الأصول في النحو باب تمييز المقادير:
المقدرات بالمقادير على ثلاثة أضرب: ممسوح, ومكيل, وموزون. أما ما كان
منها على معنى المساحة, فقولهم: ما في السماء قدر راحة سحابًا, جعل قدر
الراحة شيئا معلومًا نحو: ما يمسح به ما في الأرض وكل ما كان في هذا
المعنى فهذا حكمه. وأما ما كان على معنى الكيل فقولهم: عندي قفيزان برا
وما أشبه ذلك. وأما ما كان على معنى الوزن فقولهم: عندي منوان سمنًا
وعندي رطل زيتًا. فالتمييز إنما هو فيما يحتمل أن يكون أنواعًا, ألا
ترى أنك إذا قلت: عندي منا ورطل وأنت تريد: مقدار منا ومقدار رطل لا
الرطل والمن1 اللذين2 / 352 يوزن بهما جاز أن يكون ذلك المقدار من كل
شيء يوزن من الذهب والفضة والسمن والزيت, وجميع الموزونات, وكذلك
الذراع يجوز أن يكون مقدار الذراع من الأرضين والثياب ومن كل ما يمسح,
وكذلك القفيز والمكيل يصلح أن يكال به الحنطة, والشعير والتراب وكل ما
يكال. فأما قولهم: لي مثله رجلًا فمشبه بذلك لأن المثل مقدار فذلك
الأصل ولكنهم يتسعون في الكلام فيقولون: لي مثله رجلًا وهم يريدون: في
شجاعته وغنائه أو غير ذلك. فإذا قلت: لي مثله زيدًا فذلك على بابه إنما
يريد: مثل شيء في وزنه وقدره والهاء في مثله حالت بين مثل وبين زيد
__________
1 في الأصل "المنا".
2 في الأصل "الذي".
(1/307)
أن تضيفه إليه, وكذلك النون في "منوان"
فنصبته كما نصبت المفعول لما حال الفاعل بينه وبين الفعل. ولولا
المضاف, والنون لأضفته إليه, لأن كل اسم يلي اسمًا ليس بخبر له, ولا/
353 صفة ولا بدل منه فحقه الإِضافة, وسيتضح لك ذلك في باب الخفض إن شاء
الله.
ومثل ذلك: عليه شعر كلبين دينًا فالشعر مقدار وكذلك: لي ملء الدار
خيرًا منك, ولي ملء الدار أمثالك؛ لأن خيرًا منك وأمثالك نكرتان1 وإن
شئت قلت: لي ملء الدار رجلًا وأنت تريد: رجالًا وكل مميز مفسر في
المقادير والأعداد وغيرها. "فمن" تحسن فيه إذا رددته إلى الجنس تقول:
لي مثله من الرجال, وما في السماء قدر راحة من السحاب, ولله دره من
الرجال, وعندي عشرون من الدراهم, ومنه ما تدخل فيه "من" وتقره على
إفراده كقولك: لله دره من رجل.
قال أبو العباس -رحمه الله: أما قولهم: حسبك بزيد رجلًا, وأكرم به
فارسًا, وحسبك يزيدٍ من رجل, وأكرم به من فارس, ولله دره من شاعر, وأنت
لا تقول: عشرون من درهم ولا هو أفره من عبد, فالفصل بينهما: أن الأول
كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت2 / 345 "من" لتخلصه للتمييز, ألا
ترى أنك لو قلت: أكرم به فارسًا وحسبك به خطيبًا لجاز أن تعني في هذه
الحال, وكذلك إذا قلت: كم ضربت رجلًا وكم ضربت من رجل. جاز ذلك لأن
"كم" قد يتراخى عنها مميزها. وإذا قلت: كم ضربت لم يدر السامع أردت: كم
مرةً ضربت رجلًا واحدًا أم: كم ضربت من رجل فدخول "من" قد أزال الشك.
ويجوز أن تقول: عندي رطل زيت وخمسة أثواب, على البدل لأنه جائز أن
تقول: عندي زيت رطل, وأثواب خمسة فتوخوها على هذا المعنى, وجائز الرفع
في: لي مثله رجل،
__________
1 في الأصل "نكرة".
2 انظر: المقتضب 3/ 34-35.
(1/308)
تريد: رجل مثله, فأما الذي ينتصب انتصاب
الاسم بعد المقادير فقولك: ويحه رجلًا, ولله دره رجلًا, وحسبك به
رجلًا, قال العباس بن مرداس:
ومرة يحميهم إذا ما تبدَّدوا ... ويطعنهم شزرًا فأبرحتَ فارسا1
قال سيبويه: كأنه قال: فكفى بك فارسًا, وإنما يريد: كفيت فارسًا2 / 355
ودخلت هذه الباء توكيدًا, ومن ذلك قول الأعشى:
فأَبْرَحْتَ رَبًّا وَأْبرَحْتَ جَارًَا3
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 299 على نصب "فارس" على التمييز للنوع الذي أوجب
له فيه المدح، والمعنى: فأبرحت، أي: بالغت وتناهيت في الفروسية، وأصل
أبرحت من البراح وهو المتسع من الأرض المنكشف، أي: تبين فضلك بتبيين
البراح من الأرض وما نبت فيه. فإذا تبددت الخليل، أي: تفرقت للغارة،
ردها وحمي منها. والشزر: الطعن في جانب، فإن كان مستقيما فهو من اليسر.
والشزر أشد منه لأن مقاتل الإنسان فيه جانبيه. وقد استشهد به: على أن
الكوفيين قالوا: أن "أفعل" بدون من صيغ التعجب.
وانظر المقتضب 2/ 151، ورواه: ومرة يرميهم إذا ما تبدوا.. والأصمعيات/
237، الأغاني 14/ 315، والخزانة 3/ 518، وشروح سقط الزند 1/ 248.
والديوان تحقيق د. يحيى الجبوري/ 71.
2 انظر الكتاب 1/ 199.
3 من شواهد سيبويه 1/ 299، على نصب "ربا وجارا" على التمييز، والمعنى:
أبرحت من رب ومن جار، أي: بلغت غاية الفضل في هذا النوع. وأراد بالرب
الملك الممدوح، وكل من ملك شيئا فهو ربه. يشير إلى ابنته التي تحدث
عنها تقول له وقد حزم أمره على الرحلة لممدوحه، أي أب كنت لي أعتز
برعايته، وأي جار كنت أجد الأنس في قربه.
وضبط صاحب اللسان تاء الفاعل في "أبرحت" بالكسر بناء على أن هذا خطاب
لابنته ولكن الرواية في الديوان تدل على أنه من ابنته له، وكذا فعل ابن
السراج.
وانظر: نوادر أبي زيد/ 55، والتهذيب 5/ 19، وشرح الحماسة 3/ 1263،
والحماسة/ 334، وجمهرة الأمثال للعسكري 1/ 205، والفاخر للمفضل بن سلمة
/ 214، وشروح سقط الزند 1/ 248. والجمهرة 1/ 16، وارتشاف الضرب/ 244،
والديوان/ 49.
(1/309)
ومثله: أكرم به رجلًا. وإذا كان في الأول
ذكر منه حسن أن تدخل "من" توكيدًا لذلك الذكر تقول: ويحه من رجل, ولله
در زيد من فارس, وحسبك به من شجاع ولا يجوز: عشرون من درهم, ولا هو
أفرههم من عبد؛ لأنه لم يذكره في الأول ومعنى قولهم: ذكر منه, أن رجلًا
هو الهاء في ويحه. وفارس هو زيد, والدرهم ليس هو العشرون والعبد ليس هو
زيد, ولا الأفره, لأن الأفره خبر زيد.
(1/310)
|