معالم السنن

كتاب الأدب
ومن باب في الوقار
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال إن الهَدْي الصالح والسمْت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة.
قال الشيخ: هدي الرجل حاله ومذهبه وكذلك سمته. وأصل السمت الطريق المنقاد والاقتصاد سلوك القصد في الأمر والدخول فيه برفق وعلى سبيل يمكن الدوام عليه كما روي أنه قال خير الأعمال أدومها وإن قل.
يريد أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء صلوات الله عليهم ومن الخصال

(4/106)


المعدودة من خصالهم وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها، وليس معنى الحديث أن النبوه تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة مكتسبة ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله سبحانه وخصوصية لمن أراد إكرامه بها من عباده والله يعلم حيث يجعل رسالاته وقد انقطعت النبوة بموت محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى النبوة ههنا ما جاءت به النبوة ودعت إليه الأنبياء صلوات الله عليهم. يريد أن هذه الخلال جزء من خمسة وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوات ودعا إليه الأنبياء صلوات الله عليهم.
وقد أمرنا باتباعهم في قوله عز وجل {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 9] .
وقد يحتمل وجهاً آخر وهو أن من اجتمعت له هذه الخلال لقيه الناس بالتعظيم والتوقير وألبسه الله لباس التقوى الذي يلبسه أنبياؤه فكأنها جزء من النبوة والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون الصُّرَعَة فيكم قالوا الذي لا يصرعه الرجال، قال لا ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب.
قال الشيخ: الصرعة مفتوحة الراء هو الذي يصرع الرجال ويغلبهم في الصراع ومثله رجل خدعة إذا كان خداعاً للناس ولعبة إذا كان كثير اللعب، فأما اللعبة ساكنة العين فهو اسم الشيء الذي يلعب به، واللعبة مكسورة اللام الحال والهيئة في اللعب كالجلسة والقعدة والركبة ونحوها.

(4/107)


قال أبو داود: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إلي أن أنفه يتمزع من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لوقالها لذهب عنه ما يجد من الغضب فقال ما هي يا رسول الله، قال يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال الشيخ: قوله يتمزع أي يتشقق ويتقطع والمزعة القطعة من الشيء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند، عَن أبي حرب بن أبي الأسود، عَن أبي ذر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع.
قال الشيخ: القائم متهيىء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا تبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد والله أعلم.

ومن باب حسن العشرة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق حدثنا بشر بن أبي رافع عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن غِر كريم والفاجر خَب لئيم.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن المؤمن المحمود هو من كان طبعه وشيمته الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه وإن ذلك ليس منه جهلاً لكنه كرم وحسن خلق وإن الفاجر من كانت عادته الخب والدهاء والوغول في معرفة الشر وليس ذلك منه عقلاً لكنه خب ولؤم.

(4/108)


قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه فلما خرج قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذن قلت بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسطت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الله عز وجل لا يحب الفاحش المتفحش.
قال الشيخ: أصل الفحش زيادة الشيء على مقداره ومن هذا قول الفقهاء يصلي في الثوب الذي أصابه الدم إذا لم يكن فاحشاً أي كثيراً مجاوزاً للقدر الذي يتعافاه الناس فيما بينهم.
يقول صلى الله عليه وسلم إن استقبال المرء صاحبه بعيوبه افحاش والله لا يحب الفحش، ولكن الواجب أن يتأنى له ويرفق به ويكني في القول ويوري ولا يصرح.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره بالعيب الذي عرفه به قبل أن يدخل وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يجري مجرى الغيبة، وإنما فيه تعريف الناس أمره وزجرهم عن مثل
مذهبه، ولعله قد تجاهر بسوء فعاله ومذهبه ولا غيبة لمجاهر والله أعلم.

ومن باب في الحياء
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن شعبة عن منصور عن رِبْعِيّ بنِ حِِرَاش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
قال الشيخ: معنى قوله النبوة الأولى أن الحياء لم يزل أمره ثابتاً واستعماله واجباً منذ زمان النبوة الأولى وأنه ما من نبي إلاّ وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم ولم يبدل فيما بدل منها؛ وذلك أنه أمر

(4/109)


قد علم صوابه وبان فضله واتفقت العقول على حسنه وما كان هذا صفته لم يجز عليه النسخ والتبديل. وقوله فافعل ما شئت فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن يكون معناه الخبر وإن كان لفظه لفظ الأمر كأنه يقول إذا لم يمنعك الحياء فعلت ما شئت أي ما تدعوك إليه نفسك من القبيح، وإلى نحو من هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام رحمة الله عليه.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى معناه الوعيد كقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] .
وقال أبو إسحاق المروزي فقيه الشافعية معناه أن ينظر فإذا كان الشيء الذي يريد أن يفعله مما لا يستحى منه فافعله، يريد أن ما يستحى منه فلا يفعله.

ومن باب حسن الخلق
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي حدثنا سليمان بن حبيب المحاربى، عَن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
قال الشيخ: الزعيم الضامن والكفيل والزعامة الكفالة ومنه قول الله سبحانه {وأنا به زعيم} [يوسف: 72] والبيت ههنا القصر أخبرني أبو عمر أخبرنا أبو العباس عن ابن الأعرابي، قال البيت القصر يقال هذا بيت فلان أي قصره.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة الجَوَّاظ ولا الجَعْظَرِي. قال والجواظ الغليظ الفظ.
قال الشيخ: الجعظري فسره أبو زيد فقال هو الذي يتنفخ بما ليس عنده

(4/110)


وهو إلى القصر ما هو، قال الأصمعي وهو الجمظار أيضاً، قال أبو زيد والجواظ الكثير اللحم المختال في مشيه.
قلت وهو معنى ما جاء من تفسيره في الحديث أو قريب منه.

ومن باب كراهية التمادح
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام قال جاء رجل فأثنى على عثمان رضي الله عنه في وجهه فأخذ المقداد بن الأسود تراباً فحثا في وجهه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب.
قال الشيخ: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيباً له في أمثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء به في اشباهه فليس بمداح وإن كان قد صار مادحاً بما تكلم به من جميل القول فيه.
وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره وحمله على وجهه في تناول عين التراب بيده وحثيه في وجه المادح.
وقد يتأول أيضاً على وجه آخر وهو أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه. كني بالتراب عن الحرمان كقولهم ما له غير التراب وما في يده غير التَيْرب، وكقوله صلى الله عليه وسلم إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً، وكقوله وللعاهر الحجر ومثله كثير في الكلام.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر، يَعني ابن المفضل حدثنا أبو مسلمة سعيد

(4/111)


بن يزيد، عَن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا، فقال السيد الله عز وجل قلنا وافضلنا فضلاً وأعظمنا طَولاً، قال فقولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان.
قال الشيخ: قوله السيد الله يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل وأن الخلق كلهم عبيد له، وإنما منعهم فيما نرى أن يدعوه سيداً مع قوله أنا سيد ولد آدم وقوله لبني قريظة قوموا إلى سيدكم يريد سعد بن معاذ من أجل أنهم قوم حديث عهدهم بالإسلام وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كهي بأسباب الدنيا وكان لهم رؤساء يعظمونهم وينقادون لأمرهم ويسمونهم السادات فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى الأدب في ذلك. فقال قولوا بقولكم. يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم وادعوني نبياً ورسولاً كما سماني الله عز وجل في كتابه فقال «يا أيها النبي، يا أيها الرسول» ولا تسموني سيداً كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم فإني لست كأحدهم إذ كانوا يَسُودونكم بأسباب الدنيا وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة فسموني نبياً ورسولاً.
وقوله بعض قولكم فيه حذف واختصار ومعناه دعوا بعض قولكم واتركوه يريد بذلك الاقتصار في المقال. قال الشاعر:
فبعض القول عاذلتي فإني ... سيكفيني التجارب وانتسابي
وقوله لا يستجرينكم الشيطان، معناه لا يتخذنكم جَرِيّاً والجري الوكيل ويقال الأجير أيضاً.

(4/112)


ومن باب في الرفق
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزاز قالوا حدثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التِّلاع وأنه أراد البداوة مرة فأرسل إليَّ ناقة مُحرَّمة من إبل الصدقة فقال لي يا عائشة ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلاّ زانه ولا نزع من شيء قط إلاّ شانه.
قال الشيخ: البداوة الخروج إلى البادية والمقام بها وفيها لغتان فتح الباء وكسرها والتلاع مجاري الماء من فوق إلى أسفل واحدتها تلعة.
والمحرمة هي التي قد اقتضبت ركوبها لم تذلل ولم ترض، ومن هذا قولهم أعرابي محرم إذا كان أول ما يدخل المصر لم يخالط الناس ولم يجالسهم.

ومن باب شكر المعروف
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
قال الشيخ: هذا الكلام يتأول على وجهين أحدهما أن من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له سبحانه.
والوجه الاخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي

(4/113)


سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أُبلي فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره.
الإبلاء الانعام ويقال أبليت الرجل وأبليت عنده بلاء حسناً قال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلوا

ومن باب في التحلق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الأعمش حدثنا المسيب بن رافع عن تميم بن طَرفة عن جابر بن سمرة قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حِلَق فقال ما لي أراكم عِزينَ.
قال الشيخ: قوله عزين يريد فرقاً مختلفين لا يجمعكم مجلس واحد.
وواحد العزين عزة يقال عزة وعزون كما قالوا ثِبة وثبون، ويقال أيضاَ ثبات وهي الجماعات المتميزة بعضها عن بعض.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة حدثني أبو مجلز عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة.
قال الشيخ: هذا يتأول فيمن يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد وسطها ولا يقعد حيث ينتهي به المجلس فلعن للأذى، وقد يكون في ذلك أنه إذا قعد وسط الحلقة حال بين الوجوه وحجب بعضهم من بعض فيتضررون بمكانه وبمقعده هناك.

ومن باب من يؤمر أن يُجالس
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أنبأنا ابن المبارك عن حيْوة بن شُريح عن سالم بن غَيلان عن الوليد بن قيس عن أبى سعيد أو، عَن أبي الهيثم، عَن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصاحب إلاّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي.

(4/114)


قال الشيخ: هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاج وذلك أن الله سبحانه قال {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان: 8] ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته فان المطاعمة توقع الالفة والمودة في القلوب يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا تتخذه جليساً تطاعمه وتنادمه.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جعفر، يَعني ابن برقان عن يزيد بن الأصم، عَن أبي هريرة يرفعه قال: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
قال الشيخ: معنى الحديث الاخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد التي هي ملابستها على ما روي في الحديث ان الله خلق الأرواح قبل الأجساد بكذا كذا عاماً فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت أول ما خلقت على قسمين من ائتلاف أو اختلاف كالجنود المجندة إذا تقابلت وتواجهت.
ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة في مبدأ الكون والخلقة كما روي في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الملك إذا أراد أن ينفخ الروح في النسمة قال يا رب أسعيد أم شقي، أكافر أم مؤمن. يقول صلى الله عليه وسلم إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما جعلت عليه من التشاكل أو التنافر في بدء الخلقة ولذلك ترى البَر الخير يحب شكله ويحن إلى قربه وينفر عن ضده، وكذلك الرَّهِق الفاجر يألف شِكله ويستحسن فعله وينحرف عن ضده.

(4/115)


وفي هذا دليل على أن الأرواح ليست بأعراض وأنها كانت موجودة قبل الأجساد وأنها تبقى بعد فناء الأجساد ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم أرواح الشهداء في صور طير خضر تَعلق من ثمر الجنة.

ومن باب في كراهية المراء
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد عن قائد السائب قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليّ ويذكرونني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم، يَعني به فقلت صدقت بأبي وأمي كنت شريكي فنعم الشريك كنت لا تُداري ولا تُماري.
قال الشيخ: قوله لا تداري، يَعني لا تخالف ولا تمانع، وأصل الدرء الدفع يصفه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق والسهولة في المعاملة.
وقوله لا تماري يريد المراء والخصومة.

ومن باب الهدي في الكلام
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة قال زعم الوليد عن الأوزاعي عن قُرة عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم.
قال الشيخ: قوله أجذم معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له وفسره أبوعبيد فقال الأجذم المقطوع اليد.
وقال ابن قتيبة الأجذم بمعنى المجذوم في قوله صلى الله عليه وسلم من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم.

(4/116)


ومن باب جلوس الرجل
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا عبد الله بن حسان العنبري حدثتني جدتاي صفية ودُحيبة ابنتا عليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء وذكر الحديث.
القرفصاء جلسة المحتبي وليس هو الذي يحتبي بثوبه لكنه الذي يحتبي بيديه.

ومن باب التناجي
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن شقيق عن الأعمش عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه.
قال الشيخ: إنما يحزنه ذلك لأحد معنيين إحداهما أنه ربما يتوهم أن نجواهما إنما هو لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له.
والمعنى الآخر أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو محزن صاحبه.
وسمعت ابن أبي هريرة يحكي، عَن أبي عبيد بن حرب أنه قال هذا في السفر وفي الموضع الذي لا يأمن الرجل فيه صاحبه على نفسه. فأما في الحضر وبين ظهراني العمارة فلا بأس به والله أعلم.

ومن باب إذا قام من مجلسه ثم رجع
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة.

(4/117)


قال الشيخ: أصل الترة النقص ومعناها ههنا التبعة يقال وترت الرجل ترة على وزن وعدته عدة، ومنه قول الله سبحانه {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] .
وقد روي في هذا الحديث من طريق آخر ما من قوم يقومون عن مجلس لا يذكرون الله إلاّ قاموا عن مثل جيفه وكان لهم حسرة.

ومن باب في الحذر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا نوح بن يزيد بن سيار المؤدب حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنيه ابن إسحاق عن عيسى بن معمر عن عبد الله بن عمر بن الفغواء الخزاعي عن أبيه قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح، فقال التمس صاحباً قال فجاءني عمرو بن أمية الضمري فقال بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحباً قلت أجل قال فأنا لك صاحب، قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال إذا هبطت بلاد قومه فاحذره فإنه قد قال القائل أخوك البكري فلا تأمنه وذكر القصة إلى أن قال فشددت على بعيري حتى خرجت أوضعه حتى إذا كنت بالأصافر إذا هو يعارضني في رهط قال وأوضعت فسبقته.
قال الشيخ: الإيضاع الاسراع في السير، وقوله أخوك البكري فلا تأمنه مثل مشهور للعرب.
وفيه إثبات الحذر واستعمال سوء الظن وأن ذلك إذا كان على وجه طلب السلامة من شر الناس لم يأثم به صاحبه ولم يحرج فيه.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن

(4/118)


من جحر واحد مرتين.
قال الشيخ: هذا يروى على وجهين من الإعراب أحدهما بضم الغين على مذهب الخبر ومعناه أن المؤمن الممدوح هو الكيس الحازم الذي لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى وهو لا يفطن بذلك ولا يشعر به.
وقيل أنه اراد به الخداع في أمر الاخرة دون أمر الدنيا.
والوجه الآخر أن يكون الرواية بكسر الغين على مذهب النهي يقول لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه أو شر وهو لا يشعر وليكن متيقظاً حذراً، وهذا قد يصلح أن يكون في أمر الدنيا والآخرة معاً والله أعلم.

ومن باب في هدي الرجل
قال أبو داود: حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد الجريري، عَن أبي الطفيل قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت كيف رأيته قال كان أبيض مليحاً إذا مشى كأنما يهوي في صَبُوب.
قال الشيخ: الصبوب إذا فتحت الصاد كان اسماً لما يصب على الإنسان من ماء ونحوه ومما جاء على وزسنه الطهور والغسول والفطور لما يفطر.
ومن رواه الصبوب بضم الصاد على أنه جمع الصبب وهو ما انحدر من الأرض فقد خالف القياس لأن باب فعل لا يجمع على فعول وإنما يجمع على أفعال كسبب وأسباب وقتب وأقتاب، وقد جاء في أكثر الروايات كأنه يمشي في صبب وهو المحفوط.
وقوله يهوي معناه ينزل ويتدلى وذلك مشية القوي من الرجال يقال هوى

(4/119)


الشيء يهوي إذا نزل من فوق إلى أسفل وهوى يهوي بمعنى صعد، وإنما يختلفان في المصدر فيقال هَوى هوياً بفتح الهاء إذا نزل وهُوياً بضمها إذا صعد.
أنشدني أبو رجاء الغنوي قال أنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى.
والدلو في اصعادها عجل الهوي

ومن باب الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث، عَن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أراه عن سعيد بن المسيب عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى.
قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما نهى عن ذلك من أجل انكشاف العورة إذ كان لباسهم الازر دون السراويلات. والغالب أن ازرهم غير سابغة والمستلقي إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى مع ضيق الإزار لم يسلم أن ينكشف شيء من فخذه والفخذ عورة، فأما إذا كان الإزار سابغاً أو كان لابسه عن التكشف متوقياً فلا بأس به وهو وجه الجمع بين الخبرين والله أعلم.

ومن باب في القتات
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قتات.
قال الشيخ: القتات النمام وهو للقساس أيضاً، والنميمة نقل الحديث على وجه

(4/120)


التضرية بين المرء وصاحبه.
قلت وإذا كان الناقل لما يسمعه آثماً فالكاذب القائل ما لم يسمعه أشد إثماً وأسوأ حالاً.

ومن باب الانتصار
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا ابن عون حدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن زينب بنت جش أقبلت تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت فقال لعائشة سبيها فسبتها فغلبتها.
قال الشيخ: قولها تقحم معناه تعرض لشتمها وتتدخل عليها، ومنه قولهم فلان يتقحم في الأمور إذا كان يقع فيها من غير تثبت ولا روية.
وفيه من العلم إباحة الانتصار بالقول ممن سبك من غير عدوان في الجواب.

ومن باب الحسد
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة ذفيفة وذكر الحديث.
قال الشيخ: والذفيفة الخفيفة يقال رجل خفيف ذفيف وخفاف ذفاف بمعنى واحد.

ومن باب الرجل يدعو على من ظلمه
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن حبيب

(4/121)


عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها سُرق لها شيء فجعلت تدعو عليه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبخي عنه.
قال الشيخ: قوله لا تسبخي معناه لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه، ومن هذا سبائخ القطن وهي القطع المتطايرة عن الندف، وقال أعرابي في كلامه الحمد لله على تسبيخ العروق وإساغة الريق.

ومن باب النهي عن التهاجر
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال.
قال الشيخ: قوله لا تدابروا معناه التهاجر والتصارم مأخوذ من تولية الرجل دبره أخاه إذا رآه وإعراضه عنه.
وقال مؤرخ قوله ولا تدابروا معناه آسوا ولا تستأثروا واحتج بقول الأعشى:
ومستدبر بالذي عنده ... عن العاذلات وارشادها
وقال بعضهم إنما قيل للمستاثر مستدبر لأنه يولي أصحابه إذا استأثر بشيء دونهم.
وأما الهجران أكثر من ذلك فإنما جاء ذلك في هجران الرجل أخاه في عتب وموجدة أو لنبوة تكون منه فرخص له في مدة ثلاث لقلتها وجعل ما وراءها تحت الحظر.
فأما هجران الولد الوالد والزوج الزوجة ومن كان في معناهما فلا يضيق أكثر من ثلاث وقد هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا.

(4/122)


ومن باب الظن
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولاتحسسوا.
قال الشيخ: قوله إياكم والظن يريد إياكم وسوء الظن وتحقيقه دون مبادىء الظنون التي لا تملك. وقوله لا تجسسوا معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوا أخبارهم، والتحسس بالحاء طلب الخبر ومنه قوله سبحانه {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 87] ويقال تجسست الخبر وتحسست بمعنى واحد.

ومن باب اصلاح ذات البين
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي حدثنا أبو الأسود عن نافع يعنى ابن يزيد عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلاّ في ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا أعده كذباً الرجل يصلح بين الناس ويقول القول لا يريد به إلاّ الإصلاح والرجل يقول في الحرب والرجل يحدث امرأنه والمرأة تحدث زوجها.
قال الشيخ: هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول ومجاوزة الصدق طلباً للسلامة ودفعاً للضرر عن نفسه، وقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد لما يؤمل فيه من الصلاح. والكذب في الإصلاح بين اثنين هو أن ينمي من أحدهما إلى صاحبه خيراً أو يبلغه جميلاً وإن لم يكن سمعه منه ولا كان إذناً له فيه يريد بذلك الإصلاح. والكذب في الحرب هو أن يظهر

(4/123)


من نفسه قوة ويتحدث بما يشحذ به بصيرة أصحابه ويقوي منتهم ويكيد به عدوهم في نحو ذلك من الأمور.
وقد روي عن النبي وص أنه قال الحرب خدعة وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كثيرا ما يقول في حروبه صدق الله ورسوله فيتوهم أصحابه أنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول إنما أنا رجل محارب.
فأما كذب الرجل زوجته فهو أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك محبتها ويستصلح به خلقها.

ومن باب كراهية الغناء والزمر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله الغداني حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر رضي الله عنه مزماراً فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق، فقال يا نافع هل تسمع شيئاً قال فقلت لا، قال فرفع اصبعيه من أذنيه وقال إذ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا صنع مثل هذا.
قال الشيخ: المزمار الذي سمعه ابن عمر رضي الله عنه هو صفارة الرعاة، وقد جاء ذلك مذكوراً في هذا الحديث من غير هذه الرواية، وهذا وإن كان مكروهاً فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون ولو كان كذلك لأشبه أن لا يقتصر في ذلك على سد المسامع فقط دون أن يبلغ فيه من النكير مبلغ الردع والتنكيل والله أعلم.

(4/124)


ومن باب اللعب بالبنات
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر. وذكر الحديث.
قال الشيخ: السهوة عن الأصمعي كالصفة تكون بين يدي البيت، وقال غيره السهوة شبيهة بالرف والطاق يوضع فيه الشيء.

ومن باب الأرجوحة
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد، يَعني ابن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن قال قالت عائشة رضي الله عنها قدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج قالت فوالله إني لعلى أرجوحة بين عذقين فجاءتني أمي فأنزلتني ولي جميمة وذكر الحديث.
قال الشيخ: تريد بالعذقين نخلتين، والعذق بفتح العين النخلة؛ العذق بكسرها الكباسة والجميمة تصغير الجمة من الشعر.

ومن باب النصيحة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الدين النصيحة إن الدين النصيحنة، إن الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين وعامتهم.
قال الشيخ: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس

(4/125)


يمكن أن يعبر هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غيرها، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال نصحت العسل إذا خلصته من الشمع.
فمعنى نصيحة لله سبحانه صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته والنصيحة لكتاب الله الإيمان به والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه والنصيحة لأئمة المؤمنين أن يطيعهم في الحق وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم.

ومن باب تغيير الأسماء
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني أنبأنا محمد بن المهاجر حدثني عقيل بن شبيب، عَن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة.
قال الشيخ: إنما صار الحارث من أصدق الأسماء من أجل مطابقة الاسم معناه الذي اشتق منه وذلك أن معنى الحارث الكاسب يقال حرث الرجل إذا كسب واحتراث المال كسبه ومنه قول امرىء القيس:
ومن يحترث حرثي وحرثك يُهزل
وقال سبحانه {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} [الشورى: 20] .
وأما همام فهو من هممت بالشيء إذا أردته وليس من أحد إلاّ وهو يهتم بشيء وهو معنى الصدق الذي وصف به هذان الاسمان، وأقبحها حرب لما في الحرب

(4/126)


من المكاره وفي مرة من البشاعة والمرارة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد والنبي صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيراً له وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله يهنأ معناه يطليه بالقطران ويعالجه به والهناء القطران.

ومن باب تغيير الاسم القبيح
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر حدثني بشير بن ميمون عن عمه أسامة بن اخدري أن رجلاً يقال له اصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمك قال أنا أصرم قال بل أنت زرعة.
قال الشيخ: إنما غير اسم الأصرم لما فيه من معنى الصرم وهو القطيعة يقال صرمت الحبل إذا قطعته وصرمت النخلة إذا جذذت ثمرها.
قال أبو داود: وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحُباب وشهاب وارض تسمى عفرة فسماها خضرة.
قال الشيخ: أما العاص فانما غيره كراهة لمعنى العصيان وإنما سمة المؤمن الطاعة والاستسلام، وعزيز إنما غيره لأن العزة لله سبحانه وشعار العبد الذلة والاستكانة وقد قال سبحانه عندما يقرع بعض أعدائه {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] وعتلة معناها الشدة والغلظة، ومنه قولهم رجل عتل أي شديد غليظ ومن صفة المؤمن اللين والسهولة، وقال صلى الله عليه وسلم المؤمنون هينون، وشيطان اشتقاقه من الشطن وهو البعد من الخير، وهو اسم المارد الخبيث من الجن والانس،

(4/127)


والحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لم يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله سبحانه ومن أسمائه الحكم.
وغراب مأخوذ من الغرب وهو البعد. ثم هوحيوان خبيث الفعل خبيث الطعم وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحل والحرم.
وحباب نوع من الحيات وقد روي أن الحباب اسم الشيطان فقيل أنه أراد به المارد الخبيث من شياطين الجن، وقيل إن نوعاً من الحيات يقال لها الشياطين ومن ذلك قوله تبارك وتعالى {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} [الصافات: 65] والشهاب شعلة من النار والنار عقوبة الله سبحانه وهي محرقة مهلكة.
وأما عفرة فهي نعت للأرض التي لا تنبت شيئاً أخذت من العفرة وهي لون الأرض فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتمرع.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي أنبأنا زهير حدثنا منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن ربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح فانك تقول اثم هو فيقول لا إنما هن أربع فلا تزيدن عليّ.
قال الشيخ: قد بين النبي صلى الله عليه وسلم المعنى في ذلك وذكر العلة التي من أجلها وقع النهي عن التسمية بها وذلك أنهم كانوا يقصدون بهذه الأسماء وبما في معانيها أما التبرك بها أو التفاؤل بحسن ألفاظها فحذرهم أن يفعلوه لئلا ينقلب عليهم ما قصدوه في هذه التسميات إلى الضد وذلك إذا سألوا، فقالوا اثم يسار اثم رباح فإذا قيل لا تطيروا بذلك وتشاءموا به واضمروا على الأياس من اليسر والرباح، فنهاهم عن السبب الذي يجلب لهم سوء الظن بالله سبحانه ويورثهم الأياس من خيره.

(4/128)


قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك.
قال الشيخ: قوله أخنع معناه أوضع وأذل والخنوع الذلة والاستكانة.
وأخبرني أبو محمد عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا المنقري حدثنا الأصمعي قال سمعت أعرابياً يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من الخنوع والقنوع وما يغض طرف المرء ويغري به لئام الناس، فالخنوع الذل والقنوع المسألة.
ومنه قول الله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] .

ومن باب الرجل يتكنى وليس له ولد
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير وكان له نُغر يلعب به فمات فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرآه حزيناً فقال ما شأنه قالوا مات نغره فقال يا أبا عمير ما فعل النغير.
قال الشيخ: النغر طائر صغير ويجمع على النغران وأنشدني أبو عمر:
يحملن أوعية السلاف كأنما ... يحملنه بأكارع النغران
وفيه من الفقه أن صيد المدينة مباح، وفيه إباحة السجع في الكلام.
وفيه جواز الدعابة ما لم يكن آثماً. وفيه إباحة تصغير الأسماء. وفيه أنه كناه ولم يكن له ولد فلم يدخل في باب الكذب.
وقوله يلعب به أي يتلهى بحبسه وإمساكه.

(4/129)


ومن باب الرجل يقول زعموا
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس مطية الرجل زعموا.
قال الشيخ: أصل هذا أن الرجل إذا أراد الظعن في حاجة والمسير إلى بلد ركب مطيته وسار حتى يبلغ حاجته فشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدمه الرجل أمام كلامه ويتوصل به إلى حاجته من قولهم زعموا بالمطية التي يتوصل بها إلى الموضع الذي يؤمه ويقصده، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه وإنما هو شيء يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون معزياً إلى ثبت ومروياً عن ثقة وقد قيل الراوية أحد الكاذبين.

ومن باب في حفظ المنطق
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود حدثنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج، عَن أبي هريرة عن رسول الله قال: لا يقولن أحدكم الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم ولكن قولوا حدائق الأعناب.
قال الشيخ: إنما نهاهم عن تسمية هذه الشجرة كرماً لأن هذا الاسم عندهم مشتق من الكرم، والعرب يقول رجل كرم بمعنى كريم وقوم كرم أي كرام ومنه قول الشاعر:
فتنبو العين عن كرم عجاف
ثم تسكن الراء منه فيقال كرم فأشفق صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم حسن اسمها إلى شرب

(4/130)


الخمر المتخذة من ثمرها فسلبها هذا الاسم وجعله صفة للمسلم الذي يتوقى شربها ويمنع نفسه الشهوة فيها عزة وتكرماً، وقد ذكرت هذا في كتاب غريب الحديث وأشبعت شرحه هناك.

ومن باب لا يقال خبثت نفسي
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب، عَن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي وليقل لقِست نفسي.
قال الشيخ: قوله لقست نفسي وخبثت معناهما واحد وإنما كره من ذلك لفظ الخبث وبشاعة الاسم منه وعلمهم الأدب في المنطق وأرشدهم إلى استعمال الحسن وهجران القبيح منه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان بن سعيد حدثني عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم أن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله ومن يعصهما فقال قم أو قال اذهب فبئس الخطيب أنت.
قال الشيخ: إنما كره من ذلك الجمع بين الاسمين تحت حرفي الكناية لما فيه من التسوية.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن منصور عن عبد الله بن بشار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان.
قال الشيخ: فهذا قريب المعنى من الأول وذلك أن الواو حرف الجمع والتشريك وثم حرف النسق بشرط التراخي فأرشدهم إلى الأدب في تقديم

(4/131)


مشيئة الله سبحانه على مشيئة من سواه.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل بن صالح، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول قد فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك من الكلام يقول صلى الله عليه وسلم إذا فعل الرجل ذلك فهو أهلكهم وأسوأهم حالاً مما يلحقه من الإثم في عيبهم والازراء بهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه فيرى أن له فضلاً عليهم وأنه خير منهم فيهلك.

ومن باب في صلاة العتمة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان عن ابن أبي لبيد، عَن أبي سلمة قال سمعت ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم الا وأنها العشاء ولكنهم يعتمون بالإبل.
قال الشيخ: قوله يعتمون معناه يؤخرون حلب الإبل ويسمون الصلاة باسم وقت الحلاب، ويقال فلان عاتم القرى إذا كان إذا نزل به الأضياف لم يعجل قراهم.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس قال كان فزع بالمدينة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة، فقال ما رأينا شيئاً أو ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحراً.
قال الشيخ: في هذا إباحة التوسع في الكلام وتشبيه الشيء بالشيء الذي له تعلق ببعض معانيه وإن لم يستوف أوصافه كلها.

(4/132)


وقال إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي إنما شبه الفرس بالبحر لأنه أراد أن جريه كجري ماء البحر أو لأنه أراد أن جريه كجري ماء البحر أو لأنه يسبح في جريه كالبحر إذا ماج فعلا بعض مائه فوق بعض.
قلت: ويقال في نعوت الفرس بحر وحت وسكب إذا كان واسع الجري قاله الأصمعي.

ومن باب التشديد في الكذب
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود (ح) قال وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش، عَن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة.
قال الشيخ: هذا تأويل قوله سبحانه {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} [الانفطار: 14] .
وأصل الفجور الميل عن الصدق والانحراف إلى الكذب، ومنه قول الاعرابي في عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما أن بها من نقَب ولا دبر
* اغفر له اللهم إن كان فجر *
يريد إن كان مال عن الصدق فيما قاله.

ومن باب في حسن الظن
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر

(4/133)


عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته وقمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما انها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله برسول الله، قال الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً.
قال الشيخ: فيه من العلم استحباب أن يتحرز الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون ويخطر بالقلوب وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءة من الريب.
ويحكى عن الشافعي رحمه الله في هذا أنه قال خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلوبهما شيء من أمره فيكفرا وإنما قال ذلك لهما شفقة عليهما لا على نفسه.

ومن باب من تشبع بما لم يُعط
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة قالت يا رسول الله إن لي جارة تعني ضرة فهل عليّ جناح إن تشبعت لها بما لم يعط زوحي قال المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
قال الشيخ: العرب تسمي امرأة الرجل جارته وتدعو الزوجتين الضرتين جارتين وذلك لقرب أشخاصهما كالجارتين المتصاقبتين في الدارين تسكنانهما، ومن هذا قول الأعشى لامرأته:
أجارتنا بيني فإنك طالقة
ومن هذا النحو قول امرىء القيس:

(4/134)


أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب
وقوله كلابس ثوبي زور يتأول على وجهين أحدهما أن الثوبين ههنا كأنه كناية عن حاله ومذهبه، وقد تكني العرب بالثوب عن حال لابسه وعن طريقه ومذهبه كقول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من ريبة أتقنع
والمعنى أن المتشبع بما لم يعط بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن.
والوجه الآخر ما يروى عن فلان أنه كان يكون في الحي الرجل له هيئة ونبل فإذا احتيج إلى شهادة زور شهد بها فلا يرد من أجل نبله وحسن ثوبيه فأضيف الشهادة إلى ثوبيه إذ كانا سبب جوازها ورواجها.

ومن باب في المزاج
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا شريك عن عاصم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين.
قال الشيخ: كان مزح النبي صلى الله عليه وسلم مزحاً لا يدخله الكذب والتزيد وكل إنسان له أذنان فهو صادق في وصفه إياه بذلك.
وقد يحتمل وجهاً آخر وهو أن لا يكون قصد بهذا القول المزاح وإنما معناه الحض والتنبيه على حسن الاستماع والتلقف لما يقوله ويعلمه إياه، وسماه ذا الأذنين إذ كان الاستماع إنما يكون بحاسة الأذن، وقد خلق الله تعالى له أذنين يسمع بكل واحدة منهما وجعلهما حجة عليه فلا يعذر معهما إن أغفل الاستماع له ولم يحسن الوعي له والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب عن عبد الله

(4/135)


بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً جاداً.
قال الشيخ: معناه أن يأخذه على وجه الهزل وسبيل المزح ثم يحبسه عنه ولا يرده فيصير ذلك جداً.

ومن باب تعليم الخطب
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن عبد الله بن المسيب عن الضحاك بن شرحبيل، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال والناس لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
قال الشيخ: صرف الكلام فضله وما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة ومن هذا سمي الفضل بين النقدين صرفاً.
وإنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لما يدخله من الرياء والتصنع ولما يخالطه من الكذب والتزيد وأمر صلى الله عليه وسلم أن يكون الكلام قصداً تلو الحاجة غير زائد عليها يوافق ظاهره باطنه وسره علنه.

ومن باب في الشعر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحراً وإن من الشعر حُكْمًا.
قال الشيخ: اختلف الناس في هذا وفي تأويله فقال بعضهم وجهه أنه ذم التصنع في الكلام والتكلف لتحسينه وتزويقه ليروق السامعين قوله ويستميل به قلوبهم فيحيل الشيء عن ظاهره ويزيله عن موضوعه إرادة التلبيس عليهم

(4/136)


فيصير ذلك بمنزلة السحر الذي هو أو نوع منه تخييل لما لا حقيقة له وتوهيم لما ليس له محصول والسحر منه مذموم وكذلك المشبه به.
وقال آخرون بل القصد به مدح البيان والحث على تخير الألفاظ والتأنق في الكلام. واحتج لذلك بقوله إن من الشعر لحكماً وذلك ما لا ريب فيه أنه على طريق المدح له وكذلك مصراعه الذي بإزائه لأن عادة البيان غالباً أن القرينين نظماً لا يفترقان حكماً.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلاً طلب إليه حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها فرقق له الكلام فيها حتى استمال به قلبه فأنجزها له ثم قال هذا هو السحر الحلال.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا سعيد بن محمد حدثنا أبو تميلة حدثنا أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من البيان سحراً وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حُكْمًا، وإن من القول عيالاً.
فقال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: أما قوله إن من البيان سحراً فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بحجته من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق.
وأما قوله إن من العلم جهلاً فيتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهله ذلك.
وأما قوله إن من الشعر حُكْمًا فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس.
وأما قوله إن من القول عيالاً فعرض كلامك أوحديثك على من ليس

(4/137)


من شأنه ولا يريده.
قلت هكذا رواه أبو داود من القول عيالاً ورواه غيره أن من القول عَيَلاً هكذا ذكره الأزهري عن المنذري.
قال حدثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي حدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو تميلة بإسناده، قال الأزهري قوله عيلاً من قولك علت الضالة أعيل عَيْلا وعَيَلا إذا لم تدر أي جهة تبغيها. قال أبوزيد كأنه لم يهتد لمن يطلب علمه فعرضه على من لا يريده.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان المصيصي لوين حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قوله ما نافح معناه دافع، ومن هذا قولهم نفحت الرجل بالسيف إذا تناولته من بعد ونفحته الدابة إذا أصابته بحد حافرها.

ومن باب الرؤيا
قال أبو داود: حدثعا محمد بن كثير حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن عبد الله بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام تحقيق أمرالرؤيا وتأكيده وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة.

(4/138)


وأنبأنا ابن الأعرابي حدثنا ابن أبي ميسرة حدثنا الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي وقرأ قوله تعالى {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} [الصافات: 120] .
فأما تحديد أجزائها بالعدد المذكور فقد قال في ذلك بعض أهل العلم قولاً زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي منذ بدء الوحي إلى أن مات ثلاثاً وعشرين سنة أقام بمكة منها ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين وكان يوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة ستة أشهر وهي نصف سنة فصارت هذه المدة جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
وقال بعض العلماء معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة.
وقال آخر معناه أنها جزء من أجزاء علم النبوة باق والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوة وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب عن أيوب عن محمد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب فأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً.
قال الشيخ: في اقتراب الزمان قولان أحدهما أنه قرب زمان الساعة ودنو وقتها.
والقول الآخر أن معنى اقتراب الزمان اعتداله واستواء الليل والنهار والمعبرون يزعمون أن أصدق الرؤيا ما كان في أيام الربيع ووقت اعتدال الليل والنهلر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع

(4/139)


بن عُدْس عن عمه أبي رزين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت قال وأحسبه قال ولا يقصها إلاّ على وادٍّ أو ذي رأي.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام حسن الارتياد لموضع الرؤيا واستعبارها العالم بها الموثوق برأيه وأمانته.
وقوله على رجل طائر مثل ومعناه أنها لا تستقر قرارها ما لم تعبر.
وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله لا يقصها إلاّ على وادٍ أو ذي رأي الواد لا يحب أن يستقبلك في تفسيرها إلاّ بما تحب وإن لم يكن عالماً بالعبارة ولم يعجل لك بما يغمك لا أن تعبيره يزيلها عما جعله الله عليه.
وأما ذو الرأي فمعناه ذو العلم بعبارتها فهو يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب ما يعلم منها ولعله أن يكون في تفسيره موعظة تردعك عن قبيح أنت عليه أو تكون فيها بشرى فتشكر الله على النعمة فيها.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها وليس بنافخ، ومن تحلّم كلف أن يعقد شعيرة ومن استمع إلى حديث قوم يفرون به منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة.
قال الشيخ: قوله تحلم معناه تكذب بما لم يره في منامه يقال حلم الرجل يحملم إذا رأى حلماً. وحلم بالضم إذا صار حليماً وحلم الأديم بكسر اللام حلماً.
ومعنى عقد الشعيرة أنه يكلف ما لا يكون ليطول عذابه في النار. وذلك أن عقد ما بين طرفي الشعيرة غير ممكن.
والآنك الأسرب.

(4/140)


ومن باب التثاؤب
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ولا يقول هاه هاه فإنما ذلكم من الشيطان يضحك منه.
قال الشيخ: معنى حب العطاس وحمده وكراهة التثاؤب وذمه أن العطاس إنما يكون مع أنفتاح المسام وخفة البدن وتيسير الحركات. وسبب هذه الأمور تخفيف الغذاء والإقلال من المطعم والاجتزاء باليسير منه، والتثاؤب إنما يكون مع ثقل البدن وامتلائه وعند استرخائه للنوم وميله إلى الكسل فصار العطاس محموداً لأنه يعين على الطاعات والتثاؤب مذموماً لأنه يثبطه عن الخيرات وقضاء الواجبات.

ومن باب تشميت العاطس
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان حدثنا سليمان التيمي عن أنس قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما وترك الاخر فقيل يا رسول الله رجلان عطسا فشمت أحدهما وتركت الاخر، فقال إن هذا حمد الله وإن هذا لم يحمد الله.
قال الشيخ: يقال شمت وسمت بمعنى واحد وهو أن يدعو للعاطس بالرحمة وفيه بيان أن تشميت من لم يحمد الله غير واجب.
وحكي عن الأوزاعي أنه عطس رجل بحضرته فلم يحمد الله، فقال له الأوزاعي كيف تقول إذا عطست، فقال أقول الحمد لله فقال له يرحمك الله وانما أراد

(4/141)


بذلك أن يستخرج منه الحمد ليستحق التشميت.

ومن باب ينبطح على بطنه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى ابن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال كان أبي من أصحاب الصفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا بنا إلى بيت عائشة فانطلقنا فقال يا عائشة أطعمينا فجاءت بجشيشة فأكلنا، ثم قال يا عائشة أطعمينا فجاءت بحيسة مثل القطا فأكلنا وذكر الحديث.
قال الشيخ: الحيس أخلاط من تمر وسمن وسويق وإقط يجمع فيؤكل والجشيشة ما يجش من الحب فيطبخ، والجش طحن خفيف وهو ما كان فوق الدقيق، وفيها لغة أخرى وهي الدشيشة، فأما الجذيذة فهي السويق.

ومن باب النوم على سطح ليس له ستر
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا سالم بن نوح عن عمر بن جابر الحنفي عن وعلة بن عبد الرحمن بن وثاب عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بات على ظهر بيت ليس عليه حَجاً فقد برئت منه الذمة.
قال الشيخ: هذا الحرف يروى بفتح الحاء وكسرها، ومعناه معنى الستر والحجاب فمن قال الحجا بكسر الحاء شبهه بالحجا الذي هو بمعنى العقل وذلك أن العقل يمنع الإنسان من الردى والفساد ويحفظه من التعرض للهلاك فشبه الستر الذي يكون على السطح المانع للإنسان من التردي والسقوط بالعقل المانع له من أفعال السوء المؤدية له إلى الردى والهلاك.

(4/142)


ومن رواه بفتح الحاء ذهب إلى الطرف والناحية، واحجاء الشيء نواحيه واحدها حجا مقصور.

ومن باب النوم على طهارة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا عاصم بن بهدلة عن شهر بن حوشب، عَن أبي ظبية عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعارّ من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والاخرة إلاّ أعطاه إياه.
قال الشيخ: قوله يتعار معناه يستيقظ من النوم، وأصل التعار السهر والتقلب على الفراش، يقال إن التعار لا يكون إلاّ مع كلام وصوت وهو مأخوذ من عِرار الظليم.

ومن باب ما يقول عند النوم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال سمعت منصور بن الحارث عن سعد بن عبيدة قال حدثني البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلاّ إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مُت مت على الفطرة.
قال الشيخ: الفطرة ههنا فطرة الدين والإسلام وقد تكون الفطرة أيضاً بمعنى السنة وهي ما جاء في الحديث أن عشراً من الفطرة فذكر منها المضمضة والاستنشاق مع سائر الخصال.

(4/143)


قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا يحيى بن حمزة عن ثور عن خالد بن معدان، عَن أبي الأزهر الأنماري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال بسم الله وضعت جنبي اللهم اغفر لي ذنبي واخسأ شيطاني وفكَّ رهاني واجعلني في الندى الأعلى.
قال أبو داود: رواه أبو همام الأهوازي عن ثور فقال أبو زهير الأنماري.
قال الشيخ: الندى القوم المجتمعون في مجلس ومثله النادي ويجمع على الأندية.
قال الراجز:
إني إذا ما القوم كانوا أندية
يريد بالندى الأعلى الملأ الأعلى من الملائكة.

ومن باب في التسبيح عند النوم
قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجُريري، عَن أبي الورد بن ثمامة قال: قال علي كرم الله وجهه وذكر فاطمة عليها السلام أنها جرت بالرحى حتى أثرت بيدها واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها وقمَّت البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت في القدر حتى دكنت ثيابها وأصابها من ذلك ضُر. وساق الحديث إلى أن قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في لِفاعنا وذكرت الحديث.
قال الشيخ: قوله قمت البيت معناه كنسته ومن ذلك سميت الكناسة قماماً واللفاع اللحطف وهو كل ما يتلفع به من كساء ونحو ذلك.
ومعنى التلفع الاشتمال بالثوب.

ومن باب ما يقول إذا أصبح
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي

(4/144)


عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يصبح وحين يمسي اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي أنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت. فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة.
قال الشيخ: قوله أبوء بنعمتك معناه الاعتراف بالنعمة والإقرار بها وأبوء بذنبي معناه الإقرار بها أيضاً كالأول، ولكن فيه معنى ليس في الأول تقول العرب باء فلان بذنبه إذا احتمله كرهاً لا يستطيع دفعه عن نفسه.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأسحر يقول سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا اللهم صاحِبْنا فأفضل علينا عائذاً بالله من النار.
قال الشيخ: قوله سمع سامع معناه شهد شاهد وحقيقته ليسمع السامع وليشهد الشاهد على حمدنا لله سبحانه على نعمه وحسن بلائه.
وقوله عائذاً بالله يحتمل وجهين أحدهما أن يريد أنا عائذ بالله، والوجه الآخر أن يريد متعوذاً بالله كما يقال مستجار بالله بوضع الفاعل مكان المفعول كقولهم سر كاتم وماء دافق بمعنى مدفوق ومسكوب.

ومن باب ما يقول إذا هاجت الريح
قال أبو داود: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئاً

(4/145)


في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة ثم يقول اللهم إني أعوذ بك من شرها، فإن مطرت قال اللهم صيباً هنيئاً.
قال الشيخ: الصيب ما سال من المطر وجرى، وأصله من صاب يصوب إذا نزل قال الله تعالى {أو كصيبٍ من السماء} [البقرة: 19] ووزنه فيعل من الصوب.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن زياد عن حابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقلوا الخروج بعد هدأة الرَّجل.
قال الشيخ: هدأة الرجل يريد به انقطاع الأرجل عن المشي في الطريق ليلاً وأصل الهدوء السكون.

ومن باب المولود
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن ابن جريج عن أبيه عن أم حميد عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رئي أو كلمة غيرها فيكم المغّرَّبون، قلت وما المغربون قال: الذين يشترك فيهم الجن.
قال الشيخ: إنما سموا مغربين لانقطاعهم عن أصولهم وبعد مناسبتهم وأصل الغرب البعد، ومنه قيل عنقاء مغرب أي جائية من بعد، ومنه سمي الغريب غريباً وذلك لبعده عن أهله وانقطاعه عن وطنه فسمي هؤلاء الذين اشترك فيهم الجن مغربين لما وجد فيهم من شبه الغرباء بمداخلة من ليس من جنسهم ولا على طباعهم وشكلهم.

(4/146)


ومن باب في رد الوسوسة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة قال جاءه أناس من أصحابه قالوا يا رسول الله نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به أو الكلام به قال أو قد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الإيمان.
قال الشيخ: قوله ذاك صريح الإيمان، معناه أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به حتى يصير ذلك وسوسة لا يتمكن في قلوبكم ولا تطمئن إليه أنفسكم وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله فكيف يكون إيماناً صريحاً، وقد روي في حديث آخر أنهم لما شكوا إليه ذلك قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة.
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف.
قال الشيخ: قوله بغير إذن مواليه ليس بشرط في جواز أن يفعل ذلك أو يستبيحه إذا أذن مواليه في ذلك، وإنما معناه أنه ليس له أن يوالي غير مواليه بحال ولا يجوز له أن يخونهم في نفسه وأن يقطع حقوقهم من ولائه مستسراً له يقول فليستأذنهم إذا سولت له نفسه فعل هذا الصنيع فإنهم إذا علموا ذلك منعوه ولم يأذنوا له فيه فلا يمكنه حينئذ أن يوالي غيرهم وأن يحول ولاءه إلى قوم سواهم، وإنما لا يجوز ذلك لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا ينتقل بحال

(4/147)


كما لا ينتقل النسب إلاّ ما جاء في أن الولاء للكبر وهذا ليس فيه نقل للولاء عن أصله إنما هو تنزيل وترتيب له فيما بين ورثة المعتق وتقديم الأقرب منه على الأبعد.

ومن باب التفاخر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمذاني أنبأنا ابن وهب عن هشام بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أذهب عنكم عُبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب.
قال الشيخ: العبية الكبر والنخوة وأصله من العب وهو الثقل يقال عُبِية وعِبية بضم العين وكسرها.
وقوله مؤمن تقي وفاجر شقي معناه أن الناس رجلان مؤمن تقي وهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيباً في قومه وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفاً رفيعاً.

ومن باب في العصبية
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدِّي فهو ينزع بذنبه ورفعه من رواية سفيان عن سماك.
قال الشيخ: معناه أنه قد وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على خلاصه.

(4/148)


ومن باب الرجل يحب الرجل يخبره
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور حدثني حبيب بن عبيد عن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه.
قال الشيخ: معناه الحث على التودد والتألف وذلك أنه إذا أخبره بأنه يحبه استمال بذلك قلبه واجتلب به وده.
وفيه أنه إذا علم أنه محب له وواد قبل نصحه ولم يرد عليه قوله في عيب إن أخبره به عن نفسه أو سقطة إن كانت منه فإذا لم يعلم ذلك منه لم يؤمن أن يسوء ظنه فيه فلا يقبل قوله ويحمل ذلك منه على العداوة والشنآن والله أعلم.

ومن باب المشورة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا شيبان عن عبد الملك بن عمير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الإشارة غير واجبه على المستشار إذا استشير.
وفيه دليل على أن عليه الاجتهاد في الصلاح وأنه لا غرامة عليه إذا وقعت الإشارة خطأ.

ومن باب الدال على الخير
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن الأعمش، عَن أبي عمرو الشيباني، عَن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أبدع بي فأحملني قال لا أجد ما أحملك عليه ولكن ائت فلاناً لعله يحملك فأتاه فحمله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دل على خير فله

(4/149)


مثل أجر فاعله.
قال الشيخ: قوله ابدع بي معناه إنقطع بي ويقال أبدعت الركاب إذا كلت وانقطعت.

ومن باب في بر الوالدين
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان حدثني سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجزي ولد والده إلاّ أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه.
قال الشيخ: قوله فيعتقه ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الملك لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال، وإنما وجهه أنه إذا اشتراه فدخل في ملكه عتق عليه فلما كان الشراء سبباً لعتقه أضيف العتق إلى عقد الشراء إذا كان تولد منه ووقوعه به، وإنما صار هذا جزاء له وأداء لحقه لأن العتق أفضل ما ينعم به أحد على أحد لأنه يخلصه بذلك من الرق ويجبر منه النقص الذي فيه ويكمل فيه أحكام الأحرار في الأملاك والأنكحة وجواز الشهاده ونحوها من الأمور.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه إلاّ دعي له يوم القيامة فضله الذي منع شجاعاً أقرع.
قال الشيخ: الشجاع الحية والأقرع الذي انحسر الشعر عن رأسه من كثرة سمه.

(4/150)


ومن باب فضل من عال يتامى
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية، عَن أبي مالك الأشجعي عن ابن حُدير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها، قال، يَعني الذكور ادخله الله الجنة.
قال الشيخ: قوله لم يئدها معناه لم يدفنها حية وكانوا يدفنون البنات أحياء يقال منه وأد يئد وأداً ومنه قول الله سبحانه {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} .
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا النهاس حدثني شداد أبو عمار عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة يريد السبابة والوسطى.
قال الشيخ: السفعاء هي التي تغير لونها إلى الكمودة والسواد من طول الإيمة وكأنه مأخوذ من سفع النار وهو أن يصيب لفحها شيئاً فيسود مكانه يريد بذلك أن هذه المرأة قد حبست نفسها على أولادها ولم تتزوج فتحتاج إلى أن تتزين وتصنع نفسها لزوجها.

ومن باب حق المملوك
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، عَن أبي مسعود الأنصاري قال كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال أما لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار.

(4/151)


قال الشيخ: قوله لفعتك معناه شملتك من نواحيك، ومنه قولهم تلفع الرجل بالثوب إذا اشتمل به.

ومن باب من خبب مملوكاً
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا زيد بن حباب عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى عن عكرمة عن يحيى بن يعمر، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خبب زوجة امرىء أو مملوكه فليس منا.
قال الشيخ: قوله خبب يريد أفسد وخدع وأصله من الخب وهو الخداع ورجل خب ويقال فلان خب صب إذا كان فاسداً مفسداً.

ومن باب في الاستئذان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص قال فكأنى انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه.
قال الشيخ: المشقص نصل عريض، وقوله يختله معناه يراوده ويطلبه من حيث لا يشعر.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه.
قال الشيخ: في هذا بيان إبطال القود واسقاط الدية عنه، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدرها وعن أبي هريرة مثل ذلك وإليه ذهب الشافعي

(4/152)


وقال أبو حنيفة إذا فعل ذلك ضمن الجناية وذلك لأنه قد يمكنه أن يدفعه عن النظر والاطلاع عليه بالاحتجاب عنه وسد الخصاص والتقدم إليه بالكلام ونحوه فإذا لم يفعل ذلك وعمد إلى فقء عينه كان ضامناً لها وليس النظر بأكثر من الدخول عليه بنفسه وتأول الحديث على معنى التغليظ والوعيد.
وقد قال بعض من ذهب إلى الحديث إنما يكون له فقء عينه إذا كان قد زجره وتقدم إليه فلم ينصرف عنه، كاللص إنما يباح له قتاله ودفعه عن نفسه وإن أبى ذلك عليه إذا لم ينصرف عنه بدون ذلك.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبيد الله بن صفوان أخبره عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس وذكر حديثاً.
قال الشيخ: الجداية الصغير من الظباء يقال الذكر والأنثى جداية أنشدني أبو عمرو قال أنشدنا أبو العباس:
يريح بعد النفس المحفوز ... إراحة الجداية النفوز
والضغابيس صغار القثاء واحدها ضغبوس، ومنه قيل للرجل الضعيف ضغبوس تبشبيهاً له به.

ومن باب الرجل يستأذن بالدق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في دين أبيه فدققت الباب فقال من هذا، قلت أنا قال أنا أنا كأنه كرهه.

(4/153)


قال الشيخ: قوله أنا ليس بجواب لقوله من هذا لأن الجواب هو ما كان بياناً للمسألة.
وإنما تكون المكاني جواباً وبياناً عند المشاهدة لا مع المغايبة، وإنما كان قوله من هذا هو ما كان استكشافاً للابهام، فأجابه بقوله أنا فلم يزل الإبهام وكان وجه البيان أن يقول أنا جابر ليقع به التعريف ويزول معه الاشكال والابهام، وقد يكون ذلك من أجل تركه الاستئذان بالسلام والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عباس العنبري حدثنا أسود بن عامر حدثنا حسن بن صالح عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال السلام عليك يا رسول الله أيدخل عمر.
قال الشيخ: قد جمع الاستئذان بالسلام والإبانة عن الاسم والتعريف وهو كمال الاستئذان، والمشربة كالخزانة تكون للإنسان مرتفعة عن وجه الأرض.

ومن باب السلام على أهل الذمة
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز، يَعني ابن مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا وعليكم.
قال الشيخ: هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم بالواو، وكان سفيان بن عيينة يرويه عليكم بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردوداً عليهم وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والجمع بين الشيئين، والسام فسروه الموت.

ومن باب القيام
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، عَن أبي

(4/154)


أمامة بن سهل بن حنيف، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء على حمار أقمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم أو إلى خيركم فجاء حتى قعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: فيه من العلم أن قول الرجل لصاحبه يا سيدي غير محظور إذا كان صاحبه خيراً فاضلاً وإنما جاءت الكراهة في تسويد الرجل الفاجر.
وفيه أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل وللولي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه، وإنما جاءت الكراهة فيمن كان بخلاف أهل هذه الصفات.
ومعنى ما روي من قوله من أحب أن تستجم له الرجال صفوفاً هو أن يأمرهم بذلك ويلزمه إياهم على مذهب الكبر والنخوة.
وفيه دليل على أن من حكم رجلاً في حكومة بينه وبين غيره فرضيا بحكمه كان ما حكم به ماضياً عليهما إذا وافق الحق.

ومن باب في قبلة الجسد
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أنبأنا خالد عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير رجل من الأنصار قال بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح بيننا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال أصبرني فقال اصطبر، قال ان عليك قميصاً وليس عليّ قميص فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضه وجعل يقبل كشحه وقال إنما أردت هذا يا رسول الله.
قال الشيخ: قوله اصبرني يريد اقدني من نفسك، وقوله اصطبر معناه استقد قال هدبة بن خشرم:
فإن يك في أموالنا لم نضق بها …ذرعاً وإن صبراً فنصبر للدهر

(4/155)


يريد بالصبر القود وفيه حجة لمن رأى القصاص في الضربة بالسوط واللطمة بالكف ونحو ذلك مما لا يوقف له على حد معلوم ينتهى إليه.
وقد روي ذلك، عَن أبي بكر وعمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كرم الله وجوههم ورضي عنهم.
وممن ذهب إليه شريح والشعب وبه قال ابن شبرمة، وقال الحسن وقتادة لا قصاص في اللطمة ونحوها وإليه ذهب أصحاب الرأي وهو قول مالك والشافعي.

ومن باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب بن الشهيد، عَن أبي مجلز عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار.
قال الشيخ: قوله يمثل معناه يقوم وينتصب بين يديه وقد ذكرنا وجهه في الباب الذي قبله.

ومن باب إماطة الأذى عن الطريق
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد عن واصل عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر، عَن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة وذكر الحديث.
السلامي عظم فرس البعير ويجمع على السلاميات هذا أصله.
قال الشيخ: وليس المراد بهذا عظام الرجل خاصة ولكنه يراد به كل عظم ومفصل يعتمد في الحركة ويقع به القبض والبسط والله أعلم.

(4/156)


ومن باب قتل الحيات
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحَبَل.
قال الشيخ: فسره أبو عبيدة وحكي عن الأصمعي قال الطفية خوصة المقل وجمعها طفى، قال وأراه شبه الخطين اللذين على ظهره بخوصتين من خوص المقل قال، وقال غيره الأبتر القصير الذنب من الحيات.
ومعنى قوله يلتمسان البصر قيل فيه وجهان: أحدهما أنهما يخطفان البصر ويطمسانه وذلك لخاصية في طباعهما إذا وقع بصرهما على بصر الإنسان وقيل معناه أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش.
وقد روي في هذا الحديث من رواية أبي أمامة فإنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون النساء وهو يؤكد التفسير الأول.

ومن باب قتل الذر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد.
قال الشيخ: يقال إن النهي إنما جاء في قتل النمل في نوع منه خاص وهو الكبار منها ذوات الأرجل الطوال وذلك أنها قليلة الأذى والضرر ونهى عن قتل النحلة لما فيها من المنفعة، فأما الهدهد والصرد فنهيه في قتلهما يدل على تحريم لحومهما، وذلك أن الحيوان إذا نهي عن قتله ولم يكن ذلك لحرمته ولا لضرر

(4/157)


فيه كان ذلك لتحريم لحمه، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكلة، ويقال إن الهدهد منتن اللحم فصار في معنى الجلالة المنهي عنها، وأما الصرد فإن العرب تتشاءم به وتتطير بصوته وشخصه، ويقال إنهم إنما كرهوا من اسمه معنى التصريد أنشدني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري، عَن أبي العباس: غراب وظبي أعضب القرن باديا …بصرم وصِردان العشي تصيح

ومن باب الختان
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا مروان، قال: حَدَّثنا محمد بن حسان حدثنا عبد الوهاب الكوفي عن عبد الملك بن عمير عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُنْهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل.
قال الشيخ: قوله لا تنهكي معناه لا تبالغي في الخفض والنهك المبالغة في الضرب والقطع والشتم وغير ذلك، وقد نهكته الحمى إذا بلغت منه وأضرت به.

ومن باب الرجل يسب الدهر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
قال الشيخ: تأويل هذا الكلام أن العرب إنما كانوا يسبون الدهر على أنه هو الملم بهم في المصائب والمكاره ويضيفون الفعل فيما ينالهم منها إليه ثم يسبون فاعلها فيكون مرجع السب في ذلك إلى الله سبحانه إذ هو الفاعل لها فقيل على ذلك لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، أي إن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي

(4/158)


تضيفونها إلى الدهر.
وكان ابن داود ينكر رواية أصحاب الحديث هذا الحرف مضمومة ويقول لو كان كذلك لكان الدهر اسماً معدوداً من أسماء الله عز وجل، وكان يرويه وأنا الدهر أقلب الليل والنهار مفتوحة الراء على الظرف يقول أنا طول الدهر والزمان أقلب الليل والنهار. والمعنى الأول هو وجه الحديث.