غريب الحديث للخطابي

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ الدَّجَّالَ وَفِتْنَتَهُ ثُمَّ خرج لحاجته فانتحب الْقَوْمُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَأَخَذَ بلجبتي الباب فقال: "مهيم" 1.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في 11/391 بلفظ: "لحمتي الباب" وأحمد" في 6/455 بلفظ: "بلجمتي الباب" والطبراني كما في مجمع الزوائد 7/345 بلفظ: "لحمتي الباب" وانظر الفائق "لجف" 3/304.

(1/551)


أَبُو الْعَبَّاسِ الأَصَمُّ نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ.
هَكَذَا قَالَ الأَصَمُّ: لَجْبَتَيِ الْبَابِ وَأُرَاهُ لَجْفَتَيِ الْبَابِ بِالْفَاءِ. وقد اختلف فيه فَقَالَ بعضهم اللّجاف والنّجافُ أُسكُفَّهُ1 الباب. وقال آخرون: اللجافُ ما يُجْعَلُ من الخشَب فوق الباب لِيُمْسِكَهُ وَيَرُدَّه والّذي أُرِيدَ بِهِ في الحديث إنّما هُوَ العَضادتان دون الأسْكُفَّة وَدون ما يجعل فوق الباب من الخشب واللَّجَفُ أيضًا ما تلجّف من الطِّين في أسفل الحَوضِ والبئرِ أي تقطَّع وتقلع منه. قَالَ الشاعرُ:
يَحُجُّ مَأمومةً في قعرها لَجَفٌ ... فاسْتُ الطَّبيِب قَذاها كالمغَاريد2
أي الكمأة3
واللّجَفُ أيضًا حجر ناتىء4 ربمّا تَعلَّقت بِهِ الدَّلوُ فتَقطَّعت قَالَ الشاعر:
الدلْوُ دَلْوِي إن نَجَت من اللَّجَفْ ... وإن نجا صاحبها من اللفف5
__________
1 كذا في ت وفي القاموس "سكف": الأسكفة خشبة الباب التي يوطأ عليها. وفي س, م, ح سكفة الباب.
2 اللسان "لجف" والبيت لعذار بن درة الطائي وجاء فيه: الجوهري: اللجف: حفر في جانب البئر ولجفت البئر لجفا وهي لجفاء وتلجفت كلاهما تحفرت وأكلت من أعلاها وأسفلها وقد استعير ذلك في الجرح.
3 من ت.
4 م: "حجر نات".
5 اللسان والتاج "لفف" دون عزو.

(1/552)


قَالَ الأصمعي: يقال بِئْر مُتَلَجَّفَةٌ قَالَ واللَّجفُ أيضًا سُرَّةُ الوادي قَالَ: وهو البُعْثطُ أيضًا. وَمَهْيَمَ كلمة استفهام واستخبار.

(1/553)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وهم يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهم يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيُهُمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي هُشَيْمَ2 عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
قوله: يُردّ مُشِدُّهم عَلَى مُضْعِفِهم معناه أنَّ مَنْ حَضَر الوقعة من ضَعيفٍ أوْ قويّ حَاز المغنم وكان أُسوةَ أصحابه لا يفَضَّل قويٌّ كَثُر بلاؤُه عَلَى ضعيفٍ يقالُ رَجُلٌ مُشِدٌّ إذَا كانت دوابُّهُ شديدةٌ قويةً ومُضْعِف إذَا كانت دوابُّهُ ضِعافًا. وفي بعض3 الحديث: أنَّ المُضِعف أميرُ الرُّفقة يُريدُ أنَّ على القوم أن يسيروا بسيره أنشدني أبو عُمَرَ:
عَهْدي بهمْ في الحي قد سندوا ... تهدي صِعابَ مَطيّهم ذُلَلُهُ4
وفيه من الفقه أنّ الجياد لا تُفضَّلُ في السهمان عَلَى المقارِيف. وقوله: ومُتَسَرِّيهم عَلَى قاعدهم معناه أن الخارج في السَّرية يَرُدُّ عَلَى القاعد ما يُصيبه منِ الغنيمة وهذا في السَّريّة يبعثُهم الإمامُ وهو خارجٌ إلى بلاد العدو فإذا غَنِموا شيْئًا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وبين أهلِ العَسكْر عامةً لأنهم ردء لهم فأما
__________
1 أخرجه أبو داود 3/80, 4/181. وابن ماجه 2/895 مختصرا.
2 م: "هشام" والمثبت من ت, س, ح.
3 م: "وفي الحديث".
4 هامش م: سندوا أي صعدوا في الجبل.

(1/553)


إذَا بَعَثَهم الإمام وهو مُقيم فإنّ القاعدَ معه لا يَشْرك الظاعنَ في المغنم فإن كَانَ الإمام جعل لهم نَفلَا لم يَشْركهمْ غيرهم في شيء من ذَلِكَ عَلَى الوجهين مَعًا وكان رَسُول الله يُنَفِّل السَّريَّة إذَا بعثهم في البدأة والرَّجْعَة وهو أن يجْعَلَ لهم شَطْرَ ما غَنِمُوه بعد الخُمس ليكونَ أنشطَ لهم في الغَزْو وأحرص عَلَى الجهاد.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْعَلاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ جَارِيَةَ التَّمِيمِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الرُّبْعَ فِي الْبَدْأَةِ وَنَفَلَ الثُّلْثَ بَعْدَ الْخُمْسِ إِذَا قَفَلَ1.
ويشْبه أن يكون والله أعلم إنما فَضَّل العطاء في الرَّجْعَةِ عَلَى البَدْأة لقُوَّة الظَّهر عند دُخُولهم وضَعْفِه عند رجوعهم فَجعل المعونةَ لهم بإزاء المؤُونةِ عليهم.
وفيه من الفقه جوازُ أَمانِ العَبْد قاتل أو لم يقاتل.
__________
1 أخرجه أوب داود في 4/80 وابن ماجه 2/951 وأجمد 4/160.

(1/554)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا بَلَغَهُمْ خُرُوجُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى بَدْرٍ يَرْصُدُونَ الْعِيرَ قَالُوا اخْرُجُوا إِلَى مَعَايِشِكُمْ وَحَرَائِثِكُمْ1.
يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ هَكَذَا حُدِّثْتُ بِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْهُ.
الحرائثُ أنْضاءُ الإبل واحدتها حَرِيثَة وأصلُه في الخيل إذا هزلت.
__________
1 الفائق "حرب" "حرث" 1/274.

(1/554)


يقال: أَحرثْنا الخَيْلَ وحَرَثْنَاهَا أي هَزَلْنَاهَا وإنّما يُقالُ في الإبل أحرفْناها. يقال: ناقة حَرْفٌ أي هَزيل. ويقالُ سُمِّي حَرْفا لانحرافه عَنِ السّمن إلى الهزال. وقد تكون الحرائثُ يُرادُ بها المكاسب والمتاجر. والاحتراث اكْتِسابُ المالِ. قَالَ امرؤُ القَيْس:
ومنْ يحْتَرث حَرثي وحرْثَكَ يُهزَلِ1
وبعضهم يرويه إلى حرائبكم2 جمع حَرِيَبة. وحَرِيبةُ الرَّجل ماله الَّذِي يعيش بِهِ وهذا أشبه والله أعلم.
__________
1 الديوان/372 وصدره: "كلانا إذا مانال شيئا أفأته". ومن يحترث: أي من يفعل فعلي وفعلك.
2 النهاية حرب: وفي حديث بدر قال المشركون: اخرجوا إلى حرائبكم هكذا جاء في بعض الروايات بالباء الموحدة جمع حريبة وهو مال الرجل الذي يقوم به بأمره والمعروف بالثاء المثلثة: "حرائثكم".

(1/555)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قدموا على رسول الله قَالَ لَهُمْ: "أَمَعَكُمْ مِنْ أَزْوِدَتِكُمْ شَيْءٌ" قَالُوا: نَعَمْ. وَقَامُوا بِصُبَرِ التَّمْرِ فَوَضَعُوهُ عَلَى نِطَعٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِيَدِهِ جَرِيدَةٌ كَانَ يَخْتَصِرُ بِهَا فَأَوْمَأَ إِلَى صُبْرَةٍ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ فَقَالَ: "أَتُسَمُّونَ هَذَا التَّعْضُوضَ" قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. "وَتُسَمُّونَ هَذَا الصَّرَفَانَ" قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. "وَتُسَمُّونَ هَذَا الْبَرْنِيَّ" قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "هُوَ خَيْرُ تَمْرِكُمْ وَأَنْفَعُهُ لَكُمْ". قَالَ: فَأَقْبَلْنَا مِنْ وِفَادَتِنَا تِلْكَ وَإِنَّمَا كَانَتْ عِنْدَنَا خَصْبَةٌ نَعْلِفُهَا إِبِلَنَا وَحَمِيرَنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا عَظُمَتْ رَغْبَتُنَا فِيهَا ونسلناها1 حتى تحولت
__________
1 ت: "وتسائلنا" والمثبت من م, ح والنهاية "نسل" وجاء فيها: فنسلناها: أي استثمرناها وأخذنا نسلها وهو على حذف الجار أي نسلنا بها أو منها على نحو أمرتك الخير أي بالخير.

(1/555)


ثِمَارُنَا فِيهَا وَرَأَيْنَا الْبَرَكَةَ فِيهَا1.
حُدِّثْتُ بِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ2 نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَبْدِيُّ3 أَنَّ بَعْضَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ذَكَرَهُ.
الخَصْبَة الدَّقَل نَوعٌ منه يُسَمَّى الخَصْب قَالَ الأعشى:
وكل كميت كجذع الخصا ... ب يَرْدِي عَلَى سَلِطاتٍ لُثُمْ4
قَالَ أبو عبيدة: الخِصَاب جمع الخَصْبة وهي الدقل.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 3/432, 4/206.
2 ت: "عن أبي خيثمة" والمثبت من م, ح, س.
3 م, ح: "العصري".
4 البيت في اللسان والتاج "خصب" وفي هامش م: سلطات: قوائم قوية تسلطه كأنها تلثم الأرض والبيت في الديوان /199 برواية: "كجذع الطَّرِيقِ".

(1/556)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلَّفَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ إِذْنَ رَبِّهِ فِي الْخُرُوجِ اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي دَارِ النَّدْوَةِ يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِهِ فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ عَلَيْهِ بَتٌّ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنِّي مُشِيرٌ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ قَالَ: مَا هُوَ قَالَ: نَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلامًا شَابًّا نَهْدًا ثُمَّ يُعْطَى سَيْفًا صَارِمًا فَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَقْتُلُوهُ. ثُمَّ وَدَيْنَاهُ وَقَطَعْنَا عَنَّا شَأْفَتَهُ وَاسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَقَالَ: الشَّيْخُ هَذَا وَاللَّهِ الرَّأْيُ1.
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ2 حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عن ابن عباس
__________
1 ذكره ابن هشام في السيرة 2/89, 90 في حديث طويل.
2 من م.

(1/556)


يُقالُ: شيخٌ جليل إذَا كَانَ مُسِنًا كبيرًا وقد جَلّ الرَجُلُ إذَا أسنَّ قَالَ كُثَيّر:
أصَابَ الرَّدى منْ كَانَ يَهْوَى لكِ الرَّدَى ... وَجُنَّ اللّواتي قُلْنَ عزَّةُ جُنَّتِ1
أنشَدَنيه بعض أصحابنا أنشدنا الدُرَيديّ قَالَ كَانَ الرَّياشي يرويه:
وجُنَّ اللواتي قُلْن عزَّةُ جَلَّت
أي أسَنَّتْ وَعَجَّزتْ وذلك أن النَّاس لاموه فيها وقالوا: ما تصنع بِهَا وقد كبرت وعجزت. وسائر الناس يروونه:
وَجُنَّ اللّواتي قُلْنَ عزَّةُ جُنَّتِ
ويقال أيضًا: للرَّجل الطويلِ القامة الجهير المنظَر جَلِيلٌ. وناقَةٌ جُلالَةٌ إذَا كانت قوية ضخمة. والبت كساءٌ غليظٌ مُربّعٌ. وقوله: غُلامًا نَهْدًا يريد القَوِيَّ الجَلْدَ وأكثرُ ما يوصفُ بِهِ الخَيْل. يقال فَرسٌ نَهْدٌ وهو الجَسيمُ المُشْرِفُ من الخيل.
__________
1 الديوان /107 والأغاني 9/29.

(1/557)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لأَبِيهِ قَالَ: "فَيَمْسَخُهُ اللَّهُ ضِبْعَانًا أَمْجَرَ ثُمَّ يُدْخَلُ فِي النَّارِ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "فَيُحَوِّلُهُ اللَّهُ ذِيخًا" 2.
الأَوَّلُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ.
__________
1 الفائق "ضبع" 2/328 والنهاية "مجر" 4/299.
2 أخرجه البخاري 4/169.

(1/557)


وَالآخَرُ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
الأمجر: العظيم البطن المهزول الجسم. ورواهُ أبوُ عبيدٍ ضِبْعَانًا أمْدَرَ. قَالَ والأَمْدَرُ العظيم البَطْن المنتفخ الجنْبيْن. قَالَ ويُقالُ الأَمْدَرُ الَّذِي قد تَتَّرب جَنْبَاه من المدَر. والذَّيخُ ذكَرُ الضِّبَاع. قَالَ كثيرٌ يصف ناقةً:
وذِفْرى ككَاهِل ذيْخ الخلي ف ... أصابَ فَريقَةَ لَيْلٍ فعاثَا1
والضِّبْعانُ الذّكَرُ من الضِباع. والضَبعُ الأُنثى وهذا كما قِيلَ للذكر من العقارب عُقْرُبَانٌ وَلِذَكَر الثعالب ثُعْلُبانٌ. قَالَ أبو عُمَر ورواه لنا أبو العبّاس عن ابن الأعرابي قَالَ: فإذا هُوَ عَيْلامٌ أَمْدَرُ. قَالَ: والعيْلامُ ذَكَرُ الضِّباع وأنشد:
تَمُدُّ بالعِلْبَاءِ والأَخَادِع ... رَأسًا كعَيْلام الضباع الظالع2
__________
1 الديوان /212.
2 الفائق /328 برواية: "الضالع" بدل "الظَّالعِ".

(1/558)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُعَطَّلَ السُّيُوفُ مِنَ الْجِهَادِ وَأَنْ تُخْتَلَّ الدُّنْيَا بِالدِّينِ".
وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: "وتُتَّخذُ السُّيوفُ مَنَاجِلَ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ نا إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ نا محمد بن بشر نا أَبُو عَقِيلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هريرة.
__________
1 أخرجه أحمد 2/482 برواية: "وتتخذ السيوف مناجل" والحديث في الفائق "ختل" 1/354 والنهاية "ختل" 2/9.

(1/558)


قوله: تُخْتَل الدُنيا بالدِّين يريد أنّها تُطلَبُ بعَمَل الآخِرة وأَصْلُ الخَتْل الخَدْعُ. يُقالُ خَتلْتُ الرجُلَ إذَا خَدعْتَه وأنشدني أبو عُمَر:
أدَوْتُ لهُ لأَخْتِلَه ... فَهَيْهاتَ الفَتَى حَذِرُ1
ويقالُ: ختَلْتُ الصَيْدَ إذَا أتَيْتَه من حيث لا يَراكَ ومثله درَيْتُ الصَّيْدَ. قَالَ الشَّاعر:
فإن كنتُ لا أَدْري الظِّباءَ ... فإنَّني أَدُسُّ لها تحْتَ التُرَابِ الدّوَاهِيا2
وقال الأَخْطَلُ:
وإن كُنتِ قد أقْصَدْتِني إذْ رَمَيْتِني ... بسَهْمَيك والرَّامِي يُصِيب3
وما يَدْرِي يُريدُ أنّه قد يُصيب الرَّمية من غير أن يَخْتِل ومنه قولهم يُصِيبُ وما يَدْري ويُخْطِئُ إن دَرَى ويُرْوَى يَصِيدُ وما يَدْري.
وقوله: تُتَّخذ السّيوفُ مناجِلَ يرِيدُ أنّ الناس يَتْركُون الجهاد ويَشْتَغِلون بالحرث والزراعة.
__________
1 اللسان والتاج "أدو" برواية: "أدوت له لآخذه".
2 اللسان والتاج "درى" من غير عزو.
3 شعر الأخطل /179 برواية:
وإن كنت قد أصميتني إذ رميتني ... بسهمك فالرامي يصيد ولا يدري

(1/559)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ نَاوَلَهُ الْحَرْبَةَ فَلَمَّا أَنْ أَخَذَهَا انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً فَتَطَايَرْنَا1 عَنْهَا تَطَايُرَ الشعارير عن ظهر البعير2.
__________
1 م, ح: "تطايرنا".
2 الفائق "شعر" 2/348 والنهاية "شعر" 2/480.

(1/559)


أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيُّ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ هَانِي الشَّجَرِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ1: شَكَكْتُ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ وَأَثْبَتَهُ لِي عَنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا.
الشَّعاريرُ أصلها المتفرّقة. يقال: تفرّقوا شَعَارِيرَ وشَعَالِيلَ. والعرب تَقُولُ: في التَّفرُّق والتَّشَتُّتِ ذهبوا شَعَارِيرَ بِقنْذَحْرَةَ ومثلُه شَعَارِيرَ بِقِذَّان2 عَنْ أَبِي عَمْرو بْن العلاء.
وإنما أراد بالشَّعَارِير ما يجتمعُ عَلَى دَبَرة البَعِيرِ من الذِّبَّانِ فإذا هُيِّجَتْ تطايَرت عنها وتَفَرَّقت. والشَّعْراءُ3 ذُبابُ الكَلْب ويُجْمَعُ عَلَى الشُّعْر.
__________
1 من ت, م.
2 في اللسان "شعر": ذهبوا شعاليل وشعارير بقذان وقذان متفرقين واحدهم شعرور وكذلك ذهبوا شعارير بقردحمة. قال اللحياني: أصبحت سعارير بقردحمة وقردخمة وقندحرة وقندحرة وقدحرة معنى كل ذلك بحيث لا يقدر عليهما يعني اللحياني أصبحت قبيلة.
3 اللسان "شعر": أبو حنيفة: الشعراء نوعان للكلب شعراء معروفة وللإبل شعراء. فأما شعراء الكلب فإنها إلى الزرقة والحمرة ولا تمس شيئا غير الكلب. وأما شعراء الإبل فتضرب إلى الصفرة وهي أضخم من شعر الكلب ولها أجنحة وهي زغباء تحت الأجنحة. قال: وربما كثرت في النعم حت لا يقدر أهل الإبل على ان يحتلبوا في النهار ولا أن يركبوا منها شيئا معها فيتركون ذلك إلى الليل وهي تلسع الإبل في مراق الضلوع وما حولها وما تحت الذنب والبطن والإبطين وليس يتقونها بشئ إذا كان ذلك بالقطران وهي تطير على الإبل حتى تسمع لصوتها دويا والجمع من كل ذلك شعار.

(1/560)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "النَّاسُ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَة وَلا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لا يَرَى لَكَ مِثْلَ الَّذِي تَرَى لَهُ" 1.
حَدَّثَنَاهُ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْعَسْقَلانِيُّ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَيُّوبَ الْحَوْرَانِيُّ نا بَكْرُ بْنُ سُلَيْمٍ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ.
قوله: "كأَسْنان المُشْط" مَثَلٌ والمعنى أَنّهم سَواء في أصْل الخِلْقَة والجِبِلَّة كما أنّ أَسنانَ المُشْط سواء لا يَفْضُلُ سِنٌّ منها سنًّا2. ويُقال في وجهٍ آخر هم كأسْنان الحِمَار وذلك في الذَّمِّ لا غير. قَالَ الشاعر:
سَوَاسِيَةٌ كأسْنَان الحِمَار3
فأما قوله: الناسُ كإبِلٍ مائةٍ لا تكاد تجد فيها راحلة4 فمعناه أنهم مُتَساوون في الحُكْم لا فَضْل لشَرِيف عَلَى مَشْرُوفٍ ولا لِرَفيعٍ عَلَى وَضِيع.
وقوله: "لا خَيرْ في صُحْبَةِ مَنْ لا يَرَى لَكَ مِثْلَ الَّذِي ترى له" يُتَأَوّلُ عَلَى وَجْهَين أحدهما أن يكون حذَّرَه صُحْبَةَ مَنْ يذهب بنَفْسه تِيهًا وكِبْرًا فلا يَرَى لأحدٍ عَلَى نَفْسه حَقًا.
والوَجْهُ الآخرُ أن يكون حَثَّه بذلك عَلَى شُكْرِ العارفة والمُكافأةِ عَلَى
__________
1 ذكره السيوطي في اللآلئ 2/290. وعزاه لحسن بن سفيان في المسند والدولابي في الكنى وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات 3/80 من حديث أنس وعزاه لابن عدي. وهو مثل في مجمع الأمثال 2/340 والمستقصي 1/352.
2 ح: "لا يفضل شئ منها سنا".
3 اللسان والتاج "سوا" وصدره: "شبابهم وشيبهم سواء" ولم يعز.
4 أخرجه البخاري 8/130 ومسلم 4/1973 وابن ماجه 2/1321 وأححمد 2/7.

(1/561)


الإحْسان كأنّه قَالَ: لا خيرَ لك في صُحْبَة مَنْ لا يرى لك عنده من الصنيعة مِثَل الَّذِي تراه لَهُ عندك يُريدُ لا تَرْضَ بأن تكون مَغْمُورًا بِبِرِّ من تَصْحَبُه حتّى تُنيلَه من بِرِّك مثْل ما تَنَالُ من بِرِّهِ وعلى هذا المعنى يُتأوَّلُ قَولُ جرير بْن الْخَطَفي:
وإنّي لأستَحِيي أخي أَن أَرَى لَهُ ... عَليَّ من الحَقَّ الذي لا يرى ليا1
__________
1 لم أقف عليه في ديوانه ط / بيروت. وفي الديوان قصيدة على الوزن والقافية.

(1/562)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ أَبُوهُ: "رَجُلٌ طُوَالٌ مُضْطَرِبُ اللَّحْمِ طَوِيلُ الأنْفِ كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ وَأُمُّهُ امْرَأَةٌ فِرْضَاخِيَّةٌ عَظِيمَةُ الثَّدْيَيْنِ" 1
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ نا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ. حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ2 يقال: رجل فِرضاخٌ وامرأةٌ فِرْضاخَةٌ. والفِرضاخُ الكثير اللحم العريض الصدر.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 5/40, 49.
2 من ت, م.

(1/562)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ وَالْحَلْقَةَ فَإِنْ كَتَمُوا شَيْئًا فَلا ذِمَّةَ لَهُمْ فَغَيَّبُوا مَسْكًا لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ فَوَجَدُوه فَقَتَلَ ابْنَ أَبِي الحقيق وسبى ذراريهم1.
__________
1 أخرجه أبو داود 3/157.

(1/562)


أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ1 نا أَبِي نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
الصَّفراء الذَهَبُ. والبيضاءُ الفِضَّةُ. ويُقالُ ما لِفُلان صَفراءُ ولا بيْضاء. والحَلْقَةُ الدُّروعُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرب:
قَوْمٌ إذَا لبسوا الحدي ... د تنمروا حَلَقًا وقِدَّا2
وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى الْيَهُودِ إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُنَّ صَاحِبَنَا أَوْلا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ نِسَائِكُمْ فِي شَيْءٍ3.
فالحَلْقَةُ: الدُّرُوعُ والخَدَمُ الخلاخِيلُ واحدَتُها خَدَمَة. والمُخدَّمُ موضع الخَلْخَالِ من السَّاقِ. وقوله: فَغَيَّبُوا مَسْكًا لِحُيَيّ فإنَّ محمَّد بْن يحيى الشّيْبانِيّ أخبرني عَنِ الصائغ عَنْ إبراهيم بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ كَانَ من مالِ أَبِي الحُقَيق كَنْزٌ يُسمَّى مَسْك الحَمَل كَانَ يَلِيه الأكبرُ فالأكبرُ منهُم وإنّهم غَيَّبوه وكَتَمُوه فقتلهم رَسُولُ الله بنقضهم العهد.
__________
1 ت: "هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزرقان أبي" وفي م: "هارون بن يزيد عن أبي زرقاء". وفي تقريب التهذيب 2/311: هارون بن أبي زيد بن أبي الزرقاء التغلبي أبو محمد الموصلي مات سنة 250هـ. وفي سنن أبي داود مثل ماجاء في المتن.
2 اللسان والتاج "نمر" وشعر عمرو بن معد يكرب ط دمشق/64.
3 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5/358 وأبو داود في الخراج والإمارة والفئ 3/156 حديث طويل.

(1/563)


ورَوَى الواقديُّ عَنْ أَبِي مَعْشَر قَالَ: مَسْكُ الحَمَل كَنْزُ آل أَبِي الحُقَيْق وحُلِيٌّ من حُلِيّهِم كَانَ يكونُ في مَسْك حَمَلٍ ثُمَّ في مَسْك ثَوْرٍ ثُمَّ في مَسْكٍ جَمَلٍ. وكان العُرْسُ يكون بمكّة فيُسْتعار مِنهم ذَلِكَ الحُلِيّ قَالَ: الواقدي وقد قوّموه1 نحو عشرة آلاف دينار.
__________
1 م: "قدموه".

(1/564)


وَقَال أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأكْوَعِ قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ الْحُدَيْبِيَةَ فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى جَبَاهَا فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا قَالَ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسُّونَا الصُلْحَ حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ فَاصْطَلَحْنَا1. فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ.
يَرْوِيهِ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ الأصمعيُّ: الجَبَا ما حَوْل البِئْر مَقْصُورا. والجِبَا بالكَسْر ما جَمعْتَ فيه الماء. قَالَ رؤبة:
ذَاكَ وغَمْراتٌ جِباها مُتْرَع2
وأنشدنا ابن الأعرابي أنشدنا ابن أَبِي الدنيا:
إذَا المَرْءُ جازَ الأَرْبَعيْنَ فَقُلْ لَهُ ... بَلَغْتَ مَدَى الشُبَّان ويْحَكَ فاحْذَر
فإِنَّك لا تَدْرِي متى أنْتَ وارِدٌ ... جَبَا مَنْهَلٍ جَمِّ الشَّريعَة أكْدَر
وقولهُ: راسّونا الصُلْحَ أي راودونا الصُّلْحَ. قَالَ: أبو زَيْدٍ يقال:
__________
1 أخرجه مسلم في 3/1433.
2 لم أقف عليه في الديوان وفي ملحقه /177 قطعة على الوزن والقافية ليس فيها هذا البيت.

(1/564)


رسَسْتُ بين القوم أَرُسّ رَسًّا إذَا أصلحْتَ بينهم ومثله أسْمَلْتُ بين القوم إسْمالا. قَالَ الأصمعيّ ومثله أسوت بينهم آسو أَسْوًا. وقال الكسائي سَملْتُ بين القوم وسَممْتُ إذَا أصْلَحْتَ بينهم. قَالَ الكُمَيْتُ:
وتنْأَى قُعورُهم في الأمو ... ر عَلَى من يَسُمُّ ومَنْ يَسْمُلُ1
__________
1 الديوان 2/18 وفي اللسان والتاج "سم".

(1/565)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ عَامَّةُ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ الصَّلاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ1.
حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ2 النَّجَّادُ نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ نا خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ نا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ.
هذا يُتأوَّل عَلَى وجهين:
أَحدُهما أن يكون في مَمَالِيك الرَّقِيق أَمَر بالإحسان إليهم. والتَّخْفِيف عنهم.
والوَجْه الآخرُ أن يكون ذَلِكَ في حُقُوقِ الزَّكاةِ وإخراجِها من الأَمْوال التي تَمْلكُها الأَيْمانُ عَلَى مُشَاكَلة قَولِه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3.
وقد يكون عَلِم بما أَطْلَعَه اللهُ عَلَيْهِ من غيبه وأوحى إليه
__________
1 أخرجه ابن ماجه 2/900 والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف 1/319.
2 في بعض النسخ أحمد بن سليمان والمثبت من س, ح وفي لسان الميزان 1/180: أحمد بن سليمان بن الحسن بن اسرائيل بن يونس أبو بكر النجاد الفقيه الحنبلي المشهور توفي سنة 348هـ.
3 سورة البقرة: 110.

(1/565)


من أمره أَنَّ العَربَ تُنكِرُ الزَّكاةَ وتمتنعُ من أَدائِها إلى القائِم من بعده وتَفزَعُ في ذَلِكَ إلى الشُّبْهة التي قد تَعلَّق بها أَهلُ الرِّدَّة فاحتجّوا بها عَلَى أَبِي بَكْر فقالوا إنَّ فرْض الزَّكَاةِ قد انْقَطَع بموت رسول الله وأنّه لَيْس للقائِم بعدَه أَخْذُها لأنّ الخِطابَ في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 خارجٌ مَخرَجَ الخُصُوصِ لَهُ وأَنّ غيره من أمّته لا يتَّسِعُ للتَّطْهِير والتَّزكِية ولذلك يَقُولُ شاعِرُهم:
أَطْعنا رَسُولَ الله ما كَانَ بيننا ... فَوا عجبا ما بال مُلْك أَبِي بَكْر2
فقَطَع رَسُولُ الله دَعْواهم هذه بأن جَعَل آخرَ كلامِه الوَصِيَّةَ في الصّلاة خَلْفَ الأئِمّة بعدَه وأداءَ الزكاة إليهم وعَقَل أبو بَكْر هذا المعنى من الآية والخَبَر فاحتجّ بِهِ عَلَى الصَّحابة فَقَالَ: والله لأُقاتِلَنّ مَنْ فَرّق بين الصلاة والزكاة.
__________
1 سورة التوبة: 103.
2 سبق هذا البيت لوحة 205.

(1/566)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَرَأَيْنَا رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ قَالَ: فَخَرَجَ نَاسٌ فِي أَثَرِهِ وَخَرَجْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمٍ1 مِنْ أَسْلَمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ وَأَنَا عَلَى رِجْلِي فَأَعْتَرِقُهَا حَتَّى آخُذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَضْرِبُ رَأْسَهُ فَنَفَّلَنِي رَسُولُ الله سَلَبَهُ2.
يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأكوع3 عن أبيه.
__________
1 م: "من قومي".
2 أخرجه مسلم 3/1374 وأبو داود 3/49 وأحمد 4/50, 51 بدون لفظ: "فأعترقها".
3 من م, ح.

(1/566)


قوله: أعترقها لَسْتُ أدرِي كيف الرِّواية في هذا الحرف بالعَيْن أو بالغَيْن فإن كانت بالغَيْن مُعجمةً كَانَ معناه أنّه سَعَى شَدًّا عَلَى رِجْله حتى تَقدَّمها فأخذ بخِطام الجمل. يُقال: للفرس إذَا خالطَ الخَيْل ثمّ سَبقَها قد اغْتَرقَها. وإنْ كانت الرِّواية بالعَيْن فمن قولهم: عَرَق الرَّجلُ عُروقًا في الأرض إذَا ذَهَب وَجَرت الخيْلُ عَرَقًا أي طَلَقًا وعلى هذا تأوَّل ابنُ دُريد قَولَ قَيسِ بْنِ الخَطيم:
تَعْتَرقُ الطَّرْفَ وهْيَ لاهَيةٌ ... كأنَّما شَفَّ وَجْهَهَا نزَفُ1
زعم2 مَبْرمانُ النَحْويُّ أنّه أَنشدهم هذا البَيْتَ تَعْتَرِقُ بالعيْن غيرِ مُعجمة يريد أَنَّها تَسْبِق نَظَر العَيْن وتَفُوتُه فلا يَقْدر عَلَى استِيفاءِ مَحاسِنها. قَالَ: والروايةُ الصحيحةُ تَغْتَرِقُ بالغيْن مُعجمة ورِوَايةُ ابنِ دُرَيد تَصْحيف
وقال المُفجَّع يذكرُ ذلِك في أشياء زعم أن صَحّفَ فيها:
ألَسْتَ قِدْمًا جعَلْتَ تعترق الط ... رف بِجَهْلٍ مَكَانَ تَغْتَرِقُ
وقُلْتَ كَانَ الخِباءُ من أَدَمٍ ... وهو حِباء يُهدَى ويُصْطَدَقُ3
يُرِيدُ قَولَ مُهلهِل بْن ربيعة:
أنكحَها فَقْدُها الأراقَم في ... جَنْبٍ وكان الحِبَاءُ مِنْ أدَم
زعم أَنَّهُ أنشدهم البيت بالخاء وإنما هُوَ الحِبَاء بالحاء وهو عَطِيّة الصَّدَاق وكان مُهَلهل نَزَل في آخر حَرْبِ البَسُوسِ في جَنْب ابنِ عَمْرو وهو
__________
1 الديوان /55.
2 م: "حكى" وفي ت: "يحكى".
3 في هامش م: "يصطدق من الصداق.

(1/567)


حَيٌّ من أحياء مَذْحِج وضِيعٌ فخُطِبَتِ ابنَتُهُ ومُهِرَتْ أَدَمًا فلم يقدِرْ عَلَى الامْتَناع فزوَّجَها. وقال:
أنكحَها فَقْدُها الأراقَم في ... جَنْبٍ وكان الحِباءُ مِن أدَمِ
لَوْ بأبا نين جاء خاطِبُها ... ضُرِّجَ ما أَنْفُ خاطب بِدَمِ1
والأَراقُم قَبِيلةٌ من تَغْلِب سموا أراقم لأن أعينهم شبهت بعيون الأراقم. وهي الحيات.
__________
1 اقتصر اللسان والتاج "ضرج" على البيت الثاني والبيت الأول في اللسان والتاج "جنب, رقم" برواية: زوجها بدل: أنكحها.

(1/568)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ حُميدَ بْنَ ثَوْرٍ الْهِلالِيَّ أَتَاهُ حِينَ أَسْلَمَ فَقَالَ:
أصْبَحَ قَلْبِي مِنْ سُلَيْمَى مُقْصِدَا ... إِنْ خَطَأَ مِنْهَا وَإِنْ تَعَمَّدَا
فَحُمِّلَ الْهَمُّ كِلازًا جَلْعَدَا ... تَرَى الْعُلَيْفيَّ عَلَيْهِ مُؤَكَّدَا
وَبَيْنَ نِسْعَيْهِ خِدَبًّا مُلْبِدَا ... إِذَا السَّرَابُ بِالْفَلاةِ أَطْرَدَا
وَنَجِدَ الْمَاءُ الَّذِي تَوَرَّدَا ... تَورُّدَ السِّيِّدِ أَرَادَ الْمَرْصَدَا
حَتَّى أَرَانَا رَبُّنا مُحَمَّدَا1
حَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحْرِ بْنِ بَرِّيٍّ نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ نا يَعْلَى بْنُ الأَشْدَقِ2 قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ الهلالي.
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 8/125 وعزاه للطبراني وذكره الحافظ في الإصابة 1/365 وقد قال: روى ابن شاهين والخطابي في الغريب والعقيلي في الضعفاء والطبراني كلهم من طريق يعلى ابن الأشدق. والرجز في الديوان /77, 78 ويروى أنه لما أسلم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأنشده إياه.
2 ت: الأشرف "تحريف" والمثبت من م, ح.

(1/568)


يُقالُ: أقْصَدْتُ الرَّجُلَ إذَا طعَنْتَه فلم تُخْطِ مقاتلَه. قَالَ الشاعرُ:
وإن كُنتِ قد أقْصَدْتِني إذْ رَمَيْتِني ... بسَهْمَيك والرَّامِي يُصِيب وما يَدْري1
وقوله: فَحُمِّل الهَمُّ هكذا أنشدوه2 بكَسر الهاء. والهِمُّ الشَيْخُ الفاني والهِمُّ الجَملُ أيْضًا. والكِلازُ المُجْتِعُ الخَلْقِ. يقال اكْلأَزَّ الرَّجُلُ إذَا تقبّض وتجمَّع. قَالَ الشاعر:
أَقْولُ وَالنّاقَةُ بي تقحَّمُ ... وأنا منها مُكْلَئِزٌّ مُعْصِمُ3
والجَلْعَدُ: الغَلِيظ الضَخْمُ. قَالَ الهُذَليُّ:
أَرَى الدَهْرَ لا يَبْقَى عَلَى حدثانه ... أَبُودٌ بأطْرَاف المنَاعَة جَلْعَدُ4
والعُليْفيُّ: الرجُلُ منسوبٌ إلى قَوْمٍ كانُوا يعملون الرِّحالَ. يقال: لهم بنو عِلافِ قَالَ النابغة:
شُعَبُ العِلافِيَّات بَيْن فُروجِهم ... والمُحْصنَات عَوازِبُ الأَطْهار5
يريدُ أنّهم اختاروا الغَزْوَ عَلَى النِّساء.
قَالَ ابنُ الكَلِبيّ: أوّلُ من عَمِل الرِّحالَ عِلافٌ وهو زَبّانُ أبُو جَرْمٍ ولذلك قِيلَ للرِّحَال عِلافيَّةٌ
والمؤكَدُ الموثَّقُ الشَّدِيدُ الأَسْر ويروى:
__________
1 سبق في لوحة 209.
2 م: "أنشده الراوي".
3 اللسان والتاج "قحم, كلز" ولم يعز.
4 شرح أشعار الهذليين 3/1170 وهو لساعدة بن جؤبة الهذلي. والأبود: الأبد وهو المتوحش والجلعد: الغليظ والمناعة: بلد.
5 الديوان /107.

(1/569)


تَرَى العُلَيْفيَّ عليْه مُوفِدَا
ومعناه مُشْرِفا. والخِدَبُّ الضّخْمُ يريد بِهِ سَنامَه أو جُفْرةَ جَنْبَيْه. والمُلبِدُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ لِبْدةٌ من الوَبَر. ويُقالُ اطّردَ السَّرابُ إذَا خَفَق ولَمَع. وقوله: نَجِدَ الماءُ أي سال العَرقُ. يُقال نَجِدَ يَنْجَدُ نَجَدًا قاله الأصمعيُّ وغيره وأراد بالماء الَّذِي تورّدَ العَرقَ الّذي يَسيلُ من ذِفْرَيَيِ1 البَعِير أسْود فيَقْطُر ثُمَّ يصفَرُّ وتورُّدُه تلونه شبه تلونه بتلون السِّيد وهو الذئْب إذَا تلوّن فجاء من كل وَجْه. وقَولُ الله تَعَالَى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} 2 من هذا.
__________
1 س, ح: "ذفري".
2 سورة الرحمن: 37.

(1/570)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا الْعَطَاءَ مَا كَانَ عَطَاءً فَإِذَا تَجَاحَفَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْمُلْكِ وَكَانَ عَنْ دِينِ أَحَدِكُمْ فَدَعُوهُ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ2 نا سُلَيْمَانُ أَوْ سُلَيْمُ بْنُ مُطَيْرٍ الشَّكُّ مِنِّي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ وَادِي الْقُرَى. حَدَّثَنِي أَبِي مُطَيْرٍ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهَ يَقُولُ ذَلِكَ.
قولُه: تجاحَفَتْ مَعْنَاه تنازَعَت المُلْكَ وتَقاتلَتْ عَلَيْهِ. ومنه قولهم أَجْحفَت بنا السَّنَةُ أي أذهبَتِ المالَ وأَضَرَّت بِهِ. قَالَ الأصمعيّ يُقال سيْلٌ جُحافٌ وجُرافٌ وهو الَّذِي يذهب بكلّ شيء. قَالَ امرؤُ القَيْس:
__________
1 أخرجه أبو داود في كتاب الخراج 3/138.
2 في التقريب 1/14: أحمد بن أبي الحواري. هو ابن عبد الله بن ميمون. وفي التهذيب 1/26مات 246هـ.

(1/570)


لها عجز كصفاة المسي ... ل أبرز عنها الجحاف المضر1
__________
1 الديوان /164 برواية: "جحاف مضر".

(1/571)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ يُجْرَحْ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَتَشَلْشَلُ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ" 1.
يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ عَنْ شَيْبَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قوله: يتشلشل معناه يتَقاطَرُ دَمًا. قَالَ ذُو الرمة:
__________
1 أخرجه البخاري في 4/22 والترمذي في فضائل الجهاد 4/184 وابن ماجه في الجهاد 2/934 بنحوه بدون لفظ: "يتشلشل".
2 الديوان /1 واللسان والتاج "متشلشل".

(1/571)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لا تُحَرِّمُ الْمَلْحَةُ وَالْمَلْحَتَانِ" 1.
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ.
المَلْحَةُ بالحاء الرَّضْعَةُ الواحِدَة. والمِلْحُ الرَّضاعُ. قَالَ أبو الطَّمحان القينيّ:
وإنّي لأَرْجُو مِلْحَها في بُطُونِكم ... وما بَسَطتْ من جلْد أَشْعَثَ أغبرا2
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/469 بلفظ: "المللجة والملجتان".
2 اللسان والتاج "ملح" وجاء في اللسان: وكانت له إبل يسقي قوما من ألبانها ثم إنهم أغاروا عليها فأخذوها.

(1/571)


وكانوا أغاروا عَلَى إِبِله يَقُولُ أرجو أن يعطِفكم ما شَرِبْتُم من ألبانِها وتَرعَوْن لي حُرْمَةَ ذَلِكَ فتردُّونَها وقال آخر:
لا يبعد الله رب البلا ... د الملح ما ولَدَتْ خالدَه1
وقال عَمْرو بْن سعيد لعبد الملك يوم قَتَلَه: أذكِّرُكَ مِلْحَ فلانةَ يعني امرأَةً أرْضَعَتْهما معًا. والمِلْحُ الشَّحْمُ أيضًا. قَالَ مِسْكِينٌ الدارميّ:
لا تَلُمْها إنَّها من أمَّةٍ ... مِلْحُها مَوْضُوعَةٌ فوْقَ الرُّكَبْ2
وقال الأصمعيُّ: بعير مملَّح إذَا كَانَ فيه شيء من شَحْم. وقال عُرْوَةُ:
عشية رحنا سائرين وزادنا ... بقية شحْمٍ من جَزُورٍ مُمَلّح3
فأمَّا المَلْجَةُ بالجيم فهي المَصَّة. يُقالُ مَلَجَها ومَلَقَها ولا يُقالُ ملَحها من المِلح إنّما يُقالُ مَلَحتْ بِهِ إذَا أَرضَعَتْه.
وفي الحديث من الفقْه أَنَّ الرَّضْعة والرَّضْعتيْن لا تُوِقع الحُرْمة.
وفي بعض الرِّوايات: "لا تُحَرِّمُ الخَلْجَةُ والخَلْجتان" وأَصْل الخَلْج النَّزْع وكل قليل من الماء نُزِع عَنْ كثير فقد خُلِج منه ومن هذا خليج البحر4.
__________
1 اللسان والتاج "ملح" دون عزو.
2 ت: "إنها من نسوة" والبيت في اللسان والتاج "ملح".
3 م, والديوان /41 برواية: "بقية لحم" بدل "بقية شحم" والشاعر هو عروة بن الورد العبسي وروى الشطر الأول:
ينئون بالأيدي وأفضل زادهم
4 من ت, م.

(1/572)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ خَيْلًا أَغَارَتْ عَلَى سَرْحِ المدينة فخرج رسول الله وَجَاءَ أَبُو قَتَادَةَ وَقَدْ رَجَّلَ شعره فقال رسول الله: "إِنِّي لأَرَى شَعْرَكَ حَبَسَكَ" فَقَالَ: لآتِيَنَّكَ بِرَجُلٍ سَلَمٍ1.
يَرْوِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي هِلالٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
قَوْلُهُ: سَلَم أي أَسِير وإنّما قِيلَ للأَسِير سَلَمٌ لأنّه قدْ أسلم وخذل. قال الفرزذق:
وقُوفًا بها صَحْبي عليَّ كَأنَّني ... بها سَلَمٌ في كفّ صَاحبِه ثَأرُ2
ومِثْلهُ: قَوْمٌ سَلمٌ الواحِدُ والجَمِيع سواءٌ قَالَ الشاعرُ:
فاتَّقَيْن مَرْوانُ في القَوْمِ السَّلَمْ
وهذا كما قِيلَ: رَجُلٌ خَصْمٌ وقَوْمٌ خَصْمٌ ورَجُلٌ عَدُوٌّ وقَوْمٌ عَدُوٌّ قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} 3. ويُقال: إنَّما سُمِّي اللَّدِيغُ سَليمًا لأنّه مُسْتَسْلِم لِمَا بِهِ.
أخبرني أَبُو عُمَرَ أنا أَبُو الْعَبَّاسِ ثعلب عن ابن الأعرابي قَالَ سَأَلْتُ أَبَا المُكارِم عَنِ السَّلِيم فَقَالَ سُمِّي سِليمًا لأنّه مُسْتَسْلِمٌ لِما بِهِ. قَالَ وسُمِّيَتْ مَفازة لأن من قطعها فازَ بالحياة.
وقال بعضُهم: إنّما سُمِّيت مفَازةً من قولهم فوْزَ الرجلُ إذَا مات يريد أنّها مَهلكةٌ وأَنشدَ قولَ الكُميتِ:
وما ضرَّني أنَّ كَعْبًا ثَوى ... وفوّزَ مِنْ بَعْده جَرْوَلُ4
__________
1 أخرجه ابن أبي شيبة في 5/319.
2 الديوان 1/253.
3 سورة الكهف: 50.
4 الديوان 2/26 برواية: "وماضرها".

(1/573)


فأما عامَّة أهل اللغة الأَصمَعِيُّ وغيره فإنَّهم قَالُوا سُمِّي سليمًا عَلَى مذهب التَطيُّر لِيَسْلم كما سُمَّيَتْ مفازةً ليَفُوزَ.
فَأَمَّا حَدِيثُهُ الآخَرُ أَنَّهُ أَخَذَ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ سَلَمًا1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ نا حَمَّادٌ أنا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ.
مَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ وَمِنْهُ قَولُه تَعَالَى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} 2 أي المقادة واستسلموا لكم.
__________
1 أخرجه مسلم في الجهاد والسير 3/1442 وأبو داود في الجهاد 3/61 والترمذي في التفسير 5/386 وأحمد في مسنده 3/290.
2 سورة النساء: 90.

(1/574)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْقُسَامَةَ" قِيلَ وَمَا الْقُسَامَةُ قَالَ: "الشَّيْءُ يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ فَيُنْتَقَصُ مِنْهُ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ التِّنِّيسِيُّ نا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ نا الزَّمَعِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُرَاقَةَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ.
المُحدِّثُون يقولون القَسامَة بفتْح القَافِ والقَسامَةُ من قسم اليمين وإنما هي القُسَامة بضمّ القاف وهو ما يأخذهُ القَسَّامُ لأُجْرته فيَعْزَل من رأسِ المالِ جُزْءًا معلومًا لنفسه كالسُّقاطَةِ اسْمًا لِما يَسْقُطُ والنُّشَارة لِما يُنشَر والنُّحاتَةُ لما يُنْحتُ والبُراية لِما يُبْرى وإنّما المكروه من ذَلِكَ ما يُقْتات بِهِ على أرباب المال من غير إذن منهم فيه عَلَى ما تواضعه الباعة وارتسمه
__________
1 أخرجه أبو داود في الجهاد 3/91.

(1/574)


السَّماسرة فيما بينهم من أَخْذهم من عُرْضِ المالِ شَيئًا مَعْلُومًا من كلّ ألْفِ درهم عشرين درهمًا أو نحوها وإنّما يلزَمُ في هذا أجرُ المِثْل بالغًا ما بلغ ولا أعلم أحدا كَره أُجْرةَ القَسَّامِ إلا ما يُرْوَى عَنْ بَعْض السَّلَف إنّه كَانَ يذهب في ذَلِكَ إلى أنّها لا تَحِلّ من أجْل أنّه زعم كالحاكم وإنّما أَجرُه في بيت المال.

(1/575)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ مِنْ أَطْوَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ صَلاةً فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَنَشَلَهُ نَشَلاتٍ وَقَالَ: "إِنَّ هَذَا أَخَذَ بِالْعُسْرِ وَتَرَكَ الْيُسْرَ" ثَلاثًا ثُمَّ دَفَعَهُ فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ 1.
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أنا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الأَدْرَعِ.
قوله: نَشَله نَشَلاتٍ أي جَذَبَه جَذَباتٍ وبه سُمِّي المِنْشَلُ وهي الحديدة التي يُخرجُ بها اللّحْمُ من القدر.
__________
1 أخرجه أحمد 4/338, 5/32 بسياق آخر.

(1/575)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنْ خَيْبَرٍ وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا وَكَانَ يُحَوِّي وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ بِكِسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ1.
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيِّ نا قُتَيْبَةُ نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو2 مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أنس بن مالك يذكره.
__________
1 أخرجه البخاري في 3/110, 4/43, 5/172, 997. وأحمد في 3/159.
2 م: "عمرو بن أبي عمر" والنثبت من س, ت, ح.

(1/575)


قوله: يُحَوّي هُوَ أن يُديرَ كِساءً حَوْلَ سَنامِ البَعِير ثُمَّ يركبُ وهو الحَوِيَّة. قَالَ الأصْمعيُّ: والسَّوِيّة كِساءٌ مَحْشُوٌّ بثُمامٍ أو ليفٍ أو نحوه يُجْعَل عَلَى ظَهْر البَعِير.
وفي قصّة بَدرٍ أنّ أَبَا جَهْلٍ بعث عُمَير بْن وَهْب الجُمحيَّ لِيَحزُرَ أصحابَ رسول الله فأطاف عمير برسول الله فلما رجع إلى أصحابه قَالَ: رأيْتُ الحَوايَا عليها المنايا نواضحُ يثرب تحمل الموت الناقع1.
__________
1 ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 4/269 بلفظ: " ... البلايا تحمل المنايا ... ".

(1/576)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ عَاهَدَهُ أَنْ لا يُعِينَ عَلَيْهِ وَلا يُقَاتِلَهُ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ ثُمَّ قَدِمَ المدينة معلنا معاداة النبي فَخَزَعَ مِنْهُ هِجَاؤُهُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام حين يقول:
أذاهب أن لَمْ تَحْلُلِ بِمَرْقَبَةٍ ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ
فِي أَبْيَاتٍ1 فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ2.
حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السُّرِّيُّ نا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ أَرَاهُ ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
قوله: فخزع منه هجاؤه للنبي أي قطع ذِمَّتَه وعَهْدَه هِجاؤُه للنّبيّ عَلَيْهِ السلام. يقال خَزَعَني ظَلَعٌ في رِجْلي أي قَطَعَني عَنِ المشْي وانْخزعَ فُلانٌ عنّا أي انْقَطَع. قَالَ حَسَّانُ بْن ثابت:
__________
1 من م.
2 الفائق "خزع" 1/367 والنهاية "خزع" 2/28.

(1/576)


فلّما هبَطْنا بَطْنَ مَرٍّ تَخزّعَتْ ... خُزاعةُ عَنَّا في حُلُولٍ كراكِرِ1
قوله: تخزّعَتْ خُزاعَةُ عَنَّا تَقَطّعَت وبه سُمِّيت خُزاعة وكان من أمر خزاعة ما حدَّثَنِي بِهِ محمد بْن نافع الخزاعي نا عمي إِسْحَاق بْن أَحْمَد الخزاعي نا أَبو الوليد الأزرَقي عَنْ سَعِيد بْن سالم القَدَّاح عَنْ عثمان بْن ساج عَنِ الكَلبي عَنْ أَبِي صالح قَالَ لمّا كَانَ من أمر مَأرِب وسَيْل العَرِم ما كَانَ اجتمعت العربُ إلى طُريْفَةَ الكاهنةِ فقالوا لها ماذا تأمُرين فقالت مَن كَانَ منكم ذَا هَمٍّ بعيدٍ وجَملٍ شَدِيد ومَزادٍ جَدِيد فلْيلحَقْ بقصر عُمانَ المَشِيد فكانت أَزْدَ عُمَان ثُمَّ قالت مَنْ كَانَ منكم ذا جَلَد وقَسْرٍ2 وصبْرٍ عَلَى أزمات الدَّهْر فعلَيْه بالأراك من بَطن مَرٍّ فكانت خُزَاعَة. ثُمَّ قالت مَنْ كَانَ منكم يريد الرَّاسِياتِ في الوَحْل المُطْعمِاتِ في المَحْل فليَلْحق بَيَثْربَ ذي النخل فكانت الأوس والخزرج. ثُمَّ قَالَتْ من كَانَ منكم يريد الخمر والخَمِيرَ والمُلْكَ والتّأمِيرَ ويَلبَس الدِّيباجَ والحرِيرَ فلْيلْحق بِبُصْرَى وغَوِير3 وهما من أرْض الشَّأْم فكان الذين سَكَنُوها آلُ جَفْنَة وغَسَّان ثُمَّ قالت مَنْ كَانَ منكم يُرِيد الثِّياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأَرزاق4 والدَّمَ المُهراقَ فليَلْحَقْ بأرضِ العِراق فكان الذين سَكَنُوها آلُ جَذِيمَة الأبرش ومن كَانَ بالحِيرَةِ من آلِ غسّان وآل مُحرّق.
قَالَ فأقبلوا وسارَت الأَوسُ والخَزرجُ إلى المدينة وانخزعت خزاعة
__________
1 الديوان /386 واللسان والتاج "خزع" والاشتقاق /468 برواية:
فلما قطعنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في جموع كراكر
2 م: "وقصر" والمثبت من ت, س, ح.
3 في معجم ما استعجم "الغوير" 3/1009 الغوير بفتح أوله وكسر ثانيه على وزن فعيل: موضع من أرض الشام وأشار إلى قصة طريفة الكاهنة.
4 ت, م: "الأوراق".

(1/577)


بمكّة فأقام بها وَوَلِي البيْتَ وذكر القصّة بطُولها1.
يريد أنها تخلّفَتْ عَنْ أصحابها وانقطعَتْ عنها.
__________
1 ذكر الأزرقي هذه القصة بطولها في أخبار مكة 1/94 وجاء فيها: "وانخرعت خزاعة بمكة فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر فولي أمر مكة وحجابة الكعبة".

(1/578)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ لا يَدْخُلُوا مَكَّةَ إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا أَبُو دَاوُدَ نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ نا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ2 مَا جُلُبَّانُ السِّلاحِ فَقَالَ الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ. الجُلُبَّانُ شيءٌ شبيهٌ بالجِراب من الأَدَمِ يضع فيه الراكبُ سيفَه بقِرابه ويضعُ فيه سوْطه يُعلِّقه الرّاكبُ من واسِطَة رَحْله أو من آخرِه3 وإنّما اشترطوا دخولَه مكّةَ والسيُوفُ في قُرُبِها ليكون ذَلِكَ عَلمًا للسلم إذ كان دخوله مكَّةَ صُلْحًا ولو دخلوها متقلَّدين لها لمِ تؤمن السَّلَّة كقول الشاعر:
إِنْ تَسْأَلُوا الحقَّ نُعْطِ الحقَّ سَائِلَه ... والدِّرْعُ مُحْقَبَةٌ والسَّيفُ مَقْرُوبُ
والعرب لا تضَعُ السِّلاحَ إلا في الأمْن. قَالَ مُرّةُ بنُ مَحْكان:
يَا رَبَّةَ البيْت قُومِي غَيْرَ صاغِرةٍ ... ضُمِّي إليكِ رِحالَ القوم والقُرُبَا
يُريدُ خُذِي سُيوفَهُم وأَعْلميهم أنهم في دار عز وأمان.
__________
1 أخرجه البخاري في 3/241 ومسلم 3/1410 وأبو داود في المناسك 2/167 وأحمد في 4/289, 291, 302.
2 م: "فسألت".
3 م, ح: "آخرته".

(1/578)


فأمّا خَبُر فتْحِ مكَّة ورواية مَنْ رَوَى أنّ رَسُولَ الله دخلها عَنْوةً فإنّ العَنْوة في كلام العرب لها مَعْنَيان متضَادَّان. قَالَ أبو العبّاس ثَعْلَب: يُقال: أَخذتُ الشيءَ عَنْوةً أي قهْرًا في عُنْفٍ وأَخذْتُه عَنْوةً أي صُلْحًا في رِفْق. قَالَ وأنشدنا ابن الأعرابي عَنِ المُفضَّل:
فَما أخذوها عنوة عن مودَّةٍ ... ولكنَّ حَدَّ المَشْرَفيّ استقالَها1
فهذه الرّواية تحَتمِلُ التَّأويل. ومَنْ روَى أَنَّهُ دَخَلَها صُلحًا لم يحتمل قولُه: التأويلُ فأصَحُّ الوجْهَيْن أولاهما.
__________
1 اللسان والتاج "عنا". وعزي لكثير وهو في ديوانه /80.

(1/579)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا انْصَرَفَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى حَامَّتِهِ قَالُوا أَتَيْنَا رَجُلًا فَظًّا غَلِيظًا قَدْ أَظْهَرَ السَّيْفَ وَأَدَاخَ الْعَرَبَ وَدَانَ لَهُ النَّاسُ وَكَانَ لَهُمْ بَيْتٌ يُسَمُّونَهُ الرَّبَّةَ كَانُوا يُضَاهُونَ بِهِ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ وَكَانَ يُسْتَرُ وَيُهْدَى إِلَيْهِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا جَاءَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَأَخَذَ الْكَرْزَيْنَ فَهَدَمَهَا فَبُهِتَتْ ثَقِيفٌ وَقَالَتْ عَجُوزٌ مِنْهُمْ: أَسْلَمَهَا الرُضَّاعُ وَتَرَكُوا الْمِصَاعَ1.
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ نا الصَّائِغُ نا الْحِزَامِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ عَنْ موسى بنعقبة عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
حَامَّةُ الرَّجُل خاصَّةُ أَهْلِه وهي السَّامَّة أيضًا. يُقال كَيْف السَّامَّةُ والعامَّةُ2. قَالَ العجّاجُ:
هُوَ الَّذِي أَنْعَم نُعْمَى عمَّتِ ... عَلَى الّذين أسْلَمُوا وسَمَّتِ3
__________
1 السيرة لابن كثير 4/62 بألفاظ متقاربة. وانظر البداية والنهاية 5/33.
2 م: "ذهب السامة والحامة" والمثبت من س, ت, ح.
3 الديوان /268.

(1/579)


وقال ابن الأعرابيّ المَسَمّةُ الخاصَّة والمَعَمَّةُ العامَّةُ1 وقولهُ: أداخَ العربَ معناهُ أذلَّهُم. يُقالُ أَدَخْتُ الرَّجُلَ فداخَ لي أي ذلّ وانقاد. قَالَ الشاعرُ:
حتى يَدُوخَ مَن كان عادانَا
وقوله: دَانَ لَهُ الناسُ. يُريدُ أَطاعُوه كَرهًا والدِّينُ الطّاعةُ. والكَرزينُ الفأسُ وهو الكِرْزنُ أيضًا. وَالرُّضَّاعُ اللِّئامُ جَمْعُ راضِعٍ من قولهم لَئيمٌ رَاضِعٌ وهو الَّذِي لا يَحْلُبُ الغنَمَ لكن يَرْضَعُها لئلا يُسْمعَ صَوْتُ الحَلَب ويقال بل هُوَ الَّذِي رَضِعَ اللُّؤمَ من أُمِّه أي وُلِدَ لَئِيمًا. والمِصاعُ المُضارَبَةُ بالسُّيوف يُريدُ أنّهم خَذَلُوها ولم يُقاتلوا دُونَها قال الأَعْشَى:
هُناكَ مِصَاعٌ باللَّطائِم بينَنا ... ولكنّه لم يُدْمِ هَامًا وجُمْجُما2
وقال القُطَامِيُّ:
تَراهُم يَغمِزُون مَن اسْتَركّوا ... ويَجْتَنِبُون مَنْ صَدَق المصاعا3
__________
1 من ت, م.
2 لم أقف عليه في يوانه ط /دار صادر.
3 اللسان والتاج "مصع" والديوان /35.

(1/580)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: "رَأَيْتُهُ بَيْلَمَانِيًّا أَقْمَرَ هِجَانًا إِحْدَى عَيْنَيْهِ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ" 1.
هَكَذَا أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ نا عَارِمٌ أَبُو النُّعْمَانِ نا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ نا هِلالُ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عباس.
__________
1 أخرجه أحمد 1/374 بلفظ: "رأيته فيلما نيا".

(1/580)


وَرَوَاهُ غَيْرُهُ فَقَالَ: فَيْلَمَانِيًّا أَقْمَرَ. والفَيْلَم والفَيْلَمانيّ العظيمُ الجُثَّة وأنشد أبو عُبَيْد للهُذلي:
ويَحْمي المُضَافَ إذَا ما دَعَا ... إذَا فرَّ ذُو اللِّمَّة الفيْلَمُ1
ويُقالُ: بِئرٌ فيْلم أي واسعةُ الفَمِ وفي2 صِفَة الدَّجّال أَنَّهُ عَظِيمُ الخَلْق عريض النحر3. والهجان الأبيض.
__________
1 اللسان والتاج "فلم" وعزي للبريق الهذلي وهو في شرح أشعار الهذليين 2/752 برواية:
تفرق بالميل أوصاله ... كما فرق اللمة الفيلم
والفيلم: الجبان.
2 م: "وفي صفته".
3 أخرجه أحمد في مسنده 2/291.

(1/581)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لآدَمَ أَخْرِجْ نَصِيبَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ يَا رَبُّ كَمْ فَيَقُولُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعِينَ" فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ احْتُفِينَا إِذًا فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا قَالَ: "إِنَّ أُمَّتِي فِي الأُمَمِ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ" 1.
مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ محمد الدراوردي عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
الاحْتفاءُ الاسْتِقَصاءُ في الشيء وبلوغُ الغاية منه. ومنه قولهم أحفَيْتَ في المسألة. وسِمعْتُ أبا عُمَر يذكر عَنْ بعض السّلف أن رجلًا سلَّم عَلَيْهِ فَقَالَ وعليكم السَّلامُ ورحمةُ الله وبركاته الزاكيات. فَقَالَ لَهُ أراكَ قد حَفَوْتَنا ثَوابها يُرِيدُ تقصيت ثوابها واستوفيته علينا.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في 2/378 من طريق قتيبة بالإسناد بلفظ: "فقلنا يارسول الله أرأيت إذا أخذ منا كل مائة تسة وتسعون فماذا يبقى منا". وأخرجه البخاري 8/137 من طريق سليمان عن ثور بمثله.

(1/581)


وفيه وجه آخر وهو أن يكون منَعْتَنا ثوابَها. قَالَ الأصمعيّ: يُقالُ حَفوتُ الرَّجُلَ من كلِّ خَير إذَا منعْتَه أحْفُوه حَفْوًا.

(1/582)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ إِلا سَمِعْتُ خَشْخَشَةً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا: بِلالٌ ثُمَّ مَرَرْتُ بِقَصْرٍ مَشِيدٍ بَزِيعٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" 1.
يَرْوِيهِ أَبُو كُرَيْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِيه مُحَدِّثٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ خَلِيلٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ فَقَالَ خَشْخَشَة وهي حَرَكَةٌ فيها صَوْتٌ قَالَ الشاعر:
تَخَشْخَش أَبْدَانُ الحَدِيد عليهمُ ... كما خَشْخَشَتْ يَبْسَ الحَصاد جَنُوبُ2
والمَحْفُوظُ من هذا الحديث الخَشْفَة وهي الحركة أيضًا قَالَ الشاعر:
إذا أنتَ لم تَخْشِفُ مع الحِلْمِ خَشْفَةً ... من الجَهْلِ لم يعْزِز أَخٌ أَنْتَ ناصِرُهْ
والبزِيعُ الظَّريفُ من الناس شبَّه القَصْرَ به لحسنه وكماله3.
__________
1 أخرجه الترمذي في المناقب 5/620 بلفظ: " ... على قصر مربع مشرف" وأحمد في مسنده 5/354 بلفظ: "على قصر من ذهب مرتفع مشرلف" 5/360 بنحوه.
2 ت: "يبس الحصا وجنوب" تحريف. والبيت في اللسان والتاج "خشش" وعزي لعلقمة بن عبدة وهو في المفضليات /395.
3 سقط هذا الحديث من نسخة م. وأخرجه أحمد في مسنده 5/259. ومسلم في 4/1910.

(1/582)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ أُمَّتِي 1 أحذ إِلا وَأَنَا أَعْرِفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالُوا2: وَكَيْفَ تَعْرِفُهُمْ يَا رَسُولَ
__________
1 من ت, م, ح.
2 ت: "قيل".

(1/582)


اللَّهِ فِي كَثْرَةِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ دَخَلْتَ صِيرَةً فِيهَا خَيْلٌ دُهْمٌ وَفِيهَا فَرَسٌ أَغَرُّ مُحَجَّلٌ أَمَا كُنْتَ تَعْرِفُهُ مِنْهَا" قَالَ: "فَإِنَّ أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنَ الْوُضُوءِ" 1.
حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ نا عُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ شَرِيكٍ الْبَزَّازُ نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ نا ابْنُ عَيَّاشٍ2 نا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ الرَّحْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ أبو عُبَيْد صَبْرة وهو غلط والصَّوابُ صَيرَة3 وهي كالحَظِيرة تُتَّخذ للدّوابّ من الحِجارة وأَغصانِ الشّجر ونحوها والجمعُ الصِّيَرُ قَالَ الأَخْطَلُ:
واذْكر غُدَانة عِتْدانا مُزَنَّمةً ... من الحَبلَّق تُبْنَى حَوْلَها الصِّيَرُ4
__________
1 أخرجه أحمد في 4/189 وفيه: "صبرة".
2 م: "ابن عباس".
3 ت: والصواب صبيرة "تحريف" وفي القاموس "صير": الصيرة: حظيرة للغنم والبقر.
4 هامش م: الحبلق: الغنم الصغار. والبيت في شعر الأخطل /209.

(1/583)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَخْرُجُ مِنَ الْكَاهِنَيْنِ رَجُلٌ يَدْرُسُ الْقُرْآنَ دِرَاسَةً لا يَدْرُسُه أَحَدٌ يَكُونُ بَعْدَهُ" 1.
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ الظَّفَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
الكاهِنَان: قُريظَةُ والنَّضِير وكانوا أهْلَ كِتابٍ وفَهْمٍ وإزْكَان فيقال إنّ الرجل محمدَ بنَ كعْب القُرَظي وأَصْلُ الدِّراسةِ الرِّياضة والتَّعَهُّد للشيء ثُمَّ قِيلَ درسْتُ القرآنَ إذَا قرأتَه وتعهَّدته لتحفظَه وقال أبو العَبّاس ثعلب في
__________
1 أخرجه أحمد 6/11.

(1/583)


قوله تَعَالَى: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} : أَيْ تَعَلَّمتَ1 ودرسْتُ الدابّةَ إذَا رُضْتَها وذلَّلْتَها للركوب ودَرسْتُ الحِنْطة إذَا دُسْتَها أو طحَنْتَها. قَالَ ابن ميّادة:
يكفِيك من بعضِ ازدَيار الآفاقْ ... سمراءُ مِمّا درَّس ابنُ مِخْراقْ2
معناه يكفيك من زيارة الآفاق والجولان فيها هذه النّاقةُ السَّمراء. ويُقال: أراد بالسَّمْراء حنطة بطحنها.
وفي حديث عِكرمةَ مولى ابن عبّاس وذكر أهلَ الجنَّة وأنهم يَرْكَبُون نُجُبًا هي ألْيَنُ مَشْيًا من الفِراشِ المَدرُوسِ3 يريد الموطّأ الممهود.
__________
1 من ت, م والآية في سورة الأنعام: 105.
2 في اللسان والتاج "درس" برواية: "حمراء" بدل "سمراء".
3 النهاية "درس" 2/113.

(1/584)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "صَوْمُ شَهْرِ الصَّوْمِ وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ وَيَذْهَبُ بِمَغْلَةِ الصَّدْرِ". قِيلَ: وَمَا مَغْلَةُ الصَّدْرِ قَالَ: "حَسُّ الشَّيْطَانِ" 1.
حَدَّثَنِيهِ الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا نا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ نا إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا حَجَّاجٌ نا حَمَّادٌ نا الأزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.
المَغْلَةُ: أصْلُهَا وَجَعٌ يأخُذ الغَنَم في بُطونها. يُقال: عِند ذَلِكَ أمغَلَت أي أصَابَها ذَلِكَ الوَجَع. ومنه قِيلَ مَغَل الرَّجُل بصاحبه إذا وقع فيه يريد2
__________
1 أخرجه أحمد في 5/145 وفيه: "صوم شهر الصبر ... ورجس الشيطان".
2 م: "يراد".

(1/584)


أنّه عضّه بكلام أوْجعَه فمَغْلُ الصَّدْرِ ما يَجِدُه الواجِدُ في صدْره من الغِلّ والفَسَاد1.
وهذا كَحَديثهِ الآخَر أَنَّهُ قَالَ: "صَوْمُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يذهبُ بَوَحَر الصَدْر" 2.
وقد فسّرَه أبُو عُبَيْد في كتابه وقد يُرْوى هذا الحرفُ بالتَّثقيل فيقال: مَغِلَّه الصّدر من الغِلِّ كقَوْلِه: "ثلاثٌ لا يَغِلُّ علَيْهنَ قَلْبُ مُؤمنٍ إخْلاصُ العَمَل لله والنَّصِيحةُ لِوُلاة الأمرِ ولزُومُ جماعة المُسْلمين فإنّ دعْوتَهم تُحِيطُ من ورائه" 3.
قَالَ أبو عُبَيْدٍ4: يُروَى يَغِلّ ويُغِلّ فمن قَالَ يَغِلُّ بالفَتْح فإنه يجْعَلُه من الغِلّ وهو الضِّغْنُ والشّحْناء ومَنْ قَالَ: يُغِلُّ بضمّ الياء جعله من الخِيانَة من الإِغلال.
قَالَ أبو سليمان: أمّا وجْهُ الكَلام وإعرابُه فعلى ما ذكَره أبو عُبَيْدٍ وأما تأويله ومعناه فإنّه يرِيدُ والله أعلم أن هذه الخِلال الثَّلاثَ ممّا لا يُخالجُ القلبَ ريْبٌ أنَّهُنّ بِرٌّ وطاعةٌ لأنّها من المعروف الَّذِي تعرفه النُّفُوسُ وتَسْكنُ إِلَيْهِ القُلوبُ.
وهذا كحديثه الآخر أَنَّهُ سُئِل عَنِ البِرِّ والإِثم فَقَالَ: "البِرُّ حُسْنُ الخُلُق والإثُم ما حك في نفسك" 5.
__________
1 كذا في م, ت, ح وفي س: "من المغل والفساد".
2 أخرجه أحمد في 5/78, 363.
3 أخرجه ابن ماجه في 2/1016 والدارمي في 1/74 وأحمد في 3/225.
4 كتابه 1/199.
5 أخرجه مسلم في 4/1980 والترمذي في 4/597 والدارمي في 2/322 وأحمد في 4/182 وكلهم بلفظ: "والإثُم ماحَاكَّ في نفْسك".

(1/585)


وفيه وجه آخر وهو أن يكون أَرادَ أنّ القلبَ يُسْتَصْلَح بهذه الخِصال ويُعالَجُ نغَلُه وفَسادُه بها وأَنّ مَنْ تَمَسَّك بها لم يَجِدْ غِلا في قلبه عَلَى أحد يَحُضّ عَلَى لُزُومها والمحافَظَة عليها وكان أبو أُسامة حَمَّادُ بْن أُسامَة القرشيِّ يَرْوِيه لا يَغِلُ بالتَّخْفِيف هكذا حَدَّثُونا عَنْ مُوسَى بْن إسحاق الأنصاري عن أبي كريب عن أبي أُسَامة فإن كَانَ محفوظًا فوجْهُه أن يكون مأخوذا من الوُغُولِ وهو الدُّخُول في الشَّرِّ وقلّما يُقال الوُغُولُ في الخيْر. ومنه قِيلَ للرجلُ الَّذِي يَدخْلُ مَعَ القوم في الشُّرب ولا يُخرِجُ معهم شيئًا واغِل.
قَالَ امرؤُ القيس:
فاليَومَ أشرَبْ غيرَ مستحْقبٍ ... إثمًا من الله ولا واغلِ1
وبذلك سُمّي الرّجل الدَّنِيءُ وَغْلًا. ويقال: وَغَل عَلَى القوم في الشراب إذَا لم يُدْعَ إِلَيْهِ.
ورَشَنَ في الطَّعام وبه سُمِّي الطُّفَيْليّ راشِنًا. وهو الوارِشُ أيضًا وهو الشولقي أيضا2.
__________
1 الديوان /258 برواية: "فاليوم فاشرب".
2 من ت, م.

(1/586)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ" قَالَ أُبَيٌّ وَسَمَّانِي لَكَ قَالَ: "وَسَمَّاكَ لِي فَبَكَى أُبَيٌّ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ نا الرَّمَادِيُّ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عن أنس.
__________
1 أخرجه البخاري في مناقب الأنصار 5/45 وفي التفسير 6/217. ومسلم في صلاة المسافرين 1/550. وأحمد في مسنده 3/130, 137, 185, 218, 233, 273, 284, 289. وفي بعض الطرق: "أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا..} " الخ.

(1/586)


وجْهُ هذا أن تكون قِراءَتُه القُرآنَ عَلَى أُبَيٍّ إنّما هُوَ ليَحْفَظَه أبيٌّ ويتلقَفَه من فيه فلا يتخالجه عند اختلاف القِراءَات بعده شَكٌّ ولا يَتَداخله رَيْبٌ وذلك أَنَّهُ خاف عَلَيْهِ الفِتْنة في هذا الباب.
حَدَّثَنَا ابْنُ السَّمَّاكِ نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَارِثِيُّ نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَل رَجُلٌ فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً خِلافَ قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَقُمْنَا جَمِيعًا فَدَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا دَخَلَ فَقَرأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ هَذَا فَقَرَأَ قِرَاءَةً غَيْرَ قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فقال لهما رسول الله: "اقْرَآ" فَقَرَآ فَقَالَ: "أَصَبْتُمَا" فَلَمَّا قَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي قَالَ كَبُرَ عَلَيَّ وَلا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى الَّذِي غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقًا فَقَالَ: "يَا أُبَيُّ إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أَمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أَمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَهُ 1 عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ مَسْأَلَةٌ تَسْأَلْنِيهَا قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَحْتَاجُ إِلَيَّ فِيهِ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ" 2.
وَأَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا الزَّعْفَرَانِيُّ نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ نا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ نا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرْدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب بمعناه.
__________
1 ساقط من ح.
2 أخرجه مسلم في 1/561 وأبو داود في 2/76 والنسائي 2/152.

(1/587)


ولا وجه للحديث أعْلَمُه غير هذا إذا لا يجوز أن يكون أحَدٌ أقرأَ لكتاب الله وأوْعى لَهُ1 وأعْلم بِهِ من رَسُول الله وقد نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قلْبِه ليكون من المُنذِرِين بلسان عربي مبين.
__________
1 سقط من ح.

(1/588)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُخْدَجَ 1 فَقَالَ: "لَهُ ثَدْيٌ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ وَفِي رَأْسِ ثَدْيِهِ شُعَيْرَاتٌ كَأَنَّهَا كَلَبَةُ كَلْبٍ أَوْ كَلَبَةُ سِنَّوْرٍ" 2.
يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ رَوْح بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عُمَارَةَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
كَلَبَةُ3 الْكَلْبِ: مخالِبُه وهي من البَازِي كلالِيبُه.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى فِي أَهْلِ الأَهْوَاءِ حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ قَالَ ونا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ نا بَقِيَّةُ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ حَدَّثَنِي أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرِازِيُّ4 قَالَ: أَحْمَدُ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَامَ فَقَالَ أَلا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قام فينا فقال: "ألا
__________
1 المخدج: الناقص الخلق وانظر نهاية ابن الأثير "خدج".
2 أخرجه أبو ادود في السنة في أحاديث متفرقة 4/243-245 بنحوه.
3 وفي الفائق "كلب" 3/274: كَلَبَةُ كَلْبٍ أَوْ كَلَبَةُ سِنَّوْرٍ "بضم الكاف" وفسر الكلبة بأنها الشعر النابت في جانبي خطمه. وسقال للشعر الذي يخرز به الإسكاف كلبة عن الفراء: ومن فسرها بالمخالب نظرا إلى محنى الكلاليب في مخالب البازي فقد أبعد.
4 في التهذيب 1/204: أزهر بن عبد الله بن جميع الحرازي الحمصي ويقال: هو أزهر بن سعيد وثقه العجلي وفرق ابن حبان في الثقات بين الأزهر بن سعيد وأزهر بن عبد الله.

(1/588)


إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ" 1.
زَادَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ: "وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمُ الأَهْوَاءُ كَمَا تَجَارَى2 الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ" فَإِنَّ الْكَلَبَ دَاءٌ يُصِيبُ الإِنْسَانَ مِنْ عَضَّةِ الكَلْبِ الكَلِبُ3 وَهُوَ الَّذِي قَدْ ضَرِيَ بِلُحُومِ النَّاسِ فَإِذَا أَكْثَرَ مِنْهَا أَصَابَهُ شِبْهُ جُنُونٍ فَيُقَالُ: إِنَّهُ إِذَا عَقَرَ إِنْسَانًا أَصَابَهُ الْكَلَبُ فَيَعْوِي عُوَاءَ الْكَلْبِ وَيُمَزِّقُ4 على نفسه ثم يأخذ الْعُطَاشُ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ يَنْظُرُ إلى الماء ولا يشربه.
__________
1 أخرجه أحمد في 4/102 وأبو داود في 4/198.
2 ت: "يتجارى" والمثبت من س, م, ح.
3 ساقطة من ت.
4 القاموس "مزق": مزق الطائر رمى بذرقه.

(1/589)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَدِمُوا عَلَيْهِ فَسَأَلُوهُ عَنِ الْمِزْرِ1 وَقَالُوا: إِنَّ أَرْضَنَا بَارِدَةٌ عَشْمَةٌ وَنَحْنُ قَوْمٌ نَحْتَرِثُ وَلا نَقْوَى عَلَى أَعْمَالِنَا إِلا بِهِ فَقَالَ رسول الله: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" 2.
حَدَّثَنِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ نا الْهَيْثَمُ بْنُ كُليْبٍ نا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ الجمحي عن
__________
1 القاموس "مزر": المزر: نبيذ الذرة والشعير.
2 أخرجه النسائي في 8/297 وأحمد في 2/429, 105 بلفظ: "كل مسكر حرام" بدون القصة.

(1/589)


عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ1 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قولهُ: عَشْمَةٌ أي يَابِسَةٌ وقد عَشِمَ الخُبْزُ إذَا يَبِس. وعَجُوزٌ عَشْمَةٌ وهي التي أسنت وقحلت.
__________
1 من م, ح.

(1/590)


وَقَال أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي ظل حجرة وقد كاد يَنْبَاصُ عَنْهُ الظِّلُّ1.
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ نا مُحَمَّدُ بْنُ قُرَيْشٍ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دَنُوقَا2 عَنْ مُحَمَّدٍ3 عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قوله: يَنْبَاصُ4: أي يَنْقَبِضُ عَنْهُ الظل ويسبقه. يقال باص يَبُوصُ إذَا سَبَق قَالَ امرؤُ القَيْس:
أَمنْ ذِكْر ليْلَى أنْ نأتْكَ تنُوصُ ... فتقصِر عنها خُطْوةً وتَبُوصُ5
وقال آخر:
فلا تَعْجَل عَليَّ ولا تَبُصْنِي ... ودالكْني فإِنِّي ذو دلاك6
__________
1 النهاية "بوص" 1/162 والفائق "بوص" 1/134.
2 ت: دنوق وما أثبتناه من س, م. وفي المشتبه 1/282: "إبراهيم بن عبد الرحيم بن دموقا".
3 ت: محمد بن المصفى. وفي تهذيب التهذيب 9/460: عن محمد بن بهلول القرشي أبو عبد الله الحمصي الحافظ مات سنة 246هـ.
4 ت: ينباص "بتشديد الصاد" والمثبت من س, م.
5 الديوان /177.
6 اللسان والتاج "بوص".

(1/590)


والنَوْصُ: التَّأَخُّر والبَوْصُ التَّقَدُّم. وقال أبو سَعِيد الضَّرير انتَاصت الشّمسُ إذَا غابت وهو افْتعل من النوص1.
__________
1 من ت, م.

(1/591)


وقال أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَأْخُذُ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَدِهِ ثُمَّ يَتَزَقَّفُهَا تَزَقُّفَ الرُّمَّانَةِ" 1.
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ مَنْ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ.
قوله: يَتَزَقَّفُها معناه يتلقَّفُها. والتَّزقُّفُ اسْتِلابُ الشيء وسُرعَةُ تناوُله. يقال تَزَقَّفْتُ الكُرةَ إذَا أخذتَها باليد بين السماء والأرض2.
__________
1 الفائق "زقف" 2/117 والنهاية "زقف" 2/305.
2 من ت, م.

(1/591)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يُشَبِّكَنَّ يَدَهُ فَإِنَّهُ فِي صَلاةٍ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَنْبَارِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عَمْرٍو حَدَّثَهُمْ عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبُو ثُمَامَةَ الْحَنَّاطُ2 عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
قوله: لا يُشَبّكنَّ يدَهُ وَجْهُهُ أنّه كَرِه لِلْمُصَلّي ضَمَّ أطرافهِ بَعْضَها إلى بَعْضِ وعَقْدَ أصابِعه كما نَهاه عَنْ عَقْصِ الشّعَر وعن اشْتِمال الصُمَّاء وكان
__________
1 أخرجه أبو داود 1/154 والترمذي 2/228 والدارمي 1/327.
2 ح: "الخياط" تصحيف وفي التقريب 2/404: أبو ثمامة الحناط بمهملة ونون حجازي مجهول الحال.

(1/591)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يْفتَحُ أصابعَه عِنْد التَكْبير ويُفرّجُ بينها وقال: "أُمِرتُ أن أسْجُدَ عَلَى سَبْعَة أعْضاء وأَنْ لا أَكفَّ ثَوبًا ولا شعَرًا" 1.
وفيه وجْهٌ آخر وهو أن يكون إنّما كَرِه ذَلِكَ لأَنَّه يَجْلِبُ النوْمَ إذَا شَبَّك بين أصابعه واحْتبى بيَدَيْه نهاه عَنِ التَّعرُّض لنَقْض طهارته وقد ذهب بَعْضُ الناس في تَأْوِيله إلى وَجْهٍ يَبْعُدُ جدًا ويَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الحديث وزعم أَنَّ تَشبيكَ اليَد كِنايةٌ عَنْ ملابسة الخُصُومات والخَوْض فيها واحتجّ بقوله: عَلَيْهِ السلام حِينَ ذَكَر الفِتَن فشَبَّك بيْن أَصابعه وقال: "تكونون فيها هَكَذا" 2
ونزع في ذَلِكَ بِبَيْتٍ لبَعْض الشّعراء وهو قوله:
وكتيبَةٍ لبَّسْتُها بكَتيبةٍ ... حتى إذَا اشْتَبَكَتْ نفَضْتُ بهم يدي
أي خليت عنهم3.
__________
1 أخرجه مسلم 1/354 وابن ماجه 1/286 والنسائي 2/209.
2 أخرجه ابن ماجه في 2/1308 وعبد الرزاق في مصتفه 11/359.
3 من ت.

(1/592)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فكان هوؤه وَقَلْبُهُ إِلَى اللَّهِ انْصَرَفَ كَمَا ولدته أمه" 1.
هوؤه هِمَّتُه. قَالَ رُؤبَةُ:
تَمدَّهِي ما شِئْتِ أن تَمَدَّهِي ... فَلَسْتِ من هَوْئي ولا ما أَشْتَهِي2
وقال الأصمعيُّ: يُقالُ فُلانٌ بَعيدُ الهَوْءِ أي بَعِيدُ الهِمَّة. قَالَ: ومثله السأو.
__________
1 أخرجه مسلم في 1/571 في حديث طويل بدون "هوؤه".
2 سبق الرجز في اللوحة 104, 221.

(1/592)


قَالَ ذُو الرُّمَّة:
دَامِي الأظَلِّ بعيد السأو مهيوم1
__________
1 اللسان والتاج "ظل" والديوان /569 وصدره:
كأنني من هوى خرقاء مطرف

(1/593)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَارِثِيُّ نا حُسَيْنُ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُهُ.
فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُرْوَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى قَالَ سَأَلْتُ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ مَا أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا قَالَ الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ.
وَالْوَجْهُ الآخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ إِذَا أَلْجَمَ النَّاسَ الْعَرَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَالَتْ أَعْنَاقُهُمْ لِئَلا يَغْشَاهُمْ ذَلِكَ الْكَرْبُ وَرَوَاهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ إعْنَاقًا بكَسْر الأَلِف أي إسْرَاعًا إلى الجنَّةِ من سَيْر العَنَق.
وفيه وجه آخر وهو أن يُراد بالأعناق جماعات الناس من قولهم أتاني عُنُقٌ من الناس أي جماعة كثيرة يريد أن المؤذنين أكثر الناس أتباعا يوم القيامة. وأتباعهم القوم الذي أجابوهم إلى الصلوات2.
__________
1 أخرجه مسلم 1/290 وابن ماجه 1/240.
2 من م.

(1/593)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: "إِذَا رأيتموهم فأقرفوهم واقتلوهم" 1.
__________
1 أخرجه أحمد 1/81 بلفظ: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم".

(1/593)


عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ شَقِيقِ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
القَرْفُ أَصْلهُ الخَدْش والجَرْحُ يُريدُ إذَا رأيْتموهم وقد خرجوا على الأئمة وشقوا العَصا فاضْربُوهُم بالسُّيُوف.

(1/594)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ تَحَلَّى ذَهَبًا أَوْ حَلَّى وَلَدَهُ مِثْلَ خَرْبَصِيصَةٍ أَوْ عَيْنِ جَرَادٍ كَانَ كَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".1
حَدَّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي عَرَابَةَ نا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ نا إِسْمَاعِيلُ أُرَاهُ ابْنَ أَبِي كُثَيْرٍ2 نا مَكِّيُّ بْنُ إبراهيم نا إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّيْبَانِيُّ حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَ الأصمَعِيُّ وأبو زَيْد يقال ما عَلَيْهِ خربَصيصةٌ ولا هَلْبَسِيسَة أي شيء من الحُلِيِّ وعن البزيدي بالحَاءِ والخاء رَواه أبو عُبَيْدٍ3 عَنْهُ
وأكْثَرُ ما يُقال ذَلِكَ في النَّفْي. يقال ما عَلَيه خَرْبَصِيصَة وقلَّما يُقال في الإِيجاب قَالَ ابنُ الأعرابي والخَرْبَصِيصُ أيضًا الجَملُ الضَّعِيفُ قَالَ وأنشدني المُفضَّلُ:
قد أَقْطَعُ الخَرقَ البعيدَ بيْنُه ... بخربصيص ما تنام عينه
__________
1 أخرجه أحمد 4/227 من مسند عبد الرحمن بن غنم بلفظ: "من تحلى أو حلي بخربصيصة من ذهب كوي بها يوم القيامة". ومن مسند أسماء بنت يزيد بلفظ: "من تحلى وزن عين جرادة من ذهب أو خربصيصة كوي بها يوم القيامة" 6/460 وانظر الفائق "خربص" 1/362.
2 ح: "ابن كثير".
3 كتابه 4/328.

(1/594)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من اليد السفلى" 1.
__________
1 أخرجه البخاري 2/139, 4/6 ومسلم 2/717, 718 وأبو داود 2/122 والترمذي 2/56 والنسائي 5/60, 61, 62, 101 وغيرهم.

(1/594)


قَالَ ابنُ قُتَيْبَة العُلْيَا: المُعْطِيَةُ والسفلى السائلة.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: وهذا وجه حَسَنٌ. وفيه وَجْه آخر أشبَهُ بمعنى الحديث وهو أن تكون العُلْيَا المُتَعفِّفَة وقد رُوِي ذَلِكَ مَرْفُوعًا.
حَدَّثُونَا بِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نا عَارِمٌ نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عمر سمعت رسول الله يَخْطُبُ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى" 1.
اليَدُ العُليَا اليَدُ المُتَعفّفةُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافَعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُتَعَفِّفَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى السَّائِلَةُ" 1.
وَأَخْبَرَنَا ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ قَالَ رَوَى عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُتَعَفِّفَةُ2.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام دُونَ مَا أَعْطَى أَصْحَابَهُ فَقَالَ حَكِيمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ تُقَصِّرَ بِي دُونَ أَحَدٍ فَزَادَهُ حَتَّى رَضِيَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
"الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى". قَالَ وَمِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "وَمِنِّي" قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ بَعْدَكَ أَحَدًا شَيْئًا فلم يقبل عطاء
__________
1 أخرجه النسائي في 5/61 وأحمد في 2/67 بلفظ: "المنفقة".
2 سنن أبي داود 2/122.

(1/595)


وَلا دِيوَانًا حَتَّى مَاتَ1.
قَالَ أبو سليمان: فلو كَانَت اليَدُ العُلْيا المُعْطِية لكان حَكِيمٌ قد تَوهَّم أَنَّ يدًا خير من يدِ رَسُول الله لقوله: ومِنْك يا رَسُولَ الله يُرِيد أن التَّعَفَّفَ من مَسْأَلَتِك كَهُو عَنْ مَسْألة غيرك فَقَالَ: "نَعَم" فكان بعد ذَلِكَ لا يَقْبَل العَطاءَ. وكان عُمَر يَقُولُ اللهم اشهد أني عرضت عَلَيْهِ عَطاءَه فأبَى ولم يقبَلْه.
وأنشدني أبو عُمَر قَالَ أَنشدَنا أبو العباس ثَعْلب عن ابن الأَعرابيّ:
إذَا كَانَ بَابُ الذُلِّ من جانِب الغِنَى ... سمَوْتُ إلى العَلْياءِ من جَانِب الفَقْر2
صَبَرْتُ وكان الصَّبْرُ مِنّي سَجيّةً ... وحَسْبُكَ أَنَّ الله أثنَى عَلَى الصَّبْرِ
يُريدُ التعفّف عَنِ المسألة. يُقال: عَلِي يَعْلَى عَلاءً في المَكَارم وعَلا يَعْلُو عُلُوًّا في الجَبَل ونَحوِه. قَالَ الشّاعر:
وبَاعَ بنيْهِ بَعضُهم بخُشَارَةٍ ... وبِعْتَ لذُبيَان العَلاءَ بمالكَا3
ورُوِي فيه وَجْهٌ ثالث عَنِ الحَسَن قَالَ: اليَدُ العُليَا المعطية واليد السفلى المانعة.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في 11/102.
2 هامش م: "العلياء: العفة".
3 الأساس واللسان "خشر" بهذه الرواية وعزي للحطيئة يقول: اشتريت لقومك الشرف بأموالك. قال ابن بري: بكسر الكاف وهو اسم ابن لعيينة بن حصن قتله بنو عامر فغزاهم عيينة فأدرك بثأره وغنم فقال الحطيئة:
فدى لابن حصن ما أريح فإنه ... ثمال اليتامى عصمة للمهالك
وبَاعَ بنيْهِ بَعضُهم بخُشَارَةٍ ... وبِعْتَ لذبيان العلاء بن مالك
والبيتان في شرح الديوان /30 ضمن ستة أبيات.

(1/596)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ بِلالًا أَذَّنَ بِلَيْلٍ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ ثَلاثًا1.
فيه وجهَان: أحدُهما أَنْ يكون أَرادَ أنّه سَهَا عَنِ الوقت وغَفَل عَنْهُ إذ قدَّم الأَذانَ قبل وقتِه.
والآخرُ أن يكون أراد أن يُعلِم الناسَ أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا وأنه قد عَادَ للنَّوم لئَلَّا يعجَل الناسُ عَنْ نومِهم وسَحُورِهم.
وفي روايةٍ أخرى: أَلا إِنَّ الرَّجُلَ تَهِنٌ.
ذكرهُ أبو عُمَر عن أبي العباس ثَعْلب عَنِ ابن الأعرابي. قَالَ: والتَّهِنُ النائم.
__________
1 أخرجه أبو داود 1/146 والترمذي 1/394.

(1/597)


قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ أَفْلَجَ الأَسْنَانِ أَشْنَبَهَا وَكَانَ سَهْلَ الْخَدَّيْنِ صَلْتَهُمَا فَعْمَ الأَوْصَالِ وَكَانَ أَكْثَرُ شَيْبِهِ فِي فَوْدَيْ رَأْسِهِ وَكَانَ إِذَا رَضِيَ وَسُرَّ فَكَأَنَّ وَجْهَهُ الْمِرْآةُ وَكَأَنَّ الْجُدُرَ تُلاحِكُ وَجْهَهُ وَكَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ صَوَرٍ يَخْطُو تَكَفِّيًا1 وَيَمِشِي الْهُوَيْنَى يَبُذُّ الْقَوْمَ إِذَا سَارَعَ إِلَى خَيْرٍ أَوْ مَشَى إِلَيْهِ وَيَسُوقُهُمْ إِذَا لَمْ يُسَارِعْ إِلَى شَيْءٍ بِمِشْيَةِ الْهُوَيْنَى2.
حُدِّثْتُ بِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ ثنا صَبِيحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَرْغَانِيُّ نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
__________
1 م: "تكفؤا".
2 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/222 في حديث طويل والزمخشري في الفائق 3/376.

(1/597)


الفَلَجُ في الأَسْنان تَباعُدُ ما بين الثَّنَايا والرَّباعِيات. والفَرَقُ تباعُدُ ما بين الثَّنِيّتين والنَعْتُ منهما أفْلَجُ وأفْرَقُ والشَّنَبُ ماءٌ وَرِقَّةٌ يجْرى عَلَى الثَّغْر والنّعْتُ أَشنَبُ قَالَ ذو الرُمَّة:
لَمياءُ في شفتيها حُوَّة لَعَسٌ ... وفي اللِّثات وفي أنْيابِها شَنَبُ1
وقولُه: صَلْتُ الخدَّيْن فإنّ الصَلْتَ الأَمْلَسُ النّقيُّ. والفَعْمُ الممتلىء. والأَوْصَالُ الأعضاء واحِدُها وِصْلٌ. قَالَ ذو الرُّمّة:
إِذَا ابنَ أَبِي مُوسَى بِلالًا بلَغْتِه ... فقام بفأسٍ بين وِصْلَيْكِ جَازِرُ2
والفَوْدان ناحِيتا الرّأسِ وكلُّ شِقٍّ3 منْهما فَوْدٌ. قَالَ الشاعرُ:
إِمّا تَريْ لِمَّتي الزَّمَانُ بِها ... وشيَّبَ الدَّهْرُ أصْداغي وأفْوادي
وقوله: كأنَّ4 الجُدر تُلاحِكُ وجْهَه يُريدُ أنّ شَخْصَ الجُدُر يُرَى في وجهه كَما يُرَى في المِرآة. والمُلاحكَةُ شِدّةُ المُلاءَمَة. قَالَ الشاعر:
لها فَخِذان يَحْفِزان مِحَالَهُ ... وصُلبًا كبُنْيَان الصفَا مُتلاحِكَا5
والصَوَرُ الميَلُ والنَعْتُ أَصْوَرُ. قَالَ الشاعر:
ومُسْتَنْبحٍ تَهْوِي مَساقِطُ رَأسِهِ ... إلى كُلّ شَخْص فهو للسَّمْع أصور
__________
1 الديوان /5 واللسان والتاج "لمس".
2 الديوان 253 برواية: "إذا ابن أبي موسى بلال".
3 م: "منها".
4 م, س: "كأنما".
5 اللسان والتاج "حفز" وعزي للأعشى وهو في ديوانه /131.

(1/598)


أي مَائلٌ متسمِّعٌ: ويُشْبِه أن تكون هذه الحالُ إنّما تَحْدُثُ لَهُ إذَا جَدٌ في السّيْر لا أَنْ تكون خِلْقةً وقد يُوجَدُ مثل هذا في عامّة مَنْ يُعالجُ أمرًا شاقًّا ولم يخْتلفُوا في أَنَّهُ عَلَيْهِ السلام كَانَ مُعتَدِلَ القَناةِ غيْرَ أَجْنَى ولا أصْوَرَ. والهُوَيْنى مِشْيَةٌ فيها لِينٌ قَالَ الله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} 1.
وقوله: كَانَ يَسُوقُ أصْحابَه يريد أنّه كَانَ يقدِّمهُم بين يَدَيْه ثُمَّ يكون من ورائهم كالسّائِق وقد رُوي هذا في حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خُزَيْمَةَ ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا أحمد بْن مُصعَب المروَزِيّ نا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنْزِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ إِذَا خَرَجُوا مَشَوْا أَمَامَهُ وَخَلَّوْا ظهره للملائكة2.
__________
1 سورة الفرقان: 63.
2 أخرجه ابن ماجه في 1/90 بلفظ: "إذا مشى أصحابه أمامه وتركوا ظَهْرَهُ لِلْمَلائِكَةِ".

(1/599)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ مَثَلَ بِالشَّعَرِ فَلَيْسَ لَهُ خَلاقٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1.
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا رِضى يَقُولُ بَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ رسول الله.
مُثْلَةُ الشَّعَر حَلْقُهُ في الخُدُود2 ويروى عن طاووس قَالَ: جعَلَه اللهُ طُهْرةً فجعله الناس نَكالًا.
وفي مُثْلةِ الشَّعَر وجه آخر وهو أن يكون أُرِيدَ بِهِ نَتْفُه أو تَغِيِيرُه
__________
1ذكره السيوطي في الجامع الصغير 6/227 وعزاه للطبراني عن ابن عباس.
2 الفائق "مثل" 3/344. وفي النهاية "مثل" 4/294. حلقه من الخدود.

(1/599)


بالسَّوَادِ. ويُرْوَى عَنِ ابن عبّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: عَشْر خِصال من فِعْل قَوْمِ لُوطٍ فذكر منها تَصْفِيفَ الشَّعَر.

(1/600)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: أُهْدِيَتْ لِي فِدْرَةٌ مِنْ لَحْمٍ فَقُلْتُ للخادم1 ارفعيها لرسول الله فَإِذَا هِيَ قَدْ صَارَتْ مَرْوَةَ حَجَرٍ فَقَصَّتِ الْقِصَّةَ عَلَى رَسُولِ الله فَقَالَ: "لَعَلَّهُ قَامَ عَلَى بَابِكُمْ سَائِلٌ فَأَصْفَحْتُمُوهُ" قَالَتْ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَإِنَّ ذَلِكَ لِذَلِكَ" 2.
حَدَّثَنِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ثنا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ ثنا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ نا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ نا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ مَوْلًى لِعُثْمَانَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
قوله: "أَصُفَحْتُموه" أي ردَدْتُموه خائبًا. أخبرني أبو عُمَر أنا أبو العبّاس ثَعْلَب قَالَ: يُقال صَفحتُ الرّجُلَ إذَا أعطيْتَه وأصفَحْتُه إذَا حَرمْتَه وَرَدَدْتَه خائبًا قَالَ ابنُ هَرْمَه:
ضَمِنْتُ لِمَن يَبغي الغنى عنْدَ بابه ... إذَا صُفحَ الجادُونَ ألا يصفحا3
__________
1 المصباح المنير "خدم": خدمه يخدمه خدمة فهو خادم غلاما كان أو جارية والخادمة بالهاء في المؤنث قليل والجمع خدم وخدام.
2 النهاية "صفح" 3/35 وفي الفائق "فدر" 3/95: الفدرة القطعة ويقال: هذه حجارة تفدر أي تتكسر وتصير فدرا والحديث ذكره صاحب الرصف 2/311 بلفظ: "فأهنتموه" بدل "فأصحفتموه" وعزاه للبيهقي وأبي نعيم.
3 لم أقف عليه في ديوانه ط مجمع اللغة العربية بدمشق وفيه قصيدة على الوزن والقافية.

(1/600)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النار جبار" 1.
__________
1 أخرجه أبو داود 4/197 وابن ماجه 2/892. وفي القاموس "جبر": الجبار بالضم الهدر والباطل. ومن الحروب ما لاقود فيها والسيل وكل ما أفسد وأهلك والبرئ من الشئ.

(1/600)


أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
هذا يُتَاوّل عَلَى وجُوهٍ أحَدُها أن يكون معناه إباحةُ النَّار واقتباسُها من غير إذْن مُوقِدها وأَنّهُ إذَا أَخَذ منْها جَذْوةً1 لم يلزمْه لها قِيمَة. وقال بعضهم: تأويلُه النّارُ تَطير بها الريحُ فتُحرِق متاعًا لقَومٍ يريدُ أَنَّهُ لا يلزَمُ مُوقدهَا غَرامةٌ ومنهم من فرّق بْين النار يُوقِدُها رَجْلٌ ليَصْطَلي بها أو يَشْتَوِي عليها لَحْمًا وبيْن أن يُوقدَها عَبثًا لا لأرَبٍ فرَأى ما تَجْنِي تِلْكَ هَدرًا وفيما تَجنِي هذه الغرامة. وأنكرَ بعَضُهم هذه اللَفْظة وزعم أنّها تَصْحِيفٌ. أخبرني الحسَنُ بنُ يحيى سَمِعتُ ابنَ المنذر يَقولُ هذا تَصحِيفٌ وإنّما هُوَ الحديث الَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: البِئْرُ جُبَار2 وذلك أن أَهْلَ اليَمن يُمِيلُون النَّارَ فكتبها بعْضَهُم بالياءِ فرواه القارىء مصحفا.
__________
1 القاموس "جذو": الجذوة مثلثة القبسة من النار.
2 أخرجه البخاري 2/160 ومسلم 3/1334 وأبو داود 4/196 وغيرهم.

(1/601)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمُؤْتَةَ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَفِقَ يَسُبُّهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: وَاللَّهِ لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِهِ أَوْ لأَرْحَلَنَّكَ بِسَيْفِي هذا فلم يزدد إلا استعرابا فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً لَمْ تُجِزْ1 عَلَيْهِ وَتَعَاوَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فَقَتَلُوهُ. قَالَ: ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّجُلُ الْمَضْرُوبُ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ فَكَانَ يُقَالُ: لَهُ الرَّحِيلُ2.
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ حَسَّانِ بن عطية
__________
1 م, الفائق 2/50: "لم تجز عليه" من باب نصر والمثبت من س, ت, ح. والمعنى لم تقتله.
2 النهاية "رحل" 2/210 واقتصر الفائق "رحل" 2/50 على رواية "تغاوى" بالغين وجاء في التفسير: التغاوي التجمع ولا يكون إلا على سبيل الغواية.

(1/601)


قوله: لأَرْحَلَنَّك يُريدُ لأَعْلُونَّك بالسَّيْف ضَربًا. يقالُ فُلانٌ يَرْحَلُ فُلانًا بما يَكره أي يَركبُهُ بمكرُوه. والاستِعْرابُ الإِفْحاشُ في القَول. فأمّا الاستِغرابُ بَالغين معجمة فهو الإفراطُ في الضحك خاصّة. وقوله: تعَاوَى عَلَيْهِ المشركون معناه تعاوَرُوهُ فيما بينهم حتّى قَتَلوه. قَالَ جرير:
عَوَى الشُعراءُ بعضُهم لبَعْضٍ ... عَلَيَّ فقد أصابَهُمُ انتقامُ1
وإن كانت الرواية تغاوى فإنّه مأخوذ من الغواية.
__________
1 الديوان /513. وعواؤهم: تناصروهم.

(1/602)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّلِبَ بْنَ ثَعْلَبَةَ الْعَنْبَرِيَّ قَالَ: أَصَابَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ جَوْثَةٌ فَرُقِيَ إِلَيْهِ أَنَّ عِنْدِي طَعَامًا فَاسْتَقْرَضَهُ مِنِّي1.
هَكَذَا حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ جُمْعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْوَاسِطِيُّ نا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ الْقِسْمِلِيُّ ثنا غَالِبُ بْنُ حُجْرَةَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ مِلْقَامِ بْنِ التَّلِبِ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ أَبِيهَا عَنْ أَبِيهِ التَّلِبِ.
قوله: جَوْثَة بالثاء لا أُراها مَحْفُوظَة وإنما هي الخَوْبَة وهي الحاجةُ والمَسْكنة. يُقال: أصابَتْهم خَوْبَةٌ إذَا ذهب ما عندهم من شيء. وقال أَبُو عُمَر يُقالُ: خابَ الرجلُ يَخُوبُ خَوْبًا إذَا افتقر. ويُقال: في معناه أصابتهم جالفة وجارفة.
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 4/141 بدون لفظ: "جوثة". وفي الفائق "حوب" 1/401. والنهاية "خوب" 2/86 برواية: "خوبة" بدل "جوثة".

(1/602)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ الأَبْقَعُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" 1.
__________
1 أخرجه مسلم 2/857 وأبو داود 2/170 والنسائي 5/187, 189 وأحمد 2/8, 22, 37, 48, 54, 65, 67 بنحوه. وأخرجه بهذا اللفظ في مسلم في 2/856, 857 والنسائي في 5/208 من حديث عائشة.

(1/602)


أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا الدَّقِيقِيُّ نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
أَصلُ الفِسْق الخُروجُ من الشيء. ومنه قوله تَعَالَى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} 1: أي خَرَج. وسُمِّي الرجلُ فاسقًا لانسلاخه من الخير. قَالَ ابن قُتيبة2: لا أُرَى الغُرابَ سمَّاه فاسِقًا إلا لتخلّفه عَنْ أمرِ نوح حين أرسله ووقوعِه عَلَى الجِيفة وعِصيانِه إيّاه3. وحُكِي عَنِ الفَرّاء أَنَّهُ قَالَ لا أحْسَب الفَأْرة سُمِّيت فُويْسِقَةً إلا لخُروجِها من جُحرها عَلَى الناس.
قَالَ أبو سليمان وليس يُعجبني واحدٌ من القَوليْن وقد بَقِي عليهما أن يقولا مثْلَ ذَلِكَ في الحِدَأة والكلب إذْ كَانَ هذا النّعْت يجمعُهما وكان هذا اللّقَبُ يلزمُهُما لزُومَه4 الغُرابَ والفأرةَ وإنما أراد والله أعلم بالفِسْق الخُروجَ من الحُرْمة يَقُولُ: خَمس لا حُرمَةَ لهُنَّ ولا بُقيَا عَليْهنَّ ولا فِدْيَةَ عَلَى المُحْرِم فيهنّ إذَا أصابَهُنَّ وإنما أباح قتْلَهُنَّ دَفْعًا لعادِيَتِهِنَّ لأَنَّهنَّ كُلّهن من بين عَادٍ قتّالٍ أو مُؤذٍ ضَرَّار.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون أراد بتَفْسِيقِها تحريمَ أكلِها كقوله تَعَالَى: وقد ذَكَر ما حَرَّم من المَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِير إلى آخر الآية. ثم قال: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} 5 ويدُلُّ عَلَى صحّة ما ذكرناه حديث عائشة.
__________
1 سورة الكهف: 50.
2 كتابة 1/328.
3 انظر القصة في غريب الحديث لابن قتيبة 1/327.
4 ح: "لزوم".
5 سورة المائدة: 3.

(1/603)


حَدَّثَنَا ابْنُ الْفَارِسِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ ثنا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْغُرَابُ فَاسِقٌ" فَقَالَ رَجُلٌ: يُؤْكَلُ لَحْمُ الْغُرَابِ قَالَتْ: لا وَمَنْ يَأْكُلُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: "فَاسِقٌ" 1.
وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ أنا الصَّائِغُ ثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ نا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ الْفَاسِقَ2.
وَرَوَى أَبُو أُوَيْسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي لأَعْجَبُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ أذن رسول الله فِي قَتْلِهِ وَسَمَّاهُ فَاسِقًا وَاللَّهِ مَا هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ3. تُرِيد قولَه تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 4.
وممّا يدلّ عَلَى أنّ العرب كانت تَقْذَرُ لحمَه قَولُ الشاعر:
فَما لَحْمُ الغُراب لنا بزَادٍ ... ولا سرطَانُ أنْهَار البَريصِ5
وفيه من الفقه أن ما لا يُؤكل لَحْمه فلا جَزاءَ عَلَى المحرم في قتله.
__________
1 أخرجه ابن ماجه في 2/1082 وأحمد في 6/209, 238.
2 ذكره الهيثمي في مجمعه 4/40 وعزاه للطبراني في الكبير.
3 ذكره الهيثمي في مجمعه 4/40 وعزاه للبزار.
4 سورة الأعراف: 157.
5 اللسان والتاج "برص" وعزي لوعلة الجرمي.

(1/604)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْعَقِيقَةِ عَنِ الغلام شاتان مكافئتان" 1.
__________
1 أخرجه أبو داود في الأضاحي 3/105 والترمذي في الأضاحي أيضا 4/97 وابن ماجه في الذبائح 2/1056 وغيرهم.

(1/604)


قال أبو عبيد والمحدثون يقولون شَاتَان مُكافَأَتان.1 يَقُولُ: متساوِيتَان وكلُّ شَيْءٍ ساوَى شَيْئًا حتّى يكون مثله فهو مكافىء لَهُ.
قلت: وهذا لا يُقْنِعُ في معنى الخَبَر وفي بيان حُكْمِه وإن أقْنَع في لفظِه وإنّما أراد بالتَّكافُؤِ التَّساوي في السَّنّ2 يَقُولُ لا يُعَقٌ إلا بِمُسِنَّةٍ كما لا يجوز في الضَّحايا إلا مُسِنَّة وأقلٌ ذَلِكَ أن يكون جَذَعًا فإن كانت إحداهما مُسِنّة والأُخْرَى غير مُكافِئَة لها في السِّنّ لم يَجُزْ ولا فرق بين المكافِئَتين والمُكَافَأَتَيْنِ لأنّ كُلّ واحدةٍ منهما إذَا كافأتْ صاحِبَتَها فقد كُوفِئَت من جهتها فهي مكافئة ومكافأة.
__________
1 سقط من ح. وهو في كتاب غريب الحديث لأبي عبيد 2/102.
2 ح: "في فوء السن".

(1/605)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ صَبَّحَ خَيْبَرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بُكْرَةً فَجَاءَ وَقَدْ فَتَحُوا الْحِصْنَ وَخَرَجُوا مِنْهُ مَعَهُمُ الْمَسَاحِيُّ فَلَمَّا رَأَوْهُ حَالُوا إِلَى الْحِصْنِ وَقَالُوا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأعْرَابِيِّ نا ابْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ2 نا الْحُمَيْدِيُّ ثنا سُفْيَانُ نا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
قوله: حالوا إلى الحِصْن أي تحوَّلوا إِلَيْهِ. يقال: حُلْتُ عَنِ المكان إذَا تَحوَّلْتَ عَنْهُ ومِثْله أَحلْتُ عَنْهُ.
والخَمِيسُ الجَيْشُ وسُمّيَتْ خميسًا لأنّها تَخمِسُ ما تَجِده من شَيء. قَالَ مُرقِّش:
لا يُبعد اللهُ التلبب في ال ... غارات إذ قال الخميس نعم3
__________
1 أخرجه الحميدي في مسنده 2/504 والبخاري في 4/253.
2 س, ت, ط: "ابن أبي مسرة" والمثبت من م, ح.
3 سبق في اللوحة: 166.

(1/605)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا رَكِبَ أَحَدُكُمُ الدَّابَّةَ فَلْيَحْمِلْهَا عَلَى مَلاذِّهَا" 1.
حَدَّثَنِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا نا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَدِيٍّ نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحٍ الأَذَنِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى نا شُعَيْبُ بْنُ مُبَشِّرٍ نا مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
قوله: فليَحْمِلْها عَلَى ملاذِّها أي لِيَحمِلُها من الطريق عَلَى الجَدد وَدِمَاث الطرق التي تَسْتَلِذّها الدّوابُّ ولا يَحْمِلْها عَلَى الوُعُوثَة والحُزونَةِ التي يَشْتدُّ علَيْها السّيْرُ فيها فلا تَسْتَلِذُّه.
__________
1 ذكره السيوطي في الجامع الصغير 1/365 وعزاه للدار قطني في الأفراد.

(1/606)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلا أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى الْجِهَادِ فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ بَعْلٍ" قَالَ: نَعَمْ قَالَ: "انْطَلِقْ فَجَاهِدْ فإن لكفيه مُجَاهَدًا حَسَنًا" 1.
يَرْوِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
قوله: "هل لكَ من بَعْل" يُريدُ هل بَقِي من أهلك مَنْ تَلزمُك طاعَتُه من وَالدٍ أو والدةٍ أوْ مَنْ في مَعْناهُما يُقال: هذا بَعْلُ الدَّارِ وبَعْلُ الدّابّة أي مالِكُها. ومنه قِيلَ لزِوْج المرْأةِ بَعْل.
ورُوِي عَنِ ابن عبّاسٍ في قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} 2. قال: ربا.
__________
1 الفائق "بعل" 1/199 والنهاية "بعل" 1/141 وفيها: يقال: صار فلان بعلا على قومه: أي ثقلا وعيالا.
2 سورة الصافات: 125.

(1/606)


وأخبرني الحَسَن بْن عَبْد الرحيم نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيدَانَ1 نا هَارُونُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ الْبَجَلِيُّ قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي رَوْقٍ: اخْتَصَمَ رَجُلانِ فِي نَاقَةٍ فَمَرَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِمَا وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ أَنَا وَاللَّهِ بَعْلُهَا أَنَا وَاللَّهِ بَعْلُهَا.
وَهَذَا كَحَدِيثِهِ الآخَرِ أَنَّ رَجُلا جَاءَهُ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَقَالَ لَهُ: "هَلْ لَكَ مِنْ حَوْبَةٍ" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَفِيهَا فَجَاهِدْ".
فسَّرُوها الأُمَّ2. ويقالُ إنّها إنّما سُمِّيَتْ حَوْبةً لِمَا في تَضْييعها من الحَوْبِ وهو الإِثْم. يُقالُ: حابَ الرَّجُلُ إذَا أثِمَ يَحُوبُ حَوْبًا. قَالَ الشّاعر:
وإِنّ مُهاجِرَيْن تكنّفاها ... غداتئذٍ لَقدْ ظَلَما وَحابَا3
وقال المُنخَّلُ السَّعْديُّ4
وتُخبِرُني شَيْبانُ أَن لن يَعقَّني ... بَلَى جَيْرِ إِنْ فَارقْتَني وتَحُوب
والحُوبُ المَرضُ أيضًا.
وأنشدني أبو عُمَر: أنشدنا أبو العبّاس ثَعْلَب عن أَبِي نَصْر عَنِ الأَصْمَعِيّ:
تَداوَيْتُ من ليْلَى بِهجْران بَيْتها ... وداوَيْتُ أقْوامًا مِراضًا قُلُوبُها
فأمّا الَّذِي داوَيْتُ بِالهَجر فاشْتَفَى ... بِهَجرٍ وأمّا النفس فاغتل حوبها
__________
1 م: "عبد الله بن زيد".
2 ح: "الإثم" وأخرجه عبد الرزاق في المصتف 5/175 والنهاية حوب 1/445. وفي الفائق "حوب" 1/329: الحوبة: هي الحرمة التي يأثم في تضييعها من أم أو أخت أو بنت والتقدير ذات حوبة.
3 م, ح: "تكفناه" بدل "تكفناها".
4 من م.

(1/607)


قَالَ أبو العَبَّاس اغتلّ من الغُلَّة.
وفي البَعْل وَجْهٌ آخرُ وهو أن يُقال: هل لك من بَعِلٍ عَلَى وَزْن وَعِلٍ.
يريدُ هل في أهلكَ1 مَنْ بَعِلَ أي ضَعُف وعَجَز عَنِ السَّعْي والعمل.
أخبرني أبو عُمَر عن أبي العبَّاس ثَعلَب عن ابن الأَعرابي قَالَ: يُقال بَعِلَ الرَّجلُ وبَحِرَ وبَقِر إذَا تحيَّر فلم يهْتَدِ لأمرِه. وامرأةٌ بَعِلَةٌ إذَا كانت بَلْهاءَ لا تُحْسِنُ أن تَلْبَسَ ثِيابَها وتُصْلِحَ أَمرَ نفْسِها.
وفيه لُغةٌ أخرى بَعَل بفتح العين فهو بَعْلٌ. حكاها ابنُ السّكِّيت عَنْ يُونُس قَالَ: يقال بَعَل الرَّجُلُ إذَا صَارَ بَعْلًا يَبْعَلُ وأنشد:
يا رب بَعْلٍ ساء ما كَانَ بَعَلْ
فالبَعْلُ عَلَى هذا مَعْناه الكَلّ من العِيال. يُقال: أَصْبَح فُلانٌ بَعْلًا عَلَى أهِله أي ثِقْلًا عليهم وكَلا.
وهذا كَحَدِيثه الآخر: أَنَّه جاءَه رجُلٌ يُريد الجهادَ فَقَالَ لَهُ: "هَلْ في أهِلك من كاهل" 2 يروى مَنْ كاهَلِ.
قَالَ أبو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ هَلْ فيهم من أَسنَّ وصَارَ كَهْلًا ضَعِيفًا.
قَالَ أبو سليمان: ورأيتُ بعضَ أهلِ النظر يَذْهَبُ في ذَلِكَ إلى غير ما تأوله أبو عبيد ويرويه هَلْ في أهِلك من كاهِلٍ على وزن قاتل. قال:
__________
1 م: "هل من بعل" والمثبت من س, ط.
2 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5/176 بلفظ: "هل تركت في أهلك من كهل" وفي الفائق "كهل" 3/288: عن أبي سعيد الضرير أنه أنكر الكاهل وزعم أن العرب تقول للذي يخلف الرجل في أهله وماله كاهن. وقد كهنني فلان بكهنني كهونا. وقال: فإما أن تكون اللام مبدلة من النون أو أخطأ سمع السامع فظن أنه باللام وكذلك جاء في النهاية "كهل" 4/213.

(1/608)


يُقال: فُلانٌ كاهِلُ بني فلان إذَا رَأَسَهُم وَقام بأمْرِهم فاعتمدُوه لِما يَنُوبُهم. وأَصْله من كاهِل الظَّهْر لأَنَّه المُعْتَمد عَلَيْهِ فيما يُحتَمل. والعَربُ تَقُولُ تميم كاهلُ مُضَر لأنَّ العدَدَ فيهم. وسَعْد كاهِلُ تَمِيم. والمعنى أنّه قَالَ للرجل هل في أهلك مَنْ تَعْتَمِده للقِيام بأمْرِهم إذَا غِبْتَ عنهم يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قولُه: في هذا الخَبر ما هم إلا أُصَيْبِيَةٌ صِغَارٌ.

(1/609)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا الْهَيْثَمُ بْنُ أَيُّوبَ نا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
معناه أَنَّ الأَنبياءَ لا يَقتُلُون إلا مَنْ يَستَحِقُّ القتْل لأنّ الغَلَطَ في الأحكام لا يجوز عليهم والأَئِمَّة إنّما يجتهدون في الأحكام والغلَطُ غير مأمُونٍ عليهم وهذا فيمَنْ قَتَله النَبِيُّ عُقوبةً لَهُ عَلَى كُفْره كأُبَيِّ بنِ خَلَف قتله رَسُول الله عقوبة لا فيمن قتله تطهيرًا لَهُ كَماعِز رَجَمَه النَّبِيّ عَلَيْهِ السلام طُهْرةً لَهُ وكفّارةً لذَنْبه أَلا تراه قد صلّى عَلَيْهِ واستغفر له.
__________
1 أخرجه أحمد 1/407.

(1/609)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ لَهُ: إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَى وَأَنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ الله: "بخ ذلك مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَائِحٌ" 1.
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدّ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بن عَبْد الله بن أبي طلحة عن أنس.
__________
1 أخرجه البخاري 2/141 ومسلم 2/693.

(1/609)


قوله: "رابح" أي ذُو رِبْح كقوله: ناصِب أي ذُو نَصبٍ. قَالَ النابغَةُ:
كلِيني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصبِ1
وأما الرائِحُ فهو القريبُ المسافة الَّذِي يَرُوح خَيْره ولا يَعْزُب نَفْعُه قَالَ الشاعر:
سأطلبُ مالًا بالمدينة إنَّني ... أَرَى عَازِبَ الأَمْوال قَلَّتْ فَوَاضِلُهْ2
وقوله: بخٍ كلمةُ إعجابٍ وقد تُخفَّفُ وتُثَقَّلُ فإذا كُرِّرَتْ فالاخْتيارُ أن ينوَّنَ الأوَّلُ ويُسكَّن الثاني وهكذا هو في كل مُثنّى كقولهم صَهٍ صَهْ وطَابٍ طَابْ ونحوهما. قَالَ الأحمرُ: في بخً أربعُ لُغات الجَزْمُ والخفْضُ والتَّشْدِيدُ والتخفيف وأنشد:
روَافِدُهُ أَكرَمُ الرَّافدَات ... بَخٍ لَكَ بَخٍّ لِبَحْرٍ خِضَمْ3
وقال آخر:
بَخْ بَخْ لوالدة وللمولود4
__________
1 الديوان /54 وعجزه:
وليل أقاسيه بطئ الكواكب
2 اللسان والتاج "فضل" ولم يعز.
3 اللسان والتاج "خضم" ولم يعز.
4 اللسان والتاج "بخخ" وعزي لأعشى همدان وصدره:
بين الأشج وبين قيس باذخ

(1/610)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانَ فَقَالَ: "لَيْسَ بِشَيْءٍ" فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله فإنهم1 يقولون كلمة
__________
1 س: "فإنهن" والمثبت من م.

(1/610)


تَكُونُ حَقًّا قَالَ: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهُ الْجِنِّيُّ فَيَقْذِفُهُ فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرِّ الدَّجَاجَةِ وَيَزِيدُونَ فِيهِ مِائَةَ كِذْبَةٍ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ نا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُقْبَةَ الْحَضْرَمِيِّ2 عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ.
قوله: "كقَرِّ الدَّجَاجة" هكذا قَالَ ابنُ الأعرابيّ فإن كَانَ محفوظًا فإنّه يُريد صَوْتَها يقالُ للدجاجة إذَا قَطَّعَتْ صَوْتَها قَرَّتْ تَقِرُّ قرًّا وقريرا فإذا رجَّعتْ فيه قِيلَ قرْقَرتْ قَرْقرةً وَقَرْ قَرِيرًا. قَالَ الشاعرُ:
وإن قرْقَرَتْ هاجَ الهَوى قَرْقَرِيرُها
وقال آخر:
صوت الشقراق إذَا قَالَ قَرِرْ3
فأظْهر التّضعيفَ عَلَى الحكاية والمْعنى أَن الجِنِّيَّ يَقْذف تِلْكَ الكلمةَ إلى وليّه الكاهن فيتسامع بها الشَّياطينُ كما تُؤذِنُ الدّجاجةُ بصَوْتها صواحباتِها فتتجاوب ومن شأنها أَنَّ الواحِدَةَ مِنْهُنَّ إذَا صاحتْ صاح سَائِرُهُنَّ وكذلك البَطُّ وكثير من الطَّيْر فيكون صوتُ الواحدة منها قد جَلَبَ صوت مائة منهن.
__________
1 أخرجه البخاري في 7/176, 8/58 ومسلم 4/1750 وأحمد في 6/87.
2 م: عن اسماعيل عن عقبة الحضرمي.
3 في اللسان والتاج "قرر":
كأن صوت صرعهن المنحدر ... صوت شقراق إذا قال قرر
ولم يعز.

(1/611)


وفيه وجه آخر وهو أن تكون الرِّواية كقرِّ الزّجاجة1 يدلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ رَوَى اللَيْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ أَخْبَرَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَلائِكَةُ تُحَدَّثُ فِي الْعَنَانِ فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتَقَرُّهَا فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ" 2.
فَذِكرُه القارورة في هذه الرواية يدلّ عَلَى ثبوت الرواية بالزُّجاجة في حديث ابن شهاب. قَالَ أبو زَيْدٍ: يُقالُ: قَررتُ الكَلامَ في أُذُنِ الرّجُلِ أَقُرُّهُ قَرًّا. وقال ابنُ الأعرابيّ: القَرُّ تَرْدِيدُك الكلامَ في أُذُنِ الأَبْكم حتى يفْهَمه. والقَرُّ صَبُّ الماءِ دَفْقةً3 واحدة.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ وَاخْتِطَافَ الْجِنِّيِّ الْوَحْيَ قَالَ: "فَيَقْذِفُهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَمَا جاؤوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يُرَقُّونَ فِيهِ" 4.
قوله: يُرَقُّونَ أي يتزيَّدُونَ. يقال: رَقَّى فُلانٌ عَلَى الباطل إذَا تقوّلَ: ما لم يَكُنْ وأصله من الرُقِيِّ وهو الصُّعُودُ والارْتِفاع. وحقيقَتُه أنّهم يرتفعون إلى الباطل ويدَّعونَ فوْقَ ما يسمعون.
__________
1 في النهاية لابن الأثير "قر": ويروى "كقر الزجاجة": أي كصوتها إذا صب فيها الماء.
2 أخرجه البخاري في 4/152.
3 م: "دفعة".
4 أخرجه الترمذي في التفسير 5/362 بالطريق المذكور بلفظ: "ولكنهم يحرفون ويزيدون".

(1/612)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنِ الْمَيِّتِ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ نا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
هذا يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجهَيْن: أَحدُهُما أن تكُونَ الثِّيابُ كنايةً عَنِ العَمل الَّذِي يَمُوتُ عليْه ويُخْتَمُ لَهُ بِهِ ويَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَاهُ محمد بن عَبْد الواحد النحوي نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَمَّالُ نا أَبُو نُعَيْمٍ نا سُفْيَانُ يَعْنِي الثَّوْرِيَّ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُبْعَثُ الْعَبْدُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ" 2.
وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ نا ابْنُ الْجُنَيْدِ نا قُتَيْبَةُ نا الْفُضَيْلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مَجَاهِدٍ فِي قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 3 قَالَ: وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ4. ويقال: فُلانٌ دَنِسُ الثَّوْبِ إذَا كَانَ خبِيثَ الفِعْل والمَذهَب. ولَبِسَ الرّجُلُ ثوْبَ غَدْرٍ إذَا غَدَرَ. كقَوْل الشاعر:
وإني بحمدِ الله لا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْتُ ولا مِن رِيبَة أتَقنَّعُ5
وقال آخرُ:
لا هُمَّ إِنّ عَامرَ بْن جَهْمِ ... أوْ ذَم حجًّا في ثيابٍ دُسْمِ6
__________
1 أخرجه أبو داود في الجنائز 3/190.
2 أخرجه مسلم في 4/2206 وابن ماجه في 2/1414 بلفظ: "يحشر الناس على نياتهم".
3 سورة المدثر: 4.
4 أخرجه ابن جرير في تفسيره 29/146.
5 اللسان والتاج "ثوب" دون عزو.
6 اللسان والتاج "دسم" دون عزو.

(1/613)


والوجْهُ الآخرُ أن يُراد بالثّياب ما يُلبَس ويُكْتَسَى يُريدُ أنّهم يُبْعَثُون من قُبُورهم وعليهم ثِيابُهم ثُمَّ يُحشَرُون إلى الموْقِف عُراةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا" 1.
وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّه لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ حَسِّنُوا كَفَنِي فَإِنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثيابه التي يموت فيها.
__________
1 أخرجه البخاري في 4/169, 204 ومسلم في 4/2194 والترمذي في 4/615 وغيرهم.

(1/614)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نَاضِحَ آلِ فُلانٍ قَدْ أَبَدَّ عليهم فنهض رسول الله فَلَمَّا رَآهُ الْبَعِيرُ سَجَدَ لَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ: "هَاتِ السِّفَارَ" فَجِيءَ بِالسِّفَارِ فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ1.
حَدَّثَنِيهِ الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا نا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ نا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلانِيُّ نا الْمَكِّيُّ نا فَائِدٌ أَبُو الْوَرْقَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى.
السِّفارُ الزِّمامُ يُقال: أَسفَرتُ البعيرَ جعلتُ لَهُ سِفارًا. وقال أبو زَيْدٍ: السِّفارُ الحَدِيدَةُ التي يُخْطَمُ بها البعيرُ وفيه لُغَةٌ أخرى سَفَرتُ البعير.
__________
1 ذكره السيوطي في الخصائص الكبرى 2/255 بلفظ "أبق" بدل "أبد" وعزاه للبيهقي وأبي نعيم.

(1/614)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ ثُمَّ صُنِعَتْ فِي الإِرَةِ حَتَّى نَضِجَتْ.
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.

(1/614)


الإرة: مستوقد النار يقال: وأَرْتُ إِرَةً إذَا حَفرْتَ لها حَفِيرةً ويجْمَعُ عَلَى الإِرِين. والإِرَةُ أيضًا لَحْمٌ يُطْبَخُ في كَرِشٍ وقد رُوي أَنَّ بُرَيْدة الأسلميَّ أهدى لرسول الله إرةً أي لحْمًا في كَرِشٍ.

(1/615)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لا يَقُصُّ إِلا أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ أَوْ مُخْتَالٌ" 1.
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَشِّيِّ2 نا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي عَرِيبٍ عَنْ كَثِير بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ.
بلغني عَنِ ابن سُرَيْج أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هذا في الخُطْب وذلك أَنَّ الأُمراء كانوا يتولَّوْنَها بأنْفُسِهم فَيَقُصُّون فيها عَلَى الناس ويَعِظُونهم. والمَأمُورُ مَنْ يختاره الأَئِمَّةُ3 فينْصِبُونَه لذلك ولا يكادون يَختارُون لَهُ إلا رِضًا من النّاسِ فاضلًا وما سِوَى ذَلِكَ فإنّه لا يكادُ ينْتَدِبُ له من الناس إلا مراء مُخْتالٌ.
وفيه قولٌ آخرُ هُوَ أَنَّهُ أَرادَ بِهِ الفَتْوى في الأحكام ويشهَدُ لَهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ. قَالَ سُئِلَ حُذَيْفَةُ: عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ إِنَّمَا يُفْتِي أَحَدُ ثَلاثَةٍ مَنْ عَرَفَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ أَوْ رَجُلٌ وَلِيَ سُلْطَانًا فَلا يَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا أَوْ متكلف4.
__________
1 أخرجه أحمد فب مسنده 6/27, 28, 29.
2 م: "الكجي". وفي تبصير المنتبه /1218: أبو مسلم إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسلم بن ماعز بن كش الكشي ويقال فيه الكجي الحافظ صاحب السنن.
3 س: "الإمام" والمثبت من بقية النسخ.
4 في المصتف لعبد الرزاق 11/231 بلفظ: " ... من عرف الناسخ والمنسوخ قالوا ومن يعرف ذلك قال عمر أو رجل ولي سلطانا ... الخ" والدارمي 3/62 بنحوه بتقديم وتأخير.

(1/615)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ خَيْلا فَقَالَ رَجُلٌ: خَيْرُ الرِّجَالِ رِجَالٌ جَاعِلُو رِمَاحَهُمْ عَلَى مَنَاسِج خُيُولِهِمْ لابِسُو الْبُرُودِ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. فَقَالَ: كَذَبْتَ بَلْ خَيْرُ الرِّجَالِ رِجَالُ أَهْلِ الْيَمَنِ الإيْمَانُ يَمَانٍ آلُ لَخْمٍ وَجُذَامَ وَعَامِلَةَ1.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى نا أبو المغيرة نا صفوان بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِذٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ.
مِنْسَجُ الفَرس. بمنزلة الكاهِل من الإنسان. قَالَ أبو عَمرٍو هُوَ المِنْسَجُ بِكَسْر الميم وفَتْح السِّين وهو من البَعِير حارَكٌ ومن الحمار سيساء.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 4/387.

(1/616)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأكْوَعِ قَالَ: لَمَّا أَغَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ الْفَزَارِيُّ عَلَى سَرْحِ رَسُولِ اللَّهِ نَادَيْتُ يَا صَبَاحَاهُ ثُمَّ خَرَجْتُ أَقْفُو فِي آثَارِهِمْ فَأَلْحَقُ رَجُلا فَأَرْشُقُهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ فَقُلْتُ:
خُذْها وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... واليَومُ يَوْم الرُضَّعِ
قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ حَتَّى ألْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِينَ رُمْحًا وَثَلاثِينَ بُرْدَةً لا يُلْقُونَ شَيْئًا إِلا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا قَالَ وَأَتَاهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ مُمِدًّا لَهُمْ فَقَعَدُوا يَتَضَحَّوْنَ1 وَقَعَدْتُ عَلَى قَرْنٍ فَوْقَهُمْ فَنَظَرَ عيينة فقال:
__________
1 م: "يتضحون" من اتضح والمثبت من س والفائق 2/173 وفي النهاية "ضحا": هو يتضحى أي يأكل في هذا الوقت كما قال يتغذى ويتعشى.

(1/616)


مَا هَذَا الَّذِي أَرَى فَقَالُوا: لقينا منه الْبَرْحَ1. فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
يَرْوِيهِ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ.
قولُه: أرشُقُهُ يُريدُ أَرْمِيه. يُقالُ إذَا رَمَى أَهْلُ النِّضال شوطا ثُمَّ عَادُوا قد رشَقُوا رَشْقًا والاسْمُ منه الرِّشْقُ بكسر الراء ونُغْضُ الكَتِف فَرعُ الكَتِف وسُمِّي نُغْضًا لأنّه يَنْغَضُ من الإنسان إذَا أَسْرَع أي يتحرّكُ منه. يُقالُ أَنْغضَ الرَّجُلُ رأسَه إذَا حرَّكه.
وقوله: اليَوْم يَومُ الرُضَّع يُريدُ اليَوم يَوْم هلاكِ اللِّئام. من قولهم: لَئيمٌ رَاضِعٌ وهو الَّذِي يَرْضَع الغَنَم لا يَحْلُبَها فيُسْمع صَوْتُ الحَلَب. قَالَ الشاعر:
لا يَحْلُبُ الضَّرْعَ لؤمًا في الإناء ولا ... يُرَى لَهُ في نَواحِي الصَّحْن آثارُ
والبُرْدَةُ شَمْلَةٌ من صُوفٍ مُخطَّطَة وجَمْعُها بُرَدٌ. والآرام الأَعْلامُ من الحجارة يُهْتدَى بها واحِدُها إِرَمٌ. كَانَ يُعلِمُ عليها ليَعْرِف مكانَها فيَلْتَقطَها عند انصرافه. قال الكميت:
واستشتت بنا مصَادِرُ شَتّى ... بعْدَ نَهْج السبيل ذي الآرام2
وقوله: وَهُمْ يتَضَحَّوْن أي يتَغَدَّوْنَ. والضّحاءُ الغَداءُ. والقَرْنُ جُبَيْل منفرد والبَرْحُ شِدَّةُ الأَذَى. ومنه قولُهُم برَّحَ بي الأَمْرُ. قَالَ جريرٌ:
ما كُنْتُ أوَّلَ مَشْعُوفٍ أَضَرَّ بِهِ ... بَرْحُ الهَوَى وعذابٌ غيرُ تقتير3
__________
1 أخرجه مسلم في الجهاد 3/1433 في حديث طويل وأحمد في مسنده 4/52.
2 لم أقف عليه في ديوانه ط /بغداد.
3 الديوان /253.

(1/617)


قَالَ الكِسائيّ: يُقال لَقِيتُ منه الأمَرِّينَ والبِرَحِينَ والفُتَكْرِينَ والأَقْوَرِينَ والأقوريّات1. كلها الدواهي والبلايا.
__________
1 من م.

(1/618)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لا حَلِيمَ إِلا ذُو عَثْرَةٍ وَلا حَكِيمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ" 1.
حَدَّثَنَاهُ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى نا مُحَمَّدُ بْنُ قُتَيْبَةَ العسقلاني نا يزيد بن موهب نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ نا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجِ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
يذهبُ عامّةُ الناسِ في قوله: "لا حَلِيمَ إِلا ذُو عَثْرَةٍ" إلى أَنَّ الحَلِيمَ لا يَسْلَمُ من أنْ2 تكون لَهُ عَثْرة أو تُوجَد منه زَلَّةٌ عَلَى معْنى قولِهم الجَوادُ يَعْثُر وكقولهم الكريمُ مَنْ عُدَّتْ هَفَواتُه ونحو ذَلِكَ من الكلام
والذي عندي في هذا خِلاف ما يذهَبُون إِلَيْهِ وذلك أَنَّ قَوْلَه: ذُو عَثْرة يَقتَضِي العَدَد والكَثْرَة كقولك فُلانٌ ذُو عَقْلٍ وأدبٍ وزَيْدٌ ذُو مَالٍ ونشَبٍ. ولا يَجوزُ أن يُوصَفَ الحليمُ بكَثْرة العَثَرات والتَّهافتِ في الزلات لأنه بالسُّخْف أَشْبَهُ وإلى السَّفَهِ أقربُ وإنّما وجهه أنّ المرءَ لا يُوصَفُ بالحِلْم ولا يترقَّى إلى درجته حتّى يرْكَبَ الأمورَ ويجرِّبَها فيعثُر مرةً بَعْد أخرى فيَعْتبِر بها ويَسْتَبين مَواضعَ الخطإِ فَيجْتنبُها. وهكذا معنى قوله: "لا حَكِيمَ إلا ذو تجربة".
__________
1 أخرجه الترمذي في البر والصلة 4/379 وأحمد في مسنده 3/8, 69 والحاكم في المستردك 4/293 وابن حبان في صحيحه كما في الموارد /507.
2 ح, م: "من أن توجد له عثرة أو تكون منه زلة".

(1/618)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النبي عليه السلام: "أَنَّهُ حَمَى غَرَزَ النَّقِيعِ لِخَيْلِ المسلمين"1.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 2/157 بدون لفظ: "غرز" وانظر وفاء الوفاء 3/1084.

(1/618)


يَرْوِيهِ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
الغَرَزُ نَوْعٌ من الثُّمَامِ دَقِيقٌ لا ورَقَ لَهُ يَنْبُت في القِيعان وعلى شُطُوط الأَنْهار.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لِيَرْفَأَ1 خَادِمِهِ كَمْ تَعْلِفُونَ هَذَا الْفَرَسَ لِفَرَسٍ رَآهُ قَالَ ثلاثة أمداد أوصاع فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَكَافٍ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْعَرَبِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُعَالِجَنَّ غَرَزَ النَّقِيعِ. قال الأصمعي: النقع القاع. يقال انزِل بذلك النّقْع أي بذلك القاع والجمع2 النقعان.
__________
1 القاموس "رفأ": يرفأ كيمنع: مولى عمر بن الخطاب.
2 م: "والجماع".

(1/619)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: "وَيْحَكَ إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ" قَالَ: نَعَمْ قَالَ: "فَهَلْ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا" قَالَ نَعَمْ. قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبَحْرِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتْرُكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا مُؤَمِّلُ بْنُ الْفَضْلِ نا الْوَلِيدُ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قوله: لن يَتِرك مَعْناه لن يَنقُصَك. يُقالُ وتَرةُ يَتِرهُ تِرةً. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} 2 وقال تَعَالَى: {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
__________
1 أخرجه البخاري في الزكاة 2/145 ومسلم في الإمارة 3/1488 وأبو داود في الجهاد 3/3 والنسائي في البيعة 7/143 وأحمد في مسنده 3/14, 64.
2 سورة محمد: 35.

(1/619)


شَيْئاً} 1 معناه أيضا لا يَنْقُصُكُم. قَالَ اليزيدي: فيه لُغتان أَلَت يَأْلِتُ أَلْتًا ولاتَ يليت ليتا.
__________
1 سورة الحجرات: 14.

(1/620)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أُتِيَ بِأَبِي شُمَيْلَةَ وَهُوَ سَكْرَانٌ فَقَبَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَهُ ثُمَّ قَالَ: "اضْرِبُوهُ" فَضَرَبُوهُ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ وَبِأَيْدِيهِمْ والْمِيتَخُ1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَشَّاشُ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ نا أَبِي سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقٍ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ ابنُ الأعرابي: المِيتَخُ العَصَا الخَفِيفَة.
وَأَخْبَرَنَا ابنُ داسَة قَالَ قَالَ أبو داوُد قَالَ ابنُ وهْب المِيتَخَةُ الجريدَةُ الرَّطبةُ.
وأخبرني بَعْضُ أصحابنا عَنْ أَبِي عُمَرَ عَنْ أَبِي العبّاس ثَعْلَب عَنِ ابن نَجْدَة عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: يُقالُ لِلْعَصا المِتْيخَةً بسكون التاء وَالمِيتخَةُ الياء قبْل التاء والمِتّيْخَةُ بتشديد التّاء فمن قَالَ مِيتخَةٌ فهو من وَتَخ يَتِخُ مِفْعَلَةٌ مِنْهُ. ومن قَالَ: مِتْيَخَةٌ فهو من تَاخَ يَتُوخُ2 ومن قَالَ: متِّيخَةٌ فهي فِعِّيلَةٌ من متَخَ الجَرادُ إذَا أَرَّز أَذنابَه في الأرض وفي هذا دليلٌ عَلَى أنّ حَدّ الخَمْر أخفُّ الحُدُود. وأكثرُ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَلَغَ به في
__________
1 أخرجه ابن الأعرابي في معجمه لوحة 105 /ب وذكره الحافظ في الإصابة 4/103.
2 في الفائق للزمخشري "متخ" 3/342: قالوا في المتيخة إنها من تاخ يتوخ وليس بصحيح لأنها منه لصحت الواو كقولك: مسورة ومروحة ومحوقة.

(1/620)


الخَمْر أَرْبَعين وكذلك رُوِي عَنْ أَبِي بَكْر وعمر شَطْرَ إمارِته ثُمَّ تشاور الصحابةُ في ذلك فبلَغُوا بِهِ حدَّ القذْف ثمانين.
وَأَخْبَرَنَا ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَهَذَا حَدِيثُهُ قَالا: نا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمْ يَقِتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ حَدًّا. قَالَ: وَشَرِبَ رَجُلٌ فَسَكِرَ فَلُقِيَ يَمِيلُ فِي الْفَجِّ فَانْطُلِقَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا حَاذَى دَارَ الْعَبَّاسِ انْفَلَتَ فَدَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَالْتَزَمَهُ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ وَقَالَ: "أَفَعَلَهَا" وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِشَيْءٍ1.
وفي هذا دَلالَةٌ عَلَى أنّ للإمامِ أن يَعْفُو عَنْ شارب الخَمْر وإنه وَإِن كَانَ من حقُوق الله فليْسَ كحدِّ الزِّنا والسَّرِقة ونحوهما.
وقولُه: لم يَقِتْ يريد لم يُوقِّتْ. يقالُ: وقَت يَقِتُ بالتَّخْفِيف ومنه قولُه تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} 2.
__________
1 أخرجه أبو داود في كتاب الحدود 4/162 وأحمد في مسنده 1/322. والفج: الطريق.
2 سورة النساء: 103.

(1/621)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي قِصَّةِ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ فَأَبَى عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَنْ يَقْبَلَ الْغِيَرَ قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ مُكَيْتِلٌ عَلَيْهِ شكة فقال يا رسول لله إِنِّي مَا أَجِدُ لِمَا فَعَلَ هَذَا فِي غُرَّةِ الإِسْلامِ مَثَلا إِلا غَنَمًا وَرَدَتْ فَرُمِيَ أَوَّلُهَا فَنَفَرَ آخِرُهَا اسْنُنِ الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غدا1.
__________
1 أخرجه أبو داود في الديات 4/171 وابن ماجه في الديات أيضا 2/176 مختصرا وأحمد في مسنده 5/112, 6/10.

(1/621)


أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ قَالا نا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ زِيَادَ بْنَ سَعْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ بِذَلِكَ.
الغِيَرُ تُفَسَّر الدِّيَة وقدْ ذكره أبو عُبيد في كتابه والشِكَّةُ السِّلاحُ قَالَ النابغةُ:
وَإِنّ تِلادي إنْ ذَكَرْتُ وشِكَّتِي ... ومُهْرِي وما ضمَّتْ إليَّ الأَناملُ1
ويُجْمَعُ عَلَى الشَّكَك قَالَ حُمَيْدُ بْن ثوْر:
والخَيْلُ عابسَةٌ نَضْحُ الدِّماءِ بها ... تنْعَى ابْنَ أرْوَى عَلَى فُرسانها الشِّككْ2
ويُقالُ: رجلٌ شاكٌّ في السّلاح وشاكِي السلاح. وغُرّةُ الإسْلام أوّلُه وقولهُ: اسنُنِ اليَوْمَ وغيِّر غَدًا مَثَل يريدُ إنّك إن لم تُقِصّ منه غَيَّرتَ سُنَّتَك وبَدّلْتَها. والسُّنَّةُ مأخوذةٌ من السَّنِّ وهو إمرارُكَ المِسنَّ عَلَى الخشبة ونحوها. فإذا تأثر له فيها طرائِق فكُلّ طريقةٍ منها سنة.
__________
1 الديوان 188.
2 الديوان /144 برواية: "على أبطالها" بدل "على فرسانها".

(1/622)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ارْتَجَسَ إِيوَانُ كِسْرَى فَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسٍ وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ أَلْفَ عَامٍ وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ وَرَأَى الْمُوبِذَانُ إِبَلا صِعَابًا1 تَقُودُ خَيْلا عِرَابًا وَقَدْ قَطَعَتِ الدِّجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بلادها فبعث كسرى عبد المسيح بْنَ عَمْرٍو الْغَسَّانِيَّ إِلَى سَطِيحٍ يستخبره
__________
1 م, ط, ت: "صغارا".

(1/622)


عِلْمَ ذَلِكَ وَيَسْتَعْبِرُهُ رُؤْيَا الْمُوبِذَانَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِ سَطِيحٌ جَوَابًا فأَنشأ عَبْدُ المسيح يقول:
أصم أم يسمع غِطْريفُ اليَمنْ1 ... أَمْ فَادَ فَازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَنْ
يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أَعيَتْ مَنْ وَمَنْ ... أَتَاكَ شَيْخُ الْحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ
وأمه من آل ذئب بن حجن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قَيْلِ الْعُجْم يَسْرِي لِلْوَسَنْ ... لا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلا رَيْبَ الزَّمَنْ
تَجُوبُ بِي الأَرْضَ عَلَنْدَاةٌ شَزِنْ ... يرفعني وجن وَتَهْوِي بِي وُجُنْ
حَتَّى أَتَى عَارِي الْجَآجِي وَالْقَطَنْ ... تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدِّمَنْ2
فَلَمَّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى جَمَلٍ مُشِيحٍ جَاءَ إِلَى سَطِيحٍ وَقَدْ أَوْفَى عَلَى الضَّرِيحِ بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لارْتِجَاسِ الإِيوَانِ وَخُمُودِ النِّيرَانِ وَرُؤيَا الْمُوبِذَانِ رَأَى إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتِ الدِّجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلادِهَا.
عَبْدُ الْمَسِيحِ إِذَا كَثُرَتِ التِّلاوَةُ وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ وَخُمِدَتْ نَارُ فَارِسَ وَغَاضَتْ بُحيْرَةُ سَاوَةَ وَغَاضَ وَادِي السَّمَاوَةَ فَلَيْسَتِ الشَّأْمُ لِسَطِيحٍ شَأْمًا وَلا بَابِلَ لِلْفُرْسِ مُقَامًا3 يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ عَلَى عَدَد الشُّرُفَاتِ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثُمَّ قَضَى سَطِيحٌ مَكَانَهُ4.
__________
1 اللسان والتاج "غطرف".
2 اللسان والتاج "بوغ" وفي تاريخ الطبري 2/331 الأبيات مع زيادة فيها وتقديم تأحير واختلاف في الرواية.
3 من ت.
4 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/67-71 وكذلك أبو نعيم في دلائل النبوة 1/173-176 وفي اللسان "بوغ" حديث سطيح.

(1/623)


حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِدْرِيسَ الْمَعْقِلِيُّ1 نا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ نا أَبُو أَيُّوبَ يَعْلَى بْنُ عِمْرَانَ الْبَجَلِيُّ. ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ آل جرير حدثني هانىء بن هانىء وَأَتَتْ لَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ الْحَدِيثَ.
الغِطْريفُ: السّيد. رجلٌ غِطْريفٌ من قَوم غَطارفَه. وقوله: فَفَاد أي مات يُقَالُ فَادَ الرَّجُلُ يَفُود إذَا ماتَ. وفاد يَفِيدُ إذَا تَبَخْتر. قَالَ بِشْرُ بْن أَبِي خَازمٍ:
يا فَارِسًا مَا فَادَ أوَّل فارس ... ثَقْفًا إذَا انفَلَت العِنانُ من اليَدِ2
ورواه بعضهم فاز ومعناهما وَاحد
يقالُ فازَ الرَّجُلُ وفوَّز إذَا ماتَ وسُمّيت المفازَةُ لأنّها مهلكة.
وقوله: فازلم بِهِ شأوُ العَنَن سَمِعُتُ أبَا عُمَر يَقُولُ سألْتُ أبا العبّاس عن ذلك فقال ازلَم قَبَض. والشَّأْوُ السِبّاقُ إلى غاية. والعَنَن هاهنا المَوْتُ يُريدُ أنّ الموْتَ عَرض لَهُ فَقَبضه. يقال عنَّ لي أمْرٌ أي عَرَض.
وقوله: يا فاصلَ الخُطّة أَعْيت مَنْ ومن. قَالَ أبو العَبَّاس هذا كما يُقالُ أَعيَتْ فلانًا وفلانًا. قَالَ وقد يعمل فيه الإعرابُ إذَا قِيلَ رأيتُ رجلًا قلت مَنًا وإذا قِيلَ رأَيْتُ رجلينْ قلت مَنَيْن. وفي الجميع مَنُونَ. قَالَ وأنشد الفراءُ:
أتَوْا ناري فَقُلْتُ مَنُونَ أنتُم ... فقالوا الجِنُّ قُلْتُ عِمُوا ظَلامًا3
__________
1 ت: إبراهيم بن إدريس المعقل. وفي المشتبه 2/603: إبراهيم بن محمد بن إدريس بن معقل المعقلي.
2 الديوان /60.
3 هامش م, ط: "صباحا" بدل "ظلاما" والبيت في اللسان والتاج "منن" برواية: "ظلاما" وعزي لشمر بن الحارث الضبي.

(1/624)


وقوله: فَضْفَاضُ الرِّداءِ والبَدنْ فإن الفَضْفَاضَ الواسعُ. وَسَعَةُ الرِّداءِ والبدَنِ1 كِنايةٌ عَنْ سَعَة الصَّدْر ورحْبِ الذراع عن لابسة قَالَ الشاعر:
مَعي كُلُّ فَضْفَاضِ القَمِيص كأنه ... إذا ما سَرى فيهِ المُدامُ فَنيقُ2
أراد بالقميص ما يشْتَمل عَلَيْهِ القَمِيصُ من بدَن لابسِه وهذا كما قِيلَ لِلرَّجُل السَّخِيّ إنّهُ لغَمْرُ الرِّداءِ قَالَ الشاعرُ:
غَمْرُ الرِّداءِ إذَا تبَسَّم ضاحكًا ... غَلِقَتْ لِضَحْكته رِقابُ المَال3
وأنشدونا عَنِ ابن الأنباري:
رَموْها بأثوابٍ خِفَافٍ فلَنْ تَرَى ... لها شَبَهًا إلا النّعامَ المُنَفَّرا4
أراد بالأثواب الأبدانَ ومِثْله كثيرٌ. والعَلَنْداةُ البَعِيرُ الصُّلْبُ. قَالَ ابنُ الأعرابيّ يُقال ناقَةٌ علَنْداةٌ وجَملٌ عَلنْداةٌ بالهاء وتجمعُ عَلَى العلانِدِ والعَلَنْديّاتِ. والشَّزِنُ المُعْيى من الحَفا. يقالُ شَزَنَ البَعِيرُ شزَنًا. وقد يكون الشَّزِنُ الَّذِي يَمْشي في شِقٍّ. والشَّزَنُ النّاحيةُ والشَّزَنُ الحزُونَةُ. ويقالُ بَاتَ فُلانٌ عَلَى شَزَنٍ أي عَلَى قَلقٍ يتقَلَّبُ من جَنبٍ إلى جَنْبٍ قَالَ ابن هَرْمة:
إلا تَقَلّبَ مكرُوبٍ عَلَى شزَنٍ ... كما تقلّبَ تَحْتَ القرة الصرد5
__________
1 ليست في م.
2 تقدم تخريجه في اللوحة 78.
3 اللسان والتاج "ضحك" وعزي لكثير وهو في ديوانه /288.
4 سبق في اللوحة 78.
5 هامش م: الصرد: الذي يجد البرد. وليس في ديوانه ط دمشق.

(1/625)


وقوله: يرفعني وجن فإنه جمع وجين. قَالَ أبو عُمَر1: وهو العارِض من الأرضِ يَنْقَادُ وهو غليظُ لم يزل هذا البعيرُ يرفعني مرة ويخفضني أخرى. والجآجىء عِظامُ الصَّدر. والقطَنُ ما بين الوَركَيْن. يَقُولُ إنّ السَّيْر قد هَزلَها وأخذ من لحمِها حتى عَرِي منه فبدَتْ عِظامُه والبَوْغاءُ دُقاقُ التُّراب. وقوله: أَوفَى عَلَى الضَّريح يريدُ القَبْرَ المَضْروحَ وهو المشقوقُ في الأرض طُولًا فإذا كَانَ مَلْحُودًا لم يُسَمَ ضَرِيحًا. والمشيح الجادُّ. قَالَ عَمْرُو بْن الإطْنابة:
وضَرْبي هامَةَ البطَلِ المُشيْحِ2
ويقال أيضًا رَجُلٌ شَيْحانُ. قَالَ تأبَّط شرًّا:
إذَا خاطَ عَينيه كَرَى النوم لم يزل ... له كالىء من قلب شيحان فاتك
__________
1 م, ح: "أبو عمرو".
2 اللسان والتاج "شيح" وصدره:
وإقدامي على المكروه نفسي

(1/626)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَ فَاطِمَةَ إلى النبي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنِّي قَدْ وَعَدْتُهَا لِعَلِيٍّ وَلَسْتُ بِدَجَّالٍ" 1.
حَدَّثَنِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ثنا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَعْشَرٍ نا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ مُوسَى عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ ثُمَّ قَالَ مَرَّةً عَنْ حُجْرِ بْنِ عنبس2.
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 9/204 وابن الجوزي في الموضوعات 1/382 بألفاظ متقاربة.
2 في تهذيب التهذيب 2/214: حجر بن العنبس الحضرمي أبو العنبس وقال: أبو السكن الكوفي.

(1/626)


قوله: "لسْتُ بدجَّالٍ" معناهُ لسْتُ بِخدَّاع ولا مُلبّسٍ أمْرَك عليك. والدّجْلُ الخلْطُ. ويقالُ الطَّلْيُ وسُمِّي مَسِيحُ الضَلالَة دَجَّالًا لخَلْطه الحقَّ بالباطل.

(1/627)


حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ حَنِيفَةَ النَّعَمِ أَتَاهُ فَأَشْهَدَهُ لِيَتِيمٍ فِي حِجْرِهِ بِأَرْبَعِينَ مِنَ الإبِلِ الَّتِي كَانَتْ تُسَمَّى المطية
...
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ حَنِيفَةَ النَّعَمِ أَتَاهُ فَأَشْهَدَهُ لِيَتِيمٍ فِي حِجْرِهِ بِأَرْبَعِينَ مِنَ الإبِلِ الَّتِي كَانَتْ تُسَمَّى الْمُطَيَّبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: "فَأَيْنَ يَتِيمُكَ يَا أَبَا حِذْيَمٍ" وَكَانَ قَدْ حَمَلَهُ مَعَهُ قَالَ هُوَ ذَاكَ النَّائِمُ قَالَ: وَكَانَ شِبْهَ الْمُحْتَلِمِ. فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: "لَعَظُمَتْ هَذِهِ هِرَاوَةُ يَتِيمٍ" 1.
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يحيى الذهلي حدثني هانىء بْنُ يَحْيَى بْنِ سَيْفٍ السُّلَمِيُّ نا الذَّيَّالُ بْنُ عُبَيْدٍ سَمِعْتُ جَدِّي حَنْظَلَةَ بْنَ حِذْيَمِ بْنِ حَنِيفَةَ قَالَ جَاءَ حَنِيفَةُ النَّعَمِ.
قوله: "هِراوَةُ يتيم" يُريدُ شَخْصَه وجُثّتَه شَبَّههُ بالهِراوة وهي عصًا تكون مَعَ الرُعاة وتُجْمَعُ عَلَى الهَراوَى قَالَ العبّاس بنُ مِرداس السُّلَميُّ:
وتَضرِبُه الوَلِيدَةُ بالهراوَى ... فلا غير لديه ولا نكير2
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 5/68, 69 في حديث طويل وذكره الحافظ في الإصابة 1/359 وترجمة حنظلة. والفائق "هرا" 4/99 والنهاية 5/261 وجاء فيها: شبهه بالهراوة وهي العصا كأنه حين رآه عظيم الجثة استبعد أن يقال به يتيم لأن في الصغر.
2 الديوان /60.

(1/627)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَابِرًا قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ رسول الله: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَلْيَتَعَجَّلْ" فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ أَرْمَكَ لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ وذكر حديثا1.
__________
1 أخرجه البخاري في الجهاد 4/36 وأحمد في مسنده 3/372.

(1/627)


حَدَّثَنِيهِ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ1 ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ نا مُسْلِمٌ نا أَبُو عَقِيلٍ نا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
الأَرْمَكُ الأَوْرَقُ من الإبل والرُّمْكَةُ وُرْقَةٌ يعلوها سَوادٌ.
__________
1 ساقط من ح.

(1/628)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الرُّكُبَ أَسِنَّتَهَا" 1.
قَالَ أبو عُبَيْد: أراد بالأَسِنَّة الأَسْنانَ يريد أَمْكِنوها من المَرْعى. قَالَ ولا تُعرَف الأَسِنَّةُ في الكلام إلا أسِنّةَ الرِّماح فإن كَانَ مَحْفُوظًا فإنّه أراد جَمْع السِّن فَقَالَ أسنان ثُمَّ جَمَع الأسْنانَ. فَقَالَ أَسِنَّة فصار جَمْع الجمع هذا وَجْهٌ2 في العربية.
قَالَ أبو سُليمان وفيه وَجْهٌ آخر ذكرهُ ابنُ الأعرابي قَالَ: أبو داود أُراهُ السِّنجِيَّ3 قَالَ: سَألتُ ابنَ الأعرابيّ عن هذا فَقَالَ يريدُ ارعَوْها وأحْسِنُوا رَعْيَها حَتّى تَسمَن وتَحْسُنَ في عَيْن النّاظر فيَمْنعه حُسْنُها من نَحْرِها فكأنَّما
__________
1 أخرجه مسلم في الإمارة 3/1525 والترمذي في الأدب 5/143 وأبو داود في الجهاد 2/28 وأحمد في مسنده 2/337, 378 وكذلك في 3/305, 382 بمعناه.
وفي غريب الحديث لأبي عبيد 2/69: "أما قوله الركب فإنها جمع الركاب والركاب هي الإبل التي يسار عليها ثم تجمع الركاب فيقال: ركب.
2 كذا في م وفي س: "وجهه".
3 في اللباب 1/570: السجني بكسر السين وسكون النون وفي أخرها جيم هذه النسبة إلى سنج وهي قرية كبيرة من قرى مرو وكان بها جماعة من العلماء منهم أبو داود سليمان بن معبد بن كوسجان السنجي كان أدبيا شاعرا عالما برواة الأخبار مات سنة 257هـ.

(1/628)


استَجَنَّت منه بِسِنانٍ1 وأنشد لخالد بن الظيفان:
لَهُ إِبلٌ فَرْشٌ ذَواتُ أَسنَّة ... صهابية هانت عليه حقوقها2
قال غيره أسنّتُها مراعيها يريد أنها تَتَقَوَّى بها عَلَى السيّر فتكون القوّة لها كالسِّنان3.
وفي حديث آخر: "أعْطُوا السِّنَّ حظَّها" 4 من السَّنُّ والسن الرَّعْيُ. قَالَ النابغةُ:
ضَلَّتْ حُلُومُهُم عنهم وغرّهُمُ ... سَنُّ المعيدي في رعي وتعزيب5
__________
1 في هامش م: استنتجت: امتنعت وانظر الفائق للزمخشري واللسان "ركب وسن".
2 اللسان "فرش" برواية: "وذات أسنة" ولم يعز.
3 من م, ت.
4 في الفائق "سنن" 2/203 وجاء فيه: أراد ذوات السن يعني الدواب.
5 هامش م أي لا يرجع الإبل بالليل إلى المنزل والبيت في اللسان والتاج "سنن" والديوان /89 وشعراء النصرانية 2/652.

(1/629)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مَرَّتْ بِهِ سَحَابَةٌ فَرَعَدَتْ فَقَالَ: "تَنَصَّلَتْ هَذِهِ أَوْ تَنْصَلِتُ هَذِهِ تَنْصُرُ بَنِي كَعْبٍ" 1.
حَدَّثَنَاهُ الصَّفَّارُ ثنا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أنا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ.
قوله: تنصّلَتْ معناه جاءت وأَقْبلَت من قولك نصَلَ علينا فُلانٌ إذَا خَرَج عليك من طريقٍ أو ظَهرٍ من وراء حِجابٍ ونحو ذَلِكَ. وأما تنصلت.
__________
1 ذكره ابن الأثير في أسد الغابة 5/420 بلفظ: نشأت سحابة فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "رعدت هذه بنصر بني كعب".

(1/629)


فمعناهُ تنحُو1 وتَقْصِدُ يُقالُ للرَّجُل إذَا تَشَمَّر للأمْر وتَجرَّدَ لَهُ قد انْصَلتَ لَهُ. ومنه قولهم سَيْفٌ صَلْتٌ وقد أَصْلَته صاحبُه. وقال ذُو الرُّمّة يصف عَيْرًا وأتنا:
فراح منصلتا يحدو حلائلَه ... أَدْنَى تقَاذُفه التَّقْريبُ والخَببُ2
وقوله: تَنْصرُ بَني كعْب معناهُ تَجودُهم وتَمْطرُهم. قَالَ أبو عبيدة: يُقال نصَرَ المطَرُ أرْضَ فُلانٍ3 إذَا جَادَها وعَمَّها واحْتَجَّ بقوْلِ الشّاعر:
إذَا انْسلخ الشَّهْرُ الحَرامُ فودِّعي ... بِلاد تميمٍ وانْصُري أرْضَ عَامر4
وقال في قوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 5 أي لن يَصْنَعَ6 اللهُ لَهُ ولن يرزُقَه
قَالَ ووقف أعرابي يسْأَلُ النَّاسَ في المسجد فَقَالَ من نصرني نصره الله.
__________
1 ت: "تتجرد" والمثبت من س, ط, م.
2 الديوان /12.
3 ت, م: "أرض بني فلان".
4 في الجمهرة لابن دريد 3/359 برواية: إذا أدبر الشهر الحرام فودعي.
5 سورة الحج: 15.
6 ح: "لن يضيع الله له".

(1/630)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُنْفَخَ فِي الإناء أو يتنفس فِيهِ1.
حَدَّثَنَاهُ ابْنُ مَالِكٍ نا بِشْرٌ نا الْحُمَيْدِيُّ نا سُفْيَانُ سَمِعْتُ عَبْدَ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيَّ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ سَمِعتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم.
__________
1 أخرجه أبو ادود في الأشربة 3/338 وابن ماجه في الأطعمة 2/1094 وأحمد في مسنده 1/220.

(1/630)


نَهْيُه عَنِ النَّفْخ في الإناء لِمعْنَييْن أحَدهُما أنَّه إنّما يَنفُخُ فيه لشِدَّة حرارته والطَّعامُ الحارُّ الشَّديدُ الحرارة ضَارٌّ ثُمَّ إنّه بَعْدُ من أمَاراتِ الجشَع وَقِلّة مَلَكَةٍ النفس.
والآخرُ من أجْل أَنَّهُ لا يُؤمَنُ أن يَقَع فيه شيء من رِيقِه فيَعافَه الطّاعِمُ لَهُ ويَسْتَقذره مؤاكِلُه1 إِذْ كَانَ التقَزُّزُ في بَابُ الطعام والتنظُّفُ فيه من الغالب عَلَى طباع أكثر الناس نَهاه عَنْ ذَلِكَ لئلّا يُفْسِدَ الطعَّامَ عَلَى من يريد أن يتناوَلَه ولهذا المعنى كَرِه تَنفُّسَه في الإناءِ والله أعلم.
__________
1 س, م, ح: "آكله" والمثبت من هامش م.

(1/631)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يختم في القيامة 1 على الْعَبْدِ وَيُنْطِقُ يَدَيْهِ وَجِلْدَهُ بِعَمَلِهِ فيقول إني وعزتك لقد عَمِلْتُهَا وَإِنِّ عِنْدِي الْعَظَائِمَ الْمُطَمَّرَاتِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا أَعْلَمُ بِهِا مِنْكَ اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ" 2.
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي النَّضْرِ نا أَبُو النَّضْرِ نا أَبُو عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَقِيلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرُّهاوِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى الْكَلاعِيُّ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَذْكُرُهُ.
قولهُ: المُطَمَّرات يُريدُ المُخبَّآت. يُقالُ طمَّرْتُ الشَيءَ إذا خبأته حيث لا يُدْرَى. ومنه قِيلَ للحفائر تحْتَ الأَرضِ المَطَامِير واحدَتُها مَطْمُورَةٌ.
__________
1 م: "يختم يوم القيامة" والمثبت من هامشه وبقية النسخ.
2 الفائق "طمر" 2/368 والنهاية "طمر" 3/133 وذكره الهيثمي في مجمعه 10/402 بنحوه بلفظ: "المضمرات" بدل "العظائم المطمرات".

(1/631)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُ" 1.
حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ نا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ نا هَمَّامٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قَالَ أبو سُليمان وَجْهَهُ واللهُ أعلم أن يَكونَ إنّما كَرِه أن يُكتَب شيء مَعَ القرآن في صحيفةٍ واحدةٍ أو يُجْمعَ بينهما في موضع واحد تَعْظيمًا للقرآن وتَنْزِيهًا لَهُ أن يُسَوَّى بينه وبَيْن كلام غَيْره. وهذا كنَهْيِهِ عَنِ القِراءة في الرّكُوع.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ2 الزَّعْفَرَانِيُّ نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ أَنْ أَقْرَأَ وَأَنَا راكع3.
كره أن يُجْمَع بين كَلامِ الله وكَلامِ الآدَميّ في موطن واحدٍ فيكُونا عَلَى السّواء في المَحَلّ والمَوْقِع لا أعرِفُ للحديث وجْهًا غيره فقد ثبت عنه أنّه أذِن لعبد الله بْن عَمْرو بْن العاص في الكتاب عَنْهُ وكان عند عَبْد الله بْن عَمْرو صحيفةٌ يُسمّيها الصادقةَ وخطب عليه
__________
1 أخرجه مسلم في الزهد 4/2298 والدارمي في المقدمة 1/119 وأحمد في مسنده 3/12, 21, 39.
2 م: "الحسن بن محمد الصباغ" وفي التقريب 1/170: الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ أبو علي البغدادي صاحب الشافعي.
3 أخرجه مسلم في الصلاة 1/349 وفي اللباس 3/1648 والترمذي في اللباس أيضا 4/226 وأبو داود في 4/47 وأحمد في مسنده 1/92.

(1/632)


السلام خُطْبةً بِمنًى فقام أبُو شَاةٍ الكَلْبيُّ فاسْتَكْتبَها فَقَالَ: "اكْتبُوها لأَبي شاةٍ" 1.
وشكا إِلَيْهِ رجُلٌ سُوءَ الحِفْظ فَقَالَ: "استَعِنْ بِيَمِينِك" 2. أي اكتُب وأثبِت عني لا تَنْساه3.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ السَّمَّاكِ نا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ أنا عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ عَطَاءٍ أنا سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ أَنَّهُ انْطَلَقَ إِلَى عَلِيٍّ هَوُ وَرَجُلٌ آخَرُ4 يُقَالُ لَهُ الأَشْتَرُ فَقَالا هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ عَهْدًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً فَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَقَالَ لا إِلا هَذَا فَإِذَا فِيهِ: "الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وهم يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهم يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلا وَلا يُقْتَلُ مُؤمِنٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَى نَفْسِهِ أَلا وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَليْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عدل" 5.
__________
1 أخرجه البخاري في الديات 9/706 والترمذي في العلم 5/39 وأبو داود في الديات أيضا 4/172 وأحمد في مسنده 2/238.
2 أخرجه الترمذي في العلم 5/39.
3 من ت وهامش م.
4 من س, م.
5 أخرجه أبو داود في الديات 4/180 وأحمد في مسنده 1/119, 122 ومسلم في العتق 2/1147 بألفاظ متقاربة.

(1/633)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِبلَ ابْنُ صَيَّادٍ فَوَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي1 مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ يَوْمَئِذٍ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ظَهْرَهُ
__________
1 س: "ابن مغالة".

(1/633)


بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ" فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لَهُ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: "آمَنْتُ بالله ورسله" 1.
حَدَّثَنِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا نا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ نا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ نا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ.
قوله: رَصَّه أي ضَغَطه وضمّ بَعْضَه إلى بَعْض ومنه رَصُّ البناء وهو إِلْصَاقُ بَعْضِه ببَعْضٍ2. قَالَ الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 3 ومنه التَّراصُّ في الصُّفُوف وهو التقارب والتداني وأنشدني أبو عُمَر أنشدنا أبو العباس ثَعْلب عن ابن الأعرابي أنشدنا أبو المْكارِم:
ما لَقِي البِيضُ من الحُرْقُوصِ ... مِن مارِدٍ لِصٍّ من اللُّصُوصِ
يَدْخُلُ بيْنَ الغَلَقِ المرصُوصُ ... بمهرِ لا غالٍ ولا رَخِيص4
قَالَ أبو المْكارِم: الحُرْقُوصُ دُوَيْبَة يُقال لها عاشِق الأبكار لأنها تَلْزَمُ فرُوجَ الأَبْكار.
وفي رواية أخرى أنَّه قَالَ لابن صيَّادٍ: "أنّي خَبَأْتُ لك خَبِيئًا" فَما هُوَ فَقَالَ الدُّخُّ فَقَالَ: "اخْسَ فلن تَعْدُوَ قدرَك" 5.
__________
1 أخرجه البخاري في الجنائز 2/117 بلفظ: "فرضه" بدل "فرص" وكذلك في الجهاد 4/86 ومسم في الفتن 4/2244 بلفظ: البخاري وأبو داود في الملاحم 4/120 وأحمد في 2/148
2 ت: "وهو إلصاق بعضه إلى بعض".
3 سورة الصف: 4.
4 اللسان والتاج "حرقص" وقالت الرجز أعرابية.
5 هذه الرواية متداخلة في الرواية الأولى عند البخاري 2/117 وأخرجه مسلم في الفتن 4/2240, 2244.

(1/634)


والدُّخُّ الدُّخانُ. قَالَ الشاعرُ:
وسالَ غَرْبُ عَيْنِه فَلخَّا ... تَحْت رِواقِ البيت يغْشَى الدُّخَّا1
وفيه لُغَةٌ أخرى وهو الدَّخُّ.
وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ نا عَفَّانُ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنّ رسول الله سَأَلَ ابْنَ صَيَّادٍ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ فَقَالَ دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ خالص فقال: "صدق" 2.
__________
1 هامش م: فلخ: أي لصق. والبيتان في اللسان والتاج "دخخ" ولم يعزوا.
2 أخرجه مسلم في الفتن 4/2243 وأحمد في مسنده 3/4, 25, 43 وفي النهاية "درمك" 2/115: الدرمكة: واحدة الدرمك وهو الدقيق الحواري وكذلك في الفائق "درمك" 1/422.

(1/635)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ عَلَى قَبْرِهِ النَّقْلُ 1.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ الْبَجَلِيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنِ الإِصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ.
النَّقَلُ الحِجارةُ قَالَ الأصمَعي: النَّقَلُ الحجارةُ كالأثافي. وقال أبو زَيْدٍ النَّقَلُ والغَدرُ والجَرَل كلّ هذا الحِجَارة مَعَ الشَّجَر. وقال غيره النَّقَلُ الحِجارَةُ الصِّغارُ ومنه سُمِّيت المُنَقِّلةُ في الجِراح وذلك أَنَّهُ يَخْرُجُ منها عِظامٌ صِغارٌ كالنْقَل.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدُوسِ بْنِ يَزِيدَ نا الْمَكِّيُّ بن عبد الله نا.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/574 وابن سعد في طبقاته 2/307 بنحوه.

(1/635)


يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّتَاهُ اكْشِفِي لِي عَنِ الْقُبُورِ قَالَ: فَكَشَفَتْ لِي فَإِذَا ثَلاثَةُ أَقْبُرٍ لا مُرْتَفِعَةٌ وَلا لاطِئَةٌ مَسْطُوحَةٌ عَلَيْهَا حَصْبَاءُ من حصباء العرصة1.
__________
1 أبو داود في الجنائز 3/215 بلفظ: "مبطوحة ببطحاء العرضة الحمراء" والحاكم في المستدرك 1/369.

(1/636)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ" 1.
حَدَّثَنَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ الْبُنَانِيُّ نا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى نا هُشَيْمٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
مَعنى الضَّمان في كَلام العَرَب الرِّعايةُ للشيء والمُحافَظةُ عَلَيْهِ ومنه قولهم في الدُّعاء للمُسافر في حِفْظِ الله وضَمانِه. قَالَ الشاعر:
رعَاكِ ضَمانُ الله يا أُمَّ مالكٍ ... ولله أن يشقيك أغنى وأوسع2
وقال الفرزدق:
أنا الضمامن الرَّاعي عليهم وإنّما ... يُدَافعُ عَنْ أحْسَابهم أنا أَوْ مثلي3
فقوله: الإِمامُ ضامِنٌ تأْويله أنّه يحفَظُ عَلَى القَوْم صلاتَهم وَيَرْعاها لهم وليس من ضَمان الغَرامَة في شَيْء ويُقالُ إنّه قد ضَمِن الدُعَاء لهم.
أَخْبَرَنَا النَّجَّادُ نا هِلالُ بْنُ الْعَلاءِ نا النُّفَيْلِيُّ نا بَقِيَّة بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ
__________
1 أخرجه الترمذي في الصلاة 1/402 وأبو داود في 1/143 وأحمد في سمنده 2/232, 382, 419, 461.
2 س: "عن يشقيك" والمثبت من ط, م.
3 الديوان 2/712.

(1/636)


حَبِيبِ بْنِ أَبِي مُوسَى نا يَزِيدُ بْنُ شُرَيْحٍ الْحَضْرَمِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو حَيِّ الْمُؤَذِّنُ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَؤُمُّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَ" 1.
__________
1 أخرجه الترمذي في الصلاة 2/189 وأبو داود في الطهارة 1/23 وابن ماجه في 289 وأحمد في مسنده 5/280.

(1/637)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لا يَضُرُّ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ وَالْجُنُبَ أَنْ لا تَنْقُضَ شَعْرَهَا إِذَا أَصَابَ الْمَاءُ سُورَ الرَّأْسِ" أَوْ قَالَ: "شُورَ الرَّأْسِ" 1.
هَكَذَا حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ نا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ نا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ.
قوله: سُور الرَّأس يريد أَعلى الرأْس. وكلّ مرتفع سُور ومن هذا سُورُ البِناء. ولفُلانٍ سُورةٌ في المَجْدِ والكرم أي رفعة وعلاء. قال النابغة:
ألَمْ تَر أَنَّ الله أعْطَاك سُورةً ... يُرَى كلُّ مَلْكٍ دُونَها يتَذبْذَبُ2
ومنه قِيلَ رجلٌ سَوَّارٌ وهو الَّذِي يُسْرعُ فيه الشَّرابُ فترتفع سَوْرَتُه إلى رأسِه. قَالَ الشاعرُ:
وَشَارِبٍ مُربحٍ بالكَأْسِ نادَمَني ... لا بالحَصُورِ ولا فيها بسَوَّارِ3
ويُرْوَى بسَأآر وهُوَ الَّذِي يُسْئِرُ في الكأس سُؤْرًا أي يبقي فيها بقية
__________
1 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 1/74 عن جابر بلفظ: "الحائض والجنب يصبان الماء على رؤوسهما ولا ينقضان".
2 الديوان /56.
3 اللسان والتاج "حصر" وعزي للأخطل وهو في شعره 1/168.

(1/637)


وكَانَ القِياسُ أن يَقُول1: مُسْئِرًا من أَسْأَرْتُ ولكنهم ربَّما خرجوا من بِناء الرُّبَاعي إلى الثُّلاثي كقولهم جبَّار من أجْبَرْتُ ودَرَّاكُ من أدركْتُ.
وأمّا شَوْرُ الرأس فلا أعرفه وأُراه شوى الرأس جَمْعُ شواةٍ وهي جِلْدة الرأس2 قال الشاعر:
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبا شواته3
__________
1 م, ح: "أن يكون".
2 في النهاية "سور": قال بعض المتأخرين: الروايتان غير معروفتين والمعروف شئون الرأس وهي أصول الشعر وطرائق الرأس.
3 اللسان والتاج "شوا" وجاء فيهما: قال أبو عبيد أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له: إنما هو سراته أي نواحيه فسكت أبو الخطاب الأخفش ثم قال لنا: بل هو صحف إنما هي شواته.

(1/638)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَنَتَ صَبِيحَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ والمستضعفين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" فَدَعَا لَهُمْ كَذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَ1 صَبِيحَةُ الْفِطْرِ تَرَكَ الدُّعَاءَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطاب يا رسول2 الله ما لك لم تدع للنفر فقال: "أوما عَلِمْتَ بِأَنَّهُمْ قَدِمُوا" قَالَ فَبَيْنَا هُوَ يَذْكُرُهُمْ نَفَجَتْ بِهِمُ الطَّرِيقُ يَسُوقُ بِهِمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَسَارَ ثَلاثًا عَلَى قَدَمَيْهِ وَقَدْ نُكِبَ بِالْحَرَّةِ قَالَ فَنَهِجَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى قَضَى الدنيا فقال رسول الله: "هَذَا الشَّهِيدُ وَأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ" 3.
يَرْوِيهِ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى نا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ عَنْ جابر بن عبد الله.
__________
1 ح: "صار صبيحة الفطر"
1 ح: يانبي الله.
3 أخرجه الحافظ بن حجر في فوائد الزيادات عن جابر كما ذكر ذلك في الفتح 8/226 في شرح حديث أبي هريرة.

(1/638)


قوله: نَفَجتْ بهم الطَّريقُ أي رمَتُ بهم الطَّريقُ فُجاءَةً. يُقال نَفَجت الرِيحُ إذَا جاءَتْ بَغْتَةً. ورياحٌ نوَافجُ ومنه انتفاجهُ الأَرْنب. وقوله: فَنَهجَ يريد بِهِ نَزْعَ الْمَوت يقال نَهِجَ الرّجلُ يَنْهَجُ إذَا علاه الرَّبْوُ وأُنْهِجَ إِنْهاجًا مِثْلُه.

(1/639)


وَقَال أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أن جهيس بْنَ أَوْسٍ النَّخَعِيَّ قَدِمَ عَلَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا حَيٌّ مِنْ مَذْحِجٍ عُبَابُ سَالِفِهَا وَلُبَابُ شَرَفِهَا كِرَامٌ غَيْرُ أَبْرَامٍ نُجَبَاءُ غير دحض الأقدام وكائن قَطَعْنَا إِلَيْكَ مِنْ دَوِّيَّةٍ سَرْبَخٍ وَدَيْمُومَةٍ سَرْدَحٍ وَتَنُوفَةٍ صَحْصَحٍ يُضْحِي أَعْلامُهَا قَامِسًا وَيُمْسِي سَرَابُهَا طَامِسًا عَلَى حَرَاجِيجَ كَأَنَّهَا أَخَاشِبُ بِالْحَوْمَانَةِ مَائِلَةُ الأَرْجُلِ وَقَدْ أَسْلَمْنَا عَلَى أَنَّ لَنَا مِنْ أَرْضِنَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَهُدَّابَهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ على مَذْحِجٍ وَعَلَى أَرْضِ مَذْحِجٍ حَيٌّ حُشَّدٌ رُفَّدٌ زُهْرٌ" 1. وَكَتَبَ لَهُمُ رسول الله كِتَابًا عَلَى شَهَادَةِ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ لِوَقْتِهَا وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بِحَقِّهَا وَصَوْمِ رَمَضَانَ فَمَنْ أَدْرَكَهُ الإسْلامُ وَفِي يَدِهِ أَرْضٌ2 بَيْضَاءُ قَدْ سَقَتْهَا الأَنْوَاءُ فَنِصْفُ الْعُشْرِ وَمَا كَانَتْ مِنْ أَرْضٍ ظَاهِرَةِ الْمَاءِ فَالْعُشْرُ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ الله بن أنيس الجهني3.
__________
1 كذا في س, ت, م. وفي اللسان "زهر" والزهر جمع الأزهر وهو الرجل الأبض العتيق البياض النير الحسن وهو أحسن البياض كأن له بريقا ونورا يزهر كما يزهر النجم. وفي الفائق "عبب" 2/385: "زهر".
2 ساقطة من ت.
3 أشار ابن الأثير في أسد الغابة 1/369 والحافظ بن حجر في الإصابة 1/255 إلى هذا الحديث وعزاه إلى ابن مندة وعزاه ابن الأثير إلى نعيم أيضا إلا أنهما قالا جهيش بن روس. قال ابن حجر: وذكره الخطابي في "غريب الحديث" بطوله وفسر مافيه.

(1/639)


يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنِ الأوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ حُدِّثْتُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عن الأوزاعي رواه عنه عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّار الْمَرْوَزِيِّ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ اخْتِلافٌ1.
قوله: عُبَابُ سالِفِها العُبابُ أوّل الماء ومُعْظَمُه يريد أنّهم أهلُ سابقَةٍ وشرف والأَبرامُ اللِّئامُ وَاحِدُهُم بَرَمٌ. يُقالُ رجلٌ بَرمٌ وهو الَّذِي لا يُخرِجُ مَعَ أصحابه في المَيْسر شيئًا. ودُحَّضُ الأقدَامِ جَمْعُ داحِضٍ وهُم الذين لا ثباتَ لهم ولا عزيمةَ في الأُمور. ويُقالُ ذَلِكَ أيضًا للسَّاقِطِ المَرْتَبةٍ. من قولك دَحَض الرّجُلُ دَحْضًا إذَا زَلَّتْ قَدَمُه ودَحَضَتْ حُجّتُه إذَا بَطَلتْ. والدَّوِّيَّةُ الأَرْضُ المَلْساءُ التّي لا نَباتَ بها. والسَّرْبَخُ الأرض الواسعة. وأنشدني الحسن بنُ خلاد قَالَ أنشدنا ابنُ دُرَيْدٍ أنشدَنا أبو حاتم أنشدنا الأصمَعيُّ لشاعرٍ يَصفُ القَطَا:
غدَتْ في رَعِيلٍ ذي أدَاوَى مَنُوطَةٍ ... بلَبَّاتِها مَدْبُوغَةٍ لم تُمرَّخِ
إذَا سَرْبَخٌ غطَّتْ مَجالَ سَرابِه ... تَمطَّتْ فَحَطَّت بين أرجاءِ سَرْبَخ2
وقوله: ودَيمُومَة سَردَح فإنَّ الدَيْمُومَة المفَازَةُ المُتقاذِفةُ الأَرْجاء التّي يَدُومُ فيها السير فلا يكاد ينقطع. والصردح بالصَّاد المكانُ المُسْتَوي. فأمّا بالسِين فهو السرداح. قَالَ الأصمعي: وهي الأرض اللينة التي تنبت النصي وتجمع على السرادح. والصحصح المكان المستوي الواسع وهو الصحصحان أيضا.
__________
1 من م, ت.
2 في الجمهرة 3/302: السربخ الفضاء القفر من الأرض. قال عبيد بن الأبرص الأسدي:
فأبصرت ثعلبا بعيدا ... ودونه سربح جديب

(1/640)


وأخبرني أحمد بن أبي ذر أَنا ابن دريد أنا أبو حاتم عَنِ الأصمعيّ: قَالَ: لقِيتُ أعرابيا فقلت ممَّن أَنْتَ قَالَ: أَسَديٌّ قلت من أيّ البلاد قَالَ من أهل عُمَان. قلت فأنَّي لك هذه الفصاحة قَالَ إنّا سكنّا بأرضٍ لا نَسْمَعُ بها باخجةَ التَّيّار قلت فَصِفْ لي أرضك. قَالَ سِيفٌ أَفْيَحُ1 وفضاء صَحْصَح وجَبَلٌ صَلْدحٌ ورَمْلٌ أَصْبَحُ. قلتُ فَما مالُكَ قَالَ النّخْلُ. قُلتُ فأيْنَ أنْت عَنِ الإبل. قَالَ إنّ النَّخْلَ حملُها غِذاءٌ وسَعَفُها ضِيَاء وَجِذْعُها بناء وكَرَبُها صِلاء ولِيفُهَا رِشاء وخُوصُها وِعاء وقَرْوُها إناء.
قَالَ الباخِجَةُ: الصَوْت. والصَلْدَحُ الشديد الصّلب وهو الصّردح أيضا2 والأصبَحُ لونٌ إلى الحُمْرَة وَقْروُ النَخْلَة أصلُها يُنقَر فيُجْعَلُ كالجفْنَةِ.
وقولهُ: يُضْحِي أعلامُها قَامِسًا يريد بالأعْلام الجِبالَ الطِّوالَ واحدُها عَلَمٌ يريد أن جبَالها تبدو أو ترتَفِع للنّاظر مَرَّة وتَغِيب أخرى وذلك أن لمعان الآل يطفو بالأَشخاص في رأي العَيْن ويَرسُبُ بها. والقُمُوسُ أن يَغِيبَ الشيءُ في الماء. وطُمُوسُ السَّراب درُوسُه يريد أنّه يذهَب مرّةً ويَعُودُ أخرى كقول الشّاعر:
بِيدٌ تَرى قِيزانَهُنَّ طُمَّسَا ... بَوادِيًا مَرًّا وَمرًّا قُمَّسَا
وكان الأشبه أن يكون وسَرابُها طامِيًا وكيْف يَقْمُسُ الجَبلُ ويَغِيبُ في سَراب طامِس. وأُرَاه إنّما قَالَ: قامِسًا بلفظ الواحِد لأنّه ردَّه إلى كل عَلَم من
__________
1 القاموس "سيف": السيف بالكسر: ساحل البحر وساحل الوادي أو لكل ساحل سيف. وفي مادة "فاح" وبحر أفيح: زاسع.
2 من م.

(1/641)


أعلامها. قَالَ الكسائي: العَرَبُ تأتي بلَفْظ الجماعة والمعنى واحِد وأنشد:
وطابَ ألبَانُ اللِّقاح وبَرَد
أراد بالألبان اللبن ولذلك قَالَ: وبَرَد. قَالَ أبُو العَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وقد تأتي العَربُ بلفْظ الواحِد تُرِيدُ بِهِ الاثْنَين كقوله:
إِذَا رأيْتَ أنجُمًا منَ الأسَدْ ... جَبْهتَهُ أو الخراةَ والكَتَدْ1
قَالَ: أراد الخَراتَين. قَالَ: أخبرني أبو نصْر عَنِ الأَصمَعيّ وابن الأعرابي عَنِ المُفضَّل قَالَ الخَراتان من الأسَد كتِفاه قَالَ وتأتي بالواحد في معنى الجميع كقوله تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 2. فالإنسانُ هاهُنَا في معنى الجَمِيع لأنّه قد استَثْنى منه جَماعةً بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 3. فمُحَال أن يَسْتَثني جماعةً من واحد. والحراجيِجُ واحدتُها حُرْجُوج. قَالَ الأصمعيّ: هي الطويلة. وقال أبو عَمْرو هي النّاقةُ الضامرةُ
والأَخاشِبُ جَمْعُ الأخْشَب وهو كلّ جبَلٍ خشن4 غليظ الحجارة. والحوْمانَة وَاحدَة الحوَامين. قَالَ الأصمعيّ هي أماكِنُ غِلاظٌ مُنْقادَةٌ. والهُدَّابُ ورق الأَرطَى والواحدة هُدَّابَةٌ. وكلُّ ما لم ينبَسط وَرَقُه كالطّرفاءِ ونحْوه فَورَقُه هَدَبٌ وهُدَّابٌ ومنه هُدْبُ الثّوْبِ.
وقوله: حُشَّدٌ معناه أنّهم أهْلُ احتِشاد ومَعُونَة. والرُفَّدُ جمعُ رَافِدٍ وهو المُعِين والرِّفْدُ المَعُونة.
وقوله: سقَتْها الأَنواءُ أي سَقَتْها السّماء. والأَنواءُ النجومُ واحدُها نَوْءٌ. وكان من مذهب العرب أن يُضِيفوا وُقُوعَ المطر إلى الأَنْواء فخرج هذا على عادة كلامهم.
__________
1 اللسان والتاج "كتد".
2 سورة العصر: 1, 2.
3 سورة العصر: 3.
4 من ط, ح.

(1/642)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ السَّوْمِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ1.
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بن إبراهيم بن جناح ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا رَجَاءُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّقَطِيُّ نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى نا الرَّبِيعُ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
السَّومُ الرَّعي يقالُ سامَت الماشيةُ إذَا رَعَتْ فهي سائمة وأَسامَها صاحبُها. قَالَ الله تَعَالَى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} 2 قَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: قَالَ الْمُفَضَّلُ أصْلُ هذا أَنَّ داءً يقعُ عَلَى النَّباتِ فلا ينْحلُّ حتى تَطْلُعَ الشَّمسُ فَيذُوب فإن أكل منه المَالُ قبْل ذَلِكَ هلك قَالَ فرُبّما ندَّ البعيرُ فأكل منه قبل طلُوع الشَمْس فَماتَ فأي كَلْبٍ أكل مِنْ لحمه كلب.
__________
1 أخرجه ابن ماجه في التجارات 2/744.
2 سورة النحل: 10.

(1/643)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا حُبْلَى فَضَرَبَتْهَا ضَرَّتُهَا بِمِخْبَطٍ فَأُسْقِطَتْ فَحَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهِ بِغُرَّةٍ1.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.
المِخْبَطُ عَصًا يُخْبَطُ بها وَرَقُ العِضاه وهو أن يَضْرِبَ أغصانَ الشَّجرِ فيتَحاتَّ الوَرقُ فيُعْلَفَ الماشية. يُقالُ: خبَطْتُ الورق خبطا فالخبط.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: 10/59.

(1/643)


الفِعْل1 والخَبَطُ مفتُوحَ الباء الاسْمُ والهَشُّ نَحْوٌ من ذَلِكَ. ومنه قوله تَعَالَى: حكاية عَنْ موسَى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} 2.
__________
1 ت: "فاستخبط الفعل".
2 سورة ط: 18.

(1/644)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ نَضْلَةَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ لَقِيَهُ بِمَرِيَّيْنَ وَهَجَمَ عَلَيْهِ شَوَائِلُ لَهُ فَسَقَاهُ مِنْ أَلْبَانِهَا1.
يَرْوِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنِ بْنِ نَضْلَةَ2 أَخْبَرَنِي جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ عَنْ أَبِيهِ مَعْنٍ عَنْ نَضْلَةَ بْنِ عمرو.
المري الناقة الغزيزة وسُمِيّت مَرِيًّا لأَنَّها تُمْرَى أي تُحلَب3. قَالَ الكسائِيُّ المَرِيُّ الغَزِيرَةُ وهي الصَّفيُّ والخُنْجُور والرُّهْشُوش والمُجَالح.
وَأَخْبَرَنَا أبو رجاء الغَنَويّ نا أَبِي عَنْ محمد بْن أنس الأسدي قال قيل الأعرابي مَا أعدَدْتَ للشِّتاء قَالَ جُلّةً رَبُوضًا وصِئْصِئةً سَلُوكًا ونَاقةً مجَالحًا وشَمْلةً مُكَوِّذةً وقُرْمُوصًا دَفِيئا ثُمَّ لا إِلا ولا ذِمّة4 قَالَ: يُريدُ جُلة تَمْرٍ مَلْءَ وقَرْنًا يُقْلَعُ بِهِ التّمر وَشَمْلةً تبْلغُ الكاذة وهي أصل
__________
1 أخرجه أحمد في 4/336 بلفظ: "فمم" بدل "هجم" والبخاري في التاريخ الكبير 4/2/118 مختصرا وذكره السيوطي في الجامع الكبير 2/613 وعزاه إلى تاريخ البخاري وأبي يعلى والبغوي.
2 كذا في ت, ط, م. وفي س: "مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنِ بْنِ نَضْلَةَ" وفي التقريب 2/209: "محمد بن معن الغفاري" مات سنة 290.
3 من ت, م.
4 من م.

(1/644)


الفَخِذ: والقُرمُوصُ سَرَبٌ في الأرض. قَالَ الشاعر:
جاء الشتاءُ ولمّا أَتَّخِذْ رَبَضًا ... يا وَيْحَ كَفِّيَ من حَفْر القَراميْصِ1
وقال رُؤبة في كلام لَهُ: ما افْتَحصَ طائر أُفْحُوصَه ولا تَقرْمصَ سَبُعٌ قَرْمُوصَه إلا بقَضاءٍ من الله وقَدَرٍ. والشَّوائلُ: جَمعُ شَائِلةٍ وهي التي شَالَ لبَنُها أي ارتفَع وخَفَّ2 وهيَ الشَّولُ أيضًا. قَالَ الحارِثُ بْن حِلّزة:
لا تكْسَع الشَّوْلَ بأَغْبارها ... إنّك لا تَدْري من النَاتج3
ويقال: إنّما سميت شَوْلا لأنه لم يبقَ في ضروعها إلا شَوْل من اللبن أي بقيّة منه فقيل لها شَوْل لأنها ذات شول يقال لبقية اللبن في الضّرع ولبقية الماء في المزادة شَوْلٌ4
قَالَ الأصمعيُّ: إذَا أتى عَلَى النّاقة من يَوْم حملها سَبْعَةُ أَشْهُرٍ خَفَّ لَبَنُها5 فهْيَ يومَئذٍ شائِلةً وجَمْعُها شَوْلٌ وإذا شالتْ بذنبها بعْد اللّقاح فهي شَائلٌ وجَمْعُها شُوَّلٌ.
__________
1 اللسان والتاج "ربص, قرمص" ولم يعز.
2 م: "وجف".
3 اللسان والتاج "كسع".
4 من م, ت.
5 في هامش اللسان "شول": عبارة الأزهري: "إذَا أتى عَلَى النّاقة من يَوْم حملها سَبْعَةُ أَشْهُرٍ خَفَّ لبنها وهو غلط والصواب: إذا أتى عليها من يوم نتاجها سبعة أشهر كما ذكرته لا من يوم حملها". وهو في التهذيب "شُوَّلٌ" 11/410.

(1/645)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ يَعْظُمُ1 أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ أَوِ الْكَلامَ بِهِ مَا نُحِبُّ أَنَّ لَنَا يَعْنِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا بِهِ فقال النبي
__________
1 م: "نعظم" من أعظم".

(1/645)


عَلَيْهِ السَّلامُ: "أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوه" قَالُوا نَعَمْ قَالَ: "ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو داود نا أحمد بن يُونُس نا زُهَيْرٌ نا سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قوله: "ذاك صَرِيحُ الإيمان" يريدُ أَنَّ صرِيحَ الإِيمان هُوَ الَّذِي يُعظّم ما تَجِدونَه في صدوركم ويمنعُكم من قبول ما يُلقِيه الشّيْطان في قلوبِكم ولولاه لم تتعاظموا ذَلِكَ ولم تُنْكِرُوهُ ولم يُرِد أن الوَسْوَسَةَ نَفسَها صريحُ الإيْمان وكيف تكون إيمانًا وهي فِعْل الشّيْطان وكَيْده ألا تراهُ عَلَيْهِ السلام يَقُولُ وسُئِلَ عَنْ هذا أو نحوه فَقَالَ: "الحمدُ لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" 2.
__________
1 أخرجه مسلم في الإيمان 1/119 وأبو داود في الأدب 4/329 وأحمد في مسنده 2/441.
2 أخرجه أبو داود في الأدب 4/330 وأحمد في مسنده 1/235.

(1/646)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لا تَشَاءُ لا يَكُونُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ" 1.
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ نا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ أنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ2 عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 5/191 في حديث طويل.
2 م: "عن أبي بكر بن مريم الغساني". وفي وتقريب التهذيب 2/398: أبو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي مريم الغساني الشامي مات سنة 156هـ.

(1/646)


قوله: "فَمشِيئتُكَ بيْنَ يدي ذَلِكَ كُلّه" مَعْنَاهُ تقديم شَرْطِ الاسْتِثناء في إيمانه ونُذُوره ومَواعِيده وتَعْلِيقه إيّاها بما سبَقَ من مشيئة الله فيها وفي هذا ما دلّ عَلَى جواز تَقْديم الاستِثْناء أمام اليَمِين وفيه حُجَّة لمَنْ أَعملَ الاستثناءَ من غير اتِّصالٍ بالكلام المُسْتَثْنى منه وهو مذهبُ ابن عبّاسٍ.
وقوله: "اللهُمّ ما صَلَّيْتُ مِنْ صَلاةٍ فَعَلَى مَنْ صلّيْتَ وما لعَنْتُ من لَعْنٍ فعلى من لعنت". الوجه في إعرابه أن يُرْفَع الأَوَّل وينصبَ الثاني وهو عَلَى مذهب الدُعَاء والمسأَلَةِ دُون الحِكَايَة والإِخْبار كأنّه يَقُولُ اللهمَّ اجعَل صلاتي وثنائي عَلَى مَنْ أكرَمْتَه بصَلاتِكَ وأهَّلْتَه لثنائك واصْرفْ لَعْنِي وسَبِّي إلى من اسْتَوْجَب لعْنَك واستَحقَّ عُقُوبتَك.
وَهَذَا كَحَدِيثِهِ الآخَرِ الَّذِي يَرْوِيهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. حدثنا ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ نا مُحَمَّدُ بن إسماعيل الصائغ نا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأعْوَرُ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنِّي شَرَطْتُ عَلَى رَبِّي أَيُّ عَبْدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَنْ يَكُونَ ذلك عليه صلاة ورحمة" 1.
__________
1 أخرجه أحمد في 3/333 والدارمي في 2/315 بلفظ: "زكاة ورحمة" ومسلم في 4/2007 بنحوه.

(1/647)


ققال أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ صَادَفَ مِثْلَ خَطِّهِ" 1.
ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ2 فَقَالَ: الخَطَّاطُ هُوَ الَّذِي يَخُطُّ بإصْبَعه في الرَّمْلِ ويَزْجُر. قَالَ وأخبرني أبو حاتمٍ عَنْ أَبِي زيد أنه قال: يقال
__________
1 أخرجه مسلم في السلام 4/1749 وأبو داود في الطب 4/16 والنسائي في السهو 3/16 والإمام أحمد 5/447.
2 2/403.

(1/647)


لِلخَطَّيْن اللَّذيْن يَخُطّهُما الخطّاطُ في الأَرْض ثُمَّ يَزْجُرُ ابنَا عِيَان فإذا زَجَرهما قَالَ ابْنَيْ عِيان أسْرِعَا البَيَان هذا جُمْلَةُ قوله: في تَفْسِير الخطّ.
قَالَ أبو سليمان: وليس في هذا مَقْنَع لمَنْ أحَبَّ أن يقفَ عَلَى صورَة الخطِّ وحقيقتِه وقد ذكره ابن الأعرابي فأوْضَحه قَالَ يأتي صاحِبُ الحاجة إلى الحازِي فيُعْطيه حُلْوانًا وهو جُعْلُه. فيقول: لَهُ اقْعُدْ حتى أخُطَّ لك قَالَ: وبين يَدي الحازِي1 غُلامٌ معه مِيل ثُمَّ يأتي إلى أرْضٍ رِخْوةٍ فيَخطّ خُطُوطًا كثيرةً بالعَجَلة لئلًا يلْحقَها العَدُّ قَالَ ثُمَّ يرجع فيمحو عَلَى مَهلٍ خَطَّيْن خَطَّيْن فإن بَقي منها خطّان فهُما عَلامةُ النّجاح فكانت العربُ تُسمِّي ذينْك الخَطَّين ابْنَي عِيانٍ فيقول الحازي ابنَي عِيَان أَسْرِعَا البَيَان وإن بَقِي خَطٌّ واحدٌ فهو عَلامة الخيْبة. وقال الشاعر:
جَرَى ابنَا عِيان بالشِّوَاء المُضهَّب
ذكرهُ لنا أبو عُمَر2 عن أبي العباس ثعلب عن ابن الأعرابي قَالَ وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْخَطُّ الَّذِي يَخُطُّهُ الْحَازِي عِلْمٌ قَدِيمٌ تَرَكَهُ النَّاسُ.
وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ فِرَاسٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الدُّولابِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: جل وعز: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} 3 قال: "الخط" 4.
__________
1 القاموس "حزا": حزا حزوا وتجزي تحزوا: زجر وتكهن.
2 ح: ابن عمر.
3 سورة الأحقاف: 4.
4 أخرجه الطبري في تسفيره 26/2 موقوفا على ابن عباس.

(1/648)


رَفَعَهُ لَنَا ابْنُ فِرَاسٍ وَالأَكْثَرُونَ يَقِفُونَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وأخبرني أَبُو عُمَرَ أنا ثَعْلَبٌ عَنْ ابنِ الأعرابي قَالَ يُقال لِمَا يأخذه الكاهن الحلوان والنشغ والصهميم.

(1/649)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ مَزَابِي الْقُبُورِ1.
هَكَذَا أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الأَسْلَمِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. المَزابِي إن كانت محفوظة فإنّي لا أعْلَمُها إلا من الزُبْيَة.
قَالَ أبو زَيْد الزُّبْيَةُ بئر تُحفَر للأسَدِ في رابية لا يَعلُوها الماء كَره والله أعلم أن يُشقَّ القبرُ ضريحًا كالزُّبْيَة لا يُلحَد وهذا كقوله: اللَّحْدُ لنا والشَّقُّ لغَيْرنا2. وما أُرَى هذا مَحُفُوظًا فَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا بِشْرٌ نا الْحُمَيْدِيُّ نا سُفْيَانُ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهَجَرِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَرَاثِي3. فأُرَى هذا ذاك بعَيْنِه صَحَّفَه بعضُ الرُّواة. والذي ذكرهُ4 من المراثي النِّياحَة وما يدخُلُ في معناها من تأْبين المَيّت عَلَى ما جَرَى عَلَيْهِ مذاهب أهلالجاهلية من قول المراثي ونصب النوائح على قبور مَوْتاهم. فأما المَرَاثي التي فيها ثناء على الميت ودعاء.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/510 بلفظ: "نهى عن المزابي قبورا" والمزابي التي تتخذ للصيد.
2 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/477 وابن ماجه في الجنائز 1/496.
3 أخرجه الحميدي في مسنده 2/313 وعبد الرزاق في مصنفه 3/482 وأحمد في 383 وابن ماجه في الجنائز 1/507 والبيهقي في السنن الكبرى 4/24.
4 م: "والذي كره من المراثي".

(1/649)


لَهُ فغَيْر مَكْرُوهَة وقد رَثى رَسُول الله غَير واحد من الصحَّابة ونَدبتْه فاطمةُ بكلام مذكور عنها ورُثِيَ أَبُو بَكر وعُمَرُ وغَيْرُهما من الصَّحابة بَمراث رَوَاها1 العُلماءُ ولم يكرَهُوا إنشادها وهي أكثر من أن تحصى.
__________
1 م: "ترواها العلماء".

(1/650)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الاسْتِطَابَةِ فَقَالَ: "أَوَلا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاثَةَ أَحْجَارٍ حجرين للصفحتين وحجر لِلْمَسْرُبَةِ" 1.
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أنا ابْنُ صَاعِدٍ نا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمَدَنِيُّ2 نا عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ الزُبَيْرِيُّ نا أُبَيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
الصَّفْحتان ناحِيَتا المَخرَج. وصَفْحَةُ كُلّ شيء جَانِبُه3. والمَسْرُبَةُ مَجْرَى الغَائط وسُمّي مَسْرُبةً لأنّهُ مُمِرُّ الحَدَثِ ومُسِيلُه. يقال: سَرَب الماءُ يَسْرُبُ إذَا سال وجَرَى ووعاء سَرِبٌ إذَا كَانَ لا يَزالُ يَقْطُر ما فيه وفلان سَرِبُ الوِعاء. إذَا كَانَ لا يكتم سِرًّا والسَّرَبُ مفتوحُ الرّاء الماءُ يَخرُج من عيون الخَرْزِ إذا صُبَّ في المَزَادة الجَدِيدة لكي ينتَفِخ مواضِعُ الخَرْز. يُقالُ سَرِّبْ قِربَتك يا هذا. ومنه قَولُ ذِي الرُّمَّة:
كأَنَّه من كُلَى مفرية سرب4
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 1/211 وعزاه للطبراني في الكبير.
2 ت: "المزني" وفي تهذيب التهذيب 1/485: بكر بن عبد الوهاب بن محمد بن الوليد بن نجيح المدني بن أخت الواقدي.. قال أبو حاتم صدوق سمعت أحمد بن صالح أثنى عليه خيرا كان في سنة 200هـ.
3 ح, م: "وصفحتا كل شئ جانباه".
4 الديوان /1. وصدر البيت:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
وهو في اللسان والتاج "سَربُ".

(1/650)


يروى سَرَب بفتح الراء وسرِب بكسرها فمن فتح الراء قَالَ معناه الماء ومن كَسَر قَالَ: معناه السَّائل1 وقال جريرُ:
نَعمْ فانْهَلَّ دَمْعُكَ غيْرَ نَزْرٍ ... كما عينت بالسرب الطبابا2
__________
1 من م, ت.
2 الديوان /64 برواية: "فارفض دمعك غير نزر".

(1/651)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: أَصَبْتُ شَارِفًا مِنْ مَغْنَمِ بَدْرٍ وأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ شَارِفًا فَأَنَخْتُهُمَا بِبَابِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ وَحَمْزَةُ فِي الْبَيْتِ وَمَعَهُ قَيْنَةٌ تُغَنِّيهِ:
أَلا يَا حَمْزَ ذَا الشُّرُفِ النِّوَاءِ1
فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَأَخَذَ أَكْبَادَهُمَا فَنَظَرْتُ2 إِلَى مَنْظَرٍ أَقْطَعَنِي فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَخَرَجَ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَتَغَيَّظَ3 عَلَيْهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدُ آبَائِي قَالَ: فرجع رسول الله يُقَهْقِرُ4.
حَدَّثَنَاهُ ابْنُ السَّمَّاكِ نا أَبُو قِلابَةَ الرُّقَاشِيُّ نا أَبُو عاصم نا ابن جريج أخبرني ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فغنته الكرينة5.
__________
1 الفائق "شرف" 2/235.
2 ساقط من ت.
3 ط, س: "وتغيظ" والمثبت من م.
4 أخرجه البخاري في مواضع منها المغازي 5/105 ومسلم في الأشربة 3/1568 وأبو داود في الخراج 3/148.
5 النهاية "كرن" 4/168 وجاء في الشرح: أي المغنية الضاربة بالكران وهو الصنج وقيل العود.

(1/651)


كَانَ ابْنُ السَّمَّاكِ يَرْوِيهِ ذَا الشَّرَفِ النَّوَى بِفَتْحِ الشِّينِ وَالرَّاءِ فِي الشَّرَفِ وَفَتْحَ النُونَ فِي النَّوَى وَقَصْرَهُ عَلَى وَزْنِ اللَّوَى وَهَكَذَا يَرْوِيهِ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ.
وأخبرني أبو بَكْر القَفَّال عَنْ محمد بْن جَرِير الطَّبري أنّه رَوَاه أيضًا كذلك وفسّره فَقَالَ النَّوى البُعْدُ والنَّوَى جَمْعُ النَّواةِ.
قَالَ أبو سليمان: والرِّوايةُ والتَّفسيرُ معًا غَلَطٌ وإنّما هُوَ النِّواءُ مَكسورة النُّون مَمدُودة الأَلف عَلَى وَزْن الرِّواءِ وأنشدنيه أبو عُمَر:
أَلا يَا حَمْزَ ذَا الشُّرُفِ النِّوَاءِ ... وَهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بِالفِناءِ1
القصيدة إلى آخرها.
والشُّرُف جَمْعُ الشَّارِف وهي المُسِنَّةُ من النّوقِ وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا أَنَاخَ بِكُمُ الشُّرُفُ الْجُونُ" قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشُّرُفُ الْجُونُ قَالَ: "فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ" 2.
قَالَ ابن الأنباري: الشرف هاهنا فِتَنٌ تَتَّصِل أوْقاتُها وتَطُولُ أزمانُها حتى تصير كالشُّرُفِ من الإِبِل وهي النُوقُ المَسَانُّ والنِّواءُ السِّمانُ. والنَّيُّ السِّمنُ. قَالَ الأصمَعيُّ يُقالُ نَوت الناقةُ تَنْوِي فَهيَ ناوِيَةٌ وهُنَّ نِوَاء. وقال يَعْقُوب نَوتْ نِوايَةً ونَوايةً.
قَالَ الراجِزُ:
لطَالَ مَا جَررْتُكُنّ جَرَّا ... حَتّى نَوى الأعجف واستمرا3
__________
1 اللسان والتاج "شرف".
2 أخرج الترمذي في 4/556 طرفا منه والإمام أحمد في مسنده 2/418 , 432.
3 اللسان والتاج "جرر" دون عزو.

(1/652)


وقوله: يُقَهقِر. قَالَ أبو عَمْرو القَهْقَرى: الإحضَارُ فيكون عَلَى هذا أَنَّهُ أسرع في الانْصِراف. وقال الأخفَشُ: يُقالُ رَجَع القَهْقرى إذَا رجَعَ وراءَهُ ووجْهُهُ إليك. والكِرينَةُ المُغَنِّيَة. وقد احتجَّ بَعْضُ أهل العلم بهذا الحديث في إبْطال أحكام السَّكرَان وقالوا لو لزِمَ السَّكران ما يكون منه في حالِ سُكره كما يَلزمُهُ في حالِ صَحْوه لكان المُخاطِبُ رَسُولَ الله بما استقْبله بِهِ حمزة كافرًا مُبَاحَ الدَّم.
قَالَ أبو سُليمان: وقد ذهب عَلَى هذا القائل أنَّ ذَلِكَ منه إنّما كَانَ قبل تحرِيمِ الخَمْر وفي زمانٍ كَانَ شُرْبُها مُباحًا وإنّما حُرِّمَت الخَمرُ بعد غَزْوَةِ أُحُد. قَالَ جابرٌ: اصْطبحَ ناسٌ الخَمْر يَوْمَ أُحدُ ثُمَّ قُتِلُوا آخرَ النهار شُهَداءَ. فأَمَّا وقَدْ حُرِّمَتْ فَشُرْبُها مَعْصِية وما تولَّد منها لازِمٌ ورُخَصُ الله لا تَلْحقُ العَاصِين.

(1/653)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَقِيَ الْعَدُوَّ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ: "حَم لا يُنْصَرُونَ" 1.
يذهبُ كثيرٌ من الناس في معناه إلى أنّه دُعَاء. وَأُرَى أبا عُبَيْدٍ قد أشار إلى نحُوٍ من هذا. وبلغني عَنِ ابن كيسان أنه سأل عنه أبا العباس أحمد بن يحيى فَقَالَ هُوَ إخبار معناه واللهِ لا يُنْصَرُون ولوْ كَانَ دُعَاءً لكان مَجْزُومًا. وقال أهْلُ التفسير: حَامِيم اسْمٌ مِنْ أسْماءِ الله عَزَّ وجَلَّ فكأَنَّه حَلَف باسْمٍ من أَسْماءِ الله أنّهُم لا يُنْصَرُون ويدلّ عَلَى هذا قولُ الشاعر:
يُذَكّرني حَامِيم والرُّمحُ شَاجرٌ ... فهلا تلا حامِيمَ قبْل التَّقدُّم2
__________
1 أخرجه أبو داود في الجهاد 3/33 والترمذي في فضائل الجهاد 4/197 وأحمد في مسنده 4/289.
2 اللسان "حمم" وينسب إلى شريح بن أوفى العبسي وإلى الأشتر النخعي والضمير في يذكرني لمحمد بن طلحة وقتله الأشتر أو شريح.

(1/653)


أي يذكّرُني الله.
وَيُقال للِسُّوَر التي تُفتَحُ أوائلُها بحامِيم آلُ حامِيمُ والعامَّةُ يدعونها الحَواميْم وقيل لأَعرابيٍّ أتحفَظُ من القرآن شيئًا قَالَ نعَمْ القلاقل يريدُ السُوَر التي تُفْتَتَحُ أوائلُها بِقُلْ.

(1/654)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ وَعِنْدَ عَائِشَةَ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ مُضْطَجِعٌ مُسَجًّى1 ثَوْبُهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يُصْنَعُ هَذَا فَكَشَفَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: "دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ" 2.
حَدَّثَنَاهُ الصَّفَّارُ نا الرَّمَادِيُّ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أنا مَعْمَرُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
القَيْنَةُ عند العامّة المُغنّية لا تعرفُ غيرَها. والقَينَةُ عند العرب الأمَةُ. والقَيْنُ العَبدُ. والقِيانُ الإماءُ. قَالَ زُهَيْر:
ردَّ القِيانُ جِمالَ الحيّ فاحْتَملُوا ... إلى الظَّهِيرة أَمرٌ بيْنَهُم لَبِك3
والقَيْنَةُ أيضًا: الماشِطَةُ وهي التي تُزَيّنِ العرائسَ يقال قد قيّنتْها فهيَ مُقَيِّنةٌ وإنما قِيلَ للمغنية قينة إذَا كَانَ الغناء صِناعةً لها والقيْنُ الصانع
__________
1 ح: "مسج ثوبه" بالبناء للفاعل.
2 أخرجه مسلم في صلاة العيدين 2/608 بلفظ:
"جاريتان" بدل "قينتان" والنسائي كذلك في العيدين 3/196 وأحمد في مسنده 6/84.
3 الديوان /164.

(1/654)


عند العرب إلا أن الغالب عَلَيْهِ الصانع بالحديد1 وأراد بالقينَتيْن هاهنا جاريتين كانتا عندها تُنشدان شِعْرًا.
وبيان ذَلِكَ ما رُوِي في هذا الحديث من وَجهٍ آخر أَنَّهُ دَخَل وعندها جاريتان من الأنصار تُغَنيّان بشعرٍ قِيلَ في يوم بُعاث وهو يومٌ من أيام الجاهلية مذكور. حَدَّثَنِيهِ أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ2 أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى ثنا ابْنُ وَهْبٍ أنا عَمْرٌو أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رسول الله وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ3. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ أبو سليمان4: والعرب تُثبت مآثِرَها بالشعر فَتُروِّيها أولادها وعبيدَهَا فيكثر إنشادُهُم لها ورِوايتهم إيّاهَا فيتناشده السّامِرُ في القَمْراء. والنَّادي بالفناء والسَّاقِيَةُ عَلَى الرَّكِيِّ والآبار ويترنَّمُ بِهِ الرفاقُ إذَا سارت بها الركابُ وكل ذَلِكَ عندهم غِناء ولم يُرِدْ بِالغناء هاهُنا ذِكْرَ الخَنَا والابتهار بالنساء والتعريضَ بالفواحش وما يُسمّيه المُجّانُ وأهلُ الموَاخير غِناء.
والعرب تَقُولُ سَمِعْتُ فلانًا يُغَنّي بهذا الحديث أي يَجْهَرُ بِهِ ويَصْرُخُ ولا يورّي ولا يكني. وأخبرني أحمد بْن عفْو الله الشيرازي5 نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ نا يحيى بْن عَبْد الرحيم الأَعمش نا أبو عاصم قَالَ أخذ بيدي ابن جريج
__________
1 من ت, م.
2 ت: أبو عمرو الحري "تحريف" وفي المشتبه 1/185: "ومن حيرة نيسابور أبو عمرو الحميري".
3 أخرجه مسلم في العيدين.
4 ساقط من ح.
5 من م.

(1/655)


ووَقَفني عَلَى أشْعب الطماع فَقَالَ غَنّ ابنَ أخي مَا بلغَ من طَمعِك فَقَالَ: بَلغ مِن طَمعي أَنَّهُ ما زُفَّتْ بالمدينة امرأةٌ إلا كسَحْتُ1 بَيْتي رجاءَ أَنْ يُهْدَى إليَّ.
يَقُول: أَخبِر ابن أخي مجاهرا بذلك غير مُساترٍ ومن هذا قَولُ ذِي الرُّمَّة:
أُحِبُّ المَكانَ القَفْرَ من أجْل أَنَّني ... بِهِ أتَغنَّى باسمها غَيْرَ مُعْجِم2
أي أجهر الصّوْتَ بذكرها ولا أكني عنها حِذارَ كاشِحٍ أو خوفًا من رقيب وعلى هذا تأوّل بعضُ العلماء قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليْسَ منّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن" 3. أي يَجْهَرُ بِهِ وقد يُروى هذا التفسير مَرفوعًا أو موصولًا بحديث مرفوع. فكُلّ من رفع صوته بشيءٍ ووالَى بِهِ مرَّةً بعْدَ أُخرى فصَوْتُه عند العرب غِناء وأكثره فيما شاقَ من صَوْتٍ أَوْ شجَا من نَغْمَةٍ ولَحْنٍ ولذلك قِيلَ غَنَّت الحمامةُ وتغنى الطائرُ. قَالَ المجْنُونُ:
أَيا قَاتَلَ اللهُ الحَمَامَةَ غُدوةً ... عَلَى الغُصْنِ ماذا هَيَّجْت حينَ غَنَّت4
وقال آخرُ:
تغنى الطَائران ببيْن سَلْمَى ... عَلَى غُصتَين من غَرَبٍ وبَانِ
وأنشدني ابنُ داسةَ أنشدني الزِّئبقيّ أنشدني عبدُ الله بْن شَبيْب لأعرابيٍّ من عَبْس باع ناقةً لَهُ فسَمِع حنينها وهي في سقيْفةٍ فَقَالَ:
__________
1 كسح البيت: كنسه "عن القاموس: كسح".
2 الديوان /628.
3 أخرجه البخاري في التوحيد 9/188 وأبو داود في 2/74 وأحمد في 1/172, 175, 179 وغيرهم.
4 الديوان /86.

(1/656)


لعمري لئن أصبحْتِ في دار تَوْلَبٍ ... يُغنّيكِ بالأَسحار دِيكٌ قُراقِفُ
فلَنْ تَرِدي ماء الطَّوِيّ ولَنْ تَري ... أَبَانيْن مَا غنَّى الحمامُ الهَواتِفُ1
وعلى هذا المعنى جَعلوا صلصلة الحديد وأطيْطَ الرِّحال غِناءً. وقال بعض المُسجّنين:
إِذا شِئتُ غنَّاني الحَديِدُ وأُوثِقَتْ ... مصَاريعُ من دُوني تُصِمُّ المنادِيَا
وقال آخَرُ:
وَلي مُسمِعَان وزمَّارَةٌ ... وَظِلٌّ ظَلِيلٌ وحِصْنٌ أَمَقّ2
وأنشدني الأصمعيّ:
ما إنْ رأَيْتُ من مُغَنّياتِ ... ذواتِ آذان وَجُمْجُماتِ
أَصْبَر مِنْهُنَّ عَلَى الصُّمَاتِ3
قَالَ الأصمعي: هذا يَصِفُ إبلًا. قَالَ وغِناؤُهنَّ صَريْفُهنَّ بأَنْيابِهنَّ وذلك من النَّشاط فإذا ضَجِرت الإبلُ رغَتْ. قَالَ: والصُّماتُ هاهُنَا العَطَشُ.
وقال ابن الأعرابي: الغِناءُ أَطِيطُ الرّحالِ. والصُّماتُ السّكوت ومثلُ هذا في كلامهم كثير.
__________
1 الأساس "قرف": ديك قراقف: شديد الصوت. وفي معجم ما استعجم "أبان" 1/95: أبان بفتح أوله: جبل وهما أبانان: أبان الأبيض وأبان الأسود بينهما نحو فرسخ ووادي الرمة يقطع بينهما..الخ.
2 اللسان والتاج "زمر", "سمع", "مقق". ومجالس ثعلب 2/473 والبيان والتبيين 3/64.
3 اللسان "صمت": من معنيات بالعين المهملة. ورواه الأصمعي: "من مغنيات".

(1/657)


قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي غِنَاءِ الأَعْرَابِ وَهُوَ صَوْتٌ كَالْحُدَاءِ يُسَمَّى النَّصْبَ إِلا أَنَّهُ رَقِيقٌ.
حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أنا ابْنُ الْجُنَيْدِ نا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْمَرْوَزِيُّ أنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالرَّوْحَاءِ كَلَّمَ الْقَوْمُ رَبَاحَ بْنَ الْمُغْتَرَفِ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ بِغِنَاءِ الأَعْرَابِ فَقَالُوا لَهُ: أَسْمِعْنَا وَقَصِّرْ عَنَّا الْمَسِيرَ. قَالَ إِنِّي أَفْرَقُ عُمَرَ فَقَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى عُمَرَ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ يَا رَبَاحُ أَسْمِعْهُمْ وَقَصِّرْ عَنْهُمُ الْمَسِيرَ فَإِذَا أَسْحَرْتَ فَارْفَعْ فَاكَ قَالَ: فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى1.
فهذا وما أشْبَهُه مِمَّا يُدْعى غِناء لم يَرَ بِهِ عُمَرُ بأْسًا ولم يَرَ فيه إثمًا لأنّه حُداءٌ يُقَصِّرُ المسير ويحُثّ المَطيّ ويُخَفّفُ عَنِ المسافِر.
ونحو هذا قولُ نُصَيْب أنشدنيه بعض أصحابنا أنشدنا بن دريدٍ أنشدنا أبو حاتم أنشدَتنْي أُمُّ الهيثَم لِنُصَيْبٍ:
فَهل يَمْقُتَنّي الله في أنْ ذَكرْتُها ... وعَلّلْتُ أصحَابي بها ليلةَ النَّفْرِ
وَطيَّرتُ ما بي مِنْ نُعاسٍ ومن كَرى ... ومَا بالمطايا من كَلالٍ ومن فتر2
__________
1 ذكر الحافظ بن حجر في الإصابة 1/502 في ترجمة رباح هذه القصة مختصرة.
2 الديوان /94, 95 برواية: "فهل يأثمني الله في أت ذكرتها.. وسكت مابي من نعاس.. ومابلمطايا من جنوح ومن فتر".

(1/658)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ الَّذِي في السماء يقال له الضراح وهو على منا الكعبة" 1.
__________
1 أخرجه الأزرقي وفي أخبار مكة بلفظ: "بحيال الكعبة" وبلفظ: "حذاء" بدل "منا الكعبة" وهو في النهاية "ضرح" 2/81.

(1/658)


حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عَمِّي إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيِّ نا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ نا جَدِّي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قوله: عَلَى منَا الكعبة أي عَلَى قَدْرِها. ويُقالُ بحذائها. يَقُولُ داري مَنا دارِ فُلانٍ أي بحذائها.

(1/659)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الإِسْرَاءِ أَنَّهُ قَالَ: "حُمِلْتُ عَلَى دَابَّةٍ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ طَوِيلِ الأُذُنَيْنِ فَعَمِلَتْ بِأُذُنَيْهَا وَقَبَضَتِ الأَرْضَ" 1.
يَرْوِيهِ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
قوله: "فعَملَت بأذُنَيْها" أي طارَتْ فكانت الأُذُنَان لها كالجَناحَيْن والطَّائِرُ إذَا أَمْعَن في الطيران وأبْعَد في الجوّ فقد عَمِلَ وأعْملَ جناحَيْه وكذلك هُوَ في سَيْرِ الإِبل. يُقالُ أعَملتُ المَطيَّة فهي مُعْمَلَةٌ ونَاقَةٌ يَعْمَلَةٌ ونُوقٌ يَعْملاتٌ وبَعِيرٌ يَعْمليٌّ. ومن هذا قَولُ لُقمان بن عاد حين وصَفَ أَحدَ إخْوتِه للمرأة التي خطبها خذي مني أخي ذا العِفَاق صَفَّاقٌ أَفّاق يُعْمِلُ الناقةَ والسّاق.
وفي رواية أخرى من هذا الحديث: أَنَّهُ رَكِبَ البُراق وفي فخذَيْها جَناحان يَحفِزُ بهما رِجْلَيْها2.
وقولُه: "قبَضَتِ الأرْضَ" يُرِيدُ النَّجاءَ والسُرعةَ. يُقالُ: قَبَضت الدابَّةُ
__________
1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/213, 214 وكذلك ذكره السيوطي في الدر المنثور 4/194 وعزاه إلى ابن سعد وابن عساكر.
2 أخرجه الطبري في تفسيره 15/3 وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/157 وكلاهما بم يذكركلمة البراق وقالا.. فإذا دابة بيضاء الخ.

(1/659)


تَقْبِض قَبَضًا مُتَحَركة الباء وقباضَةً. وإِنّه لقَبيضٌ بيِّنُ القَبَض والقَباضَة إذَا كَانَ سَريعًا قَالَ الشاعرُ:
كيف تَراها والحُداةُ تَقبِضُ1
وقال آخر:
أتَتْكَ عِيرٌ تحْملُ المشِيَّا ... تُعجل ذَا القَباضَة الوَحِيَّا
أَنْ يرفع المئزر عنه شيا2
المَشِيُّ والمَشُوُّ الدَّوَاءُ الّذي يُسْهِلُ البَطْنَ يَقُولُ مَن يَشْربه لا يُلْبِثه أن يَرْفَعَ مِئزَرَه عَنْهُ.
__________
1 اللسان والتاج "قبض".
2 اللسان والتاج "قبض".

(1/660)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "تَهَيَّأْ حَتَّى تَسِيرَ إِلَى بَيْتِ قَوْمِكَ خَثْعَمٍ وَذِي الْخَلَصَةِ فَتَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَتَكْسِرَ صَنَمَهُمْ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ قَلِعٌ. فَقَالَ: "اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا" 1.
حَدَّثَنَاهُ الأَصَمُّ نا أَبُو أُمَيَّةَ الطَّرَسُوسِيُّ نا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مُقَاتِلٍ الْمَرْوَزِيُّ2 نا حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ الأَحْمَسِيُّ نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرٍ.
القَلِعُ الَّذِي لا يَثْبتُ في السَّرْج وقد قَلِعَ قلَعَةً. يُقال: رَجُلٌ قَلِعٌ مثل
__________
1 أخرجه البخاري في الجهاد 4/79, 91 ومسلم في الفضائل 4/1925 بألفاظ متقاربة وابن ماجه في المقدمة 1/56 مختصرا.
2 كذا في س, ط وفي م, ت, ح: "أبو الحسن مقاتل المروزي".

(1/660)


عَمِلٍ من العَمَل ولَبِثٍ من طُول اللُّبْث بالمكان. وقرأ بَعْضُهم: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} 1. وقال ساعدَةُ بْن جُؤيَّة:
حَتّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهنًا عَمِلٌ ... باتَتْ طِرَابًا وبات الّليلَ لم يَنمِ2
يُريدُ أَنَّ البَقر باتَتْ طرابًا إلى البرق وبات البَرْقُ لم ينم. والعَمِلُ من صفة البَرْق.
ويُقال رَجُل قِلْع بكسر القاف وسكون اللام3 والأَمْيَلُ مِثْلُ القَلِع وهو الَّذِي إذَا رَكَضَ الدَّابَّة مالَ سَريعًا فزال عَنْ مَتْنها.
وقال الأَعْشى:
نَحْنُ الفَوارِسُ يوْمَ الحنْوِ ضاحِيةً ... جَنْبيَ فُطَيْمَة لا مِيلٌ ولا عُزُلُ4
والأَمْيَلُ أيْضًا هُوَ الَّذِي إذَا رَكبَ كَانَ في شِقٍّ قَالَ الشاعر:
لم يَرْكَبُوا الخَيْلَ إلا بَعْدَ أَنْ هَرِمُوا ... فهم ثِقالٌ عَلَى أعجازها مِيلُ5
وحكى الأَصْمَعيُّ عَنْ أَبِي عَمْرو بْن العلاء قَالَ: رأيتُ رجُلًا رَاكِبًا وأبُوهُ يَمْشي فقلت أتركَبُ وأَبُوكَ يَمْشي فَقَالَ إنّه لا يَأتبِلُ أي لا يثْبتُ عَلَى الإبل ويُقالُ في ضدّ ذَلِكَ فارسٌ ثَبْتٌ إذَا كَانَ لا يَزُولُ عَنْ مَتْن فَرَسِه كما يُقالُ ثَبْتُ الجنَان إذَا كَانَ رابِطَ الجَأْشِ وأنشدني أبو عُمَر عن أبي العباس ثَعْلب:
__________
1 سورة النبأ: 23.
2 م: "وبات البرق" والبيت في شرح أشعار الهذليين 3/1129 برواية الكتاب وجاء في تفسيره: وبات الليل لم ينم: أي بات البرق يبرق ليلته.
3 من ت, م.
4 الديوان /149.
5 اللسان والتاج "ميل" وعزي لجرير وهو في ديوانه /373.

(1/661)


الرُّمْحُ لا أَمْلأ كفّي بِهِ ... واللِّبْدُ لا أتْبعُ تَزْوَالَه
يَقُولُ إن انْحَلّ الحِزامُ فمالَ اللِّبْدُ لم أَمِلْ معه. وقولُه: الرّمْحُ لا أملأُ كفّي بِهِ فيه قولان أحدُهُما أنّه لِحِذْقه بالطِّعان لا يَشُدُّ عَلَى الرّمح بجميع كفّهِ وإنما يختَلِسُ الطَّعْنَ خَلْسًا. والقَوْلُ الآخرُ أَنَّ الرُّمح لا يَمْلأُ كَفَّهُ بأن يشْغَلها عَنْ غيره من السِّلاح لَكنَّهُ يقاتل مَعَ الرُّمح بالسَّيف وغيره.

(1/662)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ أَيُّ أَمْوَالِنَا أَفْضَلُ قَالَ: "الْحَرْثُ وَالْمَاشِيَةُ" فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالإِبِلُ قَالَ: "تِلْكَ عَنَاجِيجُ الشَّيَاطِينِ" 1
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقُرَشِيُّ نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ نا الْوَضَّاحُ بْنُ يَحْيَى النَّهْشَلِيُّ نا مِنْدَلٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
العنَاجيجُ نَجائِبُ الإبل واحدها عُنُجُوجٌ يُريدُ أَنَّها مطايا الشَّياطين وهذا مَثلٌ ضَربَهُ يُريد أنّها قد يُسْرِع إليها الذُّعْرُ والنِّفارُ وهذا كقوله في الإبل: "إنّها جِنٌّ من جن خلقت".
__________
1 الفائق "عنج" 3/33 والنهاية "عنج" 3/307 وفي مصنف عبد الرزاق 11/460 عن قتادة بلفظ: "الغنم" بدل "الماشية" وبلفظ "عناتين" بدل "عناجيج".

(1/662)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّمُوسَ بِنْتَ النُّعْمَانِ قَالَتْ: رَأَيْتُهُ يُؤَسِّسُ مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَكَانَ رُبَّمَا حَمَلَ الْحَجَرَ الْعَظِيمَ فَيُصْهِرُهُ إِلَى بَطْنِهِ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ لِيَحْمِلَهُ فيقول: "دعه واحمل مثله" 1.
__________
1 ذكره ابن الأثير في أسد الغابة 7/165 وعزاه إلى ابن مندة وأبي نعيم وابن عبد البر وذكره ابن حجر في الإصابة 4/343 وعزاه إلى الحسن بن سفيان وابن مندة.

(1/662)


حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ بْنِ سَهْلٍ نا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى نا بِشْرُ بْنُ آدَمَ نا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ عَامِرٍ الأنصاري عن عتبة بن وديعة1 عَنِ الشَّمُوسِ بِنْتِ النُّعْمَانِ.
قولُه: يُصْهِرُه إلى بَطْنه أي يُدْنِيه إلى بطنه2 رافعًا لَهُ إِلَيْهِ. وفيه لغتان يقال صَهَره وأصْهَرهُ بمعنى قَرَّبهُ وأَدْناه. ومِنْهُ مُصاهرَةُ النّكاح وهي المُواصَلة والمُقارَبة.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} 3. قَالَ: بَعضُ العُلماء أراد بالنَّسَب قرابة النَّسَب وبالصِّهْر قرابة النِّكاح. قَالَ: وَالصَّهْرُ في لُغَة العَرب بمعنى القرابة. يُقالُ: فُلانٌ مُصْهِرٌ ببني فُلانٍ إذَا قَاربَهُم في النّسب واحتجّ بقول زهيرٍ:
قَوْدُ الجياد وإصهار الملوك وصب ... ر في مواطن لو كانوا بها سَئِمُوا4
قَالَ: لم يُرِدْ ختُونَة الملوك إنما أراد القرابة منهم. ورواه بَعْضُهُم فيَهْصِرُه إلى بَطْنِهِ أي يَجْذِبُه.
__________
1 في الاستيعاب والإصابة: روى عنها عبيد بن وديعة. وفي أسد الغابة: عتبة بن وديعة.
2 من ح.
3 سورة الفرقان: 54.
4 س: "سلموا بدل سئنوا" والمثبت من ت والديوان /161.

(1/663)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ الْكَرْمَ فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ" 1.
__________
1 أخرجه أبو داود في كتاب الأدب 4/294 والبخاري في الأدب 8/52 ومسلم في كتاب الألفاظ 4/1763 بنحوه والإمام أحمد في 2/239, 259, 272 بألفاظ متقاربة.

(1/663)


أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أنا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قوله: "إنّ الكَرْم الرَّجلُ المُسْلُم" يُريدُ الكريم وقد يُنْعت الفاعل بالمصدر كقولهم رَجُل عَدْل ورجل صَوْم بمعنى صائم ونوم بمعنى نائم1 وقد يُنْعَتُ بِهِ المفعول أيضًا كقولك رَجُل رِضًا وهذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأَمِير.
وجاءني الخَلْقُ يُريد المخلوقين فإذا نَعتَّ الفاعلَ بالمصْدر كَانَ الواحِدُ والجَمِيعُ والمذكَّر والمُؤَنَّث فيه سَواء
يُقال رَجُلٌ كَرْمٌ وقَومٌ كَرْمٌ2 وامرأة كَرْم ونِساءٌ كَرْمٌ2 قَالَ الشَّاعر:
وأن يَعْرَينَ إنْ كُسِي الجَوارِي ... فتَنْبُو العَيْنُ عَنْ كَرْمٍ عجافِ3
أي عن نساء كرائم.
والمعْنَى في تَغْيَيره عَلَيْهِ السَّلام هذا الاسْم إلى غيره أَنَّ الكَرْمَ عندهم اسمٌ مُشْتَقٌّ من الكَرَم واسمُهُ التَّلِيدُ عندهم إنّما هُوَ الجَفْنَة والحَبْلَةُ وهما أَصْلُ شجر الكَرْم قَالَ الأصمعي الحَبَلَة بفتح الباء وجوّز غَيرهُ الحبْلَة ساكنة الباء4 والأسْماء عَلَى ضَرْبيْن اسمٌ مُشتَقٌّ واسمٌ مَوضُوع وإنما لقَّبوه كَرْمًا لأَنَّ شارِبَ الخَمْر التّي تُتَّخذُ من عَصِيره يتعاطى الكَرْمَ إذَا شَرِبها كما سمَّوْها رَاحًا لأَنَّ شارِبها يَرْتاحُ لِلنَّدى وَيَنْبَسِطُ5 لِلجُود والسَّخاء وقد قال بعض الشعراء:
__________
1 من ت, م, ط.
2 ساقط من ت.
3 اللسان والتاج "عجف" وعزي لمرداس بن أذنة وجاء في مادتي "كرم, كسى" وعزي لأبي خالد القناني أو لسعيد بن مسحوج الشياني.
4 من ت, م.
5 ط: "وينشط".

(1/664)


والكَرْمُ مُشْتقَّةُ المَعْنَى منَ الكَرَمِ1
وقال آخرُ يَمْدَحُ رَجُلًا بمعاقَرَةِ الخَمْر ويَزْعمُ أنّها كَرَمٌ:
حُمَيْدُ الَّذِي أَمَجٌ دارُهُ ... أخُو الخَمْرِ ذُو الشَّيْبَةِ الأَصْلعُ
أتاهُ المَشِيبُ عَلَى شُربِها ... فكان كِريمًا فلم يَنْزع2
وقال حسّان بْن ثابت:
لا تنْفِري يا ناقُ منه فإنَّه ... شَرّابُ خَمْرٍ مِسْعَرٌ لِحُرُوبِ3
ومثل هذا في الشِّعْر كثير.
فرأى عَلَيْهِ السَّلام أنّ في تَسْلِيم هذا الاسْم لَهُم تَقْرِيرَ المعْنَى الَّذِي تأوَّلُوه من الكَرمِ فيها وأَشْفقَ أن يكون حُسْنُ اسمِها يَدعُوهم إلى شُرْبِها ويُحَسِّنُ لهم تَناولَ المُحرَّم منها وفي النفُوس من الشَّغَف بها والمَيْل إليها ما لا حاجَةَ مَعَ ذَلِكَ إلى أن تُهزَّ وَتُحرَّكَ بالثناء عليها فلذلك رأى أن يَسْلُبَه هذا الاسْمَ وأَن يُسْقِطَه عَنْ رُتْبَة الكَرَم وجعَله اسْمًا لِلمُسلم الَّذِي يتَّقي شُرْبَها ويَرى الكَرَم في تَرْكِها وكُلُّ ذلك تأكيد لحرمة الخمر وتأبيد لها والله أعلم.
ونحو هذا حديث ابن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أنْ يُقال السَّلَم بمعْنى السلف,
__________
1 كذا في اللسان "كرم" ت, م. وفي س, ط, ح: "الكرم مشتقة من الكرم".
2 اللسان والتاج "أمج" والكامل 1/252 ومعجم البلدان وعزي لحميد الأمجي وفي معجم ما استعجم 1/191 برواية: "وكان كريما فما ينزع" وبهذه الرواية لايكون في البيت إقواء.
3 الديوان /364 والأغاني 14/125 والكامل 4/89 ضمن خمسة أبيات في رثاء ربثعة بن مكدم.

(1/665)


وكان يَقُولُ: الإسْلامُ لله عَزَّ وجَلَّ ضَنَّ بالاسم الَّذِي هُوَ مَوْضُوعٌ للطَّاعة أن يُمْتَهن في غيرها وصانَه عَنْ أن يُبْتَذلَ فيما سِواها.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا بِشْرُ بْنُ مُوسَى1 نا الْحُمَيْدِيُّ نا سُفْيَانُ نا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ عَامٍ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَامًا وَقَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ: "إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ". قَالَ الرَّجُلُ أَفَلا أَبِيعُهَا قَالَ: "لا". قَالَ: أَفَلا أُكَارِمُ بِهَا الْيَهُودَ. قَالَ: "إِنَّ2 الَّذِي حَرَّمَهَا حَرَّمَ أَنْ تُكَارِمَ بِهَا الْيَهُودَ". قَالَ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَا قَالَ: "سُنَّهَا فِي الْبَطْحَاءِ" 3.
وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ يُهْدِي إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةَ خَمْرٍ.
وقوله: سُنَّها أي صُبَّها. والسَّنُّ الصَّبُّ السَّهْلُ.
__________
1 من م, ح.
2 س: "إن الذي حرمها حرم شربها حَرَّمَ أَنْ تُكَارِمَ بِهَا الْيَهُودَ" والمثبت من ت, ط, م.
3 أخرجه الحميدي في مسنده 2/447, 448 إلا أن فيه شنها بدل سنها.

(1/666)


قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: "أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى 1 كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" 2.
حَدَّثَنَاهُ الأَصَمُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ نا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ نا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ نَافِعٍ عن ابن عمر.
__________
1 ط: "أعور عين اليمين".
2 أخرجه البخاري في مواضع منها التعبير 9/43 والفتن 9/75 ومسلم في 1/154, 4/2247 والترمذي في 4/514 وأحمد في 2/27, 33, 37, 122.

(1/666)


قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ كَانَ هذا الحديث عندي من الواضِح الَّذِي يُسْتَغْنَى بظاهره عَنْ تِفْسِيره. وقد بَقِيتُ زمانًا أحْسِبُه أراد بالعِنَبةِ الطَّافِية الحَبَّةَ من العِنَب تَطْفُو عَلَى مَتْن الماء وذلك لأَنَّ الحَدَقَةَ العَوْراء القائمةَ في المُقْلة النَّاتِئَة من أشبَهِ شيء بها حتّى أخبرني مُخبِرٌ عَنْ أَبِي عُمر صاحبِنا قَالَ سُئِل أبو العَبَّاس ثَعْلَبٌ عَنْ هذا القَوْل1 فَقَالَ الطَّافيةُ: العِنَبةُ التي خرجَت عَنْ حدِّ نبْتَةِ أَخواتِها فَعَلَتْ ونَتَأَتْ وظهرَتْ. يُقال طَفَا الشّيءُ إذَا علا وظَهَر. ومنه الطَّافي من السَّمك. وأنشَد لبَعْضهم يَهجُو رجلًا ويَعِيبُه بالجَهْل والنَّزَق:
قُبِّحْتَ من سالفَةٍ ومن قفَا شَيْخٌ ... إذَا ما رَسَبَ القَوْمُ طفَا2
يُريدُ أنّ الحُلماء إذَا ترزّنُوا في مجالسهم طَفا هُوَ أي عَلا وظَهَر بجَهْله.
قَالَ وقال أبو العَبَّاس: رُوِي في حديث آخر من أَمرِ الدَّجّال: أَنَّهُ وُلِدَ مَقْبورًا3.
وذلك أنّ أُمَّهُ وضَعَتْه جِلْدةً مُصْمَتة فقالت القابِلَةُ هذه سِلعةٌ4 فقالت: بَل فيها وَلَد وهو مَقبورٌ فيها. وقد كَانَ يَنْقُزُ في بطني فشَقُّوا عَنْهُ فلما رأَى الدّنيا ومَسَّه الهَواء استَهلّ صارِخًا. قَالَ الأصمعيُّ الخِشْعَةُ: الوَلَدُ الَّذِي يُبْقَرُ عَنْهُ بطن أمه إذا ماتت وهو حي.
__________
1 من ط.
2 اقتصر اللسان والتاج "طفا" على البيت الثاني برواية: "عبد" بدل "شيخ".
3 س: "مقبول أفاك" وفي ت: "مقبولا" والمثبت من م.
4 اللسان "سلع": السلعة قال الأزهري: هي الجدرة تخرج بالرأس وسائر الجسد تمور بين الجلد واللحم إذا حركتها وقد تكون لسائر البدن في العنق وغيره وقد تكون من حمصة إلى بطيخة.

(1/667)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ اسْتَقْبَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُمْ بِالْفَتْحِ وَيَسْأَلُونَهُمْ عَمَّنْ قُتِلَ فَقَالَ سَلامَةُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ وَقْشٍ1: مَا قَتَلْنَا أَحَدًا بِهِ طُعْمٌ مَا قَتَلْنَا إِلا عَجَائِزَ صُلْعًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ الله وقال: "أولئك يا ابن سَلَمَةَ الْمَلأُ" 2.
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عن ابن شهاب.
والملا الرُّؤساءُ والأَشْرافُ. يقالُ هَؤُلَاءِ ملأُ بني فُلانٍ أي ساداتهم. ومن هذا قولُ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلامُ: "اللهمَّ عليك المَلأُ من قُرَيْش" 3 يريدُ الرُّؤساءَ منهُم وهم المَلأُ بالقَصْر والهَمْز فأَمّا المَلا مقصورًا غير مهموز فالمُتَّسعُ من الأرض قَالَ الشاعر:
ألا غنِّياني وارْفَعا الصَّوْتَ بالمَلا ... فإنَّ المَلا عِنْدي يزيد المدى بعدا4
__________
1 كذا في النسخ. وفي الاستيعاب 2/641 وأسد الغابة 2/428 والإصابة 2/65: سلمة بن سلامة بن وقش وسلامة بن سلمة ليس له ذكر في الصحابة أما سلمة بن سلامة وقش بن زغبة فقد شهد العقبتين وبدرا.
2 أخرجه ابن هشام في السيرة 2/286 عن يزيد بن رومان بألفاظ متقاربة. وانظر البداية والنهاية 2/205.
3 أخرجه البخاري في مناقب الأنصار 5/57 ومسلم في الجهاد 3/1419 وأحمد 1/393 عن ابن مسعود.
4 اللسان والتاج "ملا".

(1/668)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ عِلاقَةَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَّا وَرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ فَشَجَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَالَ:
يَا خَيْرَ مَنْ يَمْشِي بِنَعْلٍ فَرْدِ ... أَوْهَبَهُ لِنَهْدَةٍ وَنَهْدِ
لا يُسْبَيَنَّ سَلَبِي وَجِلْدِي1
فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: "لا" 2.
حَدَّثَنَاه جَعْفَرُ بْنُ نُصَيْرٍ الْخُلْدِيُّ نا الْحَضْرَمِيُّ نا ابْنُ نُمَيْرٍ نا ابْنُ إِدْرِيسَ سمعت مسعرا يذكره عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ إِلا أَنَّهُ قَالَ:
أَوْهِبَةٍ لِنَهْدَةٍ وَنَهْدِ3
وَقَالَ: غَيْرُهُ أَوْهَبَهُ مِنَ الْهِبَةِ وَهُوَ أَصْوَبُ.
قَوله: بنَعْلٍ فرْد فيه وجْهان أحَدُهما أن يُجعَلَ الفَرْدُ من نعْت النَّعْل وذلك جائزٌ مَعَ سقوط هاء التأنيث لأَنَّ كُلّ اسْمٍ لَيْسَ فيه عَلم التأنيث فتذكيره جَائز كالسَّماء والأَرضِ والشَّمْسِ والنَّارِ والبِئْر والحَرْبِ ونحوِها.
أخبرني أبو عُمَر أنا ثَعْلب عن سَلَمَةَ عن الفَرَّاء قَالَ العَربُ: تجْتَرئ عَلَى تَذْكِير كلِّ مؤنَّث لَيْسَ فيها عَلَمُ التأنيث وأنشد:
فلا مُزْنَةٌ ودَقَتْ وَدْقَها ... ولا أَرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَها
وأرادَ بالنَّعل الفَرْد السُّمُط4 التي لم تُخصف ولم تُطارَقْ. والعَربُ تمدحُ برِقّةِ النِّعال وتَجْعَلها من لِباسِ المُلُوك وزِيِّ أَهْلِ النِّعْمة قال النابغة:
__________
1 اللسان والتاج "نعل, نهد, فرد".
2 الفائق "فرد" 3/103 والنهاية "نهد" 5/135.
3 اللسان والتاج "ودوق" وعزي لعامر بن جوين الطائي.
4 هامش م: السميط: النعل الرقيق وفي القاموس "سمط" نعل سمط وسميط وأسماط: لارقعة فيها.

(1/669)


رِقاقُ النِّعالِ طَيِّبٌ حُجزاتُهُم ... يُحيَّوْنَ بالرِّيحان يوْمَ السَّباسِب1
والوَجْه الآخرُ أن يُجْعَل النَّعل مُضافةً إلى الفَرْد كأنّه قَالَ يا مَنْ هُوَ فَرْدٌ في النَّاس واحِدٌ لا نظِيرَ لَهُ عَلَى مذهب قَوْلِ الأعْشَى:
يا خَيْرَ مَن يركَبُ المَطيَّ ولا ... يَشْرَبُ يومًا بِكَفّ مَنْ بَخِلا2
يقولُ: إنّما تشرَبُ بِكَفِّك ولسْتَ بِبَخِيل ولُبْسُ النِّعَالِ من خَاصّ زِيِّ العرب وكذلك لُبْسُ العمائِم وكانت3 الفُرْسُ تَلْبَسُ الخِفافَ والقَلانِس. والنهْدُ الفَرسُ المُطهَّمُ والأُنْثَى نَهْدَةٌ وكُلَ ضَخْمٍ نَهْدٌ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ الأبْرص:
فذاك عَصْرٌ وقد أرَاني ... تَحْمِلُني نَهْدَةٌ سُرْحُوبُ4
والسُّرحُوبُ: الخفيفةُ. يُقال: فَرسٌ سُرْحُوبٌ. والسُّرْحُوبُ الطويلُ أيضًا.
وأخبرني الكُراني أنا عَبْد الله بْنُ شَبِيبٍ نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى المِنْقَريّ سَمِعْتُ الأصمعيّ يَقُولُ سمعت بعض الأعْراب5 يَقُولُ, السُّرحُوبُ: ابنُ آوَى والسرعوب ابن عرس.
__________
1 الديوان /63.
2 الديوان /171.
3 ح: "وكذلك الفرس".
4 الديوان /28.
5 م, ط, ح: "الْعَرَبِ".

(1/670)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَبْعَثُ اللَّهُ السَّحَابَ فَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ وَيَتَحَدَّثُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ" 1.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 5/435 بلفظ: "إن الله عز وجل ينشئ السحاب فينطق أحسن المنطق ويضحك أحسن الضحك".

(1/670)


يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ لَهُ صُحْبَةٌ.
وَأَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَوْنٍ النَّسَوِيُّ نا يَعْقُوبُ1 بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ لِصُحْبَةٍ إِلا أَنَّهُ قَالَ وَيَنْطِقُ أَحْسَنَ الْمَنْطِقِ2.
قوله: يَضْحَكُ أَرادَ أَنَّهُ ينجلي عَنِ البَرْق كما يَفْترُّ الضَّاحِكُ عَنِ الثَّغْر وهو من كلام الاسْتِعارة. قَالَ الشّاعر:
إِذَا لاحَ بَرْقُ الغَور غَوْرِ تِهامَةٍ ... تَجدَّدَ من شَوْقٍ عليِّ ضُروبُ
فطَورًا تراه ضاحكًا في ابتسامةٍ ... وطَوْرًا تَراه قد عَلاه قُطوبُ
وهذا كقولهم: ضَحِكت الأَرَضُ إذَا أخرجَتْ نَباتَها وزَهرَتها. قَالَ ابن مُطَيْر:
كُلَّ يَومٍ بأُقْحُوانٍ جَديدٍ ... تَضْحَكُ الأَرْضُ من بكاء السَّماءِ
وقال الأعْشَى يَصْفُ رَوْضةً:
يُضاحِكُ الشَمْسَ منها كَوكبٌ شَرِقٌ ... مُؤزَّرٌ بعَميم النَبْت مُكْتَهِلُ3
جعل مُطالعةَ الشَّمْس نباتَها ومقابلته إياها مُضَاحكةً لأنّه إنّما يَنْمى بطلوعها عَلَيْهِ وتتفتّق أَنْوارهُ بما يؤثِّر فيه من حرِّها وقُوَّتها والكوكبُ معظم النبات.
__________
1 م: يعقوب حميد بن كاسب. وفي التقريب 2/375: يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ المدني صدوق مات سنة 240هـ أو سنة 241هـ.
2 من ت, م.
3 الديوان /145.

(1/671)


والشرق الريان الممتلىء. وفي نحو هذا قَولُهُم بَكتِ السَّماءُ وبكت السَّحابُ إذَا جادت بالمطر. قال الشاعريصف سحابًا:
إذَا ما هَبطْنَ الأَرْضَ قد ماتَ عُودُه ... بَكيْنَ لها حتى يَعِيش هَشِيمُ1
ومثْلُ هذا كثيرٌ في الكلام والشِّعْر.
وأما قوله: يتحدّثُ أحْسنَ الحديث ففي الخَبَر أنّ حديثَه الرَّعْدُ وذلك أنّه شَبَّهه بالحديث من المتكلّم لأنه ينبىء عَنِ المطر ويُخبِر عَنْ وقوعه وقُرْب مجيئه فصار كالمُحدِّث بِهِ وهذا كقولهم نعْم المحدّثُ الدَّفتر وفي نحو من هذا قولُ نُصَيْبٍ:
فَعاجُوا فأَثْنَوا بالذي أنْت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب2
__________
1 م: "بكين بها" بدل "بكين لها".
2 الديوان /59.

(1/672)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَذِنَ فِي قَطْعِ الْمَسَدِ وَالْقَائِمَتَيْنِ وَالْمِنْجَدَةَ1.
حَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا الْحَسَنُ بْنِ زِيَادٍ السُّرِّيُّ ثنا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي كُثَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
هذا في الحرَم وشَجَره وإنّما أَذِن في قَطْعها لأنها تُرفِقُ المارَّة والمسافرين. ولا تَضُرّ بأُصول2 الشّجَر. والمَسَدُ: أصْله اللِّيفُ ولا أُراه عَنَى اللِّيفَ بعَيْنه خصوصا3 دُونَ غيره وإنّما هُوَ كُلُّ ما يُمْسَد بِهِ حبل من
__________
1 أخرجه ابن عدي في الكامل 3/لوحة 11في ترجمة: كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ والفائق "مسد" 3/366 والنهاية "نجد" 5/19.
2 م: "بأصل الشجرة".
3 من م.

(1/672)


نباتٍ ولحاءِ شَجَر ونحوه. يُقالُ: مَسَدْتُ الحبْلَ إذَا أَجدْتَ فَتْلَه ورَجُلٌ مَمْسُودٌ إذَا كَانَ مَجْدُولَ الخَلْق وقد يكون المَسَدُ من جُلُودِ الإبل ومن اللِّيف ومن الخُوصِ قَالَ الراجز:
يا مَسَد الخُوصِ تعوَّذْ منّي ... إن تَكُ لَدْنًا ليّنًا فإنّي
ما شِئتَ منْ أشمط مُقْسَئِنّ1
والمِنْجَدةُ يُقال إنها عصًا خَفِيفة يُساقُ بها الدَّوابّ ويَرْتَفِق بها المُسافرُ وهي أيضًا القَضِيبُ الَّذِي يكون مَعَ النَّجادِين يُصْلحُون بِهِ حَشْوَ الثِّياب ويجوزُ أن يكون أَرادَ بها العُودَ الَّذِي تُحْشَى بِهِ حَقِيبةُ الرَّحْل وأحْناؤْه لِيتَنَجَّد ويرتفع.
قَالَ ثَعْلَب: إنّما سُمِّي النَّجَّادُ نَجَّادًا لأنه يرفَعُ الثِّيابَ ويَزِيد فيها والنّجْدُ ما ارتفع من الأرض. وأنشد:
حتّى كأنّ بِلادَ القُفِّ أَلْبَسها ... من وَشْي عَبْقَر تَجِليلٌ وتنجيد2
__________
1 اللسان والتاج "قسن" مع غير عزو.
2 اللسان والتاج "نجد" وعزي لذي الرمة وهو في ديوانه /188. برواية "حتى رياض القف ... " الخ.

(1/673)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أَبَا عَامِرٍ الَّذِي يُلَقَّبُ بِالرَّاهِبِ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَكَانَ حَسُودًا فَسَاعَةَ بَلَغَهُ أَنَّ الأَنْصَارَ بَايَعُوهُ تَغَيَّرَ وَخَبُتَ وعاب الحنيفية1.
__________
1 الفائق 1/350 والنهاية "خبت" 2/4.

(1/673)


يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ1 نا أَبُو حَازِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
قوله: خَبُتَ هكذا يُروى بالتاء التي هي أُخت الطَّاء يُقالُ: رَجُل خَبِيتٌ وهو الفاسِدُ الرّديءُ كالخَبِيث سواء2 وليس هذا من الإخبات في شيء إنّما الإخباتُ من الخُشوع يُقالُ منه رجلٌ مُخبِتٌ. وقال اللحياني: رَجُل خَبِيتٌ نبيت أي خسيس حقير3.
__________
1 من ط.
2 في النهاية 2/4 وقيل: هو الحقر الردئ.
3 من م.

(1/674)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ قَدِمَ فِي فِدَاءِ أَبِيهِ وَكَانَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عِنْدِي فَرَسًا أُجِلُّهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرْقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عليها فقال رسول الله: "بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ" 1.
يَرْوِيهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الظَّفَرِيُّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ.
قوله: أُجِلُّها معناه أَعلِفُها. وَالعَربُ تَضَعُ الإِجْلال موضع الإعطاء. قَالَ ابن السِكّيت: يقالُ أتَيْتُ فُلانًا فَما أَجلَّني ولا أحْشانِي أي ما أَعْطاني جليلةً ولا حاشيةً وهي صغَارُ المالِ والفَرَقُ مِكيَالٌ يُقالُ إنّه يسع سِتَّة عَشَر رطلا.
__________
1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/46 عن سعيد بن المسيب بلفظ: "أعلفها" بدل "أجلها".

(1/674)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَبْعَثِ أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي بَيْتِي أَتَانِي مَلَكَانِ فَانْطَلَقَا بِي إِلَى مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وَزَمْزَمٍ فَسَلَقَانِي عَلَى قَفَايَ ثُمَّ شَقَّا بَطْنِي فَأَخْرَجَا حِشْوَتِي فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شُقَّ قَلْبَهُ فَشَقَّ قَلْبِي فَأَخْرَجَ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَأَلْقَاهَا ثُمَّ أَدْخَلَ الْبَرَهْرَهَةَ ثُمَّ ذَرَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَرُورٍ مَعَهُ وَقَالَ: قَلْبٌ وَكِيعٌ وَاعٍ 1.." فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ.
يَرْوِيهِ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا سَمَّاهُمْ أَوْ سَمَّى بَعْضَهُمْ.
قوله: سَلَقاني معناه ضَرَبا بِي الأرضَ وأصله من السَّلْق وهو الضّربُ وقد فسّره2 ابن قُتَيْبة. وأما البَرَهْرَهَةُ فقد أكْثَرْتُ السُّؤالَ عنْها فلم أجد فيها قولا يَليقُ بمعنى الحديث يقطع بصحّته وإنّما أصْلُها في اللغة أَنَّ الجاريةَ البيْضاءَ النّاعمةَ التي ترْتجُّ لرطوبتها يُقال لها البَرهْرهَة وكَتبْتُ فيها إلى الأزهرِيّ فكان من جوابه أنّه تَصحِيفٌ من بعض النَّقَلَة وإنّما هُوَ من الحديث الَّذِي يروي أَنَّهُ شُقّ قلبُه ثُمَّ غُسِل في طَسْتٍ رَهْرَهٍ فعرَّف الرَّهرهَ وجعلَه البَرَهْرَهَ فأفسَدهُ قَالَ ويُقَال للِطَّسْت الواسِع الَّذِي لا قَعْرَ لَهُ طَسْت رَهرَهٌ ورَحْرَحٌ. وكنتُ قد عزمت عَلَى أن أُهملَ هذا الحرْف ولا أتكلّم في تفسيره إلى أن وَجَدْتُ هذه القصّة بغير هذا اللْفظ عَلَى نحو ما أرويه لك.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا أَبُو دَاوُدَ ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عروة عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يا رسول الله,
__________
1 الفائق "هول" 4/118. وفي النهاية "وكع" 5/220 بعض الحديث.
2 كتابه: غريب الحديث 1/381.

(1/675)


كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ فَقَالَ: "أَتَانِي مَلَكَانِ" وَقَصَّ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا وَذَكَرَ1 أَنَّهُ شُقَّ عَنْ قَلْبِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: "فَدَعَا بِسِكِّينَةٍ كَأَنَّهَا دِرْهَمَةٌ بَيْضَاءُ فَأُدْخِلَتْ قَلْبِي" 2 الْحَدِيثَ فَوَقَعَ لِي عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَرَهْرَهَةِ سِكِّينَةً بَيْضَاءَ صَافِيةَ الْحَدِيدَةِ شَبَّهَهَا بِالْبَرَهْرَهَةِ مِنَ النِّسَاءِ فِي بَيَاضِهَا وَصَفَاءِ لَوْنِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وقَولهُ: "قَلْبٌ وكيع" معناه متين صُلْبٌ. يُقال: سِقاءٌ وكيع إذَا أحكم خرزه لئلا يسرب ماؤه وقد استوكع السقاء.
__________
1 ح: "ذلك أنه شق".
2 أخرجه ابن كثير في السيرة النبوية 1/230 مختصرا وعزاه إلى ابن عساكر. وفي الفائق "كول": فعا بسكينة كأنها درهرهة بيضاء. وفي رواية: طكأنها درهمة بيضاء وهي السكينة المعوجة الرأس. فارسي معرب.

(1/676)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُمْ فَأُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَبُّ إِنِّي إِنْ آتِهِمْ بِهِ يُفْلَعُ رَأْسِي كَمَا تُفْلَعُ 1 الْعِتْرَةُ" 2.
هَذَا مِنْ حَدِيثِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِذٍ الثُّمَالِيِّ عن عياض بن حمار3.
__________
1 كذا في جميع النسخ بالعين المهملة. وفي النهاية "فلغ" يفلغ رأسي كما تفاغ العترة" بالغين المعجمة.
2 أخرجه مسلم في 4/2197 في حديث طويل: "إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت: إذا يثغلوا رأسي فيدعوه خبزة ... " الخ وأخرجه الإمام أحمد في 4/162.
3 ح: "عياض بن محمد" تحريف. وفي التقريب 2/95: عياض بكر أوله وتخفيف التحتانية وآخره معجمه ابن حمار بكسر المهملة وتخفيف الميم التيمم المجاشعي صحابي سكن البصرة وعاش إلى حدود الخمسين.

(1/676)


قولُه: يُفْلعُ معناهُ يُشَقُّ. يُقَال: فَلعَ فُلانٌ رأسَ فُلانٍ إذَا شقَّه بحجر أو نحوه. وتَفلَّعَ الشيءُ إذَا تشقّق. والعِتْرَة يُقالُ إنها بقلة إذا قطعت خرج منها لبنٌ. وقال الأصمعيّ العِتْر نبت يَنْبُت مثل المرزَنْجُوش مُتفرّقًا. وأخبرني الرُّهَني عَنْ ثعْلَبٍ قَالَ العِتْرَة شجرة تنبت عند جِحَرة الضِّبَاب فتخرج الضَّبَّة فتتمرَّغ عليها فيقال في الذُلِّ إنّه لأذَلّ من عِتْرَة الضّبّ ورواه بعضُهم يُقْلَعُ رأسي بالقاف وهو تَصْحِيف وإنما يُفْلَعُ بالفاء لأنّ هذه اللَّفْظة بإزاءِ قوله: في الرّواية الأُخرى من هذا الحديث إنّي إن آتِهم بِهِ يُثْلَغُ رأسي كما تُثْلغُ الخُبْزَةُ. والثَّلْغُ: الهَشْمُ.

(1/677)


قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمُوا دَخَلُوا حِصْنَ ثَقِيفٍ فَتَآمَرُوا فَقَالُوا الرَّأْيُ أَنْ نُدْخِلَ فِي الْحِصْنِ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ فَاشِيَتِنَا وَأَنْ نبعث إلى مَا قَرُبَ مِنْ سَرْحِنَا وَخَيْلِنَا الْجَشَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّا لا نَأْمَنُ أَنْ يَأْتُوا بِضُبُورٍ1 فِي قِصَّةٍ فِيهَا طُولٌ.
يَرْوِيهِ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ.
الفاشِيَةُ2 الإِبِل والغَنَم السائمة المنتشرة في المرعى وسُمّيتْ فاشيةً لأنّها تَفْشُو أي تَظْهُر وتَنْتَشُر ومن هذا فشَا السِّرُّ.
وفي حديث آخر: "إذَا كَانَ اللَيْلُ فَضُمّوا فواشِيَكم" والخَيْل الجَشَرُ ما أُرسِل منها في الرُّطَب أيّامَ الرَّبيع قَالَ الأصمعيُّ يُقالُ مَالٌ جَشَرٌ إذَا كَانَ لا يأوِي إلى أهله وقال غيره الجَشَرُ بُقُولُ الربيع هذا الأصل فيه, فإذا قِيلَ جَشَرْنا الدّوابَّ كَانَ معناه أرسلْناها في الجَشَر. والضُّبُورُ الدّبابات الّتي تُقدَّمُ إلى أصول حِيطان الحُصُون واحدها ضبر.
__________
1 لفائق "فشا" 3/118.
2 أخرجه مسلم في الأشربة 3/1595 بلفظ: "فكفوا صبيانكم" وبلفظ: "لاترسلوا فواشيكم وصبيانكم ... " والإمام أحمد في مسنده 3/312, 386, 395.

(1/677)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرَةٍ إِلَى بَدْرٍ: أَنَّهُ مَضَى حَتَّى قَطَعَ الْخُيُوفَ وَجَعَلَهَا يَسَارًا ثُمَّ جَزِعَ الصُّفَيْرَاءَ ثُمَّ صَبَّ فِي دَقْرَانَ1 حَتَّى أَفْتَقَ مِنَ الصَّدْمَتَيْنِ2.
يَرْوِيهِ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ النُّعْمَانَ الْغِفَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ.
الخُيُوفُ جمع خَيْفٍ. قَالَ الأصمعيُّ: هُوَ ما ارْتفَعَ عَنْ موضع المَسِيل وانحدر من غِلَظ الجَبَل. وجَزَع الصُفَيْرَاء أي قَطَعها عرْضًا3 ولا يكون الجَزْعُ بمعنى القَطْع إلا عَرْضًا ومنه جِزْعُ الوادِي. قَالَ الأصمعيّ هُوَ مُنْعَرجُه بحيث ينعَطِف. وأفتق مَعْناه خَرَج من مَضِيق الوَادِي إلى فتْقٍ من الأَرْض وهو ما انفرج واتَّسَع منها. ويُقالُ أفْتق السّحابُ إذَا انكشف انكشافةً فكانت منه فرجة بين السحابتَيْن. قَالَ ذو الرُّمَّة:
تُريكَ بَياضَ غُرَّتِها ووَجْهًا ... كقْرن الشَمْسِ أفْتق ثُمَّ زالا4
وأراد بالصَّدْمَتْين جانبي الوادي وسُمِّيتَا صَدْمَتيْن لأنّهما لضيق المسلك الَّذِي يَشُقُّهُمَا كأنّهما يتَصَادمان كالجَبَلَيْن المُتَقابلين يُسمَّيان الصَّدَفَيْن5 لأنهما يَتَصادفان ويتلاقَيان ويُقال لناحِيَة الوادي العدوة. قال الشاعر:
__________
1 م: "ذقران" تصحبف والمثبت من س, ت, ح ومعجم البلدان 4/64.
2 أخرجه الواقدي في مغازيه 1/51 بلفظ: "فمضى حَتَّى قَطَعَ الْخُيُوفَ وَجَعَلَهَا يَسَارًا" وليس فيه: "ثم جزع الصفيراء"الخ.
3 ط: عزما "تحريف".
4 الأساس "فتق" والديوان /434 برواية: تريك بياض لبتها ... الخ.
5 س, ط: "الصدمتين" والمثبت من ت, م.

(1/678)


سَقَى الإِلَه عُدُواتِ الوَادِي ... وجَوفَه كُلَّ مُلثٍ غَادِي1
وفي قصّة بَدْرٍ من روايته أنّ رجُلًا من بني غِفارٍ قَالَ أقْبَلتُ وابنُ عَمٍّ لي حتى صَعَدْنا عَلَى حَبْلٍ ونحنُ مُشْرِكان2 عَلَى إحْدَى عُجْمَتي بدرٍ العُجْمَة الشامية ننتظر الوَقْعَة3.
الحَبْلُ من حِبال الرَّملِ وهو قطعة من الرَّمْل ضخمة ممتدة على وجه الأرْض. والعُجْمَةُ من الرَّمْل الجُمهورُ المُتراكم منه يُشرف عَلَى ما حوله.
__________
1 ح: عدوات الهادي "تحريف".
2 كذا في ت, م, ح وفي س, ط: "ونحن مشرفان".
3 أخرجه الواقدي في مغازيه 1/76.

(1/679)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا هَاجَتْ رِيحٌ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلا تَجْعَلْهَا رِيحًا" 1.
حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ السَّدُوسِيُّ ثنا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا أَبِي عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الرَّحِبِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قوله: "اجعَلْها رِياحًا" يريدُ اجْعَلْها لِقاحًا للسحاب, ولا تجعَلْها ريحا.
يُريدُ لا تجعلْها عَذابًا. والعرب تقول: لا تلقح السَّحاب إلا من ريَاحٍ. وقال الأصمعيُّ عَنْ بعض الأعراب إذَا كَثُرَت المُؤتَفِكَاتُ زَكَت الأرْضُ. وتَصديقُ هذا في كتاب الله عَزَّ وجَلَّ وبَيانه ما ذكر ابنُ عباس.
حَدَّثَنَاهُ الأَصَمُّ نا الرَّبِيعُ ثنا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مَنْ لا أتهم, نا العلاء
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 10/153 وعزاه للطبراني وذكره الحافظ في المطالب العالية 3/238 وعزاه لأبي يعلى مسدد.

(1/679)


بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعْنِي آيَةَ الرَّحْمَةِ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 1 قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} 2 وَقَالَ يَعْنِي فِي آيَةِ الْعَذَابِ: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} 3 وَقَالَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} 4.
قَالَ أبو سليمان: والمُؤتفِكاتُ: الرِّياحُ إذَا اخْتَلَفَت وكانت لشِدّتهَا كأنّها تقلِبُ الأرضَ. ومن هذا قولُهم أفَكْتُ الرَّجلَ عَنْ رأيه إذَا صَرفْتَهُ عَنْهُ. ومنه سُمِّي الكَذِبُ إِفكًا لأنّهُ قد قَلِبَ عَنِ الحقّ إلى الباطل. وسُمّيَتْ مَدائنُ قوم لُوطٍ المؤتَفِكاتُ لانْقِلابها. قَالَ الله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} 5.
وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ أنا الصَّائِغُ نا سَعِيدٌ نا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نا حُصَيْنٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَذَكَرَ قِصَّةَ هَلاكِ قَوْمِ لُوطٍ وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ رُفِعَتِ الْقَرْيَةُ حَتَّى كَأَنَّ أَصْوَاتَ الطَيْرِ لَتُسْمَعُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ6 قَالَ: فَمَنْ أَصَابَتْهُ تِلْكَ الآفِكَةُ أَهْلَكَتْهُ.
وَمِنْ هَذَا أَيْضًا حَدِيثُ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَّةِ. حَدَّثَنَاهُ ابْنُ مَالِكٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ نا عَمْرُو بْنُ حُصَيْنٍ الْعُقَيْلِيُّ نا الْفَضْلُ بْنُ الْعَلاءِ الْكُوفِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ محمد بن سعيد بن حنظلة عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "مِمَّنْ أَنْتَ" فَقَالَ: مِنْ رَبِيعَةَ قَالَ: "أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ لَوْلا رَبِيعَةُ لأْتَفَكَتِ الأَرْضُ بِمَنْ
__________
1 سورة الحجر: 22.
2 سورة الفرقان: 48.
3 سورة الذاريات: 41.
4 سورة القمر: 19.
5 سورة الحاقة: 9.
6 م: "تسمع في جو الهواء".

(1/680)


عَلَيْهَا" 1 أَيِ انْقَلَبَتْ بِأَهْلِهَا.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: فَأَمَّا حَدِيثُهُ الآخَرُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى فِي السَّمَاءِ اخْتِيَالًا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ2.
حَدَّثَنَاهُ ابْنُ الزِّئْبَقِيِّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ نا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رِيحًا سَأَلَ اللَّهَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَإِذَا رَأَى فِي السَّمَاءِ اخْتِيَالا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَدَخَلَ وَخَرَجَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ3. فَإِنَّ الاخْتِيَالَ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَهِيَ السَّحَابَةُ الَّتِي يُخَالُ بِهَا الْمَطَرُ. يُقَالُ خَيَّلَتِ السَّمَاءُ وَتَخَيَّلَتْ إِذَا أَرَتْ أَنَّهَا مَاطِرَةٌ والخالُ السحابُ الَّذِي يُخيلُك المَطَر. قَالَ الشاعر:
أتَيْناكَ رُوَّادًا ووَفْدًا وشَامةً ... لخالك خال الصدق يابن الأكارم
__________
1 ذكره السيوطي في الجامع الكبير 2/310 وعزاه لابن عساكر في تاريخه. وفي الفائق "أفك" 1/49 وجاء في الشرح: لانقلبت بأهلها من إفكه فائتفك منه والإفك هو الكذب لأنه مقلوب على وجهه والمعنى: لولاهم لهلك الناس. نزعمون بمعنى تقولون ومفعولها الجملة بأسرها.
2 أخرجه مسلم في صلاة الاستسقاء باب التعوذ عند رؤية الريح 2/616 وأخرجه أحمد بنحوه فيمسنده 6/240.
3 أخرجه مسلم في صلاة الاستسقاء 2/616 وأحمد في مسنده بنحوه.

(1/681)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَيَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَبْعَثُ الله الملك فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد" 1.
__________
1 أخرجه البخاري في مواضع. منها في القدرة 8/152 ومسلم في القدر أيضا 4/2036 والترمذي في 4/446 وأبو داود في كتاب السنو 4/228 وابن ماجه في المقدمة 1/29 وعبد الرزاق في المصنف 11/123.

(1/681)


أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ النَّخْعِيُّ نا مُؤَمَّلُ بْنُ إِهَابٍ نا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قولهُ: يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ تَفْسِيرُهُ عن ابن مسعود حدثنا الأَصَمُّ نا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى أَبُو عُبَيْدَةَ ثنا قَبِيصَةُ نا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ قَالَ قُلْتُ لِلأَعْمَشِ مَا يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي بَشَرِ الْمَرْأَةِ تَحْتَ كُلِّ ظُفْرٍ وَشَعْرٍ ثُمَّ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ تَنْزِلُ دَمًا فِي الرَّحِمِ فَذَلِكَ جَمْعُهَا.

(1/682)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ قَالَ: "وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ" 1.
يَرْوِيهِ الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدِ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ.
الفَزَعُ في كلامهم عَلَى وجْهَيْن أَحدهما بمعنى الرُّعب. يقالُ فَزِع الرجلُ إذَا رعب وأفزعته أي رعَّبْتُه. والآخر بمعنى النُّصَرة والإِنْجاد يُقال فزِعتُ إلى فُلانٍ أي التجأتُ إِلَيْهِ فأفزعَنِي أي نَصَرني ويقال أيضًا فزَعَني قَالَ الشاعر:
فقُلْتُ لَكَأْسٍ أَلجِميها فإنّما ... حَلَلْنا الكَثِيبَ مِنْ زَرودَ لنَفْزَعا2
أي لنغيث.
__________
1 الفائق "فزع" 3/115.
2 البيت في الفائق "فزع" وعزي للكلحبة اليربوعي وفي اللسان والتاج "فزع, زرد" والكلبحة اسم أمه واسمه هبيرة بن عبد مناف وهو في المفضليات 32.

(1/682)


ويُقالُ فَزِعَ الرَّجلُ من نَوْمه أي انتَبَه وأَفْزَعْته إذَا أَنْبَهْتَه. وَمنه الحَدِيثُ أن رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِع من نَوْمه مُحمرًّا وَجْهُه1.
وفي حديثٍ لَهُ آخر: "ألا أَفْزَعْتُموني" 2 يريد ألا أنبهتموني.
__________
1 الفائق" فزع" 3/115 وروي: "نام ففزع وهو يضحك".
2 في الفائق "فزع" 3/155: "ألا أفزعتموني" لأن من نبه لا يخلو من فزع ما.

(1/683)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "سَلِ اللَّهَ الْهُدَى وَأَنْتَ تَعْنِي بِهُدَاكَ هِدَايَةَ الطُّرُقِ وَسَلِ اللَّهَ السَّدَادَ وَأَنْتَ تَعْنِي بِذَلِكَ سَدَادَ السَّهْمِ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا الزَّعْفَرَانِيُّ نا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ عَلِيٍّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "وَأَنْتَ تَذْكُرُ2 مَكَانَ قَوْلِكَ وَأَنْتَ تعْنِي".
معنى هذا الكلام أنّ الرامي لا يَرْمي إلا بالسّهْم الَّذِي قد سُوِّي قِدْحُه وأُصْلِحَ رِيشُه وفُوقُه حتّى يَعْتَدل ويتسَدّد وأنّه مهما قَصّرَ عَنْ شيء من هذا لم يتسدَّد رَمْيُه ولم يَمْض نحو الغرض سَهْمُه فأُمِر الدَّاعي إذَا سأل الله السَّداد أن يُخْطِرَ بباله صِفَةَ هذا السَّهْم المُسَدَّد وأن يُحضرها لِذكْره ليكون ما يسْأل اللهَ منه عَلَى شكلِه ومِثاله وكذلك هذا المعنى في طلب الهُدى جعل هِدايةَ الطُرُق مثَلًا لَهُ إذْ كَانَ الهُداةُ لا يَجُورُون عَنِ القَصْد, ولا يَعْدِلُون عَنِ المحجَّة إنّما يَرْكَبُون الجادَّة ويَلْزَمُون نَهجَها. يَقُولُ فلْيَكُن ما تَؤُمُّه من الهُدى وتَسْلكُه من طرقه كذلك.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 1/134.
2 أخرجه مسلم في كتاب الذكر 4/2090 بلفظ: "اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم" وأوب داو دفي كتاب الخاتم 4/90 بنحوه والإمام أحمد في 1/88, 138, 154 بألفاظ متقاربة.

(1/683)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَ طَبَقَهَا أَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ وَاضِعٌ يَدَهُ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ لِيَتُوبَ بِالنَّهَارِ وَلِمُسِيءِ النَّهَارِ لِيَتُوبَ بِاللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" 1.
حَدَّثَنِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ نا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى نا جَرِيرٌ عَنِ الْعَلاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي مُوسَى.
قوله: يَخْفِضُ القِسْطَ ويرفَعُه يريد بالقِسْط والله أعلم الرِّزقَ الَّذِي هُوَ قسْطُ كلّ أحدٍ وقسْمُه من قُوتِه ومعاشه. فالخَفْضُ تَقْتِيرُهُ وتَضْيِيقُه. والرَّفْعُ بَسْطُه وتَوْسِعَتُه2 يُرِيدُ أنّه مُقدِّر الرّزْق وقاسِمُه عَلَى الحِكمة فيه والمصلحة في مقداره.
وفيه وَجْهٌ آخر وهو أن يكون أراد بالقِسْط الميزانَ قَالَ الله تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3 الآية وسُمّي الميزانُ قِسْطًا لأنّ القِسْطَ العَدْل وبالميزان يقَعُ العَدْلُ في القِسمَة فلذلك سُمِّي الميزانُ قسطا وإنما هذا مثل فيما يُدبِّرهُ من أمرِ الخَلْق ويُنْشِئُه من حكمه ويمضيه من
__________
1 أخرجه ملسم في الأيمان 1/162 وفي 4/2113 وابن ماجه في المقدمة 1/70 والإمام أحمد في 4/395, 401, 404, 405 بألفاظ متقاربة.
2 س: "وتوسيعه".
3 سورة الأنبياء: 47.

(1/684)


مَشِيئَتِه فيهم يَرفعُ قَوْمًا ويضَعُ آخرِين وهو الخافِضُ الرافِعُ العَدْلُ الحكيمُ تَبارك الله ربُّ العالَمِينَ وسُبُحاتُ وَجْهه جَلاله ونُورُه هكذا فسّرُوهُ واللهُ أعلمُ بمعناه.
فأمّا اشتِقاقُه من اللُّغَة1 فمن قولك سبَّحْتُ اللهَ أي نزّهْتُهُ من كُلّ عَيْبٍ وبرّأتُه من كل آفةٍ ونَقْص ويقال إنّ أصلَ التَسْبيح التّبعيد من قولك سَبَّحت في الأرض إذَا تباعدتَ فيها ومنه قوله تَعَالَى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2 قَالَ الأعشى:
أقُولُ لمّا جاءَني فَخرُهُ ... سُبْحانَ من عَلْقَمةَ الفَاخِر3
يَقُولُ مَا أبْعَدَ الفَخْرَ من عَلْقمة.
ومعْنى الكلام أَنَّهُ لم يُطِلْع الخلْقَ من جلال عَظمَته إلا عَلَى مِقْدار ما تُطِيقُه قُلوبُهم وتحتَمله قُواهم ولو أَطْلعَهم على كنه عظمته لانخلعت أَفْئِدتُهم وزهقَتْ أنْفُسهم ولو سَلَّط نُورَه عَلَى الأرض والجبال لاحْترقَتْ وذابت كقوله تَعَالَى في قِصّةِ مُوسَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} 4
وقوله: واضِعٌ يدَهُ لمُسيء النهار يُريدُ أَنَّهُ لا يعاجلُه بالعُقُوبة بل يُمْهلهُ ليَتُوبَ ويرجِع. يقال وضع فُلانٌ يَدَه عَنْ فُلانٍ أي كف عنه.
__________
1 م: "في اللغة".
2 من ت, م والآية في سورة الأنبياء: 23.
3 اليوان /94 برواية:
أقول لما جاءني فجره ... سبحان من علقمة الفاجر
وفجره: مخالفته.
4 سورة الأعراف: 143.

(1/685)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَتْ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِجَدْيَيْنِ مَرْضُوفَيْنِ وَقَدٍّ1.
يَرْوِيهِ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيُّ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيِّ.
المَرضُوفُ والرّضيفُ من اللَّحم المَشْويّ عَلَى الرِّضاف وهي الحجارةُ تُوقَدُ عليها النّار حتى إذَا حَمِيت أَلْقَى عليها اللّحمَ لِيَنْشَوِي وهو الحَنِيذُ وأراد بالقَدّ سِقاءً صَغِيرًا من لَبَن. قَالَ ابنُ السِّكَّيت القَدُّ جِلْدُ السَّخْلةِ الماعزة يقال ما تَجعَل قدك إلى أديمك.
__________
1 أخرجه الواقدي في مغازيه 2/868.

(1/686)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ نَعْلَهُ كَانَتْ مُعَقَّبَةً مُخَصَّرَةً مُلَسَّنَةً1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا أَبُو رَوْقٍ2 نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا هَمَّامٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
المُعقَّبَةُ التي لها عقِبٌ. والمُخصَّرة التي قد قُطِع خَصْراها. والملسَّنةُ يقالُ هي الّتي قد تُركَ لها لِسانٌ. ولِسانُها الهُنَيَّةُ الناتِئَة من مُقَدَّمِهَا. قَالَ الشاعر:
إليكَ امْتَطيْنا الحَضْرَميَّ المُلسَّنَا
وحكى بن ابنُ دُريْدٍ عَنْ يُونُس قَالَ: خَرْثَمةُ3 النَّعْل رأْسُها فإذا لم
__________
1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/478 وجاء فيها قال هشام: رأيت نعل رسول الله ... الخ والحديث في النهاية "لسن, عقب".
2 م: طأبو رويق" كزبير "تحريف" والمثبت من س, ت وفي التقريب 2/24, 423: أبو روق الهمداني هو عطية بن الحارث بفتح الراء وسكون الواو بعدها قاف الكوفي صاحب التفسير صدوق مات بعد المائة.
3 اللسان "خرثم": خرثمة النعل وخرثمتها "بفتح الخاء والثاء وكسرهما": رأسها.

(1/686)


يكن لها خَرْثَمةٌ فهي لَسِنَة ومُلسَّنَة فإذا عَرُضَ رأسُها فهي المُخثَّمة وقال غيره إنّما هي الخِثْرمَةُ. والخِثْرمَةُ أيضًا الدائرة التي عند الأنف وسط الشفة العليا ورواه أبو عُبَيْد عَنِ الأحمر بالحاء غير معجمة1
ومّما جاء في الحديث من نُعُوت أدَاته حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ فِضَّةً2.
وقَبِيعَةُ السَيْف وهي التي عَلَى رأس القائِم. ويُقالُ لها الثُّومَةُ أيضًا.
وفي حديث آخر أنَّ رَوُثةَ سيفِه كانت فِضَّةً3.
وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلاءِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ قِمَاعُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ وَرِقًا4.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن جناح نا إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجُمَحِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي أَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ عَنْ رِجَالٍ ذَكَرَهُمْ قالوا كان لرسول الله سَيْفٌ يُسَمَّى ذَا الْفَقَارِ وَآخَرُ يُقالُ لَهُ الْمِخْذَمُ وَآخَرُ يُقَالُ: لَهُ الرَّسُوبُ5.
المِخْذَمُ القَاطِعُ والخَذْمُ القطع. قال الشاعر:
__________
1 من م.
2 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/487.
3 في النهاية "روث" 2/271: "فسر أنها أهعلاه مما يلي من كف القابض".
4 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5/296 بلفظ: "أقماعه من ورق". يعني رأسه.
5 أخرجه ابن سعد بطوله عن مروان بن أبي سعيد المعلى في الطبقات 1/486.

(1/687)


ولا يَأكُلُون اللّحْمَ إلا تَخذُّمَا
والرَّسُوبُ الماضي أُخِذَ مِن رُسُوب الشيء في الماء إذَا غاب فذهبَ سُفْلًا يُريد أَنَّهُ يَرْسُب في الضَّرِيبة فيغيب فيها قَالَ الهُذَليُّ يَصفُ سَيْفًا:
أبْيَضُ كالرَّجْع رَسُوبٌ إذَا ... ما ثاخ في مُحْتَفَلٍ يَخْتَلِي1
وأراد بالرَّجْع الماء ومن هذا قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} 2 أي ذات المَطَر وكان لبَعضِ الصَّحابَةِ سَيفٌ يُقال لَهُ المِرْسبُ3.
__________
1 اللسان والتاج "رسب, ثوخ" وعزي للمتخل الهذلي وهو في شرح أشعار الهذليين 2/1260.
2 سورة الطارق: 11.
3 من م, ت.

(1/688)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أحلوا لِلَّهِ يَغْفِرْ لَكُمْ" 1.
يَرْوِيهِ مُوسَى بْنُ دَاوُدَ الضَّبِّيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عن عمير بن هانىء عَنْ أَبِي الْعَذْرَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ ابْنُ ثَوْبَانَ أَحِلُّوا يُرِيدُ أَسْلِمُوا.
قَالَ أبو سُليمان: هكذا سِمعْتُه يُرْوَى بالحاء فإن كَانَ محفُوظًا فمعْناه الخُروجُ من خَطر الشِّركِ إلى حِلِّ الإسلام من قولهم أَحلَّ الرجلُ إذَا خرج من الحَرَم إلى الحِلِّ وأحَلَّ في يمينه إذا خرج من عُهْدَتِها بِبّر أو كفَّارة أو استِثْناء أو نحوها وكذلك أَحَلَّ في نَذْرِه قَالَ ذُو الرُّمّة:
أرشّتْ بها عَيْناك حتّى كأنّما ... تُحِلان من سفْح الدُّمُوع بها نذرا2
__________
1 أخرجه أحمد في سمنده 5/199 بهذا السند بلفظ: "أجلوا الله".
2 الديوان /170. وأرشت ورشت: سألت بالبكاء.

(1/688)


وكُلُّ من خرج من حَظْرٍ إلى إباحة فهو مُحِلٌّ وكان عَبْد الله بْن الزُّبَير يُدْعَى المُحِلّ لاستباحته القِتالَ في الحَرَم. قَالَ الشاعرُ يُشَبِّبُ بابنة الزُبَيْر:
ألا مَنْ لِقَلْبٍ مُعَنًّى غَزِلْ ... بذِكْر المُحِلّةِ أُخْتِ المُحِلّ
وقد جاء في بعض الحديث: "مَنْ أحالَ دَخَلَ الجنَّة" 1.
أخبرني أبُو عُمَر أَخْبَرَنَا أبو العَبَّاس ثَعْلَب عَنِ ابن الأعْرابي قَالَ أحالَ يُريدُ أسْلَم. قَالَ أبو سُليمان وليس هذا من الإِحْلال هذا من الإحالة. يُقالُ أحالَ الرجُلُ إذَا تحوَّل من شيء إلى غيره يُريد والله أعلم الانْتِقالَ من دِينِ الكُفْر إلى مِلّةِ الإسلام.
وروى هذا الحديث محمد بْن إسماعيل البُخاريّ عَنْ محمد بْن المُثنّى. عَنْ موسى بْن داود بإسناده سَواء. فَقَالَ: "أَجِلُّوا اللهَ يَغْفرْ لكْم" 2. بالجيم أي أَسْلِمُوا. والتّفسير مَوْصُولٌ بالحديث واللهُ أعلم أيّهُما الصَّحِيح. وقال بَعْضُ أصحابنا يُريدُ بقَوله: أَجِلُّوا اللهَ أي قولوا يا ذا الجلالِ أو آمنوا بالله ذِي الجلال وهذا كما رُوي: "ألِظُّوا بَيا ذا الجلال" 3.
__________
1 الفائق "حول" 1/344. وفي النهاية "حول" 1/463 أي أسلم يعني أنه نحول من الكفر إلى الإسلام.
2 لم أقف عليه في صحيح البخاري ولعله رواه من كتاب آخر له وقد تقدم تخريجه من مسند أحمد وهو في الفائق "حلل" 1/307 برواية: "أحلوا". وروي: "أجلوا".
3 أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات 5/539 والإمام أحمد في 4/177 وفي الفائق "لظ" 3/317. وجاء في النهاية "لظ" 4/252: أي ألزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم.

(1/689)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "المؤمن مكفر" 1.
__________
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/58.

(1/689)


حَدَّثَنَاهُ النَّجَّادُ أنا أَبُو قِلابَةَ الرَّقَاشِيُّ نا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ ثنا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ.
قوله: "المؤمن 1 مُكَفَّر" معناه أنَّهُ مُرَزَّأ في نفسه وأهْلِه وأنّهُ لا يزالُ يُنْكَبُ وتُصِيبُه المكاره فتكون كفّارةً لذنُوبِه.
__________
1 من م, ح.

(1/690)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: "إِنَّ عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَلا تُنَازِعِ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ تُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى 1 بَوَاحًا أَوْ بَرَاحًا" 2.
يَرْوِيهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ. فَقَالَ إِلا أَنْ تُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ بَوَاحًا قَالَ مَعْمَرٌ وَسَمِعْتُ جَعْفَرًا الْجَزْرِيَّ يَذْكُرُ نَحْوَ هَذَا إِلا أَنَّهُ قَالَ: بَرَاحًا.
قولُه: بَواحًا يريدُ ظاهرًا باديًا. ومنه قولهم باحَ بالشيء يَبُوح بِهِ بَوْحًا وبُوحًا3 إذَا أذاعَه وأظهَره. والبَراح مثله أو قريبٌ منه. وأصل البراح الأرض القفر الّتي لا أنيسَ بها ولا بِناءَ فيها. قَالَ الشاعرُ:
وقد أَجُوبُ البلدَ البَراحا ... المَرْمَرِيسَ القفْرَةَ الصَّحْصَاحا4
وأخبرني أبو عُمَر أنا أبو العباس ثَعْلب عن ابن الأعرابي قَالَ: يُقالُ: لَقِيتُه صَرْحةً بَرْحَةً أي لَقِيتُهُ ظاهرًا بَاديًا.
__________
1 من م, ح.
2 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11/331. وأخرجه البخاري في الفتن 9/59 ومسلم في الإمارة 3/1470 والإمام أحمد في 5/314, 321 بألفاظ متقاربة
3 م: "وبواحا" وفي القاموس "بوح": باح بسره بوحا وبؤوحا وبؤوحة: أظهره كأباحه.
4 المرمريس: الأملس والصحاح: مااستوى من الأرض "اللسان: مرس, صحح".

(1/690)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: هُوَ قَانِتٌ فَقَالَ لَهُ: "اذْكُرِ اللَّهَ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ المسيب.
القنوت السكوت هاهنا وكان هذا الرجل قد نَذَر أن يقُومَ في الشَّمس ساكتًا لا يتكلم فأمره أن يذكر الله وأن لا يَسْكتَ عَنِ الخير.
وَأَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ نا الصَّائِغُ نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ثنا هُشَيمٌ أنبا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ نا الْحَارِثُ بْنُ شُبَيْلٍ2 عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاةِ يُكَّلِمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ إِلَى جَنْبِهِ بِحَاجَتِهِ فَنَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 3 فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلامِ4.
والقُنُوتُ في أشْياء غير هذا منْها الطاعة ومنها القيام ومنها الدعاء.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8/439.
2 في التقريب 1/141: الحارث بن شبيل بالمعجمة والموحدة مصغرا البجلي أبو الطفيل ثقة.
3 سورة البقرة: 238.
4 أخرجه مسلم في كتاب المساجد 1/383 والترمذي في التفسير 5/218 وغيرهما.

(1/691)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلا قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "لا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلامُ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ قُلْ السَّلامُ عَلَيْكَ" 1.
حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ أيوب ثنا مسدد ثنا
__________
1 أخرجه أبو داود في الأدب 4/353 والترمذي في الاستئذان 5/72 وغيرهما.

(1/691)


يَحْيَى عَنْ أَبِي غِفَارٍ حَدَّثَنِي أَبُو تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيُّ عَنْ أَبِي دُرَيْدٍ أَوْ أَبِي جُرِّيٍّ وَهُوَ الصَّوَابُ.
قَوْلُهُ: "عَلَيْكَ السَّلامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ" إِنَّمَا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ تَجْرِي عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فِي تَحِيَّةِ الْمَوْتَى وَإِخْبَارٌ عَنْ مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَى جِهَةِ الأَمْرِ بِهِ وَالتَّعْلِيمِ فِيهِ أَلا تَرَاهُ يَقُولُ حِينَ دَخَلَ الْمَقْبُرَةَ: "السَّلامُ علَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ ثنا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ذَلِكَ فَجَعَلَ التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَوْتَى كَهُوَ عَلَى الأَحْيَاءِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتْ تَحِيَّةَ الْمَيِّتِ قَدَّمَتِ اسْمَهُ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّسْلِيمِ وَهُوَ بَيِّنٌ فِي الْكَلامِ وَالشِّعْرِ قَالَ عَبْدَةُ بْن الطَّبيب:
عليكَ سَلامُ الله قَيسَ بْن عَاصمٍ ... ورحمتُه إن شَاءَ أن يَتَرَحَّما2
وقال الشَّمّاخُ:
عليك سلامٌ من أميرٍ وبَاركت ... يدُ الله في ذَاك الأَدِيم المُمزَّق3
وكانت إذَا أرادت تحيّة الحَيّ قدّمَتْ لفظَ السّلام كقَوْل لَقِيط الإيادي حين كتب إلى قومه يُنذرهم بِكِسْرى:
__________
1 أخرجه أبو داود في الجنائز 3/219 وأحمد في مسنده 2/300, 375, 408 وغيرهما.
2 اللسان "سلم" دون عزو.
3 اللسان "سلم" دون عزو والديوان /488 برواية: "جزى الله خيرا من أمير وباركت".

(1/692)


سَلامٌ في الصّحِيفَةِ من لقيطٍ ... إلى مَنْ بالجزيرة من إيادِ
بأنَّ اللّيْثَ كِسْرَى قد أتاكُم ... فلا يَحْبِسْكُمُ سُوقُ النِّقَاد1
وكقول بعض الأعْراب لابنه وقد بعث بِهِ إلى بعض الأمراء يستميحهُ:
إذَا جِئتَ الأميرَ فقُلْ سَلامٌ ... عليكَ ورحْمَةُ اللهِ الرَحِيم
وهكذا هُوَ في كلّ دُعَاء بخَيْر وبه نطق كتاب الله جل وعز فَقَالَ: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} 2 {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} 3. وقال في قصَّة إبراهيم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} 4. فأما الدُّعَاء بالشَّرّ فقد جَرتْ عادتُهم فيه بتقديم اسمِ المَدعُوِّ5 عَلَيْهِ غالبًا6 كقولك: عَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وعليه غضَبُ الله. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} 7. وقال في قصّة المُلاعَنةِ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 8 قال {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} 9 وقال زُهَيْر بْن أَبِي سُلْمى:
تحمَّل أهْلُها عنها فبادوا ... عَلَى آثار ما ذهب العفاء10
__________
1 الديوان /35, 36.
2 سورة الصافات: 130. وهي قراءة نافع وابن عامر. وأما قراءة باقي القراء فهي "إلياسين" بكسر الهمزة وإسكان اللام الكشف عن وجوجد القراءات 2/227.
3 سورة الصافات: 120.
4 سورة هود: 73.
5 ط: "اسم المدعى عليه".
6 من م.
7 سورة ص: 78.
8 سورة النور: 9.
9 من م. والآية في سورة التوبة: 98.
10 الديوان /58 برواية: "فبانوا" بدل "فبادوا".

(1/693)


ومِثْلُ هذا في الكلام كثير.
وفي التّسْليم لُغتان. يُقالُ سلامٌ عليْكم والسَّلامُ عليكم. وَوُقوعُ الألف واللامِ فيه بمعنى التَّفْخِيم.
أخبرني الرهني أخبرني ابن كيسان قَالَ: دُخول الألف واللام في الأَسماء عَلَى ثلاثة معانٍ للتّعريف والتَّجْنِيس والتَّعْظيم. فالتَعْريفُ كقْولك: الرجلُ والمرأةُ. والتَّجنيسُ. كقولك: الشَّاءُ خَيرٌ من الإبل والذَّهَبُ. خَيْرٌ من الفِضّة. والتّعظيمُ كقولك: حَسنُ بْن علي وعبّاس بْن عَبْد المطّلب. ثُمَّ تَقُول الحَسَن بْن عَليّ والعباس بن عبد المطلب.
فيه لغةٌ ثالثةٌ. قَالَ الفرَّاء تقولُ العربُ سِلْمٌ. بمعنى سَلام كما قَالُوا حِلّ وحلالٌ وحِرْمٌ وَحَرامٌ. قَالَ وأنشدني بَعْضُ العرب:
وقَفْنا فقُلْنا إِيهِ سِلْمًا فَسَلَّمَتْ ... كما انكلَّ بالبْرق الغَمامُ اللوَائحُ1
وكانوا يستحسنون أن يقولوا في أوّل الكلام سَلامٌ عليك بمعنى التحيّة وفي آخره السَّلام عليك بمعْنى الوَدَاع الأَوّل كقَوْلِ ذِي الرُّمّة:
أمَنْزِلَتَيْ مَيٍّ سَلامٌ عليكما ... هل الأَزْمُن الَّلائي مَضْينَ رواجِعُ2
والآخر كقول جَرِير:
يا أُختَ ناجِيةَ السّلامُ عليكمُ ... قبْل الرَّحيل وقبل لَوْم العذَّل3
وقال الشافعيُّ: فيما رَوَى الرّبيعُ بْن سُليمان عَنْهُ في تسليم المُصَلّي: أقلُّ ما يكفي المُصَلّي من تسليمه أن يَقُولُ: السَّلامُ عليكم فإن نَقَص من هذا
__________
1 اللسان والتاج "كلل" وعزي لأبي ذؤيب. ولم أقف عليه في شرح أشعار الهذليين.
2 الديوان /332.
3 الديوان /443 برواية: ياأم ناجية ... الخ.

(1/694)


حَرفًا عاد فسلَّم. قَالَ أبو سليمان: فيُشبُه عَلَى هذا أن يكون السلامُ في مذهبه اسمًا من أسماء الله تَعَالَى فلذلك لم يَرَ حذف الألف والّلام جَائزًا.
ويَشَهْدُ لِذَلِكَ1 حَدِيثٌ أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نا بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ السَّلامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَفْشُوهُ بينكم" 2.
__________
1 ح: "ويشهد لك". تحريف.
2 أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11/131.

(1/695)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَليٍّ: "أَنْتَ الذَّائِدُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الصَّادُ" 1.
يَرْوِيهِ سَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ عَنْ حَرَامِ2 بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ3.
البعير الصّادُ هُوَ الَّذِي بِهِ الصَّيَدُ وهو داءٌ يأخذ في الرأس لا يقدرُ من أجله أن يَلْوِيَ عُنقَه وبهيشبه ذُو الكِبْر فيقالُ رَجُلٌ أَصْيَدُ إذَا كَانَ من كِبْره لا يلتفِت إلى أحدٍ ويقالُ إنّه داءٌ يأخذ في العينين والشُؤُون4 يقالُ بَعِيرٌ أَصْيَدُ وبه صَيَدٌ كما يقال: أجيدُ وأغيدُ من الجيد والغيد
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 9139 بلفظ: "أنا أذود عن حوض رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كما تذوة السقاة غريبة الإبل عن حياضهم" وعزاه للطبراني في الأوسط وذكر الحافظ في ترجمة: حرام بن عثمان عن جابر: " ... إنك لذواد عن حوضي ... " الخ لسان الميزان 2/183.
2 ط, ح: حزام "تصحيف" وفي لسان الميزان 2/182: حرام بن عثمان الأنصاري المدني. وفي المشتبه للذهبي 1/214: حرام. فتح الباء.
3 من ح, م.
4 ساقطة من ح.

(1/695)


وقال ابن السكيت الصَّادُ والصَّيَد داء يصيب الإبل في رؤوسها فيسيل من أنوفها مثلُ الزَّبَدِ وتسمو عند ذلك برؤوسها1
وتقرير قوله: "بَعيرٌ صَادٌ" تقدير قوله: رَجُلٌ مَالٌ أي ذُو مالٍ وكبْشٌ صافٌ أي ذو صوفٍ ومثله يومٌ راحٌ ذو ريحٍ شديدة والأصل رائحٌ ويوم طانٌ أي كثير الطين وكما خَفَّفوا الحائجة فقالوا حاجة2 يقال صَادَ البَعيرُ يَصادُ كما قَالُوا عَار بَصرُهُ يعارُ ولغةُ أهل الحجاز صَيِدَ البَعير يَصْيَدُ وعَوِرَ يَعْوَرُ يُثْبتون الألف والياء فهو صايِدٌ بلا هَمْزٍ وعاوِرٌ.
قَالَ المبرّدُ كُلّ فعْلٍ من الثلاثة ممّا عَيْنه ياء أَوْ واو إذَا كانت معتلةً ساكنة نحو قَالَ يقُولُ وباعَ يَبيعُ وخافَ يخافُ وهابَ يُهابُ فإن موضعَ العيْن منه يُهْمَز نحو قائلٍ وخائفٍ وَبائع فإن صحَّت العَيْنُ من الفعل صحَّت من اسم الفاعِل نحو عور فهو عاوِرٌ وصيدَ البعيرُ فهو صايدٌ غدا3.
__________
1 من م, ت.
2 من ت, م.
3 من م, ح.

(1/696)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلا مِنَ الْجِنِّ أَتَاهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِإِفْسَادِ الطَّعَامِ وَقَطْعِ الأَرْحَامِ وَإِنِّي تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: "بِئْسَ لَعَمرُو اللَّهِ عَمَلُ الشَّيْخِ الْمُتَوَسِّمِ وَالشَّابِّ الْمُتَلَوِّمِ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ أَبَانٍ الْبُنْدَارِ
__________
1 أخرجه العقيلي في الضعفاء في ترجمة إسحاق بن بشر الكاهلي لوحة 48-ب وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 1/207 وابن كثير في السيرة النبوية 4/185 بطوله وغيرهم.

(1/696)


نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ نا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ.
الشَيْخُ المُتَوسّم هُوَ المُتحَلّي بِسمَةِ الشيوخ. والشابُّ المُتلَوّم هُوَ المتَعرّض للأّئمةِ بالفعل القبيح. يقالُ تَلَوَّم الرجُلُ إذَا تعرَّض لِلائمة كما يُقالُ تحمّد من الحمد ومثْله تجبب وتودَّد.

(1/697)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "طَلاقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقَرْؤُهَا حَيْضَتَانِ" 1
حَدَّثَنَاهُ ابْنُ السَّمَّاكِ نا أَبُو قِلابَةَ الرُّقَاشِيُّ نا أَبُو عَاصِمٍ ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ ثُمَّ لَقِيتُ مُظَاهِرًا فَحَدَّثَنِي بِهِ.
قوله: قَرْؤُها حيضتان أَصلُ القَرْءِ الوَقْتُ. قَالَ الأصمعيّ: يقالُ رجع فُلانٌ لِقَرْئه وقارئه أي رجَع لِوقْتِهِ المَعْلُوم قَالَ الشاعر:
كَرهْتُ العقْرَ عَقْرَ بَني شُلَيْلٍ ... إذَا هَبَّتْ لِقَارِئها الّرياحُ2
فالقَرءُ زمانُ العِدَّة ولذلك وقع هذا الاسمُ مُشْتَركًا بين الحيْض والطُّهْر لأنّهم إنّما اعتبروا وقت معاودتهما وكلاهما يتعاقبان عَلَى مَرِّ الأيّام لِميقَاتٍ مَعْلوم.
وقد يحتجُّ بهذا الحديث مَنْ يَرَى العِدَّة بالحيض ومن لا يَرَى الطَّلاق معتبرًا بالرجل إلا أنَّ أهْلَ الحديث يُضَعّفُونَه.
__________
1 أخرجه أبو داود في الطلاق 2/257 والترمذي في 3/479 وابن ماجه في 1/673 وغيرهم.
2 اللسان والتاج "عقر" دون عزو.

(1/697)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ قِبْطِيًّا يَتَحَدَّثُ إِلَى مَارِيَةَ فَأَمَرَ عَلِيًّا بِقَتْلِهِ قَالَ عَلِيٌّ: فَأَخَذْتُ السَّيْفَ وَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآنِي رَقِيَ عَلَى شَجَرَةٍ فَرَفَعَتِ الرِّيحُ ثَوْبَهُ فَإِذَا هُوَ حَصُورٌ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "إِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ" 1.
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ نا ابْنُ أَبِي قُمَاشٍ نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ نا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
الحَصُور الَّذِي لا يأتي النساء وهو المْجبوُبُ في هذا الحديث سُمّي حَصُورًا لأنّه حُصِرَ عَنِ الجِماع أي حُبِس عَنْه ومُنِع منه جاء عَلَى وَزْن فَعُولٍ ومعناهُ مفعول كما قَالُوا شاةٌ حَلُوبٌ وفَرسٌ رَكوُبٌ
قَالَ الله تَعَالَى: في قصّة يحيى {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} 2.
قَالَ سفيان بْن عُيَيْنَة خُلِق يحيى من غير شَهْوة فجاء بغير شهوة يُريدُ أنّ خَلْقَه كَانَ آيةً من آيات الله لم يكُنْ عَنْ شهْوة بشريّة ألا تَراه يَقُولُ: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} 3 الآية.
وقوله: شفاء العِيّ السُؤَالُ فإن العي هاهنا الجَهْلُ. يُقَالُ عَيَّ الرَجُلُ بأَمْرِه يَعْيَا عِيًّا إذَا لم يَهْتَدِ لَهُ قَالَ الشاعر:
عَيُّوا بأَمرهُم كما عيت ... ببيضتها الحمامه4
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 4/329 بلفظ: "فإذا هو أجب أمسح ماله من قليل ولا كثير" بدل "فإذا هو حصور" ولم يذكر الجملة الأخيرة وعزاه للبزار.
2 سورة آل عمران: 39.
3 سورة آل عمران: 40.
4 اللسان والتاج "عيي" وعزي لعبيد بن الأبرص وهو في ديوانه /126.

(1/698)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ أُخْتَ شَدَّادِ بْنِ قَيْسٍ بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ عِنْدَ فِطْرِهِ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ مَرْثِيةً لَكَ مِنْ طُولِ النَّهَارِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ1.
حَدَّثَنِيهِ ابْنُ مَالِكٍ نا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ نا الْهَيْثَمُ نا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ.
هكذا قَالَ مَرثِيةً والصّواب مَرثَاةً2. يقالُ: رثَيْتُ للحَيّ وهو أن يقع في مكروه فتوجعتُ لَهُ أرثي لَهُ رَثْيًا ومَرْثاةً ورثَيْتُ الميّتَ أرثيه مَرثيةً وهو أن تبكيه وتَذكُرَ محاسنَه.
أخبرني أَبُو رَجَاءٍ الْغَنَوِيُّ نا أَبِي حدثني أبو أيوب سليمان بْن أيوب قَالَ: قِيلَ للِكُمَيت لِمَ لم تَرْثِ أخاك فَقَالَ إنّ مرثيته لا ترد مرزيته.
__________
1 أخرجه أحمد في كتاب الزهد /398 وابن الأثير في أسد الغابة 7/359 وغيرهما.
2 في القاموس والتاج "رثى": رثيت الميت رثيا ورثاية بكسرهما ومرثاة ومرثية مخففة وعلى الأخير اقتصر الجوهري.

(1/699)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تَبَقَّه وَتَوَقَّهْ" 1.
حَدَّثَنَاهُ جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ2 نا قَاسِمُ بْنُ محمد بن حماد نا أبو بلال الأَشْعريّ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَبْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قوله: "تَبقَّهْ " يُريدُ استبقِ نَفْسك ولا تُعرّضْها للتَّلَف وتوقَّهْ أي تحَّرز من الآفات وتَباعَد من المَهالك والمعاطِب. وهذا خلافُ قول من يزعم أن
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 8/98 بلفظ: "تنقه وتوقه" وقال: رواه الطبراني في الصغير والكبير وقال: معنى هذا عندنا "والله أعلم" تنق الصديق واحذره.. وفي الفائق "بقى" 1/122. والنهاية "وفى" 5/217.
2 القاموس "خلد": وجعفر الخلدي غير منسوب إليه بل لقب له.

(1/699)


التَّوكَّلَ إنّما هُوَ في الاستسلام وتَركِ الحَذَر والتَّوقّي ولا يرى أنّ للأمور عِلَلًا وأَسْبابًا قد تعبدّنا اللهُ بمراعاتها واستأثر بعلم الغيب فيها وقد مَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهدفٍ مائلٍ فأسرع المَشْي وقال: "كَرِهْتُ مَوتَ الفَوات" 1.
وأخبرني العنبَريّ نا ابْنُ أَبِي قُمَاشٍ ثنا ابْنُ عائشة ثنا حَمّاد بْن سَلَمة عَنْ ثابت قَالَ قَالَ مُطرِّفُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيِّرَ لَيْسَ ينبغي لأحدنا أن يَصْعدَ فوق بَيْتٍ فيتردَّى منه ثُمَّ يَقُولُ هكذا قضي عليّ ولكن يحتَرِز ويَحْتاطُ فإن أصابه شيء علم أنّه من قدَر الله تعالى.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة في 2/356 بلفظ: "بجار أو حائط مائل" بدل "بهدف" وذكره الهيثمي في مجمعه 2/318 وعزاه لأحمد وأبي يعلى. وفي النهاية لابن الأثير "فوت" موت الفوات أي موت الفجأة من قولك فاتني فلان بكذا أي سبقني به.

(1/700)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينِ: أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَاقُوا الإِبِلَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً فَأُتِيَ بِهِمْ فَأَمَرَ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ يَكْدِمُ الأَرْضَ بِفِيهِ حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ نا حَمَّادٌ أنا ثَابِتٌ وَقَتَادَةُ وَحُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ.
القافةُ جَمع قائفٍ وهو الَّذِي يقوف الآثار ويتتبَّعُها. قَالَ الأصمعي: يقالُ فلانٌ يَقُوفُ الأَثر ويقتافُه ويقتفِره. قَالَ والتَّأبِينُ مِثلُه قَالَ أَوس بن حجر.
__________
1 أخرجه أبو داود في الحدود 4/130 والبخاري في مواضع بألفاظ متقاربة منها في المحاربين 8/202 ومسلم في 3/1296 والنسائي في 17/93-98 والإمام أحمد في 3/287, 290 وجاء في النهاية "سمل" 2/403: وسمل أعينهم باللام وجاء كذلك في الشرح وهما روايتان.

(1/700)


يقول له الراؤون هَذاكَ راكِبٌ ... يُؤبِّنُ شَخْصًا فوق علياء واقف1
وقوله: يَكْدِمُ الأرضَ أي يَقْبِضُ عليها بأسْنانه يُقال كدم وكزَمَ وأزَمَ وعَزمَ بمعنى عَضَّ. والعرب تَقُولُ ما بَقِي من مرعانا إلا كُدَامَة أي بَقِيَّةٌ تكدِمُها المالُ بأسنانها ولا يشبَع منها2.
وقد تكلَّم العُلماءُ في هذا وفي أمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسَمْل أعيُنهم. قَالَ ابنُ سِيرِين إنّما فعل ذَلِكَ قبل نُزولِ الأَحكام في الحُدُود وقبل تحريم المُثْلَة. وقال أبُو الزِّناد لمَّا فعَلَ النبي عليه السلام ذلك عاتبَه اللهُ فأنزل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 3 الآية.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ بِهِمْ لأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ وَقَتَلُوهُمْ4.
حَدَّثَنِيهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ نا ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ لا يَحْضُرُنِي ذِكْرُهُ يُرِيدُ أَنَّهُ جَازَاهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمُ امْتِثَالا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 5.
وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ نا الصَّائِغُ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ الْعُرَنِيِّينَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مَجْهُودِينَ مَضْرُورِينَ قَدْ كَادُوا يهلكون فأنزلهم
__________
1 ك: "راقب" بدل "واقف" وفي اللسان "ابن" يصف حمارا برواية: "وقف". وحكى ابن بري قال: روى ابن الأعرابي يوبر قال: ومعنى يوبر شخصا: أي ينظر إليه ليستبينه والبيت في الديوان /69.
2 من م.
3 سورة المائدة: 33.
4 أخرجه مسلم في 3/1298.
5 سورة النحل: 126.

(1/701)


عِنْدَهُ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُنَحِّيَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَأَخْرَجَهُمْ إِلَى لِقَاحٍ بِفَيْفَاءَ الخبار1 من وراءه الْحِمَى فِيهَا مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ اسْمُهُ يَسَارٌ2 فَقَتَلُوهُ ثُمَّ مَثَّلُوا بِهِ وَاسْتَاقُوا اللقاح. وذكر الحديث بطوله.
__________
1 في جميع النسخ: بفيقار الخبار "تحريف" وفي معجم البلدان "الخبار, فيفاء" فيفاء الخبار أو فيف الخبار. وقال ابن اسحاق: فيفاء الحيار قال الحازمي: كذا وجدته مضبوطا بخط أبي الحسن بن الفرات بالحاء المهملة والياء المشددة والمشهور الأول.
2 كذا في س. ط, م, ح وفي ت: "سيار".

(1/702)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسَدَّدَ لَيُدْرِكُ دَرَجَةَ الصُّوَّامِ الْقُوَّامِ 1 بِآيَاتِ اللَّهِ بِحُسْنِ ضَرِيبَتِه" 2.
حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ أنا ابْنُ الْجُنَيْدِ عَنْ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ3 حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن يزيد عن ابن حجيرة الأَكْبَرِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ4: "الضَّرِيبَةُ الطَّبِيعَةُ". قَالَ زُهَيْرٌ:
ومِنْ ضَرِيبَتِه التَّقْوَى ويَعْصِمُه ... من سيىء العَثَراتِ اللهُ والرَّحِمُ5
قَالَ الأصمعيُّ: وكان أبُو عَمْرو بْن العلاء يُنشِده. والرُّحُم بالضمّ والرُّحْمُ6: الرَّحْمَةُ.
__________
1 م: "الصوام القوام" بفتح الصاد المشددة وبفتح القاف والمثبت من س, ت.
2 أخرجه أحمد في مسنده 2/177, 220 بلفظ: "بحسن خلقه وكرم ضريبته".
3 م: "عن أم لهيعة". وفي التقريب 2/524 ابن لهيعة هو عبد الله.
4 من ت.
5 الديوان /162.
6 م: "والرحم" عبى وزن كتف. وفي القاموس "رحم": الرحمة ويحرك الرقة والمغفرة والتعطف كالمرحمة بالضم وبضمتين والفعل كعلم.

(1/702)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَسْمَاءَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِمَةً مُشْرِكَةً أَفَأَصِلُهَا قَالَ: "نَعَمْ فَصِلِي أُمَّكِ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ دَاسَةَ نا أَبُو دَاوُدَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ نا هِشَامُ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ.
قَولُها راغمة أي كارهةً لإسْلامِي وهجْرَتِي. وقال بعضُ أصحابنا معناه هاربةً من قومها واحتجّ بقول الله جل وعز: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} 2. وأنشد للْجَعْدي:
وكان زِيادٌ ثِمالًا لنا ... ونَعْشًا كفى غيْبَةَ الغُيَّب
كَطَوْدٍ نَلُوذُ بأَكنافِه ... عَزِيزَ المُراغَمِ والمَهْرَب3
وقال أبو سليمان: ولو كَانَ أراد هذا المعنى لقال مُراغِمةً لا راغمة وكان أبو عَمْرو بْن العلاء يتأوّل قولَه تَعَالَى: {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً} 2. عَلَى غير هذا المعنى.
أخبرني أبو محمد الكُرانيّ نا عَبْد اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْمِنْقَرِيُّ نا الأَصْمَعِيُّ قَالَ قَالَ أبو عمرو بن العلاء في قوله: يَجِدْ في الأرض مُراغمًا كثيرًا. الخرُوجُ عَنِ العَدُوّ يُرغِمُ أنفَه.
وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا سَعْدَانُ نا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: سَأَلتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ أَتَتْنِي أُمِّي وهي راغبة أفأعطيها قال:
__________
1 أخرجه أبوداود في الزكاة 2/127.
2 سورة النساء: 100.
3 الديوان /33.

(1/703)


"نَعَمْ فَصِلِيهَا" 1. هَكَذَا قَالَ رَاغِبَة من الرغبة. وأصل الرّغْبة الحرصُ والسّؤال ومن هذا قول الدَّاعِي اللهم إنّي أرغَبُ إليك في كذا أي أسألك بحِرصٍ وفاقَةٍ2.
__________
1 أخرجه البخاري في مواضع منها في 8/5 ومسلم في الزكاة 2/696 وأحمد في 6/344, 347, 355.
2 من م, ت.

(1/704)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا فِي الْمَسْجِدِ يَقُولُ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الأحمر فقال: "لا وجدت لاوجدت" 1.
حَدَّثَنِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا نا ابْنُ الْجُنَيْدِ نا سُوَيْدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ.
قَولُه: مَن دعَا إلى الجَمل الأحمر يريدُ من وَجدَ الجَمل فدَعَا إِلَيْهِ صاحبَه ليردَّه عَلَيْهِ وقد نَهى عَلَيْهِ السلام أن تُنْشَدَ الضَّالَّةُ في المسجد2 فلذلك قال: "لاوجدت".
__________
1 أخرجه مسلم 1/397 بدون تكرار: "لاوجدت" وابن ماجه في المساجد 1/252.
2 أخرجه ابن ماجه 1/252.

(1/704)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَعْرَابِيًا جَاءَهُ فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ". قَالَ: أَوَ لَيْسَا وَاحِدًا قَالَ: "لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا. وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا. وَالْمَنِيحَةُ الْوَكُوفُ وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ" 1.
حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثنا سُوَيْدٌ أنا ابن
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 4/299 والطحاوي في مشكل الاثار 4/2.

(1/704)


الْمُبَارَكِ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي طَلْحَةُ الْيَامِيُّ1 حَدَّثَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ.
قوله: أقصرتَ الخُطْبة أي جئتَ بها قصيرةً. يُقالُ أَكبرَ الرَّجُلُ إذَا جاء بالكبيرة وأَصغَر إذَا جاء بالصَّغيرة ومثله أذكرتِ المرأةُ إذَا جاءت بولَدٍ ذكَرٍ وآنثَتْ إذَا جاءت بأنثى وأَدْهَت إذَا جاء وَلَدُها دَاهِيًا وأحمقَتْ من الحُمْق وأكاسَتْ من الكَيْس قَالَ الشاعر:
فلو كُنتُمْ لِكَيِّسَةٍ أَكاسَتْ ... وكَيْسُ الأُمِّ للبَنِينَا2
وكذلك قوله: أعرَضْت المسألةَ معناه جئتَ بها عَرِيضَةً. والعَرْضُ عند العرب السَّعَةُ. قَالَ الله تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} 3.
يريد واللهُ أعْلَمُ سَعتها دُونَ العَرْض الَّذِي هُوَ خِلافُ الطُّول قَالَ الشاعر:
كأَنَّ بِلادَ الله وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الخائِفَ المَطلوب كِفّةُ حابِلِ4
وقال مالك بْن الرَّيْب:
ولا تَحْسدَاني بارك اللهُ فِيكُما ... عَلَى الأرضِ ذَاتِ العَرض أنْ تُوسِعَا لِيَا5
وأَفْعَلَ ينصرف في الكلام عَلَى وجوهٍ. يُقالُ: أفعلت الشيء6 بمعنى
__________
1 س: عيسى بن عبد الرحمن بن طلحة اليامي والمثبت من ت, ط, م. وانظر التقريب 2/99, 1/379.
2 اللسان "كيس" برواية:
فلو كنتم لمكيسة أكاست ... وكيس الأم يعرف البنينا
وعزي لرافع بن هريم.
3 سورة آل عمران: 133.
4 اللسان والتاج "كفف". والكامل للمبرد 3/131.
5 خزانة الآداب 1/319.
6 م: "أفعلت الرجل".

(1/705)


عرضته للفعل كقولك أَقتَلْتُ الرِّجُلَ إذَا عرَّضْتَهُ للقَتْل وتكونُ أفعلتُ بمعنى أصابني ذَلِكَ كقولك: أقحَطْتُ1 من القَحْط وأَسْنَتُّ من السَّنة ويكون أفعل بمعنى حانَ ذَلِكَ منه2 كما قِيلَ أَركبَ المُهْرُ وأقْطفَتِ الثَّمرةُ. ويكون أَفعلْت الشيء بمعنى وَجَدْتُه كذلك كقولك أحْمَدْتُ الرَجُلَ إذَا وجَدْتَهُ مَحمودًا وأَبْخَلْتُه إذَا وَجْدتَه بخيلًا.
وأما قوله: "أعتقِ النَّسمة وفُكَّ الرَّقَبَةَ" وسُؤالُ الأعرابي مُسْتَفْرِقًا3 بينهما فقد سبق من بيانه ما وقع به الفصْلُ بينهما لمن تأَمَّلَهُ وإيضاحُ ذَلِكَ أنّ الإعتاق في كلام العرب إنهاءُ الشيء غايَتَه.
أخبرني أَبُو عُمَرَ أنا أَبُو الْعَبَّاسِ ثعلب عن ابن الأعرابي قَالَ: تَقُولُ: العرب للشيء إذَا بلغ الغاية قد عَتَقَ قَالَ: وقال أعرابي: هذا أَوانُ عَتَقَت الشَّقْراء أي سبقتْ ومعناهُ بلغَتْ غاية الشأْو. قَالَ ويُقالُ: جَاريةٌ عاتِقٌ إذَا أَدْرَكتْ مَدْرَكَ النّساء. وإعتاق النسمة: حقيقته إعتاق ذي النَّسَمة والنَّسَمة النفس وسميت نسمة لتنَسُّمها الريح4.
فإِعْتاقُ النّسَمة إنّما هُوَ إطْلاقُها من المِلْكِ وتخليصُها من الرّق وأما الفَكُّ فإنّما هُوَ كالحل والفَتح. يقالُ فَكَكْتُ يدَ الرّجُل إذَا فتحْتَها عمَّا فيها وسَقَطَ فُلانٌ فانفكّت رجْلُه أي انخلعَت من غير أن تبين من المِفْصَل فالفَكُّ عَلَى هذا إنّما يكون بمنزلة الإرخاء من الوَثاقِ والتَّنْفِيس عَنْهُ وهو معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا": أي تُعينَ غَيرَك فتُشَاركَه فيها ليس بأن تنفرد بها
__________
1 م: "أقحط من القَحْط وأَسْنَتُّ من السَّنة".
2 من م.
3 كذا في س, ت, م, ح وفي ط: "متفرقا".
4 من م.

(1/706)


وفي هذا من الفقْه أنّ الكلمةَ من خطابِ الشريعةِ إذَا أمْكن حملُها عَلَى الإفادة لم تُحْمَلْ عَلَى التَّكرار والإعادَةِ ولذلك طالبه الأعرابيُّ بالفرق بينهما وراجعه الكلامَ فيهما والمنيحةُ الوَكوفُ وهي الغَزيرة التي يَكِفُّ دَرُّها أي يقْطُر. والفَيءُ عَلَى ذي الرَّحِم الكاشح العَطْفُ عَلَيْهِ والرُجُوعُ إلى بِرِّه.

(1/707)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الأَرْضِ" 1.
حَدَّثَنَاهُ الصَّفَّارُ نا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّرَقُّفِيُّ نا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الدِّمَشْقِيُّ نا الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ.
معنى الظِّلّ العِزُّ والمَنَعَة قَالَ الشاعرُ:
فلوْ كُنْتَ مَوْلَى الظِّل أوْ في ظِلاله ... ظَلَمْتَ ولكن لا يَديْ لك بالظُّلْم
أي لو كنتَ ذا عِزٍّ أوْ في ظلال ذي عزة.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون أراد بالظِّلّ السِّتْرَ كما يَقُولُ القائلُ للرجل الشَّريف: أنا في ظلِّك أي في سِتْرك وذَرَاكَ ولا أزالَ اللهُ عنّا ظِلَّك وما أشْبَه هذا من الكلام. ومن هذا ظلّ الشجرة وكذلك ظلّ الليل إنّما هُوَ سِتْره.
قَالَ ذو الرُّمَّة:
قد أَعسِفُ النازحَ المَجْهُولَ مَعْسِفُه ... في ظلّ أخضَر يَدْعو هامَهُ البُومُ2
والمعنى عَلَى الوَجْهين معًا إيجابُ طاعة الأَئِمَّة والأَمرُ بلزوم الجماعة.
__________
1 ذكره السيوطي في الجامع الصغير 4/143 وعزاه إلى البيهقي في شعب الإيمان.
2 الديوان /574 واللسان "هوم".

(1/707)


يقولُ اسْتَظِلُّوا بِظِّلِّهم ولا تَشُقّوا العَصَا بالخروج عليهم. ويُصَدّقُه حديثُه الآخرُ.
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ نا إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِرْيَانَانِيُّ1 ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا السُّلْطَانِ الَّذِي ذَلَتْ لَهُ الرِّقَابُ وَخَضَعَتْ لَهُ الأَجْسَادُ مَا هُوَ قَالَ: "ظِلُّ اللَّهِ فِي الأَرْضِ فَإِذَا أَحْسَنَ فَلَهُ الأَجْرُ وَعَلَيْكُمُ الشُّكْرُ وَإِذَا أَسَاءَ فَعَلَيْهِ الإِصْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ" 2.
يريد بالإصْر الوِزر وأَصْلُ الإصْر العَهْدُ. قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} 3: أي عهدي.
وقد يكون الظِّلُّ أيضًا بِمعنى القُرب والدُّنوّ كقولك أظلّني الأَمْرُ وأَظَلَّنَا شَهْرُ الصُّوم وما أشبه ذَلِكَ. قَالَ أبو صَخْرٍ الهُذَلّي:
ورَنَّقَت المنيَّةُ فهْي ظِلٌّ ... عَلَى الأَبْطال دَانِيَةُ الجَناح4
والمعنى عَلَى هذا التّأويل القُرب والاختِصاص.
وفيه وجه آخر وهو أنَّ مَعْنَى قوله: ظِلّ الله أي خليفته على خلقه
__________
1 ت: "الفرياني" والمثبت من بقية النسخ. وفي اللباب 2/427: الفرياني يكسر الفاء وسكون الاء وفتح الياء آخر الحروف وسكون الألفين بينهما نون مفتوحة وفي آخرها نون ثانية نسبة إلى فريانان قرية عند مرو.
2 الفائق "أصر" 1/45 والنهاية "أصر" 1/52. وهو في كنز العمال 5/751.
3 سورة آل عمران: 81.
4 شرح أشعار الهذليين 3/1331 واللسان والتاج والأساس "رنق".

(1/708)


في إمضاء أحكامه وإقامة حدوده وهذا من كلام التقريب لا من كلام التحقيق وذلك أن الظل يرى أبدًا خليفةً للشمس في ذوات الأشخاص1.
__________
1 من م.

(1/709)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا كَانَ أَكْثَرَ دُعَائِي وَدُعَاءِ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَاتٍ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 1.
قوله: "أكثرُ دُعائي" يريد أكثر ما أفتتحُ بِهِ دُعائي وذلك أنّ الدَّاعي يفْتتح دُعاءَه بالثَّناء عَلَى الله ويُقَدّمه أمام مسألته فسمّى الثّناءَ دعاء إذ كَانَ مُقدّمةً لَهُ وذَرِيعةً إِلَيْهِ عَلَى مذهبهم في تسميةِ الشيء باسم سببه.
وحدَّثني أحمَدُ بْن المُظفّر نا محمد بْن صالح الكِيلاني2 نا الحُسَين بْن الحسن المروزي قَالَ: سألتُ سفيان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ هذا فقُلتُ لَهُ هذا ثناءٌ وليس بدُعاء. فَقَالَ أما بلغك حديثُ منصور عَنْ مالك بْن الحارث يَقُولُ الله تَعَالَى: "إذَا شغل عبدي ثناؤهُ عليَّ عَنْ مسألتي أعطيتُه أفضلَ ما أُعْطِي السائلين" 3 فقُلتُ: حدثني عَبْد الرحمن بْن مهدي عَنْ سُفيان الثوري عَنْ منصور وحدثتني أنتَ عَنْ منصور عَنْ مالك4 بن
__________
1 أخرجه الترمذي في 5/572 في الدعوات بلفظ "..خير ماقلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله..الخ والإماما مالك في الموطأ 1/423 بألفاظ متقاربة. وذكره الهيثمي في مجمعه 3/252 عن عبد الله بن عمرو قال: كان أكثر دعاء رسول الله يوم عرفة لا إله إلا الله..الخ.
2 س: "الكلابي".
3 ذكره السيوطي في الجامع الكبير 1/1010 بلفظ: "من شغله ذكري عن مسألتي" عن عمر وعزاه للبخاري في خلق أفعال العباد.
4 آخر ماجاء في نسخة م.

(1/709)


الحارث. فَقَالَ: هذا تفسيره. ثُمَّ قَالَ أما بلغك ما قَالَ أميّة بْن أَبِي الصّلْت حين أتى ابن جُدْعان يَطْلُب فَضْلَه ونائلَهُ فَقَالَ:
أَأَطْلُبُ حَاجَتي أَم قَدْ كَفَاني ... حَياؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الحَياءُ
إذَا أَثنى عليك المَرْءُ يَوْمًا ... كفَاهُ من تَعرُّضه الثناءُ1
ثُمَّ قَالَ يا حُسَيْنُ هذا مْخلُوقٌ يكتفي بالثّناء عَلَيْهِ دُونَ مسألته فكيف بالخالق جَلَّ وعز.
__________
1 شعراء النصرانية 2/220.

(1/710)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ" 1.
ذكره أبو عُبَيْد في كتابه2 فَقَالَ: الحَبَطُ أَنْ تأكلَ الدَّابَّةُ فتُكْثِر حتّى ينتفخ لذلك بَطْنُها أو تمرَضَ عَنْهُ. يقال حَبِطَتْ تَحْبَطُ حَبَطًا.
قَالَ أبو سُليمان وهذا حَديث طويلٌ لم يَذْكُرْ أبو عُبَيْدٍ منه إلا هذا الفَصْلَ وفيه أمْثالٌ ومعانٍ يُحْتاجُ إلى ذكرها وتفسير المُشْكل منها ونُحِبّ أن نَسْرُد الحديثَ بطوله لنُبَيِّنَ مَواضِعَها منه. فَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ نا بِشْرُ بْنُ مُوسَى نا الْحُمَيْدِيُّ نا سُفْيَانُ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ أَنَّهُ سَمِعَ عِيَاضَ بن عَبْد الله بن أبي سرح العامري يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْ نَبَاتِ الأَرْضِ وَزَهْرَةِ الدُّنْيَا" فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَقَالَ رَسُولُ الله: "إِنَّ الْخَيْرَ لا يَأْتِي إِلا بِالْخَيْرِ وَلَكِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَمِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ
__________
1 سيأتي تخريجه.
2 غريب الحديث 1/89.

(1/710)


الْخَضِرِ تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ ثُمَّ أَفَاضَتْ فَاجْتَرَّتْ مَنْ أَخَذَ مَالًا بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَ مَالا بِغَيْرِ حَقَّهِ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ" 1.
قَوله: "إنّ الخيرَ لا يَأْتِي إِلا بِالْخَيْرِ وَلَكِنَّ الدُّنْيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ" مَثَلٌ يُريدُ أنّ جَمْعَ المَال واكتِسابَه غيْرُ مُحرَّمٍ ولكنّ الاستكْثارَ منه والخروجَ من حد الاقتصاد فِيهِ ضار كَمَا أن الاستكثار من المآكل مسقم والاقتصاد فيه محمود. ونظيرُ هذا من الكلام قول الأحْنف بْن قيْس. وقيل لَهُ الحياءُ خَيْرٌ كله فَقَالَ إِنّ مِنهُ ضُعْفًا يُريدُ أنّ ما خَرجَ من حدِّ الاعْتدال لم يَكُنْ خيْرًا لكن ذَلِكَ يسْتَحيلُ ضُعْفًا وَخَوَرًا كالجُود إذَا أفْرطَ صارَ سَرَفًا وكالشّجاعة إذَا أَفْرَطَتْ صارت تَهوُّرًا وَكَالحزْم إذَا أَفْرَطَ صار جبنا إلى ما أشْبه هذا.
وقولُهُ: "الدُنْيا حُلْوةٌ خَضِرَةٌ" فإنَّ العربَ تسمّى الشَيءَ المُشْرِق خَضِرًا تشبيهًا لَهُ بالنبات الأخْضر ويُقالُ إنّما سُمّي الخَضِرُ خَضِرًا لحُسنِه وإشْراق وجْهه. ويقال: بل سُمّي خضِرًا لأنَّه كَانَ إذَا جلس في مكان اخْضَرَّ ما حَوْلَه. يَقُولُ إنّ الدنيا حسَنَةُ المَنْظَر مُونقَةٌ تُعْجِبُ الناظرين وتَحْلَى في أعْيُنهم فيَدْعوهم حُسْنُها إلى الاستكثار منها فإذ فعلوا ذَلِكَ تَضَرَّرُوا بِهِ كالماشِية إذَا استكثَرتْ من المرْعَى حَبِطَت2. وسَمِعْتُ الأزهَرِيّ في هذا الحديث يقولُ هما مثَلان.
أما قوله: "وَإنَّ ممّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ ما يقْتُل حبَطًا أو يُلُّم" فهو مثل3
__________
1 أخرجه الحميدي في مسنده 2/325 والبخاري في عدة مواضع منها في الرقاق 8/113. وابن ماجه في الفتن 2/1323 والإمام أحمد في 2/7, 21 وغيرهم.
2 حبطت: وجع بطنها من كلا تستولبه أو من كثرة الأكل.
3 جمهرة الأمثال 1/16 ومجمع الأمثال 1/8 والمستقصي 1/415 واللسان "حبط".

(1/711)


المُفرِط الحريصِ عَلَى جَمْع المال وَمَنْعه من حَقَه وذلك أَنَّ الرّبيعَ ينبتُ أحرارَ العُشْب التي تَحْلَوليْها الماشية فتسْتَكْثر منها حتّى تنتفخُ بُطونها فتهْلك كذلك الَّذِي يَجْمَعُ الدُنْيا ويحرِصُ عليها ويمنَع ذا الحقّ حَقّه منها يهلك في الآخرة بدخول النار واستِيجاب العذاب.
وأمّا مَثَلُ المقتَصِد المحمود فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إلا آكلة الخَضِر فإنَّها أكلت حتّى إذَا امتلأت خواصِرُها استقبلَت عَيْنَ الشّمس فثَلطَتْ وبالَتْ ثُمَّ أرتعَتْ" وذلك أن الخضِرَ لَيْسَ من أحرار البقول التي تستكْثِر منها الماشيةُ فتنهكه أَكْلًا ولكنّه من الجَنْبَة التي ترعاها بعد هَيْج العُشْب ويُبْسِها. وأكثر ما رأيتُ العربَ يقُولون الخَضِر لما كَانَ أَخْضَر من الحَلِيِّ الَّذِي لم يَصفّر والماشيةُ من الإبل ترتَع منه سِنًّا سنًا ولا يتستكثر منه ولا تَحبَط بطُونُها عَنْهُ وقد ذكرَه طرفَةُ فبيّن أنّه ينبت في الصيف فقال:
كبنات المَخْرِ يَمْأَدْنَ إذَا ... أنْبتَ الصَيْفُ عسَالِيجَ الخَضِرْ1
فالخَضِرْ من كَلأَ الصَيْف في القَيْظ وليس من أحرار بُقُول الربيع والنَّعَم لا تَسْتَوْبلُه ولا تَحْبَطُ بُطونُها عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حُرُوفٍ مِنْ حَدِيثِ طَهْفَةَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ النَّهْدِيِّ لَمَّا وَفَدَ عَلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بن أبي سليم عن حبة العرني وفسره فَقَالَ فِيهِ: "قَدْ نَشِفَ الْمُدْهُنُ وَيَبِسَ الْجِعْثَنُ وَسَقَطَ الأُمْلُوجُ وَمَاتَ الْعُسْلُوجُ" 2.
قَالَ ابن قُتَيْبة: الأُمْلُوجُ جمعه الأَماليج وهو ورق كالعِيدان يكون
__________
1 الديوان /80 والفائق 2/140.
2 سيأتي تخريجه.

(1/712)


لضرْب من شَجَر البَرِّ وفيه أيضًا. ولنا نِعمٌ أغفالٌ لا تبِضُّ ببِلالٍ ووقيرٌ قَلِيلُ الرِّسْلِ كثيرُ الرَّسَل أصابَتْه سنةٌ حمراء مُؤْزَلةٌ لَيْسَ بها عَلَل ولا نَهل. قَالَ ابن قُتَيبة: الوَقَيرُ الغَنَم. والرِّسْلُ اللَّبَن والرَّسَلُ ما يُرْسَلُ مِنْها إلى المَرْعَى يريد أنّها كثيرة العدَد قَلِيلَةُ اللَبَن. وفيه أيضًا ولكم العَارضُ والفَرِيش. قَالَ ابن قتيبة: العَارِضُ المريضة وهي التي أصابها كسر والفَرِيشُ هي التي وضَعَت حديثًا كالنُّفَساء من النِّساء. قَالَ وقال الأصمَعيُّ: فَرَسٌ فَرِيشٌ إذَا حُمِل عليها بعد النِّتاج بسَبع وهي كالرُّبَّى وفيه أيضًا لا يُمنَعُ سَرْحُكُم ولا يُعْضَدُ طَلْحُكُم ولا يُحْبَسُ دَرُّكُم ما لم تُضْمِروا الإِماق وتأكُلُوا الرِّباقَ قَالَ ابنُ قُتَيْبة وأصْلهُ الإمآق ثُمَّ تُخفَّفُ الهمزَة وهو من المأقة والمأقَةُ الأنفَةُ والحدَّة. يُقَالُ رَجُلٌ مَئِقٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ فيه وإنّما أراد بالإماق هاهنا النّكثَ والغَدْر وسمّي ذَلِكَ إِماقًا لأنَّه يكون من الأَنَفة والحَمِيَّة من أن يَسْمعُوا أَوْ يُطيعوا وَيُذعنوا بما أُلْزِمُوهُ في أمْوالهم. هذا كُلّه في كتاب ابن قُتيبة1.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ بِطُولِهِ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ نا أَبُو سَعِيدٍ الْحَارِثِيُّ نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْعُذْرِيُّ نا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخْعِيُّ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فَقَالَ فِيهِ: قَدْ نَشِفَ الْمُدْهُنُ وَيَبِسَ الْجِعْثَنُ وَسَقَطَ الأُمْلُوجُ مِنَ الْبِكَارَةِ 2 وَفَسَّرَهُ الْعُذْرِيُّ فَقَالَ يُرِيدُ الْبَكْرَ السَّمِينَ يُدْرِكُهُ الْهُزَالُ.
قَالَ أبو سُليمان: يريد أنَّ السِّمَنَ الَّذِي قد علاه بما ارْتَعى من هذا الشجر
__________
1 تتبعت ألفاظ هذا الحديث في كتاب غريب الحديث المطبوع في بغداد فلم أقف على لفظ منها ولعل الحديث ساقط منه.
2 أخرجه ابن الأعرابي في معجمه لوحة 202- م وذكره الحافظ في الإصابة 2/235 ومنال الطالب 1/39 والفائق 2/279.

(1/713)


قد سَقَط عَنْهُ فسمَّاه باسْم المرْعَى إذْ كَانَ سببًا لَهُ كقول الشاعر يَصِف غَيْثًا:
أَقْبَل في المُسْتَنِّ من رَبابِه ... أَسنِمهُ الآبالِ في سَحابِه1
وقوله: ووقير قليل الرِّسْل كثير الرَّسل. قَالَ العُذري قوله: كثيرُ الرَّسَل أي شَدِيد التّفرّق في طَلَب المرعى.
قال أبو سُليمان: هذا أشْبَه من قول ابنِ قُتيبة إنّها كثيرةُ العَدَد قليلةُ اللَّبَن لأنّ الحال التّي ذكرها أشبَه بصفةِ الجَدْب وكيْف يَصِفُها بكثرةِ العَدَد وهو يَقُول في أوّل هذا الحديث ماتَ الوَدِيُّ وهَلَك الهَدِيُّ والهدي الإِبلُ وهي أَبْقَى عَلَى السَّنَة من الغنَم فإذا هَلَكَ الإبلُ كيف تسلَمُ الغَنمُ وتَنْمى حتى يَكْثُرَ عَدَدها وإنّما الوَجْهُ مَا قاله العُذْريُّ وهو أَنَّهُ وصف قِلّة المرْعى وعزّ الشجر وأنّ الغنم تَنْتَشِرُ في طلب الرِّعْي أَرسالًا مُتفرقين. وقال العُذْري: في روايته ولكم الفارض والفريض مكان الفَرِيش والفَرِيضُ والفارِضُ المُسِنُّ ومن هذا قوله: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} 2 وفي هذه الرواية ما لم تضمروا الرماق وتأكلوا الرياق3. قَالَ العُذريّ: والرِّمَاقُ النِّفَاق.
قَالَ أبو سُليمان: وهذا هُوَ المحفُوظُ وهو مصْدَرُ رامَقني رماقًا وهو نظر الكاشِح الَّذِي يُضْمِرُ العداوةَ. فذلك النَّظرُ منه يَدُلّ عَلَى نغَل الضمير وسُوءِ الدِّخْلَةِ. يَقُولُ ما لم يفعَلُوا هذا ولم يخالفْ ظاهرُ أمركم باطنَه.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون ذَلِكَ من قولك رمَّقت عَلَى فلان بمعنى
__________
1 منال الطالب 1/39 والفائق 2/279 والكامل للمبرد 3/91.
2 سورة البقرة: 68.
3 في النهاية "ربق" 2/190: شبه مايلزم الأعناق من العهد بالرباق واستعار الأكل لنقض العهد فإن البهيمة إذا أكلت الربق خلصت من الشد.

(1/714)


ضيَّقْتُ عَلَيْهِ. وَعَيْشُ فُلانٍ رِماقٌ أي ضيق ومعروفه رِماقٌ أي يَسِيرٌ. قَالَ الراجِزُ:
مَا وَجْزُ مَعْرُوفِكَ بالرِّماقِ ... ولا مُؤاخاتُك بالمِذَاقِ1
يقُول: ما لم تضق صدوركم من أداءِ الحقّ الواجب في أموالكم ولم تمتنعوا من ذَلِكَ لأنه نفاق ونكث للعهد.
__________
1 اللسان والتاج "رمق" وعزي لرؤبة وهو في ديوانه /116. وروي في ت, م: "مازخر" بدل "ماوجز".

(1/715)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ فَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" 1.
حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَوْذَبٍ ثنا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّرِيفِينِيُّ ثنا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قولهُ: "ثُوّبَ بالصَّلاة" أي دُعِي إليْها والأصْلُ في التَّثْويب أنّ الرَجُلَ إذَا جاء فَزِعًا أو مُسْتَصْرِخًا لوَّح بثَوْبه وكان ذَلِكَ كالدُّعاء والإنْذار ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حتى سُمِّي الدُّعاء تَثْوِيبًا قَالَ الشاعر:
يَأوِي إلى ساحَته المُثَوِّبُ
أي المستَغِيثُ. وقال ذُو الرُمَّة:
وإِنْ ثوَّبَ الدَّاعي لها يالَ خِنْدفٍ ... فيا لك مِن دَاعٍ مُعَزٍّ ومُكْرَمِ2
والعَامَّةُ لا تعرفُ التَّثويبَ في الأَذان إلا قولَ: المُؤذّن في أذان الفَجْر: الصّلاةُ خَيْرٌ من النَّوْم. قَالَ: وإنّما سُمِّي هذا القولُ تثويبا لأن المؤذن يرجع
__________
1 أخرجه مسلم في كتاب المساجد 1/421 وأحمد في مسنده 2/427, 460, 529.
2 الديوان /635.

(1/715)


إِلَيْهِ مرة بعد أُخْرَى فيَقُوله. يُقالُ: ثابَتْ إلى المريض نَفْسُه إذَا رجَعتْ إِلَيْهِ قُوَّتُه. وثابَ إلى المَرْءِ عَقْلُه. ومنه اشْتُقّ الثّوابُ وتأويلُه ما يَثُوب إليك من فَضْلِ الله في جزاء الأعمال الصالحة وبه سُمِّيَت المرأةُ ثَيِّبًا وذلك لأنّها تَثُوبُ إلى أهْلِها من بيت زوجها.
وهذه مُقطَّعاتُ من الحديث لم يَحْضُرْني إسْنادُها:

(1/716)


جاء في الحديث: أَنّ النَّبِيّ عَلَيْهِ السلام أَتى قومَه فأَضَلَّهُم 1.
حدّثني الحسن بْن خَلاد قَالَ: سَمِعْتُ أبا مُوسَى الَّذِي يُعرفَ بالحامِض يرويه قَالَ: ومعناهُ أَنَّهُ وَجَدَهم ضُلالًا
تقولُ العَربُ أتيتُ بَني فُلان فأحمدْتُهم أي وجَدْتُهم محمودِين وأبْخَلْتهُم وجَدْتُهم بُخَلاءَ. وأَضْلَلْتهُم وجَدْتُهم ضُلالًا. قَالَ الشاعرُ:
أَوْ وَجْد شيْخٍ أَضَلَّ ناقَته ... حينَ تولَّى الحجِيجُ واندَفَعُوا
ومن هذا قولُ عَمْرو بْن مَعدي كَرِب لبِني سُلَيْم: يا بني سليم قاتَلْناكُم فَما أَجْبنَّاكُم وهاجَيْناكم فَما أَفْحمْناكم وسألْناكُم فَما أبْخلْناكُم يُريدُ ما وجَدْنَاكم جُبنَاءَ ولا بُخلاءَ ولا مُفْحَمِين وقال آخرُ:
فأَصْمَمْتُ عَمرًا وأعَميْتُه ... عَنِ الجُود والفَخر يَوْمَ الفخار2
أي وَجَدْتهُ أَصمَّ أعمى.
__________
1 الفائق "ضلل" 2/346 والنهاية "ضلل" 3/98.
2 اللسان والتاج "فخر".

(1/716)


وفي حديثه: أن خُلُقَه كَانَ سَجِيَّة ولم يكن تَلَهْوُقًا 1.
التَّلَهْوُقُ: التَّصَنُّع في الكلام والحديث. يُقالُ لَهْوقَ الرَّجُلُ بلسانه إذَا أظهر من القَوْل ما لا يُضْمرُه بقلبه.
__________
1 في الفائق "لهق" 2/335 وقال الزمخشري: وعنجي أنه تفوعل من اللهق وهو الأبيض في موضع الكريم لنقاء عرضه مما يدنسه من ملامات اللئام وفي النهاية "لهق" 4/282.

(1/716)


وفي حديثه: أَنَّهُ دخل عَلَى أَبِي عمير فرآهُ مكبُوتًا.
أي: حزينًا كَمدًا ومِثْلهُ المَأكُوم والمَوكُوم.

(1/717)


وَفِي حَدِيثِهِ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلاةِ إِذَا صَارَتِ الشَّمْسُ كَالأَثَارِبِ 1
أُرَاه من ثُرُوب الشّحْم وهي سماحيق رقاق من الشحم تشبه الشَمْسُ بها إذَا رقّ ضَوْءُها عند العَشيّ وضَعُفَ نُورُها عند اقتراب غرُوبها وواحدُ الثّروب ثَرْبٌ والأثارِبُ جَمْعُ الجمع كأنّه جمع الثّربَ أثرابًا ثُمَّ جمعها أثارب.
__________
1 في الفائق "ثرب" 1/165 الأثارب: الشحم الرقق المبسوط على الكرش والأمعاء شبه بها ضياء الشمس إذا رق عند العشي والنهاية "ثرب" 1/209.

(1/717)


وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أُرَاهُ مِنَ الأَنْصَارِ: "أَنْتَ طَيِّبٌ طَيّبُ الْوَرَقِ" 1. ويُقالُ إنّه قَالَ: ذَلِكَ لعمّارٍ يريدُ بالورَق النَسْل والولَد يُقالُ: للصِبْيَان الورَق تشبيهًا لهم بالوَرَق الَّذِي يتولّد من الأَغْصان قَالَ ابْنُ السِّكيْت وَرَقُ القَوْم أحْدَاثُهم وأَنْشد:
تَرى ورَقَ الفِتْيَان فيها كأنَّهُم ... دَراهِمُ مِنْها جَائزَاتٌ وَزُيَّفُ2
ويُرْوَى أَنّ عمّارًا دخل عَلَيْهِ فَقَالَ: "مَرحبًا بالطَّيِّب المطيب" 3.
__________
1 النهاية "ورق" 5/175.
2 اللسان والتاج "زيف" وعزي لهدبة بن الخشرم.
3 أخرجه الترمذي في المناقب 5/668 وابن ماجه في المقدمة 1/52 وأحمد في مسنده 1/100, 123.

(1/717)


ومعنى الطيب ها هُنا الطَّاهر كقوله جَلَّ وعز: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 1: أي طاهرا.
__________
1 سورة المائدة: 6.

(1/718)


وفي حديث: أَنَّهُ لَعَنَ الرُّكَاكَةَ 1.
وتفسيره الَّذِي لا يَغار عَلَى أَهْله والأصل فيه الضَّعْف أي ضعْفُ الغِيرة من قولهم: مَطرّ رِكٌّ أي: ضعيف.
ويُقالُ: رَجُلٌ ركيك ورُكَاكة إذا كان ضعيف العقل.
__________
1 في الفائق "ركك" 2/80 الركاكة سماه ركاكة الديوث سماه ركاكة على المبالغة في وصفه بالركاكة من جهتين إحداهما البناء لأن فعالة أبلغ من فعيل كقولك طوال في طويل. والثانية إلحاق التاء للمبالغة.
والنهاية "ركك" 2/259.

(1/718)


وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ الَّتِي سمت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَمَدَتْ إِلَى سَمٍّ لا يُطْنِي 1: أي لا يَسْلَم منه مَنْ سُمَّ بِهِ. يُقال: أفْعَى لا تُطْنِي أي لا يُفْلتُ سَلِيمُها.
__________
1 الفائق "طني" 2/369 والنهاية "طني" 3/141.

(1/718)


وَفِي حَدِيثِهِ: أَنَّهُ لَعَنَ الْغَارِفَةَ 1.
يريدُ بالغارفة الّتي تَجُزُّ ناصِيَتها عند المُصِيبة يقال غَرفْتُ ناصيةَ الفرسِ إذَا جَزَزْتَها.
وَفِي حَدِيثِهِ: أَنَّهُ أَقْطَعَ مِنْ أَرْضِ الْمَدِينَةِ مَا كَانَ عَفَاءً2.
قَالَ الأصمعيّ: عَفاءُ الأرْض ما كَانَ عافيا أي دارسا لَيْسَ فيه لمُسْلمٍ ولا لمعاهد شيء.
__________
1 في الفائق "غرف" 3/58 الغارفة على معنيين: أحدهما أن تكون فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية وهي التي تقطعها المرأة وتسويها على وسط جبينها والثاني أن تكون مصدرا بمعنى الغرف كاللاغية والراغية والثاغية. والحديث في النهاية ايضا 3/360.
2 في النهاية "عفا" 3/266: ماكان عفاء أي ماليس فيه لأحد أثر وهو من عفا الشئ إذا درس ولم يبقى له أثر. يقال: عفت الدار عفاء. أو ماليس لأحد فيه ملك من عفا الشئ يعفو إذا صفا وخلص.

(1/718)


وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَيْهِ كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةً مِنْ خَمْرٍ فَجَاءَهُ بِهَا عَامَ حُرِّمَتْ فَهَتَّهَا فِي الْبَطْحَاءِ:
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "فبَعَّهَا"1.
قولُهُ: هَتَّها معناه صبها فاندفعت وهي تهب أي تحكي صوتَ المخْنُوق وهو الهَتِيتُ. وبَعَّها كالأوّل إلا أَنَّهُ أكثرُ وأوْسَعُ. وأصله من البَعاع وهو شدّة المطر. يُقالُ بعَّ المطر يبع بعا وبعاعا.
__________
1 الفائق "هتت" 3/255 والنهاية "بع" 1/140 "هتت" 5/242. والحديث تقدم تخريجه بغير هذا اللفظ.

(1/718)


وفي حديثه أَنَّهُ دخَل المقابرَ فَقَالَ: "السّلامُ عليْكم أصبْتُم خيرًا بجيلا وسبقتهم شرًّا طويلًا" 1.
البَجِيلُ الضَخْمُ. يُقالُ رجُلٌ بَجِيلٌ وبَجالٌ. ومن هذا قولهم بجّل فُلانٌ فُلانًا إذَا عظمه.
__________
1 النهاية "بجل" 1/98.

(1/719)


وفي حديثه: أنّ أصحابه لمّا هاجروا إلى أرض الحبشة قَالَ لهم النّجاشيُّ: امْكُثُوا فأنْتُم سُيُوم 1.
تفسيره في الحديث الأمانُ. قَالُوا: السيوم الآمنون.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 1/203 بلفظ: "اذهبوا فأنتم سيوم". وكذلك في 5/292.

(1/719)


في قصّة النجاشي أيضا أنّهم لمّا دَخلُوا عَلَيْهِ قَالَ: لهم نَخِّروا 1
أي: تكلّموا ولَسْتُ أدرى أهُوَ من كلام العرب أم لا وقد كَانَ النجاشيّ مُسْتَعْبَدًا في أرض العرب قبل أن يتَملَّك.
__________
1 تقدم تخريجه.

(1/719)


في حديثه أَنَّهُ قَالَ في غزوة الحُدَيْبِيَة: "من كَانَ معه ثُفْلٌ فليصطنع" 1.
يريدُ بالثُّفْل الدَّقيقَ ونحْوَه ممّا لا يُشْرَبُ فيَكُون سَوِيقًا أو نحوه.
__________
1 رواه الواقدي في مغازيه 2/585 بلفظ: "ثقل" تصحيف.

(1/720)


وفي حديثه: أَنَّهُ كَانَ إذَا نزل عَلَيْهِ الوحْيُ وُقِظَ في رأسه واربدَّ وَجْهُه ووَجَدَ بَرْدًا في أسنانه 1.
الوقَظُ لَغَة: في الوقَذ يريدُ أَنَّهُ كَانَ إذَا نزل عليْه الوحْي ثقُلَ رأسُه من قولك وقَذْتُ الرَّجُلَ أقِذُه وقد وقذته الجمي. ومنه المَوْقُوذَةُ التّي حرَّمها الله في كتابه وهي الذَّبِيحة تُضرَب بخشَب أو غيره ممّا تقْتُلُ بثقْلهِ حتّى تزهقَ نفْسُها. واربدَّ من الرُّبْدَة وهي لَوْنٌ إلى الكُمودة والسَّوَاد.
وفيه وجه آخر وهو أن يُرْوَى بالطَّاء التي هي أخت التَّاء. يقال: ضربه قوقطه إذَا صرعه صرعةً لا يَقوم منها والموقوط الصريع2.
__________
1 أخرجه مسلم في الفضائل 4/1817 بلفظ: "تربد وجهه". وفي رواية أخرى: "إذ أنزل عليه الوحي نكس رأسه" والإمام أحمد في 2/317, 318, 327.
2 من ت. وفي الفائق "وقط" 4/75: "وقط رأسه" يقال: وقطه إذا ضربه حتى أثقله فهو وقيط وموقوط وقيل: الوقيط الذي طار نومه فأمسى منكسرا ثقيلا.

(1/720)


وَفِي حَدِيثِهِ: أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ بِمِنًى فِيهِ عَيْشُومَةٌ 1.
قَالَ الأَصْمَعيُّ: العَيْشُومُ نَبْتٌ قَالَ غَيْرهُ: هُوَ الحُمَّاضُ إذَا يَبِس قَالَ ذو الرُمَّة:
كَما تناوَحَ يَوْمَ الرِّيَح عَيْشُومُ2
وأخبرني محمد بْن نافع قَالَ: قَالَ عمّي إسحاق بْن أحمد الخُزاعي هي شجرةٌ خضراء كأنّها إِذْخرَةٌ. قَالَ: وقال الأَزْرَقي فيُقال لَهُ مسجد العَيْشُومة فيه عَيْشُومَةٌ خضراء أبدًا في الخصب والجدب.
__________
1 أخرجه الأرزقي في أخبار مكة 2/174, 175.
2 الديوان /575 وصدره:
للجن بالليل في حافاتها زجل
وفي اللسان والتاج "عشم".

(1/720)


فِي حَدِيثِهِ: أَنَّهُ أَعْطَى الْعَطَايَا يَوْمَ حُنَيْنٍ فَارِعَةً مِنَ الْغَنَائِمِ 1.
يريد أنّه أعطَاها من رأس الغنائم ومن أعلاها قبل أن تُخمَّس وتُقَسَّم. وأصْله من فَرَّع الشيءُ إذَا طال وارْتَفَع ورجُلٌ فارِعُ الجِسْم إذَا كَانَ طوِيلًا مُشْرفًا.
__________
1 الفائق "فرع" 3/105 والنهاية "فرع" 3/436.

(1/721)


وَفِي حَدِيثِهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ كَانَتْ تَنْظُرُ وَتَعْتَافُ فَدَعَتْهُ أَنْ يَسْتَبْضِعَ مِنْهَا 1.
قوله: تَنْظرُ أي تَتَكهَّنُ. وتعْتافُ من عِيافَة الزّجْر.
والاستِبْضَاعُ نَوعٌ من نِكاحِ أهْلِ الجاهليّة وكان النِّكاحُ عندهم عَلَى أربعة أنحاء وله مَوضعٌ غير هذا يُذْكَرُ فيه إن شَاءَ الله.
__________
1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/95.

(1/721)


وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ: "تُفْتَتَحُ الأَرْيَافُ فَيَخْرُجُ إِلَيْهَا النَّاسُ ثُمَّ يُبْعَثُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ إِنَّكُمْ بِأَرْضٍ جَرَدِيَّةٍ" 1.
الجَرِدِيَّة مَنْسُوبَةٌ إلى الجَرَدِ وهي كُلُّ أرْضٍ لا نَباتَ بها ولا شجَر يُقالُ جرَدَتِ الأرْضُ جَرَدًا وسنَةٌ جَرْدَاءُ أي قحطة.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 2/349 بلفظ: "تفتح الأرياف فيأتي ناس إلى معارفهم فيذهبون معهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". قالها مرتين وانظر النهاية 1/257.

(1/721)


وأخبرني الكُرانِيّ نا عَبْد الله بْن شَبِيب1 نا زكريا المِنْقَرِيّ نا الأصمعيّ قَالَ سألتُ امرأةً من الأعراب فَقَالَت سَنَةٌ جَرِدَتْ وأَيْدٍ جَمَدَتْ وحالٌ جهدت فهل فاعلٌ للخَيْر أو دَالٌّ عَلَيْهِ رَحِم الله مَنْ رَحِمَ وأقرض من لا يظلم2.
__________
1 آخر ماجاء في نسخة س من الجزء الأول.
2 آخر الجزء الأول من نسخة ط وجاء فيها: آخر أحاديث النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والحمد لله حق حمده وصلى الله على عبده محمد وجنده.
وكذلك آخر الجزء الأول من نسخة ح وجاء فيها: آخر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويتلوها أحاديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

(1/722)


وروى 1 بعض أهل اللغة حديثًا إن فلانًا كَانَ حَرَمِيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفسّره فَقَالَ: إن أشرافَ العرب الذين كانوا يتحمَّسُون في دينهم إذا حجَّ أحَدُهم لم يأكل إلا طعامَ رَجُلٍ من الحرَم ولم يَطُفْ إلا في ثِيابِه فكان لكُلّ شريفٍ من أشراف العَرب رَجُل من قريش فكل واحد منهما حرمي صاحبه.
__________
1 من هنا من نسخة ت. وقد انفردت بهذه الزيادة دون سائر النسخ.

(1/722)


وَفِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا فَجَاءَتْ بِدَشِيشَةٍ فَأَكَلْنَاهَا 1.
الدّشيشَة: لغة في الجشيشة2.
__________
1 أخرجه أبو داود في الأدب في أبواب النوم رقم الحديث 5040 بلفظ: "بحشيشة" تصحيف بدل "بدشيشة" 4/309 واخرجه أحمد كذلك في مسنده 3/429, 5/426.
2 القاموس "جش": الجشيش: حنطة تطحن قليلا فتجعل في قدر ويلقى فيها لحم أو تمر فيطبخ.

(1/722)


وَفِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى صَعْدَةٍ يَتْبَعُهَا حُذَاقِيٌّ عَلَيْهَا قَوْصَفٌ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا قَرْقَرُهَا 1
رُوي ذَلِكَ عَنِ النَّضر بْن شُمَيل ولم أجده في كتاب غريب الحديث لَهُ. قَالَ: والصَّعْدَةُ الأَتانُ والحُذَاقيّ الجَحْش. والقَوْصَفُ القطيفةُ. والقرقرةُ ظهرها. تم أحاديث النبي.
وهذا أيضًا زيادات في أحاديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
__________
1 الفائق "صعد" 2/298 والنهاية "صعد" 3/29.

(1/723)


قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَثَلُ مَا آتَانِي اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ فِيهَا أَجَارِدُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَطَائِفَةٌ أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً" 1.
حَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ نا الْحُسَنُ بْنُ سُفْيَانَ نا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ نا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أجَادِبُ بِالْجِيمِ وَالدَّالِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو يَعْلَى نا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَاهُ أَبُو أُسَامَةَ بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ أَحَارِبُ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ قَالَ أبو سليمان واللّفْظَان معا غَلَط وتَصْحيف وإنما هُوَ الأَجارِد بالجيم والراء والدال قَالَ الأصمعي الأَجاردُ من الأرض ما لا تُنبِت.
يُقالُ أرضٌ جَرْداءُ ومكان أَجْرَدُ. والجرَدُ من الأرض فَضاءٌ لا نبات فيها.
__________
1 أخرجه البخاري في كتاب العلم 1/30 وأحمد في مسنده 4/399 وغيرها بلفظ: "أجادب".

(1/723)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَطْرَقَ1 مُسْلِمًا فَعَقَّتْ لَهُ الْفَرَسُ كَانَ كَأَجْرِ سَبْعِينَ فَرَسًا حَمَلَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" 2.
يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانٍ نا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْبُرْدِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنْ أَبِي رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ3 عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنْمَارِيِّ.
قَالَ أبو سليمان قوله: "عَقَّتْ لَهُ الفرس" معناه حَمَلَتْ واللغة العالية أَعَقَّتْ بالألف. يقال أَعقَّت الفرسُ تُعِقُّ فهي مُعِقٌ وعَقوقٌ. قَالَ الشّاعرُ:
طَلَبَ الأبلقَ العَقُوق فلمَّا ... فاتَه ذاك رام بيض الأنوق4
وقال: أقَصَّتِ الفَرسُ والأَتانُ في أوّل حَمْلِها وأعَقَّت إذَا استبان حَمْلُها. ويقال: إنّما سُمِّيت عَقُوقًا إذَا نَبتَت العَقِيقةُ في بطنها عَلَى الولد وهي الشَّعَر الَّذِي يُولد به الولد.
__________
1 القاموس "طرق": أطرق فلانا فحله: أعاره ليضرب في إبله.
2 أخرجه أحمد في مسنده 4/231 بلفظ: "من أطرق فعقب له الفرس" وابن حبان في صحيحه كما في الموارد /394 بلفظ: "من أطرق فرسا فعقب له الفرس ... " الخ.
3 ت: أبي راشد بن سعيد "تحريف" وفي مسند أحمد راشد بن سعد وهو الصواب لأن راشد بن سعد روى عن عامر الهوزني وروى عنه محمد بن الوليد الزبيدي كما في تهذيب الكمال.
4 اللسان والتاج "أنق, عق" دون عزو. وروي: "فما لم ينله أراد بيض الأنوق".

(1/724)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْمَالَ بِالْفَرَائِضِ فَمَا أَبْقَتِ السِّهَامُ فِلأَوْلَى رَجُلٍ ذكر" 1.
__________
1 أخرجه البخاري في الفرائض بلفظ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" 8/188. وفي 8/190 بلفظ: "فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر". وفي مسلم في الفرائض أيضا 3/1233. النهاية "ولى" 5/229.

(1/724)


قَالَ الخطّابي قوله: أَوْلَى معناه أدنَى وأَقْرَب نَسَبًا مأخوذٌ من الوَلْي وهو القُرب. قَالَ الشّاعر:
وشَطَّ وَلْيُ النَّوَى إنَّ النَّوَى قَذَفٌ ... نَيَّاحَةٌ غَرْبَةٌ بالدَّارِ أَحْيانا1
ومنه اشْتُقَّ الوَلِيُّ الَّذِي يلي اليَتيم أَمْرَه وعلى المرأة عَقْدَ نِكاحها لأنّه قد جُعِلَ أقرب النَّاس من المَوالي عَلَيْهِ.
وقال أبو سليمان: وقد يحتَجُّ بهذا الحديث مَنْ لا يرى الأخوات مَعَ البَنات عُصْبَةً وهو مَذهبُ ابنِ عَبَّاس وإليه ذهب إسحاقُ بْن راهَوَيْه وإنما جاء هذا خاصًّا في العُمُومَة مَعَ العَمَّات وبني العُمومة وبَنِي الإخوة ومن أَشبَهَهُم من العَصَبة إذا كان معهم أخوات وليس هذا في البنين والبنات والإخوة والأخوات لأنَّ مَنْ ترك امرأةً وأُمًّا وبنين وبناتٍ أو أُخوةً وأَخواتٍ فلا خلافَ أنّ الباقي بعد فَرْض المرأة والأُمِّ بين البنين والبنات أو الإِخوة والأَخوات للذَّكَر مثلُ حَظّ الأنثيين ولو كَانَ الحديث على ما تَأَوَّلُوه كَانَ الباقي بعد فَرْض المرأة والأُمِّ للابْنِ أو للأخ دون أخواته.
__________
1 اللسان والتاج "ولي".

(1/725)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا طَلَعَتْ قَارَنَهَا وَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا" 1. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "إِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ" 2.
قَالَ أبو سليمان: فيه أقوال: أحدها أَنَّ قَرْنَي الشَّيطان ناحِيتَا رأسه وقيل قرناه جَمْعاه اللذان يُغرِيهما بإضْلال البَشَر يقال هَؤُلَاءِ قَرْن من
__________
1 أخرجه النسائي في المواقيت 1/175 بلفظه وابن ماجه في إقامة الصلاة 1/397 بلفظ: "معها قرنا الشيطان".
2 أخرجه الترمذي في بدء الخلق 4/149 ومسلم في المساجد 1/427, 568.

(1/725)


الناس. ويقال: معنى القَرْنِ الاقتران يريد أَنَّهُ يَظْهَر مَعَ الشَّمْس مقارِنًا لها وقيل مَعْنَى القَرْن القُوَّة وذلك أَنَّ القُرون لذَوَاتِ القُرون أسْلحَةٌ. يَقُولُ إنّ الشمس إنّما تطلُع حين قُوّة الشيطان أي وَقْت يَقْوَى فيه أَمرُ الشيطان وهو أَنّ عَبَدة الشَّمس يَرْصُدُون بصلاتهم وقت بُزُوغِها فإذا بَزَغَت سَجَدُوا لها وذلك من تسويل الشيطان لهم فنهى عَنِ الصّلاة في ذَلِكَ الوَقْت لتكون صلاة مَنْ عَبَد الله في غيرِ وقتِ صلاةِ مَنْ عَبْد الشَّيطان واللهُ أعلم.

(1/726)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مُرَاسِلًا يَعْنِي ثَيِّبًا فَقَالَ النبي: "فَهَلا بِكْرًا تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ" 1.
يَرْوِيهِ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ الكسائي: امرأةٌ مراسِلٌ وهي التي مات زوجُها أو طَلَّقها. وقال المازنيّ نحْوًا من ذَلِكَ وأنشد:
يَمشِي هُبَيْرةُ بَعْد مقتل شيخِه ... مَشْي المُرَاسِل بُشِّرَت بطلاق2
__________
1 أخرجه البخاري في النكاح 7/51 ومسلم في الرضاع 2/1088 وليس فيه: "امرأة مراسل".
2 اللسان والتاج "رسل" وعزي لجرير وهو في ديوانه /113.

(1/726)


حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ السَّلاسِلِ قَالَ: فَانْطَلَقُوا حتى نزلوا جبل طيئ
...
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ السَّلاسِلِ قَالَ: فَانْطَلَقُوا حتى نزلوا جبل طيىء فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ انْظُرُوا رَجُلا يَتَجَنَّبُ بِنَا الطَّرِيقَ وَيَأْخُذُ بِنَا الْمَفَاوِزَ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُهُ إلا رافع بْنَ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ رَبِيلًا في الجاهلية1. قال: فسألت
__________
1النهاية "ربل".

(1/726)


طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ مَا الرَّبِيلُ قَالَ: اللِّصُّ الَّذِي يَغْزُو الْقَوْمَ وَحْدَهُ.
هَكَذَا حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ نا إِسْرَائِيلُ نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ الْمُحَدِّثُ: رَبِيلا: الْبَاءُ قَبْلَ الْيَاءِ.
قَالَ أبو سليمان: وأُراه الرَّيْبَل الحرْف السَّقيم قبل الحَرْف الصّحيح. قَالَ الليث: يقالُ: ذِئبٌ رِئبالٌ ولصٌّ رِئبالٌ وهو من الجَرَاءة وارْتِصادِ الشَّرِّ. يُقال: فعل ذلك عَنْ رابِلَتِه وخُبثه.
وقال أبو عُبيدة معمر بْن المثنى في خبرٍ ذكره في كتاب الديباج خرج أَوْفَى بْن مطر وشِهابٌ الخُزاعِيّ وفلان يترابَلُون أي يَغْزُون ويَشْرُفون وحدَهم.
وقال غيره كَانَ أَوفَى بنُ مَطَر وسُلَيكُ بْن سُلَكَة وتأبَّطَ شرًّا والشَّنْفَرَى يُسَمَّوْن رَبَابِيل العَرَب لأنَّهم كانوا يَغْزُون عَلَى أَرْجُلِهِم وَحْدهم. قَالَ وَسُمِّي الأَسَدُ: رئبالًا لأنّه يُغِير وَحْده قَالَ ابن دُرَيد: اشتقاق الرِّئْبال في اسمِ الأَسدِ من تَرَبُّل لَحمِه وغِلَظه والياء فيه زائِدَة فعَلَى هذا القول يجوز أن يكون رَبِيلًا عَلَى ما جاء في الحديث.

(1/727)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ فِي سَفَرٍ قَطُّ إِلا قَالَ حِينَ يَنْهَضُ مِنْ جُلُوسِهِ: "اللَّهُمَّ بِكَ ابْتَسَرْتُ وإليك توجهت وبك اعتصمت" 1.
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمعه 10/130 بلفظ: "اللهم بك انتشرت" وعزاه إلى أبي يعلى وفي النهاية "نشره" 5/55: اللهم بك انتشرت: أي ابتدأت سفري وكل شئ أخذته غضا فقد نشرته وانتشرته ومرجعه إلى النشر ضد الطي. ويروى بالباء الموحدة والسين المهملة.

(1/727)


يَرْوِيهِ هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ نا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُسَاوِرٍ الْعِجْلِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ.
قَالَ أبو سليمان قوله: "ابْتَسَرْتُ" أي ابتدأتُ بسَفرِي وكلّ شيء أخذته غضا فقد بَسَرْتَهُ وَابْتَسَرْتَه. يقالُ ابْتَسَرْتُ الماءَ إذَا أخذتَهُ سَاعَةَ ينزل من المُزْن. والبُسرُ الماءُ ساعة يُمْطر. وبَسَرْتُ النباتَ أَبْسُرُهُ بَسْرًا إذَا رَعيْتَهُ غَضًّا.

(1/728)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ النِّسَاءَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ إِلا صَاحِبَةَ الْقِسْطِ وَالسِّرَاجِ" 1.
حَدَّثَنِيهِ الإِسْمَاعِيلِيُّ نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ نا بَقِيَّةُ نا بَحِيرُ2 بْنُ سعيد عن خالد بن معادان عَنْ أَبِي شَجَرَةَ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ رَفَعَهُ.
قَالَ بَقِيَّةُ: هي التي تقوم عَلَى رأس زوجِهَا السراج تُوضِّئُه الماء.
وقال أبو سليمان: وأراد بالقِسْط الإناءَ الَّذِي توضِّئه فيه. والقِسْط نِصفُ صاعٍ قاله أبو عبيد وغيره.
__________
1 النهاية "قسط" 4/60.
2 ت: بحير بن سعد "تحريف" والتصويب من التقريب 1/93 وتهذيب التهذيب 1/421 مات بعد المائة.

(1/728)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا فَهُوَ عَدْلُ رَقَبَةٍ" 1.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ نا الدَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرزاق أنا معمر عن
__________
1 أخرجه الترمذي في البر والصلة 4/340 وغيره. والفائق "منح" 3/389 برواية: "من منح منحة ورق أو لبنا أو نسمة".

(1/728)


مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ الْيَامِيِّ1 عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ.
قَالَ أبو سليمان: مَنِيحَةُ الوَرِق هي القَرْضُ قاله أحمد بْن حنبل. ومعنى المنيحة إباحة المنفعة مع استِيفاء الرَّقبَة. ومنه مَنِيحة الغَنَم وهو أن تمنَحه شاةً حَلُوبًا يشرب لَبَنَها فإذا لَجَّبَتْ2 رَدَّها إلى صاحِبَها.
قَالَ أبو سليمان: في هذا دلالة عَلَى أنّ عَيْن القَرْض ما دامت باقِيةً كانت مِلْكًا لِلْمُقْرِض وإن كانت دراهم أو دنانير كغيرها من المتاع.
وقوله: هدى زُقَاقًا معناه تَصدَّق بزُقاق من النّخل فجعله هَدِيًّا. والزُّقَاق الطريقة المستوية المُصْطَفَّة من النخل وهو السِّكَّةُ أيضًا إلا أنّ السِّكّة أَوْسَع من الزُّقاق.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: "خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ أَوْ فَرَسٌ مَأْمُورَةٌ" 3.
ويحتمل أن يكون معنى قولِه: هَدَى زُقاقًا من هِداية الطَّريق والدَّلالَة عليه والله أعلم.
__________
1 في التقريب 3/379: طلحة بن مصرف بن كعب اليامي بالتحتانية الكوفي ثقة قارئ فاضل.
2 القاموس "لجب": لجبت الشاة قل لبنها وغزر لبنها "ضد".
3 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/468 بلفظ: "مهرة مأمورة" بدل "فرس مأمورة" والحديث في الفائق "سكك" 2/189 برواية: "ومهرة مأمورة" وجاء في الشرح: المأبورة الملقحة والمأمورة الكثيرة النتاج وكان ينبغي أن يقول المؤمرة ولكن زاوج بها المأبورة كماقال: "مأزورات غير مأجورات".
وعن أبي عبيدة: أمرته بمعنى آمرته: أي كثرته ولم يقله غره. ويجوز أن يراد أنها لكثرة نتاجها كأنها مأمورة بذلك.

(1/729)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجنة" 1.
__________
1 أخرجه مسلم في الذكر والدعاء 4/2036 والترمذي في الدعوات 5/530 وغيرها.

(1/729)


حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَوْذَبٍ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ نا أَبُو أُسَامَةَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ أبو سليمان: معنى الإحصاء في اللغة عَلَى ثلاثة أوجُه أحدها الإحْصاء الَّذِي هُوَ بمعنى العَدِّ كقولهِ تَعَالَى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 1. والثاني بمعنى الإطاقة كقوله سبحانه: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} 2: أي لن تطيقوه. والثالث بمعنى العقل والمَعرفَة. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أحْصَيْتُ كلَّ القرآن إلا حرْفَيْن. يريد أدْركْتُ عِلْمَه وعقَلْتُ معناه. ويقال: فلان ذو حَصَاةٍ إذَا كَانَ ذا عَقْلٍ وتَحْصيل. قال الشاعر:
وأَنَّ لِسَانَ المرءِ ما لم تكن لَهُ ... حَصَاةٌ عَلَى عَوْراته لَدلِيلُ3
قَالَ أبو سليمان: فَمنْ حمل الخَبَر عَلَى معنى الإحصاء الَّذِي هُوَ العَدُّ قَالَ إنّ معناه أَنَّ من يَعدّ هذه الأسماء ذاكِرًا الله عَزَّ وجَلَّ ومُثنِيًا عَلَيْهِ بها واستدلّ في ذَلِكَ بان التسعة والتسعين لما كانت عَدَدًا من الأَعداد ثُمَّ عطفَ بالإِحصاء عليها عُلِم أن المراد بِهِ إحصاء العَدَد دُون غيره.
ومن حمله عَلَى الإطاقة قَالَ معناهُ أن يطيق القيام بحقَّها في معاملة الله تَعَالَى بها. ومُطالَبة النّفس بمواجبِها فيُخْطِرَ بقلبه معنى العَفْو والمَغْفِرة إذَا سَمّاهُ عَفُوًّا وغَفُورًا فيرجو مغفرة الله وعَفوَه ويحذَرُ نِقْمتَه إذَا قَالَ المنتقم وَيَثِقُ بما وَعَد من الرّزق وتطمئن بِهِ نَفْسُه إلى ما ضَمِنَه منه إذَا قال الرزاق, وإذا
__________
1 سورة الجن: 28.
2 سورة المزمل: 20.
3 اللسان والتاج "حصا" وعزي لكعب بن سعد الغنوي وعزاه الأزهري لطرفة ولم أقف عليه في ديوانه /ط برلين. وقبله:
وأعلم علما ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل

(1/730)


قَالَ رقيب راقَبَ ربَّه وعلم أنه مطلع عَلَى سِرَّه إلى ما يُشبه ذَلِكَ من الأمور التي تقتضيها معاني هذه الأسماء.
وأمّا من تأوَّلَه عَلَى الإحصاء الَّذِي هُوَ العَقل والمعرفة قَالَ معناه من عرفها وعَقَل معانيها وآمن بها استحق دُخُولَ الجنة. وهذه الأقاويل الثّلاثة كلّها متوجهة غَيرُ بَعِيدَة والله أعلم.
حروف في حديث أمّ زَرْع. حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ نا ابْنُ أَبِي سَمِينَةَ نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ نا يَحْيَى بْنُ الْعَلاءِ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ نا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً اجْتَمَعْنَ فَتَعَاقَدْنَ أَنْ لا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ابْنَةُ أَبِي زَرْعٍ وَمَا ابْنَةُ أَبِي زَرْعٍ طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا وَغَيْظُ جَارَتِهَا وَمِلْءُ كِسَائِهَا وَصِفْرُ رِدَائِهَا1.
قَالَ أبو سليمان: لم يقع هذا الحرف فيما فَسَّرَه أبُو عُبَيْد يريد بذلك أَنَّ أعلاها شَطْب غير عبل فرداؤها صِفْر لا يمتلىء منه وأسْفَلها ردَاحٌ ثقيل يَملأُ الكِساء إذَا تغطّت بِهِ وتُوصَف بِهِ النساء ويُحمد ذَلِكَ من خلقهن يقال ضيب في كثيب قَالَ الأعشى:
صِفْر الرِّداءِ وملءُ الدِّرع بَهْكَنَةٌ ... إذَا تأتى يكاد الخصر ينخزل2
__________
1 حديث أم زرع أخرجه البخاري في النكاح 4/24 ومسلم في فضائل الصحابة 4/1896 وغيرهما.
2 الديوان /145 برواية: "ملء الوشاح وصفر الدرع بهكنة".

(1/731)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عَنْهُ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ عَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيِّ الْمُتَرَّجِ 1.
يَرْوِيهِ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ شَرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يعني بالمترج هاهنا الْمُشْبَعَ حُمْرَةً.
قَالَ أبو سليمان: ولَسْتُ أعرِف حقيقةَ هذا ولا أدري ما أصله. فأمّا القَسِّيُّ فهو منسوبٌ إلى موضعٍ. وقد ذكره أبو عُبيد2 في كتابه. ويقال إن القسي هو الفزي أي المعمول من القز.
__________
1 أخرجه مسلم في 3/1648 وأحمد في أكثر من عشر مرات وكلها بدون كلمة: "المترج". انظر مسند أحمد 1/80, 81, 92, 94, 104, 114.
2 في غربي الحديث لأبي عبيد 1/226: "القسي" وجاء في هامشه: بتشديد الياء وتخفيف السين.
وفي الفائق قسس 3/192: القسي نسبة إلى قرية على ساحل البحر يقال لها القس وكذلك قال لها أبو عبيد وأراد شعر ربيعة بن مقروم:
جعل عتيق أنماط خدورا ... وأظهرن الكرادي والعهونا
على الأحداج واستشعرن ريطا ... عراقيا وقسيا مصونا
وانظر النهاية 1/186.
وقال أبو عبيد أيضا: أصحاب الحديث يقولون: القسي بكسر القاف وقال القسي: ثياب يؤتى مصر فيها حرير.

(1/732)


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 جمع رسول الله بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنْذَرَهُمْ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَهَدَّ مَا سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ2.
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خزيمة نا محمد بن
__________
1 سورة الشعراء: 214.
2 أخرجه الطبري في تفسيره في حديث طويل 19/122.
والفائق "هدد" 4/96.

(1/732)


عِيسَى نا سَلَمَةُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْقَاسِمَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ أبو سليمان قوله: لهد ما سَحَركم كلمة تعجُّب معناه ما أسْحَر صَاحِبَكم وما أعلَمه بالسِّحر تَقُولُ العرب لهَدَّ الرَّجُلُ رَجُلًا أي ما أشدَّه من رَجُل وأَشْجَعَه. ويقال: هَدَّك من رَجُلٍ بمعنى حَسْبُكَ وأنشد ابن الأعرابي:
ولي صَاحِبٌ في الغار هدَّك صَاحِبًا1
يصف ذِئبًا. قَالَ: ومعنى هدَّكَ أي ما أجلّه وما أَنْبلَه. والهَدُّ الرَّجُل الجوادُ الكريم.
__________
آخر أحاديث رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى جميع الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين والحمد لله على الدوام وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الكرام والحمد لله أولا وآخرا باطنا وظاهرا2.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني، وهو أحاديث الصحابة، رضي الله عنهم.
__________
1 اللسان والتاج "هدد".
2 آخر نسخة ت.

(1/733)