم عطايا باتة وإن كان في ضمنها استمالة لقلوبهم وتألفهم على الدين وترغيب من وراءهم من قبائلهم في الدخول فيه.

ومن باب السعاية على الصدقة
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة صاحب مكس.
قلت صاحب المكس هو الذي يُعشر أموال المسلمين ويأخذ من التجار

(3/4)


والمختلفة إذا مروا عليه وعبروا به مكساً باسم العشر وليس هو بالساعي الذي يأخذ الصدقات فقد ولي الصدقات أفاضل الصحابة وكبارهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده.
وأصل المكس النقص ومنه أخذ المِكاس في البيع والشراء وهو أن يستوضعه شيئاً من الثمن ويستنقصه منه قال الشاعر:
وفي كل أسواق العراق أتاوة……وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
فأما العشر الذي يصالح عليه أهل العهد في تجاراتهم إذا اختلفوا إلى بلاد المسلمين فليس ذلك بمكس ولا آخذه بمستحق للوعيد إلاّ أن يتعدى ويظلم فيخاف عليه الاثم والعقوبة.

ومن باب الخليفة يستخلف
قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: قال عمر إنْ لا استخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف قال فو الله ما هو إلاّ أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وأنه غير مستخلف.
قلت معنى قول عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أي لم يسم رجلا بعينه للخلافة فيقوم بأمر الناس باستخلافه إياه فأما أن يكون أراد به أنه لم يأمر بذلك ولم يرشد إليه وأهمل الناس بلا راع يرعاهم أو قيم يقوم بأمورهم ويمضي أحكام الله فيهم فلا وقد قال صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش فكان معناه الأمر بعقد البيعة لإمام من قريش ولذلك رُئيت الصحابة يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم

(3/5)


يقضوا شيئا من أمر دفنه وتجهيزه حتى أحكموا أمر البيعة ونصبوا أبا بكر إماما وخليفة وكانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره إذ كان الذي فعلوه من ذلك صادرا عن رأيه ومضافا إليه وذلك من أدل الدليل على وجوب الخلافة وأنه لا بد للناس من إمام يقوم بأمر الناس ويمضي فيهم أحكام الله ويردعهم عن الشر ويمنعهم من التظالم والتفاسد وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم مؤته زيد بن حارثة، وقال إن قتل فأميركم جعفر بن أبي طالب فإن قتل جعفر فأميركم عبد الله بن رواحة فأخذها زيد فاستشهد، ثم أخذها جعفر فاستشهد ثم أخذها عبد الله بن رواحة فاستشهد، ثم أخذها خالد بن الوليد ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم إليه في ذلك ففتح الله عليه وحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أثره وأثنى عليه خيراً. وكل ذلك يدل على وجوب الاستخلاف ونصب الإمام، ثم أن عمر لم يهمل الأمر ولم يبطل الاستخلاف ولكن جعله شورى في قوم معدودين لا يعدوهم فكل من أقام بها كان رضاً ولها أهلاً فاختاروا عثمان وعقدوا له البيعة فالاستخلاف سنة اتفق عليها الملأ من الصحابة وهو اتفاق الأمة لم يخالف فيه إلا الخوارج والمارقة الذين شقوا العصا وخلعوا ربقة الطاعة.

ومن باب البيعة
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كنا نبايع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ويلقننا فيما استطعت.
قلت فيه دليل على أن حكم الإكراه ساقط غير لازم لأنه ليس مما يستطاع دفعه.

ومن باب أرزاق العمال
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا ليث عن بكير بن عبد الله

(3/6)


بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي قال: استعملني عمر رضى الله عنه على الصدقة فلما فرغت أمر بعُمالة فقلت إنما عملت لله قال خذ ما اعطيت فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني.
قوله عملني معناه أعطاني العمالة.
وفيه بيان جواز أخذ العامل الأجرة بقدر مثل عمله فيما يتولاه من الأمر، وقد سمى الله تعالى للعاملين سهما في الصدقة فقال {والعاملين عليها} فرأى العلماء أن يعطوا على قدر غنائهم وسعيهم.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثثا المعافى حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا، قال وقال أبو بكر رضي الله عنه أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق.
قلت وهذا يتأول على وجهين أحدهما: أنه إنما أباح له اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجر مثله وليس له أن يرتفق بشيء سواها. والوجه الآخر أن للعامل السكنى والخدمة - فإن لم يكن له مسكن وخادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه مهنة مثله ويكتري له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله.

ومن باب هدايا العمال
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وابن أبي خلف لفظه قالا: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة، عَن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل

(3/7)


رجلا من الأزد يقال له ابن المُتبية على الصدقة فجاء فقال هذا لكم وهذا لي فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلاّ جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت.
قلت في هذا بيان أن هدايا العمال سحت وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة وإنما يهدى إليه المحاباة وليخفف عن المهدي ويسوغ له بعض الواجب عليه وهو خيانة منه وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله.
وفي قوله الا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونه يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونه يركبها ويرتفق بها من غير عوض. وفي معناه من باع درهما ورغيفا بدرهمين لأن معلوماً أنه إنما جعل الرغيف ذريعة إلى أن يربح فضل الدرهم الزائد، وكذلك كل تلجئة وكل دخيل في العقود يجري مجرى ما ذكرناه على معنى قول هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر وفرق بين قِرانها هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا والله أعلم.

(3/8)


ومن باب ما يلزم الإمام من أمر الرعية
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا يزيد بن أبي مريم أن القاسم بن مخيمرة أخبره أن أبا مريم الأزدي أخبره قال دخلت على معاوية فقال ما أنعَمنا بك أبا فلان، وهي كلمة تقولها العرب فقلت حديث سمعته أخبرك به سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولاه الله شيئا من أمرالمسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره قال فجعل رجلا على حوائج الناس.
قول ما أنعمنا بك يريد ما جاءنا بك أو ما أعملك إلينا وأحسبه مأخوذاً من قوله نعم ونُعمة عين أي قرة عين؛ وإنما يقال ذلك لمن يعتد بزيارته ويفرح بلقائه كأنه يقول ما الذي أطلعك علينا وحيانا بلقائك، ومن ذلك قولهم أنعم صباحاً هذا أو ما أشبهه من الكلام والله أعلم.

ومن باب قسم الفيء
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن عمر دخل على معاوية، فقال حاجتك يا أبا عبد الرحمن؛ فقال عطاء المُحَرّرين فأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما جاء شيء بدأ بالمحررين.
ققلت يريد بالمحررين المعتقين وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم وإنما يدخلون تبعاً في جملة مواليهم، وكان الديوان موضوعا على تقديم بني هاشم ثم الذين يلونهم في القرابة والسابقة وكان هؤلاء مؤخرين في الذكر فاذكر بهم عبد الله

(3/9)


بن عمر وتشفع في تقديم أعطيتهم لما علم من ضعفهم وحاجتهم. ووجدنا الفيء مقسوما لكافة المسلمين على ما دلت عليه الأخبار إلاّ من استثنى منهم من أعراب الصدقة، وقال عمر بن الخطاب لم يبق أحد من المسلمين إلاّ له فيه حق إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم وإن عشت إن شاء الله ليأتين كل مسلم حقه حتى يأتي الراعي بسر وحِمْير لم يعرق فيه جبينه، واحتج عمر رضي الله عنه في ذلك بقوله {والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 10] الآية.
وقال أحمد وإسحاق الفيء للغني والفقير إلاّ العبيد، واحتج أحمد في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس من مال البحرين، والعباس رضي الله عنه غني.
والمشهور، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سوى بين الناس ولم يفضل بالسابقة وأعطى الأحرار والعبيد، وعن عمر رضي الله عنه أنه فضل بالسابقة والقدم وأسقط العبيد ثم رد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأمر إلى التسوية بعد، ومال الشافعي إلى التسوية وشبهه بقسم المواريث.

ومن باب أرزاق الذرية
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعاً فإليّ وعليّ.
قلت هذا فيمن ترك ديناً لا وفاء له في ماله فإنه يقضي دينه من الفيء، فأما من ترك وفاء فإن دينه مقضي منه ثم بقية ماله بعد ذلك مقسومة بين ورثته، والضَيَاع اسم لكل ما هو معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية الصغار والأطفال والزمني الذين لا يقومون بكل أنفسهم وسائر من يدخل في معناهم.

(3/10)


وكان الشافعي يقول ينبغي للإمام أن يحصي جميع من في البلدان من المقاتلة وهم من قد احتلم أو استكمل خمس عشرة سنة من الرجال ويحصي الذرية وهي من دون المحتلم ودون البالغ والنساء صغيرتهن وكبيرتهن ويعرف قدر نفقاتهم وما يحتاجون إليه في مؤناتهم بقدر معايش مثلهم في بلدانهم ثم يعطي المقاتلة في كل عام عطاءهم. والعطاء الواجب من الفيء لا يكون إلاّ لبالغ يطيق مثله الجهاد ثم يعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقتهم. قال ولم يختلف أحد لقيناه في أن ليس للمماليك في العطاء حق ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة، قال وإن فضل من المال فضل بعد ما وصفت وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع. وكل ما قوي به المسلمون. فإن استغنى المسلمون وكملت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى منه بينهم كله على قدر ما يستحقون في ذلك المال. قال ويعطى من الفيء رزق الحكام وولاة الأحداث والصلاة بأهل الفيء وكل من قام بأمر الفيء من وال وكاتب وجندي ممن لا غنى لأهل الفيء عنه رزق مثله.

ومن باب كراهية الاقتراض في آخر الزمان
قال أبو داود: حدثنا هشام بن عمار حدثنا سليم بن مطير شيخ من أهل وادي القرى عن أبيه أنه حدثه قال سمعت رجلا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع أمرالناس ونهاهم ثم قال هل بلغت، قالوا اللهم نعم ثم قال إذا تجاحفت قريش الملك فيما بينهم وعاد العطاءُ رشا فدعوه فقيل من هذا قالوا هذا أبو الزوائد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تجاحفت يريد تنازعت الملك حتى تقاتلت عليه وأجحف بعضها ببعض

(3/11)


وقوله وعاد العطاء رُشا هو أن يصرف عن المستحقين ويعطى من له الجاه والمنزلة.

ومن باب تدوين العطاء
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري أن جيشاً من الأنصار كانوا بأرض فارس مع أميرهم، وكان عمر بن الخطاب يُعْقب الجيوش في كل عام فشغل عنهم عمر فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر فاشتد عليهم وواعدهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا عمر إنك غفلت عنا وتركت فينا الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعقاب بعض الغزية بعضاً.
الأعقاب أن يبعث الإمام في أثر المقيمين في الثغر جيشا يقيمون مكانهم وينصرف أولئك فإنه إذا طالت عليهم الغيبة والغزية تضرروا به وأضر ذلك بأهليهم، وقد قال عمر رضي الله عنه في بعض كلامه لا تجمروا الجيوش فتفتنوهم يريد لا تطيلوا حبسهم في الثغور.

ومن باب صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر الزهراني قال حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس وهو ابن الحدثان قال أرسل إليّ عمر حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله فقال حين دخلت عليه يا مال أنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشيء فأقسم فيهم، قلت لو أمرت غيري بذلك فقال خذه فجاء يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص قال نعم فأذن لهم فدخلوا ثم جاءه

(3/12)


يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي قال نعم فأذن لهما فدخلا فقال العباس يا أمير المؤمنين اقضى بيني وبين هذا، يَعني علياً، فقال بعضهم أجل يا أمير المؤمنين أقض بينهما وارحمهما، قال مالك بن أوس خيل إليَّ أنهما قدما أولئك النفر لذلك فقال عمر اتئدا ثم أقبل على أولئك الرهط، فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نُورثُ ما تركنا صدقة قالوا نعم ثم أقبل على علي والعباس رضى الله عنهما، فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة فقالا نعم، قال فإن الله خص رسول بخاصة لم يخص لها أحداً من الناس فقال {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير} [الحشر: 6] وكان الله أفاء على رسول بني النضير فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أخذها دونكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماخذ منها نفقة أهله سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ويجعل ما بقي أسوة المال، ثم أقبل على أولئك الرهط، فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك قالوا نعم. ثم أقبل على العباس وعلى رضي الله عنهما فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك قالا نعم فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر فلما توفي قلتُ أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها فجئت أنت

(3/13)


وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت إن شئتما أن أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتاني لأقضي بينكما بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إليّ.
قال أبو داود وإنما سألاه أن يصيرها بينهما نصفين فقال عمر رضي الله عنه لا أوقع عليها اسم القسم.
قلت ما أحسن ما قال أبو داود وما أشبهه بما تأوله، والذي يدل من نفس الحديث وسياق القصة على ما قال أبو داود قول عمر لهما فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فهذا يبين أنهما إنما اختصما إليه في رأي حدث لهما في أسباب الولاية والحفظ فرام كل واحد منهما التفرد به دون صاحبه ولا يجوز عليهما أن يكونا طالباه بأن يجعله ميراثاً ويرده ملكا بعد أن كانا سلماه في أيام أبي بكر وتخليا عن الدعوى فيه وكيف يجوز ذلك وعمر رضي الله عنه يناشدهما الله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة فيعترفان به والقوم الحضور يشهدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وكل هذه الأمور تؤكد ما قاله أبو داود وتصحح ما تأوله من أنهما إنما طلبا القسمة، ويشبه أن يكون عمر إنما منعهما القسمة احتياطا للصدقة ومحافظة عليها فإن القسمة إنما تجري في الأموال المملوكة وكانت هذه الصدقات متنازعة وقت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى فيها الملك والوراثة إلى أن قامت البينة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركته صدقة غير موروثة فلم يسمح لهما عمر بالقسمة ولو سمح لهما بالقسمة لكان لا يؤمن أن يكون ذلك ذريعة لمن يريد أن يمتلكها بعد علي والعباس ممن ليس له بصيرتهما

(3/14)


في العلم ولا تقيتهما في الدين فرأى أن يتركها على الجملة التي هي عليها ومنع أن تجول عليها السهام فيتوهم أن ذلك إنما كان لرأي حدث منه فيها أوجب إعادتها إلى الملك بعد اقتطاعها إلى الصدقة، وقد يحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أن الأمرالمفوض إلى الاثنين الموكول إليهما وإلى أمانتهما وكفايتهما ليمضياه بمشاركة منهما أقوى في الرأي وأدنى إلى الاحتياط من الاقتصار على أحدهما والاكتفاء به دون مقام الآخر ولو أوصى رجل بوصية إلى عمرو وزيد أو وكل رجل زيداً وعمراً لم يكن لواحد منهما أن يستبد بأمر منهما دون صاحبه فنظر عمر لتلك الأموال واحتاط فيها بأن فوضها إليهما معاً فلما تنازعاها قال لهما إما تلياها جميعا على الشرط الذي عقدته لكما في أصل التولية وإما أن ترداها إلي فأتولاها بنفسي وأجريها على سبلها التي كانت تجري أيام أبي بكر رضي الله عنه.
قلت وروي أن علياً رضي الله عنه غلب عليها العباس بعد ذلك فكان يليها أيام حياته ويدل على صحة التأويل الذي ذهب إليه أبو داود أن منازعة علي رضي الله عنه عباساً لم تكن من قبل أنه كان يراها ملكا وميراثا أن الأخبار لم تختلف عن علي رضي الله عنه أنه لما أفضت إليه الخلافة وخلص له الأمر أجراها على الصدقة ولم يغير شيثا من سبلها.
وحدثني أبو عمر محمد بن عبد الواحد النحوي أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال كان أول خطبة خطبها أبو العباس السفاح في قرية يقال لها العباسية بالأنبار فلما افتتح الكلام وصار إلى ذكر الشهادة من الخطبة قام رجل من آل أبي طالب في عنقه مصحف فقال أذكرك الله الذي ذكرته الا أنصفتني من خصمي وحكمت بيني وبينه بما في هذا المصحف فقال له ومن ظالمك

(3/15)


قال أبو بكر الذي منع فاطمة فدك قال فقال له وهل كان بعده أحد قال نعم، قال من قال عمر، قال وأقام على ظلمكم قال نعم قال وهل كان بعده أحد قال نعم، قال من قال عثمان قال وأقام على ظلمكم قال نعم، قال وهل كان بعده أحد قال نعم قال من قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال وأقام على ظلمكم قال فأسكت الرجل وجعل يلتفت إلى ما وراءه يطلب مخلصا فقال له والله الذي لا إله إلاّ هو لولا أنه مقام قمته ثم أني لم أكن تقدمت إليك في هذا قبل لأخذت الذي فيه عيناك أقعد وأقبل على الخطبة.
قوله مفضيا إلى رماله يريد أنه كان قاعداً عليه من غير فراش ورمالة ما يرمل وينسج به من شريط ونحوه.
وقوله دف أهل أبيات من قومك معناه أقبلوا ولهم دفيف وهو مشي سريع في مقاربة خطو يريد أنهم وردوا المدينة لضر أصابهم في بلادهم، وفي قول عمر إن الله خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس وتلا على أثره الآية دليل على أن أربعة أخماس الفيء كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في حياته.
واختلفوا فيمن هي له بعده وأين تصرف وفيمن توضع فقال الشافعي فيها قولان أحدهما أن سبيلها سبيل المصالح فتصرف إلى الأهم فالأهم من مصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة أولاً فيعطون قدر كفايتهم ثم يبدأ بالأهم فالأهم من المصالح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه لفضيلته وليس لأحد من الأئمة بعده تلك الفضيلة فليس لهم أن يمتلكوها. والقول الآخر أن ذلك للمقاتلة كله يقسم فيهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يأخذه لماله من الرعب والهيبة في طلب العدو والمقاتلة هم القائمون مقامه في إرهاب العدو وإخافتهم.

(3/16)


وكان مالك يرى أن الفيء للمصالح قال وكذلك كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكي عنه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك فيه مالا أو كان لا يصح منه الملك. قلت وهذا القول أن صح عنه فهو خطأ، وقال بعض أهل العلم الفيء للأئمة بعده.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أيوب عن الزهري قال قال عمر رضي الله عنه {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6] قال الزهري قال عمر هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عربية فدك وكذا وكذا {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] و {للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأ موالهم والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 8] فاستوعيت هذه الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلاّ له فيها حق أو قال حظ إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم.
قلت مذهب عمر في تأويل هذه الآيات الثلاث في سورة الحشر أن تكون منسوقة على الآية الأولى منها وكان رأيه في الفيء أن لا يخمس كما تخمس الغنيمة لكن تكون جملته لجملة المسلمين مرصدة لمصالحهم على تقديم كان يراه وتأخير فيها وترتيب لها، وإليه ذهب عامة أهل الفتوى غير الشافعي فإنه كان يرى أن يخمس الفيء فيكون أربعة أخماسه لأرزاق المقاتلة والذرية وفي الكراع والسلاح وتقوية أمر الدين ومصالح المسلمين ويقسم خمسه على خمسة أقسام كما قسم سبى الغنيمة واحتج بقوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} .

(3/17)


وكان يذهب إلى أن ذكر الله إنما وقع في أول الآية على سبيل التبرك بالافتتاح باسمه وإنما هو سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل التفسير، قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح خمس الله وخمس رسوله واحد، وقال قتادة فإن لله خمسه قال هو لله، ثم بين قسم الخمس خمسة أخماس، وقال الحسن بن محمد بن الحنفية هذا مفتاح الكلام لله الدنيا والآخرة.
قلت والذي ذهب إليه الشافعي هو الظاهر في التلاوة وقد اعتبره بآية الغنيمة وهو قوله {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] فحمل حكم الفيء عليها في إخراج الخمس منه ويشهد له على ذلك أمران أحدهما أن العطف الآخر على الأول لا يكون إلاّ ببعض حروف النسق وحرف النسق معدوم في ابتداء الآية الثانية وهي قوله {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] وإنما هو ابتداء كلام، والمعنى الآخر أن المسمين في الآية الآخرة وهي قوله {والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 10] لو كانوا داخلين في أهل الفيء لوجب أن يعزل حقوقهم ويترك إلى أن يلحقوا كما يفعل ذلك بالوارث الغائب والشريك الظاعن ويحفظ عليه حتى يحضر ولم يكن يجوز أن يستأثر الحاضرون بحقوق الغُيّب إلاّ أن عمر بن الخطاب أعلم بحكم الآية وبالمراد بها، وقد تابعه عامة الفقهاء ولم يتابع الشافعي على ما قاله فالمصير إلى قول الصحابي وهو الإمام العدل المأمور بالاقتداء به في قوله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر أولى وأصوب.
وما أحسب الشافعي عاقه عن متابعة عمر في ذلك إلاّ ما غلبه من ظاهر الآية وأعوزه من دلالة حرف النسق فيما يعتبر من حق النظم والله أعلم.

(3/18)


وقوله إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم يتأول على وجهين أحدهما ما ذهب إليه أبو عبيد فانه روى حديثا عن يحيى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي عن مخلد الغفاري أن مملوكين أو ثلاثة لبني غفار شهدوا بدرا فكان عمر يعطي كل رجل منهم في كل سنة ثلاثة آلاف درهم. قال أبوعبيد فاحسب أنه إنما أراد هؤلاء المماليك البدريين بمشهدهم بدرا، ألا ترى أنه خص ولم يعم وقال غيره بل أراد به جميع المماليك وإنما استثنى من جملة المسلمين بعضاً من كل فكان ذلك منصرفا إلى جنس المماليك وقد يوضع البعض في موضع الكل كقول لبيد:
* أو يعتلق بعض النفوس حمامها *
يريد النفوس كلها.
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة أن عائشة أخبرته بهذا الحديث وذكرت قصة فاطمة وطلبها من أبي بكر ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فأبى أبو بكر عليها وقال لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلاّ عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، قال فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس فغلب عليّ عليها، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمرقال فهما على ذلك إلى اليوم.
وقوله تعروه أي تغشاه وتنتابه يقال عراني ضيف وعراني هم أي نزل بي.

(3/19)


قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن المغيرة قال جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له فدك فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم ويزوج فيه أيمّهم وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى فكانت كذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى لسبيله فلما أن ولي عمر عمل فيها بمثل ما عملا حتى مضى لسبيله ثم أقطعها مروان ثم صارت لعمر بن عبد العزيز، قال عمر رأيت أمراً منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ليس لي بحق وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت.
قلت إنما أقطعها مروان في أيام حياة عثمان بن عفان وكان ذلك مما عابوه وتعلقوا به عليه، وكان تأويله في ذلك والله أعلم ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها وينفق على عياله قوت سنة ويصرف الباقي مصرف الفيء فاستغنى عثمان عنها بماله فجملها لأقربائه ووصل بها أرحامهم وقد روى أبو داود هذا الحديث.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن الفضيل عن الوليد بن جُميع، عَن أبي الطفيل قال جاءت فاطمة إلى أبي بكر رضي الله عنهما تطلب ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده.
قلت وفيه حجة لمن ذهب إلى أن أربعة أخماس الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للأئمة بعده.

ومن باب بيان مواضع قسم الخمس
وسهم ذي القربى
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الرحمن بن مهدي

(3/20)


عن عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب أخبرني جبير بن مطعم أنه جاء هو وعثمان بن عفان يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قسم من الخمس في بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله قسمت لاخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئا، يَعني بني عبد شمس وبني نوفل وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، قال جبير ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس كما قسم لبني هاشم وبني المطلب، قال وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم، قال وكان عمر بن الخطاب يعطيهم منه وعثمان بعده.
قلت قوله بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد يريد به الحلف الذي كان بين بني هاشم وبين بني المطلب في الجاهلية، وفي غير هذه الرواية أنه قال إنا لم نفترق في جاهلية ولا في إسلام، وكان يحيى بن معين يرويه إنما بنو هاشم وبن المطلب سيّ واحد بالسين غير المعجمة أي مثل سواء يقال هذا سيّ هذا أي مثله ونظيره.
وفي الحديث دليل على ثبوت سهم ذي القربى لأن عثمان وجبيرا إنما طالباه بالقرابة، وقد عمل به الخلفاء بعد عمر وعثمان، وجاء في هذه الرواية أن أبا بكر لم يقسم لهم، وقد جاء في غير هذه الرواية عن علي أن أبا بكر قسم لهم وقد رواه أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير حدثنا هاشم بن البريد حدثنا حسين بن ميمون عن عبد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت عليا يقول اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي صلى الله عليه وسلم

(3/21)


فقلت يا رسول الله إن رأيت أن توليني حقنا من هذه الخمس في كتاب الله تعالى فأقسمه في حياتك كي لا ينازعني أحد بعدك فافعل. قال ففعل ذلك فقسمته حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ولانيه أبو بكر حتى كان آخر سنة من سني عمر فإنه أتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسل إليَّ فقلت بنا عنه العام غنى وبالمسلمين إليه حاجة فأردده عليهم، ثم لم يدعني إليه أحد بعد عمر فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال يا علي حرمتنا الغداة شيئاً لا يرد علينا أبداً وكان رجلا داهياً.
قلت فقد روي عن علي رضي الله عنه أن أبا بكر كان يقسم فيهم وكذلك عمر إلى أن تركوا حقهم منه فدل ذلك على ثبوت حقهم.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال الشافعي حقهم ثابت وكذلك مالك بن أنس وقال أصحاب الرأي لا حق لذي القربى وقسموا الخمس في ثلاثة أصناف. وقال بعضهم إنما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب للنصرة في القرابة ألا تراه يقول إنا لم نفترق في جاهلية ولا إسلام فنبه على أن سبب الاستحقاق النصرة والنصرة قد انقطعت فوجب أن تنقطع العطية.
قلت هذا المعنى بمفرده لا يصح على الاعتبار ولو كان ذلك من أجل النصرة حسب لكان بنو هاشم أولى الناس بأن لا يعطوا شيئا فقد كانوا ألباً واحداً عليه وإنما هو عطية باسم القرابة كالميراث، وقد قيل إنما أعطوه عوضا من الصدقة المحرمة عليهم وتحريم الصدقة باق فليكن السهم باقياً.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث وعباس بن عبد المطلب قالا

(3/22)


لعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن عباس ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولا له يا رسول الله قد بلغنا من السن ما ترى وأحببنا أن نتزوج وأنت يا رسول الله أبر الناس وأوصلهم وليس عند أبوينا ما يصَدِقان عنا فاستعملنا يا رسول الله على الصدقات فلنؤد إليك ما يؤدي العمال ولنُصب ما كان فيها من مرفق، قال فأتى علي بن أبي طالب ونحن على تلك الحال فقال لنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله لا يستعمل منكم أحدا على الصدقة، فقال له ربيعة هذا من أمرك قد نلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نحسدك عليه فألقى علي رضي الله عنه رداءه ثم اضطجع عليه فقال أنا أبو الحسن القَرْم والله لا أريم حتى يرجع إليكما ابناكما بحَوْر ما بعثتما به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد المطلب فانطلقت أنا والفضل حتى نوافق صلاة الظهر قد قامت فصلينا مع الناس ثم أسرعت أنا والفضل إلى باب حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت جحش فقمنا بالباب حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذني وأذن الفضل فقال اخرجا ما تصرران ثم دخل فأذن لي وللفضل فدخلنا فتواكلنا الكلام قليلاً ثم كلمته أو كلمه الفضل قد شك في ذلك عبد الله فقال كلمه بالذي أمرنا به أبوانا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ورفع بصره قبل سقف البيت حتى طال علينا أنه لا يرجع إلينا شيئا حتى رأينا زينب تلمع من وراء الحجاب بيدها تريد أن لا نعجل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرنا، ثم خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال لنا إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وأنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ادعوا لي نوفل بن الحارث فدعي له نوفل، فقال يا نوفل أنكح عبد المطلب فأنكحني نوفل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ادعوا لي مَحْمية بن جزء وهو رجل من بني زبيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمية أنكح الفضل فأنكحه،

(3/23)


ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فاصدق عنهما من الخمس كذا وكذا.
قوله أنا أبو الحسن القرم هو في أكثر الروايات القوم وكذلك رواه لنا ابن داسة بالواو وهذا لا معنى له وإنما هو القرم وأصل القرم في الكلام فحل الإبل ومنه قيل للرئيس قرم يريد بذلك أنه المقدم في الرأي والمعرفة بالأمور فهو فيهم بمنزلة القرم في الإبل.
وقوله بحور ما بعثتما به أي بجواب المسألة التي بعثتما فيها وبرجوعها؛ وأصل الحور الرجوع يقال كلمته فما أحار إليَّ جواباً، أي ما رد إلي جواباً.
وقوله اخرجا ما تصرران يريد ما تكتمان أو ما تضمران من الكلام وأصله من الصرر وهو الشد والإحكام.
وقوله فتواكلنا الكلام معناه أن كل واحد منا قد وكل الكلام إلى صاحبه يريد أن يبتدئ الكلام صاحبه دونه.
وقوله قم فاصدق عنهما من الخمس أى من حصته من الخمس الذي هو سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يأخذ لطعامه ونفقة أهله قدر الكفاية ويرد الباقي منه على يتامى بني هاشم وأياماهم ويضعه حيث أراه الله من وجوه المصلحة. وهو معنى قوله مالي مما أفاء الله عليّ إلاّ الخمس وهو مردود عليكم، وقد يحتمل أن يكون إنما أمره أن يسوق المهر عنهما من سهم ذي القربى وهو من جملة الخمس والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة بن خالد حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن عليا رضي الله عنه قال كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني

(3/24)


شارفا من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلا صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بأذخر أردت أن أبيعه من الصواغين فنستعين به في وليمة عرسي فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار أقبلت حين جمعت ما جمعت فإذا شارفاي قد اجتُبْت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر فقلت من فعل هذا قالوا فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار غنته قينته وأصحابه فقالت في غنائها، ألا يا حمز للشُرُف النواء، فوثب إلى السيف فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما، قال علي رضي الله عنه فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، قال فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لقيت فقال مالك فقلت يا رسول الله ما رأيت كاليوم عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هو ذا في بيت معه شرب قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى به ثم انطلق يمشي فاتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء إلى البيت الذي فيه حمزة فاستأذن له فإذا هم شَرب فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعَّد النظر فنظر إلي سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة وهل أنتم إلاّ عبيد لآبائي فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبه القهقرى فخرج وخرجنا معه.

(3/25)


قلت الشارف المسنة من النوق، وقولها (ألا يا حمز للشرف النواء) فإن الشرف جمع الشارف والنواء السمان يقال نوت الناقة تنوي فهي ناوية وهي نواء قال الشاعر:
لطال ما جررتكن جرا ... حتى نوى الأعجف واستمرا
وتمام البيت:
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفِناء
في أبيات تستدعيه فيها نحرهن وأن يطعم لحومهن أصحابه وأضيافه فهزته أريحية الشراب والسماع فكان منه ذلك الصنيع؛ والثمل السكران.
وقد احتج يهذا الحديث بعض من ذهب إلى إبطال طلاق السكران وزعم أن أقواله التي تكون منه في حال السكر لا حكم لها قال ولو كان يلزمه أقواله لكان حمزة حين خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما خاطبه به من القول خارجا من الدين.
قلت وقد ذهب على هذا القائل أن هذا إنما كان من حمزة قبل تحريم الخمر لأن حمزة قتل يوم أحد وكان تحريم الخمر بعد غزوة أحد فكان معذورا في قوله غير مؤاخذ به وكان الحرج عنه زائلا إذ كان سببه الذي دعاه إليه مباحا كالنائم والمغمى عليه يجري على لسانه الطلاق والقذف فلا يؤاخذ بهما، فأما وقد حرمت الخمر حتى صار شاربها مؤاخذاً بشربها محدودا فيها فقد صار كذلك مؤاخذا بما يجري على لسانه من قول يلزمه به حكم كالطلاق والقذف وسائر جنايات اللسان، وقد أجمعت الصحابة على أن حد السكران حد المفتري قالوا وذلك لأنه إذا سكر هذى فإذا هذى افترى فألزموه حد المفتري.
وفي ذلك بيان أنهم جعلوه مؤاخذاً بأقواله معاقبا بجناياته وإنما توقفوا عن قتله إذا ارتد في حال السكر استيناء به ليتوب في صحوه في حال يعقل ما يقوله ويصح منه ما يعتقده من التوبة وهو لو ارتد صاحيا لاستتيب ولم يقتل في فوره

(3/26)


فكذلك إذا ارتد وهو سكران.
وقد اختلف العلماء في أقوال السكران، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي طلاق السكران لازم وهو قول أصحاب الرأي، وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والنخعي وابن سيرين ومجاهد، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني طلاقه غير لازم، وقد روي ذلك عن عثمان بن عفان وابن عباس وهو قول القاسم بن حد وعمر بن عبد العزيز وطاوس. ووقف أحمد بن حنبل عن الجواب في هذه المسألة وقال لا أدري.
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري، عَن أبي الورد عن ابن أعبد قال: قال لي عليّ ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت من أحب أهله إليه قلت بلى قال أنها جرت بالرحى حتى أثر في يدها واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خدم فقلت لو أتيت أباك فسألتيه خادما فأتته فوجدت عنده حُدّاثاً فرجعت فأتته من الغد فقال ما كان حاجتك فسكتت فقلت أنا أحدثك يا رسول الله جرت بالرحى حتى أثر في يدها وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادما يقيها حر ما هي فيه، قال اتقي الله يا فاطمة وأدي فريضة ربك واعملي عمل أهلك وإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين فتلك مائة فهي خير لك من خادم قالت رضيت عن الله وعن رسوله.
قلت فيه من الفقه أن المرأة ليس لها أن تطالب زوجها بخادم كما لها أن تطالبه

(3/27)


بالنفقة والكسوة وإنما لها عليه أن يكفيها الخدمة حسب ولو كان ذلك واجبا لها عليه لأشبه أن يلزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أو يخبره من جه الحكم في ذلك وإن كانت الحال بين علي وفاطمة ألطف من أن يجري بينهما المناقشة في الحقوق الواجبة على الزوجين.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عنبسة بن عبد الواحد القرشي حدثنا الدخيل بن أياس بن نوح بن مُجَّاعة عن هلال بن سر اج بن مجاعة عن أبيه عن جده مجاعة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب دية أخيه قتلته بنو سدوس من بني ذهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت جاعلاً لمشرك دية جعلتها لأخيك ولكن سأعطيك منها عقبى فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل من أول خمس يخرج من مشركي بني ذهل.
قلت معنى العقبى العوض ويشبه أن يكون إنما أعطاه ذلك تألفاً له أو لمن وراءه من قومه على الإسلام.

ومن باب سهم الصفيّ
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة قال سمعت يزيد بن عبد الله قال كنا بالمربد فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر فقلنا كأنك من أهل البادية؛ قال أجل قلنا ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك فناولناها فقرأنا ما فيها فإذا فيها: من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أُقيش أنكم إن شهدتم أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي وسهم الصفيّ أنتم آمنون بأمان الله ورسوله، فقلنا من كتب لك هذا الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت أما سهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يسهم له كسهم رجل ممن شهد الوقعة

(3/28)


حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أوغاب عنها. وأما الصفي فهو ما يصطفيه من عرض الغنيمة من شيء قبل أن يخمس عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها وكان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك مع الخمس الذي له خاصة.

ومن باب خبر النضير
قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن كفار قريش كتبوا إلى اليهود أنكم أهل الحلقة والحصون وأنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا ولا يحول بيننا وبين خَدم نسائكم شيء فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أجمعت بنو النضير بالغدر فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبرا نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم بالكتائب فحصرهم وذكر القصة.
قوله إنكم أهل الحلقة والحصون يريد بالحلقة السلاح، وقيل أراد بها الدرع لأنها حَلق مسلسلة وخَدَم النساء خلاخيلهن واحدتها خَدَمة والمخدّم موضع الخلخال من الرجل والكتائب الجيوش المجتمعة واحدتها كتيبة ومنها الكتاب المكتوب، ومعناه الحروف المضمومة بعضها إلى بعض.

ومن باب حكم أرض خيبر
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر قال أحسبه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه

(3/29)


أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على الأرض والنخل وألجأهم إلى قصرهم فصالحوه على أن لرسول الله الصفراء والبيضاء والحلقة ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فان فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مَسْكاً لحُيي بن أخطب وقد كان قتل قبل خيبر كان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير فيه حليهم قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لسَعنة أين مَسك حُيي بن أخطب قال أذهبته الحروب والنفقات فوجدوا المسك فقتل ابنَ أبي الحقيق وسبى نساءهم وذراريهم وأراد أن يجليهم فقالوا يا محمد دعنا نعمل في هذه الأرض ولنا الشطر ما بدا لك ولكم الشطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير.
قلت مسك حيي بن أخطب ذخيرة من صامت وحليّ كانت له وكانت تدعى مسك الحمل ذكروا أنها قومت عشرة آلاف دينار فكانت لا تزف امرأة إلاّ استعاروا لها ذلك الحلي وكان شارطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكتموه شيئا من الصفراء والبيضاء فكتموه ونقضوا العهد وظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من أمره فيهم ما كان.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا أسد بن موسى حدثنا يحيى بن زكرياء حدثني سفيان عن يحيى بن سعيد عن بُشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه ولحاجته ونصفا بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً.
قلت فيه من الفقه أن الأرض إذا غنمت قسمت كما يقسم المتاع، والخُرثي

(3/30)


لا فرق بينهما وبين غيرهما من الأموال. والظاهر من أمر خيبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وإذا كانت عنوة فهي مغنومة، وإذا صارت غنيمة فإنما حصته من الغنيمة خمس الخمس وهو سهمه الذي سماه الله له في قوله {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] فكيف يكون له النصف منها أجمع حتى يصرفه في حوائجه ونوائبه على ظاهر ما جاء في هذا الحديث.
قلت وإنما يشكل هذا على من لا يتتبع طرق الأخبار المروية في فتوح خيبر حتى يجمعها ويرتبها فمن فعل ذلك تبين أمر صحة هذه القسمة من حيث لا يشكل معناه، وبيان ذلك أن خيبر كانت لها قرى وضياع خارجة عنها منها الوطيحة والكتيبة والشق والنطاة والسلاليم وغيرها من الأسماء فكان بعضها مغنوما وهو ما غلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبيلها القسم، وكان بعضها فيئا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان خاصا لرسول الله يضعه حيث أراه الله من حاجته ونوائبه ومصالح المسملين فنظروا إلى مبلغ ذلك كله فاستوت القسمة فيها على النصف والنصف وقد بين ذلك الزهري.
قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد أخبركم ابن وهب حدثني مالك عن ابن شهاب أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحاً والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، قلت لمالك وما الكتيبة قال أرض خيبر وهي أربعون ألف عذق.
قلت العَذق النخلة مفتوحة العين والعِذق بكسرها الكباسة.

(3/31)


ومن باب خبر مكة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمرّ الظهران، فقال له العباس يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فلو جعلت له شيئا، فقال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
قلت فيه من الفقه أن المشرك إذا خرج من دار الكفر وأسلم وبقيت زوجته في دار الكفر لم تسلم فإن الزوجية بينهما لا تنفسخ ما اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ظهر على مكة بعد وأسلم أبو سفيان بمرّ الظهران وبقيت هند بمكة وهي دار كفر بعد ثم اجتمعا في الإسلام قبل انقضاء العدة فكانا على نكاحهما.
واحتج بقوله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن من زعم أن فتح مكة كان عنوة لا صلحا وأن للإمام إذا ظهر على قوم كفار أن يؤمن من شاء منهم فيمنَّ عليه ويقتل من شاء منهم وله أن يترك الأرض في أيدي أهلها لا يقسمها بين الغانمين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أرض مكة ودورها في أيدي أهلها ولم يقسمها.
وممن قال أنه فتحها عنوة الأوزاعي وأبو يوسف وأبو عبيد القاسم بن سلام إلاّ أن أبا عبيد زعم أنه منّ على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا، وكان هذا خاصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليس لغيره من الأئمة أن يفعل ذلك في شيء من البلدان غيرها وذلك أنها مسجد لجماعة المسلمين وهي مناخ من سبق.

(3/32)


وأجور بيوتها لا تطيب ولا تباع رباعها وليس هذا لغيرها من البلدان.
وقال الشافعي فتحت مكة صلحا وقد سبق لهم أمان فمنهم من أسلم قبل أن يظهر لهم على شيء، ومنهم من لم يسلم وصار إلى قبول الأمان بالقاء السلاح ودخول داره فكيف يغنم مال مسلم أو مال من بذل له الأمان.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم بن مسكين حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام وأبا عبيدة الجراح وخالد بن الوليد على الخيل فقال يا أبا هريرة اهتف بالأنصار اسلكوا هذا الطريق فلا يشرفن لكم أحد إلاّ انمتموه فنادى مناد لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، فعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة فغص بهم وطاف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف المقام ثم أخذ بجنبتي الباب فخرجوا فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام.
قلت في قوله لا يشرفن لكم أحد إلاّ انمتموه دليل على أنه إنما عقد لهم الأمان على شرط أن يكفوا عن القتال وأن يلقوا السلاح فإن تعرضوا له أولأصحابه زال الأمان وحل دماؤهم له. وجملة الأمر في قصة فتح مكة أنه لم يكن أمراً منبرماً في أول ما بذل الأمان لهم ولكنه كان أمرا مظنوناً مترددا بين أن يقبلوا الأمان ويمضوا على الصلح وبين أن يحاربوا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهبة القتال ودخل مكة وعلى رأسه المغفر إذ لم يكن من أمرهم على يقين ولا من وفائهم على ثقة فلذلك عرض الالتباس في أمرها والله أعلم.

(3/33)


وقد اختلف الناس في ملك دور مكة ورباعها وكراء بيوتها فروي عن عمر بن الخطاب أنه ابتاع دار السجن بأربعة آلاف درهم وأباح طاوس وعمرو بن دينار بيع رباع مكة وكراء منازلها، وإليه ذهب الشافعي واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل منزلاً، وذلك أن عقيلا قد كان باع منازل آبائه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم بيعها ماضيا.
وقالت طائفة لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها، وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروي عن عطاء وعمر بن عبد العزيز النهي عن كراء بيوتها. وقال أحمد بن حنبل إني لأتوقى الكراء، يَعني أجور بيوت مكة، وأما الشراء فقد اشترى عمر دار السجن. وقال إسحاق كل شيء من دور مكة فإن بيعها وشراءها وإجارتها مكروهة ولكن الشراء أهون.

ومن باب خبر الطائف
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن علي بن سويد حدثنا أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا أن لا يحشروا وأن لا يعشروا ولا يجبّوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع.
قوله لا تحشروا، معناه الحشر في الجهاد والنفير له وقوله وأن لا تعشروا معناه الصدقة أي لا يؤخذ عشر أموالهم وقوله أن لا يجبوا معناه لا يصلوا وأصل التجبية أن يكب الإنسان على مقدّمه ويرفع مؤخره.
قلت ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمح لهم بالجهاد والصدقة لأنهما لم يكونا

(3/34)


واجبين في العاجل، لأن الصدقة إنما تجب بحلول الحول، والجهاد إنما يجب لحضور العدو، فأما الصلاة فهي راهنة في كل يوم وليلة في أوقاتها الموقوتة ولم يجز أن يشترطوا تركها، وقد سئل جابر بن عبد الله عن اشتراط ثقيف أن لا صدقة عليها ولا جهاد، فقال علم أنهم سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا.
وفي هذا الحديث من العلم أن الكافر يجوز له دخول المسجد لحاجة له فيه أو للمسلم إليه.

ومن باب إيقاف أرض السواد وأرض العنوة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردّبها ودينارها، ثم عدتم من حيث بدأتم قالها زهير ثلاث مرات شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.
قلت المدي مكيال أهل الشام، يقال أنه يسع خمسة عشر أو أربعة عشر مكوكا، والأردب مكيال لأهل مصر ويقال أنه يسع أربعة وعشرين صاعا ومعنى الحديث أن ذلك كائن، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين ويوضع عليها الخراج شيئا مقدراً بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان.
وخرج الأمر في ذلك على ما قاله صلى الله عليه وسلم وبيان ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه بأرض السواد فوضع على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزاً؛ وقد روي عنه اختلاف في مقدار ما وضعه عليها، وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن وجوب الخراج لا ينفي وجوب العشر، وذلك لأن العشر إنما يؤخذ بالقفزان والخراج نقداً إما دراهم وإما دنانير.

(3/35)


قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه، قال هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم.
قلت فيه دليل على أن أراضي العنوة حكمها حكم ساتر الأموال التي تغنم وأن خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها للغانمين.

ومن باب أخذ الجزية
قال أبو داود: حدثنا العباس بن عبد العظيم حدثنا سهل بن محمد حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن له دمه وصالحه على الجزية.
قلت أكيدر دومة رجل من العرب يقال هو من غسان ففي هذا من أمره دلالة على جواز أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم؛ وكان أبو يوسف يذهب إلى أن الجزية لا تؤخذ من عربي. وقال مالك والأوزاعي والشافعي، العربي والعجمي في ذلك سواء.
وكان الشافعي يقول إنما الجزية على الأديان لا على الأنساب. ولولا أن نأثم بتمني الباطل وددنا أن الذي قال أبو يوسف كما قال وأن لا يجري على عربي صغار ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم،

(3/36)


يَعني محتلما ديناراً أو عدله من المعافر ثياب تكون باليمن.
قلت في قوله من كل حالم دليل على أن الجزية إنما تجب على الذكران منه دون الإناث، لأن الحالم عبارة عن الرجل فلا وجوب لها على النساء ولا على المجانين والصبيان.
وفيه بيان أن الدينار مقبول من جماعتهم أغنياؤهم وأوساطهم في ذلك سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره بقتالهم ثم أمره بالكف عنهم إذا أعطوا ديناراً وجعل بذل الدينار حاقنا لدمائهم فكل من أعطاه فقد حقن دمه، وإلى هذا ذهب الشافعي، قال وإنما هو على كل محتلم من الرجال الأحرار دون العبيد.
وقال أصحاب الرأي وأحمد بن حنبل يوضع على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهما وأربعة وعشرون واثنا عشر.
وقال أحمد على قدر ما يطيقون، قيل له فيزداد في هذا اليوم وينقص، قال نعم على قدر طاقتهم وعلى قدر ما يرى الإمام، وقد علق الشافعي القول في إلزام الفقير الجزية.
قال أبو داود: حدثنا مصرف بن عمرو اليامي حدثنا يونس بن بكير حدثنا اسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي عن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون فيها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم أن كان باليمن كيد ذات غدرة.
قلت هذا وقع في كتابي، وفي رواية غيرها كيد ذات غدر، وهذا أصوب

(3/37)


على أن لا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا.
قلت في هذا دليل على أن للإمام أن يزيد وينقص فيما يقع عليه الصلح من دينار وأكثر على قدر طاقتهم ووقوع الرضا منهم به. وفيه دليل على أن العارية مضمونة.
وقوله كيد ذات غدر يريد الحرب. أخبرني أبو عمر قال: قال ابن الأعرابي الكيد الحرب، ومنه ما جاء في بعض الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه فلم يلق كيداً أي حرباً.

ومن باب أخذ الجزية من المجوس
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة يحدث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء كنت كاتباً لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة اقتلوا كل ساحر وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا في يوم ثلاث سواحر وفرقنا بين كل رجل من المجوس وحريمه في كتاب الله وصنع طعاماً كثيراً فدعاهم فعرض السيف على فخذه فأكلوا ولم يزمزموا وألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
قوله ألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق يريد أخِلة من الورق يأكلون بها، قلت ولم يحملهم عمر على هذه الأحكام فيما بينهم وبين أنفسهم إذا خلوا، وإنما منعهم من إظهار ذلك للمسلمين وأهل الكتاب لا يكشفون عن أمورهم

(3/38)


التي يتدينون بها ويستعملونها فيما بينهم إلاّ أن يترافعوا إلينا في الأحكام. فإذا فعلوا ذلك فإن على حاكم المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الله المنزل وإن كان ذلك في الأنكحة فرق بينهم وبين ذوات المحارم كما يفعل ذلك في المسلمين.
وفي امتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر دليل على أن رأي الصحابة أنه لا تقبل الجزية من كل مشرك كما ذهب إليه الأوزاعي وإنما تقبل من أهل الكتاب.
وقد اختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أخذت منهم الجزية فذهب الشافعي في أغلب قوليه إلى أنها إنما قبلت منهم لأنهم من أهل الكتاب، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب.
وقال أكثر أهل العلم انهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب ومن المجوس بالسنة.
واتفق عامة أهل العلم على تحريم نكاح نسائهم وذبائحهم وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن إبراهيم الحربي أنه قال لم يزل الناس متفقين على تحريم نكاح المجوس حتى جاءنا خلاف من الكرخ، يَعني أبا ثور.

ومن باب تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله عن جده أبي أمه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور.
قوله ليس على المسلمين عشور يريد عشور التجارات والبياعات دون عشور الصدقات.

(3/39)


قلت والذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صالحوا عليه وقت العقد فإن لم يصالحوا عليه فلا عشور عليهم ولا يلزمهم شيء أكثر من الجزية فأما عشور غلات أرضيهم فلا تؤخذ منهم، وهذا كله على مذهب الشافعي.
وقال أصحاب الراي إن أخذوا منا العشورفي بلادهم إذا اختلف المسلمون إليهم في التجارات أخذناها منهم وإلا فلا.

ومن باب الذمي يسلم في بعض السنة
هل عليه الجزية
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح عن جرير عن قابوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على مسلم جزية.
قلت هذا يتأول على وجهين أحدهما أن معنى الجزية الخراج فلو أن يهوديا أسلم وكانت في يده أرض صولح عليها وضعت عن رقبته الجزية وعن أرضه الخراج وهو قول سفيان والشافعي، قال سفيان وإن كانت الأرض مما أخذ عنوة ثم أسلم صاحبها وضعت عنه الجزية وأقر على أرضه الخراج.
والوجه الآخر أن الذمي إذا أسلم وقد مر بعض الحول لم يطالب بحصة ما مضى من السنة كما لا يطالب المسلم بالصدقة إذا باع الماشية قبل مضي الحول لأنها حق يجب باستكمال الحول.
واختلفوا فيه إذا أسلم بعد استكمال الحول فقال أبو عبيد لا يستأدي الجزية لما مضى واحتج فيه بالأثر عن عمر بن الخطاب.
وقال أبو حنيفة إذا مات أحد منهم وعليه شيء من جزية رأسه لم يؤخذ بذلك ورثته ولم يؤخذ ذلك من تركته. لأن ذلك ليس بدين عليه وإن أسلم أحد منهم وقد بقي عليه شيء منها سقط عنه ولم يؤخذ منه.

(3/40)


وعند الشافعي يطالب به ويراه كالدين لا يسقط عنه إلاّ بالأداء؛ وقد علق القول فيه أيضاً، وقوله مع الجماعة أولى والله أعلم.

ومن باب الإمام يقبل هدايا المشركين
قال أبوداود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود حدثنا عمران عن قتادة عن يزيد بن عبد بن الشخير عن عياض بن حماد، قال أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة فقال هل أسلمت قلت لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني نهيت عن زبد المشركين.
الزبد العطاء، وفي رده هديته وجهان أحدهما أن يغيظه برد الهدية فيمتعض منه فيحمله ذلك على الاسلام. والآخر أن للهدية موضعاً من القلب، وقد روي تهادوا تحابوا، ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يميل بقلبه إلى مشرك فرد الهدية قطعاً لسبب الميل.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية النجاشي وليس ذلك بخلاف لقوله نهيت عن زبد المشركين لأنه رجل من أهل الكتاب ليس بمشرك، وقد أبيح لنا طعام أهل الكتاب ونكاحهم وذلك خلاف حكم أهل الشرك.

ومن باب إقطاع الأرضين
قال أبو داود: حدثنا العباس بن محمد بن حاتم حدثنا الحسين بن محمد أخبرنا أبو أويس حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم اقطع بلال بن الحارث معادن القبليّة جلسيها وغورّيها وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كتاباً؛ قال أبو أويس وحدثني ثور بن زيد مولى بني الديل عن عكرمة عن ابن عباس مثله.

(3/41)


قلت يقال إن معادن القبلية من ناحية القُرُع. وقوله جلسيها يريد نجديها ويقال لنجد جَلْس. قال الأصمعي وكل مرتفع جلس، والغور ما انخفض من الأرض يريد أنه اقطعه وِهادها ورُباها.
قلت إنما يقطع الناس من بلاد العنوة ما لم يحزه ملك مسلم فإذا اقطع رجلاً بياض أرض فإنه يملكها بالعمارة والاحياء ويثبت ملكه عليها فلا تتزع من يده أبدا. فإذا اقطعه معدنا نظر فإن كان المعدن شيئا ظاهرا كالنفط والقير ونحوهما فإنه مردود لأن هذه الأشياء منافع حاصلة وللناس فيها مرفق وهي لمن سبق إليها ليس لأحد أن يتملكها فيستأثر بها على الناس، وإن كان لها معدن من معادن الذهب والفضة أو النحاس وسائر الجواهر المستكنة في الأرض المختلطة بالتربة والحجارة التي لا تستخرج إلاّ بمعاناة ومؤنة فإن العطية ماضية إلاّ أنه لا يملك رقبتها حتى يحظرها على غيره إذا عطلها وترك العمل فيها، إنما له أن يعمل فيها ما بدا له أن يعمل فإذا ترك العمل خلي بينه وبين الناس، وهذا كله على معاني الشافعي.
وفي قوله ولم يعطه حق مسلم دليل على أن من ملك أرضا مرة ثم عطلها أو غاب عنها فإنها لا تملك عليه باقطاع أو احياء وهي باقية على ملكه الأول.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن المتوكل العسقلاني المعنى واحد إن محمد بن يحيى بن قيس المازني حدثهم قال أخبرني أبي عن ثمامة بن شراحيل عن سُمي بن قيس عن شمير قال ابن المتوكل بن عبد المدان عن أبيض بن حمال أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه الملح الذي بمأرب فقطعه له فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما اقطعت له إنما اقطعت له الماء العِدّ قال فانتزع منه، قال وسأل عما يحمي من الأراك قال ما لم تنله اخفاف الإبل.

(3/42)


قلت وهذا يبين ما قلنا من أن المعدن الظاهر الموجود خيره ونفعه لا يقطعه أحد، والماء العد هو الماء الدائم الذي لا ينقطع.
وفيه من الفقه أن الحاكم إذا تبين الخطأ في حكم نقضه وصار إلى ما استبان من الصواب في الحكم الثاني.
وقوله ما لم تنله اخفاف الإبل ذكر أبو داود عن محمد بن الحسن المخزومي أنه قال معناه أن الإبل تأكل منتهى رؤوسها ويحمي ما فوقه.
وفيه وجه آخر وهو أنه إنما يحمي من الأراك ما بعد عن حضرة العمارة فلا تبلغه الإبل الرائحة إذا أرسلت في الرعي.
وفي هذا دليل على أن الكلأ والرعي لا يمنع من السارحة وليس لأحد أن يستأثر به دون سائر الناس.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن أحمد القرشي حدثنا عبد الله بن الزبير حدثنا فرج بن سعيد حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده عن أبيض بن حمال أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حمى الأراك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حمى في الأراك قال أراكة في حظاري، قال فرج، يَعني بحظاري الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها.
قلت يشبه أن يكون هذه الأراكة يوم إحياء الأرض وحظر عليها قائمة فيها فملك الأرض بالاحياء ولم يملك الأراكة إذ كانت مرعى السارحة، فأما الأراك إذا نبت في ملك رجل فإنه محمي لصاحبه غير محظور عليه يملكه والتصرف فيه ولا فرق بينه وبين سائر الشجر الذي يتخذه الناس في أراضيهم.
قال أبو داود: حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا الفريابي حدثنا أبان قال عمر وهو

(3/43)


ابن عبد الله بن أبي حازم قال حدثني عثمان بن أبي حازم عن أبيه عن جده صخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفا، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يُمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انصرف ولم يفتح فجعل صخر يومئذ عهد الله وذمته أن لا يفارق هذا القصر حتى ينزلوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه صخر: أما بعد؛ فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل إليهم وهم في خيل فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة جامعة فدعا لأحمس عشر دعوات، اللهم بارك لأحمس في خيلها ورجالها، فأتاه القوم فتكلم المغيرة بن شعبة، قال يا نبي الله إن صخرا قد أخذ عمتي وقد أسلمت ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته فدفعها إليه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم ما لبني سليم قد هربوا عن الإسلام وتركوا ذلك الماء، فقال يا نبي الله أنزلنيه أنا وقومي، قال نعم فأنزله وأسلم السُلميون فأتوا صخراً فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا نبي الله أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فدعاه فقال يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إلى القوم ماءهم، قال نعم يا نبي الله فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء.
قلت يشبه أن يكون أمره برد الماء عليهم إنما هوعلى معنى استطابة النفس عنه ولذلك كان يظهر في وجهه أثر الحياء، والأصل أن الكافر إذا هرب عن مال له فإنه يكون فيئا فإذا صار فيئا وقد ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعله لصخر فانه لا ينتقل عنه ملكه إليهم باسلامهم فيما بعد ولكنه استطاب نفس

(3/44)


صخر عنه ثم رده عليهم تألفا لهم على الإسلام وترغيبا لهم في الدين والله أعلم.
وأما رده المرأة فقد يحتمل أن يكون على هذا المعنى أيضاً كما فعل ذلك في سبي هوازن بعد أن استطاب أنفس الغانمين عنها، وقد يحتمل أن يكون ذلك الأمر فيها بخلاف ذلك لأن القوم إنما نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان السبي والدماء والأموال موقوفة على ما يريه الله فيهم فرأى صلى الله عليه وسلم أن ترد المرأه وأن لا تسيى.
قال أبو داود: حدثنا حسين بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقطع الزبير نخلاً.
قلت النخل مال ظاهر العين حاضر النفع كما المعادن الظاهرة فيشبه أن يكون إنما أعطاه ذلك من الخمس الذي هو سهمه، وكان أبو إسحاق المروزي يتأول اقطاع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين الدور على معنى العارية.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حَدَّثنا عبد الله بن حسان العنبري حدثتني جدتاي صفية ودُحيبة ابنتا عُليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما، قالت قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وتقدم صاحبي تعني حريث بن حسان وافد بكر بن وائل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال يا رسول الله اكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء أن لا يجاوزها إلينا منهم إلاّ مسافر أو مجاور، قال اكتب له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري

(3/45)


فقلت له يا رسول الله أنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك إنما هو هذه الدهناء مقيد الجمل ومرعى الغنم ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال امسك ياغلام صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفَتّان.
قوله مقيد الجمل أي مرعى الجمل ومسرحه فهولا يبرح منه ولا يتجاوزه في طلب المرعى فكأنه مقيد هناك كقول الشاعر:
خليليّ بالموماة عُوجا فلا أرى ... بها منزلاً إلاّ جَريب المقيّد
وفيه من الفقه أن المرعى لا يجوز إقطاعه وأن الكلأ بمنزلة الماء لا يمنع.
وقوله يسعهما الماء والشجر يأمرهما بحسن المجاورة وينهاهما عن سوء المشاركة وقوله ويتعاونا على الفتان، يقال معناه الشيطان الذي يفتن الناس عن دينهم ويضلهم ويروى الفتان بضم الفاء وهو جماعة الفاتن كما قالوا كاهن وكهان.

ومن باب احياء الموات
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحيى أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق.
قلت إحياء الموات إنما يكون بحفره وتحجيره وبإجراء الماء إليه وبنحوها من وجوه العمارة، فمن فعل ذلك فقد ملك به الأرض سواء كان ذلك بإذن السلطان أو بغير إذنه، وذلك لأن هذا كلمة شرط وجزاء فهو غير مقصور على عين دون عين ولا على زمان دون زمان، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة لا يملكها بالاحياء حتى يأذن له السلطان في ذلك وخالفه صاحباه فقالا كقول عامة العلماء.

(3/46)


وقوله ليس لعرق ظالم حق هو أن يغرس الرجل في غير أرضه بغير إذن صاحبها فإنه يؤمر بقلعه إلاّ أن يرضى صاحب الأرض بتركه.
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه قال ولقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال فلقد رأيتها وانها لتضرب أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عُم حتى أخرجت منها.
قوله نخل عم أي طوال واحدها عميم ورجل عميم إذا كان تام الخلق.
قال أبو داود: حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن كلثوم عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات وهن يشتكين منازلهن أنها تضيق عليهن ويخرجن منها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تورث دور المهاجرين النساء فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته داراً بالمدينة.
قلت قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقطع المهاجرين الدور بالمدينة فتأولوها علي وجهين أحدهما أنه إنما كان أقطعهم العَرصة ليبتنوا فيها الدور، فعلى هذا الوجه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة. والوجه الآخر أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي، وعلى هذا الوجه لا يصح الملك فيها وذلك أن الميراث لا يجري إلاّ في فيما كان الموروث مالكاً له وقد وضعه أبو داود في باب احياء الموات، فقد يحتمل أن يكون إنما أحيا تلك البقاع بالبناء فيها إذ كانت غير مملوكة لأحد قبل والله أعلم.

(3/47)


وقد يكون نوع من الاقطاع ارفاقاً من غير تمليك وذلك كالمقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار إنما يرتفق بها ولا تملك.
فأما توريثه الدور نساء المهاجرين خصوصا؛ فيشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن بها فجاز لهن الدور لما رأى من المصلحة في ذلك.
وفيه وجه آخر وهو أن تكون تلك الدور في أيديهن مدة حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحجره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث فإنه صلى الله عليه وسلم قال نحن لا نورث ما تركناه صدقة. ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن وللمعتدة السكنى فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها.

ومن باب الدخول في أرض الخراج
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي الحمصي حدثنا بقية حدثني عمارة بن أبي الشعثاء حدثني سنان بن قيس حدثني شبيب بن نعيم حدثني يريد بن خمير حدثني أبو الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ أرضا بجزيتها فقد استقال حجرته، ومن نزع صغار كافر من عنقه فجعله في عنقه فقد ولى الإسلام ظهره.
قلت معنى الجزية ههنا الخراج، ودلالة الحديث أن المسلم إذا اشترى أرضا خراجية من كافر فإن الخراج لا يسقط عنه، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي إلاّ أنهم لم يروا فيما أخرجت من حب عشراً، وقالوا لا يجتمع الخراج مع العشر.
وقال عامة أهل العلم العشر عليه واجب فيما أخرجته الأرض من حب إذا

(3/48)


بلغ خمسة أوساق.
والخراج عند الشافعي على وجهين: أحدهما جزية والآخر بمعنى الكراء والأجرة. فإذا فتحت الأرض صلحاً على أن أرضها لأهلها فما وضع عليها من خراج فمجراها مجرى الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، فمن أسلم منهم سقط ما عليه من الخراج كما يسقط ما على رقبته من الجزية ولزومه العشر فيما أخرجت أرضه وإن كان الفتح إنما وقع على أن الأرض للمسلمين ويؤدى في كل سنة عنها شيئا فالأرض للمسلمين وما يؤخذ منهم عنها فهو أجرة الأرض فسواء من أسلم منهم أو أقام على كفره فعليه أداء ما اشترط عليه ومن باع منهم شيئا من تلك الأرضين فبيعه باطل لأنه باع ما لا يملك. وهذا سبيل أرض السواد عنده.

ومن باب الأرض يحميها الرجل
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا حمى إلاّ لله ولرسوله قال ابن شهاب وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.
قلت قوله لا حمى إلاّ لله ولرسوله، يريد لا حمى إلاّ على معنى ما أباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الوجه الذي حماه، وفيه إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من ذلك وكان الرجل العزيز منهم إذا انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلب على جبل أوعلى نشر من الأرض ثم استعوى الكلب ووقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ومنع الناس منه.

(3/49)


فأما ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمهازيل إبل الصدقة ولضعفى الخيل كالنقيع وهو مكان معروف مستنقع للمياه ينبت فيه الكلأ، وقد يقال أنه مكان ليس بحد واسع يضيق بمثله على المسلمين المرعى فهو مباح وللأئمة أن يفعلوا ذلك على النظر ما لم يضق منه على العامة المرعى، وهذا الكلام الذي سقته معنى كلام الشافعي في بعض كتبه.

ومن باب الركاز
قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك الزَمعي عن عمته قريبة بنت عبد الله بن وهب عن أمها كريمة بنت المقداد عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أخبرته؛ قالت ذهب المقداد لحاجته ببقيع الخبخبة فإذا جرذ يخرج من جحر ديناراً ثم لم يزل يخرج ديناراً دينارا ختى أخرج سبعة عشر دينارا ثم أخرج خرقة حمراء، يَعني فيها دينارا فكانت ثمانية عشر دينارا فذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال له خذ صدقتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل أهويت للجحر، قال لا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيها.
قوله هل أهويت للجحر يدل على أنه لو أخذها من الجحر لكان ركازاً يجب في الخمس.
وقوله بارك الله لك فيها لا يدل على أنه جعلها له في الحال ولكنه محمول على بيان الأمر في اللقطة التي إذا عرفت سنة فلم تعرف كانت لآخذها.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة سمعا أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الركاز الخمس.
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عباد بن العوام عن هشام عن الحسن

(3/50)


قال الركاز الكنز العادي.
قلت الركاز على وجهين فالمال الذي يوجد مدفونا لا يعلم له مالك ركاز لأن صاحبه قد كان ركزه في الأرض أي أثبته فيها.
والوجه الثاني من الركاز عروق الذهب والفضة فتستخرج بالعلاج ركزها الله في الأرض ركزاً، والعرب تقول أركز المعدن إذا أنال الركاز.
والحديث إنما جاء في النوع الأول منهما وهو الكنز الجاهلي على ما فسره الحسن، وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة نيله والأصل إن ما خفت مؤونته كثر مقدار الواجب فيه وما كثرت مؤونته قل مقدار الواجب فيه كالعشر فيما سقي بالأنهار ونصف العشر فيما سقي بالدواليب.
واختلفوا في مصرف الركاز، فقال أبو حنيفة يصرف مصرف الفيء، وقال الشافعي يصرف مصرف الصدقات، واحتجوا لأبي حنيفة بأنه مال مأخوذ من أيدي المشركين، واحتجوا للشافعي بأنه مال مستفاد من الأرض كالزرع وبأن الفيء يكون أربعة أخماسه للمقاتلة وهذا المال يختص به الواجد له كمال الصدقة.

ومن باب نبش القبور العادية
يكون فيها المال
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر

(3/51)


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قبر أبي رغال وكان بهذا الحرم يُدفع عنه فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن.
قلت هذا سبيله سبيل الركاز لأنه مال من دفن الجاهلية لا يعلم مالكه، وكان أبو رغال من بقية قوم عاد أهلكهم الله فلم يبق لهم نسل ولا عقب فصار حكم ذلك المال حكم الركاز.
وفيه دليل على جواز نبش قبور المشركين إذا كان فيه أرب أو نفع للمسلمين وان ليست حرمتهم في ذلك كحرمة المسلمين.

(3/52)