الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 19- مسألة: [القول في العامل في الخبر بعد
"ما" النافية النصب] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "ما" في لغة أهل الحجاز لا تعمل في الخبر، وهو
منصوب بحذف حرف الخفض. وذهب البصريون إلى أنها تعمل في الخبر، وهو
منصوب بها.
أما الكوفيون فاحتجوا بها، قالوا: إنما قلنا إنها لا تعمل في الخبر،
وذلك لأن القياس في "ما" أن لا تكون عاملة ألبتة؛ لأن الحرف إنما يكون
عاملًا إذا كان مختصًّا، كحرف الخفض لما اختص بالأسماء عمل فيها، وحرف
الجزم لما اختص بالأفعال عَمِلَ فيها، وإذا كان غير متخص فوجب أن لا
يعمل كحرف الاستفهام والعطف؛ لأنه تارة يدخل على الاسم، نحو "ما زيد
قائم" وتارة يدخل على الفعل، نحو "ما يقوم زيد" فلما كانت مشتركة بين
الاسم والفعل وجب أن لا تعمل؛ ولهذا كانت مهملة غير معملة في لغة بني
تميم، وهو القياس، وإنما أعملها أهل الحجاز لأنهم شَبَّهُوها بليس من
جهة المعنى، وهو شَبَهٌ ضعيف فلم يَقْوَ على العمل في الخبر كما عملت
ليس؛ لأن ليس فعل، وما حرف، والحرف أضعف من الفعل، فبطل أن يكون
منصوبًا بما، ووجب أن يكون منصوبًا بحذف حرف الخفض؛ لأن الأصل "ما زيد
بقائم" فلما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبًا؛ لأن الصفات منتصبات
الأنفس، فلما ذهبت أبقت خلفًا منها، ولهذا لم يجز النصب إذا قُدِّمَ
الخبر، نحو "ما قائم زيد" أو دخل حرف الاستثناء نحو "ما زيد إلا قائم"
لأنه لا يحسن دخول الباء معهما؛ فلا يقال "ما بقائم زيدٌ، وما زيدٌ إلا
بقائم" فدلّ ذلك على ما قلناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن "ما" تنصب الخبر وذلك
__________
1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص59" وتصريح الشيخ خالد
"2/ 236" وكتاب سيبوبه "1/ 28" وحاشية الصبان على الأشموني "1/ 234
بولاق".
(1/134)
أن ما أشبهت ليس؛ فوجب أن تعمل عمل ليس،
وعمل ليس الرفع والنصب ووجه الشبه بينها وبين ليس من وجهين؛ أحدهما:
أنها تدخل على المبتدأ والخبر، كما أن ليس تدخل على المبتدأ والخبر،
والثاني: أنها تنفي ما في الحال، كما أن ليس تنفي ما في الحال،
ويُقَوِّي الشبه بينهما من هذين الوجهين دخول الباء في خبرها كما تدخل
في خبر ليس؛ فإذا ثبت أنها قد اشبهت ليس من هذين الوجهين فوجب أن تجري
مجراه؛ لأنهم يَجْرُون الشيء مِجْرَى الشيء إذا شابهه من وجهين، ألا
ترى أن ما لا ينصرف لما أشبه الفعل من وجهين أُجْرِي مُجْرَاه في منع
الجر والتنوين، فكذلك ههنا: لما أشبهت ما ليس من وجهين وجب أن تعمل
عملها؛ فوجب أن ترفع الاسم وتنصب الخبر كليس على ما بيَّنَّا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن القياس يقتضي أن لا
تعمل" قلنا: كان هذا هو القياس، إلا أنه وجد بينها وبين ليس مشابهة
اقتضت أن تعمل عملها، وهي لغة القرآن، قال الله تعالى: {مَا هَذَا
بَشَرًا} [يوسف: 31] وقال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}
[المجادلة: 2] .
قولهم "إن أهل الحجاز أعملوها لشبه ضعيف، فلم يَقْوَ أن تعمل في الخبر"
قلنا: هذا الشبه قد أوجب لها أن تعمل عملها، وهي ترفع الاسم وتنصب
الخبر، على أنا قد عملنا بمقتضى هذا الضعف؛ فإنه يبطل عملها إذا تقدم
خبرها على اسمها، أو إذا دخل حرف الاستثناء، أو إذا فُصِلَ بينها وبين
معمولها بأن الخفيفة، ولولا ذلك الضعف لوجب أن تعمل في جميع هذه
المواضع.
وأما دعواهم أن الأصل "ما زيد بقائم" فلا نسلم، وإنما الأصل عدمها،
وإنما أدخلت لوجهين؛ أحدهما: أنها أُدْخِلَت توكيدًا للنفي، والثاني:
ليكون في خبر ما بإزاء اللام في خبر إنَّ؛ لأن ما تنفي ما تثبته إن،
فجعلت الباء في خبرها نحو "ما زيد بقائم" لتكون بإزاء اللام في نحو
"إنَّ زيدًا لقائم" كما جعلت السين جواب لن، ألا ترى أنك تقول "لن
يفعل" فيكون الجواب "سيفعل" وكذلك جعلت قد جواب لما، ألا ترى أنك تقول
"لما يفعل" فيكون الجواب "قد فعل" ولو حذفت لما فقلت "يفعل" لكان
الجواب "فعل" من غير قد؛ فدل على أن قد جواب لمَّا، فكذلك ههنا.
وقولهم "إنه لما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبًا؛ لأن الصفات
منتصبات الأنفس، فلما ذهبت أبقت خلفًا منها" قلنا: هذا فاسد؛ لأن الباء
كانت في نفسها مكسورة غير مفتوحة، وليس فيها إعراب؛ لأن الإعراب لا يقع
على حروف المعاني، ثم لو كان حذف حرف الخفض يوجب النصب كما زعموا لكان
ذلك يجب في كل موضع يحذف فيه، ولا خلاف أن كثيرًا من الأسماء تدخلها.
(1/135)
حروف الخفض ولا تنتصب بحذفها، كقولك: كفى
بالله شهيدًا، وكفي بالله نصيرًا" ولو حذفت حرف الخفض لقلت: كفى الله
شهيدًا، وكفى الله نصيرًا، بالرفع، كما قال رجل من الأزد:
[96]
لما تَعَيَّا بالقَلُوصِ ورَحْلِهَا ... كفى الله كعبًا ما تَعَيَّا
بِهِ كَعْبُ
وقال عبد بني الحَسْحَاس:
[97]
عميرةَ وَدِّعْ إنْ تَجَهّزَتَ غاديًا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء
ناهيا
__________
[96] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، ولا عثرت له على
سوابق أو لواحق، وتعيا -بوزن تقضى وتزكى- ومثله تعايا -مثل تغاضى
وتقاضى- وأعيا -مثل أهدى وأبقى- وتقول: أعيا عليه الأمر، وتعيا،
وتعايا؛ إذا بهظه وأثقله وأعجزه والقلوص -بفتح القاف- الناقة، ومحلّ
الاستشهاد به قوله "كفى الله كعبا" فإن المؤلف قد زعم أن "كفى" في هذه
العبارة هي التي يقترن فاعلها بالباء الزائدة غالبا، وقد يجيء فاعلها
غير مقترن بالباء كما في هذا البيت والذي يليه، وهو انتقال نظر من
المؤلف، وبيان ذلك أن "كفى" على ثلاثة أضرب: الأول: أن يكون بمعنى حسب،
وهذه قصارة لا تتعدى وهي التي يغلب اقتران فاعلها بالباء الزائدة، نحو
قوله تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} والثاني: أن تكون بمعنى وفى
فتتعدَّى إلى اثنين، ولا يقترن فاعلها بالباء نحو قول الله تعالى:
{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ونحو قوله سبحانه:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} والثالث: أن تكون بمعنى أجزأ وأغنى،
فتتعدى إلى واحد ولا يقترن فاعلها بالباء الزائدة نحو قول الشاعر:
قليل منك يكفيني، ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
وأنت إذا تأملت أدنى تأمل تبين لك أن "كفى" في البيت الذي استشهد به
المؤلف من الضرب الثاني الذي تكون فيه بمعنى وفى وتتعدى إلى مفعولين،
وهذه -كما قلنا لك- لا يقترن فاعلها بالباء الزائدة لا في الغالب ولا
في القليل، وسبحان الذي تنزه عن السهو والغفلة، وانظر -بعد ذلك- شرح
الشاهد 102 الآتي:
[97] هذا البيت لسحيم عبد بني الحساس، وهو من شواهد ابن يعيش "ص1086 و
1148" والأشموني "رقم 736 بتحقيقنا" ومغني اللبيب "رقم 153 بتحقيقنا"
وأوضح المسالك لابن هشام "رقم 379 وعميرة: اسم امرأة، وتجهزت: أي اتخذت
جهاز سفرك وأعددته وهيأته، وغاديًا: اسم فاعل فعله غدا يغدو غدوًا -مثل
سما يسمو سموًّا- وذلك إذا سار في وقت الغداة، والغداة -ومثلها الغدوة-
الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ويروى في مكانه "غازيًا" وقوله
"كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا، يروى أن عمر بن الخطاب سمع هذا
البيت فقال: لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، والاستشهاد بهذا البيت
في قوله "كفى الشيب" حيث أسقط الباء من فاعل "كفى" التي هي فعل قاصر لا
يتعدى إلى مفعول وتدل على معنى حسب، وسقوطها في هذه العبارة يدل على أن
الباء ليست واجبة في فاعل هذا الفعل، بخلاف اقتران الباء بفاعل "أفعل"
في التعجب نحو "أكرم بزيد، وأعظم به" فإنها لازمة لا يجوز سقوطها.
(1/136)
وقال الآخر:
[98]
أعان عليّ الدهر إذ حلَّ بَرْكُةُ ... كفى الدهر لو وَكّلْتَهُ بي
كافيًا
وكذلك قالوا "بحسبك زيد، وما جاءني من أحد" وقال الشاعر:
[99]
بحسبك أن قد سُدْتَ أَخْزَمَ كلَّها ... لكلِّ أناس سادةٌ ودعائمُ
وقال الآخر:
[100]
بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غنيّ مضرّ
__________
[98] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وأعان عليّ الدهر:
كان معه ينصره ويناوئني، وأصل البرك -بفتح الباء وسكون الراء- الإبل
الكثيرة، أو الباركة، ومنه قول متمم بن نويرة:
إذا شارف منهن قامت ورجعت ... حنينًا فأبكى شجوها البرك أجمعا
والاستشهاد بالبيت في قوله "كفى الدهر كافيا" حيث جاء بالفعل كفى التي
بمعنى حسب غير مقترن بالباء الزائدة على نحو ما أوضحناه لك في البيتين
السابقين.
[99] هذا البيت ثالث أربعة أبيات رواها أبو تمام في ديوان الحماسة، ولم
يعزها ولا عزاها التبريزي ولا المرزوقي في شرحيهما، وحسبك: أي كافيك
ومجزئك ومغنيك، وسدت: فعل ماضٍ من السيادة، وهي الرياسة، وأخزم: رهط
حاتم، قال المرزوقي "ص1468": "والمعنى: كافيك أن ترأست على أخزم -وأخزم
رهط حاتم- ثم أزرى برياسته وبهم فقال: ولكل طائفة من الناس رؤساء وعمد،
وهذا يجرى مجرى الالتفات، كأنه بعد ما قال ذلك التلفت إلى من حوله
يؤنسهم ويقول: ليس ذا بمنكر فلكل قوم من يسوسهم ويدعمهم" ا. هـ.
والاستشهاد بالبيت في قوله "بحسبك" حيث زيدت الباء في المبتدأ الذي هو
حسب الذي بمعنى كافيك، وخبره هو المصدر المؤول من أن المخففة وما
وليها، وكأنه قال: كافيك سيادتك أخزم كلها، والباء لا تزاد في المبتدأ
إلا أن يكون المبتدأ هو لفظ حسب، ولهذا البيت نظائر كثيرة في النثر،
والنظم، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "بحسب المرء إذا رأى منكرًا
لا يستطيع له تغيرًا أن يعلم الله أنه له منكر" وقوله "بحسب امرئ من
الإيمان أن يقول: رضيت بالله ربًّا، وبمحمد رسولًا، وبالإسلام دينًا"
وقوله صلوات الله عليه: "بحسب امرئ من الشر أن يشار إليه بالأصباع في
دين أودنيا إلا من عصمه الله" وفي مثل من أمثال العرب "بحسبها أن تمتذق
رعاؤها".
[100] هذا البيت من كلام الأشعر الرقبان الأسدي -وهو أحد شعراء
الجاهلية- يهجو ابن عمه واسمه رضوان، وقد رواه ثاني أربعة أبيات ابن
منظور في لسان العرب "ض ر ر" وأنشده ابن يعيش "ص1086 و 1190" وأنشده
الميداني في مجمع الأمثال "1/ 66 بتحقيقنا" والمضر -بضم الميم وكسر
الضاد- الذي يروح عليه ضرة من المال، والضرة -بفتح الضاد وتشديد الراء-
الكثير من المال، وقيل: هو الكثير من المشاية خاصة، والاستشهاد بالبيت
في قوله "بحسبك أن يعلموا" ومعناه كافيك علم القوم، وذلك حيث زاد الباء
في =
(1/137)
وقال الآخر:
[101]
وقفت فيها أُصَيْلَانًا أُسَائِلُها ... أعيتْ جوابًا، وما بالرّبْعِ
من أحَدِ
وقال الأخر:
[102]
ألا هل أتاها والحوادث جَمَّةٌ ... بأن امرأ القيس بْنَ تَمْلِكَ
بَيْقَرَا
__________
= المبتدأ الذي هو لفظ حسب، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابق،
وانظر في هذا الموضوع بحثًا وافيًا لنا في شرحنا على شرح الأشموني "1/
237".
[101] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني من قصيدته التي مطلعها:
يا درا مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقوله "وقفت فيا أصيلانًا" الأصيلان: تصغير الأصلان الذي هو جمع أصيل،
والأصيل: هو الوقت قريب غروب الشمس، ويروى في مكان هذا "وقفت فيها
أصيلاكي أسائلها" كما يروى "وقفت فيها طويلا" وقوله "أعيت جوابا" يروى
في مكانه "عيت جوابًا" بتضعيف الياء، والمراد على كل حال أنها عجزت عن
الجواب ولم تجب عما سألها عنه، والربع: الدار، أو هو خاص بما ينزل فيه
القول أيام الربيع، والاستشهاد بالبيت في قوله "وما بالربع من أحد" فإن
هذه جملة من مبتدأ وخبر، أما الخبر فهو الجار والمجرور المقدم الذي هو
قوله "بالربع" وأما المبتدأ فهو قوله "أحد" وقد أدخل على هذا المبتدأ
من الزائدة، ونظير ذلك قول الله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
عَنْهُ حَاجِزِينَ}
وقوله جلت كلمته: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيشْفَعُوا لَنَا}
وقول وجيه بنت أوس الضبية:
وما لي إن أحببت أرض عشيرتي ... وأبغضت طرفاء القصيبة من ذنب
فإن قولها "ذنب" في آخر البيت مبتدأ دخلت عليه "من" الزائدة، وخبره هو
الجار والمجرور في أول البيت الذي هو قولها "لي" ونظير ذلك قول شاعر
الحماسة:
وما لي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت: يا سرحة اسلمي
و"من" تزاد على المبتدأ بشرطين: الأول: أن يكون المبتدأ نكرة، والثاني:
أن يتقدم عليها نفي أو استفهام بهل خاصة، وهذان الشرطان مستكملان فيما
ذكرنا لك من الشواهد، وانظر بحثًا مستفيضًا لنا في شرحنا على شرح
الأسموني "1/ 240".
[102] قد استشهد بهذا البيت الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه
"ص1086" والرضي في شرح الكافية، وشرحه البغدادي "ص1/ 161" وابن جني في
شرح تصريف المازني "1/ 84" وابن منظور في لسان العرب "ب ق ر" وكل واحد
منهم نسبة إلى امرئ القيس، وقد راجعت نسخ ديوان امرئ القيس بن حجر
الكندي برواية الأصمعي وشرح الأعلم الشنتمري فلم أجد هذا البيت في
قصيدته التي مطلعها:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا ... وحلت سليمى بطن قوفعرعرا
ولكنني وجدته في زياداته التي زادها الطوسي والسكري وابن النحاس في هذه
القصيدة وقوله "بيقرا" مأخوذ من قولهم "بيقر الرجل" إذا هاجر من أرض
إلى أرض، أو خرج إلى حيث لا يدري، أو نزل الحضر وأقام هناك وترك قومه
بالبادية، وخص بعضهم به العراق =
(1/138)
وإذا حذفوا حرف الخفض قالوا "حسبك زيد، وما
جاءني أحد" بالرفع لا غير، وكذلك جميع ما جاء من هذا النحو، ولو كان
كما زعموا لوجب أن يكون منصوبًا؛ فلما وقع الإجماع على وجوب الرفع دلّ
على فساد ما ادَّعُوه، والله أعلم.
__________
= قال ابن منظور وفي شرح المفصل "وقيل: إذا ذهب إلى الشام" ا. هـ، وقال
ابن منظور بعد أن ذكر هذه المعاني كلها "وقول امرئ القيس يحتمل جميع
ذلك" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في قوله "بأن امرأ القيس ... إلخ" فإن
المصدر المنسبك من أن المؤكدة واسمها وخبرها في موضع رفع على أنه فاعل
أتى في قوله "أتاها" وقد زاد الباء في هذا الفاعل وزيادة الباء في
الفاعل على ثلاثة أضرب: الأول: زيادة واجبة، وذلك في فاعل أفعل في
التعجب نحو أجمل بكرم الأخلاق، والثاني: زيادة غالبة، وذلك في فاعل كفى
القاصر الذي بمعنى حسب، وقد أوضحنا ذلك في شرح الشاهد رقم 96، والثالث:
زيادة شاذة كما في الشاهد الذي نحن بصدد شرحه وكما في قول قيس بن زهير
العبسي وهو الشاهد رقم 17 السابق:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
(1/139)
20- مسألة: [القول في تقديم معمول خبر"ما"
النافية عليها]
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز "طَعَامَكَ ما زيدٌ آكِلًا" وذهب البصريون
إلى أنه لا يجوز. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثَعْلَب من الكوفيين
إلى أنه جائز من وجه فاسد من وجه؛ فإن كانت "ما" ردًا لخبر كانت بمنزلة
لم ولا يجوز التقديم، كما تقول لمن قال في الخبر "زيد أكل طعامك" فترد
عليه نافيًا "ما زيد آكلًا طعامك" فمن هذا الوجه يجوز التقديم؛ فتقول
"طعامك ما زيد آكلًا" فإن كان جوابًا للقسم إذا قال "والله ما زيد بآكل
طعامك" كانت بمنزلة اللام في جواب القسم؛ فلا يجوز التقديم.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا ذلك لأن ما بمنزلة لم ولن
ولا؛ لأنها نافية كما أنها نافية، وهذه الأحرف يجوز تقديم معمول ما
بعدها عليها، نحو "زيدًا لم أضرب، وعمرا لن أُكْرِم، وبشرًا لا
أُخْرِجُ" فإذا جاز التقديم مع هذه الأحرف فكذلك مع ما.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن "ما"
معناها النفي، ويليها الاسم والفعل؛ فأشبهت حرف الاستفهام، وحرف
الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله، فكذلك ههنا: "ما" لا يعمل ما
بعدها فيما قبلها.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن ما بمنزلة لم ولن ولا"
قلنا لا نسلم؛ لأن "ما" يليها الاسم والفعل، وأما لم ولن فلا يليهما
إلا الفعل؛ فصارا بمنزلة بعض الفعل، بخلاف ما فإنها يليها الاسم
والفعل، وأما لا فإنما جاز التقديم معها وإن كانت يليها الاسم والفعل
لأنها حرف متصرف فعمل ما قبله فيما بعده، ألا ترى أنك تقول: "جئت بلا
شيء" فيعمل ما قبله فيما بعده؛ فإذ جاز أن يعمل ما قبله فيما بعده جاز
أن يعمل ما بعده فيما قبله، فَبَانَ الفرق بينهما.
وأما ما ذكره أبو العباس ثَعْلَب من التفصيل -من أنه إذا كانت ردًّا
لخبر جاز التقديم، وإن كانت جوابًا للقسم لم يجز- ففاسد؛ لأن ما في كلا
القسمين نافية؛ فينبغي أن لا يجوز التقديم فيهما جميعا؛ لما بيَّنَّا،
والله أعلم.
(1/140)
21- مسألة: [القول في تقديم معمول الفعل
المقصور عليه] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز "ما طعامك أكل إلا زيدٌ".
وذهب البصريون إلى أنه يجوز، وإليه ذهب أبو العباس أحمد بن يحيى
ثَعْلَب من الكوفيين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في"زيد" أن
لا يكون هو الفاعل، وإنما الفاعل في الأصل محذوف قبل إلَّا؛ لأن
التقدير فيه: ما أكل أحد طعامك إلا زيدٌ، والذي يدل على ذلك قولهم "ما
خرج إلا هند، وما ذَهَبَ إلا دعدٌ" ولو كان الفعل لدعد وهند في الحقيقة
لأثبتوا فيه علامة التأنيث؛ لأن الفاعل مؤنث حقيقي، فلما لم يثبتوا في
الفعل علامة دلّ على أن الفاعل هو "أحد" المحذوف، ويدل عليه أيضًا، أن
"إلا" بابها الاستثناء، والاستثناء يجب أن يكون من الجملة، ولا بُدّ أن
يقدر قبلها ما يصحّ أن يكون الذي بعدها مستثنى منه؛ فوجب أن يكون
التقدير: ما أكل أحد طعامك إلا زيد، إلا أنه اكتفى بالفعل من "أحد"
فصار بمنزلته، والاسم لا يتقدم صلته عليه، ولا يفرق بينها وبينه، فكذلك
الفعل الذي قام مقامه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا ذلك لأن "زيد" مرفوع
بالفعل، والفعل متصرف؛ فجاز تقديم معموله عليه كقولهم "عمرًا ضَرَبَ
زيدٌ" وكذلك سائر الأفعال المتصرفة.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل ألا يكون زيد هو
الفاعل؛ لأن التقدير؛ ما أكل أحد طعامك إلا زيدًا" قلنا: لا نسلم أن
"أحدًا" مقدَّر من جهة اللفظ، وإنما هو مقدر من جهة المعنى، كما أن
المعنى يدل على أن
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد "1/ 342" وحاشية الصبان على
الأشموني "2/ 44 وما بعدها".
(1/141)
"عَرَقًا" في قولهم "تصبب زيد عرقًا" فاعل
معنى، وإن لم يكن فاعلًا لفظًا، ولهذا لم تثبت علامة التأنيث في قولهم
"ما خرج إلا هند، وما ذهب إلا دعد" وما أشبه ذلك، على أنه قد حذف علامة
التأنيث الحقيقي مع الفصل في قولهم "حَضَرَ القاضي اليوم امرأة" وقال
الشاعر:
[103]
إن امرأ غرَّهُ منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ
وقال الآخر:
[104]
لقد وَلَدَ الأخيطل أُمُّ سَوْءٍ ... على قِمْعِ اسْتِهَا صُلُبٌ
وَشَامُ
فقال "ولد" ولم يقل "ولدت".
وأما قولهم "إنه اكتفى بالفعل من أحد" قلنا: لا نسلم أن الفعل اكتفى به
من الاسم؛ لأن الفعل لا بُدّ له من فاعل، وإنما الاسم بعد "إلا" قام
مقامه واكتفى به منه؛ لأنه لما حذف المستثنى منه قبل "إلا" قام ما بعد
"إلا" حين حذفته مقامه، كما يقوم المفعول مقام الفاعل إذا حذف نحو
"ضُرِب زيد، وأُعْطِي عمرو درهمًا،
__________
[103] هذا البيت من شواهد الأشموني "رقم 365" وقد استشهد به ابن الناظم
في باب الفاعل من شرحه على ألفية والده ابن مالك، وابن هشام في شرح
شذور الذهب "رقم 79" وقد ذكر العيني أنه من شواهد سيبويه، ولكني بحثت
كتاب سيبويه من أوله إلى آخره فلم أجد فيه. والاستشهاد بهذا البيت في
قوله "غرة واحدة" حيث لم يصل تاء التأنيث بالفعل الذي هو "غرة" مع أن
فاعله -وهو قوله "واحدة"- مؤنث حقيقي التأنيث؛ فإنه في الأصل صفة
لموصوف محذوف، وتقدير الكلام: غرة منكن امرأة واحدة، والأصل في الفاعل
الحقيقي التأنيث أن تلزم في فعله التاء، والذي جرأ هذا الشاعر على حذف
التاء هو الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول الذي هو الضمير المتصل
وبالجار والمجرور -وهو قوله "منكن"- وهذا مما يجيزه جماعة من النحاة
منهم ابن مالك الذي يقول في الألفية:
وقد يبيح الفصل ترك التاء في ... نحو "أتى القاضي الواقف"
[104] هذا البيت من قصيدة طويلة لجرير بن عطية بن الخطفي يهجو فيها
الأخطل التغلبي وقومه، وهو من شواهد الأشموني "رقم 364" وأوضح المسالك
"رقم 213" والأخيطل: تصغير الأخطل، وأصل الأخطل وصف بمعنى الفحاش
الكثير الخطل، ثم لقب به الشاعر المشهور؛ وقوله "على قمع استها" يروى
في مكانه" على باب استها" والصلب -بضم الصاد واللام جميعًا- جمع صليب،
ووزانه وزان سرير وسرر "وشام" جمع شامة، وهي العلامة، والاستشهاد به في
قوله "ولد الأخيطل أم سوء" فإن هذه جملة من فعل ماضٍ هو "ولد" وفاعل
مؤنث وهو "أم" ولم يصل به تاء التأنيث، وقد علم أن الفعل الذي يسند إلى
فاعل مؤنث حقيقي التأنيث يجب أن يؤنث لفظ الفعل بأن توصل به التاء التي
للتأنيث إذا كان ماضيًا، لكنه ترك التاء في هذه الجملة لكون الفعل قد
فصل بينه وبين فاعله بالمفعول الذي هو قوله "الأخيطل" وقد بيَّنَّا مثل
ذلك في الشاهد السابق.
(1/142)
وكُسِيَ عمرو قميصًا" وما أشبه ذلك، وهذا
لا يوجب أن يجري الفعل مجرى الاسم في امتناع تقديم معموله عليه، ألا
ترى أنك تقول: "درهمًا أُعْطِيَ زيد، وقميصًا كُسِيَ عمرو ".
ثم لو سلمنا أن الأمر على ما زعمتم فالفعل إنما جاز تقديم معموله عليه
لتصرفه في نفسه، وهذا المعنى الذي ادَّعيتموه، لم يوجب تغير الفعل عن
تصرفه في نفسه؛ فينبغي أن يجوز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال
المتصرفة، والله أعلم.
(1/143)
22- مسألة: "القول في رافع الخبر بعد
"إنَّ" المؤكدة" 1
ذهب الكوفيون إلى أن "إنَّ" وأخواتها لا ترفع الخبر، نحو "إنَّ زيدًا
قائم" وما أشبه ذلك. وذهب البصريون إلى أنها ترفع الخبر.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن الأصل في هذه الأحرف أن
لا تنصب الاسم، وإنما نصبته لأنها أشبهت الفعل؛ فإذا كانت إنما عملت
لأنها أشبهت الفعل فهي فَرْعٌ عليه، وإذا كانت فرعًا عليه فهي أضعف
منه؛ لأن الفرع أبدًا يكون أضعف من الأصل؛ فينبغي أن لا يعمل في الخبر،
جريًا على القياس في حَطّ الفروع عن الأصول؛ لأنا لو أعملناه عَمَلَه
لأدَّى ذلك إلى التسوية بينهما، وذلك لا يجوز؛ فوجب أن يكون باقيًا على
رفعه قبل دخولها. والذي يدلُّ على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما
يدخل على الفعل لو ابتدئ به، قال الشاعر:
[105]
لا تَتْرُكَنِّي فيهم شَطِيرًا ... إني إذن أَهْلِكَ أو أَطِيرَا
__________
[105] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وقد أنشده ابن
منظور "ش ط ر" ولم يعزه، وأنشده الرضي في شرح الكافية في نواصب
المضارع، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 573" والأشموني "رقم 1013"وابن
هشام في المغني "رقم 21" وفي أوضح المسالك "رقم 496"". والشطير -بفتح
الشين- مثل الغريب والبعيد في الوزن وفي المعنى، وأهلك: معناه أموت،
وأطير: معناه الأصلي أذهب بعيدًا، أو أحلّق في الجو.
والاستشهاد به في قوله "إني إذن أهلك" حيث نصب الفعل المضارع الذي هو
قوله "أهلك" بعد إذن الذي هو حرف جواب، مع أن إذن في ظاهر اللفظ غير
واقعة في صدر الكلام، بل هي مسبوقة بإني، وقد أخذ جماعة من النحاة
بظاهر اللفظ وحكموا بأن جملة "إذن أهلك" في محلّ رفع خبر إن، وقالوا:
إن نصب المضارع بعد إذن هنا ضرورة من =
__________
1 انظر في هذه المسألة: حاشية الصبان على الأشموني "1/ 250" والتصريح
للشيخ خالد "1/ 253 بولاق"
(1/144)
فنصب بـ "إذن".
والذي يدل على ذلك أيضًا أنه إذا اعترض عليها بأدنى شيء بطل عملها
واكتفى به، كقولهم "إن بك يَكْفُلُ زيدٌ" كأنها رضيت بالصفة لضعفها،
وقد روي أن ناسًا قالوا: "إن بك زيد مأخوذٌ" فلم تعمل "أن" لضعفها؛
فدلَّ على ما قلناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن هذه الأحرف تعمل في
الخبر، وذلك لأنها قويت مشابهتها للفعل؛ لأنها أشبهته لفظًا ومعنًى،
ووجه المشابهة بينهما من خمسة أوجه؛ الأول: أنها على وزن الفعل،
والثاني: أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل مبنيّ على الفتح، والثالث:
أنها تقضي الاسم كما أن الفعل يقتضي الاسم، والرابع: أنها تدخلها نون
الوقاية نحو "إنني، وكأنني" كما تدخل على الفعل نحو "أعطاني، وأكرمني"
وما أشبه ذلك. والخامس: أن فيها معنى الفعل؛ فمعنى "إن، وأن"
حَقَّقْتَ، ومعنى "كأن" شبهت، ومعنى "لكن" استدركت، ومعنى "ليت" تمنيت،
ومعنى "لعل" ترجيت، فلما أشبهت الفعل من هذه الأوجه وجب أن تعمل عمل
الفعل، والفعل يكون له مرفوع ومنصوب، فكذلك هذه الأحرف ينبغي أن يكون
لها مرفوع ومنصوب؛ ليكون المرفوع مشبهًا بالفاعل والمنصوب مشبهًا
بالمفعول، إلا أن المنصوب ههنا قُدِّم على المرفوع لأن عمل "إنَّ"
فرعٌ، وتقديم المنصوب على المرفوع فرع؛ فألزموا الفرع الفرع، أو لأن
هذه الحروف لما أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى ألزموا فيها تقديم المنصوب
على المرفوع ليعلم أنها حروف أشبهت الأفعال، وليست أفعالًا، وعدم
التصرف فيما لا يدل على الحرفية؛ لأن لنا أفعالا لا تتصرف؛ نحو "نعم،
وبئس، وعسى، وليس، وفعل التعجب، وحبذا"
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن هذه الأحرف إنما نصبتْ
لشبه الفعل؛ فينبغي أن لا تعمل في الخبر؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين
الأصل والفرع" قلنا: هذا يبطل باسم الفاعل؛ فإنه إنما عَمِلَ لشبه
الفعل، ومع هذا فإنه
__________
= ضرورات الشعر، فإما المحققون من النحاة فقد أجروا نصب المضارع في هذا
البيت على القياس، وذكروا أن شرط النصب متحقق، وأن "إذن" واقعة في صدر
الجملة، وبيان ذلك أن خبر أن محذوف، وأن جملة "إذن أهلك" مستأنفة
وتقدير الكلام: إني لا أستطيع ذلك إذن أهلك أو أطير، وقد ذكر الفراء في
عدة مواضع من تفسيره أن "إذن" إذا وقعت بعد "إن" ووقع بعدها مضارع جاز
في هذا المضارع الرفع والنصب، وأن كل واحد منهما لغة من لغات العرب،
وأن ذلك مختص بوقوعها بعد إن، وقد ذكر المؤلف في ردّه تقدير خبر إن
محذوفًا.
(1/145)
يعمل عَمَلَه، ويكون له مرفوع ومنصوب
كالفعل، تقول: زيدٌ ضارب أبوه عمرًا، كما تقول: يضرب أبوه عمرًا.
والذي يدل على فساد ما ادَّعيتموه من ضعف عملها أنها تعمل في الاسم إذا
فصلت بينها وبينه بظرف أو حرف جر، نحو قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالًا} [المزمل: 112] و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 148]
وما أشبه ذلك، على أنا قد عملنا بمتقضى كونها فرعًا، فإنا ألزمناها
طريقة واحدة، وأوجبنا فيها تقديم المنصوب على المرفوع، ولم نُجَوِّز
فيها لوجهين كما جوزنا مع الفعل؛ لئلا يجري مجرى الفعل فيُسَوَّى بين
الأصل والفرع، وكان تقديم المنصوب أولى ليفرق بينها وبين الفعل؛ لأن
الأصل أن يذكر الفاعل عقيب الفعل قبل ذكر المفعول، فلما قدم ههنا
المنصوب وأخر المرفوع حصلت مخالفة هذه الأحرف للفعل وانحطاطها عن
رتبته.
وقولهم "إن الخبر يكون باقيًا على رفعه قبل دخولها" فاسد، وذلك لأن
الخبر على قولهم مرفوع بالمبتدأ، كما أن المبتدأ مرفوع به؛ فهما
يترافعان، ولا خلاف الترافع قد زال بدخول هذه الأحرف على المبتدأ
ونصبها إياه؛ فلو قلنا "إنه مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخولها مع
زواله" لكان ذلك يؤدي إلى أن يرتفع الخبر بغير عامل، وذلك محال.
وأما قولهم "الدليل على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على
الفعل أو ابتدئ به كقول الشاعر:
[105]
إني إذن أهلك أو أطيرا
قلنا: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن هذا شاذ؛ فلا يكون فيه
حجة، والثاني: أن الخبر ههنا محذوف، كأنه قال: لا تتركني فيهم غريبًا
بعيدًا، إني أذلُّ إذن أهلك أو أطيرا، وحذف الفعل الذي هو الخبر؛ لأن
في الثاني دلالة على الأول المحذوف، فإذن ما دخلت على الخبر، والثالث:
أن يكون جعل 84 "إذن أهلك أو أطيرا" في موضوع الخبر، كقولك "إنِّي لن
أذهب" فشبَّه إذن بلن، وإن كانت لن لا يلغى في حال بخلاف إذن.
وأما قولهم "إن بك يكفل زيد" وإن بك زيد مأخوذ" فالتقدير فيه: إنه بك
يكفل زيد، وإنه بك زيد مأخوذ، كما قال الراعي:
[106]
فلو أن حُقَّ اليوم منكم إقامةٌ ... وإنَّ كان سَرْحٌ قد مضى
فَتَسَرَّعَا
__________
[106] هذا البيت للراعي كما قال المؤلف، وقد أنشده سيبويه "1/ 439"
وكذلك أنشده ابن منظور "س ر ح" وأنشده البغدادي في الخزانة "4/ 381"
نقلًا عن ابن عصفور في كتاب =
(1/146)
أراد فلو أنه حُقَّ، ولو لم يرد الهاء لكان
الكلام محالًا، وقال الأعشى:
[107]
إنَّ من لام في بني بِنْتِ حَسّا ... ن أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في
الخُطُوبِ
__________
= الضرائر، و "لو" ههنا للتمني، وحق: أي ثبت، و "سرح" في هذا البيت اسم
رجل، والاستشهاد بالبيت في قوله "ولو أن حق اليوم منكم" حيث وقع الفعل
الماضي -الذي هو قوله "حق"- بعد إن المؤكدة الناصبة للاسم الرافعة
للخبر، في ظاهر اللفظ، ولو أبقى الكلام على ظاهرة لكان كلامًا فاسدًا؛
لأن "إن" المشددة وأخواتها مختصة بالدخول على الجمل الاسمية وأن تعمل
فيها النصب والرفع، إلا إذا اقترنت بهن "ما" فإن اقترنت بهن "ما" جاز
دخولها على الجمل الفعلية. ولم تقترن "ما" بإن في هذا البيت، فوجب أن
يكون ثمه محذوف يقدر دخول إن عليه لكي يصح الكلام، وقد قدر بعض العلماء
أن المحذوف في هذا البيت ضمير الشأن والقصة، وعلى هذا يكون تقدير
الكلام: ولو أنه "أي الحال والشأن" حق اليوم منكم إقامة، فيكون اسم إن
هو هذا الضمير وخبرها هو الجملة الفعلية، وقدره جماعة آخرون ضمير خطاب،
وعلى هذا يكون أصل الكلام: ولو أنكم حق اليوم منكم إقامة، والعلماء
يجعلون التقدير الثاني خيرًا من التقدير الأول:
ونظير هذا البيت قول الشاعر، وهو من شواهد الرضي:
كأن على عرنينه وجبينه ... أقام شعاع الشمس أو طلع البدر
أراد كأنه "أي الحال والشأن" أقام على عرنينه وجبينه شعاع الشمس،
ومثلهما قول الآخر:
فلا تشتم المولى وتبلغ أذاته ... فإن به تثأى الأمور وترأب
أراد فإنه "أي الحال والشأن" تثأى به الأمور -أي تصلح-وترأب، ونظير ذلك
البيتان الآتيان برقمي 110 و 111.
[107] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس من قصيدة يمدح فيه أبا
الأشعث بن قيس الكندي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 439" وشواهد الرضي في
شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "3/ 463" وشواهد ابن يعيش
في شرح المفصل "ص435 أوروبة" وحسان: أحد تبابعة اليمن، والاستشهاد
بالبيت في قوله "إن من لام ... إلخ" فإن "من" التي دخلت عليها "إن" في
هذا البيت شرطية تطلب فعلين أحدهما فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه؛
والدليل على أنها شرطية أن الجواب الذي هو قوله "ألمه" وما عطف عليه
مجزومان، ومن المعلوم أن أسماء الشرط لها صدر الكلام، نعني أنه لا يجوز
أن تقع إلا في أول الجملة التي هي منها، وعلى هذا لا يجوز أن تكون "من"
هذه اسمًا لأن، وقد خرج العلماء هذا الكلام على تقدير ضمير الشأن
والحال، وعلى أن يكون هذا الضمير المقدر هو اسم إن، وتكون "من" الشرطية
مبتدأ، وخبره هو جملة الشرط وحدها أو جملة الجواب وحدها أو الجملتان
معًا، ونحن نرجح الثالث، وجملة المبتدأ والخبر في محلّ رفع خبر إن.
ونظير هذا البيت قول الأخطل التغلبي:
إن من يدخل الكنيسة يومًا ... يلقَ فيها جآذرا وضباء
والتقدير فيه: إنه "أي الحال والشأن" من يدخل الكنيسة إلخ.
(1/147)
وقال أُمَيَّةَ بن أبي الصَّلْتِ:
[108]
ولكنَّ من لا يَلْقَ أمرًا يَنُوبُهُ ... بِعُدَّتِهِ يَنْزِلْ به وهو
أَعْزَلُ
وقال الآخر:
[109]
فلو كنت ضبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... ولكنِّي زنجيّ عظيم
المَشَافِر
__________
= هذا وبيت الأعشى يروى:
من يلمني على بني بنت حسان
وهذا هو الموجود في ديوانه، وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد لما جاء به
المؤلف من أجله.
[108] هذا البيت كما قال المؤلف لأمية بن أبي الصلت، وهو من شواهد
سيبويه "1/ 439" وينوبه: مضارع نابه الأمر، أي نزل به، والأعزل: الذي
ليس معه سلاح. يقول: من لم يتخذ لنوازل الدهر العدة قبل أن تنزل به،
فإنها ستدهمه وتنزل به في الوقت الذي لا يكون معه من عدد الدفاع شيء
فلا ينجو منها، يرغب في أن يتبصر الإنسان العواقب ويهيّئ نفسه لملاقاة
المصاعب وهو قادر على حلّها. والاستشهاد بالبيت في قوله "ولكن من لا
يلق أمرا ... إلخ" فإن "من" في هذا الكلام شرطية، بدليل أنها جزمت
الشرط الذي هو قوله "يلق" بحذف الألف وجزمت الجواب إلى هو قوله "ينزل
به" بالسكون، وقد علمنا أن أسماء الشرط لا يعمل فيها ما قبلها، نعني
أنها لا بُدّ أن تتصدر جملتها فلا يتقدم عليها شيء من جملتها ولا
العامل فيها، وقد تقدم على "من" الشرطية في هذا البيت "لكن" ومن أجل
هذا قال العلماء: إن اسم لكن في هذا البيت ضمير الشأن محذوفًا، وإن
"من" مبتدأ خبره ما بعده على ما بيَّنَّاه في شرح الشاهد السابق، وجملة
المبتدأ والخبر في محلّ رفع خبر لكن، وعلى هذا تكون "من" واقعة في صدر
جملتها نظير ما ذكرناه في الشاهد 107.
[109] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة، وقد أنشده ابن
منظور "ش ف ر" وسيبويه "1/ 282" ورضي الدين في باب إن وأخواتها من شرح
الكافية، وهو باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة
"4/ 378" ورواه ابن يعيش في شرح المفصل "ص1138" وابن هشام في مغني
اللبيب "رقم 486" وكلهم يروي قافيته على الوجه الذي رواها المؤلف عليه،
والصواب في إنشاده:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زوجيًّا غلاظًا مشافره
والمشفر -بوزن المنبر أو المقعد- للبعير مثل الشفة للإنسان، والاستشهاد
بالبيت على الرواية التي ذكرها النحاة في قوله "ولكن زنجي" حيث حذف اسم
لكن، وهو غير ضمير الشأن، والتقدير: ولكنك زنجي غليظ المشافر، وحذف اسم
لكن وأخواتها لا يجوز إلا أن يكون هذا ضمير الشأن، والاسم المقدر في
هذا البيت ضمير المخاطب على ما عرفت، ولهذا رأى العلماء أن الحذف في
هذا البيت ضرورة، وقد رواه ابن منظور "ولكن زنجيا" بالنصب فيكون
المحذوف هو خبر لكن، والتقدير: ولكن زنجيا عظيم المشافر لا =
(1/148)
وقال الآخر:
[110]
فَلَيْتَ دفعتَ الهمَّ عنِّي ساعةً ... فَبِتْنَا على ما خَيَّلَتْ
نَاعِمِي بَالِ
__________
= يعرف قرابتي، قال الأعلم: الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر، وحذف اسم
لكن ضرورة، والتقدير: ولكنك زنجي، ويجوز نصب زنجي بلكن على إضمار
الخبر، وهو أقيس، والتقدير: ولكن زنجيًّا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي"
ا. هـ كلامه.
ونظير هذا البيت ما أنشده سيبويه:
فما كنت ضفاطًا، ولكن طالبًا ... أناخ قليلًا فوق ظهر سبيل
والضفاط: الذي يقضي حاجته من جوفه، وهو أيضًا المسافر على الحمير من
قرية إلى قرية، والطالب: الذي يطلب الإبل الضالة، كأنه نزل عن راحلته
لأمر فظن قوم أنه يقضي حاجته، فقال ذلك. والاستشهاد به في قوله "ولكن
طالبًا" حيث حذف خبر لكن وذكر اسمها، وتقدير الكلام: ولكن طالبا أناخ
قليلًا أنا، قال سيبويه "النصب أجود؛ لأنه لو أراد إضمارًا لخفف ولجعل
المضمر مبتدأ، كقولك: ما أنت صالحًا، ولكن طالح" ا. هـ، والكلام واضح
إن شاء الله.
ومثل هذا البيت قول الآخر وهو من شواهد الأشموني "رقم 141".
فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيرًا في عراض المواكب
التقدير: ولكن سيرًا في عراض المواكب لكم، مثلًا، ومن العلماء من يجعل
التقدير: ولكنكم تسيرون سيرًا في عراض المواكب، ولا داعي له؛ لأنه يلزم
عليه تكثير المحذوف، ومتى أمكن تقليل المحذوف كان هو الأمثل، ومثل قوله
الآخر:
فأما الصدور لا صدور لجعفر ... ولكن أعجازًا شديدًا صريرها
تقديره على ما نرجح: ولكن لهم أعجازا إلخ.
[110] أنشد ابن منظور "ب ول" عجز هذا البيت، ولم يعزه إلى قائل معين،
والبال: الحال والشأن، ومحلّ الشاهد فيه قوله "فليت دفعت الهم" حيث وقع
الفعل بعد ليت، وقد علمنا أن "ليت" من الأدوات المختصة بالدخول على
الجمل الاسمية فتنصب المبتدأ وترفع الخبر، ومن أجل هذا جعل النحاة اسم
ليت في هذا البيت محذوفًا، وتقدير الكلام: فليتك دفعت الهم إلخ؛ فيكون
هذا الفعل مع فاعله جملة في محلّ رفع خبر ليت، ولا يكون الفعل واقعًا
عند التحقيق بعد ليت؛ لأن الواقع بعد ليت هو اسمها المقدر، ويجوز أن
يكون الضمير المحذوف هو ضمير الشأن والحال، وتقدير الكلام حينئذ: فليته
"أي الحال والشأن" دفعت الهم إلخ، ولكن ما ذكرناه أولًا أمثل من هذا،
للعلة التي ذكرناها في شرح الشواهد رقم 106، ومن العلماء من يجعل نظير
هذا قول جميل بن معمر:
ألا ليت أيام الصفاء جديد ... ودهر تولى بابثين يعود
وذلك إذا رويت "أيام" بالرفع على الابتداء، وخبره قوله "جديد" فإن اسم
ليت حينئذ يكون محذوفًا مقدرًا بضمير الشأن، وكأنه قال: ألا ليته "أي
الحال والشأن" أيام الصفاء جديد، فاعرف ذلك.
(1/149)
وقال الآخر:
[111]
فليت كفافًا كان خَيْرُكَ كُلُّهُ ... وشَرُّكَ عني ما ارْتَوَى الماء
مُرْتَوِي
أراد "ليته" إن جعلت "كفافًا" خبر كان مقدمًا عليها، والتقدير فيه:
ليته كان خيرك وشرك كفافًا عني، أومكفوفين عني؛ لأن الكفاف مصدر فيقع
على الواحد والاثنين والجميع، كقولهم: رجل عَدْلٌ ورِضًا، ورجلان عَدْل
ورِضًا، وقوم عدل ورضًا، وما أشبه ذلك، وإن جعلت "كفافًا" منصوبًا بليت
لم يكن من هذا الباب، والأول أجود.
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في
الأسماء النصب إلا ويعمل الرفع؛ فما ذهبوا إليه يؤدي إلى ترك القياس
ومخالفة الأصول لغير فائدة، وذلك لا يجوز، فوجب أن تعمل في الخبر الرفع
كما عملت في الاسم النصب على ما بيَّنَّا، والله أعلم.
__________
[111] هذا البيت من قصيدة جيدة ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي
يقولها في عتاب ابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص، وقد روى هذه
القصيدة أبو عليّ القالي في أماليه "1/ 68 ط دار الكتب" وأبو الفرج
الأصبهاني في الأغاني "11/ 100 بولاق" والبغدادي في خزانة الأدب "1/
496" نقلًا عن أبي عليّ الفارسي في المسائل البصرية، وقد استشهد الرضي
بعد أبيات من هذه القصيدة، واستشهد بالبيت الذي استشهد به المؤلف ههنا
في باب "الحروف المشبهة بالفعل" وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 390"
والكفاف -بفتح الكاف بزنة السحاب-الذي لا يزيد عن قدر الحاجة، و "ما"
مصدرية ظرفية، وارتوى: أراد به شرب، ومرتوي: اسم الفاعل من قولهم
"ارتوى فلان" إذا طلب الري وذهاب العطش، ومحلّ الاستشهاد في البيت قوله
"ليت كفافا كان خيرك" فإن هذه العبارة -على ما ذكر المؤلف - تحتمل
وجهين: الأول: أن يكون قوله كفافًا خبر كان تقدم عليها وعلى اسمها
جميعًا، وأصل الكلام: ليت كان خيرك كفافًا، وعلى هذا الوجه يكون الشاعر
قد أولى "ليت" في الظاهر الفعل الذي هو كان، وقد علمنا أن "ليت" مختصة
بالجمل الاسمية، ولهذا يجب على هذا الوجه تقدير اسم ليت إما ضمير شان
وإما ضمير مخاطب؛ فعلى الأول يكون تقدير الكلام: ليت هو "أي الحال
والشأن" كان خيرك كفافًا، وعلى الثاني يكون التقدير: فليتك كان خيرك
كفافًا، والوجه الثاني: من الوجهين اللذين تحتملهما العبارة أن يكون
قوله "كفافًا" اسم ليت، وجملة كان في محلّ رفع خبر ليت، واسم كان على
هذا الوجه ضمير مستتر فيها يعود على كفاف، ويكون "خيرك" بالنصب على أنه
خبر كان، وقوله "عني" على هذا الوجه جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من
قوله "خيرك" أي: ليت كفافًا يكون "هو" خيرك منفصلًا عني، ولا يجوز لك
أن ترفع "خيرك" على أنه فاعل كان وهي تامة، وتجعل "كفافًا" اسم ليت
وخبرها جملة كان وفاعلها؛ لأن جملة كان حينئذ تصير خالية من رابط
يربطها باسم ليت، فاعرف ذلك كله وتنبه له، وللعلماء في شرح هذا البيت
كلام طويل أعرضنا عنه.
(1/150)
|