معالم السنن كتاب الوصايا
ومن باب ما يؤمر به من الوصية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله
حدثني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرىء مسلم
(4/81)
له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته
مكتوبة عنده.
قال الشيخ: قوله ما حق امرىء مسلم معناه ما حقه من جهة
الحزم والاحتياط إلاّ أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان
له شيء يريد أن يوصي فيه فإنه لا يدري متى توافيه منيته
فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك.
وفيه دليل على أن الوصية غير واجبة وهو قول عامة الفقهاء،
وقد ذهب بعض التابعين إلى إيجابها وهو قول داود.
وفيه أن الوصية إنما تستحب لمن له مال يريد أن يوصي فيه
دون من ليس له فضل مال، وهذا في الوصية التي هو متبرع بها
من نحو صدقة وبر وصلة دون الديون والمظالم التي يلزمه
الخروج عنها، فإن من عليه ديناً أو قبله تبعة لأحد من
الناس فالواجب عليه أن يوصي فيه وأن يتقدم إلى أوليائه
فيه، لأن أداء الأمانة فرض واجب عليه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن العلاء قالا: حَدَّثنا
أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن مسروق عن عائشة رضي
الله عنها، قالت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم
ديناراً ولا درهماً ولا بعيراً ولا شاة ولا أوصى بشيء.
قال الشيخ: قولها ولا أوصى بشيء تريد وصية المال خاصة لأن
الإنسان إنما يوصي في مال سبيله أن يكون موروثا وهو صلى
الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يورث فيوصي فيه، وقد أوصى
بأمور منها ما روي أنه كان عامة وصيته عند الموت الصلاة
وما ملكت أيمانكم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه أوصى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عند موته اخرجوا اليهود عن جزيرة العرب وأجيزوا الوفد
بنحو ما كنت أجيزهم.
(4/82)
ومن باب ما يجوز
للموصي في ماله
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا:
حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه
قال مرض سعد مرضاً اشفى منه، قال ابن أبي خلف بمكة فعاده
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي
مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ ابنة لي أفأتصدق بالثلثين،
قال لا، قال فبالشطر قال لا، قال فبالثلث، قال الثلث
والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم
عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة إلاّ أجرت فيها حتى
اللقمة ترفعها إلي في امرأتك، قلت يا رسول الله أتخلّف عن
هجرتي قال ان تُخلَّف بعدي فتعمل عملاً تريد به وجه الله
تبارك وتعالى لا تزداد به إلاّ رفعة ودرجة ولعلك أن تخلف
حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون، ثم قال اللهم امض
لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن
خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
قال الشيخ: قوله وليس يرثني إلاّ ابنة لي يريد أنه ليس
يرثني ذو سهم إلاّ ابنة دون من يرثه بالتعصيب لأن سعداً
رجل من قريش من زهرة وفى عصبته كثرة.
وفي ذلك دليل على أن لمن مات وقد خلف من الورثة من يستوعب
جميع ماله أن يوصي بالثلث منه.
وقد زعم بعض أهل العلم أن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث
يستوفي تركته.
وفي قوله الثلث كثير دليل على أنه لا يجوز مجاوزته ولا أن
يوصي بأكثر من الثلث سواء كان له ورثة أو لم يكن.
وقد زعم قوم أنه إذا لم يكن له ورثة وضع جميع ماله حيث
شاء، وإليه
(4/83)
ذهب إسحاق بن راهويه، وروي ذلك عن ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه.
وقد اختلف أهل العلم في جواز الوصية بالثلث فذهب بعضهم إلى
أن قوله والثلث كثير منعاً من الوصية به وأن الواجب أن
يقصر عنه وأن لا يبلغ بوصيته تمام الثلث.
وروي عن ابن عباس أنه قال الثلث جنف والربع جنف.
وعن الحسن البصري أنه قال يوصي بالثلث أو الخمس أو الربع.
وقال إسحاق بن راهويه السنة في الربع لما قال النبي صلى
الله عليه وسلم والثلث كثير إلاّ أن يكون رجلاً يعرف في
ماله شبهات فعليه استغراق الثلث.
وقال الشافعي إذا ترك ورثته أغنياء لم يكره له أن يستوعب
الثلث فإذا لم يدعهم أغنياء اخترت له أن لا يستوعبه.
وقوله عالة يتكففون الناس يريد فقراء يسألون الصدقة، يقال
رجل عائل أي فقير وقوم عالة والفعل منه عال يعيل إذا
افتقر.
ومعنى يتكففون يسألون الصدقة بأكفهم.
وقوله أتخلف عن هجرتي معناه خوف الموت بمكة وهي دار تركوها
لله عز وجل وهاجروا إلى المدينة فلم يحبوا أن تكون مناياهم
فيها.
ومن باب كراهية الإضرار في
الوصية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا
عمارة بن القعقاع، عَن أبي زرعة عمرو بن جرير، عَن أبي
هريرة قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله
أى الصدقة أفضل؛ قال ان تصدق وأنت صحيح حريص تأمل البقاء
وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا
ولفلان
(4/84)
كذا وقد كان لفلان.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن للصحيح أن يضع ماله حيث شاء من
المباح وله أن يشح به على من لا يلزمه فرضه.
وفيه المنع من الإضرار في الوصية عند الموت.
وفي قوله وقد كان لفلان دليل على أنه إذا أضر في الوصية
كان للورثة أن يبطلوها لأنه حينئذ مالهم، ألا تراه يقول
وقد كان لفلان يريد به الوارث والله أعلم.
ومن باب الوصية للوارث
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن
شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة، قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه
فلا وصية لوارث.
قال الشيخ: قوله أعطى كل ذي حق حقه إشارة إلى آية المواريث
وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله
تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية
للوالدين والأقربين} [البقرة: 18] ثم نسخت بآية الميراث.
وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل
حقوق سائر الورثة فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا
الزيادة على الثلث للأجنبي جاز.
وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها
سائر الورثة لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها
لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز كما أن
الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة.
(4/85)
ومن باب ما لولي
اليتيم أن ينال من مال اليتيم
قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحارث
حدثهم، قال: حَدَّثنا حسين، يَعني المعلم عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم قال فقال كل من مال
يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل.
قال الشيخ: قوله غير متأثل أي غير متخذ منه أصل مال واثلة
الشيء أصله.
ووجه إباحته الأكل من مال اليتيم أن يكون ذلك على معنى ما
يستحقه من العمل فيه والاستصلاح له وأن يأخذ منه بالمعروف
على قدر مثل عمله.
وقد اختلف الناس في الأكل من مال اليتيم فروي عن ابن عباس
رضي الله عنه أنه قال يأكل منه الوصي إذا كان يقوم عليه،
وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وقال الحسن والنخعي يأكل ولا يقضي، وقال عبيدة السلماني
وسعيد بن جبير ومجاهد يأكل ويؤديه إليه إذا كبر وهو قول
الأوزاعي.
ومن باب متى ينقطع اليتم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن محمد
المديني حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن
أبيه عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع شيوخا من بني
عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد قال: قال علي
بن أبي طالب كرم الله وجهه حفظت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل.
قال الشيخ: ظاهر هذا القول يوجب انقطاع أحكام اليتم عنه
بالاحتلام
(4/86)
وحدوث أحكام البالغين له فيكون للمحتلم أن
يبيع ويشتري ويتصرف في ماله ويعقد النكاح لنفسه وإن كانت
امرأة فلا تزوج إلاّ بإذنها.
ولكن المحتلم إذا لم يكن رشيداً لم يفك الحجر عنه وقد يحظر
الشيء بشيئين فلا يرتفع بارتفاع أحدهما مع بقاء السبب
الآخر وقد أمر الله تعالى بالحجر على السفيه فقال {ولا
تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:
5] وقال {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً}
[البقرة: 282] فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على
الضعيف، فكان معنى الضعيف راجعاً إلى الصغير، ومعنى السفيه
إلى الكبير البالغ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على
ما لم يكتسب والقلم مرفوع عن غير البالغ فالجرح والذم
مرفوعان عنه؛ وقال سبحانه {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا
النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم}
[النساء: 6] فشرط في دفع المال إليهم شيئين الاحتلام
والرشد. والحكم إذا كان وجوبه معلقاً بشيئين لم يجب إلاّ
بورودهما معاً.
وقوله لا صمات يوم إلى الليل وكان أهل الجاهلية من نسكهم
الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا
ينطق فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير.
ومن باب الدليل على أن الكفن
من جميع المال
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش،
عَن أبي وائل عن خباب، قال مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم
يكن له إلاّ نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا
غطينا رجله خرج رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم غطوا بها
رأسه واجعلوا على رجليه من الاذخر.
(4/87)
قال الشيخ: قلت فيه دلالة على أن الكفن من
رأس المال وأنه إذا استغرق الكفن جميع المال كان الميت
أولى به من الورثة.
ومن باب الرجل يهب الهبة ثم
يوصى له بها أو يرثها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد
الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة أن امرأة
أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت تصدقت على
أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال قد وجب أجرك
ورجعت إليك في الميراث. قالت وأنها ماتت وعليها صوم شهر
أفيجزي أو يقضي عنها أن أصوم عنها، قال: نعم.
قال الشيخ: الوليدة الجارية المملوكة ومعنى الصدقة ههنا
العطية وإنما جرى عليها اسم الصدقة لأنها بر وصلة فيها أجر
فحلت محل الصدقة.
وفيه دليل على أن من تصدق على فقير بشيء فاشتراه منه بعد
أن قبضه إياه فإن البيع جائز وإن كان يستحب له أن لا يرجعه
إلى ملكه بعد أن أخرجه بمعنى الصدقة.
وقولها أصوم عنها يحتمل أن يكون أرادت الكفارة عنها فيحل
محل الصوم ويحتمل أن يكون أرادت الصيام المعروف.
وقد ذهب إلى جواز الصوم عن الميت بعض أهل العلم، وذهب أكثر
العلماء إلى أن عمل البدن لا يقع فيه النيابة كما لا يقع
فيه الصلوات.
ومن باب الصدقة عن الميت
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن
سليمان، يَعني ابن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن أراه عن
أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(4/88)
إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة أشياء من
صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في
معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة.
وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في
الحقيقة يكون للحاج دون المحجوج عنه وإنما يلحقه الدعاء
ويكون له الأجر في المال الذي أعطى ان كان حج عنه بمال. |