معالم السنن

كتاب البيوع
من باب التجارة يخالطها الحلف والكذب
أخبرنا الشيخ الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن محمد الروياني بقراءتي عليه بآمد طبرستان فأقر به في شهور سنة تسع وتسعين وأربعمائة قال أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد البلخي، قال أخبرنا أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي،، قال: حَدَّثنا أبو بكر محمد بن بكر بن داسة قال:
حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله؛، قال: حَدَّثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة قال كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمى السماسرة فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه فقال يا معشر التجار أن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة.
قال الشيخ أبو سليمان السمسار أعجمي وكان كثير ممن يعالج البيع والشراء فيهم عجما فتلقنوا هذا الاسم عنهم فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التجارة التي هي من الأسماء العربية، وذلك معنى قول فسمانا باسم هو أحسن منه.
وقد تدعو العرب التاجر أيضاً الرّقاحي والترقيح في كلامهم إصلاح المعيشة.
وقد احتج بهذا الحديث بعض أهل الظاهر ممن لا يرى الزكاة في أموال التجارة وزعم أنه لو كان تجب فيها صدقة كما تجب في سائر الأموال الظاهرة لأمرهم

(3/53)


النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم يقتصر على قوله فشوبوه بالصدقة أو بشيء من الصدقه.
قال الشيخ وليس فيما ذكروه دليل على ما ادعوه لأنه إنما أمرهم في هذا الحديث بشيء من الصدقه غير معلوم المقدار في تضاعيف الأيام ومر الأوقات ليكون كفارة عن اللغو والحلف.
فأما الصدقة المقدرة التي هي ربع العشر الواجبة عند تمام الحول فقد وقع البيان فيها من غير هذه الجهة، وقد روى سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا الصدقة عن الأموال التي يعدونها للبيع، وقد ذكره أبو داود في كتاب الزكاة ثم هو عمل الأمة وإجماع أهل العلم فلا يعد قول هؤلاء معهم خلافا.

ومن باب استخراج المعادن
قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو، يَعني ابن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريماً له بعشرة دنانير فقال والله ما أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل قال فتحمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من أين أصبت هذا الذهب قال من معدن، قال لا حاجة لنا فيها ليس فيها خير فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ في هذا الحديث إثبات الحمالة والضمان وفيه إثبات ملازمة الغريم ومنعه من التصرف حتى يخرج من الحق الذي عليه. وأما رده الذهب الذي استخرجه من المعدن، وقوله لا حاجة لنا فيه ليس فيه خير فيشبه أن يكون ذلك لسبب علمه فيه خاصة لا من جهة أن الذهب المستخرج من المعدن لا يباح تموله وتملكه، فإن عامة الذهب والورق مستخرجة من المعادن، وقد اقطع

(3/54)


رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المعادن القبليه وكانوا يؤدون عنها الحق وهو عمل المسلمين وعليه أمرالناس إلى اليوم. ويحتمل أن يكون ذلك من أجل أن أصحاب المعادن يبيعون ترابها ممن يعالجه فيحصل ما فيه من ذهب أو فضفه وهوغرر لا يدرى هل يوجد فيه شيء منهما أم لا. وقد كره بيع تراب المعادن جماعة من العلماء منهم عطاء والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وفيه وجه آخر وهو أن مع قوله لا حاجة لنا فيها ليس لنا فيها خير، أي ليس لها رواج ولا لحاجتنا فيها نجاح، وذلك أن الذي كان تحمله عنه دنانير مضروبة، والذي جاء به تبر غير مضروب وليس بحضرته من يضربه دنانير وإنما كان تحمل إليهم الدنانير من بلاد الروم، وأول من وضع السكة في الإسلام وضرب الدنانير عبد الملك بن مروان، وقد يحتمل ذلك أيضاً وجها آخر وهو أن يكون إنما كرهه لما يقع فيه من الشبهة ويدخله من الغرر عند استخراجهم إياه من المعدن وذلك أنهم إنما استخرجوه بالعشر أو الخمس أو الثلث مما يصيبونه وهو غرر لا يدرى هل يصيب العامل فيه شيئا أم لا، فكان ذلك بمنزلة العقد على رد الآبق والبعير الشارد لأنه لا يدرى هل يظفر بهما أم لا.
وفيه أيضاً نوع من الخطر والتغرير بالأنفس لأن المعدن ربما انهار على من يعمل فيه فكره من أجل ذلك معالجته واستخراج ما فيه.
وكانت الدنانير تحمل إليهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من بلاد الروم وكان أول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان فهي تدعي المروانية إلى هذا الزمان.

(3/55)


ومن باب في اجتناب الشبهات
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا أبو شهاب، قال: حَدَّثنا ابن عون عن الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
أحيانا يقول مشتبهة وسأضرب في ذلك مثلا ان الله تعالى حمَى حِمىً وإن حمى الله ما حرم وأنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه وأنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي،، قال: حَدَّثنا عيسى حدثنا زكريا عن عامر، قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث قال وبينهما مشتبهات ولا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرى دينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.
قال الشيخ هذا الحديث أصل في الورع وفيما يلزم الإنسان اجتنابه من الشبهة والريب.
ومعنى قوله وبينهما أمور مشتبهات أي أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض وليس أنها في ذوات أنفسها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة فان الله تعالى لم يترك شيئا يجب له فيها حكم إلاّ وقد جعل فيه بياناً ونصب عليه دليلا ولكن البيان ضربان، بيان جلي يعرفه عامة الناس كافة، وبيان خفي لا يعرفه إلاّ الخاص من العلماء الذين عنوا بعلم الأصول فاستدركوا معاني النصوص، وعرفوا طرق القياس والاستنباط ورد الشيء إلى المثل والنظير.
ودليل صحة ما قلناه وإن هذه الأمور ليست في أنفسها مشتبهة قوله لا يعرفها

(3/56)


كثير من الناس وقد عقل ببيان فحواه أن بعض الناس يعرفونها وإن كانوا قليلي العدد فإذا صار معلوماً عند بعضهم فليس بمشتبه في نفسه ولكن الواجب على من اشتبه عليه أن يتوقف ويستبري الشك ولا يقدم إلاّ على بصيرة فإنه إن أقدم على الشيء قبل التثبت والتبين لم يأمن أن يقع في المحرم عليه وذلك معنى الحمى وضربه المثل به.
وقوله الحلال بين والحرام بين أصل كبير في كثير من الأمور والأحكام إذا وقعت فيها الشبهة أو عرض فيها الشك ومهما كان ذلك فإن الواجب أن ينظر فإذا كان للشيء أصل في التحريم والتحليل فإنه يتمسك به ولا يفارقه باعتراض الشك حتى يزيله عنه يقين العلم، فالمثال في الحلال الزوجة تكون للرجل والجارية تكون عنده يتسرى بها ويطأها فيشك هل طلق تلك أوأعتق هذه فهما عنده على أصل التحليل حتى يتيقن وقوع طلاق أو عتق، وكذلك الماء يكون عنده وأصله الطهارة فيشك هل وقعت فيه نجاسة أم لا فهو على أصل الطهارة حتى يتيقن أن قد حلته نجاسة، وكالرجل يتطهر للصلاة ثم يشك في الحدث فإنه يصلي ما لم يعلم الحدث يقينا على هذا المثال.
وأما الشيء إذا كان أصله الحظر وإنما يستباح على شرائط وعلى هيئات معلومة كالفروج لا تحل إلاّ بعد نكاح أو ملك يمين وكالشاة لا يحل لحمها إلا بذكاة فأنه مهما شك في وجود تلك الشرائط وحصولها يقيناً على الصفة التي جعلت علما للتحليل كان باقيا على أصل الحظر والتحريم، وعلى هذا المثال فلو اختلطت امرأته بنساء أجنبيات أو اختلطت مذكاة بميتات ولم يميزها بعينها وجب عليه

(3/57)


أن يجتنبها كلها ولا يقربها وهذان القسمان حكمهما الوجوب واللزوم.
وها هنا قسم ثالث وهو أن يوجد الشيء ولا يعرف له أصل متقدم في التحريم ولا في التحليل، وقد استوى وجه الإمكان فيه حلا وحرمة فان الورع فيما هذا سبيله الترك والاجتناب وهو غير واجب عليه وجوب النوع الأول، وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرّ بتمرة ملقاة في الطريق؛ فقال لولا إني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها وقدم له الضب فلم يأكله، وقال إن أُمه مسخت فلا أدري لعله منها أوكما قال. ثم إن خالد بن الوليد أكله بحضرته فلم ينكره ويدخل في هذا الباب معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربى فإن الاختيار تركها إلى غيرها وليس بمحرم عليك ذلك ما لم يتيقن أن عينه حرام أو مخرجه من حرام، وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه من يهودي على أصوع من شعير أخذها لقوت أهله، ومعلوم أنهم يربون في تجاراتهم ويستحلون أثمان الخمور، ووصفهم الله تعالى بأنهم سماعون للكذب أكالون للسحت، فعلى هذه الوجوه الثلاثة يجري الأمر فيما ذكرته لك.
وقوله من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه أصل في باب الجرح والتعديل وفيه دلالة على أن من لم يتوق الشبهات في كسبه ومعاشه فقد عرض دينه وعرضه للطعن وأهدفهما للقول.
وقوله من وقع في الشبهات وقع في الحرام يريد أنه إذا اعتادها واستمر عليها أدته إلى الوقوع في الحرام بأن يتجاسر عليه فيواقعه بقول فليتق الشبهة ليسلم من الوقوع في المحرم.

(3/58)


ومن باب وضع الربى
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو الأحوص، قال: حَدَّثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع إلا أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون إلاّ وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل اللهم قد بلغت، قالوا نعم ثلاثاً، قال اللهم أشهد ثلاث مرات.
قال الشيخ في هذا من الفقه أن ما أدركه الإسلام من أحكام الجاهلية فإنه يلقاه بالرد والنكير، وأن الكافر إذا أربى في كفره ولم يقبض المال حتى أسلم فإنه يأخذ رأس ماله ويضع الربا؛ فأما ما كان قد مضى من أحكامهم فإن الإسلام يلقاه بالعفو فلا يعترض عليهم في ذلك ولا يتبع أفعالهم في شيء منه فلو قتل في حال كفره وهو في دار الحرب ثم أسلم فإنه لا يتبع بما كان فيه في حال الكفر. ولو أسلم زوجان من الكفار وتحاكما إلينا في مهر من خمر أو خنزيراً أو ما أشبههما من المحرم فإنه ينظر فإن كانت لم تقبضه منه كله فإنا نوجب لها عليه مهر المثل ولو قبضت نصفه وبقي النصف فإنا نوجب عليه للباقي منه نصف المهر ونجعل الفائت من النصف الاخر كأن لم يكن، وعلى هذا إن كان نكاحاً يريدون أن يستأنفوا عقده فإنا لا نجيز من ذلك إلاّ ما أباح حكم الإسلام، فإن كان أمرا ماضيا فإنا لا نفسخه ولا نعرض له وعلى هذا القياس جميع هذا الباب.
وقوله دم الحارث بن عبد المطلب فإن أبا داود هكذا روى، وإنما هو في سائر الروايات دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحدثني عبد الله بن محمد المكي،

(3/59)


قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيدة قال أخبرني ابن الكلبي أن ربيعة بن الحارث لم يقتل وقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر وانما قتل له ابن صغير في الجاهلية فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم فيما أهدر ونسب الدم إليه لأنه ولي الدم.

ومن باب الرجحان في الوزن
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن سماك بن حرب قال حدثني سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بُراً من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا بسراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم زن وارجح.
قوله زن وارجح فيه دليل على جواز هبة المشاع، وذلك أن مقدار الرجحان هبة منه للبائع وهو غير متميزمن جملة الثمن.
وفيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الوزن والكيل وفي معناهما أجرة القسام والحاسب وكان سعيد بن المسيب ينهى عن أجرة القسام وكرهها أحمد بن حنبل.
قال الشيخ وفي مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره إياه به كالدليل على أن وزن الثمن على المشتري فإذا كان الوزن عليه لأن الإيفاء يلزمه فقد دل على أن أجرة الوزان عليه فإذا كان ذلك على المشتري فقياسه في السلعة المبيعة أن تكون على البائع.
ومن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم المكيال مكيال أهل المدينة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا ابن دكين، قال: حَدَّثنا سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة.
قال الشيخ هذا حديث قد تكلم فيه بعض الناس وتخبط في تأويله فزعم أن

(3/60)


النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا القول تعديل الموازين والأرطال والمكاييل وجعل عيارها أوزان أهل مكة ومكاييل أهل المدينة ليكون عند التنازع حكما بين الناس يحملون عليها إذا تداعوا، فادعى بعضهم وزناً أوفى أو مكيالا أكبر وادعى الخصم أن الذي يلزمه هو الأصغر منها دون الأكبر، وهذا تأويل فاسد خارج عما عليه أقاويل أكثر الفقهاء وذلك أن من أقر لرجل مكيلة بُر أو بعشرة أرطال من تمر أو غيره واختلفا في قدر المكيلة والرطل فأنهما يحملان على مجرف البلد وعادة الناس في المكان الذي هو به ولا يكلف أن يعطي برطل مكة ولا بمكيال المدينة، وكذلك إذا أسلفه في عشرة مكاييل قمح أو شعير وليس هناك إلاّ مكيلة واحدة معروفة فإنهما يحملان عليها فإن كان هناك مكاييل مختلفة فأسلفه في عشرة مكاييل ولم يصف الكيل بصفة يتميز بها عن غيره فالسلم فاسد وعليه رد الثمن. وإنما جاء الحديث في نوع ما يتعلق به أحكام الشريعة في حقوق الله سبحانه دون ما يتعامل به الناس في بياعاتهم وأمور معاشهم.
فقوله الوزن وزن أهل مكة يريد وزن الذهب والفضة خصوصا دون سائر الأوزان ومعناه أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة في النقود وزن أهل مكة وهي دراهم الإسلام المعدلة منها العشرة بسبعة مثاقيل فإذا ملك رجل منها مائتي درهم وججبت فيها الزكاة، وذلك أن الدراهم مختلفة الأوزان في بعض البلدان والأماكن فمنها البغلي ومنها الطبري ومنها الخوارزمي وأنواع غيرها، والبغلي ثمانية دوانيق والطبري أربعة دوانيق والدرهم الوزان الذي هو من دراهم الإسلام الجائزة بينهم في عامة البلدان ستة دوانيق وهو نقد أهل مكة ووزنهم الجائز بينهم، وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عددا وقت مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3/61)


إياها، والدليل على صحة ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت فيما روي عنها من قصة بريرة إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت تريد الدراهم التي هي ثمنها فأرشدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوزن فيها وجعل العيار وزن أهل مكة دون ما يتفاوت وزنه منها في سائر البلدان.
وقد تكلم الناس في هذا الباب وهل كانت هذه الدراهم لم تزل في الجاهلية على هذا العيار والوزن فذهب بعضهم إلى أن الوزن فيها لم يزل على هذا العيار وإنما غيروا الشكل منها ونقشوا فيها اسم الله عز وجل وقام الإسلام.
والأوقية وزنها أربعون درهما، لحلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواقي صدقة وهي مائتا درهم، وهذا المعنى بلغني، عَن أبي العباس بن شريح أنه كان يقوله ويذهب إليه وحكوا، عَن أبي عبيد القاسم بن سلام ما يخالف هذا.
قال أبو عبيد حدثني رجل من أهل العلم والعناية بأمر الناس ممن يعنى بهذا الشأن أن الدراهم كانت في الجاهلية على دربين البغلية السوداء التي في كل واحد منها أربعة دوانيق وكانوا يستعملونها على النصف والنصف مائة بغلية طبرية فكان في المائتين منها من الزكاة خمسة دراهم، فلما كان زمان بني أمية قالوا إن ضربنا البغلية ظن الناس أن هذه التي تجب فيها الزكاة المشروعة فيضر ذلك بالفقراء وإن ضربنا الطبرية أضر ذلك بأرباب الأموال فجمع بين الدراهم البغلية والطبرية فكان في أحدهما ثمانية دوانيق وفي الآخر أربعة دوانيق وجملتها اثنا عشر دانقاً فقسموها نصفين وضربوا الدراهم على ستة دوانيق.
وأما الدنانير فمشهور من أمرها أنها كانت تحمل إليهم من بلاد الروم وكانت العرب تسميها الهرقلية وقد ذكره كثير في شعره فقال:

(3/62)


يروق العيون الناظرات كأنه ... هرقلي وزن أحمر التبر راجح
ثم ضرب الدنانير في عهد الإسلام عبد الملك بن مروان فحدثني أحمد بن عبد العزيز بن شابور، قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، قال: حَدَّثنا الزبير بن بكار، قال: حَدَّثنا عمر بن عثمان عن إسحاق بن عبد الله بن كعب بن مالك قال لما أراد عبد الملك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم سأل عن أوزان الجاهلية فأجمعوا له على أن المثقال اثنان وعشرون قيراطا إلاّ حبة بالشامي، وأن العشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فضربها على ذلك.
فأما أوزان الأرطال والأمناء فهو بمعزل عن هذا وللناس فيها عادات مختلفة في البلدان قد أقروا عليها مع تباينها واختلافها كالشامي والحجازي والعراقي وأرطال أهل أذربيجان مضاعفة وأرطال أهل الري وأصبهان دون الأردبيلي وفوق الحجازي والعراقي منه ادة كثيرة وكل من أهل هذه البلدان محمول على عرف بلده وعادة قومه لا ينقل عنها ولا يحمل على ما سواها وليست كالدراهم والدنانير التي حمل الناس فيها على عيار واحد وحكم سواء إلاّ أن الدراهم قد يختلف حكمها في شيء واحد وهو أن رجلا لو باع ثوباً بعشرة دراهم في بلدة يتعاملون فيها بالدراهم الطبرية أو الخوارزمية لم يلزم المشتري أن يدفع في ثمنه الوازنة، وإنما يلزمه نقد البلد ولكن إن كان أقر له بعشرة دراهم لزمته الوازنة لأنه ليس في الأ قرار عرف يتغير به الحكم في بلد دون بلد ألا ترى أن رجلاً من أهل خوارزم لو أقر عند حاكم بغداد بمائة درهم لرجل من خوارزم أنه يلزمه الدراهم الوازنة إن ادعاها المقر له بها فباب الاقرار خلاف باب المعاملات على ما بيناه والله أعلم.
وأما قوله والمكيال مكيال أهل المدينة فإنما هو الصاع الذي يتعلق به وجوب

(3/63)


الكفارات ويجب إخراج صدقة الفطر به ويكون تقدير النفقات وما في معناها بعياره والله أعلم.
وللناس صيعان مختلفة فصاع أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي وصاع أهل البيت فيما يذكره زعماء الشيعة تسعة أرطال وثلث ينسبونه إلى جعفر بن محمد وصاع أهل العراق ثمانية أرطال وهو صاع الحجاج الذي سعر به على أهل الأسواق، ولما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق ضاعف الصاع فبلغ به ستة عشر رطلا فإذا جاء باب المعاملات حملنا العراقي على الصاع المتعارف المشهوو عند أهل بلاده والحجازي على الصاع المعروف ببلاد الحجاز، وكذلك كل أهل بلد على عرف أهله وإذا جاءت الشريعة وأحكامها فهو صاع المدينة فهو معنى الحديث ووجهه عندي والله أعلم.

ومن باب التشديد في الدين
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق، قال: حَدَّثنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين فأتي بميت، فقال أعليه دين قالوا نعم ديناران فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة الأنصاري هما عليّ يا رسول الله فصلى عليه، فلما فتح الله على رسوله قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعليّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته.
قال الشيخ فيه من الفقه جواز الضمان عن الميت ترك وفاء بقدر الدين أو لم يترك وهذا قول الشافعي وإليه ذهب ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة إذا ضمن عن الميت شيئا لم يترك له وفاء لم يلزم الضامن لأن

(3/64)


الميت منه بريء وإن ترك وفاء لزمه ذلك، وإن ترك وفاء ببعضه لزمه بقدر ذلك.
قال الشنيخ ويشبه أن يكون هذا الحديث لم يبلغه وقد روي في هذه القصة من غير هذا الطريق أنه لم يترك لهما وفاء.
وروى محمد بن عمرو عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها فقال عليه دين، قال نعم ديناران، قال فهل ترك لهما وفاء، قالوا لا، قال فصلوا على صاحبكم، وذكر حديث الضمان حدثناه الحسن بن يحيى، قال: حَدَّثنا ابن المنذر، قال: حَدَّثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حَدَّثنا يعلى بن عبيد عن محمد بن عمرو.

ومن باب في المطل
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم فإذا اتْبع أحدكم على ملي فليتبع.
قال الشيخ قوله مطل الغني ظلم دلالته أنه إذا لم يكن غنيا يجد ما يقضيه لم يكن ظالما، وإذا لم يكن ظالما لم يجز حبسه لأن الحبس عقوبة ولا عقوبة على غير الظالم.
وقوله اتبع يريد إذا أحيل وأصحاب الحديث يقولون إذا اتبع بتشديد التاء وهو غلط وصوابه اتبع ساكنة التاء على وزن أفعل ومعناه إذا أحيل أحدكم على مليّ فليحتل، يقال تبعت الرجل بحقي اتبعه تباعة إذا طالبته وأنا تبيعه، ومنه قوله تعالى {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} [الإسراء: 69] .
وفيه من الفقه إثبات الحوالة وفيه دليل على أن الحق يتحول بها إلى المحال

(3/65)


عليه ويسقط عن المحيل ولا يكون عليه للمحتال سبيل عند موت المحال عليه وإفلاسه، وذلك لأنه قد اشترط عليه الملاة والحوالة قد تصح حكما على الملي فكان فائدة الشرط ما قلناه والله أعلم.
وقد يستدل بهذا الحديث من يذهب إلى أن له الرجوع على المحيل إذا مات أو أفلس المحال عليه، ويتأوله على غير وجه الأول بان يقول إنما أمر بأن يتبعه إذا كان ملياً والمفلس غير ملي فليكن غير متبع به.
قال الشيخ والدلالة على الوجه الأول هي الصحيحة لأنه إنما اشترط له الملاة وقت الحوالة لا فيما بعدها لأن إذا كلمة شرط موقت فالحكم يتعلق بتلك الحال لا بما بعدها والله أعلم.
وقوله فليتبع معناه فليحتل وهذا ليس على الوجوب وإنما هو على الاذن له والإباحة فيه إن اختار ذلك وشاءه، وزعم داود أن المحال عليه إن كان مليا كان واجبا على الطالب أن يحول ما له عليه ويكره على ذلك أن أباه.
وقد اختلف العلماء في عود الحق إلى ذمة الغريم إذا مات المحال عليه أو أفلس فقال أصحاب الرأي إذا مات ولم يترك وفاء أو أفلس حيا فإن المحتال يرجع به على الغريم.
وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور لا يرجع واحتجوا كلهم بهذا الحديث، وفيه قول ثالث ذكره ابن المنذر عن بعضهم فلا أحفظه أنه لا يرجع عليه ما دام حيا فإن الرجل يوسر ويعسر ما دام حيا فإذا مات ولم يترك وفاء رجع به عليه.

(3/66)


ومن باب في حسن القضاء
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي رافع قال استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره فقلت لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء.
قال الشيخ البكر في الإبل بمنزلة الغلام من الذكور والقلوص بمنزلة الجارية من الإ ناث والرباعي من الإبل هو الذي أتت عليه ستة سنين ودخل في السنة السابعة فإذا طلعت رباعيته قيل للذكر رباع والأنثى رباعية خفيفة الياء.
وفيه من الفقه جواز تقديم الصدقة قبل محلها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل له
الصدقة فلا يجوز أن يقضي من أهل الصدقة شيئاً كان لنفسه فدل أنه إنما استسلف لأهل الصدقة من أرباب الأموال وهو استدلال الشافعي.
وقد اختلف العلماء في جواز تقديم الصدقة على محل وقتها فأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال الشافعي يجوز أن يعجل صدقة سنة واحدة. وقال مالك لا يجوز أن يخرجها قبل حلول الحول وكرهه سفيان الثوري.

ومن باب الصرف
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالورق ربى إلاّ هاء وهاء، والشعير بالشعير ربى الاها وها.
قال السيخ ها وها معناه التقابض وأصحاب الحديث يقولون ها وها مقصورين

(3/67)


والصواب مدهما ونصب الألف منهما. وقوله ها إنما هو قول الرجل لصاحبه إذا ناوله الشيء هاك أي خذ فأسقطوا الكاف منه وعوضوه المد بدلا من الكاف يقال للواحد ها والاثنين ها وما بزيادة الميم وللجماعة هاؤم؛ قال الله تعالى {هاؤم اقرؤوا كتابيه} [الحاقة: 19] . وهذا قول الليث بن المظفر.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا بشر بن عمر، قال: حَدَّثنا همام عن قتادة، عَن أبي الخليل عن مسلم المكي، عَن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا.
قال أبو داود ورواه ابن أبي عروبة وهشام الدستوائي عن قتادة عن مسلم بن يسار.
قال الشيخ قوله تبرها وعينها التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم ودنانير واحدتها تبرة، ومن هذا قوله تعالى {إن هؤلاء متبَّر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون} [الأعراف: 139] والله أعلم.
والعين المضروب من الدراهم والدنانير والمدي مكيال يعرف ببلاد الشام وبلاد مصر به يتعاملون وأحسبه خمسة عشر مكوكا والمكوك صاع ونصف وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع مثقال ذهب عين بمثقال وشيء من تبر غير مضروب وكذلك حرم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب، وذلك معنى قوله تبرها وعينها أي كلاهما سواء، وهذا من باب معقول الفحوى

(3/68)


ثم زاده بيانا بما نسق عليه من قوله ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد، وكان ذلك من باب دليل الخطاب ومفهومه وكلا الوجهين بيان وأهل اللغة يتفاهمون بها، ثم هو قول عامة المسلمين إلاّ ما روي عن أسامة بن زيد وابن عباس في جواز بيع الدرهم بالدرهمين، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عنه.
قال الشيخ وقد روى غير أبي داود هذا الحديث فقال إلاّ سواء بسواء مثلاً بمثل. حدثنا محمد بن المكي، قال: حَدَّثنا محمد بن علي بن زيد الصائع، قال: حَدَّثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين، قال حدثني مسلم بن يسار عن عبادة بن الصامت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب والورق بالورق والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير إلا سواء بسواء مثلا بمثل.
وفيه دليل على أن الدراهم والدنانير إذا بيع بعض جنسها ببعض منه فلم يكونا معاً ذهبا محضا أو فضة محضة حتى يتعادلا في الوزن أو كان في أحدهما شوب أو حملان أن البيع فاسد والصرف منتقض وذلك لوجود التفاوت وعدم التساوي.
وفيه بيان أن التقابض شرط لصحة البيع في كل ما يجري فيه الربا من ذهب وفضة وغيرهما من المطعوم وإن اختلف الجنسان، ألا تراه يقول فلا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما النسيئة فلا قبض عليه كما ترى.
وجوز أهل العراق بيع البر بالشعير من غير تقابض وصاروا إلى أن القبض إنما يجب في الصرف دون ما سواه وقد جمعت بينهما السنة فلا معنى للتفريق بينهما جملته أن الجنس الواحد مما فيه الربا لا يجوز فيه التفاضل نسيئا ولا نقدا.
وفيه دليل على أن خيار الثلث لا يدخل في بيوع الصرف كما يدخل في سائر البيوع وذلك لأنه قد اشترط فيه التقابض لئلا تبقى بينهما علاقة فلو جاز أن

(3/69)


يكون هناك علاقة باقية لجاز أن يبقى علاقة القبض كما جاز في ساتر العقود.
وفيه أن البر جنس والشعير جنس غيره ولولا أنهما جنسان مختلفان لم يجز التفاضل بينهما يداً بيد كما لا يجوز ذلك في الجنس الواحد.
وقال مالك البر والشعير جنس واحد وزعم أن البر لا يكاد يخلص من الشعير فلولا أنهما جنس واحد لم يجز بيع البر بالبر، وفيه شيء من الشعير لأنه لا بد من تفاوتهما.
قال الثنيخ وهذا خلاف النص والحديث حجة عليه وقد أباحه صلى الله عليه وسلم مع علمه بما يخالطه من يسير الشعير وجعله كالبيع له ولم يعتد به ثم فرق بين جنس البر والشعير وأباح التفاضل فيهما يدا بيد فثبت جوازه وفساد قول من ذهب إلى الجمع بينهما.
وفيه دليل على أنه لا يجوز بيع البر بالبر وزناً بوزن مثلاً بمثل وذلك لأنه قال والبر بالبر مدي بمدي، وفي غير هذه الرواية كيلا بكيل فعلق المماثلة بالمكيال دون غيره من أنواع العيار وباب الربى غير معقول المعنى فيجري فيه القياس كما يجري في سائر الأحكام فلا يجوز مفارقة أمثلته إلى غيره والله أعلم.
وفي الخبر دليل على أن القوت ليس بعلة الربا لأنه ذكر الملح مع البر ومعلوم أنه لا يقتات، وإنما يصلح به القوت ولو جاز أن يكون الربا فيما يصلح به القوت لجاز أن يكون في الماء الربا على مذهب أصحاب مالك؛ وقد يصلح القوت أيصا بالحطب والوقود ثم لا ربا فيه بالإجماع.
وقد استدل أصحاب الشافعي بذكره الملح مع البر على أن العلة في الربا الطعم لأنه لما ضم جنس أدنى ما يطعم إلى جنس أعلى ما يؤكل دل على أن ما بين

(3/70)


النوعين لا حق بهما وداخل في حكمهما.

ومن باب السيف المحلاً والقلادة فيها الذهب والفضة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع قالوا حدثنا ابن المبارك (ح) حدثنا ابن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد قال حدثني خالد بن أبي عمران عن حنش عن فضالة بن عبيد قال أتى النبي النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينه وبينه، فقال إنما أردت الحجارة وقال ابن عيسى التجاره فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينهما قال فرده حتى ميز بينهما.
قال الشيخ في هذا الحديث أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب مع أحدهما شىء غير الذهب وممن قال هذا البيع فاسد شريح ومحمد بن سيرين والنخعي، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وسواء عندهم كان الذهب الذي هو الثمن أكثر من الذهب الذي مع السلعة أو أقل.
وقال أبو حنيفة إن كان الثمن أكثر مما فيه من الذهب جاز وإن كان مثله أو أقل منه لم يجز.
وذهب مالك إلى نحو من هذا في القلة والكثرة إلاّ أنه حد الكثرة بالثلثين والقلة بالثلث.
وقال حماد بن أبي سليمان لا بأس بأن تشتريه بالذهب كان الثمن أقل أو أكثر.
قال الشيخ قول حماد منكر لمخالفته الحديث وأقاويل عامة العلماء وفساده غير مشكل لما فيه من صريح الربا.

(3/71)


فأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فإنه يخرج على القياس لأنه يجعل الذهب بالذهب سواء ويجعل ما فضل عن الثمن بازاء السلعة، غير أن السنة قد منعت هذا القياس أن يجري؛ ألا تراه يقول إنما أردت الحجارة أو التجارة فقال لا حتى تميز بينهما فنفى صحة هذا البيع مع قصده إلى أن يكون الذهب الذي هو الثمن بعضه بإزاء الذهب الذي هو مع الخرز مصارفة وبعضه بإزاء الحجارة التي هي الخرز بيعا وتجارة حتى يميز بينهما فتكون حصة المصارفة متميزة بينهما فتكون حصة المصارفة متميزة عن حصة المتاجر فدل على أن هذا البيع على الوجهين فاسد.
وبيان فساد هذا البيع من جهة المعنى على وجوه: أحدهما أنه عقد تضمن بيعاً وصرفاً ومتى جهل التماثل في الذهب بالذهب وقت العقد بطل الصرف ولا سبيل إلى معرفة التماثل إلاّ بعد التمييز والتفضيل فتكون التسوية حينئذ بينهما بالوزن فروى أصحاب أبي حنيفة عنه أنه قال إذا باع صبرة من الطعام بصبرة من جنسه جزافاً لم يجز وإن خرجا عند الكيل متساويين وفي هذا اعتبار التماثل حال العقد وهو نظير مسألة الصرف.
والوجه الثاني أن الصفقة إذا تضمنت شيئين مختلفين في الجنس كان الثمن مفضوضا عليهما بالقيمة، وإذا كان كذلك وأردنا أن نسقط الثمن عليها بالقيمة وأسقطنا قيمة الخرز من جملة الثمن لم ندر كم مقدار ما يبقى منه وهل يكون مثل الذهب المشترى مع الخرز أو أقل منه أو أكثر فبطل العقد للجهالة.
والوجه الثالث أن أحكام عقد الصرف لا تلائم أحكام سائر العقود لأن من شرطه التقابض قبل التفرق وانقطاع شرط الخيار وسائر العقود تصح من غير تقابض ويدخلها شرط الخيار فلم نجز الجمع بينهما في صفقة واحدة لتنافي معانيهما

(3/72)


ولأن حكم أحدهما لا يبتني على حكم الاخر.
قال الشيخ وهذا معنى قوله لا حتى تميز وتأويله تميز العقدين لا تميز المبيع وعلى هذا القليل لا يجوز بيع فضة وسلعة معها بدينار وقد ذهب إليه بعض الفقهاء.
وأما الشافعي فقد أجاز ذلك وهو قول أكثر أهل العلم، إلاّ أن مالكا قال لا يجوز دراهم وسلعة بدينار إلاّ أن تكون الدراهم يسيرة فإن كانت أكثر من قيمة السلعة لم يجز.
قال الشيخ وهذا قول لا وجه له ولا فرق بين القليل والكثير فيما يدخله الربا لأن أحداً لم يجوز الحبة من الذهب بالحبتين لأنهما يسيرة كما لا يجوز الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين.

ومن باب اقتضاء الذهب
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب المعنى واحد قالا: حَدَّثنا حماد عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَعني فذكرت له فقال لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء.
قال الشيخ اقتضاء الذهب من الفضة والفضة من الذهب عن أثمان السلعة هو في الحقيقة بيع ما لم يقبض فدل جوازه على أن النهي عن بيع ما لم يقبض إنما ورد في الأشياء التي يبتغى ببيعها وبالتصرف فيها الربح كما روي أنه نهى عن ربح ما لم يضمن واقتضاء الذهب من الفضة خارج عن هذا المعنى لأنه إنما يراد به

(3/73)


التقابض والتقابض من حيث لا يشق ولا يتعذر دون التصارف والترابح، ويبين لك صحة هذا المعنى قوله لا بأس أن تأخذها بسعر يومها أي لا تطلب فيها الربح ما لم تضمن واشترط أن لا يتفرقا وبينهما شيء لأن اقتضاء الدراهم من الدنانير صرف وعقد الصرف لا يصح إلاّ بالتقابض.
وقد اختلف الناس في اقتضاء الدراهم من الدنانير فذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلاّ بسعر يومه ولم يعتبر غيره السعر ولم يتأولوا كان ذلك بأغلى أو بأرخص من سعر اليوم والصواب ما ذهبت إليه وهومنصوص في الحديث ومعناه ما بينته لك فلا تذهب عنه فإنه لا يجوز غير ذلك والله أعلم.

ومن باب الحيوان بالحيوان
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
قال الشيخ وجهه عندي أن يكون إنما نهى عما كان منه نسيئة في الطرفين فيكون من باب الكالىء بالكالىء بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يليه.

ومن باب الرخصة
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمرو، قال: حَدَّثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير، عَن أبي سفيان عن عمرو بن حريث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين

(3/74)


إلى إبل الصدقة.
قال الشيخ هذا يبين لك أن النهي عن بيع الحيوان نسيئة إنما هو أن يكون نسئاً في الطرفين، جمعاً بين الحديثين وتوفيقاً بينهما وحديث سمرة يقال أنه صحيفة والحسن عن سمرة مختلف في اتصاله عند أهل الحديث، أخبرنا ابن الأعرابي،، قال: حَدَّثنا عباس الدوري عن يحيى بن معين قال حديث الحسن عن سمرة صحيفة وقال محمد بن إسماعيل حديث النهي عن بيع الحيوان نسيئة من طريق عكرمة عن ابن عباس رواه الثقاة عن ابن عباس موقوفا أو عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل قال وحديث زياد بن جبير عن ابن عمر إنما هو زياد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وطرق هذا الحديث واهية ليست بالقوية وتأويله إذا ثبت على ما قلنا والله أعلم.
وفي الحديث دليل على جواز السلم في الحيوان لأنه إذا باع بعير أو بعيرين فقد صار ذلك حيواناً مضموناً عليه في ذمته.
واختلف أهل العلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فكره ذلك عطاء بن أبي رباح ومنع منه سفيان الثوري وهو مذهب أصحاب الرأي ومنع منه أحمد واحتج بحديث سمرة، وقال مالك إذا اختلف أجناسها جاز بيعها نسيئة وإن شابهت لم يجز.
وجوز الشافعي بيعها نسيئة كانت جنساً واحداً أو أجناسا مختلفة إذا كان أحد الحيوانين نقدا.
قال الشيخ في إسناد حديث عبد الله بن عمرو أيضاً مقال وقد أثبت أحمد حديث سمرة.

(3/75)


ومن باب بيع التمر بالتمر
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن زيد أن زيداً أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت فقال له سعد أيهما أفضل قال البيضاء قال فنهاه عن ذلك وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن شراء التمر بالرطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم فنهى عن ذلك.
قال الشيخ البيضاء نوع من البر أبيض اللون وفيه رخاوة يكون ببلاد مصر والسلت نوع غير البر وهوأدق حبا منه، وقال بعضهم البيضاء هو الرطب من السلت والأول أعرف، إلاّ أن هذا القول اليق بمعنى الحديث وعلته تبين موضع التشبيه من الرطب بالتمر وإذا كإن الرطب منهما جنسا واليابس جنسا آخر لم يصح التشبيه.
وقوله (اينقص الرطب إذا يبس) لفظه لفظ الاستفهام ومعناه التقرير والتنبيه فيه على نكتة الحكم وعلته ليعتبروها في نظاترها وأخواتها وذلك أنه لا يجوز أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا يبس نقص وزنه فيكون سؤاله عنه سؤال تعرف واستفهام وإنما هو على الوجه الذي ذكرته وهذا كقول جرير:
الستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
ولو كان هذا استفهاما لم يكن فيه مدح وإنما معناه أنتم خير من ركب المطايا.
وهذا الحديث أصل في أبواب كثيرة من مسائل الربا وذلك أن كل شيء من المطعوم مما له نداوة ولجفافه نهاية فانه لا يجوز رطبه بيابسه كالعنب والزبيب واللحم النيء بالقديد ونحوهما، وكذلك لا يجوز على هذا المعنى منه الرطب بالرطب كالعنب بالعننب والرُطَب بالرطب لأن اعتبار المماثلة إنما يصح فيهما

(3/76)


عند أوان الجفاف وهما إذا تناهى جفافهما كانا مختلفين لأن أحدهما قد يكون أرق رقة وأكثر مائية من الآخر، فالجفاف ينال منه أكثر ويتفاوت مقاديرهما في الكيل عند المماثلة.
وفي معنى ما ذكرنا المطبوخ بالنيء كالعصير الذي أغلي بالنار بما لم يطبخ منه وكاللبن الذي عقد بالنار واللبن الحليب ونحوهما، ولا يجوز على هذا القياس بيع حنطة بدقيق ولا حنطة بسويق ولا بيع خبز بخبز، وهذا كله على مذهب الشافعي، فأما العصير النيء بالعصير النيء والشيرج بالشيرج واللبن الحليب باللبن الحليب فجائز عند الشافعي، وكذلك خل العنب بخل العنب فإن كان في أحد النوعين ما لم يجز ولا يجوز عنده بيع أصل شيء فيه الربا بفرعه كبيع الزبد باللبن وبيع الزيت بالزيتون والشيرج بالسمسم وعلى هذا المعنى عنده بيع اللحم بالحبيوان.
وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن بيع الرطب بالتمر غير جائز، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وعن أبي حنيفة جواز بيع الرطب بالتمر نقدا، ويشبه أن يكون تأويل الحديث عنده على النسيئة دون النقد، قال ابن المنذر وأحسب أبا ثور وافقه على ذلك.
قال الشيخ ولفظ الحديث عام لم يستثن فيه نسيئة من نقد والمعنى الذى نبه عليه في قوله أينقص الرطب إذا يبس يمنع من تخصيصه وذلك كأنه قال إذا علمتم أنه ينقص في المتعقب فلا تبيعوه وهذا المعنى قائم في النقد والنسيئة معاً.
وأجاز أبو حنيفة بيع العنب بالزبيب واللحم النيء بالقديد والعصير المطبوخ بالنيء منه نقدا.
وقال مالك بن أنس لا بأس ببيع الدقيق بالبر مثلاً بمثل لأن الدقيق إنما هو

(3/77)


حنطة فرقت أجزاؤها وبيع الحنطة بالحنطة جائز متساويين، وقال مثل ذلك في الحنطة بالسويق والسويق بالدقيق، وقال في الخبز بالخبز لا بأس به إذا تحرى أن يكون مثلاً بمثل وإن لم يوزن، وقال أحمد وإسحاق لا بأس ببيع الدقيق بالقمح وزناً بوزن، وقال الأوزاعى الخبز بالخبز جائز وهو قول أبي ثور.
وحكى أبو ثور، عَن أبي حنيفة أنه قال لا بأس به قرصا بقرصين، وروى حرملة عن الشافعي أنه أباح بيع الخبز اليابس مثلا بمثل وأصحاب الشافعي ينكرون ذلك فلا يعدونه قولا صحيحاً له وهو خلاف قياس أصله والخبز يدخله الماء والملح وفيهما عنده الربا ومبلغهما يتفاوت في الخبز وليس هذا كاللحوم يجوز بعضها ببعض يابسين لأن اللحم نوع واحد لا يدخله غيره.
قال الشيخ قد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص، وقال زيد أبو عياش راويه ضعيف، ومثل هذا الحديث على أصل الشافعي لا يجوز أن يحتج به.
قال الشيخ وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في الموطأ وهولا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته معلوم، وقد روى أبو داود في هذا الباب مثل حديث سعد من طريق ابن عمر.
، قال: حَدَّثنا أبو بكر بن أبى شيبة، قال: حَدَّثنا ابن أبي زائدة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً وعن الزرع بالحنطة كيلاً.

(3/78)


ومن باب العرايا
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب أخبرني خارجه بن زيد بن ثابت عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب.
قال العرية فسرها محمد بن إسحاق بن يسار فقال هي النخلات يهبها الرجل للرجل فيشق عليه أن يقوم عليها فيبيعها قبل خرصها، وقد ذكر أبو داود هذا التفسير عنه.
وروى الشافعي خبراً فيه قلت لمحمود بن لبيد أو قال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما زيد بن ثابت وإما غيره ما عراياكم فقال أو سمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا خرصاً من التمر في أيديهم يأكلونها رطبا.
فأما أصلها في اللغة فإنهم ذكروا في معنى اشتقاقها قولين: أحدهما أنها مأخوذة من قول القائل: أعريت الرجل النخلة أي أطعمته ثمرها يعروها متى شاء أي يأتيها فيأكل رطبها، يقال عروت الرجل إذا أتيته تطلب معروفه كما يقال طلب إلي فأطلبته وسألني فأسألته.
والقول الآخر إنما سميت عرية لأن الرجل يعريها من جملة نخله أي يستثنيها لا يبيعها مع النخل فربما أكلها وربما وهبها لغيره أو فعل بها ما شاء.
قال الشيخ العرايا ما كاننت من هذه الوجوه فإنها مستثناة من جملة النهي عن المزابنة والمزابنة بيع الرطب بالتمر ألا تراه يقول رخص في بيع العرايا

(3/79)


والرخصة إنما تقع بعد الحظر وورود الخصوص على العموم لا ينكر في أصول الدين وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر أن لا يحملا على المنافاة ولا يضرب بعضها ببعض لكن يستعمل كل واحد منهما في موضعه وبهذا جرت قضية العلماء في كثير من الحديث ألا ترى أنه لما نهى حكيما عن بيع ما ليس عنده ثم أباح السلم كان السلم عند جماعة العلماء مباحا في محله وبيع ما ليس عند المرء محظورا في محله وذلك أن أحدهما وهو السلم من بيوع الصفات والاخر من بيوع الأعيان، وكذلك سبيل ما يختلف إذا أمكن النوفيق فيه لم يحمل على النسخ ولم يبطل العمل به وإنما جاء تحريم المزابنة فيما كان من التمر موضوعا على وجه الأرض وجاءت الرخصة في بيع العرايا فيما كان منها على رؤوس الشجر في مقدار معلوم منه بكمية لا يزاد عليها وذلك من أجل ضرورة أو مصلحة فليس أحدهما مناقضاً للآخر أو مبطلا له، وقد قال بهذه الجملة في معناها أكثرالفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد، وامتنع من القول به أصحاب الرأي وذهبوا إلى جملة النهي الوارد في تحريم المزابنة وفسروا العرية تفسيرا لا يليق بمعنى الحديث وصورتها عندهم أن يعري الرجل من حائطه نخلات ثم يبدوله فيها فيبطلها ويعطيه مكانها تمرا فسمى هذا بيعا في التقدير على المجاز وحقيقة الهبة عندهم.
قال الشيخ والحديث إنما جاء بالرخصة في البيع كما ذكرناه عن زيد بن ثابت ويزيده بياناً حديث سهل بن أبي حثمة ذكره أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد

(3/80)


عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية أن تباع بخرصها فيأكلها أهلها رطباً.
فهذا يبين لك أنه قل استثنى العرية من جملة ما اقتضاه تحريم النهي عن بيع التمر بالتمر، والظاهر أن المستثنى إنما هو من جنس المستثنى منه والرخصة إنما يلقى المحظور؛ والمحظور ها هنا البيع المنهي عنه، ولو كان الأمر على ما تأولوه من الهبة ما كان للخرص معنى ولا لقوله رخص معنى ولا وجه لبيع ملكه في نفسه لأن الهبة يتعلق صحتها بالاقباض والاقباض لم يقع فلم يزل الملك، والاسم ما وجد له مساغ في الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، وقد جاءت هذه الرخصة في غير رواية أبي داود مقرونا ذكرها بتحريم المزابنة باسمها الخاص وإن كان معناه معنى أبي داود لا فرق بينهما حدثناه محمد بن عبد الواحد،، قال: حَدَّثنا الحارث بن أبي أسامة،، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ورخص في العرايا فدل أن الرخصة إنما وقعت في نوع من المزابنة وإلا لم يكن لذكرها معنى والله أعلم.

ومن باب مقدار العرية
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن داود بن الحصين، عَن أبي سفيان مولى أبي أحمد، قال أبو داود وهذا اسمه قُزمان، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق شك داود.
وقال أبو داود حديث جابر إلى أربعة أوسق.

(3/81)


قال الشيخ هذا يبين لك أن معنى الرخصة في العرية هو البيع المعروف ولو كان غير ذلك لم يكن لتحديدها بأربعة أو خمسة لا يجاوزها معنى إذ لا حظر في شيء مما ذهبوا إليه، في تفسيرها فيحتاج إلى الرخصه في رفعه.
وأما جواز البيع في خمسة أوسق منها فقد أباحه مالك على الإطلاق في هذا القدر، وقال الشافعي لا أفسخ البيع في مقدار خمسة أوسق، وأفسخه فيما وراء ذلك.
قال ابن المنذر الرخصة في الخمسة الأوساق مشكوك فيها، والنهي عن المزابنة ثابت فالواجب أن لا يباح منها إلاّ القدر المتيقن إباحته، وقد شك الراوي وهو داود بن الحصين، وقد رواه جابر فانتهى به إلى أربعة أوساق فهو مباح وما زاد عليه محظور.
قال الشيخ هذا القول صحيح وقد ألزمه المزني الشافعي وهو لازم على أصله ومعناه.

ومن باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري.
قال الشيخ الثمرة إذا بدا صلاحها أمنت العاهة غالبا وما دامت وهي رخوة رخصة أى رطبة قبل أن يشتد حبها أو يبدو صلاحها فإنها بعرض الآفات، وكان نهيه البائع عن ذلك لأحد وجهين أحدهما احتياطاً له بأن يدعها حتى يتبين صلاحها فيزداد قيمتها ويكثر نفعه منها وهو إذا يعجل ثمنها لم يكن فيها طائل لقلته فكان ذلك نوعاً من إضاعة المال.
والوجه الآخر أن يكون ذلك مناصحة لأخيه المسلم واحتياطاً لمال المشتري لئلا ينالها الآفة فيبور ماله أو يطالبه برد الثمن من أجل الجائحة فيكون بينهما

(3/82)


في ذلك الشر والخلاف، وقد لا يطلب للبائع مال أخيه منه في الورع إن كان لا قيمة له في الحال إذ لا يقع له قيمة فيصير كأنه نوع من أكل المال بالباطل.
وأما نهيه المشتري فمن أجل المخاطرة والتغرير بماله لأنها ربما تلفت بأن تنالها العاهة فيذهب ماله فنهى عن هذا البيع تحصينا للأموال وكراهة للتغرير.
ولم يختلف العلماء أنه إذا باعها أو شرط عليه القطع جاز بيعها وإن لم يبد صلاحها، وإنما انصرف النبي إلى البيع قبل بدو الصلاح من التبقية إلاّ أن الفقهاء اختلفوا فيما إذا باعها بعد بدو الصلاح، فقال أبو حنيفة البيع جائز على الإطلاق وعليه القطع فيكون في معنى من شرط القطع، وقال الشافعي البيع جائز وعلى البائع تركها على الشجر حتى تبلغ أناها وجعل العرف فيها كالشرط واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حميد عن أنس أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وقال أرأيت ان منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه، ققال فدل ذلك على أن حكم الثمرة التبقية ولو كان حكمها القطع لم يكن يقع معه منع الثمرة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا ابن علية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري.
وقوله حتى يزهو هكذا يروى والصواب في العرية حتى تزهى الأزهار في الثمر أن يحمر أو يصفر وذلك أمارة الصلاح فيها ودليل خلاصها من الآفة.
وقوله عن السنبل حتى يبيض فإن ظاهره يوجب جواز بيع الحب في سنبله إذا اشتد وابيض لأنه حرمه إلى غاية فحكمه بعد بلوغ الغاية بخلاف حكمه قبلها

(3/83)


وإليه ذهب أصحاب الرأي ومالك بن أنس وشبهوه بالجوز واللوز يباعان في قشرهما.
وقال الشافعي لا يجوز بيع الحب في السنبل لأنه غرر وقد نهى عن بيع الفرد والمقصود من السنبل حبه وهو مجهول بينك وبينه لا يدري هل هو سليم في باطنه أم لا فيفسد البيع من أجل الجهالة والغرر كبيع لحم المسلوخة في جلدها واحتج بأن النهي عن بيع الحب في السنبل معلول بعلتين: أن قبل أن يبيض ويشد فلأجل الآفات والجوائح، وأما بعد ذلك فلأجل الجهالة وعدم المعرفة به وقد يتوالى على الشيء علتان وموجبهما واحد فترتفع احداهما وهو بحاله غير منفك عنه وذلك كقوله تعالى {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] وكان معلوماً أن تحليلها للزوج الأول لا يقع بنفس نكاح الزوج الثاني وبعقده عليها حتى يدخل بها ويصيبها ثم يطلقها وتنقضي عدتها منه كقوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222] فكان ظاهره أن انقطاع الدم رافع للحظر ولم يمنع ذلك من ورود دليل المنع إلاّ بوجود شرط ثانٍ وذلك قوله {فإذا تطهرن} [البقرة: 222] يريد والله أعلم طهارة الاغتسال بالماء.
وأما بيع الجوز في قشره فإنه غرر معفو عنه لما فيه من الضرورة وذلك أنه لو نزع لبه عن قشره أسرع إليه الفساد والعفن، وليس كذلك البر والشعير وما في معناهما لأن هذه الحبوب تبقى بعد التذرية والتنقية المدة الطويلة من الأيام والسنين. فأما ما لا ضرورة فيه من بقاء قشره الأعلى فإن البيع غير جائز معه حتى ينزع فكذلك قياس الحب في السنبل والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن سليم بن حيان، قال: حَدَّثنا سعيد بن مينا قال سمعت جابر بن عبد الله يقول

(3/84)


نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع التمر حتى تشقح، قيل وما تشقح، قال تحمار وتصفار ويؤكل منها.
قال الشيخ التشقيح تغير لونها إلى الصفرة والحمرة والشقحة لون غير خالص في الحمرة والصفرة وإنما هي تغير لونه في كموده ومنه قيل قبيح شقيح أي تغير اللون إلى السماجة والقبح.
وإنما قال يحمار ويصفار لأنه لم يرد به اللون الخالص وإنما يستعمل ذلك في اللون المتميل يقال ما زال يحمار وجهه ويصفار إذا كان يضرب مرة إلى الصفرة ومرة إلى الحمرة فإذا أرادوا أنه قد تمكن واستقر قالوا تحمرّ وتصفرَّ.
وفي قوله حتى تشقح دليل على أن الاعتبار في بدو الصلاح إنما هو بحدوث الحمرة في الثمرة دون إتيان الوقت الذي يكون فيه صلاح الثمار غالبا، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى اعتباره بالزمان، واحتج بما روي في بعض الحديث أنه قيل متى يبدو صلاحها، ققال إذا طلع النجم، يَعني الثريا والذي في حديث جابر أولى لأن اعتباره بنفسه أولى من اعتباره بغيره. وفي هذا الباب حرف غريب من جهة اللغة في حديث زيد بن ثابت قال كان الناس يبتاعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها فإذا جد الناس قال المبتاع أصاب الثمر الذمار وأصابه قشام هكذا هو في رواية ابن داسة.
وقال ابن الأعرابي في روايته، عَن أبي داود الدمان بالنون، قال الأصمعي القشام أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحاً، قال الدمان مفتوحة الدال أن تنشق النخلة أول ما يبدو قلبها عن عفن وسواد، فأما الذمار فليس بشيء.

(3/85)


ومن باب بيع السنين
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حَدَّثنا سفيان عن حميد عن الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين ووضع الجوائح.
قال الشيخ بيع السنين هو أن يبيع الرجل ما تثمره النخلة أو النخلات بأعيانها سنين ثلاثا أو أربعا أو أكثر منها، وهذا غدر لأنه يبيع شيئاَ غير موجود ولا مخلوق حال العقد ولا يدري هل يكون ذلك أم لا وهل يتم النخل أم لا وهذا في بيوع الأعيان، فأما في بيوع الصفات فهوجائز مثل أن يسلف في الشيء إلى ثلاث سنين أو أربع أو أكثر ما دامت المدة معلومة إذا كان الشيء المسلف فيه غالبا وجوده عند وقت محل السلف.
وأما قوله وضع الجوائح هكذا رواه أبو داود ورواه الشافعي عن سفيان بإسناده فقال وأمره بوضع الجوائح والجوائح هى الآفات التي تصيب الثمار فتهلكها، يقال جاحهم الدهر يجوحهم واجتاحهم الزمان إذا أصابهم بمكروه عظيم.
قال الشيخ وأمره بوضع الجوائح عند أكثر الفقهاء أمر ندب واستحباب من طريق المعروف والإحسان لا على سبيل الوجوب والإلزام.
وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد في جماعة من أصحاب الحديث وضع الجائحة لازم للبيع إذا باع الثمرة فأصابته الآفة فهلكت، وقال مالك يوضع في الثلث فصاعداً ولا يوضع فيما هو أقل من الثلث، قال أصحابه ومعنى هذا الكلام أن الجائحة إذا كانت دون الثلث كان من مال المشترى وما كان أكثر من الثلث فهو من مال البائع.

(3/86)


واستدل من تأول الحديث على معنى الندب والاستحباب دون الإيجاب بأنه أمرحدث بعد استقرار ملك المشتري عليها فلو أراد أن يبيعها أو يهبها لصح ذلك منه فيها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن فإذا صح بيعها ثبت أنها من ضمانه؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فلو كانت الجائحة بعد بدو الصلاح من مال البائع لم يكن لهذا النهي فائده.

ومن باب بيع المضطر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حَدَّثنا هشيم أخبرنا صالح بن عامر قال أبو داود قال محمد حدثنا شيخ من بني تميم قال خطبنا على بن أبي طالب رضي الله عنه أو قال: قال علي قال قال محمد هكذا حدثنا هشيم قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك.
قال الشيخ بيع المضطر يكون من وجهين أحدهما أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد. والوجه الاخر أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة فهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه وأن لا يفتات عليه بمثله ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ. وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو، إلاّ أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا ابن إدريس عن عبيد الله، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن

(3/87)


بيع الغرر زاد عثمان والحصاة.
قال الشيخ أصل الغرر هو ما طوي عنك علمه وخفى عليك باطنه وسره وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غره أي على كسره الأول وكل بيع كان المقصود منه مجهولاً غير معلوم ومعجوزاً عنه غير مقدور عليه فهو غرر وذلك مثل أن يبيعه سمكاً في الماء أو طيراً في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبداً آبقاً أو جملاً شارداً أو ثوباً في جراب لم يره ولم ينشره أو طعاماً في بيت لم يفتحه أو ولد بهيمة لم تولد أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدري هل تكون أم لا فإن البيع فيها مفسوخ.
وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعاً للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.
وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل.
وأما بيع الحصاة فإنه يفسر على وجهين أحدهما أن يرمي بالحصاة ويجعل رميها إفادة للعقد فإذا سقطب وجب البيع ثم لا يكون للمشتري فيه الخيار.
والوجه الاخر أن يعترض الرجل القطيع من الغنم فيرمي فيها بحصاة فأية شاة منها أصابتها الحصاة فقد استحقها بالبيع، وهذا من جملة الغرر المنهي عنه.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن عمرو بن السرح وهذا لفظه قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي، عَن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين وعن لبستين، أما البيعتان فالملامسة والمنابذة، وأما اللبستان فاشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه أو ليس على فرجه منه شيء.

(3/88)


قال الشيخ الملامسة أن تلمس الثوب الذي تريد شراءه أي يمسه بيده ولا ينشره ولا يتأمله ويقول إذا لمسته بيدي فقد وجب البيع ثم لا يكون له فيه خيار إن وجد فيه عيبا، وفي نهيه عن بيع الملامسة مستدل لمن أبطل بيع الأعمى وشراءه لأنه إنما يستدل ويتأمل باللمس فيما سبيله أن يستدرك بالعيان وحس البصيرة.
والمنابذة أن يقول إذا نبذت إليك الثوب فقد وجب البيع، وقد جاء بهذا التفسير في الحديث وقال أبو عبد الله المنابذة أن ينبذ الحجر ويقول إذا وقع الحجر فهو لك وهذا نظير بيع الحصاة.
وأما اشتمال الصماء فهو أن يشتمل في ثوب واحد يضع طرفي الثوب على عاتقه الأيسر ويسدل شقه الأيمن هكذا جاء تفسيره في الحديث.
وأما الاحتباء في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء فهو أن يقعد على إليتيه، وقد نصب ساقيه وهوغير متزر ثم يحتبي بثوب يجمع بين طرفيه ويشدهما على ركبتيه وإذا فعل ذلك بقيت فرجة بينه وبين الهواء تنكشف منها عورته.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة.
قال الشيخ حبل الحبلة هو نتاج النتاج، وقد جاء تفسيره في الحديث هو أن ينتج الناقة بطنها ثم تحمل التي نتجت وهذه بيوع كانوا يتبايعونها في الجاهلية وهي كلها يدخلها الجهل والغرر فنهوا عنها وأرشدوا إلى الصواب حكم الإسلام فيها.

ومن باب المضارب إذا خالف
قال أبو داود: حدثنا مسدد قال أخبرنا سفيان عن شبيب بن غرقدة قال

(3/89)


حدثني الحيّ عن عروة البارقي قال أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى ثنتين فباع أحدهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في بيعه فكان لو اشترى ترابا لربح فيه.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير العبدي قال أخبرنا سفيان قال حدثني أبوحصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار ليشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له أن يبارك له في تجارته.
قال الشيخ هذا الحديث مما يحتج به أصحاب الرأي لأنهم يجيزون بيع مال زيد من عمرو بغير إذن منه أو توكيل ويتوقف البيع على إجازة المالك فإذا أجازه صح، إلاّ أنهم لم يجيزوا الشراء بغير إذنه وأجاز مالك بن أنس الشراء والبيع معاً.
وكان الشافعي لا يجيز شيئا من ذلك لأنه غرر لا يدري هل يجيزه أم لا، وكذلك لا يجيز النكاح الموقوف على رضا المنكوحة أو إجازة الولي غير أن الخبرين معاً غير متصلين لأن في أحدهما وهو خبر حكيم بن حزام رجلا مجهولاً لا يدري من هو، وفي خبر عروة أن الحي حدثوه وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة.
وقد ذهب بعض من لم يجز البيع الموقوف من تأويل هذا الحديث إلى أن وكالته كانت وكالة تفويض واطلاق وإذا كانت الوكالة مطلقة فقد حصل البيع والشراء عن إذن.
قال الشيخ وهذا لا يستقيم لأن في خبر حكيم أنه تصدق بالدينار فلو كانت

(3/90)


الوكالة مطلقة طابت له الزيادة والله أعلم.
وقد جعل غير واحد من أهل العلم هذا أصلا في أن من وصل إليه مال من شبهة وهو لا يعرف له مستحقا فإنه يتصدق به.
واختلف الفقهاء في المضارب إذا خالف رب المال فروي عن ابن عمر أنه قال الربح لرب المال وعن أبي قلابة ونافع أنه ضامن والربح لرب المال وبه قال أحمد وإسحاق وكذلك الحكم عند أحمد في من استودع مالاً فاتجر فيه بغير إذن صاحبه أن الربح لرب المال.
وقال أصحاب الرأي الربح للمضارب ويتصدق به والوضيعة عليه وهو ضامن لرأس المال في الوجهين معاً.
وقال الأوزاعي إن خالف وربح فالربح له في القضاء ويتصدق به في الورع والفتيا ولا يصلح لواحد منهما.
وقال الشافعي إذا خالف المضارب نُظِرَ فإن اشترى السلعة التي لم يؤمر بها بغير المال فالبيع باطل وإن اشتراها بغير العين، فالسلعة ملك للمشتري وهو ضامن للمال.

ومن باب الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حَدَّثنا أبو أسامة، قال: حَدَّثنا محمد بن حمزة قال أخبرنا سالم بن عبد الله عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فرق الأرز فليكن مثله، قالوا ومن صاحب الأرز يا رسول الله فذكر حديث الغار حين سقط عليهم الجبل فقال كل واحد منهم اذكروا أحسن عملكم إلى أن قال:

(3/91)


وقال الثالث منهم اللهم تعلم أني استأجرت أجيراً بفرق أرز فلما أمسيت عرضت عليه حقه فأبى أن يأخذه وذهب فثَمَّرتُه له حتى جمعت له بقراً ورعاءها فلقيني فقال أعطني حقي فقلت اذهب إلى تلك البقر ورعاءها فخذها فذهب فاستاقها.
قال الشيخ قد احتج به أحمد بن حنبل لقوله الذي حكيناه عنه في الباب الأول، ويشبه على مذهبه أن يكون هذا الرجل إنما كان استأجره على فرق أرز معلوم بعينه حتى يكون التجارة وقعت بمال الأجير، فأما إذا كانت الأجرة في الذمة غير معينة فإنما وقعت التجارة في مال المستأجر لأنها من ضمانه فالربح له لأنه المالك والعامل المتصرف فيه، إلاّ أنه لا حجة له في واحد من الأمرين أيهما كان لأن هذا قول ثناء ومدح استحضه هذا الرجل في أمر تبرع به لم يكن يلزمه من جهة الحكم فحمد عليه، وإنما هو الترغيب في الإحسان والندب إليه وليس من باب ما يجب ويلزم في شيء.

ومن باب الشركة على غير رأس مال
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا يحيى، قال: حَدَّثنا سفيان، عَن أبي إسحاق، عَن أبي عبيدة قال اشتركت أنا وعمار وسعد فيما يصيب يوم بدر قال فجاء سعد بأسيرين ولم أجىء أنا وعمار بشيء.
قال الشيخ شركة الأبدان صحيحة في مذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وهذا الحديث حجة لهم، وقد احتج به أحمد بن حنبل وأثبت شركة الأبدان وهو أن يكونا خياطين وقصارين فيعملان أو يعمل كل واحد منهما منفردا أو يكون أحدهما خياطاً والآخر خزَّازاً أو حداداً سواء اتفقت الصناعات

(3/92)


أو اختلفت فكل ما أصاب أحدهما من أجرة عن عمله كان صاحبه شريكه فيها، أو يشتركان على أن ما يكتسبه كل واحد منهما كان بينهما إن لم يكن العمل معلوماً، إلاّ أن بعضهم قال لا يدخل فيها الاصطياد والاحتشاش.
وحكي عن أحمد أنه قال يدخل فيها الصيد والحشيش ونحوهما وقاسوها على المضاربة قالوا إذا كان العمل فيها أحد رأسي المال جاز أن يكون في الشقين مثل ذلك وأبطلها الشافعي وأبو ثور.
فأما شركة المفاوضة فهي عند الشافعي رضي اله عنه فاسدة ووافق في ذلك أحمد وإسحاق وأبو ثور وجوزها الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الأوزاعي وابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة وسفيان وأبو يوسف لا يكون شركة مفاوضة حتى يكون رأس أمواهما سواء.

ومن باب المزارعة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فذكرته لطاوس فقال قال ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ خراجاً معلوماً.
قال الشيخ خبر رافع بن خديج من هذا الطريق خبر مجمل يفسره الأخبار التي رويت عن رافع بن خديج وعن غيره من طرق أخر، وقد عقل ابن عباس معنى الخبر وأن ليس المراد به تحريم المزارعة شطر ما تخرجه الأرض، وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم بعضا، وقد ذكر رافع بن خديج في رواية أخرى عنه النوع الذي حرم منها والعلة التي من أجلها نهى

(3/93)


عنها، وذكره أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا عيسى، قال: حَدَّثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال لا بأس بها إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وإقبلل الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا أو يسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كراً إلاّ هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به.
فقد أعلمك رافع في هذا الحديث أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا فيها شروطا فاسدة وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول فيكون خاصا لرب المال والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا تجوز أن تكون مجهولة، وقد يسلم ما على السواقي ويهلك سائر الزرع فيبقى المزارع لا شيء له وهذا غرر وخطر. وإذا اشترط رب المال على المضارب دراهم لنفسه زيادة على حصة الربح المعلومة فسدت المضاربة، وهذا وذلك سواء وأصل المضاربة في السنة المزارعة المساقاة فكيف يجوز أن يصح الفرع ويبطل الأصل.
والماذيانات: الأنهار وهي من كلام العجم صارت دخيلا في كلامهم.
قال الشيخ وقد ذكر زيد بن ثابت العلة والسبب الذي خرج عليه الكلام في ذلك وبين الصفة التي وقع عليها النهي ورواه أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن علية (ح) وحدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا بشر المعنى عن عبد الرحمن بن إسحاق، عَن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن

(3/94)


الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع قوله لا تكروا المزارع.
وضعف أحمد بن حنبل حديث رافع وقال هو كثير الألوان يريد اضطراب هذا الحديث واختلاف الروايات عنه فمرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرة يقول حدثني عمومتي عنه.
وجوز أحمد المزارعة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى اليهود أرض خيبر مزارعة ونخلها مساقاة وأجازها ابن أبي ليلى ويعقوب ومحمد وهو قول ابن المسيب وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز وأبطلها أبو حنيفة ومالك والشافعي.
قال الشيخ فإنما صار هؤلاء إلى ظاهر الحديث من رواية رافع بن خديج ولم يقفوا على علته كما وقف عليه أحمد: وقد أنعم بيان هذا الباب محمد بن إسحاق بن خزيمة وجوزه وصنف في المزارعة مسألة ذكر فيها علل الأحاديث التي وردت فيها فالمزارعة على النصف والثلث والربع وعلى ما تراضى به الشريكان جائزة إذا كانت الحصص معلومة والشروط الفاسدة معدومة وهي عمل المسلمين من بلدان الإسلام وأقطار الأرض شرقها وغربها لا أعلم أني رأيت أو سمعت أهل بلد أو صقع من نواحي الأرض التي يسكنها المسلمون يبطلون العمل بها.
ثم ذكر أبو داود على أثر هذه الأحاديث باباً في تشديد النهي عن المزارعة وذكر فيه طرقا لحديث رافع بن خديج بألفاط مختلفة كرهنا ذكرها لئلا يطول الكتاب وسبيلها كلها أن يرد المجمل منها إلى المفسر من الأحاديث التي مر

(3/95)


ذكرها وقد بينا عللها.
وفي هذا الباب ألفاط يحتاج إلى تفسير وشرح منها، قوله أفقر أخاك أو أكره بالدراهم، ومعنى أفقر أخاك أي أعِرْهُ إياها، وأصل الإفقار في إعارة الظهر، يقال أفقرت الرجل بعيري إذا أعرته ظهره للركوب. ومنها الحقل وهو الزرع الأخضر والحقل أيضاً القراح الذي يُعَد للمزارعة وفي بعض الأمثال لا تنبت البقلة إلاّ الحقلة، ومنه أخذت المحاقلة ومنها المخابرة وهي المزارعة على النصف والثلث ونحوهما والخبير والنصيب والخبير الأكار.

ومن باب إذا زرع الأرض بغير إذن صاحبها
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك، عَن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته.
قال الشيخ هذا الحديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث وحدثني الحسن بن يحيى عن موسى بن هارون الجمال أنه كان ينكر هذا الحديث ويضعفه ويقول لم يروه، عَن أبي إسحاق غير شريك ولا عن عطاء غير أبى إسحاق وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئاً وضعفه البخاري أيضاً، وقال تفرد بذلك شريك، عَن أبي إسحاق وشريك يَهِمُ كثيراً أو أحياناً.
ويشبه أن يكون معناه لو صح وثبت على العقوبة والحرمان للغاصب والزرع في قول عامة الفقهاء لصاحب البذر لأنه تولد من غير ماله وتكوَّن معه وعلى الزارع كراء الأرض، غير أن أحمد بن حنبل كان يقول إذا كان الزرع قائماً فهو لصاحب الأرض فأما إذا حصد فإنما يكون له الأجرة.

(3/96)


وحكى ابن المنذر، عَن أبي داود قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن حديث رافع فقال عن رافع ألوان ولكن أبا إسحاق زاد فيه زرع بغير إذنه وليس غيره ينكر هذا الحرف.

ومن باب في المخابرة
قال أبو داود: حدثنا مسدد أن حماداً وعبد الوارث حدثاهم عن أيوب، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وعن الثنيا ورخص في العرايا.
قال الشيخ المحاقلة قد مر تفسيرها فيما مضى وأنها بيع الزرع بالحب والمخابرة هي المزارعة والخبير الأكار. والمزابنة بيع الرطب بالتمر، وأما المعاومة فهي بيع السنين ومعناه أن يبيعه سنة أو سنتين أو أكثر إما ثمرة نخلة بعينها أو نخلات وهو بيع فاسد لأنه بيع ما لم يوجد ولم يخلق ولا يدرى هل يثمر أو لاً يثمر. وبيع الثنيا المنهي عنه أن يبيعه ثمرحائطه ويستثني منه جزءاً غير معلوم قيبطل لأن المبيع حينئذ يكون مجهولا فإذا كان ما يستثنيه شيئا معلوماً كالثلث والربع ونحوه كان جائزا فكذلك إذا باعه صبرة طعام جزافاً واستثني منه قفيزاً أو قفيزين كان جائزا لأنه استثنى معلوماً من معلوم؛ وقد تقدم ذكر تفسير العرايا.

ومن باب المساقاة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع.
قال الشيخ في هذا إثبات المزارعة على ضعف خبر رافع بن خديج في النهي

(3/97)


عن المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض، وإنما صار إليه ابن عمر تورعاً واحتياطاً وهو راوي خبر أهل خيبر، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم عليها أيام حياته ثم أبا بكر ثم عمر إلى أن أجلاهم عنها.
وفيه إثبات المساقاة وهي التي تسميها أهل العراق المعاملة وهي أن يدفع صاحب النخل نخله إلى الرجل ليعمل بما فيه صلاحها أو صلاح ثمرها ويكون له الشطر من ثمرها وللعامل الشطر فيكون من أحد الشقين رقاب الشجر، ومن الشق الآخر العمل كالمزارعة يكون فيها من قبل رب المال الدراهم والدنانير ومن العامل التصرف فيها وهذه لها في القياس سواء.
والعمل بالمساقاة ثابت في قول أكثر الفقهاء ولا أعلم أحداً منهم أبطلها إلاّ أبا حننفة. وخالفه صاحباه فقالا بقول جماعة أهل العلم.
واختلفوا فيما يصح فيه المساقاة من الشجر والثمر فكان الشافعي يقول إنما تصح المساقاة في النخل والكرم لأنهما يخرصان وثمرهما بادٍ بارز يدركه البصر وعلق القول فيما يتفرق ثمره في الشجر ويغيب عن البصر تحت الورق كالتين والزيتون والتفاح ونحوها من الفواكه.
وكان مالك وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجيزونها في كل شجر له أصل قائم. وقال مالك لا بأس بالمساقاة في القثاء والبطيخ وشرط فيها شروطا لا يكاد يتبين صحة معناه فيها، وقال أبو ثور تجوز المساقاة في النخل والكرم والرطاب والباذنجان وما يكون له ثمرة قائمة إذا كان دفعه إليه أرضا ومنها النخل والرطاب.
واحتج في ذلك بخبر أرض خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم وفى أرضهم النخل والزرع ونحوه.

(3/98)


ومن باب كسب المعلم
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرُّواسي عن مغيرة بن زياد عن عبادة بن نسى عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت قال علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال فأرمي عليها في سبيل الله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتيته فقلت يا رسول الله رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال فأرمي عنها في سبيل الله فقال إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها.
قال الشيخ اختلف الناس في معنى هذا الحديث وتأويله فذهب قوم من العلماء إلى ظاهره فرأوا أن أخذ الأجرة والعوض على تعليم القرآن غير مباح، وإليه ذهب الزهري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه.
وقالت طائفة لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي وأباح ذلك آخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً زوجتكها على ما معك من القرآن، وقد ذكره أبو داود في موضعه من هذا الكتاب، وتأولوا حديث عبادة على أنه أمر كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة الرجل أو استخرج له متاعاً قد عرف تبرعاً وحسبة فليس له أن يأخذ عليه

(3/99)


عوضاً ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً.
وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ الرجل المال منهم مكروه ودفعه إليهم مستحب.
وقال بعض العلماء أخذ الأجرة على تعليم القرآن له حالات فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه لأن فرض ذلك لا يتعين عليه. وإذا كان في حال أو موضع لا يقوم به غيره لم يحل له أخذ الأجرة وعلى هذا تأول اختلاف الأخبار فيه.

ومن باب كسب المعالجين من الطب
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عوانه، عَن أبي شر، عَن أبي المتوكل عن أب سعيد الخدري أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها فنزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، قال فلدغ سيد ذلك الحي فشفوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم لعل أن يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم، فقال بعضهم إن سيدنا لدغ فهل عند أحد منكم رقية، فقال رجل من القوم أني لأرقي ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا ما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلاً فجعلوا له قطيعا من الشاء فأتاه فقرأ عليه بأم الكتاب ويتفل حتى برأ كأنما أنشط من عقال فأوفاهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه فقالوا اقتسموا، فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له،

(3/100)


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين علمتم أنها رقية أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم.
قال الشيخ وفي هذا بيان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولو كان ذلك حراماً لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم برد القطيع، فلما صوب فعلهم وقال لهم أحسنتم ورضي الأجرة التي أخذوها لنفسه فقال اضربوا لي معكم بسهم ثبت أنه طِلْق مباح وأن المذهب الذي ذهب إليه من جمع بين أخبار الإباحة والكراهة في جواز أخذ الأجرة على ما لا يتعين الفرض فيه على معلمه ونفى جوازه على ما يتعين فيه التعليم مذهب سديد وهو قول أبي سعيد الأصطخري.
وفي الحديث دليل على جواز بيع المصاحف وأخذ الأجرة على كتبها، وفيه إباحة الرقية بذكر الله في أسمائه، وفيه إباحة أجر الطبيب والمعالج وذلك أن القراءة والرقية والنفث فعل من الأفعال المباحة، وقد أباح له أخذ الأجرة عليها فكذلك ما يفعله الطبيب من قول ووصف وعلاج فعل لا فرق بينهما.
وقد تكلم الناس في جواز بيع المصاحف فكرهت طائفة بيعها، روي عن ابن عمر أنه كان يقول وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف وكره بيعها شريح وابن سيرين ورخص في شرائها روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال أحمد بن حنبل الأمر في شرائها أهون، قال وما أعلم في البيع رخصة. ورخص أكثر الفقهاء في بيعها وشرائها وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة والحكم وسفيان الثوري وأصحاب الرأي والنخعي وكرهت، وإليه ذهب مالك والشافعي.
وقوله فشفوا له بكل شيء، معناه عالجوه بكل شىء مما يستشفى به والعرب تضع الشفاء موضع العلاج قال الشاعر:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف حجر إن هما شفياني

(3/101)


وقوله أنشط من عقال أي حل من وثاق، يقال نشطت الشيء إذا شددته وأنشطته إذا فككته والأنشوطة الحبل الذي يشد به الشيء.

ومن باب كسب الحجام
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا أبان، قال: حَدَّثنا يحيى، يَعني ابن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى أمره أن أعلفه ناضحك أو رقيقك.
قال الشيخ حديث محيصة يدل على أن أجرة الحجام ليست بحرام وأن خبثها من قبل دناءة مخرجها، وقال ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علمه محرما لم يعطه.
قال الشيخ وقوله أعلفه ناضحك أو رقيقك يدل على صحة ما قلناه وذلك أنه لا يجوز له أن يطعم رقيقه إلاّ من مال قد ثبت له ملكه، وإذا ثبت له ملكه فقد ثبت أنه مباح، وإنما وجهه التنزيه عن الكسب الدنىء والترغيب في تطهير الطعم والإرشاد فيها إلى ما هو أطيب وأحسن وبعض الكسب أعلى وأفضل وبعضه أدنى وأوكح.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن كسب الحجام إن كان حراً فهو محرم، واحتج بهذا الحديث بقوله إنه خبيث وإن كان عبدا فإنه يعلفه ناضحه وينفقه

(3/102)


على دوابه.
قال الشيخ وهذا القائل يذهب في التفريق بينهما مذهباً ليس له معنى صحيح وكل شيء حلّ من المال للعبيد حل للأحرار. والعبد لا ملك له ويده يد سيده وكسبه كسبه، وإنما وجه الحديث ما ذكرته لك، وأن الخبيث معناه الدنيء كقوله تعالى {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267] أي الدون.
فأما قوله ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث فإنهما على التحريم، وذلك أن الكلب نجس الذات محرم الثمن، وفعل الزنا محرم وبدل العوض عليه وأخذه في التحريم مثله لأنه ذريعة إلى التوصل إليه، والحجامة مباحة، وفيها نفع وصلاح الأبدان.
وقد يجمع الكلام بين القرائن في اللفظ الواحد ويفرق بينهما في المعاني وذلك على حسب الأغراض والمقاصد فيها، وقد يكون الكلام في الفصل الواحد بعضه على الوجوب وبعضه على الندب وبعضه على الحقيقة وبعضه على المجاز وإنما يعلم ذلك بدلائل الأصول وباعتبار معانيها.
والبغي الزانية وفعلها البغاء، ومنه قوله تعالى {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} [النور: 33] .

ومن باب كسب الإماء
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ، قال: حَدَّثنا أبي، قال: حَدَّثنا شعبة عن محمد بن جحادة قال سمعت أبا حازم سمع أبا هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الإماء.
قال الشيخ كانت لأهل مكه ولأهل المدينة إماء عليهن ضرائب تخدمن الناس تخبزن وتسقين الماء وتصنعن غير ذلك من الصناعات ويؤدين الضريبة

(3/103)


إلى ساداتهن. والإماء إذا دخل تلك المداخل وتبذلن ذلك التبذل وهن مخارجات وعليهن ضرائب لم يؤمن أن يكون منهن أو من بعضهن الفجور وأن يكسبن بالسفاح فأمر صلى الله عليه وسلم بالتنزه عن كسبهن ومتى لم يكن لعملهن وجه معلوم يكتسبن به فهو أبلغ في النهي وأشد في الكراهة.
وقد جاءت الرخصة في كسب الأمة إذا كانت في يدها عمل، ورواه أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا هارون بن عبد الله، قال: حَدَّثنا هاشم بن القاسم، قال: حَدَّثنا عكرمة بن عمار قال أخبرني طارق بن عبد الرحمن القرشري؛ قال جاء رافع بن رفاعة إلى مجلس الأنصار فقال لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أشياء ونهى عن كسب الأمة إلاّ ما عملت بيدها، وقال هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنفش.
النفش نتف الصوف أو ندفه وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو أخرجه أبو داود من حديث رافع بن خديج.

ومن باب حلوان الكاهن
قال أبو داود: حدثنا قتيية بن سعيد عن سفيان عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن.
قال الشيخ حلوان الكاهن هو ما يأخذه المتكهن عن كهانته وهو محرم وفعله با طل؛ يقال حلوت الرجل شيئا، يَعني رشوته وأخبرنى أبو عمر، قال: حَدَّثنا أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: ويقال لحلوان الكاهن الشنع والصهيم.
قال الشيخ وحلوان العرّاف حرام كذلك والفرق بين الكاهن والعراف

(3/104)


أن الكاهن إنما يتعاطى الخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما من الأمور.

ومن باب عسب الفحل
قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد، قال: حَدَّثنا إسماعيل عن علي بن الحكم عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل.
قال الشيخ عسب الفحل الذكر الذي يؤخذ على ضرابه وهو لا يحل، وفيه غرر لأن الفحل قد يضرب وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى وقد لا تلقح فهو أمر مظنون والغرر فيه موجود.
وقد اختلف في ذلك أهل العلم فروى عن جماعة من الصحابة تحريمه، وهو قول أكثر الفقهاء.
وقال مالك لا بأس به إذا استأجروه ينزونه مدة معلومة، وإنما يبطل إذا شرطوا أن ينزوه حتى تعلق الر_ّ_مكة. وشبهه بعض أصحابه بأجرة الرضاع وابار النخل وزعم أنه من المصلحة ولو منعنا منه لانقطع النسل.
قال الشيخ وهذا كله فاسد لمنع السنة منه، وإنما هومن باب المعروف فعلى الناس أن لا يتمانعوا منه. فأما أخذ الأجرة عليه فمحرم وفيه قبح وترك مروءة.
وقد رخص فيه أيضاً الحسن وابن سيرين، وقال عطاء لا بأس به إذا لم يجد من يطرقه.

(3/105)


ومن باب الصائغ
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عَن أبي ماجدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني وهبت لخالتي غلاماً وإني أرجو أن يبارك لها فيه فقلت لها لا تسلميه حجاماً ولا صائغا ولا قصَّاباً.
قال الشيخ يشبه أن يكون إنما كره كسب الصائغ لما يدخله من الربا ولما يجري على ألسنتهم من المواعيد في رد المتاع، ثم يقع في ذلك الخلف، وقد يكثر هذا في الصاغة حتى صار ذلك كالسمة لهم وإن كان غيرهم قد يشركهم في بعض ذلك.
وقد روي في حديث أكذب النلس الصباغون والصواغون وإن لم يكن إسناده بذلك، وأما القصاب فعمله غير نظيف، وثوبه الذي يعالج فيه صناعته غير طاهر في الأغلب والحجامة أمر مشهور، وقد تقدم ذكره فيما مضى.

ومن باب العبد يباع وله مال
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع ومن باع نخلاً مؤبراً فالثمرة للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع.
قال الشيخ في هذا الحديث من الفقه أن العبد لا يملك مالاً بحال، وذلك لأنه جعله في أرفع أحواله وأقواها في إضافة الملك إليه مملوكاً عليه ماله ومنتزعاً من يده فدل ذلك على عدم الامتلاك أصلاً وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي والشافعي.
وقال مالك العبد يملك إذا ملكه صاحبه، وكذا قال أهل الظاهر. وفائدة

(3/106)


هذا الخلاف والموضع الذي تبين أثره فيه مسألتان أحدهما هل له أن يتسرى أم لا فمن جعل له ملكاً أباح له ذلك ومن لم يره يملك لم يبح له الوطء بملك اليمين. والمسألة الأخرى أن يكون في يده نصاب من الماشية فيمر عليه الحول ثم يبيعه سيده ولم يشترط المبتاع ماله، فإذا عاد إلى السيد هل يلزمه الزكاة فيه أم لا فمن لم يثبت له ملكاً أوجب زكاته على سيده ومن جعل للعبد ملكاً أسقط الزكاة عنه لأن ملكه ناقص كملك المكاتب ويستأنف السيد به الحول.
وممن ذهب إلى ظاهر الحديث في أن ماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع مالك والشافعي وأحمد واسحاق. وروي عن الحسن والنخعي أنهما قالا فيمن باع وليدة قد زينت أن ما عليها للمشتري إلاّ أن يشترط الذي باعها ما عليها.
قال الشيخ ولا يجوز على مذهب الشافعي أن يكون ماله الذي يشترطه المبتاع إلاّ معلوماً فإن كان مجهولاً لم يجز لأنه غرر وللثمن منه حصة فإذا لم يكن معلوماً جهل الثمن فيه فبطل البيع.
وإن كان المال الذي في يد العبد شيئاً مما يدخله الربا لم يجز بيعه إلاّ بما يجوز فيه بيوع الأشياء التي يدخلها الربا ولا يتم إلاّ بالتقابض. وإن كان ماله ديناً لم يجز أن يشتري بدين. وعلى هذا قياس هذا الباب في مذهبه وقوله الجديد، فأما مالك فإنه يجعل ماله تبعاً لرقبته إذا شرطه المبتاع في الصفقة وسواء عنده كان المال نقدا أو عرضا أو دينا أو كان مال العبد أكثر من الثمن أو أقل ويجعل تبعاً للعبد بمنزلة حمل الشاة ولبنها.
وأما قوله من باع نخلا مؤبراً فالثمرة للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع فيه بيان أن التأبير حد في كون الثمرة تبعاً للأصل، فإذا أبرت تفرد حكمها بنفسها

(3/107)


وصارت كالولد بائن الأم فلم يكن لها تبعاً في البيع إلاّ أن يقصد بنفسه وما دام غير مؤبر فهو كبعض أغصان الشجرة وجريدة النخلة في كونها تبعاً للأصل. والتأبير هو التلقيح، وهو أن يؤخذ طلع محال النخل فيؤخذ شعب منه فيودع الثمر أول ما ينشف الطلع فيكون لقاحاً بإذن الله تعالى.
وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل الثمر تبع للنخل ما لم تؤبر فإذا أبر لم يدخل في البيع إلاّ أن يشترط قولاً بظاهر الحديث.
وقال أصحاب الرأي الثمر للبائع أبر أو لم يؤبر إلاّ أن يشترط المبتاع كالزرع. وقال ابن أبي ليلى الثمر للمشتري أبر أو لم يؤبر شرط أو لم يشترط لأن الثمر من النخل.

ومن باب التلقي
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع حدثنا أبو توبة، قال: حَدَّثنا أبو عبيد الله، يَعني ابن عمر والرقي عن أيوب عن ابن سيرين، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجلب فإن تلقى متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق.
قال الشيخ قوله لا يبع بعضكم على بيع بعض هو أن يكون المتبايعان قد تواجبا الصفقة وهما في المجلس لم يتفرقا بعد وخيارهما باق فيجيء الرجل فيعرض عليه مثل سلعته أو أجود منه بمثل الثمن أو أرخص منه فيندم المشتري فيفسخ البيع فيلحق البائع منه الضرر، فأما مادام المتبايعان يتساومان ويتراودان البيع ولم يتواجباها بعد فإنه لا يضيق ذلك، وقد باع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِلس والقدح

(3/108)


فيمن يزيد.
وأما النهي عن تلقي السلع قبل ورودها السوق فالمعنى في ذلك كراهة الغبن ويشبه أن يكون قد تقدم من عادة أولئك أن يتلقوا الركبان قبل أن يقدموا البلد ويعرفوا سعر السوق، فيخبروهم أن السعر ساقطة والسوق كاسدة والرغبة قليلة حتى يخدعوهم عما في أيديهم ويبتاعوه منهم بالوكس من الثمن فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وجعل للبائع الخيار إذا قدم السوق فوجد الأمر بخلاف ما قالوه.
وقد كره التلقي جماعة من العلماء منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ولا أعلم أحدا منهم أفسد البيع، غير أن الشافعي أثبت الخيار للبائع قولا بظاهر الحديث وأحسبه مذهب أحمد أيضاً، ولم يكره أبو حنيفة التلقي ولا جعل لصاحب السلعة الخيار إذا قدم السوق.
وكان أبو سعيد الاصطخري يقول إنما يكون للبائع الخيار إذا كان المتلقي قد ابتاعه بأقل من الثمن فإذا ابتاعه بثمن مثله فلا خيار له.
قال الشيخ وهذا قول قد خرج على معاني الفقه.

ومن باب النجش
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تناجشوا.
قال الشيخ النجش أن يرى الرجل السلعة تباع فيزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد بذلك ترغيب السُوام فيها ليزيدوا في الثمن، وفيه غرور للراغب فيها وترك لنصيحته التي هي مأمور بها، ولم يختلفوا أن البيع لا يفسد عقده بالنجش، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن الناجش إذا فعل ذلك بإذن

(3/109)


البائع فللمشتري فيه الخيار.

ومن باب النهي عن بيع حاضر لباد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حَدَّثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد فقلت ما يبيع حاضر لباد قال لا يكون له سمساراً.
قال الشيخ قوله لا يبيع حاضر لباد كلمة تشتمل على البيع والشراء، يقال بعت الشيء بمعنى اشتريت، قال طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
أي لم تشتر له متاعاً، يقال شريت الشيء بمعنى بعته والكلمتان من الأضداد قال ابن مفرْع الحميري:
وشريت برداً ليتني ... من بعد بردٍ كنت هامه
يريد بعت برداً وبرداً غلامه باعه فندم عليه، وفسر ابن سيرين قوله لا يبيع حاضر لباد على المعنيين جميعاً، وقال هي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يشتري له شيئا، ولذلك قال لا يكون له سمساراً لأن السمسار يبيع ويشتري للناس. ومعنى هذا النهي أن يتربص له سلعته لا أن يبيعه بسعر اليوم، وذلك أن البدوي إذا جلب سلعة إلى السوق وهو غريب غير مقيم باعها بسعر يومه فينال الناس فيها رفقا ومنفعة، فإذا جاءه الحضري فقال له أنا أتربص لك وأبيعها، وحرم الناس ذلك النفع فاتهم ذلك الرفق؛ وقد قيل إن ذلك إنما يحرم عليه إذا كان في بلد ضيق الرقعة إذا باع الجالب متاعه اتسع أهلها وارتفقوا به. فإذا لم يبعه تبين به أثر الضيق عليهم وخيف منه غلاء السعر فيهم، فأما إذا كان البلد واسعا

(3/110)


لا يتضرر به الناس ولا يتبين بذلك عليهم أثره فلا بأس به والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حَدَّثنا زهير، قال: حَدَّثنا أبو الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبيع حاضر لباد وذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض.
قال الشيخ في هذا دليل على أن عقد البيع لا يفسد إذا فعل ذلك ولو كان يقع فاسداً لم يكن فيه منع من أن يرتفق الناس ومن تزق بعضهم من بعضهم.
وقد كره بيع الحاضر للبادي أكثر أهل العلم وكان مجاهد يقول لا بأس به في هذا الزمان، وإنما كان النهي وقع عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الحسن البصري يقول لا تبع للبدوي ولا تشتر له، وذهب بعضهم إلى أن النهي فيه بمعنى الإرشاد دون الإيجاب والله أعلم.

ومن باب من اشترى مصراة وكرهها
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من بر.
قال وحدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء ردها وصاعاً من طعام لا سمراء.
قال الشيخ اختلف أهل العلم واللغة في تفسير المصراة ومن أين أخذت واشتقت، فقال الشافعي التصرية أن تربط أخلاف الناقة والشاة وتترك من الحلب اليومين والثلاثة حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرا ويزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها فإذا حلبها بعد تلك الحلبة حلبة أو اثنتين عرف أن ذلك

(3/111)


ليس بلبنها وهذا غرر للمشتري.
وقال أبو عبيد المصراة الناقة أو البقرة أو الشاة التي قد صرى اللبن في ضرعها، يَعني حقن فيه وجمع أياماً فلم يحلب، وأصل التصرية حبس الماء وجمعه يقال منه صريت الماء، ويقال إنما سميت الصراة كأنها مياه اجتمعت.
قال أبو عبيد ولو كان من الربط لكان مصرورة أو مصررة، قال الشيخ كأنه يريد به رداً على الشافعي، قال الشيخ قول أبي عبيد حسن وقول الشافعي صحيح والعرب تصر ضروع الحلوبات إذا أرسلتها تسرح وسنمون ذلك الرباط صراراً فإذا راحت حلت تلك الأصرة وحلبت، ومن هذا حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يحل صرار ناقة بغير إذن صاحبها فإنه خاتم أهلها عليها، ومن هذا قول عنترة: …العبد لا يحسن الكر ... إنما يحسن الحلب والصر
وقال مالك بن نويرة وكان بنو يربوع جمعوا صدقاتهم ليوجهوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم من ذلك ورد على رجل منهم صدقته، وقال أنا جنة لكم مما تكرهون وقال:
وقلت خذوها هذه صدقاتكم …مصررة أخلافها لم تجدَّدِ
سأجعل نفسي دون ما تجدونه …وأرهنكم يوماً بما قلته يدي
قال الشيخ وقد يحتمل أن يكون المصراة، أصله المصرورة أبدل احدى الراءين ياءً كقولهم تقضي البازي وأصله تقضض كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة فأبدلوا حرفا منها بحرف آخر ليس من جنسها؛ قال العجاج:
* تقضي البازي إذا البازي كسر *

(3/112)


ومن هذا الباب قول الله تعالى {وقد خاب من دساها} [الشمس: 10] أي أخملها بمنع الخير وأصله من دستها، ومثل هذا في الكلام كثير.
وقد اختلف الناس في حكم المصراة فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يردها ويرد معها صاعا من تمر قولا بظاهر الحديث، وهو قول مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف برد قيمة اللبن، وقال أبو حنيفة إذا حلب الشاة فليس له أن يردها ولكن يرجع على البائع بأرشها ويمسكها.
واحتج من ذهب إلى هذا القول بأنه خبر مخالف للأصول لأن فيه تقويم المتلف بغير النقود، وفيه إبطال رد المثل فيما له مثل، وفيه تقويم القليل والكثيرمن اللبن بقيمة واحدة وبمقدار واحد واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: الخراج بالضمان.
قال الشيخ والأصل أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله وجب القول به وصار أصلاً في نفسه وعلينا قبول الشريعة المبهمة كما علينا قبول الشريعة المفسرة والأصول إنما صارت أصولاً لمجيء الشريعة بها. وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد أشهرها هذا الطريق، فالقول فيه واجب وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له على أن تقويم المتلف بغير النقد موجود في بعض الأصول منها الدية في النفس مائة من الإبل، ومنها الغرة في الجنين. وقد جاء أيضاً تقويم القليل والكثير بالقيمة الواحدة كأرش الموضحة فإنها ربما أخذت أكثر من مساحة الرأس فيكون فيها خمس من الإبل وربما كانت قدر الأنملة فيجب الخمس من الإبل سواء.
وكذلك الدية في الأصابع سواء على اختلاف

(3/113)


مقادير جمالها ومنفعتها. وجاءت السنة بالتسوية بين دية اللسان والعينين واليدين والرجلين. وأوجب أصحاب الرأي في الحاجبين وأهداب العينين وفي اللحية الدية الكاملة وأين منافع الحاجبين من اللسان واليدين والرجلين وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على من وجبت عليه في إبله ابنة مخاض وليس عنده إلاّ ابنة لبون أن يعطي المصدق شاتين أو عشرين درهماً جبراناً لنقصان ما بين السنين، ومعلوم أن ذلك قد يتفاوت ولا يتعدل في التقويم بكل مكان وكل زمان. وقد جعلوا أيضاً الحد في المهر عشرة دراهم على تسوية فيه بين الشريفة والوضيعة، وفي رد الآبق أربعين درهما ولم يفرقوا بين من رده من مسافة ثلاثة أيام وبين من رده من مسافة شهر، وليس في شيء من هذا سنة ولا خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجوز رد السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن بينها وبين بعض السنن مخالفة في بعض أحكامها وقد قالوا بخبر الوضوء بالنبيذ وبخبر القهقهة ونقضها الطهارة في الصلاة مع مخالفتها الأصول وهما خبران ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث.
ثم أن تقويم المتلفات على ضربين أحدهما أن تقوم قيمة تعديل، والآخرأن تقوم قيمة توقيف؛ فقيمة التعديل ترتفع وتنخفض على قدر ارتفاع الشيء وانخفاضه وقيمة التوقيف هو ما جعل بإزاء الشيء الذي لا يكاد يضبط بمقدار معلوم واللبن غير معلوم المقدار، وقد يقل مرة ويكثر أخرى ويختلط باللبن الذي يحدث في ملك المشتري ولا يتميز منه. وإذا صار مجهولاً لا يضبط وكان لا يؤمن وقوع التنازع فيه بين البائع والمشتري وردت الشريعة فيه بتوقيف معلوم يفصل فيه بين المتبايعين ويكفيهما مؤنة الاجتهاد ويقطع به مادة النزاع كما وردت في الجنين إذ كانت بمنزلة المصراة في معنى الجهالة، وأما خبر الخراج

(3/114)


بالضمان فمخرجه مخرج العموم، وخبر المصراة إنما جاء خاصا في حكم بعينه، والخاص يقضي على العام ولو جاء الخبران معاً مقترنين في الذكر لصح الترتيب فيهما ولاستقام الكلام ولم يتناقض عند تركيب أحدهما على الآخر، فكذلك إذا جاءا منفصلين غير مقترنين لأن مصدرهما عن قول من تجب طاعته ولا تجوز مخالفته.
قال الشيخ وقد أخذ كل واحد من أبي حنيفة ومالك بطرف من الحديث وترك الطرف الآخر، فقال أبو حنيفة لا خيار أكثر من ثلاث، واحتج بهذا الحديث ولم يقل برد الصاع، وقال مالك برد الصاع ولم يأخذ بالتوقيف في خيار الثلاث وصار إلى أن يرد متى وقف على العيب كان ذلك قبل الثلاث أو بعدها فكان أصح المذاهب قول من استعمل الحديث على وجهه وقال بجملة ما فيه.
وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز بيع شاة لبون بلبن ولا بشاة لبون، وذلك لأنه قد جعل للبن المصراة قسطاً من الثمن إذ كان كالشيء المودع في الشاة المقدور على استخراجه فإذا باع لبوناً بلبون فقد باع لبناً بلبن غير متساويبن، فأما بيع سمسم بسمسم فجائز، وإن كان العلم قد يحيط بأن في كل واحد منهما دهناً، الأ أنه غير مقدور على استخراجه كما كان مقدوراً على استخراج اللبن مع بقاء العين بهيئته فصار تبعاً للمبيع.
قال الشيخ ويدخل في هذا كل مصراة من الإبل والغنم والبقر والآدميات فلو اشترى رجل جارية ذات لبن لترضع ولده فوجدها مصراة كان هذا حكمها سواء لا فرق بينها وبين غيرها من الحيوان في هذا المعنى.
وقد اختلف النلس في مدة الخيار المشروط في البيع، فقال أبو حنيفة لا يجوز أكثر من ثلاث وهو قول الشافعي، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد

(3/115)


قليله وكثيره جائز، وقال مالك هو على قدر الحاجة إليه فخيار الثوب يوم ويومان وفي الحيوان أسبوع ونحوه وفي الدور شهر وشهران وفي الضيعة سنة ونحوها. وفي قوله لا سمراء دليل على أنه لا يلزمه أن يعطيه غير التمر، وذهب بعضهم إلى أن كل إنسان يعطي من قوته فمن كان قوته التمر أعطى صاعا من تمر، ومن كان قوته الشعير أعطى صاعا من شعير، ومن كان قوته السمراء وهي الحنطة أعطى صاعا منها، وهذا خلاف ظاهر الحديث؛ إلاّ أن أبا داود وقد روي في هذا الحديث من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً وليس إسناده بذاك.
والمحفلة أي المصراة، وسميت محفلة لحصول اللبن واجتماعه في ضرعها.

ومن باب النهي عن الحكرة
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، قال: حَدَّثنا خالد عن عمرو بن يحيى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن المسيب عن معمر بن أبي معمر أحد بني عدي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطىء فقلت لسعيد فإنك تحتكر قال ومعمر كان يحتكر.
قال الشيخ قوله ومعمر كان يحتكر يدل على أن المحظور فيه نوع دون نوع ولا يجوزعلى سعيد بن المسيب في علمه وفضله أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ثم يخالفه كفاحاً وهو على الصحابي أقل جوازاً وأبعد إمكاناً.
وقد اختلف الناس في الاحتكار فكرهه مالك والثوري في الطعام وغيره من السلع، وقال مالك يمنع من احتكار الكتان والصوف والزيت وكل شيء

(3/116)


أضر بالسوق، إلاّ أنه قال ليست الفواكه من الحكرة.
وقال أحمد بن حنبل ليس الاحتكار إلاّ في الطعام خاصة لأنه قوت الناس وقال إنما يكون الاحتكار في مثل مكة والمدينة والثغور، وفرق بينهما وبين بغداد والبصرة وقال ان السفن تخترقها، وقال أحمد إذا دخل الطعام من ضيعته فحبسه فليس بحكرة، وقال الحسن والأوزاعي من جلب طعاما من بلد إلى بلد فحبسه ينتظر زيادة السعر فليس بمحتكر وإنما المحتكر من اعترض سوق المسلمين.
وقال الشيخ واحتكار معمر وابن المسيب متأول على مثل هذا الوجه الذي ذهب إليه أحمد بن حنبل، وإنما هذا الحديث جاء باللفظ العام والمراد منه معنى خاص، وقد روي عن ابن المسيب أنه كان يحتكر الزيت.

ومن باب كسر الدراهم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل قال أخبرنا معمر قال سمعت محمد بن فضاء يحدث عن أبيه عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس.
قال الشيخ أصل السكة الحديدة التي يطبع عليها الدراهم والنهي إنما وقع عن كسر الدراهم المضروبة على السكة.
وقد اختلف الناس في المعنى الذي من أجله وقع النهي عنه فذهب بعضهم إلى أنه كره لما فيه من ذكر اسم الله سبحانه وتعالى، وذهب بعضهم إلى أنه كره من أجل الوضيعة وفيه تضييع للمال، وبلغني، عَن أبي العباس بن شريح أنه قال كانوا يقرضون الدراهم ويأخذون أطرافها فنهوا عنه. وحدثني اسماعيل بن أسيد قال سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول سمعت أبا داود يقول سألت أحمد بن حنبل

(3/117)


أو سأل حضري سائل ومعي درهم صحيح فقلت اكسره له قال لا. وزعم بعض أهل العلم أنه كره قطعها وكسرها من أجل التدنيق. وقال الحسن لعن الله الدانق وأول من أحدث الدانق.
41!!! /50م ومن باب النهي عن الغش
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن العلاء عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من غش.
قال الشيخ قوله ليس منا من غش معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه أراد بذلك نفيه عن دين الإسلام، وليس هذا التأويل بصحيح، وإنما وجهه ما ذكرت لك، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه أنا منك وإليك يريد بذلك المتابعة والموافقة. ويشهد بذلك قوله تعالى {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] .

ومن باب خيار المتبابعين
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلاّ بيع الخيار.
قال وحدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال أو يقول أحدهما لصاحبه اختر.
قال الشيخ اختلف الناس في التفرق الذي يصح بوجوده البيع فقالت طائفة هو التفرق بالأبدان، وإليه ذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو برزة

(3/118)


الأسلمي رضي الله عنه، وبه قال شريح وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والزهري وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور.
وقال النخعي وأصحاب الرأي إذا تعاقدا صح البيع، وإليه ذهب مالك.
قال الشيخ وظاهر الحديث يشهد لمن ذهب إلى أن التفرق هو تفرق البدن وعلى هذا فسره ابن عمر وهو راوي الخبر، وكان إذا بايع رجلاً فأراد أن يستحق الصفقة مشى خطوات حتى يفارقه، وكذلك تأول أبو برزة في شأن الفرش الذي باعه الرجل من صاحبه وهما في المنزل، وقد ذكر القصة في هذا الباب أبو داود.
قال الشيخ وعلى هذا وجدنا أمرالناس في عرف اللغة وظاهر الكلام إذا قيل تفرق الناس كان المفهوم منه التمييز بالأبدان وإنما يعقل ما عداه من التفرق في الرأي والكلام بقيد وصله.
وحكى أبو عمر الزاهد أن أبا موسى النحوي سأل أبا العباس أحمد بن يحيى هل بين يتفرقان ويفترقان فرق، قال نعم أخبرنا ابن الأعرابي عن المفضل قال يفترقان بالكلام ويتفرقان بالأبدان.
قال الشيخ ولو كان تأويل الحديث على الوجه الذي صار إليه النخعي لخلا الحديث عن الفائدة وسقط معناه، وذلك أن العلم محيط بأن المشتري ما لم يوجد منه قبول البيع فهو بالخيار، وكذلك البائع خياره ثابت في ملكه قبل أن يعقد البيع وهذا من العلم العام الذي قد استقر بيانه من باب أن الناس مُخَلَّون وأملاكهم لا يكرهون على إخراجها من أيديهم ولا يملك عليهم إلاّ بطيب

(3/119)


أنفسهم، والخبر الخاص إنما يروى في الحكم الخاص، وثبت أن المتبايعين هما المتعاقدان والبيع من الأسماء المشتقة من أفعال الفاعلين وهي لا تقع حقيقة إلاّ بعد حصول الفعل منهم، كقولك زان وسارق وإذا كان كذلك فقد صح أن المتبايعين هما المتعاقدان، وإذا كان كذلك فليس بعد العقد تفرق إلاّ التمييز بالأبدان.
ويشهد لصحة هذا الباب قول إلاّ بيع الخيار ومعناه أن تخيره قبل التفرق وهما بعدُ في المجلس فيقول له اختر. وبيان ذلك في رواية أيوب عن نافع وهو قوله إلاّ أن يقول لصاحبه اختر.
وقد تأول بعضهم إلاّ بيع الخيار على معنى خيار الشرط، وهذا تأويل فاسد وذلك أن الاستثناء من الاثبات نفي ومن النفي إثبات، والأول إثبات الخيار فلا يجوز أن يكون ما استثني منه أيضاً إثباتاً مثله، على أن قوله إلاّ أن يقول أحدهما لصاحبه اختر يقيد ما قاله هذا القائل ويهدمه.
واحتج بعض من ذهب إلى أن التفرق هو تفرق البدن بأن المتبايعين إنما يجتمعان بالإيجاب والقبول لأنهما كانا قبل ذلك متفرقين فلا يجوز أن يحصلا مفترقين بنفس الشيء الذي به وقع اجتماعهما عليه.
وأما مالك فإن أكثر شيء سمعت أصحابه يحتجون به في رد الحديث هو أنه قال ليس العمل عليه عندنا وليس للتفرق حد محدود يعلم.
قال الشيخ وليس هذا بحجة، أما قوله ليس العمل عليه عندنا فإنما هو كأنه قال أنا أرد هذا الحديث ولا أعمل به فيقال له الحديث حجة فلم رددته ولِمَ لم تعمل به وقد قال الشافعي رحم الله مالكاً لست أدري من اتهم في إسناد

(3/120)


هذا الحديث اتهم نفسه أو نافعاً وأعظم أن أقول اتهم ابن عمر، فأما قوله ليس للتفرق حد يعلم فليس الأمر على ما توهمه والأصل في هذا ونظائره أن يرجع إلى عادة الناس وعرفهم ويعتبر حال المكان الذي هما فيه مجتمعان، فإذا كانا في بيت فإن التفرق إنما يقع بخروج أحدهما منه ولوكانا في دار واسعة فانتقل أحدهما عن مجلسه إلى بيت أو صفة أو نحو ذلك فإنه قد فارق صاحبه، وإن كانا في سوق أو على حانوت فهو بأن يولي عن صاحبه ويخطو خطوات ونحوها، وهذا كالعرف الجاري والعادة المعلومة في التقابض وهو يختلف في الأشياء، فمنها ما يكون بالتقابض فيه بأن يجعل الشيء في يده، ومنها ما يكون بالتخلية بينه وبين المبيع، وكذلك الأمر في الحرز الذي يتعلق به وجوب قطع اليد فإن منه ما يكون بالاغلاق والاقفال، ومنه ما يكون بيتا وحجاباً، ومنها ما يكون بالشرائح ونحوها وكل منها حرز على حسب ما جرت به العادة، والعرف أمر لا ينكره مالك بل يقول به وربما ترقى في استعماله إلى أشياء لا يقول بها غيره وذلك من مذهبه معروف فكيف صار إلى تركه في أحق المواضع به حتى يترك له الحديث الصحيح والله يغفر لنا وله وإن كان ابن أبي ذئب يستعظم هذا الصنيع من مالك وكان يتوعده بأمر لا أحب أن أحكيه والقصة في ذلك عنه مشهورة.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلاّ أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله.

(3/121)


قال الشيخ وهذا قد يحتج به من يرى أن التفرق إنما هو بالكلام، قال وذلك أنه لو كان له الخيار في فسخ البيع لما احتاج إلى أن يستقيله.
قال الشيخ هذا الكلام وإن خرج بلفظ الاستقالة فمعناه الفسخ وذلك أنه قد علقه بمفارقته. والاستقالة قبل المفارقة وبعدها سواء لا تأثير لعدم التفرق بالأبدان فيها والمعنى أنه لا يحل له أن يفارقه خشية أن يختار فسخ البيع فيكون ذلك بمنزلة الاستقالة والدليل على ذلك ما تقدم من الأخبار والله أعلم.

ومن باب من باع بيعتين في بيعة
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من باع بيعتين في بيعة فله أوكسها أو الربا.
قال الشيخ رحمه الله لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلاّ شيء يحكى عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد وذلك لما يتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل، وإنما المشهور من طريق محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيعتين في بيعة حدثنا الأصم،، قال: حَدَّثنا الربيع،، قال: حَدَّثنا الشافعي،، قال: حَدَّثنا الدراوردي عن محمد بن عمرو. وحدثونا عن محمد بن إدريس الحنظلي حدثنا الأنصاري عن محمد بن عمرو، فأما رواية يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شيء بعينه كأنه أسلفه ديناراً في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهر فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين

(3/122)


في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فان تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتناقضا الأول كانا مرتبين.
قال الشيخ وتفسير ما نهي عنه من بيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما أن يقول بعتك هذا الثوب نقداً بعشرة ونسيئة بخمسة عشر فهذا لا يجوز لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد وإذا جهل الثمن بطل البيع.
والوجه الاخر: أن يقول بعتك هذا العبد بعشرين ديناراً على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضاً فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين ديناراً وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه وإذا لم يلزمه سقط بعض الثمن وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولا.
ومن هذا الباب أن يقول بعتك هذا الثوب بدينارين على أن تعطيني بهما دراهم صرف عشرين أو ثلاثين بدينار، فأما إذا باعه شيئين بثمن واحد كدار وثوب أو عبد وثوب فهذا جائز وليس من باب البيعتين في البيعة الواحدة، وإنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم. وعقد البيعتين في بيعة واحدة على الوجه اللذين ذكرناهما عند أكثر الفقهاء فاسد.
وحكي عن طاوس أنه قال لا بأس أن يقول له هذا الثوب نقدا بعشرة وإلى شهر بخمسة عشر فيذهب به إلى أحدهما. وقال الحكم وحماد لا بأس به ما لم يفترقا.
وقال الأوزاعي لا بأس بذلك ولكن لا يفارقه حتى يُباته بأحد المعنيين فقيل له فإنه ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين، فقال هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين.
قال الشيخ هذا ما لا يشك في فساده فإما إذا باته على أحد الأمرين في مجلس العقد فهو صحيح لا خلف فيه وذكر ما سواه لغو لا اعتبار به.

(3/123)


ومن باب السلف
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير، عَن أبي المنهال عن عبد الله بن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم.
قال الشيخ في هذا الحديث بيان أن السلف يجب أن يكون معلوماً بالأمر الذي يضبط ولا يختلف وأنه مهما كان مجهولاً بطل.
وفيه دليل على أنه قد يجوز السلم إلى سنة في الشيء الذي لا وجود له في أيام السنة إذا كان موجوداً في الغالب وقت محل الأجل، وذلك أن التمر اسم للرطب واليابس في قول أكثر أهل العلم. وعند بعض أهل اللغة اسم للرطب لا غير وعلى هذا ما جاء من النهي عن بيع التمر بالتمر وعلى الوجهين معاً، فقد أجاز السلم فيه السنة والسنتين والثلاث إذ كان قد وجدهم يفعلون ذلك فلم ينكره عليهم فكان تقريره ذلك إذناً لهم فيه وإجازة له، ومعلوم أن الرطب لا يوجد في وقت معلوم من السنة وهو معدوم في أكثر أيام السنة.
وفيه أن السلم جائز وزناً في الشيء الذي أصله الكيل لأنه عم ولم يخص، فقال في كيل معلوم أو وزن معلوم فخيره بين الأمرين فإذا صار الشيء المسلم فيه معلوماً بأحدهما جاز فيه السلم.
وفيه أن الآجال المجهولة كالحصاد وإلى العطاء وإلى قدوم الحاج يبطل السلم وأنها لا تجوز إلاّ أن تكون معلومة بالأمر الذي لا يختلف كالسنين والشهور والأيام المعلومة.

(3/124)


وقد يحتج بهذا الحديث من لا يجيز السلم حالا وهو مذهب أبي حنيفة ومالك قالوا وذلك لقوله إلى أجل معلوم فشرط الأجل كما شرط الكيل والوزن.
وقال الشافعي إذا جاء أجلاً فهو حالاً أجود ومن الغرر أبعد، وليس ذكر الأجل عنده بمعنى الشرط وإنما هو أن يكون إلى أجل معلوم غير مجهول إذ كان مؤجلاً كما ليس ذكر الكيل والوزن شرطاً وإنما هو أن يكون معلوم الكيل والوزن إذ كان مكيلا أو موزونا ألست ترى أن السلم في المزروع جائز بالزرع وليس بمكيل ولا موزون فعلمت أنه إنما أراد الحصر له بما يضبط بمثله حتى يخرج من حد الجهالة ويسلم من الغرر ولو كان ذكر الكيل والوزن شرطاً في جواز السلم لم يجز إلاّ في مكيل أو موزون فكذلك الأجل والله أعلم.

ومن باب من أسلف في شيء ثم حوله إلى غيره
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حَدَّثنا أبو بدر عن زياد بن خيثمة عن سعد الطائي عن عطية بن سعد، عَن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره.
قال الشيخ إذا أسلف ديناراً في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فأعوزه البر فإن أبا حنيفة يذهب إلى أنه لا يجوز له أن يبيعه عوضا بالدينار ولكن يرجع برأس المال عليه قولا بعموم الخبر وظاهره. وعند الشافعي يجوز له أن يشتري عوضا بالدينار إذا تقايلا السلم وقبضه قبل التفرق لئلا يكون دينارين، فأما الاقالة فلا تجمز وهو معنى النهي عن صرف السلف إلى غيره عنده.

ومن باب وضع الجائحة
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن بكيرعن عياض

(3/125)


بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري أنه قال أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا ما وجدتم وليس لكم إلاّ ذلك.
قال الشيخ قد تقدم الكلام في بيان اختلاف الناس في وضع الجوائح. وأما هذا الحديث فليس فيه ذكر الجائحة، وقد يحتمل أن يكون إنما أصيب في تلك الثمار بعدما جذها وأواها الجرين فطرقها لص أو جرفها سيل أو باعها فافتات الغريم بحقه وكل هذه الوجوه قد يصح رجوع إضافة المصيبة فيها إلى الثمار التي كان ابتاعها وإذا كان كذلك لم يجب الحكم بذهاب حق رب المال. وليس في الحديث أنه أمر أرباب الأموال أن يضعوا عنه شيئا من أثمان الثمار ثلثا أو أقل منه أو أكثر، إنما أمر الناس أن يعينوه ليقضي حقوقهم، فلما أبدع بهم أمرهم بالكف عنه إلى الميسرة وهذا حكم كل مفلس أحاط به الدين وليس له مال.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني ابن جريج وحدثنا محمد بن معمر، قال: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج المعنى أن أبا الزبير المكي أخبره عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ثم تأخذ مال أخيك بغير حق.
قال الشيخ يشبه أن يكون إنما أراد بهذا القول التخفيف عنه والتسويغ له دون الإيجاب والإلزام ذلك أنه لا خلاف أن للمشتري الثمرة لو أراد بيعها بعد القبض كان له ذلك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بدو

(3/126)


صلاحها وقبل أن تأمن العاهة فلو كانت إذا بيعت وقد بدا صلاحها مضمونة على البائع لم يكن لهذا النهي فائدة، وقد يحتمل أن يكون إنما أراد به الثمرة تباع قبل بدو الصلاح فيصيبها الجائحة والله أعلم.

ومن باب منع الماء
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن أبني صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ.
قال الشيخ هذا في الرجل يحفر البئر في الأرض الموات فيملكها بالاحياء وحول البئر أو بقربها موات فيه كلأ ولا يمكن الناس أن يرعوه إلاّ بأن يبذل لهم ماءه ولا يمنعهم أن يسقوا ماشيتهم منه فأمره صلى الله عليه وسلم أن لا يمنع فضل مائه إياهم لأنه إذا فعل ذلك وحال بينه وبينهم فقد منعهم الكلأ لأنه لا يمكن رعيه والمقام فيه مع منعه الماء، وإلى هذا ذهب في معنى الحديث مالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد وهو معنى قول الشافعي والنهي في هذا عندهم على التحريم.
وقال غيرهم ليس النهي فيه على التحريم لكنه من باب المعروف فإن شح رجل على مائه لم ينتزع من يده والماء في هذا كغيره من صنوف الأموال لا يحل إلاّ بطيبة نفسه.
وذهب قوم إلي أنه لا يجوز له منع الماء ولكن يجب له القيمة على أصحاب المواشي وشبهوه بمن يضطر إلى طعام رجل فإن له أكله وعليه أداء قيمته. ولو لزمه بذل الماء بلا قيمة للزمه بذل الكلأ إذا كان في أرضه بلا قيمة وللزمه كذلك

(3/127)


أن لا يمنع الماء زرع غيره إذا كان بقربه زرع لرجل لا يحيى إلاّ به.
قال الشيخ أما من تأول الحديث على معنى الاستحباب دون الإيجاب فإنه يحتاج إلى دليل يجوز معه ترك الظاهر، وأصل النهي علىالتحريم فمنع فضل الماء محظور على ما ورد به الظاهر، وأما من أوجب فيه القيمة فقد صار إلى المنع أيضاً وهو خلاف الخبر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء.
وقد ذكره أبو داود العطار عن عمرو بن دينار، عَن أبي المنهال عن إياس بن عبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء.
وأما تشبيهه ذلك بالطعام فإنهما لا يشابهان لأن أصل الماء الإباحة وهو مستخلف ما دام في منعه والطعام متقوم منقطع المادة غير مستخلف، وقد جرت العادة بتمول الطعام سلماً كما يتمول سائر أنواع المال. والماء لا يتمول في غالب العرف وأما الزرع فليس له حرمة وللحيوان حرمة، والحديث إنما جاء في منع الماء الذى يمنع به الكلأ والزرع بمعزل عن ذلك.
قال الشيخ رحمه الله وأما الماء إذا جمعه صاحبه في صهريج أو بركة أوخزنه في جب أو قراه في حوض ونحوه فإن له أن يمنعه وهو شيء قد حازه على سبيل الاختصاص لا يشركه فيه غيره، وهو مخالف لماء البئر لأنه لا يستخلف استخلاف ماء الآبار ولا يكون له فضل في الغالب كفضل مياه الآبار، والحديث إنما جاء في منع الفضل دون الأصل ومعناه ما فضل عن حاجته وعن حاجة عياله وماشيته وزرعه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ قال حدثني أبي، قال: حَدَّثنا كهمس عن سيار بن منظور رجل من بني فزارة عن أبيه عن امرأة يقال لها بهيسة عن أبيها

(3/128)


قالت استأذن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء، قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الملح.
قال الشيخ معناه الملح إذا كان في معدنه في أرض أو جبل غير مملوك فإن أحداً لا يمنع من أخذه، فأما إذا صار في حيز مالكه فهو أولى به وله منعه وبيعه والتصرف فيه كسائر أملاكه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا عيسى بن يونس، قال: حَدَّثنا حريز بن عثمان قال:، قال: حَدَّثنا أبو خداش أنه سمع رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار.
قال الشيخ هذا معناه الكلأ ينبت في موات الأرض يرعاه الناس ليس لأحد أن يختص به دون أحد ويحجزه عن غيره، وكان أهل الجاهلية إذا غزا الرجل منهم حمى بقعة من اللأرض لماشيته ترعاها يذود الناس عنها فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وجعل الناس فيها شِرعاً يتعاورونه بينهم0 فأما الكلأ إذا نبت في أرض مملوكة لمالك بعينه فهو مال له ليس لأحد أن يشركه فيه إلاّ بإذنه.
وأما قوله والنار فقد فسره بعض العلماء وذهب إلى أنه أراد به الحجارة التي توري النار يقول لا يمنع أحد أن يأخذ منها حجراً يقتدح به النار، فأما التي يوقدها الإنسان فله أن يمنع غيره من أخذها. وقال بعضهم ليس له أن يمنع من يريد يأخذ منها جذوة من الحطب التي قد احترق فصار جمراً وليس له أن يمنع من أراد أن يستصبح منها مصباحاً أو أدنى منها ضغثاً يشتعل بها لأن ذلك لا ينقص من عينها شيئاً والله أعلم.

(3/129)


ومن باب بيع السنور
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة وعلي بن بحر، قال: حَدَّثنا عيسى عن الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور.
قال الشيخ النهي عن بيع السنور متأول على أنه إنما كره من أجل أحد معنيين إما لأنه كالوحشي الذي لا يملك قياده ولا يصح التسليم فيه، وذلك لأنه ينتاب الناس في دورهم ويطوف عليهم فيها ثم يكاد ينقطع عنهم، وليس كالدواب التي تربط على الأوادي ولا كالطير الذي يحبس في الأقفاص، وقد يتوحش بعد الأنوسة ويتأبد حتى لا يقرب ولا يقدر عليه. فإن صاب المشتري له إلى أن يحبسه في بيته أو يشده في خيط أو سلسلة لم ينتفع به.
والمعنى الآخر أن يكون إنما نهى عن بيعه لئلا يتمانع الناس فيه وليتعاوروا ما يكون منه في دورهم فيرتفقوا به ما أقام عندهم ولا يتنازعوه إذا انتقل عنهم إلى غيرهم تنازع الملاك في النفيس من الأعلاق، وقيل إنما نهى عن بيع الوحشي منه دون الانسي، وقد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث وزعم أنه غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن أجاز بيع السنور ابن عباس وإليه ذهب الحسن البصري وابن سيرين والحكم وحماد، وبه قال مالك بن أنس وسفيان الثورى وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وكره بيعه أبو هريرة وجابر وطاوس ومجاهد.

ومن باب ثمن الكلب
قال أبو داود: جدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب،

(3/130)


ومهر البغي وحلوان الكاهن.
قال الشيخ نهيه عن ثمن الكلب يدل على فساد بيعه لأن العقد إذا صح كان دفع الثمن واجباً مأموراً به لا منهياً عنه فدل نهيه عنه على سقوط وجوبه وإذا بطل الثمن بطل البيع لأن البيع إنما هوعقد على شيء بثمن معلوم، وإذا بطل الثمن بطل المثمن، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فحملوها وباعوها وأكلوا أثمانها فجعل حكم الثمن والمثمن في التحريم سواء.
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة، قال: حَدَّثنا أبو عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب فإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً.
قال الشيخ وهذا يؤكد معنى ما قلناه في الحديث الأول، ومعنى التراب ههنا الحرمان والخيبة كما يقال ليس في كفه إلاّ التراب، وكقوله صلى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر يريد الخيبة إذ لاحظ له في الولد، وكان بعض السلف يذهب إلى استعمال الحديث على ظاهره ويرى أن يوضع التراب في كفه، وروي أن المقداد رأى رجلا يمدح رجلا فقام يحشي التراب بكفه في وجهه، وقال بهذا أمرنا، يَعني قوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب.
وفي قوله إذا جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً دليل على أن لا قيمة للكب إذا تلف ولا يجب فيه عوض، وقال مالك بن أنس فيه القيمة ولا ثمن له.
قال الشيخ الثمن ثمنان ثمن التراضي عن البيوع وثمن التعديل عند الاتلاف وقد أسقطهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فاملأ كفه تراباً فثبت أن لا عوض له بوجه من الوجوه.

(3/131)


قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال: حدثني معروف بن سويد الجُذامي عن علي بن رباح اللخمي حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي.
قال الشيخ إذا لم يحل ثمن الكلب لم يحل بيعه لأن البيع إنما هو على ثمن ومثمن فإذا فسد أحد الشقين فسد الشق الآخر وفي ذلك تحريم العقد من أصله.
وقد اختلف الناس في جواز بيع الكلب فروي، عَن أبي هريرة أنه قال هو من السحت وروي عن الحسن والحكم وحماد، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل، وقال أصحاب الرأي جائز بيع الكلب، وقال قوم ما أبيح اقتناؤه من الكلاب فبيعه جائز وما حرم اقتناؤه منها فبيعه محرم يحكى ذلك عن عطاء والنخعي، وقد حكينا عن مالك أنه كان يحرم ثمن الكلب ويوجب فيه القيمة لصاحبه على من أتلفه قالوا وذلك لأنه أبطل عليه منفعته وشبهوه بأم الولد لا يحل ثمنها وفيها القيمة على من أتلفها.
قال الشيخ جواز الانتفاع بالشيء إذا كان لأجل الضرورة لم يكن دالاً على جواز بيعه كالميتة يجوز الانتفاع للمضطر ولا يجوز بيعها.

ومن باب ثمن الميتة والخمر والخنزير
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الله بن وهب، قال: حَدَّثنا معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بخت، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه.
قال الشيخ فيه دليل على أن من أراق خمر البنصراني أو قتل خنزيراً له فإنه

(3/132)


لا غرامة عليه لأنه لا ثمن لها في حكم الدين.
وفيه دليل على فساد بيع السرقين وبيع كل شيء نجس العين، وفيه دليل على أن بيع شعر الخنزير لا يجوز.
واختلفوا في جواز الانتفاع به فكرهت طائفة ذلك وممن منع منه ابن سيرين والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق وقال أحمد وإسحاق الليف أحب إلينا وقد رخص فيه الحسن والأوزاعي ومالك وأصحاب الرأي.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا أثمانها.
قال الشيخ قوله جملوها معناها أذابوها حتى تصير ودكاً فيزول عنها اسم الشحم يقال جملت الشحم واجتملته إذا أذبته قال لبيد:
فاشتوى ليلة ريح واجتمل
وفي هذا بيان بطلان كل حيلة يحتال بها توصل إلى محرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
وفيه دليل على جواز الاستصباح بالزيت النجس فإن بيعه لا يجوز، وفي تحريمه ثمن الأصنام دليل على تحريم بيع جميع الصور المتخذة من الطين والخشب والحديد والذهب والفضة وما أشبه ذلك من اللعب ونحوها.

(3/133)


وفي الحديث دليل على وجوب العبرة واستعمال القياس وتعدية معنى الاسم إلى المثل أو النظير خلاف قول من ذهب من أهل الظاهر إلى إبطالها، ألا تراه كيف ذم من عدل عن هذه الطريقة حتى لعن من كان عدوله عنها تذرعاً إلى الوصول به إلى محظور.
قال أبو داود: حدثنا مسدد أن بشر بن المفضل وخالد بن عبد الله حدثاهم المعنى عن خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود ثلاثاً إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه.
قال الشيخ هذا يؤكد ما مضى من القول على معنى الأحاديث المتقدمة وفيه دليل على فساد بيع الزيت الذي قد أصابته نجاسة.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا ابن إدريس ووكيع عن طعمة بن عمرو الجعفري عن عمرو بن بيان التغلبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من باع الخمر فليشقص الخنازير.
قال الشيخ قوله فليشقص معناه فليستحل أكلها، والتشقيص يكون من وجهين أحدهما أن يذبحها بالمشقص وهو نصل عريض.
والوجه الآخر أن يجعلها أشقاصا وأعضاء بعد ذبحها كما تُعضى أجزاء الشاة إذا أرادوا اصلاحها للأكل، ومعنى الكلام إنما هو توكيد التحريم والتغليظ فيه يقول من استحل بيع الخمر فليستحل أكل الخنزير فانهما في الحرمة والاثم سواء أي إذا كنت لا تستحل أكل لحم الخنزير فلا تستحل ثمن الخمر.

(3/134)


ومن باب بيع الطعام قبل أن يستوفى
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه.
قال الشيخ أجمع أهل العلم على أن الطعام لا يجوز بيعه قبل القبض.
واختلفوا فيما عداه من الأشياء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ما عدا الطعام بمنزلة الطعام إلاّ الدور والأرضون فإن بيعها قبل قبضها جائز.
وقال الشافعي ومحمد بن الحسن الطعام وغير الطعام من السلع والدور والعقار في هذا سواء لا يجوز بيع شيء منها حتى تقبض وهو قول ابن عباس.
وقال مالك بن أنس ما عدا المأكول والمشروب جائز أن يباع قبل أن يقبض، وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق يجوز بيع كل منها ما خلا المكيل والموزون وروي ذلك عن ابن المسيب والحسن البصري والحكم وحماد.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشترى أحدكم طعاما فلا يبعه حتى يقبضه، قال: وقال ابن عباس أحسب كل شيء مثل الطعام.
قال الشيخ يشبه أن يكون ابن عباس إنما قاس ما عدا الطعام على الطعام بعلة أنه عين مبيعه لم يقبض أو لأنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، والشيء المبيع ضمانه قبل القبض على البائع فلم يجز للمشتري ربحه.
واحتج بعض من ذهب إلى جواز بين ما عدا الطعام قبل أن يقبض بخبر ابن عمر أنهم كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيعون الإبل بالبقيع بالدنانير فيأخذون الدراهم وبالدراهم ويأخذون الدنانير فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع

(3/135)


التقابض قبل التفرق قالوا وهذا بيع الثمن الذي وقع به العقد قبل قبضه فدل أن النهي مقصور على الطعام وحده وقالوا إن الملك ينتقل بنفس العقد بدليل أن المبيع لو كان عبداً فأعتقه المشتري قبل القبض عتق، وإذا ثبت الملك جاز التصرف ما لم يكن فيه إبطال حق لغيره.
قال الشيخ وقد يقال على الفرق بين الدراهم والدنانير إذا كانت أثماناً وبين غيرها أن معنى النهي أن تقصد بالتصرف في السلعة الربح وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ومقتضي الدراهم من الدنانيرلا يقصد به الربح إنما يريد به الاقتضاء والنقود مخالفة لغيرها من الأشياء لأنها أثمان وبعضها ينوب عن بعض وللحاكم أن يحكم على من أتلف على إنسان مالاً بأيهما شاء فكانا كالنوع الواحد من هذا المعنى.
وأما العتق فانه اتلاف واتلاف المشتري عين المبيع يقوم مقام القبض.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، يَعني جزافاً.
قال السيخ القبوض تختلف في الأشياء حسب اختلافها في أنفسها وحسب اختلاف عادات الناس فيها فمنها ما يكون بأن يوضع المبيع في يد صاحبه ومنها ما يكون بالتخلية بينه وبين المشتري، ومنها ما يكون بالنقل من موضعه ومنها ما يكون بأن يكتال وذلك فيما بيع من المكيل كيلاً، فأما ما يباع منه جزافا صبرة مصمومة على الأرض فالقبض فيه أن ينقل ويحول من مكانه. فإن ابتاع طعاما كيلاً ثم أراد أن يبيعه بالكيل الأول لم يجز حتى يكيله على

(3/136)


المشتري ثانيا، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري.
وممن قال أنه لا يجوز بيعه بالكيل الأول حتى يكال ثانيا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وهو مذهب الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، وقال مالك إذا باعه نسيئة فهو المكروه فأما إذا باعه نقداً فلا بأس أن يبيعه بالكيل الأول، وروي عن عطاء أنه أجاز بيعه نساء كان أو نقداً.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله، زاد أبو بكر قلت لابن عباس لم قال ألا ترى أنهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجى.
قال الشيخ قوله والطعام مُرجى أي مؤجل وكل شيء أخرته فقد أرجيته يقال أرجيت الشيء ورجيته أي أخرته؛ وقد يتكلم به مهموزاً وغير مهموز وليس هذا من باب الطعام الحاضر ولكنه من باب السلف وذلك مثل أن يشتري منه طعاماً بدينار إلى أجل فيبيعه قبل أن يقبضه منه بدينارين وهو غير جائز لأنه في التقدير بيع ذهب بذهب والطعام مؤجل غائب غير حاضر وإنما صار ذلك بيع ذهب بذهب على معناه لأن المسلف إذا باعه الطعام الذي لم يقبضه وأخذ منه ذهبا فإن البيع لا يصح فيه إذ كان الطعام الذي باعه منه مرجى مضموناً على غيره وإنما تقايل الذهبان في التقدير فكأنه إنما باعه ديناره الذي كان قد أسلفه في الطعام بدينارين وهو فاسد من وجهين أحدهما

(3/137)


لأنه دينار بدينارين والآخر لأنه ناجز بغائب في بيع سبيله سبيل المصارفة.

ومن باب الرجل يقول عند البيع لا خلابة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل لا خلابة.
قال الشيخ الخلابة مصدر خلبت الرجل إذا خدعته واخلُبه خلبا وخِلابة قال الشاعر:
شر الرجال الخالب المخلوب
ويستدل بهذا الحديث من يرى أن الكبير لا يحجر عليه إذ لو كان إلى الحجر عليه سبيل لحجر عليه ولأمر أن لا يبايع ولم يقتصرعلى قوله لا خلابة.
قال الشيخ والحجر على الكبير إذا كان سفيها مفسداً لماله واجب كهو على الصغير، وهذا الحديث إنما جاء في قصة حبان بن منقذ ولم يذكر صفة سفه ولا اتلافاً لماله وإنما جاء أنه كان يخدع في البيع وليس كل من غبن في شيء يجب أن يحجر عليه وللحجر حد فإذا لم يبلغ ذلك الحد لم يستحق الحجر.
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أنه خاص في أمرحبان بن منقذ وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا القول شرطاً له في بيوعه ليكون له الرد به إذا تبين الغبن في صفقته فكان سبيله سبيل من باع أو اشترى على شرط الخيار، وقال غيره الخبر على عمومه في حبان وغيره.
وقال مالك بن أنس في بيع المغابنة إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة كان له فيه الخيار.

(3/138)


وقال أحمد في بيع المسترسل يكره غابنه وعلى صاحب السلعة أن يستقصي له وقد حكي عنه أنه قال إذا بايعه وقال لا خلابة فله الرد، وقال أبو ثور البيع إذا غبن فيه أحد المتبايعين غبناً لا يتغابن الناس فيما بينهم بمثله فاسد كان المتبايعان خابري الأمر أو محجوراً عليهما.
وقال أكثر الفقهاء إذا تصادر المبايعان عن رضا وكانا عاقلين غير محجورين فغبن أحدهما فلا يرجع فيه.

ومن باب في العُربان
قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك بن أنس أنه بلغه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان قال مالك وذلك فيما نرى والله أعلم، أن يشتري الرجل العبد أو يتكارى الدابة ثم يقول أعطيك ديناراً على أني إن تركت السلعة أو الكراء فما أعطيتك لك.
قال الشيخ هكذا تفسير بيع العربان وفيه لغتان عربان وأربان ويقال أيضل عربون وأربون.
وقد اختلف الناس في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي للخبر ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ويدخل ذلك في أكل المال بالباطل وأبطله أصحاب الرأي.
وقد روي عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع ويروي ذلك أيضاً عن عمر.
ومال أحمد بن حنبل إلى القول بإجازته وقال أي شيء أقدر أن أقول وهذا عمر رضي الله عنه، يَعني أنه أجازه وضعف الحديث فيه لأنه منقطع وكأن رواية مالك فيه عن بلاغ.

(3/139)


ومن باب الرجل يبيع ما ليس عنده
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عَن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قال يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي افأبتاعه له من السوق قال لا تبع ما ليس عندك.
قوله لا تبع ما ليس عندك يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق أو جمله الشارد ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها ويدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفاً على إجازة المالك لأنه يبيع ما ليس عنده ولا في ملكه وهو غرر لأنه لا يدري هل يجيزه صاحبه أم لا والله أعلم.

ومن باب شرط في بيع
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب، قال: حَدَّثنا إسماعيل عن أيوب قال حدثني عمرو بن شعيب قال حدثني أبي عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم تضمن ولا تبع ما ليس عندك.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن زكريا عن عامر عن جابر، قال بعته، يَعني بعيراً من النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطت حملانه إلى أهلي قال في آخره تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك خذ جملك وثمنه فهما لك.
قال الشيخ أما الحديث وقوله لا يحل سلف وبيع فهو من نوع ما تقدم

(3/140)


بيانه فيما مضى عن نهيه عن بيعتين في بيعة وذلك مثل أن يقول له أبيعك هذا العبد بخمسين دينارا على أن تسلفني ألف درهم في متاع أبيعه منك إلى أجل أو يقول أبيعكه بحذا على أن تقرضي ألف درهم، ويكون معنى السلف القرض وذلك فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن فيدخل الثمن في حد الجهالة ولأن كل قرض جَرَّ منفعة فهو ربا.
وأما ربح ما لم يضمن فهو أن يبيعه سلعة قد اشتراها ولم يكن قبضها فهي من ضمان البائع الأول ليس من ضمانه فهذا لا يجوز بيعه حتى يقبضه قيكون من ضمانه.
وقوله لا تبع ما ليس عندك فقد فسرناه قبل.
وأما قوله ولا شرطان في بيع فإنه بمنزلة بيعتين وهو أن يقول بعتك هذا الثوب نقداً بدينار ونسيئة بدينارين فهذا بيع واحد تضمن شرطين يختلف المقصود منه باختلافهما وهو الثمن، ويدخله الغرر والجهالة ولا فرق في مثل هذا بين شرط واحد وبين شرطين أو شروط ذات عدد في مذاهب أكثر العلماء.
وفرق أحمد بن حنبل بين شرط واحد وبين شرطين اثنين فقال إذا اشترى منه ثوباً واشترط قصارته صح البيع فان شرط عليه مع القصارة الخياطة فسد البيع، قال الشيخ ولا فرق بين أن يشترط عليه شيئا واحداً أو شيئين لأن العلة في ذلك كله واحدة وذلك لأنه إذا قال بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقصره لي فان العشرة التي هي الثمن تنقسم على الثوب وعلى أجرة القصارة فلا يدري حينئذ كم حصة الثوب من حصة الإجارة وإذا صار الثمن مجهولاً بطل البيع. وكذلك هذا في الشرطين وأكثر. وكل عقد جمع تجارة

(3/141)


وإجارة فسبيله في الفساد هذا السبيل وفي معناه أن تبتاع منه قفيز حنطة بعشرة دراهم على أن يطحنه. أو أن تشتري منه حمل حطب على أن ينقله إلى منزله وما أشبه ذلك مما يجمع بيعا وإجارة.
والشروط على ضروب فمنها ما يناقض البيوع ويفسدها ومنها ما لا يلائمها ولا يفسدها، وقد روي المسلمون عند شروطهم وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهوباطل. فعلم أن بعض الشروط يصح وبعضها يبطل، وقال صلى الله عليه وسلم من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع. فهذه الشروط قد أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقد البيع ولم يرد العقد يفسد بها فعلمت أن ليس كل شرط مبطلاً للبيع.
وجماع هذا الباب أن ينظر فكل شرط كان من مصلحة العقد أو من مقتضاه فهو جائز مثل أن يبيعه على أن يرهنه داره أو يقيم له كفيلاً بالثمن فهذا من مصلحة العقد والشرط فيه جائز. وأما مقتضاه فهو مثل أن يبيعه عبداً على أن يحسن إليه وأن لا يكلفه من العمل ما لا يطيقه وما أشبه ذلك من الأمور التي يجب عليه أن يفعلها، وكذلك لو قال له بعتك هذه الدار على أن تسكنها أو تسكنها من شئت وتكريها وتتصرف فيها بيعاً وهبة وما أشبه ذلك مما له أن يفعله في ملكه فهذا شرط لا يقدح في العقد لأن وجوده ذكراً له وعدمه سكوتاً عنه في الحكم سواء.
وأما ما يفسد البيع من الشروط فهو كل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة أو يوقع في العقد أو في تسليم المبيع غرراً أو يمنع المشتري من اقتضاء حق الملك من المبيع.

(3/142)


فأما ما يدخل الثمن في حد الجهالة فهو أن يشتري منه سلعة ويشترط عليه نقلها إلى بيته أو ثوباً ويشترط عليه خياطته في نحو ذلك من الأمور، وكذلك إذا باعه عبدا على أن لا خسارة عليه، وأما ما يجلب الغرر مثل أن يبيعه داره بألف درهم ويشترط فيه رضاء الجيران أو رضاء زيد أو عمرو أو يبيعه دابة على أن يسلمها إليه بالري أو بأصبهان فهذا غرر لا يدري هل يسلم الحيوان إلى وقت التسليم وهل يرضى الجيران أم لا أو المكان الذي شرط تسليمه فيه أو لا، وأما منع المشتري من مقتضى العقد فهو أن يبيعه جارية على أن لا يبيعها أو لا يستخدمها أو لا يطأها ونحو ذلك من الأمور فهذه شروط تفسد البيع لأن العقد يقتضي التمليك واطلاق التصرف في الرقبة والمنفعة وهذه الشروط تقتضي الحجر الذي هو مناقض لموجب الملك فصار كأنه لم يبعه منه أو لم يملكه إياه. وأما حديث جابر وقوله واشترطت حملانه إلى أهلي فسنقول في تخرجه والتوفيق بينه وبين الحديث الأول ما يزول معه الخلاف على معاني ما قلناه إن شاء الله وذلك أنه قد اختلف الرواية فيه فروى شعبة بن المغيرة عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاره ظهر الجمل إلى المدينة.
وحدثنيه إبراهيم بن عبيد الله القصار، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حَدَّثنا يحيى بن محمد بن السكن، قال: حَدَّثنا يحيى بن كثير أبو غسان العنبري، قال: حَدَّثنا شعبة عن المغيرة عن الشعبي عن جابر قال بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملاً فافقرني ظهره إلى المدينة.
قال الشيخ الافقار إنما هو في كلام العرب إعارة الظهر للركوب فدل هذا على أنه لم يكن عقد شرط في نفس البيع وقد يحتمل أن يكون ذلك عدة

(3/143)


منه أي وعده له بالركوب والعقد إذا تجرد عن الشروط لم يضره ما يعقبه بعد ذلك من هذه الأمور، ويشبه أن يكون إنما رواه من رواه بلفظ الشرط لأنه إذا وعده الافقار والإعارة كان ذلك منه أمراً لا يشك الوفاء فيه فحل محل الشروط المذكورة والأمور الواجبة التي لا خلف فيها فعبر عنه بالشرط على هذا المعنى. على أن قصة جابر إذا تأملتها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوف فيها أحكام البيوع من القبض والتسليم وغيرهما، وإنما أراد أن ينفعه ويهب له فاتخذ بيع الجمل ذريعة إلى ذلك ومن أجل ذلك جرى الأمر فيها على المساهلة ألا ترى أنه قد دفع إليه الثمن الذي سماه ورد إليه الجمل يدل على صحة ذلك؛ قوله أتراني إنما ماكستك لأخذ جملك.
وقد اختلف الناس فيمن اشترى دابة فاشترط فيها حملاناً للبائع، فقال أصحاب الرأي البيع باطل، وإليه ذهب الشافعي، وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه البيع جائز والشرط ثابت على ظاهر حديث جابر بن عبد الله.
وفرق مالك بن أنس بين المكان القريب والبعيد فقال إن اشترط مكاناً قريبا فهو جائز وإن كان بعيداً فهو مكروه، وكذلك قال فيمن باع داراً على أن له سكناها مدة، فقال إن كان ذلك نحو الشهر والشهرين جاز، وإن كان المدة الطويلة لم يجز.
قال الشيخ وقد بقي في هذا الباب قسم ثالث من الشروط وهو بيع الرقبة بشرط العتق، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال إبراهيم النخعي كل شرط في بيع فإن البيع يهدمه إلا أن يكون عتاقة، وإلى هذا ذهب الشافعي في أظهر قوليه وهو مذهبه الجديد فقال إذا باع الرجل النسمة واشترط على المشتري

(3/144)


عتقها أن البيع جائز والشرط ثابت، وقال في القديم البيع جائز والشرط باطل وهو مذهب ابن أبي ليلى وأبي ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه البيع فاسد، غير أنهم قالوا إن أعتقه جاز ولزمه الثمن في قول أبي حنيفة دون القيمة، وقال صاحباه يلزمه القيمة وهذا أقيس.
قال الشيخ وإنما فرق بين العتق وبين غيره من الشروط الخصوصية بالعتق من الغلبة في الأصول والسراية في ملك الغير، ألا ترى أن ملك المالك يمتنع على غيره من التصرف فيه ثم لا يمتنع من التصرف في العتق وهو إذا كان بينه وبين آخر عبد فأعتق نصيبه منه عتق نصيب شريكه عليه، وأيضاً فإنه لا يجوز أن يبيع الرجل ملكه من ملكه ثم جازت الكتابة لما تضمنه من العتق. فإذا كانت أحكامه تجري على التخصيص لم ينكر أن تجري شروطه على التخصيص كذلك، وحديث النهي عن بيع شرط عام وخبر العتق خاص والعام ينبىء على الخاص ويخرج عليه والله أعلم.
وحدثني محمد بن هاشم بن هشام، قال: حَدَّثنا عبد الله بن فيروز الديلمي، قال: حَدَّثنا محمد بن سليم الذهلي،، قال: حَدَّثنا عبد الوارث بن سعيد قال قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عن رجل باع بيعاً وشرط شرطاً فقال البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال البيع جائز والنشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت يا سبحان الله ثلاثة من الفقهاء فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه

(3/145)


عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط البيع باطل والشرط باطل وأتيت ابن أبي ليلى وأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها وقال يعنى اشترطي الولاء لأهلها البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة أو جملاً وشرط لي حملاناً إلى المدينة البيع جائز والشرط جائز.
قال الشيخ هذه الأحاديث كلها متفقة على معاني ما قدمنا من البيان في ترتيب الشرائط ولخصناه من وجوهها في مواضعها.
فأما حديث بريرة فسنتكلم عليه في موضعه من كتاب العتق فإن ذلك المكان أملك به وروايته من طريق ابن أبي ليلى ههنا مختلفة وألفاظه منتجة وقد ذكره أبو داود على وجهه في كتاب العتق وسنبين معناه هناك ونوضحه إن شاء الله.

ومن باب عهدة الرقيق
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا أبان عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عهدة الرقيق ثلاثة أيام.
قال الشيخ معنى عهدة الرقيق أن يشتري العبد أو الجارية ولا يشترط البائع البراءة من العيب فما أصاب المشتري من عيب في الأيام الثلاثة لم يرد إلاّ ببينة وهكذا فسره قتادة فيما ذكره أبو داود عنه.
قال الشيخ وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وقال هذا إذا لم يشترط البائع

(3/146)


البراءة من العيب. قال وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص فإذا مضت السنة فقد برىء البائع من العهدة كلها قال ولا عهدة إلاّ في الرقيق خاصة، وهذا قول أهل المدينة ابن المسيب والزهري أعني عهدة السنة في كل داء عضال أي صعب، وكان الشافعي لا يعتبر الثلاث والسنة في شيء منها وينظر إلى العيب فان كان مما يحدث مثله في مثل المدة التي اشتراه فيها إلى وقت الخصومة فالقول قول البائع مع يمينه وإن كان لا يمكن حدوثه في تلك المدة رده على البائع. وضعف أحمد بن حنبل عهدة الثلاث في الرقيق، وقال لا يثبت في العهدة حديث. وقالوا لم يسمع الحسن من عقبة بن عامر شيئاً والحديث مشكوك فيه فمرة قال عن سمرة ومرة قال عن عقبة.

ومن باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم رأى فيه عيباً
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان.
قال الشيخ معنى الخراج الدخل والمنفعة ومن هذا قوله تعالى {أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير} [المؤمنون: 72] ويقال للعبد إذا كان لسيده عليه ضريبة مخارج، ومعنى قوله الخراج بالضمان المبيع إذا كان مما له دخل وغلة فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن الأصل يملك الخراج بضمان الأصل فإذا ابتاع الرجل أرضاً فأشغلها أو ماشية فنتجها أودابة فركبها أو عبداً فاستخدمه ثم وجد به عيباً فله أن يرد الرقبة ولا شيء عليه فيما انتفع به لأنها لوتلفت ما بين مدة العقد والفسخ لكانت من ضمان المشتري فوجب أن يكون الخراج من حقه،

(3/147)


واختلف أهل العلم في هذا فقال الشافعي ما حدث في ملك المشتري من غلة ونتاج ماشية وولد أمة فكل ذلك سواء لا يرد منه شيئا ويرد المبيع إن لم يكن ناقصا عما أخذه.
وقال أصحاب الرأي إذا كان ماشية فحلبها أو نخلاً أو شجراً فأكل ثمرها لم يكن له أن يرد بالعيب ويرجع بالأرش، وقالوا في الدار والدابة والعبد الغلة له ويرد بالعيب.
وقال مالك في أصواف الماشية وشعورها أنها للمشتري ويرد الماشية إلى البائع فأما أولادها فإنه يردها مع الأمهات.
واختلفوا في المبيع إذا كان جارية فوطئها المشتري ثم وجد بها عيبا، فقال أصحاب الرأي تلزمه ويرجع على البائع بأرش العيب، وكذلك قال الثوري وإسحاق بن راهويه، وقال ابن أبي ليلى يردها ويرد معها مهر مثلها.
وقال مالك إن كانت ثيبا ردها ولا يرد معها شيئاً وإن كانت بكراً فعليه ما نقص من ثمنها.
وقال الشافعي إن كانت ثيباً ردها ولا شيء عليه، وإن كانت بكراً لم يكن له ردها ورجع بما نقصها العيب من أصل الثمن.
وقال أصحاب الرأي الغصوب على البيوع من أجل أن ضمانها على الغاصب فلم يجعلوا عليه رد الغلة واحتجوا بالحديث وعمومه.
قال الشيخ والحديث إنما جاء في البيع وهو عقد يكون بين المتعاقدين بالتراضي وليس الغصب يعقد عن تراض من المتعاقدين، وإنما هو عدوان وأصله وفروعه سواء في وجوب الرد ولفظ الحديث مبهم لأن قوله الخراج بالضمان

(3/148)


يحتمل أن يكون المعنى أن ضمان الخراج بضمان الأصل. واقتضاء العموم من اللفظ المبهم ليس بالبين الجواز والحديث في نفسه ليس بالقوي، إلاّ أن أكثر العلماء قد استعملوه في البيوع فالأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه.
وقال محمد بن إسماعيل هذا حديث منكر ولا أعرف لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث.
قال أبو عيسى الترمذي فقلت له فقد روي هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها فقال إنما رواه مسلم بن خالد الزنجي وهو ذاهب الحديث.
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الفريابي،، قال: حَدَّثنا سفيان عن محمد بن عبد الرحمن عن مخلد الغفاري، قال كان بيني وبين أناس شركة في عبد فأقتويته وبعضنا غائب وذكر الحديث.
قال الشيخ قوله اقتويته، معناه استخدمته.

ومن باب إذا اختلف المتبايعان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قال: حَدَّثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حَدَّثنا أبي، عَن أبي عميس قال أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده، قال اشترى الأشعث بن قيس رقيقاً من رقيق الخمس من عبيد الله بعشرين ألفاً فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله فاختر رجلاً يكون بيني وبينك فقال الأشعث أنت بيني وبين نفسك، قال عبد الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا

(3/149)


اختلف البيعان وليس بينهما بيِّنة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان.
قال وحدثنا عبد الله بن محمد النفيلي،، قال: حَدَّثنا هشيم، قال: حَدَّثنا ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود فذكر معناه.
قال الشيخ قول أو يتتاركان معناه أو يتفاسخان العقد.
واختلف أهل العلم في هذه المسألة فقال مالك والشافعي يقال للبائع احلف بالله ما بعت سلعتك إلاّ بما قلت، فان حلف البائع قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف ما اشتريتها إلاّ بما قلت فإن حلف برىء منها وردت السلعة على البائع وسواء عند الشافعي كانت السلعة قائمة أو تالفة فإنهما يتحالفان ويترادان.
وكذلك قال محمد بن الحسن ومعنى يترادان أي قيمة السلعة عند الاستملاك.
وقال النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف القول قول المشتري مع يمينه بعد الاستملاك، وقول مالك قريب من قولهم بعد الاستملاك في أشهر الروايتين عنه. واحتج لهم بأنه قد روي في بعض الأخبار إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فالقول ما يقول البائع ويترادان قالوا فدل اشتراطه قيام السلعة على أن الحكم عند استهلاكها بخلاف ذلك.
قال الشيخ وهذه اللفظة لا تصح من طريق النقل إنما جاء بها ابن أبي ليلى وقيل إنها من قول بعض الرواة، وقد يحتمل أن يكون إنما ذكر قيام السلعة بمعنى التغليب لا من أجل التفريق لأن أكثر ما يعرض فيه النزاع ويجب معه التحالف هو حال قيام السلعة وهذا كقوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] .

(3/150)


فذكره الحجور ليس بشرط يتغير به الحكم ولكنه غالب الحال وكقوله {إلاّ أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229] ولم يجز ذكر الخوف من مذهب أكثر الفقهاء للفرق ولكن لأنه الغالب ولم يفرقوا في البيوع الفاسدة بين القائم والتالف منها فيما يجب من رد السلعة إن كانت قائمة والقيمة إن كانت تالفة. وهذا البيع مصيره إلى الفساد لأنا نرفعه من أصله إذا تحالفا ونجعله كأنه لم يقع ولسنا نثبته ثم نفسخه ولوكنا فعلنا ذلك لكان في ذلك تكذيب أحد الحالفين ولا معنى لتكذيبه مع إمكان تصديقه ويخرج ذلك على وجه يعذر فيه مثل أن يحمل أمره على الوهم وغلبة الظن في نحو ذلك.
واحتجوا فيه أيضاً بقوله اليمين على المدعى عليه، وهذا لا يخالف حديث التحالف لأن كل واحد منهما مدع من وجه ومدعى عليه من وجه آخر وليس اقتضاء أحد الحكمين منه بأولى من الآخر، وقد يجمع بين الخبرين أيضاً بأن يجعل اليمين على المدعى عليه إذ كانت يمين نفي وهذه يمين فيها إثبات.
قال الشيخ وأبو حنيفة لا يرى اليمين في الاثبات، وقد قال به ههنا مع قيام السلعة، وقد خالف أبو ثور جماعة الفقهاء في هذه المسألة فقال القول قول المشتري مع قيام السلعة، ويقال إن هذا خلاف الإجماع مع مخالفته الحديث والله أعلم.
وقد اعتذر له بعضهم أن في إسناد هذا الحديث مقالاً فمن أجل ذلك عدل عنه.
قال الشيخ هذا حديث قد اصطلح الفقهاء على قبوله وذلك يدل على أن له أصلاً كما اصطلحوا على قبول قوله لا وصية لوارث، وفي إسناده ما فيه.
قال الشيخ وسواء عند الشافعي كان اختلافهما في الثمن أو في الأجل أو

(3/151)


في خيار الشرط أو في الرهن أو في الضمين فإنهما يتحالفان قولاً بعموم الخبر وظاهره إذ ليس فيه ذكر حال من الاختلاف دون حال.
وعند أصحاب الرأي لا يتحالفان إلاّ عند الاختلاف في الثمن.

ومن باب الشفعة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج، عَن أبي الزببر عن جابر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه.
قال الشيخ الربع والربعة المنزل الذي يربع به الإنسان ويتوطنه، يقال هذا ربع وهذه ربعة بالهاء كما قالوا دار ودارة.
وفي هذا الحديث إثبات الشفعة في الشركة وهو اتفاق من أهل العلم وليس فيه عن المقسوم من جهة اللفظ ولكن دلالته من طريق المفهوم أن لا شفعة في المقسوم كقوله الولاء لمن أعتق دلالته أنه لا ولاء إلاّ للمعتق.
وفيه دليل على أن الشفعة لا تجب إلاّ في الأرض والعقار دون غيرهما من العروض والأمتعة والحيوان ونحوها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق، قال: حَدَّثنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر قال إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
قال الشيخ هذا الحديث أبين في الدلالة على نفي الشفعة لغير الشريك من مثبته من الحديث الأول وكلمة إنما تعمل بركنيها فهي مثبتة للشيء نافية لما سواه،

(3/152)


فثبت أنه لا شفعة في المقسوم.
وأما قوله فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فقد يحتج بكل لفظة منها قوم، أن اللفظة الأولى ففيها حجة لمن لم ير الشفعة في المقسوم، وأما اللفظة الأخرى فقد يحتج بها من يثبت الشفعة بالطريق وإن كان المبيع مقسوماً.
قال الشيخ ولا حجة لهم عندي في ذلك وإنما هو الطريق إلى المشاع دون المقسوم وذلك أن الطريق يكون في المشاع شائعاً بين الشركاء قبل القسمة وكل واحد منهم يدخل من حيث شاء ويتوصل إلى حقه من الجهات كلها، فإذا قسم العقار بينهم منع كل واحد منهم أن يتطرق شيئاً من حق صاحبه وأن يدخل إلى ملكه إلاّ من حيث جعل له فمعنى صرف الطرق هو هذا والله أعلم.
ثم إنه علق الحكم فيه بمعنيين أحدهما وقوع الحدود وصرف الطرق معاً فليس لهم أن يثبتوه بأحدهما وهو نفي صرف الطرق دون نفي وقوع الحدود.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قال: حَدَّثنا الحسن بن الربيع، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن ابن جريج عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب أو عنهما جميعاً، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها.
قال الشيخ وفي هذا بيان أن الشفعة تبطل بنفس القسمة والتمييز بين الحصص بوقوع الحدود ويشبه أن يكون المعنى الموجب للشفعة دفع الضرر بسوء المشاركة والدخول في ملك الشريك، وهذا المعنى يرتفع بالقسمة وأملاك

(3/153)


الناس لا يجوز الاعتراض عليها بغير حجة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة سمع عمرو بن الشريد سمع أبا رافع سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول الجارأحق بسقبه.
قال الشيخ السقب القرب يقال ذلك بالسين والصاد حميعاً قال الشاعر:
لا صقب دارها ولا أمم
وقد يحتج بهذا من يرى الشفعة بالجوار وإن كان مقاسماً، إلاّ أن هذا اللفظ مبهم يحتاج إلى بيان وليس في الحديث ذكر الشفعة فيحتمل أن يكون أراد الشفعة، وقد يحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونه وما في معناهما، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال إن لي جارين إلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك داراً أو باباً.
وقد يحتمل أن يجمع بين الخبرين فيقال إن الجار أحق بسقبه إذا كان شريكاً فيكون معنى الحديثين على الوفاق دون الاختلاف واسم الجار قد يقع على الشريك لأنه قد يجاور شريكه ويساكنه في الدار المشتركة كالمرأة تسسى جارة لهذا المعني ويدل على ذلك قول الأعشى يريد زوجته:
أجارتنا بيني فإنك طالقه…… كذاك أمور الناس تغدو وطارقه
وقد تكلم أهل الحديث في إسناد هذا الحديث واضطراب الرواة فيه، فقال بعضهم عن عمرو بن الشريد، عَن أبي رافع، وقال بعضهم عن أبيه، عَن أبي رافع وأرسله بعضهم. وقال فيه قتادة عن عمرو بن شعيب عن الشريد والأحاديث التي جاءت في أن لا شفعة إلاّ للشريك أسانيدها جياد ليس في شيء منها اضطراب.

(3/154)


قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حَدَّثنا شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جار الدار أحق بدار الجار والأرض.
قال الشيخ وهذا أيضاً قد يحتمل أن يتأول على الجار المشارك دون المقاسم كما قلناه في الحديث الأول وقد تكلموا في إسناده، قال يحيى بن معين لم يسمع الحسن من سمرة وإنما هو صحيفة وقعت إليه أو كما قال، وقال غيره سمع الحسن من سمرة حديث العقيقة حسب.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحداً.
قال الشيخ عبد الملك بن أبي سليمان لين الحديث وقد تكلم الناس في هذا الحديث. وقال الشافعي نخاف أن لا يكون محفوظاً وأبو سلمة حافظ، وكذلك أبو الزبير ولا يعارض حديثهما بحديث عبد الملك.
وحكي عن شعبة أنه أنكر هذا الحديث وقال إن روى عبد الملك حديثا آخر مثل هذا تركت حديثه وجعله بعضهم رأياً لعطاء أدرجه عبد الملك في الحديث، وقال أبو عيسى الترمذي قلت لمحمد بن إسماعيل في هذا فقال تفرد به عبد الملك، وروي عن جابر خلاف هذا.
وحكي عن أمية بن خالد عن شعبة قال قلت له ما لك لا تحدث عن عبد الملك وأنت تحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي وسيع عبد الملك بن أبي سليمان وأنه كان حسن الحديث قال من حسنه فرقت.
قال الشيخ قد يحتمل أيضاً أن يوفق بينه وبين الأحاديث المتقدمة فيتأول

(3/155)


على المشاع لأن الطريق إنما يكون واحداً على الحقيقة في المشاع دون المقسوم.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة فذهب أكثر العلماء إلى أن لا شفعة في المقسوم وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما؛ وإليه ذهب أهل المدينة سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور.
وقال أصحاب الرأي الشفعة واجبة للجار وإن كان مقاسماً على اختلاف بينهم في ترتيب الجوار، إلاّ أنهم لم يختلفوا أن الشريك مقدم على الجار المقاسم، وقالوا إن سلم الشريك في الدار فالشريك في الطريق أحق من جار الدار.
قال الشيخ وفي هذا ترك للقول بالشفعة لأن الجار الملاصق أقرب من الشريك في الطريق، واستدل مالك والشافعي بقوله والشفعة فيما لم يقسم على أن ما لا يحتمل القسم كالبئر ونحوها لا شفعة فيه.
وقال أبو حنيفة والثورى الشفعة فيها قائمة.
قال الشيخ وهذا أولى لأن القصد بقول الشفعة فيما لم يقسم ليس بيان ما تجب فيه الشفعة مما ينقسم أو لا ينقسم؛ إنما هو بيان سقوط الشفعة فيما قد قسم، فإذا كان معنى الشفعة إزالة الضرر فإن هذا المعنى قائم في البئر وفيما أشبهها، وإلى هذا ذهب أبو العباس بن سريج، فقال إذا كان إزالة الضرر فيما يمكن إزالته واجبة ففيما لا يمكن إزالته أولى.

ومن باب الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد،

(3/156)


عَن أبي بكر بن محمد عن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل أفلس فأدرك الرجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره.
قال الشيخ وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بها كثير من أهل العلم، وقد قضى بها عثمان رضي الله عنه وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا يعلم لهما مخالف في الصحابة وهو قول عروة بن الزبير وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وقال إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وابن شبرمة هو أسوة الغرماء.
وقال بعض من يحتج لقولهم هذا مخالف للأصول الثابتة ولمعانيها والمبتاع قد ملك السلعة وصارت من ضمانه فلا يجوز أن ينقض عليه ملكه، وتأولوا الخبر على الودائع والبيوع الفاسدة ونحوها.
قال الشيخ والحديث إذا صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس إلاّ التسليم له وكل حديث أصل برأسه ومعتبر بحكمه في نفسه فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر الأصول المخالفة أو يتذرع إلى إبطاله بعدم النظير له وقلة الاشباه في نوعه وههنا أحكام خاصة وردت بها أحاديث، فصارت أصولاً كحديث الجنين وحديث القسامة والمصراة.
وروى أصحاب الرأي حديث النبيذ وحديت القهقهة في الصلاة وهما مع ضعف سندهما مخالفان للأصول فلم يمتنعوا من قبولها لأجل هذه العلة وأما نقض ملك المالك فقد جاء في غير موضع من الأصول، كالمشتري الشقص يملكه بالعقد ثم ينقض حق الشفيع ملكه فيسترجعه، وتملك المرأة الصداق بنفس

(3/157)


العقد بدليل أنه لو كان عبداً فأعتقته أو باعته كان العتق نافذاً والبيع جائزاً ثم أنه إذا طلقها الزوج قبل الدخول انتقض الملك عليها في نصفه.
وقد يختلف المتبايعان في الثمن بعد العقد فيتحالفان ويعود الملك إلى البائع وقد يؤجر داره سنة بأجرة معلومة فتهدم الدار فيرد المؤاجر الأجرة ويكاتب عبده ثم يعجز فيبطل العقد ويعود ملكاً يتصرف فيه كما كان، وقد يقدم المرتهن بما في يده من الرهن على سائر الغرماء فيكون أحق به ولم يستنكر شيء من هذه الأمور ولم يعبأ بمخالفتها سائر الأصول، وكذلك الحكم في المفلس. وقد قال الكوفيون لو وهب عبداً له على عوض فأفلس المرتهن فإن رب الهبة أحق بعين ماله، والموهوب منه المال مالك عندهم ملكاً تاماً، ولكن لأجل تعلقه بالعوض ينفق عليه ملكه، وهذا بعينه هو حكم الإفلاس على معنى ما ورد به الخبر. وكذلك قالوا في المحال عليه إذا أفلس رجع المحتال على المحيل.
وأما تأويل من تأول الحديث وخرجه على الودائع ونحوها فإنه غير مستقيم لأن ذلك يعطل فائدة الخبر إذ كان ذلك أمراً معلوماً من طريق العلم العام من جهة الإجماع، والخبر الخاص إنما يرد لبيان حكم خاص، وأبو هريرة راوي الحديث قد تأوله على البيع الصحيح لما جاءه خصمان، فقال هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فدل على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء.

(3/158)


قال الشيخ ذهب مالك إلى جملة ما في هذا الحديث، وقال إن كان قبض شيئاً من ثمن السلعة فهو أسوة الغرماء.
وقال الشافعي لا فرق بين أن يكون قبض شيئاً أو لم يقبضه في أنه إذا وجد عين ماله كان أحق به.
وقال مالك إذا مات المبتاع فوجد البائع عين سلعته لم يكن أحق بها.
وعند الشافعي إذا مات المبتاع مفلساً والسلعة قائمة فلصاحبها الرجوع فيها.
وقد روي، عَن أبي هريرة من غير هذا الطريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به. وقد ذكره أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا محمد بن بشار، قال: حَدَّثنا ابن أبي ذئب، عَن أبي المعتمر عن عمر بن خَلْده، عَن أبي هريرة.
وحديث مالك الذي احتج به مرسل غير متصل.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف الطائي،، قال: حَدَّثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبايري،، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن عياش عن الزبيدي عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وقال فيه فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي فهو أسوة الغرماء وأيما امرىء هلك وعنده متاع بعينه اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء.
قال الشيخ وهذا الحديث مسنداً من هذا الطريق يضعفه أهل النقل في رجلين من رواته ورواه مالك مرسلا فدل أنه لا يثبت مسنداً ولو صح لكان

(3/159)


متأولاً على أن البائع مات موسراً بدليل الخبر المتقدم الذي رواه عمر بن خلدة وأما إذا كان قد اقتضى شيئاً من الثمن فان الشافعي لا يجعله في بقية الثمن أسوة الغرماء وذلك لأن هذا الخبر لما لم يصح عنده متصلا صار إلى القياس فجمع بين الأمرين ولم يفرق لأن الذي له الارتجاع في كل الشيء كان له ذلك في بعضه كالشفيع إذا كان له أن يأخذ الشقص كله كان له أن يأخذ البعض الباقي بعد تلف البعض.

ومن باب من أحيا حسيراً
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد قال وحدثنا موسى، قال: حَدَّثنا أبان عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن الشعبي قال عن أبان أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له قال في حديث أبان قال عبيد الله فقلت عمن قال عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ وهذا الحديث مرسل وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ملكها لم يزل عن صاحبها بالعجز عنها وسبيله سبيل اللقطة فإذا جاء ربها وجب على واجدها رد ذلك عليه.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق هي لمن أحياها إذا كان صاحبها تركها مهلكة واحتج إسحاق بحديث الشعبي هذا وقال عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة فيها وفي النواة التي يلقيها من يأكل التمران قال صاحبها لم أبحها للناس فالقول قوله ويستحلف إن لم يكن أباحها للناس.

(3/160)


ومن باب الرهن
قال أبو داود: حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً وعلى الذي يركب ويحلب النفقة.
قال الشيخ قوله وعلى الذي يحلب ويركب النفقة كلام مبهم ليس في نفس اللفظ منه بيان من يركب ويحلب من الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن.
وقد اختلف أهل العلم في تأويله فقال أحمد بن حنبل للمرتهن أن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة، وكذلك قل له إسحاق بن راهويه.
وقال أحمد بن حنبل ليس له أن ينتفع منه بشيء غيرهما.
وقال أبو ثور إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد، قال وذلك لقوله وعلى الذي يحلب ويركب النفقة.
وقال الشافعي منفعة الرهن للراهن ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الاحتفاط به للوثيقة.
وعلى هذا تأول قوله الرهن مركوب ومحلوب يرى أنه منصرف إلى الراهن الذي هو مالك الرقبة.
وقد روى نحو من هذا عن الشعبي وابن سيرين.
وفي قوله الرهن مركوب ومحلوب دليل على أنه من اعار الراهن أو أكراه

(3/161)


من صاحبه لم يفسخ الرهن.
قال الشيخ رحمه الله وهذا أولى وأصح لأن الفروع تابعة لأصولها والأصل ملك الراهن، ألا ترى أنه لو رهنه وهو يسوى مائة، ثم زاد حتى صار يسوى مائتين ثم رجعت قيمته إلى عشرة إن ذلك كله في ملك الراهن.
ولم يختلفوا أن للمرتهن مطالبة الراهن بحقه مع قيام الرهن في يده ولأنه لا يجوز للمرتهن أن يجحد المال في هذه الحال ولو كان الرهن عبداً فمات كان على الراهن كفنه، فدل ذلك على ثبوت ملكه عليه وإن كان ممنوعا من إتلافه لما يتعلق به من حق المرتهن ولو جاز للمرتهن أن يركب ويحلب بقدر النفقة لكان ذلك معاوضة مجهول بمجهول وذلك غير جائز فدل على صحة تأول من تأوله على الراهن.
وقد روى الشافعي في هذا ما يؤكد قوله حديث الأصم.
قال أخبرنا الربيع، قال: حَدَّثنا الشافعي، قال: حَدَّثنا محمد بن إسماعيل بن أبى فديك عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه، قال ووصله ابن المسيب، عَن أبي هريرة من حديث ابن أبي أنيسة.
ففي هذا ما دل على صحة قول من ذهب إلى أن دره وركوبه للراهن دون المرتهن، فأما قوله لا يغلق الرهن معناه أنه لا يستغلق ولا ينعقد حتى لا يفك والغَلق الفكاك، وحقيقته أن الرهن وثيقة في يد المرتهن يترك في يده إلى غاية

(3/162)


يكون مرجعها إلى الراهن وليس كالبيع يستغلق فيملك حتى لا يفك.
وقوله الرهن من صاحبه، معناه الرهن لصاحبه، والعرب تضع من موضع اللام قال الشاعر:
أمن آل ليلى عرفت الديارا ... أبجنب الشقيق خلا قفارا
وكقول زهير:
* أمن أم أوفى دِمنَة لم تكلم *
وإذا كان الرهن من ملك صاحبه كان تلفه من ملكه دون ملك المرتهن.
وفي قوله له غنمه دليل على أنه يملك من غنمه وهو دره وولده وسائرمنافعه ما لا يملك من الأصل في الحال، ولولا ذلك لم يكن لهذا التفصيل معنى ولا كان فيه فائدة إذ كان معلوماً أن الفروع تابعة في الملك لأصولها ولاحقة في الحكم بها.
وفيه دليل على أن المنافع غير داخلة في الرهن. وفيه دليل أن استدامة القبض ليس بشرط في الرهن، وذلك أن الراهن لا يركبها إلاّ وهي خارجة من قبض المرتهن غير أنه لا يركبها إلاّ نهاراً ويردها بالليل إلى المرتهن ولا يسافر بها.
وقد اختلف الفقهاء فيما يحدث للرهن من نماء أو نتاج وثمرة هل يدخل في الرهن أم لا.
فقال أصحاب الرأي الولد والنتاج والثمرة رهن مع الأصل، إلاّ أنهم فرقوا بين الرهن والولد في الضمان فقالوا الرهن مضمون والولد الحادث بعد الرهن غير مضمون.
وقال الشافعي النماء المتميز من الرهن لا يدخل في الرهن.
وفي قوله وعليه غرمه دليل على أن الرهن غير مضمون، وفيه دليل على أن

(3/163)


مؤنته على الراهن، ومعنى الغرم النقص ههنا.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي وأحمد بن حنبل هو غير مضمون وقال مالك هو غير مضمون فيما يظهر هلاكه من عقار وحيوان ونحوهما، وما كان مما لا يظهر فهو مضمون.
وقال أصحاب الرأي إن كان الرهن أكثر مما رهن به فهلك بما فيه والمرتهن أمين في الفضل، وإن كان أقل رد عليه النقصان وكذلك قال سفيان الثوري وهو قول النخعي، واحتجوا بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الرهن يترادان الفضل فإن أصابته جائحة برئ.
وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضمان الرهن حديث، وقد روى شريح والحسن والشعبي ذهبت الرهان بما فيها.
قال الشيخ ذكر أبو داود في هذا الباب حديثا لا يدخل في أبواب الرهن.
، قال: حَدَّثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا جرير عن عمارة بن القعقاع، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة مكانهم من الله، قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرنا من هم، قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها وذكر الحديث.

(3/164)


قال الشيخ قوله تحابوا بروح الله فسروه القرآن، وعلى هذا يتأول قوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] وسماه روحاً والله أعلم لأن القلوب تحيى به كما تكون حياة النفوس والأبدان بالأرواح.

ومن باب الرجل يأكل من مال ولده
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عمارة بن عمير عن عمته عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه.
قال الشيخ فيه من الفقه أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجداً لها، واختلفوا في صفة من تجب لهم النفقة من الآباء والأمهات، فقال الشافعي إنما يجب ذلك للأب الفقير الزمن فإن كان له مال أو كان صحيح البدن غير زمن فلا نفقة له عليه.
وقال سائر الفقهاء نفقة الوالدين واجبة على الولد ولا أعلم أحدا منهم اشترط فيها الزمانة كما اشترطها الشافعي.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع، قال: حَدَّثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي مالاً وولداً وإن والدي يجتاح مالي، قال أنت ومالك لوالدك إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم.
قال الشيخ قوله يجتاح مالي، معناه يستأصله ويأتي عليه، والعرب تقول جاحهم الزمان، واجتاحهم إذا أتى على أموالهم، ومنه الجائحة وهي الآفة التي تصيب المال فتهلكه.

(3/165)


ويشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده مآله إنما هو سبب النفقة عليه، وإن مقدارما يحتاج إليه للنفقة عليه شيء كثير لا يسعه عفو ماله والفضل منه إلاّ بأن يجتاح أصله ويأتي عليه فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرخص له في ترك النفقة عليه، وقال له أنت ومالك لوالدك، على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من ماله نفسه وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسب لزمك أن تكتسب وتنفق عليه، فإما أن يكون أراد به إباحة ماله وخلاه واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه فلا أعلم أحداً ذهب إليه من الفقهاء والله أعلم.

ومن باب الرجل يجد عين ماله عند رجل
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عوف،، قال: حَدَّثنا هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه.
قال الشيخ هذا في الغصوب ونحوها إذا وجد ماله المغصوب والمسروق عند رجل كان له أن يخاصمه فيه ويأخذ عين ماله منه ويرجع المأخوذ منه على من باعه إياه.

ومن باب الرجل يأخذ حقه من تحت يده
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس،، قال: حَدَّثنا زهير،، قال: حَدَّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وبني فهل علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا قال خذي

(3/166)


ما يكفيك وبنيك بالمعروف.
قال الشيخ فيه من الفقه وجوب نفقة النساء على أزواجهن ووجوب نفقة الأولاد على الآباء، وفيه أن النفقة إنما هي على قدر الكفاية، وفيه جواز أن يحكم الحاكم بعلمه وذلك أنه لم يكلفها البينة فيما أدعته من ذلك إذ كان قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينهما من الزوجية وأنه كان كالمستفيض عندهم بخل أبي سفيان وما كان نسب إليه من الشح.
وفيه جواز الحكم على الغائب، وفيه جواز ذكر الرجل ببعض ما فيه من العيوب إذا دعت الحاجة إليه. وفيه جواز أن يقضي الرجل حقه من مال عنده لرجل له عليه حق يمنعه منه وسواء كان ذلك من جنس حقه أو من غير جنس حقه وذلك لأن معلوماً أن منزل الرجل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق التي تلزمه لهم ثم أطلق أذنها في أخذ كفايتها وكفاية أولادها من ماله ويدل على صحة ذلك قولها في غير هذه الرواية أن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي.
قال الشيخ وقد استدل بعضهم من معنى هذا الحديث على وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج قال وذلك أن أبا سفيان رجل رئيس في قومه ويبعد أن يتوهم عليه أن يمنع زوجته نفقتها ويشبه أن يكون ذلك منه في نفقة خادمها فوقعت الإضافة في ذلك إليها إذ كانت الخادم داخلة في ضمنها ومعدودة في جملتها والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وأحمد بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا طلق بن غنام عن شريك قال ابن العلاء وقيس، عَن أبي حصين، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا

(3/167)


تخن من خانك.
قال الشيخ وهذا الحديث يعد في الظاهر مخالفاً لحديث هند وليس بينهما في الحقيقة خلاف وذلك لأن الخائن هو الذي يأخذ ما ليس له أخذه ظلماً وعدواناً فأما من كان مأذوناً له في أخذ حقه من مال خصمه واستدراك ظلامته منه فليس بخائن وإنما معناه لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته وهذا لم يخنه لأنه يقبض حقاً لنفسه والأول يغتصب حقاً لغيره. وكان مالك بن أنس يقول إذا أودع رجل رجلاً ألف درهم فجحدها المودع ثم أودعه الجاحد ألفاً لم يجز له أن يجحده. قال ابن القاسم صاحبه أظنه ذهب إلى هذا الحديث.
وقال أصحاب الرأي يسعه أن يأخذ الألف قصاصاً عن حقه لو كان بدله حنطة أو شعيراً لم يسعه ذلك لأن هذا بيع وأن إذا كان مثله فهو قصاص.
وقال الشافعي يسعه أن يأخذه عن حقه في الوجهين جميعاً واحتج بخبر هند.

ومن باب قبول الهدايا
قال أبو داود: حدثنا علي بن بحر، قال: حَدَّثنا عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
قال الشيخ قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية نوع من الكرم وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال تهادوا تحابوا، وكان أكل الهدية شعاراً له وأمارة من أماراته ووصف في الكتب المتقدمة بأنه قبل الهدية ولا يأكل الصدقة، وإنما صانه الله سبحانه عن الصدقة وحرمها عليه لأنهأ أوساخ الناس وكان صلى الله عليه وسلم إذا قبل الهدية أثاب عليها لئلا يكون لأحد عليه يد

(3/168)


ولا يلزمه له منة، وقد قال الله عز وجل {لا أسألكم عليه أجراً} [الشورى: 23] فلو كان يقبلها ولا يثيب عليها لكانت في معنى الأجر، وهدية الولاة والحكام رشوة وهو صلى الله عليه وسلم رئيسهم وسيدهم فلم يجز له أن يأخذ ولا يعطي وأن يقبل ولا يثيب.
وقال بعض العلماء في قول الله تعالى {فلا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، قال ومعناه أن يهدي الشيء ليعتاض أكثر منه، قال وهذا لا يحرم على غيره كما يحرم عليه صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب غير واحد من الفقهاء إلى أن الهدية تقتضي الثواب وإن لم يشترط واستدل في ذلك بالحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهدى له أعرابي فأثابه فلم يرض، فقال صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن لا اتهب إلاّ من قرشي أو أنصاري أو دوسي، وقد ذكره أبو داود بمعناه في هذا الباب.
ومنهم من حمل أمر الناس في الهدية على وجوه وجعلهم في ذلك على ثلاث طبقات، فقال هبة الرجل ممن هو دونه كالخادم ونحوه إكرام له والطاف، وذلك غير مقتض ثواباً، وهبة الصغير لكبير طلب رفد ومنفعة والثواب فيها واجب، وهبة النظير لنظيره والغالب فيها معنى التودد والتقرب، وقد قيل إن فيها ثواباً فأما إذا وهب هبة واشترط فيها الثواب فهو لازم.
وقد ذهب بعض العلماء في ذلك إلى أنها عقد من عقود المعاوضات، وقال يجب أن يكون العوض معلوماً وأثبت فيها شرائط المبايعات من خيار الثلاث والرد بالعيب ونحوه.

(3/169)


ومن باب الرجوع في الهدية
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا أبان وهمام وشعبة قالوا حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العائد في هبته كالعائد في قيئه. قال همام قال قتادة ولا نعلم القيء إلاّ حراماً.
قال الشيخ هذا الحديث لفظه في التحريم عام ومعناه خاص وتفسيره في حديث ابن عمر الذي عقبه أبو داود بذكره.
، قال: حَدَّثنا مسدد قال، حَدَّثنا حسين المعلم، قال: حَدَّثنا عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده.
قال الشيخ وإنما استثنى الوالد لأنه ليس كغيره من الأجانب والأباعد، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للأب حقا في مال ولده قال أنت ومالك لأبيك وهو إذا سرق ماله مع الغنى عنه لم يقطع ولو وطىء جاريته لم يحد وجعلت يده في ولايه مال الولد كيده، ألا ترى أنه يلي عليه البيع والشراء ويقبض له وإذا كان كذلك صار في الهبة منه والاسترجاع عنه في معنى من وهب ولم يقبض إذا كانت يده كيده وهو مأمون عليه غير متهم فيما يسترده منه فأمره محمول في ذلك على أنه نوع من السياسة وباب من الاستصلاح، وليس كذلك الأجنبي ومن ليس بأب من ذوي الأرحام وقد يظن به التهمة والعداوة وأن يكون إنما دعا إلى ارتجاعها عبث أو موجدةٌ في نحوها من الأمور.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي بظاهر هذا الحديث وجعل للأب

(3/170)


الرجوع فيما وهب لابنه ولم يجعل له الرجوع فيما وهب للأجنبي.
وقال مالك له الرجوع فيما وهب له إلاّ أن يكون الشيء قد تغير في حاله فإن تغير لم يكن له أن يرتجعه.
وقال أبو حنيفة ليس للأب الرجوع فيما وهب لولده ولكل ذي رحم من ذوي أرحامه وله الرجوع فيما وهب للأجانب وتأولوا خبر ابن عمر على أن له الرجوع عند الحاجة إليه والمعنى في ذلك عند الشافعي أنه جعل ذلك بحق الأبوة والشركة التي له في ماله.

ومن باب الرجل يفضل بعض ولده على بعض في النحل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا هشيم قال أخبرنا يسار قال وأخبرنا مغيرة قال وأخبرنا داود عن الشعبي ومجالد وإسماعيل بن سالم عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال نحلني أبي نحلاً. قال إسماعيل نحله غلاماً له قال فقالت له أمي عمرة بنت رواحة ايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهده فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لم، فقال إني نحلت ابني النعمان نحلاً وأن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال ألك ولد سواه، قال قلت نعم قال فكلهم أعطيته مثل ما أعطيت النعمان، قال قلت لا قال فقال بعض هؤلاء المحدثين هذا جور وقال بعضهم هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري.
قال الشيخ واختلف أهل العلم في جواز تفضيل بعض الأبناء على بعض في النحل والبر، فقال مالك والشافعي التفضيل مكروه فإن فعل ذلك نفذ، وكذلك قال أصحاب الرأي.
وعن طاوس أنه قال إن فعل ذلك لم ينفذ وكذلك قال إسحاق بن راهويه

(3/171)


وهو قول داود.
وقال أحمد بن حنبل لا يجوز التفضيل، ويحكى ذلك أيضاً عن سفيان الثوري واستدل بعض من منع ذلك بقوله هذا جور، وبقوله هذا تلجئة والجور مردود والتلجئة غير جائز ويدل على ذلك حديثه الآخر.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال حدثني النعمان بن بشير قال أعطاه أبوه غلاماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الغلام، قال غلام أعطانيه أبي، قال فكل إخوتك أعطى كما أعطاك، قال لا قال فاردده.
واستدل من أجازه من رواية مالك عن الزهري عن ابن النعمان أن أباه بشير أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاماً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلت مثله، قال لا، قال فارجعه. حدثناه الأصم حدثنا الربيع، قال أخبرنا الشافعي عن مالك.
قالوا فقوله ارجعه يدل بظاهره على أنه قد رده بعد خروجه عن ملكه وأن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه بعد القبض.
ويدل على ذلك أيضاً قوله أيسرك أن يكونوا في البر سواء فدل أن ذلك من قبيل البر واللطف لا من قبيل الوجوب واللزوم.
قالوا ويدل على ذلك أيضاً قوله أشهد على هذا غيري ولو لم يكن جائزاً لكانت الشهادة عليها باطلة من الناس كلهم.
وفي الخبر دليل على ثبوت ولاية الأب على ابنه الصغير وعلى جواز بيعه وشرائه وقبضه له وجواز بيع ماله من نفسه.

(3/172)


وفيه دليل على جواز دخول الحاكم في الشهادات لأنهم إنما جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم ليشهدوه على ذلك.
وفيه دليل على جواز حكمه بعلمه لأن ذلك هو فائدة إشهاده، فأما قوله هذا جور فمعناه هذا ميل عن بعضهم إلى بعض وعدول عن الفعل الذي هو أفضل وأحسن، ولا خلاف أنه لو آثر بجميع ماله أجنبيا وحرمه أولاده أن فعله ماض فكيف يرد فعله في إيثار بعض أولاده على بعض. وقد فضل أبو بكر عائشة عنهما بجداد عشرين وسقاً ونحلها إياها دون أولاده وهم عدد فدل ذلك على جوازه وصحة وقوعه.
وقد قال بعض أهل العلم إنما كره ذلك لأنه يقع في نفس المفضول بالبر شيء فيمنعه ذلك من حسن الطاعه والبر، وربما كان سببا لعقوق الولد وقطيعة الرحم بينه وبين اخوته.
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يسوي بين أولاده الذكران والإناث في البر والصلة أيام حياته ولكن يفضل ويقسم على سهام الميراث وروي ذلك عن شريح.
وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتج من رأى التسوية بين الذكر والانثى بقوله أليس يسرك أن يكونوا في البر واللطف سواء قال نعم أي فسو كذلك في العطية بينهم وقالوا ولم يستثن ذكراً من أنثى.
قال الشيخ ونقل محمد بن إسحاق في سيره أن بشيراً لم يكن له ابنة يومئذ وفعل أبي بكر في تقديم عائشة وتفضيلها بعشرين وسقا يؤيد المذهب الأول.

ومن باب عطية المرأة بغير إذن زوجها
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل، قال: حَدَّثنا

(3/173)


خالد بن الحارث، قال: حَدَّثنا حسين عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجوز لامرأة عطية إلاّ بإذن زوجها.
قال الشيخ هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة واستطابة نفس الزوج بذلك إلاّ أن مالك بن أنس قال ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج.
قال الشيخ ومحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيد وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاها بكسائه وهذه عطية بغير إذن أزواجهن.

ومن باب العمرى والرقبى
قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني قال، حَدَّثنا محمد بن شعيب قال أخبرني الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه.
قال الشيخ العمرى أن يقول الرجل لصاحبه أعمرتك هذه الدار ومعناه جعلتها لك مدة عمرك فهذا إذا اتصل به القبض كان تمليكاً لرقبة الدار وإذا ملكها في حياته وجاز له التصرف فيها ملكها بعده وارثه الذي يرث سائر أملاكه وهذا قول الشافعي وقول أصحاب الرأي.
ويحكى عن مالك أنه قال العمرى تمليك المنفعة دون الرقبة فإن جعلها عمرى له فهي له مدة عمره لا تورث فان جعلها له ولعقبه بعده كانت منفعته ميراثا لأهله.
قال الشيخ وفي قوله صلى الله عليه وسلم فهي له ولعقبه بيان وقوع الملك في الرقبة والمنفعة
معاً ويؤكد ذلك حديث الآخر من طريق مالك نفسه وقد رواه أبو داود في هذا الباب.

(3/174)


، قال: حَدَّثنا محمد بن يحيى ومحمد بن المثنى قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر، قال: حَدَّثنا مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
قال الشيخ لا عذر لمالك بعد هذا والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ترقبوا ولا تعمروا فمن ارقب شيئاً أو اعمره فهو لورثته.
قال الشيخ والرقبى أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه فيكون الدار التي جعلها رقبي لآخر من بقي منهما.
وقال أبو حنيفة العمرى موروثة والرقبى عارية وعند الشافعي الرقبى موروثة كالعمرى وهو حكم ظاهر الحديث.

ومن باب تضمين العارية
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال على اليد ما أخذت حتى تؤدي ثم إن الحسن نسي قال هو أمينك لا ضمان عليه.
قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن العارية مضمونة وذلك أن على كلمة الزام وإذا حصلت اليد أخذه صار الأداء لازماً لها والأداء قد يتضمن العين إذا كادت موجودة والقيمة إذا صارت مستهلكة ولعله أملك بالقيمة منه بالعين.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا: حَدَّثنا يزيد بن

(3/175)


هارون قال أخبرنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه ادراعاً يوم حنين فقال اغصباً يا محمد قال لا بل عارية مضمونة.
قال الشيخ وهذا يؤكد ضمان العارية وفي قوله عارية مضمونة بيان ضمان قيمتها إذا تلفت لأن الأعيان لا تضمن ومن تأوله على أنها تؤدي ما دامت باقية فقد ذهب عن فائدة الحديث.
وقال قوم إذا اشترط ضمانها صارت مضمونة فان لم يشترط لم يضمن وهذا القول غير مطابق لمذاهب الأصول والشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله ألا ترى أن الوديعة لما كانت أمانة كان شرط الضمان فيها غير مخرج لها عن حكم أصلها وإنما كان ذكر الضمان في حديث صفوان لأنه كان حديث العهد بالإسلام جاهلاً بأحكام الدين فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من حكم الإسلام أن العواري مضمونة ليقع له الوثيقة بأنها مردودة عليه غير ممنوعة منه في حال.
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: حَدَّثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم.
قال الشيخ قوله مؤداة قضية الزام في أدائها عيناً حال القيام وقيمة عند التلف وقوله المنحة مردودة فإن المنحة هي ما يمنحه الرجل صاحبه من أرض يزرعها مدة ثم يردها أو شاة يشرب درها ثم يردها على صاحبها أو شجرة يأكل ثمرتها وجملتها أنها تمليك المنفعة دون الرقبة وهي من معنى العواري وحكمها الضمان كالعارية.

(3/176)


وفيه دليل على أن المنحة إذا كانت مما ينقل ويلزم في نقلها مؤنة من كراء أو أجرة فإن جميع ذلك على الممنوح له لأنه قد إشترط عليه ردها وهي لا تكون مردودة حتى تصل إلى صاحبها. والزعيم الكفيل والزعامة الكفالة ومنه قيل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم.
وقد اختلف الناس في تضمين العارية فروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما سقوط الضمان فيها وقال شريح والحسن وإبراهيم لا ضمان فيها وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي واسحاق بن راهويه.
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما قالا هي مضمونة وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال مالك بن أنس ما ظهر هلاكه كالحيوان ونحوه غير مضمون وما خفي هلاكه من ثوب ونحوه فهو مضمون.

ومن باب من أفسد شيئاً يضمن مثله
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن سفيان قال حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية صنعت طعاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثت به فأخذني أفْكَل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام.
قال الشيخ يشبه أن يكون هذا من باب المعونة والاصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فإن القصعة والطعام المصنوع ليس لهما مثل معلوم. ثم ان هذا طعام وإناء حملا من بيت صفية وما كان في بيوت أزواجه من طعام ونحوه فإن

(3/177)


الظاهر منه والغالب عليه أنه ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمرء أن يحكم في ملكه وفيما تحت يده مما يجري مجرى الأملاك فيما يراه أرفق إلى الصلاح وأقرب وليس ذلك من باب ما يحمل عليه الناس من حكم الحكام في أبواب الحقوق والأموال، وفي إسناد الحديث مقال ولا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إلى أنه يجب في غير المكيل والموزون مثل إلاّ أن داود يحكى عنه أنه أوجب في الحيوان المثل وأوجب في العبد العبد، وفي العصفور العصفور وشبهه بحمار الصيد.
قال الشيخ والذي ذهب إليه في ذلك خلاف مذاهب عامة العلماء والحكم في جزاء الصيد حكم خاص في التقييد وحقوق الله تعالى تجري فيها المساهلة ولا تحمل على الاستقصاء وكمال الاستيفاء كحقوق الآدميين، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في المعتق شركاً له في عبد القيمة لا المثل فدل هذا على فساد ما ذهب إليه والأفْكَل الرِعدة.

ومن باب المواشي تفسد زرع قوم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي،، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
قال الشيخ وهذه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في هذا الباب، ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردونها مع الليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة

(3/178)


كان به خارجاً عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في غير موضع حرز فلا يكون على آخذه قطع.
وبالتفريق بين حكم الليل والنهار قال الشافعي.
وقال أصحاب الرأي لا فرق بين الأمرين ولم يجعلوا على أصحاب المواشي غرماً، واحتجوا بقول العجماء جبار.
قال الشيخ وحديث العجماء جبار عام وهذا حكم خاص والعام ينبئ على الخاص. ويرد إليه فالمصير في هذا إلى حديث البراء والله أعلم.