إسفار الفصيح المبحث الثالث: منهج
المؤلف في كتابه
...
المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب.
أشار أبو سهل في مقدمة كتابه إلى المنهج الذي سلكه في تأليفه فقال:
"فإني لما هذبت لك كتاب "الفصيح" المنسوب إلى أبي العباس أحمد بن يحيى
بن يزيد الشيباني، المعروف بثعلب – رحمه الله – لما أنكرت عليه إثباته
فصولا عدة في غير أبوابها المترجمة بها، ثم استكثرت أيضا ما أهمله من
تفسير فصوله، سألتني أن أبينها لك وأوضحها، وأن أزيد أيضا في إبانة ما
فسره منها، وأورد مصادر الأفعال التي أهمل ذكرها، لإشكالها واختلافها،
وأسماء الفاعلين والمفعولين، لأنه قد ذكر بعضها، فعملت لك هذا الكتاب
ووسمته بـ"إسفار الفصيح"، وقد كنت قبل ذلك ابتدأت بشرح الأصل ثم لما
سألتني تفسيره واستعجلتني فيه، عملت لك هذا وقصدت فيه الإيجاز
والاقتصار في التفسير، ليقرب عليك حفظه، وإن امتدت بي الحياة تممت – إن
شاء الله – شرحه لك، ولنظرائك المتأدبين ... "1
ثم أعاد وصف منهجه في هذا الكتاب بأوسع مما ذكر هنا في مقدمة كتاب
"التلويح في شرح الفصيح"، حيث يقول: "ثم سألني أيضا أن أفسر له الفصول
التي أهمل تفسيرها، وأن أزيد في بيان ما فسره منها، فعملت له ذلك في
كتاب آخر، ووسمته بإسفار كتاب الفصيح.
__________
1 ص 309.
(1/133)
ثم إني رأيت جماعة من المبتدئين تضعف قواهم
عن الإحاطة بما أودعته فيه من التفسير، والشواهد من القرآن والشعر،
ويستطيلون حفظه، فاختصرت لهم منه أشياء تكفيهم معرفتها، وتنشطهم في
حفظها نزارتها، وأثبتها في هذا الكتاب، ووسمته بكتاب "التوليح في شرح
الفصيح"، لأنني لوحت بشرح فصوله كلها فقط، ولم أذكر ِشاهدا على شيء
منها، ولا جمعا لاسم، ولا تصريفا لفعل، ولا مصدرا له، ولا اسم فاعل،
ولا مفعول ... ولم أذكر فيه أيضا شرح الرسالة، والأبيات التي استشهد
بها، ولم أنبه على شيء من الفصول التي أثبتها في غير أبوابها، وأحالها
عن جهة صوابها طلبا للتحفيف والإيجاز، فإذا حفظوا هذا الكتاب وأتقنوه،
وآثروا زيادة في التفسير على ما فيه نظروا في ذلك الكتاب – إن شاء الله
تعالى – "1.
ويقصد "بالكتاب" كتاب إسفار الفصيح، وهذا يعني أن ما أهمله في التلويح
ذكره في الإسفار.
وإذا ما عدنا إلى كتاب إسفار الفصيح فإننا نجد المؤلف قد التزم بهذا
المنهج الذي رسمه لنفسه في المقدمتين، وسار عليه في الكتاب كله تقريبا.
ويمكن توضيح منهجه علاوة على ما ذكر بما يلي:
استهل المؤلف كتابه بشرح خطبة الفصيح، وانتهى بشرح باب الفرق، والتزم
في أثناء ذلك بترتيب ثعلب لأبواب فصيحه، والعناوين
__________
1 ص 1، 2.
(1/134)
التي وسم بها تلك الأبواب.
2- طريقته في الشرح أن يمزج كلامه بكلام ثعلب، أو يذكر عبارة الفصيح
مسبوقة بإحدى العبارات التالية: "وأما قوله، وقوله، وقول ثعلب، قال أبو
العباس، وقال أبو العباس ثعلب"1. أو يقدم قطعة من الفصيح قد تطول وقد
تقصر، ثم يتبعها بالشرح2.
3- يشرح ألفاظ الفصيح، فيتناول المعنى اللغوي الدلالي للألفاظ، ويذكر
صيغ الأفعال ويوجه تصاريفها، فيذكر غالبا اسم الفاعل والمفعول والمصدر
وبعض المشتقات الأخرى، ويذكر جموع الأسماء.
4- يستشهد على ما يشرح بالقرآن الكريم وبعض قراءاته، أو بالحديث
الشريف، أو ببليغ كلام العرب شعرا ونثرا.
5- يورد أقوال العلماء في بعض الألفاظ أو المسائل المشروحة، وقد نقل عن
الأئمة الثقات، أمثال الخليل، ويونس، وأبي زيد، وسيبويه، والفراء،
والأصمعي، وأبي حاتم، والمبرد، وابن الأعرابي، وغيرهم.
6- اعتنى بالمسموع من كلام العرب، وقدمه على القياس عند التعارض.
بذل عناية كبيرة في ضبط الألفاظ، ويمكن حصر أساليب
__________
1 ينظر مثلا: ص 313، 315، 318، 604، 795، 898.
2 ينظر مثلا: ص 606، 612، 930، 935، 938.
(1/135)
عنده في الأنواع التالية:
أ - الضبط بالنص على الحركة، وهذا أشهر أنواع الضبط عنده، ويكاد يشمل
جميع الألفاظ المشروحة، ومن أمثلة هذا النوع قوله: "وتقول: حلمت في
النوم أحلم، بفتح اللام في الماضي وضمها في المستقبل، حلما وحلما بسكون
اللام وضمها، والحاء منهما مضمومة"1. وقوله: "أرعني سمعك، بفتح الألف
وسكون الراء، وكسر العين"2. وقوله: "والبرثن: بضم الباء والثاء وجمعه
براثن"3.
ب - الضبط ببيان نوع الحرف، كقوله: "وبسق النخل بالسين: أي طال"4.
وقوله: "الجمع جيابيج بياء معجمة بتقطتين من تحت"5.
ج- الضبط بالتتنظير ببناء مشهور، نحو: وهي الغسلة.... وجمعها غسل، مثل
قربة وقرب"6. أو ببناء مماثل في التصريف نحو: "وقد قرص اللبن يقرص
قروصا، فهو قارص، على مثال رجع يرجع رجوعا، فهو راجع"7.
__________
1 ص 519.
2 ص 925.
3 ص 937.
4 ص 928.
5 ص 626.
6 ص 636.
7 ص 929.
(1/136)
د- وقد يلجأ إلى أكثر من طريقة في الضبط،
فيضبط بالحركات والحروف والميزان الصرفي، أو بالوزن والمعنى، كقوله: "
وأنا أس على فعل، وآس أيضا بالبد على فاعل، وأسوان وأسيان بالواو
والياء، على وزن سكران، أي حزين "1. وقوله:" وهي الطنفسة بكسر الطاء
وفتحها على وزن فعللة وفعللة "2، وقوله: " وتقول: فلان يتندى على
أصحابه، كقولك يتسخى في الوزن والمعنى" 3.
8- بذل عناية فائقة في توثيق وتحقيق متن كتاب الفصيح، فرجع إلى نسخ
كثيرة للكتاب، وأشار إلى مابينها من فروق واختلاف في الروايات، مبين
الصواب من الخطأ في بعض هذه الروايات، وقد يشير في أثناء ذلك إلى بغض
النسخ التي سمعها وقرأها على شيوخه، والتي لم يسمعها، ومن أمثلة ذلك
قوله:".... وكذا رأيتها في نسخ كثيرة من الكتاب مشكولة بعلامة الفتح
... وفي رواية مبرمان عن ثعلب – رحمه الله -: والقرب: الليلة التي ترد
في يومها الماء. هكذا رأيته رأيته في أصل أبي سعيد السيرافي الذي رواه
عن مبرمان، ورأيت أيضا في نسخة مروية عن ابن خالويه: والقرب: الليلة
التي ترد الإبل في صبيحتها الماء. قال أبو سهل: والصحيح أن القرب بفتح
القاف والراء: هو سير الليل خاصة، ولا يكون نهارا"4.
__________
1 ص 416.
2 ص 835، 836.
3 ص 921.
4 ص 505.
(1/137)
وقوله: " وأما قوله: "ويها" فإنني رأيت
تفسيره مختلفا في نسخ الكتاب فرأيت في بعضها: "ويها": إذا زجرته عن
الشيء وأغريته". ورأيت في نسخة أخرى: "ويها" إذا زجرته عن الشيء
وأغريته به..... قال أبو سهل: وفي نسختي التي بخط أبي – رضي الله عنه –
وقرأتها على شيخنا أبي أسامة الغوي – رحمه الله –: "وويها: إذا حثثته
على الشيء، وأغريته به" وهذا هو الصواب...."1.
وقوله: ".....وهي بقلة الحمقاء، هكذا في نسخ عدة بإضافة بقلة إلى
الحمقاء، وليس هو جيدا، ورأيت في نسخ أخر "وهي البقلة الحمقاء بالألف
واللام والرفع على الصفة، وهذا هو الصواب"2.
وقوله: "وهي الأنملة بفتح الهمزة وضم الميم: ولواحدة الأنامل، هكذا في
نسختي التي قرأتها ورويتها عن شيوخي – رحمة الله عليهم ورضوانه – وهكذا
رأيته أيضا مشكولا في نسخ عدة، ورأيت في نسخ أخر لم أسمعها: "وهي
الأنملة، وقد تجوز بالضم" أعني بفتح الهمزة وضم الميم. ورأيت في نسخ
أخر لم أسمعها أيضا: "وهي الأنملة، وقد تجوز بالضم" أعني بفتح الهمزة
والميم جميعا، وأكثر أهل اللغة على فتح الهمزة وضم الميم"3.
__________
1 ص 549ن 550.
2 ص 814.
3 ص 602، 603.
(1/138)
وقوله: "ورأيت في نسخ منها نسخة أبي سعيد
السيرافي "عود أسر مشكولة السين بعلامة الضمة، وهو غلط، والصواب
تسكينها"1.
وقوله: "والعرض: الوادي.... ورأيت في نسخ عدة "العرض: ناحية الوادي"
والصواب أنه اسم للوادي، لا لناحيته، لأن ناحية الشيء يقال لها: العرض
بضم العين وسكون الراء"2.
9- لك المؤلف منهجا واحدا في شرح الألفاظ، فقد تباينت طريقته في ذلك
تبعا لطبيعة اللفظ المشروح، فنجده أحيانا يتوسع في شرح بعض الألفاظ حتى
يكاد يأتي على كل ما قيل فيها، وأحيانا يوجز فيكتفي بتفسير اللفظ
بمرادفه، أو بضد معناه، أو بعبارة: "وهو معروف"، أو يغفل تفسيره.
وسأذكر بعض الأمثلة في مبحث تقويم الكتاب – إن شاء الله- 3.
10- يسوق شرحه أحيانا على شكل حوار، كقوله: " ... فإن قلت: فإن فعلهما
صبر وشكر، قيل لك: إنما قيل ذاك للصابر والشاكر، وليس لصبور وشكور"4.
لم يشر إلى نطق العامة في جميع ألفاظ الفصيح، وإن أشار إلى قولها، فإما
أن يوافق ثعلبا في تخطئة ما تقول، أو ينتصر لها، فيذكر
__________
1 ص 697.
2 ص 538.
3 ص 277.
4 ص 785.
(1/139)
أن نطقها موافق للغة من لغات العرب فصيحة
أو أقل فصاحة. وهذا ما سأعرض له في مبحث قادم1 – إن شاء الله -.12- لم
يقف عند حدود الشرح المجرد لألفاظ الفصيح، بل كانت له شخصية متميزة
ظهرت من خلال مواقفه الكثيرة من ثعلب منتقدا ومدافعا، فضلا عن مواقفه
الأخرى من أقوال وروايات بعض العلماء، فكان يناقش ما يحتاج منها إلى
مناقشة، ويرجح ما يراه راجحا، ويرد ما يراه خاطئا.
فأما ثعلب فقد استدرك عليه في نحو خمسة وأربعين موضعا نبه في أكثرها
على الألفاظ التي وضعها في غير أبوابها مما لا تغلط فيه العامة،
وطريقته في ذلك غالبا – أن يشير في بداية الباب إلى مجمل الألفاظ
الخارجة عن ترجمته (عنوانه-، ثم ينبه ثانيا على كل لفظ خارج عن ترجمته
في موضعه من الشرح. ومن أمثلة ذلك قوله في أول "باب المفتوح أوله من
الأسماء": " قال أبو سهل: ذكر أبو العباس ثعلب – رحمه الله – في هذا
الباب أربعة وعشرين فصلا2 خارجة عن ترجمته. وقد ميزتها في "تهذيب
الكتاب وجعلت كل فصل منها في الموضع الذي هو أحق به من هذا الباب. لكني
ذكرتها في هذا الكتاب على ما هي مثبتة في الأصل"3.
__________
1 ص 155-162.
2 أي لفظا.
3 ص 579.
(1/140)
ثم نبه على الألفاظ التي أجمل الإشارة
إليها في صدر الباب عند ورودها في مواضعها من الشرح، ومن ذلك قوله:
"وليس الظبي والجرو من هذا الباب، ولا تغلط فيهما العامة، وإنما ذكرهما
ثعلب – رحمه الله – لأن جمعهما في القلة والكثرة كجمع الجدي"1. وقوله
أيضا عند شرح قول ثعلب: "وهو أبين من فلق الصبح، وفرق الصبح" قال:
"وليس هذان الفصلان مما تغلط العامة في أولهما"2.
وقال في أول "باب المضموم أوله": "قال أبو سهل: ذكر أبو العباس ثعلب –
رحمه الله – في هذا الباب أحد عشر فصلا خارجة عن ترجمته، والعامة لا
تغلط في الحرف الأول منها، لأنها تضم أوائلها كلها، كما تتكلم بها
العرب، وإنما تغلط في الحرف الثاني منها ... "3.
ثم والى التنبيه في ثنايا شرح هذا الباب على الألفاظ الخارجة عن
ترجمته، كقوله في "رجل لعنة، وضحكة، وهزأة، وسخرة، وخدعة" قال:
"والعامة لا تخالف العرب في أوائل هذه الفصول، فليس لإثباتها في هذا
الباب معنى"4.
وقد ينبه على بعض الألفاظ الواردة في غير أبوابها عرضا في أثناء الشرح
دون أن يجمل الإشارة إليها – على خلاف عادته – في صدر
__________
1 ص 589.
2 ص 594.
3 ص 694.
4 ص 694، 710، 712، 713.
(1/141)
الباب، ومن ذلك قوله في "باب ما جاء وصفا
من المصادر": ".... فهذه الفصول ليست من هذا الباب، لأنها ليست بمصادر
وصف بها، وإنما هي أسماء"1. وقوله أيضا: "وذكر ثعلب – رحمه الله – في
هذا الباب فصولا أخر، وليست منه أيضا، لأنها ليست بمصادر وصف بها،
وإنما هي أفعال محضة.... فمنها قوله: ويقال دلع فلان لسانه ... "2.
كما نبه على بعض أخطاء ثعلب الصرفية واللغوية، ومن ذلك قوله في باب
"فعِلت وفعَلت – باختلاف المعنى " قال: "ذكر أبي العباس – رحمه الله –
عمت بكسر العين في هذا الباب غلط، لأن وزنه على الأصل قبل النقل فعلت
بفتح الفاء والعين، وكان أصله عيمت، على مثال ضربت ... وقد خلط في
مستقبله بقوله: أعيم وأعام أيضا....
وذكر أبي العباس – رحمه الله – عجت بكسر العين، في هذا الباب غلط أيضا،
والقول فيه كالقول في عمت بكسر العين، الذي ذكرته آنفا"3.
وقال في "باب المخفف": "قول ثعلب – رحمه الله -: "وهو السماني
__________
1 ص 567.
2 ص 568.
3 ص 424-426.
(1/142)
لهذا الطائر" هو كلام صحيح دل به على طائر
واحد، لقوله: "لهذا الطائر" ثم خلط بقوله: "والواحدة سماناه" وقد كان
يجب أن يقول: وهي السمانى لهذه الطير، والواحدة سماناة، أو يقول: وهو
السمانى لهذه الطير، فيأتي بـ"هو" ليدل به على الجنس"1.
وقال في "باب الفرق": "وأما قوله: "ومن الخنزير الفنطيسة، ومن السباع
الخطم والخرطوم" فإن ذكره هذا مع الشفة غلط، لأن أهل اللغة ذكروا عن
العرب أن الفنطيسة مكسورة الفاء أنف الخنزيز، ولم يذكر أحد منهم أنها
شفته"2.
وفسر ثعلب الأكلة بالغداء والعشاء، ولم يرتض أبو سهل هذا التفسير فقال:
"الأكلة هي المرة الواحدة من الأكل حتى يشبع في أي وقت كان من النهار
والليل"3.
وبالرغم من نقده هذا، فقد انتصر له في غير موضع من الشرح معللا ومحكما
المسموع من كلام العرب، فمن ذلك قوله في الرد على ابن درستويه والجبان
اللذين أنكرا على ثعلب أن يكون "أعداء وعدى" بمعنى واحد جمعا لعدو،
قال: "والذي ذكره جلة أهل اللغة لقول ثعلب – رحمه الله -، وإن كان بعض
الجموع قد خرجت عن القياس، لكن الذي ورد به السماع ما قالوه ... "4.
وقوله: "وروى الرواة كلهم عن ثعلب – رحمه الله – الحرف الأول "ما بها
أرم" بفتح الهمزة وكسر الراء، على فعل، مثل حذر، إلا ابن
__________
1 ص 766.
2 ص 933.
3 ص 720.
4 ص 855.
(1/143)
درستويه، فإنه رواه "ما يهم آرم" على فاعل،
وقال: هو الذي ينصب الإرم، وهو العلم ...
قال أبو سهل: وهذا الذي قاله ابن درستويه وإن كان قياسا صحيحا فإن
المسموع من العرب خلافه، لأن أهل اللغة رووا عنهم: "ما بها أرم، على
وزن فعل، كما رواه أصحاب ثعلب – رحمه الله – عنه، ومنه قول الشاعر:
دار لأسماء بالغمرين مائة
كالوحي ليس بها من أهلها أرم1.
ومن مظاهر شخصيته المتميزة تجويز بعض ما منعه العلماء، ومن ذلك قوله:
"قال قوم من أهل اللغة والنحو: تلك وتيلك اسمان يشار بهما إلى ما بعد
من المؤنث. وقال الجبان: التاء من تلك اسم البعيدة المشار إليها....
وذيك المرأة خطأ، والذال لا مدخل لها في المشار إليها إذا بعدت.
قال أبو سهل: والذي عندي أن تلك باللام، وتيك بالياء، وذيك بالذال
والياء، كلها بمعنى واحد، وهي لغات للعرب، وليس ذيك بالذال خطأ، كما
زعم ثعلب والجبان وغيرهما، بل هي لغة صحيحة جارية على قياس كلام العرب
... والدليل على أن ذيك بالذال، لغة صحيحة وليست بخطأ أنهم إذا حذفوا
كاف الخطاب من آخرها بقيت ذي بذال مكسورة، وبعدها ياء، فتكون إشارة إلى
مؤنث ... وأما قول من قال:
__________
1 ص 676. وينظر: ص 896.
(1/144)
إن تلك وتيك اسمان للبعيدة المشار إليها،
فليس قولهم شيئا يصح، لأن الله تعالى قد قال: {وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فأشار إلى العصا، وخاطب موسى عليه السلام، ولا
يكون شيء أقرب مما هو في اليد، وهذا بين واضح"1.
وكان يناقش أقوال العلماء ويوجهها، ويختار ما يراه صوابا منها، كقوله:
"والعامة تقول: "رأس العين، فتزيد فيه الألف واللام، وأنكر أهل العلم
بالنحو واللغة ذلك، وقالوا: لا يجوز ذلك، لأنه ههنا اسم علم معرفة
لموضع بعينه، فلا بجوز تعريفه بالألف واللام ... قال أبو سهل: والذي
أراه أن رأس العين اسمان جعلا اسما واحدا، فلا يدخلون في الثاني منهما
الألف واللام، كما لم يدخلوهما في بعل بك، وقالي قلا، ورام هرمز،
وأشباهها"2.
وقوله: "وأما وجه قول الفراء في كسر النون فكأنه أراد تثنية شت، وهو
المتفرق، ويجوز أن يكون كسرها على أصل التقاء الساكنين"3.
وقوله: "وقال الجبان: شطب السيف وشطبه: طرائقه. قال: وقيل: فرنده،
وقيل: حده الذي يضرب به.... قال أبو سهل: والصحيح من هذه الوجوه أنها
الطرائق لا غير"4.
__________
1 ص 852.
2 ص 893.
3 ص 823.
4 ص 839.
(1/145)
كما كان كثير التتبع لنسخ الفصيح، فأشار
إلى روايتها المختلفة وحكم على بعض هذه الروايات بالصواب أو الخطأ، وقد
سبقت أمثلة لذلك1.
وكان له أيضا موقف متميز من آراء المدرستين البصرية والكوفية، وتمثل
هذا الموقف في ثلاث صور:
1- التحرر من العصبية المذهبية أو الحياد.
2- الموافقة.
3- المخالفة.
وهذا ما سأوضحه في مبحث قادم – إن شاء الله -2.
13- حرص على ربط كتابه بعضه ببعض، ليجنبه التكرار ما أمكن، وذلك
بالإحالة على ما تقدم شرحه، إذا تكرر نظيره، نحو قوله: "وهو أب لك وأخ
لك ... وقد تقدم ذكرهما في باب المصادر"3. وقوله: "وأما الملحفة: فقد
تقدم تفسيرها في باب المكسور أوله"4. وقوله: "والقرط ما يجعل في أسفل
أذن الجارية والغلام ... ويقال لما يجعل في أعلاها شنف ... وقد تقدم
ذكره في باب المفتوح أوله"5.
__________
1 ص 137.
2 ينظر: ص 171، 201-203، 213-220.
3 ص 764.
4 ص 788.
5 ص 911.
(1/146)
وأحيانا تكون إحالته على ما تقدم شرحه حالة
كطلقة، أي من غير تعيين الباب الذي ورد فيه اللفظ المشروح كقوله: " ...
وقد تقدم هذا فيما مضى من الكتاب"1.
قد يعرض عن شرح بعض الألفاظ أو المسائل أو لا يستوفي القول فيها
استنادا إلى تفصيل له أوفى وأشمل في غير كتابه هذا، كقوله: "وقد بينت
اللغات في هذا وهذه في حال الإفراد والتثنية والجمع للمذكر والمؤنث في
شرح الكتاب"2، وقوله: "وفيه أربع لغات أذكرها لك – إن شاء الله – في
شرح الكتاب"3. وقوله: "وقد ميزت هذه الفصول التي أوردها محالفة لتراجم
الأبواب التي فيها، وفصلتها في الكتاب الذي عملته لك قبل هذا، المترجم
لـ"كتاب تهذيب الفصيح"4. وقوله: "وقد استقصيت هذا الفصل في كتاب المكنى
والمبنى"5. وقوله: "وقد استقصيت ذكر الخال في الكتاب المثلث"6. وقوله:
"وهو مأخوذ من الملحة، وهي البياض، فيها اختلاف، وقد ذكرته في الكتاب
المنمق"7. وقوله: ".... وقد بينت هذا بيانا شافيا في
__________
1 ص 353، وينظر: ص 391، 938.
2 ص 311.
3 ص 660.
4 ص 391.
5 ص 511.
6 ص 513.
7 ص 761.
(1/147)
كتاب الأسد"1.
15- يستطرد أحيانا في تفسير وتوضيح بعض الألفاظ التي يذكرها في الشرح،
أو بعض ما يعرض له من شواهد قرآنية، أو أبيات شعرية.
فمن استطراده في تفسير الألفاظ قوله: "والفلاة: المفازة وجمعها فلا
مقصور، وفلوات، والمفازة: واحدة المفاوز، وسميت بذلك على طريق التفاؤل
لها بالسلامة والفوز، من فاز يفوز فوزا، إذا نجا، لأنها مهلكة، كما
قالوا للديغ: سليم. وقال ابن الأعرابي: سميت مفازة، لأنها مهلكة، من
فوََز، إذا هلك"2. فاستطرد في تفسير المفازة، وهي كلمة عارضة أتى بها
لتفسير الفلاة.
ومن استطراده في تفسير الآيات، قوله: " ... ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَت} معناه قوله
أعلم – تسلو عن ولدها، وتتركه، وتشغل عنه"3. وقوله: " ... وقال الله عز
وجل: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي أمنتم لزوال
الخوف"4.
أما الشواهد الشعرية، فقد عرض لنوعين منها: نوع ورد أصل
__________
1 ص 937.
2 ص 292، وينظر: ص 331، 324، 587، 592.
3 ص 331.
4 ص 696. وينظر: 448، 546، 462، 621، 624، 698، 916، 927.
(1/148)
الفصيح، وقد اهتم أبو سهل بهذا النوع
اهتماما بالغا، فكان ينسب الشاهد – في الغالب – إلى قائله، ويشرح معظم
ألفاظه، وقد يذكر معه بيتا قبله أو بعده، أو يشير إلى ما فيه من
روايات1.
ونوع آخر استشهد به أبو سهل نفسه، فكان يستطرد في شرح بعض هذه الشواهد،
أو ذكر ما فيها من روايات.
فمن استطراده في شرح الشواهد قوله في بيت ابن مقبل:
قربوس السرج من حاركه ... بتليل كالهجين المحتزم
قال: "الحارك من الفرس: أعلى كتفيه ومغرز عنقه، والتليل: العنق.
والهجين من الناس: الذي أبوه عربي وأمه أمة. فشبه انتصاب القربوس على
حاركه بعبد محتزم، وهو الذي قد احتزم بثوبه، وانتصب متهيئا لأمره"2.
وقوله في بيت سنان بن أبي حارثة المري:
وقد يسرت إذا ما الشول روحها ... برد العشي بشفان وصراد
قال: "يسرت: أي دخلت مع الأيسار في الجزور، إذا ضربوا
__________
1 ينظر مثلا: ص 341، 352، 373، 528، 555، 778، 847.
2 ص 597.
(1/149)
عليها بالسهام. والشفان: الريح الباردة.
والصراد: غيم وقيق لا ماء فيه"1.
ومن استطراده في إيراد روايات الأبيات، وهو كثيرا ما يفعل ذلك، قوله في
بيت حاتم الطائي:
إيها فدى لكم أمي وما ولدت ... حاموا على مجدكم واكفوا من اتكلا
قال: "ويروى: مهلا فدى لكم"2.
وقوله في بيت أحد الشعراء (قيل: هو جهينة الخمار) :
تسائل عن خصيل كل ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين
قال: ويروى:
تسائل عن أخيها كل ركب ... وعند جهينة..
بالهاء"3.
وقوله في بيت أنشده أبو زيد لأحد الشعراء ولم ينسبه:
ترى الناس أشباها إذا نزلوا معا ... وفي الناس زيف مثل زيف الدرهم
قال: "وروى غيره:
ترى القوم أسواء إذا نزلوا معا4
(1/150)
16- بالرغم من نزوعه إلى الاستطراد كما
ذكرت ومثلت، إلا أنه كان – مع ذلك – حريصا على الإيجاز والاختصار ما
أمكن، لأن الإطالة – كما يعلل – تخرج بالكتاب عن منهجه الذي رسمه لنفسه
في المقدمة، وهو "الإيجاز الاقتصار في التفسير". وقد التزم بهذا المنهج
وظل يؤكد عليه مرارا في ثنايا الشرح، فمن ذلك قوله: ".... وفيه أقوال
أخر غير هذا، تركت ذكرها هنا خوف الإطالة، وقد ذكرتها في الكتاب
المنمق"1.
وقوله: " ... وفي هذه الأشياء اختلاف بين أهل اللغة تركت ذكرها خوف
الإطالة"2.
وقوله: " ... والقصد في هذا الكتاب الإيجاز والاقتصار، لكني نبهتك
هاهنا على موضع السهو لتعلمه، وقد بينت ذلك في "الشرح"، وأنت تراه فيه
– إن شاء الله - "3.
وقوله: ".... وقد استقصيت ذكر هذه الفصول وأبنت اشتقاقها وأصلها في
"شرح الكتاب" ولا يحسن ذكرها هاهنا لما شرطته من اقتصار التفسير في هذا
الكتاب"4.
17- عرض من خلال هذا الشرح لعدد من المسائل اللغوية والصرفية والنحوية،
سأتحدث - بالتفصيل – عن طريقته في عرضها
__________
1 ص 343.
2 ص 604.
3 ص 426.
4 ص 160.
(1/151)
ومناقشتها في مبحث قادم – إن شاء الله-.
وعرض أيضا لبعض المسائل البلاغية، كالحقيقة والمجاز والتشبيه
والاستعارة والكناية، ولم يجاوز في عرضه لها حدود الإشارات العابرة غير
المفصلة، وذلك نحو قوله: "وابن بين البنوة: وهو الذي تلده، ومعناه: أنه
صحيح الولادة ظاهرها، على الحقيقة، لا على التشبيه والمجاز"1.
وقوله: "وكذلك وعد الرجل وبرق بغير ألف أيضا: إذا أوعد وتهدد، وهما
مستعاران من رعد السحاب وبرقه، لأنهما مخوفان، وقد يقال في هذا: أرعد
الرجل وأبرق، على أفعل. ومنه قول الكميت:
أرعد وأبرق يا يزيـ
فما وعيدك لي بضائر2.
وقوله: "ومسست الشيء أمسه.... إذا لمسته بيدك. ويكنى به عن الجماع"3.
وكذلك عرض لبعض السائل العروضية، كالإكفاء والإقواء والروي، وعرض لها
في موضع واحد فقط، ولكنه فصل في ذلك، فعرف الإكفاء والإقواء، وأشار إلى
الخلاف فيهما، ومثل لهما، فقال: "وأكفأت في الشعر بالألف، أكفئ إكفاء،
وهو مثل الإقواء.... وذلك إذا خالفت حرف
__________
1 ص 512.
2 ص 372-373.
3 ص 349. وينظر: ص 456، 511، 597، 518، 876، 931.
(1/152)
الروي بالرفع والخفض في قوافي الشعر، كقول
الحارث بن حلزة:
فملكنا بذلك الناس حتى ... ملك المنذر بن ماء السماء
وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء
فأقوى في البيت الأول فخفضه، والقصيدة مرفوعة. والروي: هو الحرف الذي
تبنى عليه القصيدة. وقال قوم: الإكفاء في الشعر: هو أن يخالف بين
قوافيه بالحروف، فيجعل حرف مكان حرف، وذلك أن تجعل قافية طاء والأخرى
ميما، وما أشبه هذا من الحروف التي تشبه بعضها بعضا، وذلك نحو قول
الراجز:
إذا نزلت فاجعلاني وسطا
إني شيخ لا أطيق العندا
... وقال آخر:
يا ريها اليوم على مبين
على مبين جرد القصيم1
ولم يدخل الكتاب من إشارات تتصل بخلق الإنسان2،
__________
1 ص 441-443.
2 ينظر: ص 587، 603، 616، 660، 855، 883، 908.
(1/153)
وعلم الكتابة1 والفقه2، والعقيدة3.
وتعرض لشيء مما يتصل بعلوم العرب معارفها ومعتقداتها4، وشرح عددا من
الأمثال5، وعرف بطائفة من الأعلام، والفرق، والجماعات، والبلدان6.
__________
1 ينظر: ص 313، 480، 817، 902.
2 ينظر: ص 711، 718.
3 ينظر: ص 494، 598.
4 ينظر: ص فهرس الفوائد والمعارف العامة ص 1087.
5 ينظر: 752، 811، 819، 829.
6 ينظر: ص 335، 422، 445، 604، 709، 743، 878، 891، 909.
(1/154)
|