غريب الحديث للخطابي

حَدِيثِ أبي الأسود الدُّؤَلِيّ
حديث أبي الأسود: "أنه وضع النحو حين اضطرب كلام العرب فَغَلَبَت السَّلِيقِيَّة"
...
حديث أبي الأسود الدُّؤَلِيّ
*وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ أبي الأسود: "أنه وضع النحو حين اضطرب كلام العرب فَغَلَبَت السَّلِيقِيَّة."1
حُدِّثت به عن أبي خليفة، عن محمد بن مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمْحِيُّ قَالَ: أول من أَسَّسَ العربية, وفتح بابها, وأنهج سبلها, ووضع قياسها أبو الأسود، وكان رجلَ أهل البصرة، وإنما فعل ذلك حين اضطرب كلام العرب, فغلبت السَّلِيقِيَّة.
السَّلِيقِيَّة من الكلام: ما كان الغالب عليه السهولة، وهو مع ذلك فصيح اللفظ منسوب إلى السَّلِيقَة، وهي الطبيعة، ومعناه ما سمح به الطبع, وسهل على اللسان, من غير أن يُتَعهد إعرابه.
يقال: فلان يقرأ بالسَّلِيقِيَّة: أي بطبعه- لم يقرأْ على القراء, ولم يأخذه عن تعليم.
قال الشافعي: كان مالك بن أنس يقرأ بالسَّلِيقِيَّة يستقصره في ذلك، والسَّلِيقِيَّة تُذَم مرة وتُمدح أخرى، إذا ذمت فلعدم الإعراب، وإذا مدحت فللذَّرَابَة والفصاحة، قال الشاعر:
__________
1 تهذيب تاريخ ابن عساكر: 114/7، وفي إنباه الرواة على أنباء النحاة: 14/1, مختصراً.

(3/59)


ولست بنحويٍّ يلوك لسانَه ... ولكن سليقيٌّ أَقُول فَأُعربُ1
__________
1 ط: ".. أقول وأعرب"، والبيت في: اللسان والتاج: "سلق" دون عزو، وتهذيب تاريخ ابن عساكر: 114/7.

(3/60)


*وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ أبي الأسود: "أن أعرابياً وقف عليه وهو يأكل تمرًا, فقال: شيخ هِمٌّ غَابر ماضين ووافد محتاجين، أكلني الفقر ورذلني الدهر ضعيفًا مُسِيْفًا، فناوله تمرة, فضرب بها وجهه, وقال: جعلها الله حظَّك من حظِّك عنده."1.
حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إسماعيل، أخبرنا محمد بن دريد2، أنا أَبُو عثمان الأشنانداني قال: أنا به التَّوَّزي.
قوله: مُسِيفًا: من أَسَاف الرجل إذا ذهب ماله، وأصله من السُّواف؛ وهو داء يصيب الإبل فيهلكها، مضمومة السين مثل القلاب والكباد.
وكان أبو عمرو الشيباني يقول: هو السَّواف، بفتح السين، قال: وجاء هذا شاذاً خارجًا عن قياس أخواته، وذلك أن الأدواء كلها جاءت على وزن فُعَال، وقد يستعار ذلك في غير الإبل فيقال: أَسَاف الرجل، إذا هلك أهله.
أخبرني ابن الزئبقي،3 أخبرنا أبي: أحمد بن عمرو الزئبقي، أخبرنا أبي، أخبرنا الأصمعي قال: كنت يوماً في منزلي فأتاني رجل, فقال: تركت في سوق الصيارفة أعرابيًّا4 يسأل لم أَرَ أفصح منه، فقمت وأنا أجر ثوبي "232" / حتى
__________
1 تهذيب تاريخ ابن عساكر: 115/7, والفائق: "سوف": 210/2.
2 د، ح: "ابن دريد".
3 س، ط: "نا ابن أحمد بن عمرو، نا أبي"، والمثبت من ح، د.
4 د: "رجلًا أعرابيًّا".

(3/60)


أتيت السوق, فإذا به قائماً يسأل, فوجَأْتُ في صدره فقلت: من أنت؟ قال: أنا عكَّاف بن رؤيبة، أَبَوْتُ عشرة وأَخَوْتُ عشرة، كنت مَقْنَعًا للهِمة ومفزعًا للملمة، فانْبَاقَ عليَّ الدهر بكلكله مُتَحَيِّفًا إخوتي واحداً فواحداً، حتى أَسَاف رِجَاليَه، وأَبَاد مالِيَه، فقَرِع مُرَاحي وفنيت أوضاحي، وَمَكَّكَتْنِي السنون، وحَدَجَتْنِي بالمذلة العيون، فرحم الله من أعان أخا جُهْدٍ وشَصَاص وحاجة ولَأْوَاء، نَعَشَكم1 الله بإسباغ الرزق, واصطناع العُرْف".
قال: وإذا هو أبو فرعون الأعرابي.
قوله: انْبَاق علي الدهر بكلكله، أي وطئني بثقله, وأصابني بمكروهه، وأصله من البوق, يقال: باقَتْه بائِقَة، إذا نزلت به نازلة شديدة, ويقال: إن أصل البَوْق كثرة المطر.
وقوله: متحيفًا إخوتي: أي متتبعًا لهم، يأتيهم من نواحيهم, فيهلكهم، وأصله من الحافة وهي الناحية, يقال: حافة الوادي: أي ناحيته, وقد يكون التَّحَيُّفُ من الحيف أيضاً.
وقوله: قَرِع مُراحي: أي صفر وخلا من الغنم, والعرب تقول في دعائها: اللهم إنا نعوذ بك من قرع الفناء وصفر الإناء.
والأوضاح: جمع الوضح، وهو الدراهم الصحاح، والوضح أيضًا حُلِيٌّ من فضة, وجمع على الأوضاح.
وقوله: مَكَّكَتْنِي السنون، أي جهدتني، والأصل في ذلك أن يستقصي
__________
1 ط: "أنعشكم الله".

(3/61)


الجدي ما في الضرع من اللبن, يقال: مَكَّ الجدي ضرع أمه وامْتَكَّهُ وامْتَككت المخة: إذا مصصتها.
وقوله: حدجتني بالمذلة العيون: أي رمتني أبصار الناظرين بالذل, والشَّصَاص: الضيق والشدة, ويقال: إنه لفي شَصَاصاء: أي في شدة وضيق.

(3/62)