سر صناعة الإعراب باب الطاء:
اعلم أن الطاء حرف مجهور مستعل، يكون أصلا وبدلا، ولا يكون زائدا.
فإذا كان أصلا وقع فاء وعينا ولاما، فالفاء نحو: طبل وطحن، والعين نحو:
فطر وخطب، واللام نحو: قرط وقرط1.
وأما البدل فإن تاء "افتعل" إذا كانت فاؤه صادا أو ضادا أو طاء أو ظاء،
يقلب طاء البتة، لابد من ذلك، كما لا بد من إعلال نحو: قال وباع البتة،
وذلك قولك من الصبر اصطبر، ومن الضرب اضطرب، ومن الطرد اطرد، ومن الظهر
اظطهر بحاجتي.
وأما اطرد فليس الإبدال فيه من قبل الإدماغ، وإنما هو لأن قبلها حرفا
مطبقا، ألا ترى إلى اصطبر واضطرب واضطهر مبدلا ولا إدغام فيه.
وأصل هذا كله اصتبر واضترب واطترد واظتهر، ولكنهم لما رأوا التاء بعد
هذه الأحرف، والتاء مهموسة، وهذه الأحرف مطبقة2، والتاء مخفتة، قربوها
من لفظ الصاد والضاد والطاء، بأن قلبوها إلى أقرب الحروف منهن، وهو
الطاء، لأن الطاء أخت التاء في المخرج، وأخت هؤلاء الأحرف في الإطباق
والاستعلاء، وقلبوها مع الطاء طاء أيضا، لتوافقها في الجهر والاستعلاء،
وليكون الصوت متفقا، ومنهم من يقلب التاء إلى لفظ ما قبلها، فيقول
اصضبر ومصبر، واضرب ومضرب، واظهر ومظهر، وقرأ بعضهم "أن يصلحا"، يريد
يصطلحا.
ومنهم من إذا كانت الفاء ظاء أبدل التاء طاء، ثم أبدل الظاء طاء، وأدغم
الطاء في الطاء، فيقول اطهر بحاجتي، وظلمته فاطلم، وذلك لما بين الظاء
والطاء من المقاربة في الإطباق والاستعلاء، ومن أجاز هذ القول فقال
اطلم لم يجزه مع الصاد ولا مع الضاد، لا تقول في اصطبر: اطبر، ولا في
اضطرب: اطرب. وذلك لأن
__________
1 قرط: قرط الصبية ألبسها القرط, وعلى فلان: أعطاه قليلا قليلا. مادة
"قرط".
2 الإطباق: أن ترفع في النطق طرفي اللسان إلى الحنك الأعلى مطبقا فيفخم
نطق الحرف، وحروف الإطباق هي: "ص، ض، ط، ظ". مادة "طبق". اللسان "4/
2637".
(1/229)
في الصاد طولا وصفيرا، فلا تدغم هي ولا
أختاها السين والزاي في الطاء، ولا في أختيها الدال والتاء، ولا في
الظاء ولا أختيها الذال والثاء، وهذا مشروح في فصل الإدغام.
وأما الضاد فلأن فيها طولا وتفشيا، فلو أدغمت في الطاء لذهب ما فيها من
التفشي، فلم يجز ذلك، كما لم يجز إدغام حروف الصفير1 في الطاء ولا في
أختيها، ولا في الظاء ولا في أختيها، لئلا يسلبهن الإدغام ما فيهن من
الصفير.
على أن سيبويه قد حكى عن بعضهم عن طريق الشذوذ: اطجع في اضطجع، وهذا
شاذ لا يؤخذ به، وينشد بيت زهير2 على أربع أوجه.
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فيظطلم3
ويروى: فيطلم، ويروى: فيظلم، وقد تقدم تفسير هذه الثلاثة، والرابع:
فينظلم، وهذه ينفعل، وليست من الضرب الأول، ولا يلحق مثلها تغيير.
فأما ما قرأته على أبي علي عن أبي بكر، عن أبي العباس، عن أبي عثمان،
من قوله4:
وفي كل حي قد خبط بنعمة ... فحق لشأش من نداك ذنوب5
__________
1 الصفير: صوت على درجة كبيرة من الرخاوة، كالسين والزاي والصاد.
اللسان "4/ 2460".
2 زهير: هو زهير بن أبي سلمى واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرط بن
الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور من هزمة بن لام بن عثمان بن مزينة، لزم
هرم بن سنان وكان يمدحه وكان هرم يجزل له العطاء حتى أقسم أن يعطيه
كلما رآه.
3 الجواد: الكريم السخي. النائل: ما ينال ويدرك. مادة "نيل".
يصف الشاعر ممدوحه -هرم بن سنان- بأنه شخص جواد عفو يعطي بلا حساب وقد
كان.
والشاهد: شرحه المؤلف في المتن ووجهه.
4 علقمة بن عبدة التميمي الملقب بالفحل، واسمه علقمة بن عبدة بن ناشرة
بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم ولقب بالفحل
لأنه خلف امرأ القيس على زوجه.
5 خبطت بنعمة: أي أنعمت بنعمة وتفضلت بها. مادة "خ ب ط" اللسان "2/
1094".
الذنوب: الدلو، والمراد هنا النصيب من النعمة. مادة "ذ ن ب" اللسان "3/
1520".
وشأس: أخوه. مادة "ش أس" اللسان "4/ 2176".
(1/230)
فإنه أراد خبطت، ولو قال خبطت لكان أقيس
اللغتين، وذلك أن هذه التاء ليست متصلة بما قبلها اتصال تاء افتعل
بمثالها الذي هي فيه، ولكنه شبه تاء خبطت بتاء افتعل من حيث أذكره لك،
فقلبها طاء، لوقوع الطاء قبلها، كقولك اطلع واطرد، وعلى هذا قالوا:
فحصط برجلي، كما قالوا اصطبر.
ووجه شبه تاء فعلت بتاء افتعل أنها ضمير الفاعل، وضمير الفاعل قد أجري
في كثير من أحكامه من الفعل مجرى بعض أجزاء الكلمة من الكلمة، وذلك
لشدة اتصال الفعل بالفاعل، واستدل أبو علي على شدة اتصال الفعل بالفاعل
بأربعة أدلة، واستدللت أنا أيضا بخمسة أدلة أخر غير ما استدل به هو،
وأنا أورد ما قال في ذلك، وأتليه ما رأيته، والله الموفق.
فما استدل به على شدة اتصال الفعل بالفاعل تسكينهم لام الفعل إذا اتصلت
به علامة ضمير الفاعل، وذلك نحو ضربت ودخلت وخرجت، وإنما فعلوا ذلك
لأنهم كرهوا أن يقولوا: ضربت ودخلت وخرجت، لتوالي أربعة متحركات، فلولا
أنهم قد نزلوا التاء من ضربت منزلة راء جعفر منه، لما امتنعوا من أن
يقولوا ضربت، ولكنه لما لم يوجد في كلامهم كلمة اجتمعت فيها أربعة
متحركات، ونزلت التاء من فعلت منزلة جزء من الفعل، أسكنوا اللام،
كراهية اجتماع المتحركات، ألا ترى أنهم لا يكرهون هذا التوالي إذا اتصل
الفعل بضمير المفعول، وذلك نحو: ضربك وضربه، وذلك أنه ليس لضمير
المفعول من الاتصال بالفعل ما لضمير الفاعل، لأن الفعل لا بد له من
فاعل التبة، وقد يستغنى عن المفعول في كثير من أحكامه.
__________
= الشرح: شبه إصابة الناس بالنعم بخبط الراعي ورق الشجر، ليطعم ماشيته.
ويشير بقوله "في كل حي قد خبطت بنعمة" إلى إطلاق الحارث بن أبي شمر
أسارى بني أسد لما شفع إليه فيهم النابغة فجاء علقمة بعد هذا يشفع في
أسارى بني تميم وفيهم أخوه شأس، وللقصيدة قصة مفصلة في كتاب "الشعر
والشعراء" لابن قتيبة في ترجمة علقمة، وفي تاريخ ابن الأثير "1/ 401".
الشاهد: شرحه المؤلف في المتن.
إعراب الشاهد:
خبطت: فعل ماضي مبني على السكون والتاء: ضمير مبني على الفتح في محل
رفع فاعل.
(1/231)
ودليل له آخر، وهو امتناعهم من العطف على
ضمير الفاعل نحو: قمت وزيد، وقعدت وبكر، فاستقباحهم لذلك حتى يؤكدوه
فيقووه ويلحقوه بالأسماء في نحو: قمت أنا وزيد، وقعدت أنا وجعفر -دلالة
على أنههم قد نزلوا التاء منزلة بعض الفعل، فكما لا يحسن أن تعطف الاسم
على بعض الفعل، كذلك لم يستحسنوا عطفه على التاء من قمت، لضعف التاء،
وامتزاجها بالفعل، وكونها كجزء منه.
ودليل له ثالث، وهو امتناعهم من جواز تقدم الفاعل على الفعل، وإن كانوا
يجيزون تقدم خبر المتبدأ عليه، فكما لا يقدمون الدال على الزاي من زيد،
كذلك امتنعوا من تقديم الفاعل على الفعل.
ودليل له رابع، وهو من أغربها وألطفها، وهو قولهم في التثنية: يقومان،
فالنون علامة الرفع بمنزلة ضمة الميم من يقوم في الواحد، وعلامة الرفع
ينبغي أن تلحق المرفوع مع انقضاء أجزائه بلا فرق ولا تراخ، فمجيء النون
في يقومان بعد الألف التي هي ضمير الفاعلين، يدل من مذهبهم على أنهم قد
أحلوا ضمير الفاعل محل حرف الإعراب من الفعل، لأنهم أولوا ضميره علامة
الرفع، وهي النون في يقومان ويقعدان، كما أولوا حرف الإعراب في الواحد،
وهو الميم من يقوم، علم الرفع، وهو الضمة في يقوم ويقعد وباشروه به،
ففي هذا أقوى دليل على شدة امتزاج الفعل بالفاعل، وكونه معه كبعض
أجزائه منه.
وكذلك يقومون وتقومين.
وأما الخمسة الأدلة التي رأيتها أنا في شدة اتصال الفعل بالفاعل،
فأولها أني رأيتهم قد أجروا الفعل والفاعل في قولهم حبذا مجرى الجزء
الواحد من ثلاث جهات: إحداها أن الفعل الذي هو "حب" والفاعل الذي
هو"ذا" قد قرن أحدهما بصاحبه، ومع ذلك فلم يستقلا، ولم يفيدا شيئا حتى
تربط بهما اسما بعدهما، فتقول حبذا زيد وحبذا محمد، فلولا أنهما قد
تنزلا منزلة الجزء الواحد، لاستقلا بأنفسهما، كما يجب في الفعل
والفاعل، نحو قام زيد وقعد محمد، فكما أنك لو قلت: زيد، وسكت، أو قلت
قعد، وسكت، ولم تذكر بعد ذلك اسما، لم يتم الكلام، ولم يستقل. فكذلك
أيضا جرى حبذا، وإن كان فعلا وفاعلا في حاجته إلى ما بعده حاجة الجزء
المفرد إلى ما بعده، مجرى الجزء الواحد.
(1/232)
والجهة الأخرى إجازة النحويين أن يقولوا في
قولهم: حبذا زيد، أن حبذا في موضع مرفوع بالابتداء، وزيد في موضع خبر
حبذا، فلولا أنه قد تنزل عندهم أن حب وذا جميعا قد جريا مجرى زيد وحده،
لما وسموه بأنه في موضع رفع بالابتداء، وأن ما بعده خبر عنه.
والجهة الثالثة أن حبذا قد أجري على الواحد والاثنين والثلاثة، والمذكر
والمؤنث مجرى واحدا، في قولك: حبذا زيد، وحبذا هند، وحبذا الزيدان،
وحبذا الهندان، وحبذا الزيدون، وحبذا الهندات، فلولا أن حب قد خلط بذا،
حتى صارا معا كالجزء الواحد، وخرجا عما عليه الفعل والفاعل في فرش هذه
اللغة، لقالوا: حبذه هند، وحبذان الزيادان، وحبتان الهندان، وحب هؤلاء
الزيدون والهندات. فامتناعهم من هذه الفصول والفروق المطردة مع غير
حبذا دلالة على امتزاجهما عندهم، وجريهما مجرى الكلمة الواحدة مما حدث
لهما من الانضمام وقوة التركيب، فاعرف ذلك.
ويقوي ذلك أيضا قول العرب: لا تحبذه بما لا ينفعه، أي لا تقل له حبذا،
فاشتقاقهم الفعل منهما أقوى دلالة على شدة امتزاجها. فهذا أحد الأدلة.
ودليل ثان، وهو أنهم قد قالوا: قامت هند، وقعدت جمل، فألحقوا التاء
الفعل، وهي في الحقيقة علامة تأنيث الفاعل، فلولا أن الفعل والفاعل
جميعا كالجزء الواحد، لما جاز أن يريدوا بالتأنيث شيئا ويجعلوه في
غيره، حتى يكونا معا كالشيء الواحد.
ويدل على أن المقصود بالتأنيث إنما هو هند في الحقيقة لا الفعل الذي
باشرته، وصيغت معه التاء، أن الفعل لا يصح فيه معنى التأنيث، وذلك أنه
دال على الجنس، والجنس إلى الإشاعة والعموم أبدا، فهو أيضا إلى
التذكير، ألا ترى أن أعم الأشياء وأشيعها "شيء"، وشيء مذكر كما ترى،
فهذا يؤكد عندك أن الشيء كلما شاع وعم، فالتذكير أولى به من التأنيث،
ولذلك قال سيبويه لو سميت امرأة بنعم وبئس لم تصرفهما، لأن الأفعال
كلها مذكرة.
فقد صح بما أوردته أن التاء في قامت هند إنما المقصود بتأنيثها هو
الفاعل الذي يصح تأنيثه، لا الفعل الذي يصح تأنيثه.
(1/233)
وأيضا فلو كان المراد تأنيث الفعل دون
فاعله لجاز قامت زيد ونحو ذلك.
ودليل ثالث، وهو أن أبا زيد1 أنشد2:
إذا ما كنت ملتمسا لغوث ... فلا تصرخ بكنتي كبير3
وأنشد أحمد بن يحيى4:
فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن5
فقوله "كنتيا" معناه أنه يقول: كنت في شبابي أفعل كذ ا، وكنت في حداثتي
أصنع كذا، وكنت: فعل، وفاعله التاء، ومن الأصول المستمرة أنك لو سميت
رجلا بجملة مركبة من فعل وفاعل، ثم أضفت إليه، أي نسبت، لأوقعت الإضافة
على الصدر، وحذفت الفاعل، وعلى ذلك قالوا في النسب إلى تأبط شرا:
تأبطي، وفي قمت: قومي، حذفوا التاء، وحركت الميم بالكسرة التي تجتلبها
ياء الإضافة، فلما تحركت رجعت الواو التي كانت سقطت لسكونها وسكون
الميم، وتلك الواو عين الفعل من قام، فقلت: قومي، وكذا كان القياس أن
تقول في كنت: كوني، تحذف التاء، لأنها الفاعل، وتحرك النون، فترد الواو
التي هي عين الفعل من كنت، فقولهم: كنتي، وإقرارهم التاء التي هي ضمير
الفاعل مع ياء الإضافة، يدل على أنهم قد
__________
1 أبو زيد: صاحب النوادر، واستشهد ابن جني وأبو علي الفارسي بشواهده.
2 البيت لم أعرف قائله وأنشده اللسان في مادة "كون". اللسان "5/ 3962".
3 ملتمسا: طالبا. اللسان "5/ 4073". الغوث: النجدة. اللسان "5/ 3312".
الكنتي: الشيخ الكبير. نسب إلى كنت في شبابي. مادة "ك ون" اللسان "5/
3962".
يقول إذا استنجدت فلا تستنجد بعجوز عاجز.
الشاهد شرحه المؤلف في المتن، وهو في كلمة "كنتي".
4 أحمد بن يحيى: ثعلب رأس النحاة الكوفيين.
5 البيت لم أعثر على قائله، وأورده اللسان في مادة "كون".
العاجن: من الرجال الذي يعتمد على الأرض بجمعه، إذا أراد النهوض من كبر
أو بدانة.
الخصال: جمع خصلة وهي الخلق في الإنسان، فضيلة كانت أو رذيلة. اللسان
"2/ 1175".
يقول: لقد كبر سني حتى لم يعد لي إلا ذكريات الماضي والعجز.
الشاهد: شرحه ابن جني في المتن.
(1/234)
أجروا الضمير الفاعل مع الفعل مجرى دال زيد
من زايه ويائه، وكأنهم نبهوا بهذا ونحوه مما يجري مجراه على اعتقادهم
قوة اتصال الفعل بالفاعل، وأنهما قد حلا جميعا محل الجزء الواحد.
ودليل رابع: وهو أن أبا عثمان ذهب في قوله عز اسمه: {أَلْقِيَا فِي
جَهَنَّم} 1 إلى أنه أراد: ألق ألق. قال. فثنى ضمير الفاعل، فناب ذلك
عن تكرير الفعل فهذا أيضا يشهد بشدة اشتراكهما، ألا ترى أنه لما ثنى
أحدهما وهو ضمير الفاعل، ناب عن تكرير الفعل، وإنما ناب عنه لقوة
امتزاجهما، فكأن أحدهما إذا حضر فقد حضرا جميعا.
ودليل خامس: وهو قولهم: زيد ظننت قائم، فيمن ألغى، فلولا أن الفعل مع
الفاعل كالجزء الواحد، لما جاز إلغاء الفاعل في ظننت.
فهذا كله يشهد بقوة اختلاط الفعل بالفاعل، وإذا كان ذلك كذلك، فمن هنا
جاز تشبيه تاء "فعلت" بتاء "افتعل" حتى جاز لبعضهم أن يقول: فحصط
برجلي، وخبط بنعمة، قياسا على اصطبر واطلع.
فاعرف ذلك، فإنه من سر هذه الصناعة.
__________
1 الآية في سورة "ق".
ألقيا: اقذفا، وارميا. مادة "ل ق ا" اللسان "5/ 4066".
وجهنم: علم على النار. وسميت بذلك لبعد قعرها. اللسان "1/ 715".
(1/235)
|