سر صناعة الإعراب

باب الثاء:
الثاء: حرف مهموس، وهو أحد حروف النفث1، ومحله من الذال محل التاء من الدال2، ولا تكون إلا أصلا، فاء أو عينا أو لاما، فالفاء نحو ثمر وثبت، والعين نحو جثل3 وخثر4، واللام نحو فحث5 وبعث.
واعلم أن الثاء إذا وقعت فاء في افتعل وما تصرف منه قلبت تاء، وأدغمت في تاء افتعل بعده، وذلك قولهم في افتعل من الثريد6 اترد، وهو مترد، وإنما قلبت تاء، لأن الثاء أخت التاء في الهمس، فلما تجاورتا في المخارج أرادوا أن يكون العلم من وجه واحد، فقلبوها تاء، وأدغموها في التاء بعدها، ليكون الصوت نوعا واحدا، كما أنهم لما أسكنوا تاء وتد تخفيفا أبدلوها إلى لفظ الدال بعدها، فقالوا: ود، ومثل ذلك قولهم في افتعل من الثأر: اتأر, وفي افتعل من ثنى: اتنى.
قال7:
والنيب إن تعرمني رمة خلقا ... بعد الممات فإني كنت أتئر8
__________
1 النفث: إخراج الهواء من بين الثنايا وأسلة اللسان. مادة "ن ف ث" اللسان "6/ 4491".
2 يقصد بالجملة "محله من الذال محل التاء من الدال": توحدهما في المخرج.
3 الجثل من الشجر والشعر: الكثير الملتف أو ما غلظ وقصر منه أو ما كثف واسود.
4 يقال دثر الشجر: إذا أورق، والرسم إذا قدم، والثوب إذا اتسخ، والسيف إذا صدئ.
5 فحث: من فحث عن الخبر: أي بحث عنه. مادة "فحث" اللسان "5/ 3354".
6 الثريد: مدقوق الخبز مع قطع اللحم ويكون الخبز مبللا بالمرق. مادة "ثرد" اللسان "1/ 476".
7 البيبت للبيد وهو من فحول الشعراء في الجاهلية وله شعر جيد.
8 النيب: جمع ناب وهي الناقة المسنة. مادة "ن ي ب" اللسان "6/ 4591".
تعرمني: فيها عدة تأويلات: فجيوز أن تكون من "عري" بكسر الراء: بمعنى التخلص من الشيء، والمعنى: أن تخلص مني ومن إتعابي بعد مماتي، فإني كنت في حياتي أثأر منها.
ويجوز أن تكون "تعر" بضم الراء من الإعراء: أي الإعطاء، يقال: أعريته النخلة: إذا أعطيته ثمرتها، ويكون المعنى: إنها إن أعطيت عظامي لتقضمها فإني كنت أثأر منها في حياتي.
ويروى "تعرمني" بفتح التاء وضم الراء وفتح الميم، من عرمت العظم إذا عرقت ما عليه من اللحم والمعنى: أنها إن كانت تأكل رمتي بعد مماتي، فإني كنت أثأر منها في حياتي بنحرها للضيقان.
والشاهد في قوله "أتئر" فقد قلبت الثاء تاء لقربها منها في المخرج.
إعراب الشاهد: أتئر: فعل مضارع مرفوع بالضمة، والفاعل مستتر وجوبا تقديره أنا.
والجملة من الفعل والفاعل في محل نصب خبر كنت.

(1/183)


وقال1:
بدا بأبي ثم اتنى ببني أبي ... وثلث بالأدنين ثقف المخالب2
هذا هو المشهور في الاستعمال، وهو أيضا القوي في القياس، ومنهم من يقلب تاء افتعل ثاء، فيجعلها من لفظ الفاء قبلها، فيقول: اثرد واثأر، وأثنى، كما قال بعضهم في ادكر: اذكر. وفي اصطلحوا اصلحوا.
وقرأت على أبي علي عن أبي بكر3، عن أبي العباس4، عن أبي عثمان5 أن بعضهم قرأ: "أن يصلحا"6، وعلى هذا قالوا: اصبر في اصطبر، وازان في ازدان.
وقرأت على أبي علي بإسناده إلى يعقوب، قال: يقال: هي فروغ الدلو7 وثروغها، فالثاء إذن بدل من الفاء، لأنه من التفريغ.
__________
1 ذكره في اللسان دون أن ينسبه"1/ 513" مادة "ثنى".
2 بدا: بدأ. اتنى: انثنى.
الأدنين: الأقربين. ثقف: حاد أو مسنون.
المخالب: ظفر كل سبع من الماشي والطائر، والواحد مخلب.
ثقف المخالب كناية عن الموت.
الشرح: لقد بدأ الموت بأبي ثم إخوتي ثم انثنى على الأقربين حتى لم يعد لي قريب.
الشاهد في قوله "اتنى" فأصلها "اثنى" ثم أبدلت الثاء تاء لقربها منها في المخرج.
3 أبو بكر: هو ابن السراج أستاذ أبي علي الفارسي.
4 أبو العباس: هو المبرد.
5 أبو عثمان: هو المازني.
6 هذه قرءة الجحدري وأبي عثمان البتي، والمعنى: أن يصطلحاه فأبدل ثم أدغم.
انظر/ تفسير القرطبي عند قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]
7 فروغ الدلو: جمع فرغ، وهو مخرج الماء منها من بين العرافي.

(1/184)


فأما قولهم في أثاف1 أثاث، بالثاء فمن كانت عنده أثفية أفعولة، وأخذها من ثفاه يثفوه، فالثاء الثانية في أثاث بدل من الفاء في يثفوه، ومن كانت عنده "فعلية" فجائز أن تكون الثاء بدلا من الفاء.
لقول النابغة2:
وإن تأثفك الأعداء بالرفد3
وجائز أن تكون من أث يئث: إذا ثبت واطمأن. لأنهم يصفون الأثافي بالخلود والركود.
والوجه أن تكون الثاء بدلا من الفاء أيضا، لأنا لم نسمعهم قالوا أثية.
__________
1 أثاف: جمع أثفية وهي إحدى ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر. مادة "أث ف" اللسان "1/ 27".
2 النابغة: أبو أمامة زياد بن معاوية الذبياني، لقب بالنابغة لنبوغه في الشعر كبيرا، مدح النعمان بن المنذر وغيره، وهو أحد فحول الشعراء المقدمين، عده ابن سلام في الطبقة الأولى مع زهير وامرئ القيس والأعشى.
3 هذا شطر بيت وأوله:
لا تقذفني بركن لا كفاء له
الكفاء: النظير والمثل. مادة "ك ف أ" اللسان "5/ 3892".
تأنفك الأعداء: صاروا حولك كالأثافي، وهي الجماعات من الناس.
الشرح: لا ترميني بما لا أحتمل.
الشاهد: شرحه المؤلف في المتن.

(1/185)