معالم السنن كتاب الفرائض
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب
حدثني عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل
آية محكمة أو سنة ماضية أو فريضة عادلة.
قال الشيخ: في هذا حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه وتقديم
تعلمه.
والآية المحكمة هي كتاب الله واشترط فيها الاحكام لأن من
الآي ما هو منسوخ لا يعمل به وإنما يعمل بناسخه.
والسنة القائمة هي الثابتة بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم
من السنن المروية، وأما قوله أو فريضة عادلة فإنه يحتمل
وجهين من التأويل أحدهما أن يكون من العدل في القسمة فيكون
معدله على السهام والأنصباء المذكورة في الكتاب والسنة.
(4/89)
والوجه الآخر أن تكون مستنبطة من الكتاب
والسنة ومن معانيهما فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ عن
الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصاً.
وقد اختلف الصحابة في مسائل من الفرائض وتناظروا فيها
وتحروا تعديلها فاعتبروها بالنصوص كمسألة الزوج والأبوين.
حدثنا إبراهيم بن فراس حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ
حدثنا موسى بن محمد بن حبان البصري حدثنا عبد الرحمن بن
مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن الأصفهاني عن عكرمة قال
أرسل ابن عباس رضي الله عنهما إلى زيد بن ثابت فسأله عن
امرأة تركت زوجها وأبويها، قال للزوج النصف وللأم ثلث ما
بقي، فقال تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك، قال أقوله
برأيي لا أفضل أماً على أب.
قلت فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص وذلك
أنه اعتبرها بالمنصوص عليه وهو قوله تعالى {وورثه أبواه
فلأمه الثلث} [النساء: 11] فلما وجد نصيب الأم الثلث وكان
باقي المال وهو الثلثان للأب قاس النصف الفاضل من المال
بعد نصيب الزوج على كل المال إذ لم يكن مع الوالدين ابن أو
ذو سهم فقسمه بينهما على ثلاثة أسهم للأم سهم والباقي وهو
سهمان للأب، وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من
النصف الباقي ثلث جميع المال وللأب ما بقي وهو السدس
فيفضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل المورث أكثر مما
للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل، وذلك أعدل مما ذهب إليه
ابن عباس من توفير الثلث على الأم وبخس الأب حقه برده إلى
السدس فترك قوله عليه وصار عامة الفقهاء إلى قول زيد.
(4/90)
ومن باب من ليس له
ولد وله أخوات
قال أبو داود: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو بكر،
عَن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله يستفتونك في الكلالة
ما الكلالة قال تجزيك آية الصيف، قلت لأبي إسحاق هو من مات
ولم يدع ولداً ولا والداً قال كذلك ظنوا أنه كذلك.
قال الشيخ: وقد روي أن الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن هذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويشبه أن
يكون والله أعلم إنما لم يفته عن مسألته ووكل الأمر في ذلك
إلى بيان الآية اعتماداً على علمه وفقهه ليتوصل إلى
معرفتها بالاجتهاد الذى هو طريق التبين ولو كان السائل
غيره ممن ليس له مثل علمه وفهمه لأشبه أن لا يفتصر في
مسألته على الإشارة إلى ما أجمل في الآ ية من الحكم دون
البيان الشافي في التسمية له والنص عليه والله أعلم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ هذه
الآية فإذا صار إلى قوله {يبين الله لكم أن تضلوا}
[النساء: 176] قال اللهم من بينت له فإن عمر لم يتبين.
واختلفوا في الكلالة من هو فقال أكثر الصحابة من لا ولد له
ولا والد. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه اختلاف
فروي أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد مثل قول سائر
الصحابة.
وروي عنه أنه قال الكلالة من لا ولد له، ويقال إن هذا آخر
قوليه.
حدثنا محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق حدثنا ابن
جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى عند موته فقال الكلالة
كما قلت، قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له.
(4/91)
وأنبأنا بن الأعرابي حدثنا سعدان حدثنا
سفيان عن عمرو بن دينار عن الحسن قال سألت ابن عباس رضي
الله عنه فقال هو ما عدا الوالد والولد، قال قلت فإن الله
عز وجل يقول {إن امرؤ هلك ليس له ولد} [النساء: 176] قال
فغضب وانتهرني.
قلت إنما أشكل هذا من قبل أن المسمى في الآية والمشروط
فيها هو من لا ولد له وليس للوالد فيها ذكر. وقيل إن بيان
الشرط الآخر الذي هو الوالد مأخوذ من حديث جابر بن عبد
الله وفيه أنزلت الآية، وكان ذلك من باب زيادة السنة على
الكتاب وكان جابر يوم نزول الآية لا ولد له ولا والد، وقد
ذكر أبو داود قصة جابر في هذا الباب قال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا كثير بن هشام حدثنا هشام،
يَعني الدستوائي، عَن أبي الزبير عن جابر، قال اشتكيت
وعندي سبع أخوات فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي
بالثلثين، قال أحسن قلت الشطر، قال أحسن، ثم خرج وتركني،
فقال يا جابر ألا أراك ميتاً من وجعك هذا وإن الله قد أنزل
فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين، قال وكان جابر يقول
أنزل في هذه الآية {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}
[النساء: 176] .
قال الشيخ: روي أن عبد الله بن حرام أبا جابر قتل يوم أحد
ونزلت آية الكلالة في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال أنه آخر ما نزل من القرآن فكان جابر يوم نزول الآية
لا ولد له ولا والد فصار شأنه بيانا لمراد الآية فهذا قول
بعض العلماء في بيان معنى الكلالة.
قلت وفيه وجه آخر وهو أشبه بمعنى الحديث وذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال السائل
(4/92)
عن الكلالة تجزيك آية الصيف فوقعت الإحالة
منه على الآية في بيان معنى الكلالة فوجب أن يكون ذلك
مستنبطاً من نفس الآية دون غيرها.
ووجه ذلك وتحريره أن الولد والوالد اسمان مشتقان من
الولادة فكل واحد منهما يتعلق بالآخر ويتعدى إليه من طريق
الدلالة فكل من انتظمه اسم الولادة من أعلى وأسفل فإنه قد
يحتمل أن يدعى ولداً فالوالد يسمى ولداً لأنه قد وَلَد
والمولود يسمى ولداً لأنه قد وُلِد.
وهذا كالذرية وهو اسم مشتق من ذرأ الله الخلق فالولد ذرية
لأنهم ذرئوا أي خلقوا والأب ذرية لأن الولد ذرىء منه ويدل
على صحة ذلك قوله سبحانه وتعالى {وآية لهم أنا حملنا
ذريتهم في الفلك المشحون} [يّس: 41] يريد والله أعلم نوحاً
ومن معه فجعل الآباء ذرية كالأولاد لصدور الاسمين معاً عن
الذرء، وفي لغة العرب توسع وانبساط ويقع ذلك فيها من وجوه
منها الاشتقاق والتركيب ومنها المجاز والتشبيه ومنها
الاستعارة والتقريب إلى وجوه غيرها وكل ذلك بيان وأدلتها
مستعملة حيثما وجدت. فعلى هذا قد يصح أن يكون المراد بقوله
{إن امرؤ هلك ليس لم ولد} [النساء: 176] أي ولادة في
الطرفين من أعلى وأسفل، وهو معنى قول الصحابة وعامة
الفقهاء أن الكلالة من ليس له ولد ولا والد.
واسم الكلالة في اللغة مشتقة من تكلل النسب وذلك أن الإخوة
إنما يتكللون الميت من جوانبه ويلقونه من نواحيه والولد
والوالد إنما يأتيانه من تلقاء النسب ويجتمعان معه في
نصابه وعموده.
وأما قوله تجزيك آية الصيف فإن الله سبحانه أنزل في
الكلالة آيتين احداهما في الشتاء وهي الآية التي نزلت في
سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد
(4/93)
يتبين هذا المعنى من ظاهرها ثم أنزل الآية
الأخرى في الصيف وهي في آخر سورة النساء وفيها من زيادة
البيان ما ليس في آية الشتاء فأحال السائل عليها ليستبين
المراد بالكلالة المذكورة فيها والله أعلم.
وقد أفردت مسألة في الكلالة وتفسيره وأودعتها من الشرح
والبيان أكثر من هذا وهو من غريب العلم ونادره وفيما
أوردناه ههنا كفاية إن شاء الله عز وجل.
ومن باب ما جاء في الصلب
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة حدثنا علي
بن مُسهر عن الأعمش، عَن أبي قيس الأودي عن هزيل بن
شُرَحبيل الأودي قال جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان
بن ربيعة فسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم فقالا
لابنته النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولم يورثا ابنة
الابن شيئاً وأت ابن مسعود فإنه سيتابعنا فأتاه الرجل
فسأله وأخبره بقولهما، فقال لقد ضللت إذا وما أنا من
المهتدين، ولكني أقضي فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم
لابنته النصف ولابنة الابن سهم تكملة الثلثين وما بقي
فللأخت من الأب والأم.
قال الشيخ: في هذا بيان أن الأخوات مع البنات عصبة وهو قول
جماعة الصحابة والتابعين وعامة فقهاء الأمصار إلاّ ابن
عباس رضي الله عنه فإنه قد خالف عامة الصحابة في ذلك وكان
يقول في رجل مات وترك ابنة وأختاً لأبيه وأمه إن النصف
للابنة وليس للأخت شيء، وقيل له إن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه قضى بخلاف ذلك جعل للأخت النصف وللابنة النصف فقال أهم
اعلم أم الله، يريد قوله سبحانه {إن امرؤ هلك ليس له ولد
وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء: 176] فإنما جعل للأخت
الميراث بشرط عدم الولد.
(4/94)
وروي عنه أنه كان يقول وددت أني وهؤلاء
الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن
ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
قلت وجه ما ذهب إليه الصحابة من الكتاب مع بيان السنة التي
رواها عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، أن الولد
المذكور في الآية إنما هو الذكور من الأولاد دون الإناث
وهو الذي يسبق إلى الأوهام ويقع في المعارف عندما يقرع
السمع فقيل ولد فلان وإن كان الإناث أيضاً أولاداً في
الحقيقة كالذكور.
ويدل على ذلك قول الله سبحانه حكاية عن بعض الكفار {لأوتين
مالاً وولداً} [مريم: 77] وقوله تعالى {لن تنفعكم أرحامكم
ولا أولادكم} [الممتحنة: 3] وقوله {إنما أموالكم وأولادكم
فتنة} [التغابن: 15] فكان معلوماً أن المراد بالولد في هذه
الآي كلها الذكور دون الإناث إذ كان مشهوراً من مذاهب
القوم أنهم لا يتكثرون بالبنات ولا يرون فيهن موضع نفع
وعز، بل كان مذاهبهم وأدهن ودفنهن أحياء والتعفية لآثارهن.
وجرى التخصيص في هذا الاسم كما جرى ذلك في اسم المال إكا
أطلق في الكلام فإنما يختص عرفاً بالإبل دون سائر أنواع
المال ومشهور في كلامهم أن يقال غدا مال فلان وراح يريدون
سارحة الإبل والمواشي دون ما سواها من أصناف المال.
وإذا ثبت أن المراد بالولد المذكور في قوله سبحانه {إن
امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء:
176] الذكور من الأولاد دون الإناث لم يمنع الأخوات
الميراث مع البنات.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن الفضل حدثنا عبد
الله بن محمد بن
(4/95)
عقيل عن جابر بن عبد الله قال خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار
في الأسواف فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت يا رسول الله
هاتان ابنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما
مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالاً إلاّ أخذه فما
ترى يا رسول الله فوالله لا تنكحان أبداً إلاّ ولهما مال،
قال فنزلت سورة النساء {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء:
11] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا لي
المرأة وصاحبها، فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما
الثمن وما بقي فلك.
قال الشيخ: قوله استفاء ما لهما معناه استرد واسترجع حقهما
من الميراث فافتات به عليهما وأصله من الفيء وهو الرجوع،
ومنه الفيء الذي يؤخذ من أموال الكفار إنما هو مال رده
الله إلى المسلمين كان في أيدي الكفار.
وقولها وهاتان ابنتا ثابت بن قيس قد قتل معك يوم أحد غلط
من بعض الرواة وإنما هي امرأة سعد بن الربيع وابنتاه قتل
سعد بأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي ثابت بن
قيس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شهد اليمامة في
عهد أبي بكر الصديق.
وكذلك رواه عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن ابن عقيل
عن جابر.
حدثناه أحمد بن سليمان البخاري حدثنا هلال بن العلاء بن
هلال حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن
ابن عقيل عن جابر، قال جاءت امرأة سعد بن الربيع مع ابنتي
سعد فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قد قتل
أبوهما معك يوم أحد شهيداً وقد أخذ عمهما كل شيء ترك
أبوهما وذكر الحديث.
(4/96)
ومن باب ميراث
العصبة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ومخلد بن خالد وهذا حديث
مخلد وهو أشبع، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن
ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم اقسم المال بين أهل الفرائض
على كتاب الله عز وجل فما تركت الفرائض فلأولى ذكر.
قلت معنى أولى ههنا أقرب والولي القرب يريد أقرب العصبة
إلى الميت كالأخ والعم فإن الأخ أقرب من العم، وكالعم وابن
العم فالعم أقرب من ابن العم، وعلى هذا المعنى ولو كان
قوله أولى بمعنى أحق لبقي الكلام مبهماً لا يستفاد منه
بيان الحكم إذ كان لا يدرى من الأحق ممن ليس بأحق فعلم أن
معناه أقرب النسب على ما فسرناه والله أعلم.
ومن باب ميراث ذوي الأرحام
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب في آخرين قالوا حدثنا
حماد عن بديل، يَعني ابن ميسرة عن علي بن أبي طلحة عن راشد
بن سعد، عَن أبي عامر الهَوزني عن المقدام الكندي قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى بكل مؤمن من نفسه
فمن ترك ديناً أو ضيعة فإليَّ ومن ترك مالاً فلورثته وأنا
مولى من لا مولى له ارث ماله وافك عانه، والخال مولى من لا
مولى له يرث ماله ويفك عانه.
قال وحدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن بديل بإسناده نحوه،
وقال والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه.
قال أبو داود: حدثنا عبد السلام بن عتيق الدمشقي حدثنا
محمد بن المبارك
(4/97)
حدثنا إسماعيل بن عياش عن يزيد بن حجر عن
صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم الخال وارث من لا وارث له يفك
عُنِيَّه ويرث ماله.
قال الشيخ: قوله يفك عانه يريد عانيه فحذف الياء والعاني
الأسير.
وكذلك قوله يفك عنيه إنما هو مصدر عنا الرجل يعنو عنواً
وعنياً، وفيه لغة أخرى عنى، يَعني.
ومعنى الاسار ههنا هو ما تتعلق به ذمته ويلزمه بسبب
الجنايات التي سبيلها أن تتحملها العاقلة.
وبيان ذلك قوله في الحديث من رواية شعبة عن بديل بن ميسرة
يعقل عنه ويرث ماله.
والحديث حجة لمن ذهب إلى توريث ذوي الأرحام، وإليه ذهب أبو
حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل، وقد روي ذلك
عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
وكان مالك والأوزاعي والشافعي لا يورثون ذوي الأرحام وهو
قول زيد بن ثابت وتأول هؤلاء حديث المقدام على أنه طعمة
أطعمها الخال عند عمد الوارث لا على أن يكون للخال ميراث
راتب، ولكنه لما جعله يخلف الميت فيما يصير إليه من المال
سماه وارثاً على سبيل المجاز كما قيل الصبر حيلة من لا
حيلة له والجوع طعام من لا طعام له وما أشبه ذلك من
الكلام.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يدفع مال رجل
لم يدع ولاء حميماً إلى رجل من أهل قريته.
وروي أن رجلاً جاءه فقال عندي ميراث رجل من الأزد
(4/98)
ولست أجد أزدياً أدفعه إليه، فقال له انطلق
فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه أو قال ادفعه إلى كُبْر
خزاعة.
وروي أن رجلاً جاءه وقال توفي ابن ابني قال لك السدس، فلما
ولى دعاه وقال له خذ سدساً آخر وهو طعمة لك.
وروي أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلاّ غلاماً له كان
أعتقه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه له.
وقد روى أبو داود هذه الأخبار كلها على وجوهها في هذا
الباب وقالوا ومعلوم أن الخال لا يعقل ابن اخته فكذلك لا
يكون وارثاً له فلو صح أحدهما لصح الآخر، وقال بعضهم إنما
جاء ذلك خاصاً في خال يكون عصبة فيكون عاقلة كما يكون
وارثاً والله أعلم.
ومن باب ميراث ابن الملاعنة
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا محمد بن
حرب عن عمرو بن رؤبة التغلبي عن عبد الواحد بن عبد الله
النصري عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال المرأة تحرز ثلث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي
لاعنت عنه.
قال الشيخ: أما اللقيط فإنه في قول عامة الفقهاء حر وإذا
كان حراً فلا ولاء عليه لأحد والميراث إنما يستحق بنسب أو
ولاء وليس بين اللقيط وملتقطه واحد منهما، وكان إسحاق بن
راهويه يقول ولا اللقيط لملتقطه ويحتج بحديث واثلة وهذا
الحديث غير ثابت عند أهل النقل وإذا لم يثبت الحديث لم
يلزم القول به وكان ما ذهب إليه عامة العلماء أولى.
وقال بعضهم لا يخلو اللقيط من أن يكون حراً فلا ولاء عليه
أو يكون ابن
(4/99)
أمة قوم فليس لملتقطه أن يسترقه.
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد وموسى بن عامر قالا:
حَدَّثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال: جعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها
من بعدها.
قال الشيخ: جعل ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها ظاهره
أن جميع ماله لأمه في حياتها ولورثتها إن كانت أمه قد
ماتت، وإلى هذا ذهب مكحول والشعبي وهو قول سفيان الثوري.
وقال أحمد بن حنبل ترثه أمه وعصبة أمه، وقد روي عن ابن
مسعود وابن عمر رضي الله عنهما قالا الأم عصبة من لا عصبة
له.
وقال مالك والشافعي إن كانت أمه مولاة كان ما فضل عن سهمها
لمواليها وإن كانت عربية فإن ما بقي لبيت المال وهو قول
الزهري.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ميراث ابن الملاعنة كميراث غيره
فمن يموت ولا عصبة له فإن ترك أصحاب فرائض اعطوا فرضهم
ويرد ما فضل عليهم على قدر سهامهم فإن يترك وارثاً ذا سهم
وترك قرابات ليسوا بأصحاب فرائض فإنهم يرثون كما يرث ذوو
الأرحام في غير باب ابن الملاعنة ولا يكون عصبة أمه عصبة
له.
ومن باب هل يرث المسلم الكافر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن علي بن
حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر.
قال الشيخ: عموم هذا الحديث يوجب منع التوارث بين كل مسلم
وكافر سواء
(4/100)
كان الكافر على دين يقر عليه أو كان مرتداً
يجب قتله. ومن لم يورث كافراً من مسلم لزمه أن لا يورث
مسلماً من كافر.
وقد اختلف الناس في هذا فقال إسحاق بن راهويه يرث المسلم
الكافر ولا يرثه الكافر، وروي ذلك عن معاذ بن جبل ومعاوية
بن أبي سفيان.
وقد حكي ذلك أيضاً عن إبراهيم النخعي وقالوا نرثهم ولا
يرثوننا كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا، وقال عامة أهل
العلم بخلاف ذلك.
واختلفوا في ميراث المرتد فقال مالك بن أنس وابن أبى ليلى
والشافعي ميراث المرتد فيء ولا يرثه أهله وكذلك قال ربيعة
بن أبي عبد الرحمن.
وقال سفيان الثوري ماله التليد لورثته المسلمين وما اكتسبه
وأصابه في ردته فهو فيء للمسلمين وهو قول أبي حنيفة.
وقال الأوزاعي وإسحاق بن راهويه ماله كله لورثته المسلمين،
وقد روي ذلك عن علي كرم الله وجهه وعبد الله وهو قول الحسن
البصري والشعبي وعمر بن عبد العزيز.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب
المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوارث أهل
ملتين شتى.
قال الشيخ: عموم هذا الكلام يوجب أن لا يرث اليهودي
النصراني ولا المجوسي اليهودي، وكذلك قال الزهري وابن أبي
ليلى وأحمد بن حنبل.
وقال أكثر أهل العلم الكفر كله ملة واحدة يرث بعضهم بعضاً،
واحتجوا بقول الله سبحانه {الذين كفروا بعضهم أولياء بعض}
[الأنفال: 73] وقد علق الشافعي القول
(4/101)
في ذلك وغالب مذهبه أن ذلك كله سواء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أنبأنا
معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة
بن زيد، قال قلت يا رسول الله أين تنزل غداً في حجته قال
وهل ترك لنا عقيل منزلاً.
قال الشيخ: موضع استدلال أبي داود من هذا الحديث في أن
المسلم لا يرث من الكافر أن عقيلاً لم يكن أسلم يوم وفاة
علي بن أبي طالب فورثه وكان علي وجعفر رضي الله عنهما
مسلمين فلم يرثاه، ولما ملك عقيل رباع عبد المطلب باعها
فذلك معنى قوله وهل ترك عقيل منزلاً.
ومن باب من أسلم على ميراث
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا موسى بن داود
حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار، عَن أبي الشعثاء عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه
الإسلام فإنه على قسم الإسلام.
قال الشيخ: فيه أن أحكام الأموال والأنساب والأنكحة التي
كانت في الجاهلية ماضية على ما وقع الحكم منهم فيها أيام
الجاهلية لا يرد منها شيء في الإسلام وإن ما حدث من هذه
الأحكام في الإسلام فإنه يستأنف فيه حكم الإسلام.
ومن باب في الولاء
قال أبو داود: حدثنا قتيبة قال قرىء على مالك وأنا حاضر
قال مالك عرض عن نافع عن ابن عمر أن عائشة أم المؤمنين رضي
الله عنها أرادت أن تشتري جارية فتعتقها، فقال أهلها
نبيعكها على أن ولاءها لنا فذكرت عائشة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم
(4/102)
فقال لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق.
قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن
سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة
قالت: قال رسول الله الولاء لمن أعطى الثمن ووَلِي النعمة.
قال الشيخ: في حديث ابن عمر دليل على أن بيع المملوك بشرط
العتق جائز.
وقوله لا يمنعك ذلك معناه إبطال ما شرطوه من الولاء لغير
المعتق.
وفي قوله الولاء لمن أعطى الثمن وولي النعمة دليل على أن
لا ولاء إلا لمعتق وذلك أن دخول الألف واللام في الاسم مع
الإضافة يعطي السلب والإيجاب كقولك الدار لزيد والمال
للورثة فيه إيجاب ملك الدار وإيجاب المال للورثة وقطعهما
عن غيرهما، وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن من أسلم على
يدي رجل فانه لا يرثه ولا يكون له ولاؤه لأنه لم يعتقه.
ومن باب الرجل يسلم على يدي
الرجل
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار
الدمشقي قالا: حَدَّثنا يحيى وهو ابن حمزة عن عبد العزيز
بن عمر قال سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز
عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما
السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين قال هو
أولى الناس بمحياه ومماته.
قال الشيخ: قد احتج به من يرى توريث الرجل ممن يسلم على
يده من الكفار وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلاّ أنهم قد
زادوا في ذلك شرطاً وهو أن يعاقده ويواليه فإن أسلم على
يده ولم يعاقده ولم يواله فلا شيء له.
(4/103)
وقال إسحاق بن راهويه كقول أبي حنيفة
وأصحابه إلاّ أنه لم يذكر الموالاة.
قلت ودلالة الحديث مبهمة وليس فيه أن يرثه إنما فيه أنه
أولى الناس بمحياه ومماته، وقد يحتمل أن يكون ذلك في
الميراث ويحتمل أنه يكون ذلك في رعي الذمام والايثار بالبر
وما أشبههما من الأمور، وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم
الولاء لمن أعتق، وقال أكثر الفقهاء لا يرثه وضعف أحمد بن
حنبل حديث تميم الداري هذا وقال: عبد العزيز راويه ليس من
أهل الحفظ والاتقان.
ومن باب بيع الولاء
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن
دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته.
قال الشيخ: قال ابن الأعرابي محمد بن زياد كانت العرب تبيع
ولاء مواليها وتأخذ عليه المال وأنشد في ذلك:
فباعوه مملوكاً وباعوه معتقاً ... فليس له حتى الممات خلاص
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قلت وهذا كالإجماع من أهل العلم؛ إلاّ أنه قد روي عن
ميمونه أنها كانت وهبت ولاء مواليها من العباس أو من ابن
عباس رضي الله عنهما.
قال الشيخ: وسمعت أبا الوليد حسان بن محمد يذكر أن الذي
وهبته ميمونه من الولاء كان ولاء سابية. وولاء السابية قد
اختلف فيه أهل العلم.
ومن باب المولود يستهل ثم يموت
قال أبو داود: حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا
محمد، يَعني ابن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عَن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استهل
المولود وُرِّث.
(4/104)
قال الشيخ: قوله استهل معناه رفع صوته بأن
يصرخ أو يبكي وكل من رفع صوته بشيء فقد استهل به.
قلت ومعنى الاستهلال ههنا أن يوجد مع المولود أمارة الحياة
فلو لم يتفق أن يكون منه الاستهلال وهو رفع الصوت وكان منه
حركة أو عطاس أو تنفس أو بعض ما لا يكون ذلك إلاّ من حي
فانه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. إلى هذا ذهب
سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحسبه قول أبي حنيفة
وأصحابه وقال مالك بن أنس لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما
لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة
أنهم قالوا لا يورث المولود حتى يستهل.
ومن باب في الحِلْفِ
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عاصم الأحول قال
سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثاً.
قال الشيخ: كان سفيان بن عيينة يقول معنى حالف آخى ولا حلف
في الإسلام كما جاء في الحديث.
ومن باب المرأة ترث من دية
زوجها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان عن الزهري
عن سعيد قال كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول الدية
للعاقلة لا ترث المرأه من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن
سفيان كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث
امرأة أشْيم
(4/105)
الضبابي من دية زوجها فرجع عمر عنه.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن دية القتيل كسائر ماله يرثها
من يرث تركته وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن القتيل إذا
عفا عن الدية كان عفوه جائزاً في ثلث ماله لأنه قد ملكه،
وهذا إنما يجور في قتل الخطأ لأن الوصية بالدية إنما تقع
للعاقلة الذين يغرمون الدية دون قتل العمد لأن الوصية فيه
إنما تقع للقاتل ولا وصية لقاتل كالميراث.
وإنما كان يذهب عمر رضي الله عنه في قوله الأول إلى ظاهر
القياس وذلك أن المقتول لا تجب ديته إلاّ بعد موته وإذا
مات فقد بطل ملكه، فلما بلغته السنة ترك الرأي وصار إلى
السنة، وكان مذهب عمر رضي الله عنه أن الدية للعاقلة الذين
يعقلون عنه إلى أن بلغه الخبر فانتهى إليه. |