سر صناعة الإعراب باب الباء:
الباء: حرف مجهور1، يكون فاء، وعينا، ولاما.
فالفاء نحو: بئر، وبعث، والعين نحو: صبر، وشبع، واللام نحو: ضرب وقرب.
ولا يستعمل زائدا.
وأخبرنا أبو علي بإسناده إلى الأصمعي قال: كان أبو سوار الغنوي2 يقول:
باسمك؟ يريد: ما اسمك؟ فهذه الباء بدل من الميم. وقالوا: بعكوكة3،
وأصلها: معكوكة، فالباء بدل من الميم، لأنها من الشدة، وهي من المعك4.
فأما قول النحويين الباء والكاف واللام الزوائد، يعنون نحو بزيد وكزيد
ولزيد، فإنما قالوا فيهن5 إنهن زوائد، لما أذكره لك. وذلك أنهن لما كن
على حرف واحد، وقللن غاية القلة، واختلطن بما بعدهن، خشي عليهن لقلتهن
وامتزاجهن بما يدخلن عليه، أن يظن بهن أنهن بعضه، وأحد أجزائه،
فوسموهن6 بالزيادة لذلك، ليعلموا من حالهن أنهن لسن من أنفس ما وصلن
به، ولا من الزوائد التي تبنى في الكلم بناء بعض أجزائهن منهن، نحو:
الواو في كوثر7، والميم والسين في
__________
1 المجهور: صوت يتردد معه الوتران الصوتيان ترددا منتظما في الحنجرة
كالذال والدال مثلا.
2 أبو سوار الغنوي: كان أعرابيا فصيحا أخذ عنه أبو عبيدة فمن دونه.
3 البعكوكة: جماعة الناس أو الإبل في ازدحام وجلبة، وآثار القوم حيث
نزلوا، ومن الدار ونحوها: وسطها، وبعكوكة الصيف أو الشتاء: اشتداد الحر
أو البرد. اللسان "1/ 314".
تنبيه: ورد في المتن أن البعكوكة هي المعكوكة بمعنى الشدة والذي وجدناه
في مادة "معك" بمعنى الشدة كلمة "المعكوكاء" يقال: وقعوا في معكوكاء:
أي في غبار وجلبة وشر.
4 المعك: شدة الدلك، ورجل معك: شديد الخصومة. مادة "معك". اللسان "6/
4235".
5 فيهن: أي في الباء والكاف واللام، ونلاحظ أنه عوض عنهن بنون النسوة
دلالة على تأنيثه للحرف والحرف يذكر ويؤنث كما في القاموس.
6 وسموهن: وصفوهن.
7 الكوثر: العدد الكثير، وفي التنزيل العزيز {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَر} ، والخير العظيم، الرجل السخي. مادة "كثرة". اللسان "5/
3828".
(1/131)
مستخرج1، والتاء في تنضب، ألا ترى أن أهل
التصريف قالوا: لا تزاد اللام إلا في أحرف يسيرة2، نحو: لك وأولك
وهنالك وعبدل وزيدل، ولم يذكروا مع ذلك قولنا: المال لزيد ولعمرو، لأن
هذه اللام ليست مبنية في الكلمة3، إنما هي أداة عاملة فيها الجر،
بمنزلة من وفي وعن، ولو كانت مبنية في الكلمة لما كانت عاملة فيها، ولا
جاز فصلها منها، كما أن التاء في تنضب وترتب 4 والياء في يرمع5
ويعملة6، لا يجوز فصلها منها.
ويزيد ذلك وضوحا لك، أنهم قالوا الكاف الزائدة، يعنون كزيد وكعمرو، لم
يقل أحد من النحويين إن الكاف من حروف الزيادة، ألا ترى أن "اليوم
تنساه"7 لا كاف فيه، وإنما وسموا الكاف بالزيادة لقلتها، مخافة أن يظن
ظان أنها من جملة ما تدخل عليه فتجره.
فإن قلت: فهلا وسموا الواو والتاء في القسم بالزيادة وهما على ما ترى
حرف واحد؟
فالجواب أن الواو في القسم إنما هي بدل من الباء فيه، والتاء بدل من
الواو، فالأصل فيهما إنما هو الباء، فلما كانت الباء قد تقدم كرهان
وكانتا إنما هما بدل منها، استغني عن ذكرهما بالزيادة.
__________
1 نلحظ أنه ذكر الميم والسين فقط كأحرف زائدة في كلمة "مستخرج" ولم
يذكر التاء مع أنها أيضا من حروف الزيادة فأصل الكلمة "خرج".
2 أحرف يسيرة: يقصد كلمات قليلة فكلمة حرف تأتي بمعنى الكلمة، كما تأتي
بمعنى اللغة واللهجة أيضا، وذلك كما في حديث الرسول صلى الله عليه
وسلم: "نزل القرآن على سبعة أحرف" يقصد سبع لهجات.
3 ليست مبنية في الكلمة: أي لم تدخل في بناء الكلمة بحيث تصبح كحرف من
حروفها الأصلية ولا يمكن فصله أو حذفه عنها.
4 الترتب: قال أبو عبيد: هو الأمر الثابت. اللسان "1/ 425". مادة
"ترتب".
5 اليرمع: الحصى البيض تتلألأ في الشمس، الواحدة يرمعة. اللسان "3/
1731".
6 اليعملة: من الإبل النجيبة المعتملة المطبوعة على العمل. اللسان "4/
3109".
7 "اليوم تنساه" هاتان الكلمتان تجمعان حروف الزيادة، وهناك ترتيب آخر
لها تجمعها فيه كلمة "سألتمونيها".
(1/132)
فإن قلت: فهلا وسموا لام الجزم بالزيادة،
لأنها حرف واحد، وليست بدلا من الباء ولا من غيرها؟
فالجواب أن أمثلة الأفعال محصورة ضيقة، يحيط بها الوصف والتحجر1 عن
قرب، فقد علم أن اللام لا يظن بها أنها من جملة المثال2. الذي دخلت
عليه، والأسماء ليست كذلك لأنها كثيرة الأمثلة، منتشرة الموازين يمكن
أن يظن بحروف الجر المفردة أنها مبنية مع بعضها، فلذلك احتاجوا إلى
سمتها بالزيادة، ليؤمن فيها الإشكال3. ألا ترى أن قولك بعمرو، ولعمرو
بوزن سبطر4 ودمثر، وأنت لو قلت، ليقم وليقعد لم تجد هنا مثالا من
الأفعال يلتبس به هذان الفعلان.
فهذا كله يسشهد بعلة تسميتهم هذه الحروف زوائد، ويحتج عمن عبر عنهم
بهذه العبارة، فأما حذاق أصحابنا فلا يسمونها بذلك، بل يقولون في الباء
واللام إنهما حرفا الإضافة، وفي الكاف حرف جر، وحرف تشبيه.
ويدلك أيضا على أنهم لا يريدون في هذه الأحرف بالزيادة ما يريدونه في
حقيقة التصريف، أنهم يقولون في قولنا: "ليس زيد بقائم" إن الباء زائدة
في خبر ليس، لأن معناه ليس زيد قائما، وإذا قالوا مررت بزيد لم يقولوا
في هذه الباء إنها زائدة، لأنه ليس من عادتهم أن يقولوا مررت زيدا، وإن
كنا نعلم أنها زائدة في الموضعين جميعا، فقد علمت بهذا أنهم لا يريديون
بالزيادة هنا حقيقة التصريف، وهذا أمر واضح مفهوم.
ومن طريف ما يحكى من أمر الباء أن أحمد بن يحيى قال في قول العجاج5:
يمد زأرا وهدير زغدبا6
__________
1 التحجر: التضييق، مادة "حجر". اللسان "2/ 782".
2 من جملة المثال: يقصد من عداد حروف الفعل.
3 الإشكال: اللبس. مادة "شكل". اللسان "4/ 2311".
4 السبطر: كهربر الماضي الشهم، مادة "سبطر". القاموس المحيط "2/ 43".
5 العجاج: هو عبد الله بن رؤبة، أحد بني سعد بن مالك بن زيد مناة بن
تميم.
6 الزغدب، والزغادب: الهدير الشديد. اللسان "3/ 1838" مادة "زغدب".
الشاهد فيه كلمة "زغادبا" فقد حكى المؤلف أن أحمد بن يحيى اعتبر الباء
فيها زائدة وهذا ما اعترض عليه ابن جني. انظر، لسان العرب "3/ 1838".
إعراب الشاهد: زغدبا: نعت منصوب وعلامة نصبه الفتحة.
(1/133)
إن الباء فيه زائدة، وذلك أنه لما رآهم
يقولون هدير زغد، وزغدب، واعتقد زيادة الباء في زغدب، وهذا تعجرف منه،
وسوء اعتقاد، ويلزم من هذا أن تكون الراء في سبطر ودمثر زائدة، لقولهم:
سبط1 ودمث2، وسبيل ما كانت هذه حاله ألا يحفل به، ولا يتشاغل بإفساده.
واعلم أنهم قد سموا هذا الباء في نحو قوله: مررت بزيد، وظفرت ببكر،
وغير ذلك، مما تصل فيه الأسماء بالأفعال، مرة حرف إلصاق، ومرة حرف
استعانة، ومرة حرف إضافة وكل هذا صحيح من قولهم.
فأما الإلصاق فنحو قولك أمسكت زيدا، يمكن أن تكون باشرته نفسه، وقد
يمكن أن تكون منعته من التصرف من غير مباشرة له، فإذا قلت: أمسكت بزيد،
فقد أعلمت أنك باشرته وألصقت محل قدرك3، أو ما اتصل بمحل قدرك به أو
بما اتصل به، فقد صح إذن معنى الإلصاق.
وأما الاستعانة فقولك: ضربت بالسيف، وكتبت بالقلم، وبريت بالمدية4، أي
استعنت بهذه الأدوات على هذه الأفعال.
وأما بالإضافة فقولك مررت بزيد، أضفت مرورك إلى زيد بالباء، وكذلك عجبت
من بكر، أضفت عجبك من بكر إليه بمن.
فأما ما يحكيه أصحاب الشافعي5 رحمه الله عنه، من أن الباء للتبعيض،
فشيء لا يعرفه أصحابنا، ولا ورد به ثبت.
__________
1 سبط: استرسل. مادة "سبط". اللسان "3/ 1922".
2 دمث: لان وسهل. مادة "دمث". اللسان "2/ 1418".
3 محل قدرك: يزيد المكان الذي قدرت به على الالتصاق بزيد ومباشرته.
4 المدية: السكين.
5 الشافعي: هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع،
عالم قريش وفخرها، وإمام الشريعة وحبرها، وهو من ولد المطلب بن عبد
مناف، ولد بمدينة غزة سنة 150هـ، وتوفي سنة 204هـ.
(1/134)
وهذا موضع لا بد فيه من ذكر العلة التي لها
صارت حروف الإضافة هذه جارة، لأن الباء واحدة منها، وإذا ذكرنا فالقول
فيها هو القول في سائر حروف الجر.
اعلم أن هذه الحروف، أعني الباء، واللام، والكاف، ومن، وعن، وفي، وغير
ذلك، إنما جرت الأسماء، من قبل أن الأفعال التي قبلها ضعفت عن وصولها
وإفضائها إلى الأسماء التي بعدها، وتناولها إياها كما يتناول غيرها من
الأفعال القوية الواصلة إلى المفعولين ما يقتضيه منهم، بلا وساطة حرف
إضافة، ألا تراك تقول: ضرب زيد عمرا فيفضي الفعل بعد الفاعل إلى
المفعول، فينصبه، لأن في الفعل قوة أفضت به إلى مباشرة الاسم.
ومن الأفعال أفعال ضعفت عن تجاوز الفاعل إلى المفعول، فاحتاجت إلى
أشياء تستعين بها على تناولها، والوصول إليها، وذلك نحو: عجبت ومررت
وذهبت، لو قلت: عجبت زيدا، ومررت جعفرا، وذهبت محمدا، ولم يجز ذلك،
لضعف هذه الأفعال في العرف والاستعمال عن إفضائها إلى هذه الأسماء.
على أن ابن الأعرابي قد حكي عنه: مررت زيدا، وهذا شاذ، فلما قصرت هذه
الأفعال عن الوصول إلى هذه الأسماء، رفدت1 بحروف الإضافة، فجعلت موصلة
لها إليها، فقالوا: عجبت من زيد، ونظرت إلى عمرو، وخص كل قبيل من هذه
الأفعال بقبيل من هذه الحروف، وقد تتداخل، فيشارك بعضها بعضا في هذه
الحروف الموصلة، فلما احتاجت هذه الأفعال إلى هذه الحروف، لتوصلها إلى
بعض الأسماء، جعلت تلك الحروف جارة، وأعملت هي في الأسماء، ولم يفض إلى
الأسماء النصب الذي يأتي من الأفعال، لأنهم أرادوا أن يجعلوا بين الفعل
الواصل بنفسه، وبين الفعل الواصل بغيره فرقا، ليميزوا السبب الأقوى من
السبب الأضعف، وجعلت هذه الحروف جارة، ليخالف لفظ ما بعدها لفظ ما بعد
الفعل القوي. ولما هجروا لفظ النصب لما ذكرنا، لم يبق إلا الرفع والجر،
فأما الرفع فقد استولى عليه الفاعل، فلم يبق إذن غير الجر، فعدلوا
إليه2 ضرورة. ولشيء آخر، وهو أن
__________
1 رفد: اتبعت. مادة "رفد". اللسان "3/ 1687".
2 عدلوا إليه: رجعوا إليه.
(1/135)
الفتحة من الألف، والكسرة من الياء، والياء
أقرب إلى الألف من الواو، فلما منعت الأسماء بعد هذه الحروف النصب، كان
الجر أقرب إليها من الرفع.
هذا هو العلة في كون هذه الحروف جارة.
فإن قلت: فقد تقول: المال لك، وإنما أنا بك، وأنا منك، ونحو ذلك، ما لا
تصل هذه الحروف فيه الأفعال بالأسماء.
فالجواب: أنه ليس في الكلام حرف جر غير زائد، وأعني بالزائد ما دخوله
كخروجه، نحو: لست بزيد، وما في الدار من أحد، إلا هو متعلق بالفعل في
اللفظ أو المعني، أما في اللفظ فقولك: انصرفت عن زيد، وذهبت إلى بكر،
وأما في المعنى فقولك: المال لزيد، تقديره: المال حاصل أو كائن لزيد،
وكذلك زيد في الدار، إنما تقديره: زيد مستقر في الدار، ومحمد من
الكرام: أي محمد حاصل من الكرام أو كائن من الكرام، فإذا كان الأمر
كذلك فقد صح ووضح ما قدمناه.
فإن قلت: فإذا كانت هذه الحروف التي أوصلت الأفعال إلى الأسماء إنما
جرت الأسماء، لأنهم أرادوا أن يخالفوا بلفظ ما بعدها لفظ ما بعد الفعل
القوي، فما بالهم قالوا: قمت وزيدا، واستوى الماء والخشبة، وجاء البرد
والطيالسة1، وما صنع وأباك؟ ولو تركت الناقة وفصيلها2 لرضعها.
ومن أبيات الكتاب3:
فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال4
__________
1 الطيالسة: الواحد "الطيلسان" وهو ضرب من الأكسية. اللسان "4/ 2689".
مادة "طلس".
2 الفصيل: ولد الناقة بعد فطامه "ج" فصلان. مادة "فصل". اللسان "5/
3423".
3 أورد سيبويه البيت في باب المفعول به "1/ 150" ولم ينسبه واستشهد
الزمخشري وغيره من النحاة، ولم ينسبوه إلى قائلة.
4 الكليتين: تثنية كلية بضم الكاف.
الطحال: بكسر الطاء.
بني أبيكم: الإخوة وأولاد العم.
الشرح: يطلب الشاعر ممن يخاطبهم التماسك مع أبناء عمومتهم.
الشاهد في قوله: "بني أبيكم" فقد جاءت منصوبة بعد الواو التي هي
للمعية.
(1/136)
فأوصلوا هذه الأفعال إلى ما بعد هذه الواو،
وبتوسط الواو، وإيصالها للفعل إلى ما بعدها من الأسماء.
وقالوا أيضا: قام القوم إلا زيدا، ومررت بالقوم إلا بكرا، فأوصلوا
الفعل إلى ما بعد ألا بتوسط إلا بين الفعل وبين ما بعدها من الأسماء،
وذلك لضعف الأفعال قبل الواو وإلا عن وصولها إلى ما بعدهما، كما ضعفت
الأفعال قبل حروف الجر عن مباشرتها الأسماء، ونصبها إياها، فلم لم يجر
هذان الحرفان، أعني الواو وإلا، مجرى حروف الجر، في أن جر بهما ما
بعدهما، كما جر بحروف الجر ما بعدها؟ وهلا لما أوصلوا الأفعال قبل هذين
الحرفين إلى الأسماء التي بعدهما، ولم يجروا بهما، بل أفضى نصب الفعل
بهما إلى ما بعدهما، أوصلوا الأفعال التي قبل حروف الجر إلى الأسماء
التي بعدها، وأظهروا نصب الفعل الأسماء التي بعد حروف الجر، فقالوا:
مررت بزيدا، ونظرت إلى بكرا، كما قالوا: قمت وزيدا، وقام القوم إلا
بكرا؟ وما الفرق بين الموضعين؟
فالجواب: أن الواو وإلا يفارقان حروف الجر في ذلك.
أما الواو مع المفعول معه في نحو: قمت وزيدا، فجارية هنا مجرى حروف
العطف، الدلالة على ذلك أن العرب لم تستعملها قط1 بمعنى مع، إلا في
الموضع الذي لو استعملت فيه عاطفة لصلحت.
ألا ترى أنك إذا قلت: قمت وزيدا أي مع زيد، قد كان يجوز لك فيه أن
تقول: قمت وزيد، فتعطف زيدا على ضمير الفاعل، وكذلك قولهم: لو تركت
الناقة وفصيلها لرضعها، قد كان يجوز لك أن تعطف فتقول: وفصيلها، وكذلك
قولهم: جاء البرد والطيالسة، قد كان يجوز أن تقول: والطيالسة، فترفع
على العطف.
فلما كانت الواو في المفعول معه جارية مجرى حروف العطف، وحروف العطف
غير عاملة جرا ولا غيره، لم يجز أن يجر بها إذا أوصلت الفعل إلى
المفعول معه، كما يجر بحروف الجر، لأنها قد أوصلت الأفعال.
__________
1 قط: يقال ما فعلت هذا قط: أي فيما مضى. مادة "قط". اللسان "5/ 3672".
(1/137)
ويؤكد عندك أيضا أن الواو التي بمعنى مع
جارية مجرى حرف العطف، وأنها لا توقع إلا في الأماكن التي لو عطف بها
فيها لصلح ذلك، امتناع العرب والنحويين من إجازتهم: انتظرتك وطلوع
الشمس، أي مع طلوع الشمس.
قالوا: وإنما لم يجز ذلك: لأنك لو رمت هنا أن تجعلها عاطفة، فتقول:
انتظرتك وطلوع الشمس فترفع الطلوع عطفا على التاء، لم يجز، لأن طلوع
الشمس لا يجوز منه انتظار أحد، كما يجوز أن تقول: قمت وزيد، فتعطف زيدا
على التاء، لأنه قد يجوز من زيد القيام.
فهذا مذهب من الوضوح على ما تراه1.
وعلى أن أبا الحسن2 قد كان يذهب في المفعول معه إلى أن انتصابه انتصاب
الظرف. قال: وذلك أن الواو في قولك: قمت وزيدا، إنما هي واقعة موقع مع،
فكأنك قلت: قمت مع زيد، فلما حذفت "مع" وقد كانت منتصبة على الظرف، ثم
أقمت الواو مقامها، انتصب زيد بعدها على معنى انتصاب مع الواقعة الواو
موقعها، وإذا كان ذلك كذلك، وقد كانت مع منصوبة بنفس قمت بلا وساطة
فكذلك يكون انتصاب زيد بعد الواو المقامة مقامها جاريا مجرى انتصاب
الظروف، والظروف مما يتناولها قمت بلا وساطة حرف، فكأن الواو الآن على
مذهب أبي الحسن، ليست موصلة لقمت إلى زيد، كما يقول كافة أصحابنا3،
وإنما هي مصلحة لزيد أن ينتصب بتوسطها انتصاب الظرف، وليست موصلة للفعل
إلى ما بعده إيصال حروف الجر الأفعال قبلها إلى الأسماء بعدها، فلذلك
لم يجر بالواو في المفعول معه. فهذا حال الواو.
__________
1 هذا الذي يراه المؤلف من أن واو المعية تجري مجرى حروف العطف، وأن
حروف العطف تصلح أن تقع مكانها مخالف لرأي جمهور النحاة والذي يمثله
ابن هشام في تعريف المفعول معه فيقول: "المفعول معه" وكل اسم فضل وقع
بعد واو بمعنى مع وتقدمه فعل أو شبهه، ولم يصح عطفه على ما قبله".
انظر/ ابن عقيل.
والجملة الأخيرة في التعريف مخالفة تماما لما ذهب إليه ابن جني.
2 أبو الحسن: هو سعيد بن مسعدة المجاشعي "الأخفش الأوسط".
3 كافة أصحابنا: يقصد النحاة البصريين.
(1/138)
وأما إلا في قولك: قاموا إلا زيدا، فإنها
وإن كانت قد أوصلت قام إلى زيد، حتى انتصب بها، فإنها لم تجر من قبل
أنها لم تخلص للأسماء دون الأفعال والحروف، ألا تراك تقول: ما جاءني
زيد قط إلا يقرأ، ولا مررت بمحمد قط إلا يصلي، ولا نظرت إلى بكر إلا في
المسجد، ولا رأيت أخاك إلا على الفرس، فلما لم يخلصها العرب للأسماء،
بل باشرت بها الأفعال والحروف، كما باشرت بها الأسماء، لم يجز لها أن
تعمل جرا ولا غيره، وذلك لأن الحروف التي تباشر الأسماء والأفعال
جميعا، لا يجوز أن تكون عاملة، وذلك نحو: هل زيد أخوك؟ وهل قام زيد؟
وما زيد أخوك، وما قام زيد، في لغة بني تميم1، ولا يكون العامل في أحد
القبيلين إلا مختصا بما يعمل فيه، بل إذا وجدنا حروفا تختص بأحد
القبيلين2، ثم لا تعمل فيما اختصت به شيئا، وذلك مثل لام التعريف في
اختصاصها بالأسماء، وقد وسوف في اختصاصهما بالأفعال، فما يشيع فيهما
ولا يختص بأحدهما، أحرى3 ألا يكون له عمل في شيء منهما.
فلذلك لم يجر "إلا" في قولك: قام القوم إلا محمد، وإن كانت قد أوصلت
الفعل قبلها إلى الاسم بعدها4.
على أن أبا العباس قد ذهب في انتصاب ما بعد إلا في الاستثناء، إلى أنه
بناصب يدل عليه معقود الكلام، فكأنه عنده إذا قلت: قاموا إلا بكرا
تقديره: أستثني بكرا، أو لا أعني بكرا، فدلت إلا على "أستثني"، "لا
أعني".
__________
1 هذه العبارة متعلقة بقوله: "أن تكون عاملة".
وبنو تميم لا يعملون "ما" على الإطلاق فيرفعون بعدها المبتدأ والخبر
فيقولون في قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} [سورة يوسف] ، "ما هذا
بشر". وهذه قراءة ابن مسعود وهي شاذة.
وهذا خلاف ما ذهب إليها الحجازيون فهم يعملون "ما" عمل ليس فترفع الاسم
وتنصب الخبر، وذلك بشروط خاصة.
2 القبيلين: يقصد الفعل، والاسم.
3 أحرى: أجدر. مادة "حرى". اللسان "2/ 852".
4 تلخيص رأي المؤلف في عدم جواز جر ما بعد واو المعية وإلا، أن الواو
شبهت حروف العطف وإلا- لم يجر ما بعدها، لأنها لم تختص بالأسماء.
(1/139)
وهذا وإن كان مذهبا مدخولا عندنا، وهو بضد
الصواب الذي هو مذهب سيبويه، فقد قال به رجل يعد جبلا في العلم1، وإليه
أفضت مقالات أصحابنا، وهو الذي نقلها وقررها، وأجرى الفروع والعلل
والمقاييس عليها، وعلى أن الكوفيين أيضا قد خالفوا سيبويه وأصحابه2،
وأبا العباس ومن رأى رأيه، في انتصاب المستثنى، فهذا كله يوجدك العلة
التي لها فارقت "إلا" حروف الجر.
واعلم أن الفعل إذا أوصله حرف الجر إلى الاسم الذي بعده، وجره الحرف،
فإن الجار والمجرور جميعا في موضع نصب بالفعل الذي قبلهما، وذلك قولك:
مررت بزيد، فزيد مجرور، وبزيد جميعا في موضع نصب، والدلالة على صحة هذه
الدعوى3 مطردة من وجهين: أحدهما أن عبرة هذا الفعل الذي يصل بحرف الجر
قد تجدها فيما يصل بنفسه.
ألا ترى أن قولك: مررت بزيد، في معنى جزت زيادا، وكذلك نظرت إلى عمرو
في معنى: أبصرت عمرا، وانصرفت عن محمد: أي جاوزت محمدا، فهذا من طريق
المعنى، وأما من طريق اللفظ، فإن العرب قد نصبت ما عطفته على الجار
والمجرور جميعا، منصوبا، لأنهما جميعا منصوبا الموضع، وذلك قولهم: مررت
بزيد وعمرا، ونظرت إلى محمد وخالدا.
__________
1 يعد جبلا في العلم: تشبيه يفيد رسوخ أبي العباس في العلم.
2 مذهب سيبويه أن الناصب للمستثنى هو ما قبل إلا من الكلام.
انظر الكتاب "1/ 369" طبعة بولاق، وهو ما أشار إليه المؤلف في هذا
المقام.
ومذهب الفراء من الكوفيين أن المستثنى منصوب بإلا، على تقدير أن إلا
مركبة من "إن" بالتشديد، و"لا" ثم خففت إن، وأدغمت في لا، فنصبوا بها
في الإيجاب، اعتبار بأن، وعطفوا بها في النفي، اعتبارا بلا.
وحكي عن الكسائي من الكوفيين أنه قال: إنما نصب المستثنى، إذ تأويله
في: قام القوم إلا زيدا: قام القوم إلا أن زيدا لم يقم، كما حكي عنه
أنه مشبه بالمفعول.
"انظر/ ص118-122" من كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين
البصريين والكوفيين، طبعة ليدن سنة 1933.
3 الدعوى: ما يدعى، ويقال: دعوى فلان كذا، والجمع دعاوي، ودعاو.
وفي القضاء: قول يطلب به الإنسان إثبات حق على غيره، مادة "دعا".
اللسان "2/ 1388".
(1/140)
وعلى هذا ما أنشده سيبويه من قول لبيد1:
فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معد فلتزعك العواذل2
فعطف "دون" على موضع "من دون". وأنشد أيضا لعقيبة الأسدي3:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا4
عطف الحديد على موضع "بالجبال".
__________
1 لبيد: هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين
وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام، وقد أسلم
لبيد وحسن إسلامه ومات بالكوفة سنة إحدى وأربعين من الهجرة عن عمر
يناهز المائة وثلاثين عاما.
2 العواذل: زواجر الأيام من حوادثها وخطوبها. تزعك: تكفك.
شرح البيت على هذا: أن زواجر الأيام تكفه وتمنعه عم يشين.
الشاهد في قوله: "دون" فقد نصبها، عطفا على محل من دون، كما ذكر
المؤلف.
3 عقيبة بن هبيرة، شاعر من قبيلة "أسد" وهو من المخضرمين الذين عاشوا
في الجاهلية والإسلام ويخاطب في بيته معاوية بن أبي سفيان.
4 معاوي: هو معاوية بن أبي سفيان، وحذفت التاء على ترخيم المنادى.
أسجح: ارفق وسهل.
الشرح: يشكو الشاعر إلى معاوية ظلم العمال ويطلب منه الرفق والتسهيل.
والشاهد في قوله "الحديدا" فقد نصبها عطفا على محل "بالجبال".
وقد ذكر التأويل سيبويه واعترض عليه المبرد وتبعه جماعة منهم العسكري
وصاحب التصحيف. فقالوا: إن رواية سيبويه بالنصب، مع أن البيت ورد في
قصيدة مجرورة وبعده ما يدل على ذلك، وهو قوله.
فهبنا أمة ذهبت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد.
أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد
ترجون الخلود إذا هلكنا ... فلا لكم ولا لي من خلود
ومعنى جردتموها: أي استأصلتم ما عليها. انظر، الكتاب "1/ 34".
وقد دافع الأعلم عن سيبويه وقال: ليس سيبويه بمتهم فيما نقله فقد ذكر
بيتا آخر منصوبا بعده وهو:
أديرها بني حرب عليكم ... ولا ترموا بها الغرض البعيدا
فلعلها قصيدة أخرى، وقيل البيت لعبد الله بن الزبير، وليس ببعيد أن
يكون للشاعرين أخذه أحدهما من صاحبه وهذا كثير في الشعر.
(1/141)
ولهذا قال سيبويه: إنك إذا قلت: مررت بزيد،
فكأنك قلت: مررت زيدا، تريد بذلك أنه لولا الباء الجارة لانتصب زيد،
وعلى ذلك أجازوا مررت بزيد الظريف، بنصب الظريف1 على موضع بزيد، ومن
هنا أيضا قضى النحويون على موضع الجار والمجرور إذا أسند الفعل إليهما،
بأنهما في موضع رفع، وذلك نحو: ما جاءني من رجل، وما قام من أحد، وكذلك
ما لم يسم فاعله، نحو: سير بزيد، وعجب من جعفر، ونظر إلى محمد، وانصرف
عن زيد، وانقطع بالرجل.
وإنما قضوا في هذه الأشياء في هذه المواضع برفع معانيها، من قبل أنها
قد كانت مع الفعل المسند إلى فاعله منصوبة المواضع، نحو: سرت بزيد،
وعجبت من خالد، ونحو ذلك، فلما لم يسم الفاعل، وأسند الفعل الذي كان
منصوبا مع الفعل، قضي برفعه، لقيامه مقام الفاعل، فإذا جاز لهم أن
يقضوا على موضع الفعل والفاعل في بعض المواضع بأنهما في موضع رفع، وإن
كان الفعل مستقلا بفاعله، وذلك قولهم: حبذا2 زيد، وحبذا هند، فأن يقضوا
على موضع الجار والمجرور، اللذين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، ولا يجوز
الفصل بينه وبينه بظرف ولا غيره، أجدر بالجواز. ويدلك على شدة امتزاج3
حرف الجار بما جره، وأن العرب قد أجرتهما جميعا مجرى الجزء الواحد،
قولهم: مررت بي، والمال لي، فتسكينهم الياء في بي ولي، وكونهما4 على
حرف واحد يدلك على اعتمادهما على الباء واللام قبلهما، وأنهما غير
مقدري الانفصال منهما5، لقلتهما في العدد، وضعفهما بالسكون.
ولأجل ما ذكرناه من شدة اتصال الجار بالمجرور، ما قبح عندهم حذف الجار
وتبقية جره بحاله، إلا فيما شذ عنهم، من ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم
في القسم مع الخبر لا الاستفهام، وذلك قولهم: الله لأقومن.
__________
1 هذا ما يعرف بالإتباع على المحل.
2 حبذا: الأمر -أسلوب للمدح- ويقال: حبذا الرجل والرجلان والرجال
والمرأة، والمرأتان والنساء.
3 امتزاج: يقصد الترابط الشديد الذي يجعلهما ككلمة واحدة، وسيأتي ذلك
في المتن.
4 يريد كون الياء في اللفظين: بي، لي.
5 منهما: أي من الياءين.
(1/142)
وحكى أبو العباس أن رؤبة قيل له: كيف
أصبحت؟ فقال: خير، عافاك الله! أي بخير، فحذف الباء، وأنشدوا قول
الشاعر1:
رسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضي الغداة من جلله2
أي رب رسم دار.
فأما قولهم "لاها لله ذا" فإنها صارت عندهم عوضا من الواو، ألا تراها
لا تجتمع معها، كما صارت همزة الاستفهام في الله إنك لقائم عوضا من
الواو، وهذا كأنه أسهل من الأول، وكلاهما لا يجوز القياس عليه.
واعلم أن هذه الباء قد زيدت في أماكن. ومعنى قولي زيدت أنها إنما جيء
بها توكيدا للكلام. ولم تحدث معنى، كما أن "ما" من قوله عز اسمه:
{فَبِمَا نَقْضِهِم} [النساء: 155] ، و {عَمَّا قَلِيل} ، و {مِمَّا
خَطِيئَاتِهِم} ، إنما تقديره: فبنقضهم، وعن قليل، ومن خطيئاتهم، ونحو
ذلك قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} [الزمر: 36] 3
تقديره: كافيا عبده، وقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي ألست ربكم؟،
{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} 4 [يوسف: 17] أي مؤمنا لنا، {وَمَا
أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 114] ، أي طارد المؤمنين.
__________
1 الشاعر هو جميل بن معمر العذري اشتهر بالعشق لجارية تسمى بثينة،
وإليها نسب فكان يقال: "جميل بثينة".
2 الطلل: ما بقي شاخصا من آثار الديار ونحوها "ج" أطلال، طلول. مادة
"طلل".
الغداة: ما بين الفجر وطلوع الشمس. من جلله: أي من أجله.
الشرح: لقد كدت أموت حين وقفت في أطلال ديار الحبيب من أجلها.
والشاهد: جر كلمة "رسم" بحرف جر محذوف هو "رب".
3 {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} : كاف: أي حافظه من شر أعدائه.
مادة "كفى".
عبده: الرسول صلى الله عليه وسلم.
والشاهد فيها زيادة الباء في قوله جل شأنه "بكاف".
4 {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَ ا} : أي وما أنت بمصدق لنا، وردت على
لسان إخوة يوسف حين تعللوا لأبيهم عن فقدهم ليوسف.
والشاهد فيها زيادة الباء في قوله تعالى: {بِمُؤْمِنٍ} .
(1/143)
فأما قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْن}
[المؤمنين: 20] فذهب كثير من الناس إلى أن الباء فيه زائدة، وأن
تقديره: "تنبت الدهن".
وكذلك قول عنترة1:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم2
قالوا: أراد: شربت ماء الدحرضين. وهذا عند حذاق أصحابنا على غير وجه
الزيادة، وإنما تأويله عندهم -والله أعلم- تنبت ما تنبته والدهن فيها،
كما تقول: خرج زيد بثيابه، أي وثيابه عليه، وركب الأمير بسيفه، أي
وسيفه معه.
وكما أنشد الأصمعي:
ومستنة كاستنان الخرو ... ف قد قطع الحبل بالمرود3
أي قطع الحبل ومروده فيه.
__________
1 عنترة: هو عنترة بن شداد بن قراد العبسي أحد فرسان العرب وشعرائها،
أحب ابنة عمه عبلة وقال فيها الشعر متغزلا بجمالها، وقد طال عمره حتى
ضعف جسمه وعجز عن شن الغارات ومات قبيل البعثة.
2 البيت من قصيدة لعنترة طويلة مطلعها:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
والبيت هو رقم "29" منها.
والدحرضان: اسم مورد من موارد الماء.
زوراء: عوجاء مائلة من النشاط. اللسان "3/ 1887". مادة "زور".
الديلم: اسم عدوة وهو الديلم بن باسل بن ضبة.
الشرح: لقد ارتوت من حياض الدحرضين فلما رأت حياض الديلم تجافت عنها
لخوفها منها.
والشاهد في قوله "بماء" فقد وردت الباء وهي حرف جر زائد، والتقدير
"شربت ماء".
3 البيت لرجل من بني الحارث، كما حكاه الأصمعي في كتاب الفرس، وبعده:
دفوع الأصابع ضرح الشمو ... س نجلاء مؤيسة العود
مستنة: يريد طعنة، والاستنان: المر على وجهه، أي أن دمها مر على وجهه.
الخروف: ولد الحمل وقيل: هو الجذع من الضأن خاصة. اللسان "2/ 1140".
المرود: حديدة توتد في الأرض، يشد فيها حبل الدابة. اللسان "3/ 1774".
والشاهد في قوله "بالمرود" أي قطع الحبل بمروده.
(1/144)
ونحن هذا قول أبي ذؤيب1:
يعثرن في حد الظبات كأنما ... كسيت برود بني تزيد الأذرع2
يصف الحمير: أي يعثرن وهن مع ذلك قد نشبن3 في حد الظبات.
وكذلك قوله: "شربت بماء الدحرضين" إنما الباء في معنى في، كما تقول:
شربت بالبصرة وبالكوفة، أي في البصرة والكوفة، أي شربت وهي بماء
الدحرضين، كما تقول: وردنا صداء4، ووافينا شجا5، ونزلنا بواقصة6.
__________
1 أبو ذؤيب: الهذلي هو خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن
صاهلة بن كاهل بن الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل.
وكان شاعرا فحلا لا غميزة فيه ولا وهن، قال عنه حسان بن ثابت، أبو ذؤيب
أشعر هذيل، وهذيل أشعر الناس. "طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي".
2 هذا البيت من قصيدة أبي ذؤيب المشهورة التي مطلعها:
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
وهو في وصف حمير الوحش.
الظبات: جمع الظبة، وهي حد السيف والسنان والخنجر. اللسان "4/ 2744".
مادة "ظبا".
الشرح: حيث تعثرت في حد السنان دميت أذرعها وصار الدم عليها كخطوط
حمراء كأنها خطوط البرود اليزيدية. ويزيد تاجر كان يبيع العصب في مكة.
وفي الرواية التي أوردها المؤلف: تزيد بالتاء، وهو تزيد بن حلوان بن
عمران بن الحاف بن قضاعة، تنسب إليه البرودة التزيدية.
الشاهد مشروح في المتن.
إعراب الشاهد: يعثرن: فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة،
والنون ضمير مبني في محل رفع فاعل. في حد: جار ومجرور.
الظبات: مضاف إليه مجرور وعلامة الجر الكسرة.
3 نشبن: من نشب في الشيء إذا علق به. مادة "نشب". اللسان "6/ 4420".
4 صداء: بفتح الصاد، ثم التشديد والمد، ويروى صدءاء، بهمزتين بينهم
ألف: ركية ليس عندهم ماء أعذب منها، وفي المثل: ماء ولا كصداء.
5 شجا: كذا في معجم البلدان لياقوت: واد بين مصر والمدينة.
6 واقصة: اسم لعدة مواضع، منها واقصة: منزل بطريق مكة بين الفرعاء
ومكة، لبني شهاب من طيء، ومنها واقصة: اسم ماء لبني كعب، ومنها واقصة
أيضا: موضع باليمامة.
(1/145)
فأما قول أبي ذؤيب:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج1
يعني السحاب، فالباء فيه زائدة، إنما معناه: شربن ماء البحر، هذا هو
الظاهر من الحال، والعدول عنه تعسف2.
وقال بعضهم: معناه: شربن من ماء البحر، فأوقع الباء موقع من.
وأخبرنا محمد بن الحسن3، عن أحمد بن يحيى4 قال: قال أبو عثمان، يعني
المازني، في قول الشاعر5:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا6
إنما تدخل الباء على الفاعل، وهذا شاذ يريد أن معناه: كفانا.
__________
1 متى لجج: من لجج في لغة هذيل. واللجج: مجتمع الماء الكثير.
والنئيج: صوت الماء يمر مرورا سريعا.
الشرح: هؤلاء الفتيات شربن من ماء البحر الجاري ذو الخرير الجميل.
والشاهد فيه قوله "بماء" فالباء زائدة، وقيل هي بمعنى "من" أي شربن من
ماء البحر.
2 التعسف: التكلف. مادة "عسف". القاموس المحيط "3/ 170".
3 محمد بن الحسن: هو أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم بن يعقوب أحد
القراء بمدينة السلام، كان عالما باللغة والشعر، وسمع من ثعلب، توفي
سنة 362 "الفهرست لابن النديم ص49".
4 أحمد بن يحيى: هو أبو العباس ثعلب إمام من أئمة الكوفيين.
5 البيت لكعب بن مالك الأنصاري، من بني سلمة، وهم بطن من بطون الخزرج.
قال عنه صاحب الطبقات: إنه شاعر مجيد، وقد قال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أترى أن الله نسي قولك:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
وسخينة: لقب لقبت به قريش لحبهم أكل السخينة.
1 كفى: حسب. فضلا: عظمة.
الشرح: حسبنا من الفضل حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا.
الشاهد: زيادة الباء على المفعول به في قوله "بنا" وهذا شاذ، لأنها
تدخل قياسا على الفاعل لا على المفعول.
إعراب الشاهد: "بنا" الباء حرف جر زائد. نا: ضمير مبني في محل جر.
(1/146)
وقرأت عليه أيضا عنه1:
إذا لاقيت قوما فاسأليهم ... كفى قوما بصاحبهم خبيرا
وهذا من المقلوب. معناه: كفى بقوم خبيرا صاحبهم، فجعل الباء في الصاحب،
وموضعها أن تكون في "قوم"، إذ هم الفاعلون في المعنى. وكذلك قوله تبارك
اسمه: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} 2 [البقرة:
195] ، تقديره والله أعلم: ولا تلقوا بأيديكم، وهذا واسع عنهم جدا.
وأما قول الآخر3:
فأصبحن لا يسألنه عن بما به ... أصعد في علو الهوى أو تصوبا4
فإنه زاد الباء، وفصل بها بين "عن" وما جرته، وهذا من غريب مواضعها.
فأما قولهم: سميته زيدا وبزيد، وكنيته أبا عبد الله وبأبي عبد الله،
فليست الباء فيه زائدة، وإنما أوصلوا بها الفعل تارة إلى المفعول،
وأوصلوه تارة أخرى بنفسه، كما قالوا: جئته وجئت إليه، وخشنت صدره5،
وخشنت بصدره.
فأما قولهم: فرقته وفرقت منه، وجزعته6 وجزعت منه، فأصلهما أن يتعديا
بحرف الجر، وإنما يحذف تخفيفا، يدل على ذلك أن فرقت وجزعت أفعال غير
واصلة، بمنزلة بطرت7 وأشرت وعرصت وهبصت8.
__________
1 الضمير فيها راجع إلى أحمد بن يحيى ثعلب.
2 أي إلى الهلاك، واستشهد ابن جني بها على زيادة الباء في "بأيديكم".
3 البيت للأسود بن يعفر "كما في المقاصد النحوية في شرح شواهد الألفية.
للعيني" بهامش خزانة الأدب للبغدادي "4/ 103".
4 صعد: طلع. العلو: الارتفاع. الهوى: السقوط.
الشرح: لم تعد هؤلاء النسوة تسأله عما يحدث له أو عما يفعله.
والمؤلف قد شرح الشواهد في المتن وهو زيادة الباء بين حرف الجر والاسم
المجرور.
5 خشن صدر فلان: أغضبه وهيجه. القاموس المحيط "4/ 215".
6 جزعته: خفت منه. مادة "جزع". اللسان "1/ 616".
7 بطرت: غلا في المرح، والنعمة: استخفها فكفرها، والحق: أنكره. القاموس
"1/ 371".
8 عرصت وهبصت: نشطت. القاموس المحيط "2/ 305". مادة "عرص".
(1/147)
فهذه كلها أفعال النفس التي تحدث لها ولا
تتجاوزها، وإنما هي بمنزلة كرمت وحسنت وظرفت وشرفت.
فهذه أحوال الباء في زيادتها مع الفضلة، أعني بالفضلة المفعول، وفيه
معظم زيادة الباء.
وقد زيدت الباء أيضا مع أحد جزأي الجملة التي لا تنعقد مستقلة إلا به،
وذلك على ثلاثة أضرب: أحدها المبتدأ، والآخر الخبر، والآخر الفاعل.
فأما المبتدأ فقوله: بحسبك أن تفعل كذا، إنما هو حسبك أن تفعل كذا،
والباء زائدة.
وأنشدنا أبو علي1 قال: أنشد أبو زيد2:
بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غني مضر3
أي حسبك ذلك، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ
وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الأنفال: 64] 4، ولا أعلم الآن
مبتدأ زيدت فيه الباء غير هذه اللفظة.
وقولهم: "أثى5 به الدهر بما أتى به".
__________
1 أبو علي: الحسن الفارسي شيخ ابن جني.
2 أبو زيد: صاحب كتاب النوادر.
3 البيت للأشعر الرقبان الأسدي الجاهلي. "نوادر أبي زيد/ ص73".
المضر: معناه الذي له ضر من مال، أي له قطعة منه.
وقال بعضهم: مضر: أي صاحب ضرائر. والأول أحسن، وهو أشبه بالمعنى.
الشرح: يقول: أنت موسر، وأنت مع ذلك بخيل.
والشاهد في قوله: "بحسبك" فقد زيدت الباء مع المبتدأ.
إعرابه: الباء حرف جر زائد، حسب: مبتدأ مجرور لفظا مرفوع محلا، والكاف
ضمير مبني في محل جر مضاف إليه.
4 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِين} : حسبك: كفاك.
الشاهد: ورود حسبك بدون حرف جر زائد.
5 في لسان العرب في "أثا" أثوت الرجل وأثيته، وأثوت به وأثيت به وعليه
أثوا وأثيا وإثاوة وإثاية، وشيت به، وعلى هذا يكون معنى العبارة: "ما
أتى به الرجل نم به الدهر".
الباء في "بما" زائدة، و"ما" مبتدأ. والجملة قبلها خبر.
(1/148)
وأما زيادتها في خبر المتبدأ فقوله تعالى:
{جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] ، ذهب أبو الحسن1 إلى أن
الباء زائدة، وتقديره عنده: جزاء سيئة مثلها. وإنما استدل على هذا
بقوله تبارك اسمه في موضع آخر: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا} وهذا مذهب حسن، واستدلال صحيح، إلا أن الآية قد تحتمل، مع
صحة هذا القول، تأويلين آخرين.
أحدهما: أن تكون الباء مع ما بعدها هو الخبر، فكأنه قال: جزاء سيئة
كائن بمثلها، كما تقول: إنما أنا بك، أي إني كائن موجود بك، إذا صغرت
نفسك له، وكقولك: توكلي عليك، وإصغائي2 إليك، وتوجهي نحوك، فتخبر عن
المبتدأ بالظرف الذي فعل ذلك المصدر يتناوله، نحو قولك: توكلت عليك،
وأصغيت إليك، وتوجهت نحوك.
ويدل على أن هذه الظروف في هذا ونحوه إخبار عن المصادر قبلها، تقدمها
عليها، ولو كانت المصادر قبلها واصلة إليها، ومتناولة لها، لكانت من
صلاتها، ومعلوم استحالة تقدم الصلاة أو شيء منها على الموصول، وتقدمها
نحو قولك: عليك اعتمادي، وإليك توجهي، وبك استعاذتي. قال الله تعالى:
{وَإِلَيْهِ مَآبِ} ، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . وقال الكميت3:
فيا رب هل إلا بك النصر يبتغى ... عليهم وهل إلا عليك المعول4
__________
1 أبو الحسن: هو سعيد بن مسعد، المجاشعي الملقب بالأخفش الأوسط.
2 إصغائي: إنصاتي واستماعي في اهتمام وحضور ذهن. مادة "صغى".
3 الكميت: هو الشاعر الخطيب أبو المستهل الكميت بن زيد الأسدي الكوفي،
ولد سنة60هـ، ونشأ بالكوفة، وقد نحى بشعره منحى سياسيا، من كبار شعراء
الشيعة وتوفي سنة 126هـ.
4 يبتغى: يطلب. المعول: من عول عليه إذا ارتكن إليه واعتمد عليه.
الشرح: يا رب نصرنا على الأعداء لا يرتجى إلا منك ولا يعول إلا عليك.
الشاهد في قوله "عليك المعول" فهذا دليل على أن عليك ليست صلة
لـ"المعول" ولو كانت كذلك لما تقدمت عليها.
إعراب الشاهد: عليك: جارومجرور خبر مقدم.
المعول: مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة.
(1/149)
وسألت أبا علي عن قول كثير1:
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت2
فقلت له: ما موضع تهيامي من الإعراب؟ فأفتى بأنه مرفوع بالابتداء،
وخبره: بعزة. على نحو ما قدمنا آنفا، وجعل الجملة التي هي تهيامي بعزة
-اعتراضا بين اسم إن وخبرها، لأن فيها ضربا من التشديد للكلام، كما
تقول: إنك -فاعلم- رجل سوء، وإنه -والحق أقول- جميل المذهب.
وهذا الفصل والاعتراض الجاري مجرى التوكيد كثير في الكلام، وإذا جاز
الاعتراض بين الفعل والفاعل في نحو ما أنشدنا أبو علي، من قوله:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل3
كان الاعتراض بين اسم إن وخبرها أسوغ، وقد يحتمل بيت كثير أيضا تأويلا
آخر غير ما ذهب إليه أبو علي، وهو أن يكون تهيامي في موضع جر على أنه
قسم به، كقولك: إني -وحبك- لضنين4 بك، وعرضت على أبي علي هذا الجواب
فقبله، وأجاز ما أجاز، فالباء على هذا في "بعزة" متعلقة بنفس المصدر،
الذي هو التهيام، وهي فيما ذهب إليه أبو علي متعلقة بمحذوف هو الخبر عن
تهيامي في الحقيقة.
__________
1 كثير: هو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي وكنيته أبو صخر عشق جارية تدعى
عزة وإليها نسب فقيل "كثيرة عزة".
2 التهيام: كثرة الهيام وهو ذهاب العقل من شدة الحب. عزة: اسم محبوبته.
الشرح: يقول: إني على ما كان من التهيام بعزة تخليت عما بي وتخلت هي
أيضا.
الشاهد في قوله "وتهيامي بعزة". وقد أورد المؤلف وجهين منوجوه الإعراب
له في المتن.
3 جمة: كثيرة. أسنة: رماح.
الشرح: لقد اعترضتني مع كثرة صروف الدهر حرب أقوام شداد أقوياء.
الشاهد: فيه الفصل بين الفعل والفاعل بالجملة الاعتراضية "الحوادث
جمة".
إعراب الشاهد: قد: حرف تحقيق وتأكيد.
أدركتني: فعل ماضي مبني، والتاء حرف تأنيث والنون للوقاية، والياء:
ضمير مبني في محل نصب مفعول به. والحوادث جمة: مبتدأ وخبر جملة
اعتراضية لا محل لها من الإعراب.
أسنة: فاعل مرفوع وعلامة الرفع الضمة.
4 ضنين: بخيل. مادة "ضن". القاموس المحيط "4/ 239".
(1/150)
فهذا استيفاء الكلام في أحد الوجهين اللذين
يحتملهما قوله عز اسمه: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} بعد ما أجازه
أبو الحسن فيها، مما قدمت ذكره.
والوجه الآخر: أن تكون الباء في بمثلها متعلقة بنفس الجزاء، ويكون
الجزاء مرتفعا بالابتداء، وخبره محذوف، كأنه قال: جزاء سيئة بمثلها
كائن، أو واقع وإذا كان هذا جائزا، وكان حذف الخبر فيه حسنا متجها، كما
حذف في عدة مواضع غيره، مما يطول القول بذكره، كان تهيامي من بيت كثير
أيضا مرتفعا بالابتداء، والباء متعلقة فيه بنفس المصدر، الذي هو
التهيام، والخبر أيضا محذوف، كأنه قال: وتهيامي بعزة كائن، أو واقع،
على ما يقدر في هذا ونحوه، فهذا ما تحتمله الآية من غير ما ذهب إليه
أبو الحسن، أعني قوله تعالى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} .
وأما زيادتها في الفاعل فنحو قولهم: كفى بالله، وقوله عز اسمه:
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 1 [الأنبياء: 47] ، إنما هو كفى الله،
وكفينا.
كقول سحيم2:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا3
فالباء وما عملت فيه في موضع مرفوع بفعله، كقولك: ما قام من أحد،
فالجار والمجرور في موضع مرفوع بفعله، ونحوه قولهم في التعجب: أحسن
بزيد، وأجمل ببكر، فالباء وما بعدها في موضع مرفوع بفعله، ولا ضمير في
الفعل، وهذا مشروح في باب التعجب.
__________
1 {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} : أي عادين على الناس أعمالهم. والآية
شاهد على زيادة الباء مع ألف الفاعل فالأصل: كفى الله.
2 سحيم: هو عبد لبني الحسحاس وكان حبشيا أعجمي اللسان، يرتضخ لكنة
حبشية وكان يتغزل في سيدته عميرة بنت جندل.
3 صدر البيت "عميرة ودع إن تجهزت غاديا".
الشيب: الشعر الأبيض في الرأس. والمرء: الشخص.
يقول: ودع عميرة حين تنوي الرحيل وتتجهز له وأجمل في الوداع، وليكن
زاجرك الشيب والإسلام.
والشاهد: مجيء الفاعل "الشيب" بلا حرف الجر الزائد.
(1/151)
وقد زيدت أيضا في خبر لكن، لشبهه بالفاعل.
قال1:
ولكن أجرا لو فعلت بهين ... وهل ينكر المعروف في الناس والأجر2
أراد: ولكن أجرا لو فعلته هين، وقد يجوز فيه أن يكون معناه: ولكن أجرا
لو فعلته بشيء هين، أي أنت تصلين إلى الأجر بشيء هين، كقولك: وجوب
الشكر بالبر3، فتكون الباء على هذا غير زائدة.
وأجاز أبو بكر محمد بن السري، أن يكون قولهم: كفى بالله، تقديره: كفى
اكتفاؤك بالله، أي اكتفاؤك بالله يكفيك، وهذا يضعف عندي، لأن الباء على
هذا متعلقة بمصدر محذوف، هو الاكتفاء، ومحال حذف الموصول وتبقية صلته،
وإنما حسنه عندي قليلا أنك قد ذكرت كفى، فدل على الاكتفاء، لأنه من
لفظه، كما تقول: من كذب كان شرا له، أي كان الكذب شرا له، فأضمرته،
لدلالة الفعل عليه، فها هنا أضمر اسما كاملا، وهو الكذب، وثم أضمر اسما
وبقي صلته، التي هي بعضه، فكان بعض الاسم مضمرا، وبعضه مظهرا فلذلك ضعف
عندي، والقول في هذا قول سيبويه إنه يريد كفى الله، كقوله تعالى:
{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} 4.
ويشهد بصحة هذا المذهب ما حكي عنهم من قولهم: مررت بأبيات جاد بهن
أبياتا، وجدن أبياتا، فبهن: في موضع رفع، والباء: زائدة كما ترى،
أخبرني بذلك محمد بن الحسن5 قراءة عليه، عن أحمد بن يحيى، أن الكسائي
حكى ذلك عنهم.
__________
1 قال البغدادي في الخزانة في شرح البيت: ولم أقف على قائله، وكذلك قال
العيني.
2 هين: بسيط. المعروف: الخير.
وقد شرحه المؤلف في المتن: وكذلك أورد الشاهد وعلق عليه.
3 البر: الإحسان والفضل.
4 {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} : أي أن الله جل ذكره
قد دافع عن المؤمنين وكفاهم شرور القتال في غزوة الخندق.
5 هو أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم بن يعقوب أحد القراء بمدينة
الكوفة.
(1/152)
ووجدت مثله للأخطل1، وهو قوله:
فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها ... وحب بها مقتولة حين تقتل2
فيها: في موضع رفع بحب.
وقد حذفت الباء في رب، وأصلها رب.
وإنما جاز عندي زيادة الباء في خبر المبتدأ، لمضارعته للفاعل، فاحتياج
المبتدأ إليه كاحتياج الفعل إلى فاعله.
واعلم أن الباء قد تبدل منها في القسم الواو في قولك والله، أصله
بالله.
والدلالة على أن الباء هي الأصل أمران:
أحدهما: أنها موصلة للقسم إلى المقسم به في قولك: أحلف بالله، كما توصل
الباء المرور إلى المرور به في قولك: مررت بزيد، فالباء من حروف الجر
بمنزلة من وعن.
والآخر: أن الباء تدخل على المضمر3 كما تدخل على المظهر4، تقول: بالله
لأقومن، وبه لأقعدن، والواو لا تدخل على المضمر البتة، تقول: والله
لأضربنك، فإن أضمرت قلت به لأضربنك، ولا تقول: وه لأضربنك، فرجوعك مع
الإضمار إلى الباء يدل على أنها هي الأصل.
وأنشدنا أبو علي، قال: أنشد أبو زيد:
رأى برقا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال ولا أغاما
__________
1 الأخطل: هو أبو مالك غياث الأخطل بن غوث التغلبي النصراني، شاعر أموي
مجيد، امتاز بالمدح ووصف الخمر، قال الشعر وهو صبي، ومات في خلافة
الوليد سنة 125هـ، وقد نيف على السبعين.
2 يأمر الشاعر من يخاطبهم بقتل من يحبها فما أحبها إليه وهي مقتولة،
والمقتولة هنا هي الخمر التي صب عليها بعض الماء، ليكسر حدتها.
والشاهد في قوله: "بها" فقد وقعت موقع رفع حيث هي في الإعراب نائب
فاعل.
3 المضمر: الضمير.
4 المظهر: الاسم الظاهر.
(1/153)
قال: وأنشد أبو زيد:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي1
وإنما أبدلت الواو من الباء لأمرين:
أحدهما: مضارعتها إياها لفظا.
والآخر: مضارعتها إياها معنى.
أما اللفظ فلأن الباء من الشفة، كما أن الواو كذلك، وأما المعنى فلأن
الباء للإلصاق، والواو للاجتماع، والشيء إذا لاصق الشيء فقد اجتمع معه.
وأما إبدال التاء من الواو في القسم فسنذكره في موضعه بإذن الله من
التاء.
واعلم أن جميع الحروف المفردة التي تقع في أوائل الكلم2، حكمها الفتح
أبدا، نحو: واو العطف وفائه، وهمزة الاستفهام، ولام الابتداء.
فأما الباء في بزيد فإنما كسرت لمضارعتها3 اللام الجارة في قولك: المال
لزيد، وسنذكر العلة في كسر اللام في موضعها، ووجه المضارعة بينهما
اجتماعهما في الجر وفي الذلاقة، ولزوم كل واحد منهما الحرفية، وليست
كذلك كاف التشبيه، لأنها قد تكون اسما في بعض المواضع، وسنذكر ذلك في
موضعه.
انقضى حرف الباء.
__________
1 تقدم الكلام على هذا البيت.
2 الكلم: الكلام ويقصد بها المفردات والألفاظ.
3 لمضارعتها: لمشابهتها. مادة "ضرع". القاموس المحيط "3/ 54".
(1/154)
|