معالم السنن كتاب الطب
ومن باب الرجل يتداوى
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن زياد
بن علاقة عن أسامة بن شَريك قال: أتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير فسلمت ثم قعدت
فجاءت الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا يا رسول الله نتداوى
قال تداووا فإن الله لم يضع داء الا وضع له دواء غير داء
واحد الهرم.
(4/216)
قال الشيخ: في الحديث إثبات الطب والعلاج
وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس.
وفيه أنه جعل الهرم داء وإنما هو ضعف الكبر وليس من
الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان من قبل اختلاف
الطبائع وتغير الأمزجة، وإنما شبهه بالداء لأنه جالب للتلف
كالأدواء التي قد يتعقبها الموت والهلاك وهذا كقول النمر
بن تولب:
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً…… ليصحني فإذا السلامة داء
يريد أن العمر لما طال به أداه إلى الهرم فصار بمنزلة
المريض الذي قد أدنفه الداء وأضعف قواه وكقول حميد بن ثور
الهذلي:
أرى بصري قد رابني بعد صحة …وحسبك داء أن تصح وتسلما
وحدثنى إبراهيم بن عبد الرحمن العنبري حدثنا ابن أبي قماش
حدثنا ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم يكن لابن آدم
إلاّ السلامة والصحة لكان كفى بهما داء قاضياً.
ومن باب الكي
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا
ثابت عن مطرف عن عمران بن حصين قال: نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا.
قال أبو داود: حدثنا موسى حدثنا حماد، عَن أبي الزبير عن
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ من
رميته.
(4/217)
قال الشيخ: إنما كوى صلى الله عليه وسلم
سعدا ليرقأ عن جرحه الدم وخاف عليه أن ينزف فيهلك والكي
مستعمل في هذا الباب وهو من العلاج الذي تعرفه الخاصة
وأكثر العامة والعرب تستعمل الكي كثيراً فيما يعرض لها من
الأدواء وتقول في أمثالها آخر الدواء الكي، وقال شاعرهم في
ذلك وهو مما يتمثل به
إذا كويت كية فأنضج ... تشف بها الداء ولا تُلهوج
فالكي داخل في جملة العلاج والتداوي المأذون فيه المذكور
في حديث أسامة بن شريك الذي رويناه في الباب الأول.
وأما حديث عمران بن حصين في النهى عن الكي فقد يحتمل
وجوهاً: أحدها أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره
ويقولون آخر الدواء الكي ويرون أنه يحسم الداء ويبرئه وإذا
لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك فنهاهم عن ذلك إذا كان على هذا
الوجه، وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على الله
سبحانه وطلب الشفاء والترجي للبرء بما يحدث الله عز وجل من
صنعه فيه ويجلبه من الشفاء على أثره فيكون الكي والدواء
سبباً لا علة، وهذا أمر قد تكثر فيه شكوك الناس وتخطىء فيه
ظنونهم وأوهامهم فما أكثر ما تسمعهم يقولون لو أقام فلان
بأرضه وبلده لم يهلك ولو شرب الدواء لم يسقم ونحو ذلك من
تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب وتعليق الحوادث بها دون
تسليط القضاء عليها وتغليب المقادير فيها فتكون الأسباب
أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها وقد بين الله جل جلاله
ذلك في كتابه حيث قال {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم
في بروج مشيدة} [النساء: 87] وقال تعالى حكاية عن الكفار
{وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى لو
كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك
(4/218)
حسرة في قلوبهم} [آل عمران: 156] الآية.
وسلك الحكماء في هذا طريق الصواب وقيدوا كلامهم في مثله،
قال أبو ذؤيب يذكر ابناً له هلك يدعى نبيشة:
يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت ... نبيشة والكهان يكذب
قيلها
ولوأنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها
ورسولها
يريد بالكهان الأطباء، والعرب تدعو الأطباء كهاناً وكل من
يتعاطى علماً مغيباً فهو عندهم كاهن، وقال رؤبة في كلمة
له:
* ولو توقى لوقاه الواقي *
ثم خشي أن يكون قد فوض فتداركه فقال على أثره:
* وكيف يوقي ما الملاقى لاقى *
ومثل هذا في كلامهم كثير وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى
نهيه عن الكي هو أن يفعله احترازاً عن الداء قبل وقوع
الضرورة ونزول البلية وذلك مكروه وإنما أبيح العلاج
والتداوي عند وقوع الحاجة ودعاء الضرورة إليه، ألا ترى أنه
إنما كوى سعداً حين خاف عليه الهلاك من النزف.
وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة
بعينها لعلمه أنه لا ينجع، ألا تراه يقول فما أفلحنا ولا
أنجحنا، وقد كان به الناصور فلعله إنما نهاه عن استعمال
الكي في موضعه من البدن والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم
كان محظوراً والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس كذلك في
بعض الأعضاء فيشبه أن يكون النهي منصرفاً إلى النوع المخوف
منه والله أعلم.
ومن باب النُّشْرة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا
عَقيل بن مَعقل قال سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد
الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4/219)
عن النشرة فقال: هو من عمل الشيطان.
قال الشيخ: النشرة ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان
يظن به مس الجن وقيل سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه أي يحل
عنه ما خامره من الداء.
وحدثني أبو محمد الكُراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا
زكريا بن يحيى المنقري حدثنا الأصمعي حدثنا الحكم بن عطية
عن الحسن قال: النشرة من السحر، قال وأنشدنا الأصمعي من
قول جرير:
أدعوك دعوة ملهوف كأن به …مساً من الجن أو ريحاً من النشر
ومن باب شرب الترياق
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد
الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثنا شرحبيل بن يزيد
المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد
الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقاً أو
تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي.
قال الشيخ: ليس شرب الترياق مكروهاً من أجل أن التداوي
محظور، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوى
والعلاج في عدة أحاديث ولكن من أجل ما يقع فيه من لحوم
الأفاعي وهي محرمة، والترياق أنواع فإذا لم يكن فيه لحوم
الأفاعى فلا بأس بتناوله والله أعلم.
والتميمة يقال إنها خرزة كانوا يتعلقونها يرون أنها تدفع
عنهم الآفات. واعتقاد هذا الرأي جهل وضلال إذ لا مانع ولا
دافع غير الله سبحانه ولا يدخل في هذا التعوذ بالقرآن
والتبرك والاستشفاء به لأنه كلام الله سبحانه والاستعاذة
(4/220)
به ترجع إلى الاستعاذة بالله سبحانه، ويقال
بل التميمة قلادة تعلق فيها العُود قال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وقال آخر:
بلاد بها عق الشباب تميمتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقد قيل إن المكروه من العوذ هو ما كان بغير لسان العرب
فلا يفهم معناه ولعله قد يكون فيه سحر أو نحوه من المحظور
والله أعلم.
ومن باب الأدوية المكروهة
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن بشر
حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد، عَن أبي هريرة قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث.
قال الشيخ: الدواء الخبيث قد يكون خبثه من وجهين أحدهما
خبث النجاسة وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم
الحيوان غير مأكولة اللحم، وقد يصف الأطباء بعض الأبوال
وعذرة بعض الحيوان لبعض العلل وهي كلها خبيثة نجسة
وتناولها محرم إلاّ ما خصته السنة من أبوال الإبل فقد رخص
فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من عرينة وعُكْل.
وسبيل السنن أن يقر كل شيء منها في موضعه وأن لا يضرب
بعضها ببعض؛ وقد يكون خبث الدواء أيضاً من جهة الطعم
والمذاق ولا ينكر أن يكون كره ذلك لما فيه من المشقة على
الطباع ولنكرة النفس إياه، والغالب أن طعوم الأدوية كريهة،
ولكن بعضها أيسر احتمالاً وأقل كراهة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن ابن أبي
ذئب عن سعيد
(4/221)
بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن
بن عثمان أن طبيباً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن
قتلها.
قال الشيخ: في هذا دليل على أن الضفدع محرم الأكل وأنه غير
داخل في ما أبيح من دواب الماء فكل منهي عن قتله من
الحيوان فإنما هو لأحد أمرين اما لحرمته في نفسه كالآدمي
وإما لتحريم لحمه كالصرد والهدهد ونحوهما وإذا كان الضفدع
ليس بمحترم كالآدمى كان النهي فيه منصرفاً إلى الوجه
الاخر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح
الحيوان إلاّ لمأكله.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سماك
عن علقمة بن وائل عن أبيه وائل ذكرَ طارقَ بن سويد أو سويد
بن طارق سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه،
ثم سأله فنهاه فقال له يا نبي الله إنها دواء، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: لا ولكنها داء.
قال الشيخ: قوله لا ولكنها داء إنما سماها داء لما في
شربها من الإثم، وقد تستعمل لفظة الداء في الآفات والعيوب
ومساوي الأخلاق، وإذا تبايعوا الحيوان قالوا برئت من كل
داء يريدون العيب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني
ساعدة: من سيدكم قالوا جد بن قيس وإنا لنُزِنُّه بشيء من
البخل، فقال وأي داء أدوى من البخل والبخل إنما هو طبع أو
خلق وقد سماه داء، وقال دب إليكم داء الأمم قبلكم البغي
والحسد، فنرى أن قوله في الخمر أنها داء أي لما فيها من
الإثم فنقلها صلى الله عليه وسلم عن أمر الدنيا إلى أمر
الآخرة وحولها من طب الطبيعة إلى طب الشريعة ومعلوم أنها
من جهة الطب دواء في بعض الأسقام، وفيها مصحة للبدن وهذا
كقوله عليه الصلاة والسلام حين سئل عن الرقوب، فقال هو
الذي لم
(4/222)
يمت له ولد، ومعلوم أن الرقوب في كلام
العرب هو الذى لا يعيش له ولد، وكقوله ما تعدون الصُّرَعة
فيكم، قال الذي يغلب الرجال، قال بل الذي يملك نفسه عند
الغضب، وكقوله من تعدون المفلس فيكم، فقالوا الذي لا مال
له، فقال بل المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا
وشتم هذا وضرب هذا فيؤخذ من حسناته لهم ويؤخذ من سيئاتهم
فيلقى عليه فيطرح في النار. فكل هذا انما هو على معنى ضرب
المثل وتحويله عن أمر الدنيا إلى معنى الاخرة وكذلك تسمية
الخمر داء إنما هو في حق الدين وحرمة الشريعة لما يلحق
شاربها من الإثم وإن لم يكن داء في البدن ولا سقماً في
الجسم.
وفي الحديث بيان أنه لا يجوز التداوي بالخمر وهو قول أكثر
الفقهاء، وقد أباح التداوي بها عند الضرورة بعضهم، واحتج
في ذلك بإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرنيين
التداوي بأبوال الإبل وهي محرمة إلاّ أنها لما كانت مما
يستشفى بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها.
قلت وقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأمرين
اللذين جمعهما هذا القائل فنص على أحدهما بالحظر وهو
الخمر، وعلى الآخر بالإباحة وهو بول الإبل. والجمع بين ما
فرقه النص غير جائز. وأيضاً فإن الناس كانوا يشربون الخمر
قبل تحريمها ويشغفون بها ويبتغون لذتها، فلما حرمت صعب
عليهم تركها والنزوع عنها فغلظ الأمر فيها بإيجاب العقوبة
على متناوليها ليرتدعوا عنها وليكفوا عن شربها وحسم الباب
في تحريمها على الوجوه كلها شرباً وتداوياً لئلا يستبيحوها
بعلة التساقم والتمارض، وهذا المعنى مأمون في أبوال الإبل
لانحسام الدواعي ولما على الطباع من المؤنة في تناولها
ولما في النفوس من استقذارها والنكرة لها
(4/223)
فقياس أحدهما على الآخر لا يصح ولا يستقيم
والله أعلم.
ومن باب العجوة
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن
أبي نَجيح عن مجاهد عن سعد قال: مرضت مرضاً فأتاني رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى
وجدت بردها على فؤادي، وقال: إنك رجل مفؤود فائت الحارث بن
كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة
المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليَلُدَّك بهن.
قال الشيخ: المفؤود هو الذي أصيبب فؤاده كما قالوا لمن
أصيب رأسه مرؤوس ولمن أصيب بطنه مبطون، ويقال إن الفؤاد
غشاء القلب والقلب حبته وسويداؤه. ويشبه أن يكون سعد في
هذه العلة مصدوراً إلاّ أنه قد كنى بالفؤاد عن الصدر إذا
كان الصدر محلاً للفؤاد ومركزاً له، وقد يوصف التمر لبعض
علل الصدر. قوله فليجأهن بنواهن يريد ليرضهن والوجيئة حساء
يتخذ من التمر والدقيق فيتحساه المريض.
وأما قوله فليلدك بهن فإنه من اللدود وهو ما يسقاه الإنسان
في أحد جانبي الفم وأخذ من اللديدين وهما جانبا الوادي.
ومن باب العِلاق
قال أبو داود: حدثنا مسدد وحامد بن يحيى قالا: حَدَّثنا
سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أم قيس بنت
محصن قالت: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن
لي قد أعلقتُ عليه من العُذْرة، فقال على ما تدغَرن
أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة
أشفية منها ذات الجنب يُسعط
(4/224)
من العُذْرة ويلد من ذات الجنب.
قال الشيخ: هكذا يقول المحدثون أعلقت عليه وإنما هو أعلقت
عنه، قال الأصمعي الاعلاق أن ترفع العذرة باليد والعذرة
وجع يهيج في الحلق، وقد ذكره أبو عبيد في كتابه ولم يفسره
ومعنى أعلقت عنه دفعت عنه العذرة بالأصبع. ونحوها قاله ابن
الأعرابي.
ومن باب الغَيْل
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا محمد
بن مهاجر عن أبيه عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقتلوا أولادكم
سراً فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه.
قال الشيخ: أصل الغيل أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع،
يقال منه أغال الرجل أغيل والولد مُغال ومغيل ومنه قول
امرىء القيس:
فألهيتها عن ذي تمائم مُغَيل
وقوله يدعثره عن فرسه معناه يصرعه ويسقطه، وأصله في الكلام
الهدم، يقال في البناء قد تدعثر إذا تهدم وسقط يقول صلى
الله عليه وسلم: إن المرضع إذا جومعت فحملت فسد لبنها ونهك
الولد إذا اغتذى بذلك اللبن فيبقى ضاوياً فإذا صار رجلاً
فركب الخيل فركضها أدركه ضعف الغيل فزال وسقط عن متونها
فكان ذلك كالقتل له إلاّ أنه سر لا يرى ولا يشعر به.
ومن باب تعليق التمائم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية
حدثنا الأعمش عن
(4/225)
عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي
زينب امرأة عبد الله عن زينب امرأة عبد الله عن عبد الله
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى
والتمائم والتولة شرك قالت، قلت لم تقول هذا والله لقد
كانت عيني تقذف فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا
رقاني سكنت، قال عبد الله إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها
بيده فإذا رقاها كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اذْهب الباس ربَّ
الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلاّ شفاؤك شفاء لا يغادر
سقماً.
قال الشيخ: التولة يقال أنه ضرب من السحر؛ قال الأصمعي وهو
الذي يحبب المرأة إلى زوجها، فأما الرقى فالمنهي عنه هو ما
كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ولعله قد يدخله
سحراً أوكفراً، فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر
الله تعالى فإنه مستحب متبرك به والله أعلم.
ومن باب الرُّقى
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن مالك
بن مِغْول عن حصين عن الشعبي عن عمران بن حصين عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: لا رقية إلاّ من عين أو حُمة.
قال الشيخ: الحمة سم ذوات السموم وقد تسمى إبرة العقرب
والزنبور حمة وذلك لأنها مجرى السم وليس في هذا نفي جواز
الرقية في غيرهما من الأمراض والأوجاع لأنه قد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه رقى بعض أصحابه من وجع كان
به وقال للشفاء علمي حفصة رقية النملة، وإنما معناه أنه لا
رقية أولى وأنفع من رقية العين والسم وهذا كما قيل لا فتى
إلاّ علي ولا سيف إلاّ ذو الفقار.
(4/226)
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن مهدي
المصيصي حدثنا علي بن مُسهر حدثنا عبد العزيز بن عمر بن
عبد العزيز عن صالح بن كيسان، عَن أبي بكر بن سليمان، عَن
أبي حثمة عن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل عليَّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها،
فقال لي ألا تعلمين هذه رُقية النملة كما علمتيها الكتابة.
قال الشيخ: النملة قروح تخرج في الجنبين، ويقال إنها تخرج
أيضاً في غير الجنب ترقى فتذهب بإذن الله عز وجل، وفي
الحديث دليل على أن تعليم الكتابة للنساء غير مكروه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني
عمر بن حكيم قال حدثتني الرَّباب قالت سمعت سهل بن حنيف
يقول مررنا بسيل فدخلت فاغتسلت فيه فخرجت محموماً فنمي ذلك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مروا أبا ثابت
يتعوذ قالت فقلت يا سيدي والرقْية صالحة قال لا رقية إلاّ
في نفس أو حمة أو لدغة.
قال الشيخ: النفس العين، وفيه بيان جواز أن يقول الرجل
لرئيسه من الآدميين يا سيدي.
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا
الليث عن زياد بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن
عبيد، عَن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: من اشتكى منكم شيئاً فليقل ربنا الله الذي في
السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في
السماء فاجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حُوبَنا وخطايانا
أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا
الوجع فيبرأ.
(4/227)
قال الشيخ: الحوب الإثم ومنه قول الله
تعالى {إنه كان حوباً كبيراً} [النساء: 2] وهو الحوبة
أيضاً مفتوحة الحاء مع إدخال الهاء.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر،
عَن أبي المتوكل، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن
رهطاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة
سافروها فنزلوا بحي من أحياء العرب، فقال بعضهم إن سيدنا
لدغ فهل عند أحد منكم شيء ينفع صاحبنا، فقال رجل من القوم
نعم والله إني لأرقي ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا ما
أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلاً فجعلوا له قطيعاً من الشاه
فأتاه فقرأ عليه أم الكتاب ويتفل حتى برأ كأنما أنشط من
عقال قال فأوفاهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقالوا اقتسموا
فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم فنستأمره فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكروا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين علمتم
أنها رقية أحسنتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم.
قال الشيخ: قوله أنشط من عقال أي حل من عقال، يقال نشطت
الشيء إذا شددته. وأنشطته بالألف إذا حللته.
وفيه دليل على أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن جائز.
ومن باب النهي عن إتيان الكاهن
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حكيم
الأثرم، عَن أبي تميمة، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برئ
مما أنزل الله على محمد.
قال الشيخ: الكاهن هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر
الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون
كثيراً من الأمور،
(4/228)
فمنهم من كان يزعم أن له رؤيا من الجن
وتابعة تلقي إليه الأخبار. ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك
الأمور بفهم أعطيه، وكان منهم من يسمى عرافاً وهو الذي
يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على
مواقعها، كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة وتتهم
المرأة بالزنية فيعرف من صاحبها ونحو ذلك من الأمور.
ومنهم من كان يسمي المنجم كاهناً فالحديث يشتمل على النهي
عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إلى قولهم وتصديقهم على ما
يدعونه من هذه الأمور.
ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهناً وربما دعوه أيضاً عرافاً
وقال أبو ذؤيب:
يقولون لي لوكان بالرمل لم يمت ... نبيشة والكهان تكذب
قيلها
وقال آخر:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني
فهذا غير داخل في النهي وإنما هو مغالطة في الأسماء وقد
أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الّطب وأباح العلاج
والتداوي. وقد تقدم ذكره فيما مضى من أبواب الكتاب.
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومسدد المعنى
قالا: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن
عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اقتبس علماً من
النجوم اقتبس شعبة من السحر.
قال الشيخ: علم النجوم المنهى عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم
من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل
الزمان كأخبارهم بأوقات هبوب
(4/229)
الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد
وتغير الأسعار وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم
يدركون معرفتها بسير الكبواكب في مجاريها وباجتماعها
واقترانها ويدعون لها تأثيراً في السفليات وأنها تتصرف على
أحكامها وتجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على
الغيب وتعاط لعلم استأثر الله سبحانه به لا يعلم الغيب أحد
سواه.
فأما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والحس الذي
يعرف به الزوال ويعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما
نهي عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً بأكثر من أن
الظل ما دام متناقصاً فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من
الأفق الشرقي وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط
السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح دركه من جهة
المشاهدة، إلاّ أن أهل هذه الصناعة قد دبروه بما اتخذوا له
من الالة التي يستغنى الناظر فيها عن مراعاة مدته ومرا
صدته.
وأما ما يستدل به من جهة النجوم على جهة القبلة فإنما هي
كواكب أرصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في
عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به
عنها مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة ويشاهدوها في حال
الغيبة عنها فكان إدراكهم الدلالة عنها بالمعاينة وادراكنا
لذلك بقبولنا لخبرهم إذ كانوا غير متهمين في دينهم ولا
مقصرين في معرفتهم.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن صالح بن كيسان عن
عبيد الله بن عبد الله عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر
سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل
(4/230)
تدرون ما قال ربكم، قالوا الله ورسول أعلم
قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مُطرنا
بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال
مُطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب.
قال الشيخ: قوله في أثر سماء أي في أثر مطر، والعرب تسمي
المطر سماء لأنه نزل منها قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والنوء واحد الأنواء وهي الكواكب الثمانية والعشرون التي
هي منازل القمر كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل بعض تلك
الكواكب مطروا فأبطل صلى الله عليه وسلم قولهم وجعل سقوط
المطر من فعل الله سبحانه دون فعل غيره.
ومن باب الخط وزجر الطير
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عوف حدثنا حيان
بن العلاء حدثنا قَطَن بن قَبيصة عن أبيه قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: العيافة والطَّيرَه والطرق
من الجبت.
قال الشيخ: قد فسره أبو عبيد فقال العيافة زجر الطير يقال
منه عفت الطير أعيفها عيافة، قال ويقال في غير هذا عافت
الطير تعيف عيفاً إذا كانت تحوم على الماء وعاف الرجل
الطعام يعافه عيافاً وذلك إذا كرهه.
قال وأما الطرق فإنه الضرب بالحصى ومنه قول لبيد:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما
الله صانع
قال واصل الطرق الضرب، ومنه سميت مطرقة الصائغ والحداد
لأنه يطرق بها أي يضرب بها.
(4/231)
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن
الحجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي
ميمونه عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال:
قلت يا رسول الله ومنا رجال يخطون قال كان نبي من الأنبياء
يخط فمن وافق خطه فذاك.
قال الشيخ: صورة الخط ما قاله ابن الأعرابي ذكره أبو عمر،
عَن أبي العباس أحمد بن يحيى عنه، قال يقعد الحازي ويأمر
غلاماً له بين يديه فيخط خطوطاً على رمل أو تراب ويكون ذلك
منه في خفة وعجلة كي لا يدركها العدّ والإحصاء ثم يأمره
فيمحها خطين خطين ابني عيان اسرعا البيان فإن كان آخر ما
بقى منها خطين فهو آية النجاح وإن بقي خط واحد فهو الخيبة
والحرمان.
وأما قوله فمن وافق خطه فذلك فقد يحتمل أن يكون معناه
الزجر عنه إذا كان من بعده لا يوافق خطه ولا ينال حظه من
الصواب لأن ذلك إنما كان آية لذلك النبي فليس لمن بعده أن
يتعاطاه طمعاً في نيله والله أعلم.
وقد ذكرنا هذا المعنى أو نحوه فيما مضى من هذا الكتاب.
ومن باب الطيرة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن سلمة بن
كُهيل عن عيسى بن عاصم عن زِر بن حبيش عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
الطيرة شرك وما منا إلاّ ولكن الله يذهبه بالتوكل.
قال الشيخ: قوله وما منا إلاّ معناه إلاّ من يعتريه التطير
وسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذف اختصاراً للكلام واعتماداً
على فهم السامع، وقال محمد بن إسماعيل كان سليمان بن حرب
ينكر هذا ويقول هذا الحرف ليس من قول
(4/232)
رسول الله وكأنه قول ابن مسعود رضي الله
عنه.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني والحسن بن
علي قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري، عَن
أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي ما بال الإبل
تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب
فيُجْربها، قال فمن أعدى الأول قال معمر، قال الزهري
فحدثني رجل، عَن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: لا يوردن مُمرض على مُصح، ققال فراجعه
الرجل فقال أليس قد حدثتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، قال لم أحدثكموه، قال
الزهري قال أبو سلمة قد حدث به وما سمعت أبا هريرة نسي
حديثاً قط غيره.
قال الشيخ: قوله لا عدوى يريد أن شيئاً لا يعدي شيئاً حتى
يكون الضرر من قبله وإنما هو تقدير الله جل وعز وسابق
قضائه فيه ولذلك قال فمن أعدى الأول. يقول إن أول بعير جرب
من الإبل لم يكن قبله بعير أجرب فيعديه وإنما كان أول ما
ظهر الجرب في أول بعير منها بقضاء الله وقدره فكذلك ما ظهر
منه في سائر الإبل بعد. وأما الصفر فقد ذكره أبو عبيد في
كتابه، وحكي عن رؤبة بن العجاج أنه سئل عن الصفر فقال هي
حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس قال وهي أعدى من
الجرب، قال أبو عبيد فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم أنها
تعدي قال، وقال غيره في الصفر أنه تأخيرهم المحرم إلى صفر
في تحريمه.
قال وأما الهامة فإن العرب كانت تقول إن عظام الموتى تصير
هامة فتطير أبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم.
(4/233)
قلت وتطير العامة اليوم من صوت الهامة
ميراث ذلك الرأي وهو من باب الطيرة المنهي عنها.
وأما قوله لا يوردن مُمرض على مُصح قال الممرض الذي مرضت
ماشيته والمصح هو صاحب الصحاح منها، كما قيل رجل مضعف إذا
كانت دوابه ضعافاً، ومقوٍ إذا كانت أقوياء، وليس المعنى في
النهي عن هذا الصنيع من أن المرضى تعدي الصحاح، ولكن
الصحاح إذا مرضت بإذن الله وتقديره وقع في نفس صاحبه أن
ذلك إنما كان من قبل العدوى فيفتنه ذلك ويشككه في أمره
فأمر باجتنابه والمباعدة عنه لهذا المعنى.
وقد يحتمل أن يكون ذلك من قبل الماء والمرعى فتستوبله
الماشية فإذا شاركها في ذلك الماء الوارد عليها أصابه مثل
ذلك الداء والقوم بجهلهم يسمونه عدوى وإنما هو فعل الله
تبارك وتعالى بتأثير الطبيعة على سبيل التوسط في ذلك والله
أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرْقي أن سعيد
بن الحكم حدثهم أنبأنا يحيى بن أيوب حدثني ابن عجلان حدثني
القعقاع بن حكيم وعبيد الله بن مقسم وزيد بن أسلم، عَن أبي
صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: لا غُولَ.
قال الشيخ: قوله لا غول ليس معناه نفي الغول عيناً
وإبطالها كوناً، وإنما فيه إبطال ما يتحدثون عنها من
تغولها واختلاف تلونها في الصور المختلفة واضلالها الناس
عن الطريق وساسر ما يحكون عنها مما لا يعلم له حقيقة. يقول
لا تصدقوا بذلك ولا تخافوها فإنها لا تقدر عل شيء من ذلك
إلاّ بإذن الله عز وجل، ويقال إن الغيلان سحرة الجن تسحر
الناس وتفتنهم بالإضلال
(4/234)
عن الطريق والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا
طِيَرة ويعجبني الفأل الصالح. والفأل الصالح الكلمة
الحسنة.
قال الشيخ: قد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الفأل
إنما هو أن يسمع الإنسان الكلمة الحسنة فيفأل بها أي يتبرك
بها ويتأولها على المعنى الذي يطابق اسمها وأن الطيرة
بخلافها وإنما أخذت من اسم الطير، وذلك أن العرب كانت
تتشاءم ببروح الطير إذا كانوا في سفر أو مسير، ومنهم من
كان يتطير بسنوحها فيصدهم ذلك عن المسير ويردهم عن بلوغ ما
يمموه من مقاصدهم فأبطل صلى الله عليه وسلم أن يكون لشيء
منها تأثير في اجتلاب ضرر أو نفع، واستحب الفأل بالكلمة
الحسنة يسمعها من ناحية حسن الظن بالله.
وأخبرني الكراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثني المنقري
حدثنا الأصمعي قال سألت ابن عون عن الفأل، قال هو أن تكون
مريضاً فتسمع يا سالم أو تكون طالباً فتسمع يا واجد.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا
يحيى أن الحضرمي بن لاحق حدثه عن سعيد بن المسيب عن سعد بن
مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا هامة
ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة
والفرس والدار.
قال الشيخ: معنى الطيرة التشاؤم وهو مصدر التطير، يقال
تطير الرجنل طيرة كما قالوا تخيرت الشيء خيرة ولم يجىء من
المصادر على هذا القياس غيرهما
(4/235)
وجاء من الأسماء على هذا المثال حرفان
التوَلة في نوع من السحر وسبي طيبة يقال هذا سبي طيبة أي
طيب.
وأما قوله إن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار
فإن معناه إبطال مذهبهم في الطير بالسوانح والبوارح من
الطير والظباء ونحوها، إلاّ أنه يقول إن كانت لأحدكم دار
يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه ارتباطه
فليفارقها بأن يتنقل عن الدار ويبيع الفرس، وكان محل هذا
الكلام محل استثناء الشيء من غير جنسه. وسبيله سبيل الخروج
من كلام إلى غيره، وقد قيل إن شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها
وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وشؤم المرأة أن لا تلد.
قال أبو داود: حدثنا مخلَّد بن خالد وعباس العنبري المعنى
قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن يحيى بن عبد
الله عن بحير أخبرني من سمع فروة بن مُسيك قال قلت يا رسول
الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ميرتنا وريفنا
وإنها وبيئة أو قال وباؤها شديد فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: دعها عنك فإن من القرف التلف.
قال الشيخ: ذكر القتبي هذا الحديث في كتابه وفسره قال:
القرف مداناة الوباء ومداناة المرض، ويقال أرض قرف أي
محمة، قال وكل شيء قاربته فقد قارفته.
قلت وليس هذا من باب العدوى وإنما هو من باب الطب فإن
استصلاح الأهوية من أعون الأشياء على صحة الأبدان وفساد
الهواء من أضرها وأسرعها إلى اسقام البدن عند الأطباء وكل
ذلك بإذن الله ومشيئته لا شريك له فلا حول ولا قوة إلاّ
به.
(4/236)
قال أبو داود: حدثنا الحسين بن يحيى حدثنا بشر بن عمر عن
عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله إنا كنا في
دار كثير فيها عددنا كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار
أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ذروها ذميمة.
قال الشيخ: قد يحتمل أن يكون إنما أمرهم بتركها والتحول
عنها إبطالاً لما وقع في نفوسهم من أن المكروه إنما أصابهم
بسبب الدار وسكناها فإذا تحولوا عنها انقطعت مادة ذلك
الوهم وزال ما كان خامرهم من الشبهة فيها والله أعلم. |