الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

23- مسألة: [القول في العطف على اسم "إنَّ" بالرفع قبل مجيء الخبر] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على موضع "إن" قبل تمام الخبر، واختلفوا بعد ذلك؛ فذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي إلى أنه يجوز ذلك على كل حال، سواء كان يظهر فهي عمل "إن" أو لم يظهر، وذلك نحو قولك: "إن زيدًا وعمرو قائمان، وإنك وبكرٌ منطلقان". وذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء إلى أنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إن. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر على كل حال.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز ذلك النقل والقياس:
أما النقل فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ والنَصَارَى} [المائدة: 69] وجه الدليل أنه عطف {الصَّابِئِونَ} على موضع "إن" قبل تمام الخبر -وهو قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية62]- وقد جاء عن بعض العرب فيما رواه الثقات "إنَّك وزيد ذاهبان" وقد ذكره سيبويه2 في كتابه؛ فهذان دليلان من كتاب الله تعالى ولغة العرب.
وأما من جهة القياس فقالوا: أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا، نحو "لا رجلَ وامرأةٌ أفضلُ منك" فكذلك مع "إنَّ" لأنها بمنزلتها، وإن كانت إن للإثبات ولا للنفي؛ لأنهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره، يدل عليه أنَّا أجمعنا على أنه يجوز العطف على الاسم بعد
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد وحاشية يس الحمصي عليه "1/ 272 وما بعدها" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "1/ 265 وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1122-1127" وشرح الكافية لرضي الدين "2/ 327-330".
2 قال سيبويه "واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان "فذكر سيبويه لهذا المثال لا يدل على جوازه، وكيف يدل على ذلك وهو ينص على غلطة؟ وسيذكر ذلك المؤلف في ص191".

(1/151)


تمام الخبر، فكذلك قبل تمام الخبر؛ لأنه لا فرق بينهما عندنا، وأنه قد عرف من مذهبنا أن "إنَّ" لا تعمل في الخبر لضعفها، وإنما يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها، فإذا كان الخبر يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها؛ فلا إحالة إذن؛ لأنه إنما كانت المسألة تَفْسُدُ أنْ لو قلنا إن "إن" هي العاملة في الخبر فيجتمع عاملان فيكون محالًا، ونحن لا نذهب إلى ذلك؛ فصحَّ ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن ذلك لا يجوز أنك إذا قلت "إنك وزيدٌ قائمأن" وجب أن يكون "زيد" مرفوعًا بالابتداء، ووجب أن يكون عاملا في خبر "زيد" وتكون "إن" عاملة في خبر الكاف، وقد اجتمعا في لفظ واحد؛ فلو قلنا "إنه يجوز فيه العطف قبل تمام الخبر" لأدَّى ذلك إلى أن يعمل في اسم واحد عاملان، وذلك محال.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ} [المائدة: 69] فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنا نقول: في هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير فيها: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك، كما قال الشاعر:
[112]
غَدَاةَ أحلَّت لابن أَصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصَيْنٍ عَبِيطَاتِ السَّدَائِفِ والخَمْرُ
__________
[112] هذا البيت من كلام الفرزدق، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص1127" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 205 بتحقيقنا"، وابن أصرم: هو حصين كما سيذكره بعد، والعبيطات: جمع عبيطة -بفتح العين- وهي القطعة من اللحم الطري غير النضيج، والسدائف: جمع سديف، وهو السنام، ومحلّ الاستشهاد في قوله "والخمر". واعلم أولًا أن قوله "أحلت لابن أصرم طعنة عبيطات السدائف والخمر" يروى على وجهين: الأول: بنصب "طعنة" ورفع كل من "عبيطات" و "الخمر" والوجه الثاني: برفع "طعنة" ونصب عبيطات بالكسرة نيابة عن الفتحة ورفع "الخمر" وهذه الرواية هي التي يقصدها المؤلف ههنا، فأما الرواية الأولى فتخرج على أن "طعنة" مفعول به في اللفظ وإن كان فاعلًا في المعنى، و "عبيطات" فاعل في اللفظ وإن كان مفعولًا به في المعنى، و "الخمر" معطوف على عبيطات السدائف، وقد أتى الشاعر -على هذه الرواية- بالفاعل منصوبًا والمفعول مرفوعًا على طريقة من قال: خرق الثوب المسمار، وكسر الزجاج الحجر، وقد صرح ابن مالك بأن العرب قد يدعوهم ظهور المعنى إلى أن يغيروا من إعراب الفاعل فينصبوه وإعراب المفعول فيرفعوه، وأما تخريج الرواية الثانية فقد اختلف النحاة فيه، فمنهم من ذهب إلى أن "طعنة" فاعل أحلت مرفوع بالضمة الظاهرة، و "عبيطات" مفعول به، و "الخمر" فاعل بفعل محذوف يدل عليه الفعل السابق، وتقدير الكلام: أحلت الطعنة =

(1/152)


فرفع "الخَمْرُ" على الاستئناف، فكأنه قال: والخمرُ كذلك. وقال الآخر:
[113]
وعضُّ زَمَان يا ابن مروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ
__________
= عبيطات السدائف وحلت الخمر، ويروى أن الكسائي سئل في حضرة يونس بن حبيب عن توجيه رفع الخمر في هذا البيت، فقال الكسائي: يرتفع بإضمار فعل، أي وحلت له الخمر فقال يونس: ما أحسن -والله- توجيهك، غير أني سمعت الفرزدق ينشده بنصب طعنة ورفع عبيطات، على جعل الفاعل مفعولًا في اللفظ. ومنهم من جعل قوله "الخمر" مبتدأ حذف خبره، والتقدير: والخمر كذلك، وهذا هو الذي أراده المؤلف ههنا، وهو الذي وجه به البيت ابن يعيش في شرح المفصل.
[113] وهذا البيت أيضًا من كلام الفرزدق، وقد استشهد به رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف العطف، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 347 بولاق" وأنشده ابن منظور "س ح ت - ج ل ف" ونسبه إليه في المرتين، وأنشده ابن جني في الخصائص "1/ 99"، وهو من قصيدة من قصائد النقائص، وأولها قوله:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف ... وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
ويروى أن الفرزدق أنشد هذه القصيدة لعبد الله بن إسحاق، فلما بلغ البيت المستشهد به قال له عبد الله: علام رفعت "أو مجلف" فقال الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول: وعليكم أن تتأولوا. ولم يدع: أي لم يترك، والمسحت -بضم أوله على زنة اسم المفعول- هو المستأصل الذي فني كله ولم يبقَ منه شيء، والمجلف -بالجيم على زنة المعظم- الذي قد ذهب أكثره وبقي منه شيء يسير. واعلم قبل كل شيء أن أصل الرواية في هذا البيت على ما رواها المؤلف بنصب"مسحتا" ورفع "مجلف" وقد تكلم العلماء في ذلك فأطالوا وقالوا فأكثروا وتعبوا في طلب الحيلة ولم يأتوا بشيء يرتضى هكذا قال ابن قتيبة، وقال الزمخشري كلامًا قريبًا منه، ونحن نذكر لك أربعة تخريجات لهذه الرواية الأصلية: التخريج الأول: أن قوله "مجلف" مبتدأ حذف خبره وتقدير الكلام: أو مجلف كذلك، والثاني: أن "مجلف" فاعل بفعل محذوف دلّ عليه سابق الكلام، والتقدير: أو بقي مجلف؛ لأن قوله "لم يدع إلا مسحتا" معناه بقي مسحت، وهذان التخريجان مثل التخريجين اللذين ذكرناهما في شرح البيت السابق، والتخريج الثالث: أن قوله "مجلف" معطوف على قوله "عض الزمان" في أول البيت وهو مصدر ميمي بمعنى التجليف، وليس اسم مفعول، وتقدير الكلام على هذا: وعض زمان وتجليفه لم يدع من المال إلا مسحتا، وهذا توجيه أبي عليّ الفارسي، والتخريج الرابع: أن قوله "مسحتا" اسم مفعول منصوب على أنه مفعول به لقوله لم يدع، وفيه ضمير مستتر نائب فاعل، وقوله "أو مجلف" معطوف على الضمير المستتر في مسحت، وهذا توجيه الكسائي.
ومن العلماء من ذهب يغير في رواية البيت أو في تفسير كلماته؛ فمن ذلك ما حكاه الفراء من أن بعضهم روى البيت هكذا:
وعض زمان يا ابن مروان ما به ... من المال إلا مسحت أو مجلف
ومن ذلك أن أبا جعفر بن حبيب روى البيت في كتابه النقائض برفع مسحت ومجلف =

(1/153)


فرفع "مجلف" على الاستئناف، فكأنه قال: أو مجلف كذلك، وهذا كثير في كلامهم.
والوجه الثاني: أن تجعل قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية62] خبر للصابئين والنصارى، وتضمر للذين آمنوا والذين هادوا خبرًا مثل الذي أظهرت للصابئين والنصارى؛ ألا ترى أنك تقول "زيدٌ وعمروٌ قائم" فتجعل قائمًا خبرًا لعمرو، وتضمر لزيد خبرًا آخر مثل الذي أظهرت لعمرو، وإن شئت أيضًا جعلته خبرًا لزيد وأضمرت لعمرو خبرًا آخر.
وقال الشاعر، وهو بشر بن أبي خازم:
[114]
وألا فاعلموا أنَّا وأنتم ... بغاةٌ، ما بقينا في شِقَاقِ
__________
= جميعًا من غير تغيير في صدر البيت، وخرجها ابن الأعرأبي عليّ أن التقدير: لم يدع من المال إلا أن يكون مسحت أو مجلف، قال: وهو نظير قول شعيب بن البرصاء:
ولا خير في العيدان إلا صلابها ... ولا ناهضات الطير إلا صقورها
برفع "صلابها" على تقدير: إلا أن يكون صلابها، ورفع "صقورها" على أن يكون التقدير: إلا أن يكون صقورها. ومن ذلك أن عيسى بن عمر روى البيت بكسر الدال من "لم يدع" على أن معناه يقر ويمكث، وبرفع مسحت ومجلف على أن الأول فاعل والثاني معطوف عليه، وخرجه على ذلك ابن جني في الخصائص.
وبعد؛ فقد قال ابن قتيبة: ومن ذا الذي يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه.
[114] هذا البيت -كما قال المؤلف- لبشر بن أبي خازم، وقد أنشده سيبويه "1/ 290" واستشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص1126" وأنشده رضي الدين في شرح الكافية في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 315" وبغاة: جمع باغٍ، وهو هنا بمعنى طالب، تقول: بغيت الشيء أبغيه بغيا، تريد طلبته، و "ما" مصدريه ظرفية، وفي شقاق: أي في اختلاف، والاستشهاد بالبيت في قوله "أنا وأنتم بغاة: حيث وقع الضمير المنفصل الذي يكون في محلّ الرفع بعد اسم أن وقبل ذكر خبرها وقد تمسك بظاهر هذا الفراء وشيخه الكسائي فقالا: يجوز أن يعطف بالرفع على اسم إن قبل أن يذكر الخبر، فتقول: إنني ومحمد على وفاق، ولم يرتض سيبويه ذلك، وقال: إن الكلام مؤلف من جملتين: إحداهما: إن واسمها وخبرها، والثانية: هذا الاسم المرفوع المتوسط بين اسم إن وخبرها فهو مبتدأ وخبره محذوف، والجملة معطوفة على جملة إن واسمها وخبرها، وأصل مكان هذا الاسم المرفوع بعد خبر إن، لكن الشاعر في هذا البيت قد قدمه، وأصل الكلام: وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، وأجاز الأعلم وجها آخر، وهو أن يكون خبرا إن محذوفا لدلالة ما بعده عليه، و "بغاة" المذكور خبر المبتدأ الذي هو "أنتم" فيكون الشاعر قد حذف من الجملة الأولى لدلالة ما في الجملة الثانية على المحذوف، وعلى الوجه السابق يكون الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وهو أفضل من تقدير الحذف من الأول.

(1/154)


فإن شئت جعلت قوله: "بغاة" خبرًا للثاني وأضمرت للأول خبرًا، ويكون التقدير: وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم بغاة، وإن شئت جعلته خبرًا للأول وأضمرت للثاني خبرًا، على ما بيَّنَّا.
والوجه الثالث: أن يكون عطفًا على المضمر المرفوع في "هادوا" وهادوا بمعنى تابوا. وهذا الوجه عندي ضعيف؛ لأن العطف على المضمر المرفوع قبيح وإن كان لازمًا للكوفيين؛ لأن العطف على المضمر المرفوع عندهم ليس بقبيح، وسنذكر فساد ما ذهبوا إليه في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وأما ما حكوه عن بعض العرب "أنك وزيد ذاهبان" فقد ذكر سيبويه أنه غلط من بعض العرب، وهذا لأن العربي يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضرب من الغلط فيعدل عن قياس كلامه، كما قالوا "ما أغفله عنك شيئًا"، وكما قال زهير، ويقال صِرْمَةُ الأنصاري:
[115]
بدا لي أني لست مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جَائيَا
فقال "سابقٍ" على الجر؛ وكان الوجه "سابقًا" بالنّصب!.
وقال الآخر:
[116]
أَجِدَّكَ لست الدَّهْرَ رَائِي رَامَةٍ ... ولا عاقلٍ إلا وأنت جَنيبُ
__________
[115] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو ثابت في ديوانه بشرح الأعلم الشنتمري، وهو من شواهد سيبويه، أنشده في "1/ 83 و 418 و 452" ونسبه في هذه المرات إلى زهير، وأنشده في "1/ 154" ونسبه إلى صرمة الأنصاري، والبيت من شواهد مغني اللبيب لابن هشام "ص96 و 288 و 460 و 476 و 478 و 551 و 678 بتحقيقنا" وشواهد الأشموني "رقم 584" وأنشده في اللسان "ن م ش" ونسبه إلى زهير، وأنشده ابن جني في الخصائص "2/ 353 و 424" والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا سابق" حيث جاء به مجرروًا مع كونه معطوفًا على مدرك المنصوب لكونه خبر ليس، وإنما جاء به مجرورا لأن الباء تدخل في خبر لليس كثيرًا، فلما قال الشاعر "أني لست مدرك ما مضى" توهم أنه أدخل الباء على خبر ليس لكونه مما يجري على لسانه كثيرًا؛ فجر المعطوف على هذا التوهم، قال سيبويه بعد أن أنشده "فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرًا" ا. هـ. وقال الأعلم: "حمل قوله ولا سابق على معنى الباء في مدرك؛ لأن معناه لست بمدرك، فتوههم الباء وحمل عليها" ا. هـ.
[116] لم أعثر لهذين البيتين على نسبة إلى قائل معين، ورامة وعاقل ومنعج وشطيب: أسماء أماكن بأعينها، والاستشهاد بالبيتين في قوله "ولا مصعد" فإنه مجرور وهو معطوف على قوله "رائي رامة" المنصوب لكونه خبر ليس، وسهل ذلك أن خبر ليس يكثر دخول الباء الزائدة عليه فتجر لفظه، فكأن الشاعر بعد أن قال "لست رائي رامة" توههم أنه أدخل الباء فقال: لست برائي رامة، فجر المعطوف لهذا التوهم.

(1/155)


ولا مُصْعِدٍ في المُصْعِدِينَ لِمَنْعِجٍ ... ولا هَابِطٍ ما عِشْتُ هَضْبَ شَطِيبِ
__________
= وربما عكسوا ذلك فجاءوا بخبر ليس مقترنا بالباء الزائدة فجروا لفظه، ثم عطفوا عليه اسمًا منصوبًا، ومن شواهد ذلك قول عدي بن خزاعي، وقد أنشده في اللسان "ن ر ب" وهو الشاهد رقم 207 الآتي في المسألة 45:
ولست بذي نيرب في الكلام ... ومناع قومي وسبابها
ولا من إذا كان في معشر ... أضاع العشيرة واغتابها
عطف قوله "ومناع قومي" بالنصب على قوله "بذي نيرب" المجرور بالباء الزائدة ومثله قول عقيبة الأسدي، وأنشده سيبويه "1/ 34" وهو الشاهد 208 الآتي:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
أديروها بني حرب عليكم ... ولا ترموا بها الغرض البعيدا
ووجه ذلك أن الباء الداخلة على خبر ليس زائدة، تجر لفظ الخبر ليس غير، ويبقى محلّه نصبًا كما يكون لو لم تدخل عليه الباء، وليس لهذه الباء متعلق، فإذا عطفت على هذا الخبر جاز لك من غير ضرورة أن تعطف عليه بالنصب نظرًا إلى محلّه، وجاز لك أن تعطف عليه بالجر نظرا إلى لفظه، ولذلك نظائر كثيرة: منها الوصف المضاف إلى معموله، كاسم الفاعل والمصدر مثلًا إذا أضيف إلى مفعوله وفاعله فإن المعمول يكون مجرورًا لفظًا بإضافة اسم الفاعل إليه، فإذا عطفت عليه جاز لك أن تجيء بالمعطوف مجرورا نظرًا إلى لفظ المعطوف عليه، وجاز لك أن تجيء بالمعطوف منصوبًا إن كان المعطوف عليه مفعولًا ومرفوعًا إن كان المعطوف عليه فاعلًا، ومن ذلك قول زياد العنبري، وقد نسبوه في كتاب سيبويه "1/ 98" إلى رؤبة بن العجاج:
قد كنت داينت بها حسانًا ... مخافة الإفلاس والليانا
فقد عطف "الليان" بالنصب على "الإفلاس" المجرور لكون هذا المجرور مفعولًا به للمصدر، ومثل ذلك قول لبيد بن ربيعة العامري، وهو الشاهد رقم 146 الآتي:
حتى تهجر في الرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم
فقد وصف بالمظلوم المرفوع قوله "المعقب" المجرور بإضافة المصدر الذي هو "طلب" إليه، لكون هذا المضاف مصدرًا والمضاف إليه فاعلًا لذلك المصدر، ونظير ذلك قول الأعشى ميمون:
الواهب المائة الهجان وعبدها ... عوذا تزجي بينها أولادها
عطف "عبدها" بالنصب على "المائة" المجرور بإضافة اسم الفاعل الذي هو "الواهب" إليه" ومثله قول الشاعر وأنشده سيبويه "1/ 87":
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عمرو بن مخراق
ومثله قول رجل من قيس عيلان، وأنشده سيبويه أيضًا "1/ 87":
فبينا نحن نطلبه أتانا ... معلق وفضة وزناد راع
عطف قول "زناد راعٍ" بالنصب على قوله "وفضة" المجرور بإضافة "معلق" إليه، لكون المعطوف عليه مفعولًا به لاسم الفاعل الذي هو معلق، وفي هذا القدر كفاية.

(1/156)


وقال الأَحْوَصُ الرِّياحِيُّ:
[117]
مشَائيمُ لَيْسُوا مصلحين عَشِيرَةً ... ولا ناعب إلا ببين غُرَابُها
فقال "ناعب" بالجر، وكان الوجه أن يقول "ناعبًا" بالنصب، وقد تُؤُوِّل ذلك بما لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه؛ فإذا كان كذلك فلا يجوز الاحتجاج بما رَوَوْهُ مع قلته في الاستعمال وبُعْدِهِ عن القياس على ما وقع فيه الخلاف.
وأما قولهم "أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا؛ فكذلك مع إن" وقلنا الجواب على هذا من وجهين:
أحدهما: إنما جاز ذلك مع "لا" لأن لا لا تعمل في الخبر، بخلاف "إن"
__________
[117] هذا البيت -كما قال المؤلف- للأحوص الرياحي، وهو من شواهد سيبويه، وقد أنشده سيبويه في كتابه ثلاث مرات نسبه في واحدة "1/ 418" للفرزدق وقد بحثت ديوان الفرزدق فلم أعثر عليه فيه، ونسبه في المرتين الأخريين "1/ 73 و 154" إلى الأحوص، وقد استشهد به الأشموني "رقم 586 بتحقيقنا" ورواه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في البيان "2/ 260" ثالث ثلاثة أبيات، ونسبها للأحوص، واستشهد به رضي الدين في شرح الكافية "1/ 428" وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 140" والمشائيم: جمع مشؤوم، وتقول: شأم فلان قومه يشأمهم -من باب فتح- إذا جر عليهم الشؤم، وعشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون، وناعب: اسم فاعل من النعيب، وهو صوت الغراب، وهم يتشاءمون به ويجعلونه نذيرًا بالفرقة وتصدع الشمل والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا ناعب" حيث جاء مجرورًا مع أنه معطوف على خبر ليس المنصوب الذي هو قوله "مصلحين" وذلك لأنه بعد أن قال "ليسوا مصلحين عشيرة" توهم أنه قرن خبر ليس بالباء الزائدة من قبل أن لسانهم كثيرًا ما يجري بذلك من غير نكير، وقد بيَّنَّا ذلك في شرح الشاهدين السابقين.
ونظير هذه الشواهد قول عبد الله بن الدمينة، وهو من شواهد الأشموني "رقم 354 بتحقيقنا":
أحقًّا عباد الله أن لست صاعدا ... ولا هابطًا إلا عليَّ رقيب
ولا سالك وحدي ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل: أنت مريب
فقد جاء بالمعطوف -وهو قوله "ولا سالك"- مجرورًا، مع أن المعطوف عليه وهو قوله "صاعدًا" منصوب وبعد أن عطف عليه اسمًا منصوبًا وهو وقوله "ولا هابطًا".
وربما جر بعض الشعراء المعطوف على خبر كان المنفية المنصوب لأن الباء الزائدة تدخل على خبر كان المنفية، وإن كان ليس من الكثرة في لسانهم كخبر ليس، ومن هذا قول الشاعر، وأنشده ابن منظور "ن م ش":
وما كنت ذا نيرب فيهم ... ولا منمش فيهم منمل
ومحلّ الاستشهاد من هذا البيت قوله "ولا منمش" حيث جاء به مجرورًا وهو معطوف على قوله "ذا نيرب" الذي هو خبر كان المسبوقة بما النافية، وذلك ظاهر إن شاء الله.

(1/157)


فلم يجتمع فيه عاملان، فجاز معها العطف على الموضع قبل تمام الخبر، دون "إن" على ما بيَّنَّا.
والوجه الثاني: أنا نسلم أن "لا" تعمل في الخبر كإن، ولكن إنما جاز ذلك مع "لا" دون "إن" وذلك لأن "لا" ركبت مع الاسم النكرة بعدها فصارا شيئًا واحدًا؛ فكأنه لم يجتمع في الخبر عاملان، وأما "إن" فإنها لا تركب مع الاسم بعدها؛ فيجتمع في الخبر عاملان، وذلك لا يجوز، فبان الفرق بينهما.
وأما قولهم "إنَّ إنَّ لا تعمل في الخبر" فقد بيَّنَّا فساد ذلك مُسْتَوْفىً في المسألة التي قبل هذه المسألة؛ فلا يفتقر إلى الإعادة، والله أعلم.

(1/158)


24- مسألة: [القول في عمل "إنِ" المخففة النَّصْبَ في الاسم] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "إنِ" المخففة من الثقيلة لا تعمل النصب في الاسم وذهب البصريون إلى أنها تعمل.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها لا تعمل لأن المشددة إنما عملت لأنها أشبهتِ الفعل الماضي في اللفظ؛ لأنها على ثلاثة أحرف كما أنه على ثلاثة أحرف، وإنها مبنيّة على الفتح كما أنه مبنيّ على الفتح، فإذا خففت فقد زال شَبَهُها به؛ فوجب أن يبطل عملها.
ومنهم من تمسّك بأن قال: إنما قلنا ذلك؛ لأن "إنّ" المشدّدة من عوامل الأسماء، و "أنِ" المخففة من عوامل الأفعال؛ فينبغي ألا تعمل المخففة في الأسماء كما لا تعمل المشددة في الأفعال؛ لأن عوامل الأفعال لا تعمل في الأسماء، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على صحة الإعمال قوله تعالى:
"وَإِنْ كُلًّا لَمَّا لَيوَفِّينَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ" [هود: 111] في قراءة من قرأ بالتخفيف، وهي قراءة نافع وابن كثير، وروى أبو بكر عن عاصم بتخفيف "إن" وتشديد "لما".
قالوا: ولا يجوز أن يقال بأن "كلا" منصوب بليوفينهم، لأنا نقول: لا يجوز ذلك؛ لأن لام القسم تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول "زيدا لأكرمنَّ، وعمرًا لأضربنَّ" فتنصب زيدًا بلأكرمنَّ وعمرًا بلأضربنَّ، فكذلك ههنا: لا يجوز أن يكون "كلا" منصوبًا بليوفينهم.
قالوا: ولا يجوز أيضًا أن يقال إن "إنْ" بمعنى ما، ولَمَا بمعنى إلَّا؛ لأنا
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لموفق الدين بن يعيش "ص1128" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "2/ 333" والتصريح للشيخ خالد الأزهري "1/ 278 بولاق" وحاشية الصبان على الأشموني "1/ 267 بولاق".

(1/159)


نقول: إنَّ إن التي بمعنى ما لا يجيء معها اللام بمعنى إلا، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]
وأما "لما" فلا يجوز أن يجعل ههنا بمعنى إلا؛ لأنه لو جاز أن تجعل "لما" بمعنى إلا لجاز أن يقال: ما قام القوم لما زيدًا، وقام القوم لما زيدًا، بمعنى إلا زيدًا، وفي امتناع ذلك دليل على فساده، وإنما جاء لما بمعنى إلا في الأيمان خاصة نحو قولهم: "عَمْرَك الله لَمَا فعلت كذا" أي إلَّا، ثم لو جعلت "لما" في قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيوَفِّينَّهُمْ} [هود: 111] بمعنى إلا لما كان لكل ما ينصبه؛ لأن إلا لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فدلَّ على صحة ما ذكرناه.
والذي يدل على صحة ذلك أيضًا أنه قد صحَّ عن العرب أنهم يقولون "إلا أن أخاك ذاهب" بمعنى أنَّ المشددة، وقد قال الشاعر:
[118]
وصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْرِ ... كأنَّ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ
فنصب "ثدييه" بكأن المخففة مع الثقيلة، وأصلها أن أضيف إليها الكافُ
__________
[118] أنشد سيبويه هذا البيت "1/ 281" وأنشده ابن يعيش "ص1138" ولم يعزواه، وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 358" وقال عنه: "هو أحد أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل" ا. هـ. وهو من شواهد الأشموني "رقم 286 وأوضح المسالك "رقم 152" وابن عقيل "رقم 108" ويروى صدره:
ووجه مشرق اللون
وهي رواية سيبويه، ويروى:
ونحر مشرق اللون
وعلى هاتين الروايتين يكون قوله "كأن ثدييه" على تقدير مضاف بين المضاف والمضاف إليه، أي كأن ثدي صاحبه، ومشرق: أي مضيء، وحقان: مثنى حق، بضم الحاء وتشديد القاف وهو ما ينحت من خشب أو عاج أو نحوهما، والعرب تشبه الثديين بالحق في اكتنازهما ونهودهما، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم
وثديا مثل حق العاج رخصا ... حصانا من أكف اللامسينا
والاستشهاد بالبيتن في قوله "كأن ثدييه" حيث خفف الشاعر كأن الدالة على التشبيه ثم أعملها في الاسم والخبر؛ فنصب بها الاسم الذي هو قوله "ثدييه" ورفع بها الخبر الذي هو قوله "حقان" ويرويه بعض العلماء "كأن ثدياه حقان" برفع الاسمين جميعًا على أن يكون اسمها ضمير شأن محذوف، وما بعدها جملة من مبتدأ وخبر في محلّ رفع خبر كأن، والرواية التي أثرها المؤلف تدلّ على أن تخفيف الحرف الذي يعمل لمشابهته الفعل لا يمنع إعماله في اللفظ.

(1/160)


للتشبيه، والأصل في الكاف أن تكون مؤخرة؛ كما أن الأصل في اللام أن تكون مقدمة؛ فإذا قلت "كأن زيدًا الأسدُ" كان الأصل فيه: إن زيدًا كالأسد، كما إذا قلت "إن زيدًا لقائمُ" كان الأصل فيه: لإنَّ زيدًا قائم، إلا أنه قدمت الكاف على "أن" عنايةً بالتشبيه، وأخرت اللام عن "إن" لئلا يجمعوا بين حرفي تأكيد، فلما نصب بها مع التخفيف دلّ على أنها بمنزلة فعل قد حذف بعض حروفه.
وقال الآخر:
[119]
كأنْ وَرِيدَيْهِ رشاءا خُلْبِ
فنصب "وريديه" بكأن المخففة من الثقيلة؛ فدلَّ على ما قلناه.
ولا يجوز أن يقال: إن الإنشاد في البيتين "كأن ثدياه، وكأن وريداه" بالرفع
__________
[119] نسب جماعة من النحاة -منهم الشيخ خالد الأزهري في التصريح "1/ 282 بولاق" تبعًا للعيني- هذا البيت إلى رؤبة بن العجاج، وقد أنشده سيبويه "1/ 480" وابن يعيش "ص1138" وابن منظور "خ ل ب" ولم يعزه واحد منهم إلى قائل معين، وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 356" وروى بيتين من الرجز المشطور أحدهما قبل البيت المستشهد به والآخر بعده على هذا الوجه:
ومعتد فظ غليظ القلب ... كأن وريديه رشاءا خلب
غدرته مجدلًا كالكلب
والمعتدي: المتجاوز الحد في الظلم، والفظ: الغليط، وغليظ القلب: قاس لا رحمة عنده، والوريدان: مثنى وريد وهو عرق في الرقبة، والرشاء -بكسر أوله بزنة الكتاب- الحبل، والخلب -بزنة القفل والقرط- فسره قوم بالبئر، وعليه تكون إضافة الرشاءين إلى الخلب على معنى لام الاستحقاق مثل قولهم: مصابيح المسجد وحصيره، وفسر قوم الخلب بالليف، وعليه تكون الإضافة على معنى من مثل قولهم: خاتم فضة وثوب قطن ومحلّ الاستشهاد بالبيت قوله "كأن وريديه" حيث خفف كأن التي تدل على التشبيه، ثم أتى بعدها باسمها منصوبًا وبخبرها مرفوعًا كما كان يفعل ذلك وهي مثقلة، فيدل ذلك على أن الحرف الذي يعمل لشبهه بالفعل إذا خفف لم يجب أن يبطل عمله، وقد روى سيبويه البيت بنصب وريديه ورفع "رشاءا" كما رواه المؤلف هنا، وقال قبل إنشاده "وينصبون في الشعر إذا اضطروا بكأن إذا خففوا، يريدون معنى كأن "بالتشديد" ولم يريدوا الإضمار، وذلك قوله:
كأن وريديه ...
ثم قال بعد كلام "وإن شئت رفعت في قول الشاعر:
كأن وريديه ...
وقد بيَّنَّا وجه الروايتين في شرح الشاهد السابق.

(1/161)


لأنَّا نقول: بل الرواية المشهورة "كأن ثدييه، وكأن وريديه" -بالنصب- وإن صحَّ ما رَوَيْتُمُوهُ فيكونُ الرفع على حذف الضمير مع التخفيف كما قال الأعشى:
[120]
في فتْيَةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أَنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
كأنه قال: أنه هالك.
وقال الآخر:
[121]
أَمَا والله أن لو كنتَ حُرًّا ... وما بالحُرِّ أنت ولا العَتِيقِ
__________
[120] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس، وقد أنشده سيبويه ثلاث مرات "1/ 282 و 440 و 480" وأنشده ابن يعيش "ص1128" ورضي الدين في باب نواصب المضارع وفي باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 547" والفتية: جمع فتى، وهو الشاب، والسيوف: جمع سيف، وإضافة السيوف إلى الهند لأنها كانت تصنع هناك، وكانوا يجلبونها من الهند، ووجه الشبه إما المضاء وقوة العزم وإما البريق واللمعان ويراد بهما صباحة أوجههم ونضارتها، ويحفى: مضارع حفي -مثل رضي- حفاء، وذلك إذا مشى بغير نعل ولا خف، ويراد به هنا الفقير، وينتعل: أي يلبس النعل، ويراد به الغني، يريد أن هؤلاء الفتيان قد أيقنوا أن الموت لا يفرق بين الغني والفقير فهم ينتهزون فرص اللذات ويسارعون إليها. والاستشهاد بالبيت في قوله "أن هالك كل من يحفى" حيث خففت أن المفتوحة الهمزة وأتى بعدها باسمين مرفوعين، فيتوههم من لا معرفة له أنه أهملها، ولكنها عند التحقق عاملة النصب والرفع كما كانت تعمل وهي مشددة، واسمها ضمير شأن محذوف، وقوله "هالك" خبر مقدم، و "كل" مبتدأ مؤخر، وكل مضاف و "من" مضاف إليه، و "يحفى" جملة لا محلّ لها من الإعراب صلة من، وتقدير الكلام: أنه "أي الحال والشأن" كل من يحفى وينتعل هالك، وجملة المبتدأ وخبره في محلّ رفع خبر أن المخففة من الثقيلة، ويروى عجز البيت:
أن ليس تدفع عن ذي الحيلة الحيل
وهو صالح للاستشهاد به على هذه الرواية أيضًا لهذه المسألة عينها.
[121] هذا البيت من شواهد مغني اللبيب "رقم 41 بتحقيقنا" وقد أنشده الرضي في باب خبر الحروف المشبهة بليس، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 133" وفي شرحه لشواهد المغني، ولم ينسبه في أحدهما إلى قائل معين، وقد ذكر أن الفراء أنشده في تفسير سورة الجن عند تفسير قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ} ويروى صدر البيت:
لو أنك يا حسين خلقت حرًا
بتشديد "أن" وإلقاء حركة همزتها على الواو، والعتيق: الكريم الأصيل، ويقال لمن كان رقيقا فخلص من الرقّ: عتيق، وفي هذا البيت شاهدان للنحاة: الأول: في قوله "أن لو كنت حرا" وعبارة المؤلف تدل على أنه يعتبر "أن" في هذه العبارة مخففة من الثقيلة، وعليه يكون اسمها ضمير شأن محذوف، وجملة "لو" وشرطها وجوابها المحذوف لدلالة المقام عليه في محلّ رفع خبر أن، وتقدير الكلام: أنه "أي الحال والشأن" لو كنت حرًّا =

(1/162)


وقال الآخر:
[122]
أَكَاشِرُهُ وأعلم أَنْ كِلَانَا ... على ما ساء صاحبَهُ حريصُ
__________
= لقاومتك، أو لسهل على نفسي منازلتك، وما أشبه ذلك، لكن المحققين من العلماء لا يرون هذا، و "أن" عندهم زائدة، ذكر ذلك ابن هشام في مغني اللبيب؛ قال "الثاني: من مواضع زيادة أن المخففة المفتوحة الهمزة أن تقع بين "لو" وفعل القسم، سواء أكان الفعل مذكورًا كقول الشاعر:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم
أم كان فعل القسم متروكًا، كقوله:
أما والله أن لو كنت حرًّا
البيت، هذا قول سيبويه وغيره" ا. هـ. وقد ذكر البغدادي أن نسبة القول بزيادة "أن" في هذا البيت إلى سيبويه ليست بصحيحة؛ والصواب أن القائل بزيادتها في هذا البيت هو الفراء، وذهب ابن عصفور إلى أنها حرف جيء به لربط الجواب بالقسم، قال ابن هشام بعد أن حكى عن ابن عصفور ذلك "ويبعده أن الأكثر تركها، والحروف الرابطة ليست كذلك" ا. هـ. ونازعه في ذلك الدماميني فقال: من الحروف الرابطة اللام؛ وذلك نحو قول الشاعر:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الليالي
ولا يلزم ذكر هذه اللام، بل يجوز تركها كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} فلم يتم قول ابن هشام: إن الحروف الرابطة لا تترك من الكلام. والشاهد الثاني من البيت في قوله "وما بالحر أنت" حيث دخلت الباء الزائدة على خبر "ما" الذي هو قوله "الحر" مع كونه متقدما على الاسم الذي هو قوله "أنت" وقد اختلف العلماء في الباء الزائدة بعد ما النافية: أهي مختصة بما الحجازية العاملة عمل ليس أم غير مختصة بها ويجوز دخولها بعد ما التميمية المهملة؟ فذهب الأخفش إلى أنها تدخل بعد ما التميمية كما تدخل بعد ما الحجازية، وذهب قوم منهم الزمخشري وأبو عليّ إلى أن الباء الزائدة لا تدخل إلا في خبر ما الحجازية، وانبنى على هذا الخلاف اختلاف آخر حاصله هل يجوز أن يتقدم خبر "ما" الحجازية العاملة أو لا يجوز؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن الباء لا تدخل على الخبر بعد ما التميمية فقالوا: يجوز أن يتقدم خبر ما الحجازية على اسمها ويبقى لها عملها واستدلوا بهذا البيت ونحوه، ووجه الاستدلال أن الباء هنا قد دخلت على الخبر وهو متقدم، وحيث جاز تقديمه وهو مقترن بالباء يجوز تقديمه وهو عارٍ منها، والذي نرجحه أنه يجوز دخول الباء على خبر المبتدأ الواقع بعد ما التميمية، بدليل قول الفرزدق وهو تميمي:
لعمرك ما معن بتارك حقه ... ولا منسئ معن، ولا متيسر
وبدليل دخولها حيث لا عمل لما، وذلك كما في قول الشاعر:
لعمرك ما إن أبو مالك ... بوان ولا بضعيف قواه
فإن "ما" ههنا غير عاملة لاقترانها بإن الزائدة، والباء لم تدخل في الخبر بعد ما إلا لكونه منفيًّا، فلا يلزم أن يكون منصوبًا، وفي هذا القدر كفاية وغناء.
[122] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 440" ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم في شرح شواهده، =

(1/163)


وقال زيد بن أرْقَمَ:
[123]
ويوما تُلَاقِينَا بوجه مُقَسَّمٍ ... كَأَنْ ظَبْيَةٌ تَعْطُو إلى وَارِقِ السَّلَمْ
__________
= قال الأعلم "ومعنى أكاشره أضاحكه، ويقال: كشر عن نابه؛ إذا كشف عنه" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في قوله "أن كلانا حريص" حيث خفف أن المؤكدة، وأتى بعدها بالاسمين مرفوعين، فيتوهم من لا معرفة له أنه أهمل أن، ولكنها عند التحقيق عاملة النصب والرفع كما تعمل وهي مشددة، وسمها ضمير شأن محذوف، وكلانا: مبتدأ ومضاف إليه، وحريص: خبر المبتدأ وجملة المبتدأ والخبر في محلّ رفع خبر أن، قال سيبويه "1/ 439": "وتقول: قد علمت أن من يأتني آته؛ من قبل أن أن ههنا فيها إضمار الهاء، ولا تجيء مخففة ههنا إلا على ذلك، كما قال:
أكاشرة وأعلم أن كلانا
البيت، وقال الأعلم "الشاهد في حذف الضمير من أن، وابتداء ما بعدها على نية إثبات الضمير" ا. هـ.
[123] نسب المؤلف هذا البيت لزيد بن أرقم، وهو من شواهد سيبويه "1/ 281 و 481" ونسبه لابن صريم اليشكري، ووافقه الأعلم على هذه النسبة، وأنشده ابن منظور "ق س م" أول أربعة أبيات، ونسبه إلى باعث بن صريم اليشكري ثم قال "ويقال: هو كعب بن أرقم اليشكري، قاله في امرأته، وهو الصحيح" ا. هـ. والبيت من شواهد ابن يعيش "ص1139" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 42" وفي أوضح المسالك "رقم 151" والأشموني "رقم 287" وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 364" ونقل خلافا في نسبته، ويوما -بالنصب لا غير- ظرف زمان يتعلق بقوله "توافينا" الذي بعده، وتوافينا: تأتينا وتزورنا، ووجه مقسم: جميل، مأخوذ في الأصل من القسام -بفتح القاف- بزنة السحاب وهو الجمال، والاستشهاد به في قوله "كأن ظبية تعطو" واعلم أولًا أن كلمة "ظبية" في هذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه: الجر، والنصب، والرفع،
فأما رواية الجر فتخرج على أن الكاف حرف جر، وأن زائدة بين الجار والمجرور وظبية: مجرور بالكاف، وكأنه قال: كظبية تعطوا إلى وارق السلم. وأما رواية النصب فتخرج على أن كأن مخففة من الثقيلة عاملة، وقوله "ظبية" اسم كأن، وجملة "تعطو" صفة لظبية، وخبر كأن محذوف، والتقدير: كأن ظبية عاطية إلى وارق السلم هذه المرأة، وأما رواية الرفع فتخرج على أن "كأن" حرف تشبيه مخفف، واسم كأن محذوف، وظبية: خبره، وتقدير الكلام: كأنها ظبية عاطية إلى وارق السلم، والتشبيه على وجه النصب من التشبيه المقلوب، وعلى وجه الرفع من التشبيه الجاري على أصله. وقد ذكر هذا التفصيل الأعلم حيث قال: "الشاهد فيه رفع ظبية على الخبر وحذف الاسم مع تخفيف كأن، والتقدير: كأنها ظبية، ويجوز نصب الظبية بكأن تشبيها بالفعل إذا حذف وعمل نحو لم يك زيد منطلقًا، والخبر محذوف لعلم السامع، والتقدير: كأن ظبية تعطو هذه المرأة، ويجوز جر الظبية على تقدير كظبية، وأن زائدة" ا. هـ.

(1/164)


وقال الآخر:
[124]
عَبَأْتُ له رمحًا طويلا وَأَلَّةً ... كأنْ قَبَسٌ يُعْلَى بها حين تُشْرَعُ
وقال الآخر
[125]
وخَيْفَاء أَلْقَى الليث فيها ذراعه ... فَسَرَّتْ وساءت كلَّ ماشٍ ومُصْرِمِ
__________
[124] هذا البيت من كلام مجمع بن هلال؛ وهو تاسع عشرة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص713" وقد استشهد بالبيت رضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 361" وعبأت: أعددت وهيأت، والرمح معروف، والألة -بفتح الهمزة وتشديد اللام- السنان، وأصله من الأليل وهو البريق واللمعان، وفسر ابن منظور الألة بالحربة العظيمة النصل، وفرق قوم بين الألة والحربة فخصوا الألة بما كانت كلها من حديد، والحربة بما كانت يدها من خشب، والقبس -بالتحريك- الجذوة من النار، وتشرع -بالبناء للمجهول- أي تصوب للطعن، والاستشهاد بالبيت في قوله "كأن قبس يعلى بها ... إلخ" وقبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر، وهي الوجوه التي ذكرناها في كلمة "ظبية" في البيت السابق، فالجر على أن تكون الكاف حرف جر، وأن زائدة، وقبس مجرور بالكاف، والنصب على أن يكون كأن حرف تشبيه مخفف من الثقيل، وقبسا: اسم كأن، وخبره محذوف، والتقدير: كأن قبسًا هذه الألة، ويكون من التشبيه المقلوب، ويجوز أن يكون خبر كأن هنا هو جملة يعلى بها، وأما الرفع فعلى أن يكون كأن حرف تشبيه مخفف من الثقيل، واسمه محذوف، وقبس خبره، وتقدير الكلام: كأنها أي هذه الألة قبس، وجعل الرضي اسم كأن -على رواية رفع قبس- ضمير شأن محذوف، وعليه يكون قبس مبتدأ، وجملة يعلى صفة لقبس، وفي يعلى ضمير مستتر يعود على قبس وهو نائب فاعل يعلى، وهو الذي يربط جملة الصفة بالموصوف، وبها: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ وخبره في محلّ رفع خبر كأن، لكن هذا الوجه الذي ذهب إليه الرضي ضعيف، من جهة أن ضمير الشأن إنما يقدر حين لا يكون من الممكن تقدير مرجع، وههنا أمكن تقدير المرجع -وهو ضمير الغائب- وهو مع ذلك أيسر وأهون.
[125] هذان البيتان من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وقد أنشدهما ابن منظور "أون" ونسبهما إليه، وقال: إنهما من أبيات المعاني، قد أنشد رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ثاني هذين البيتين، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 363" غير أنه نسب البيتين نقلًا عن أبي زيد عن أبي عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني لرجل من بني سعد بن زيد مناة. والخيفاء هنا: الأرض المختلفة ألوان النبات قد مطرت بنوء الأسد فسرت من له ماشية وساءت من كان مصرمًا لا إبل له، والدرماء: الأرنب، يقول: سمنت حتى سحبت قصبها، كأن بطنها بطن حبلى متئم، والقصب -بضم القاف وسكون الصاد- المعى، وأراد البطن، ومتئم: قد حبلت في توأمين والاستشهاد بالبيتين في قوله "كأن بطن حبلى" حيث خفف كأن الدالة على التشبيه، وجاء بعدها بالاسم مرفوعًا على أنه خبرها واسمها محذوف. والتقدير: كأن بطنها بطن حبلى. ولو أنك نصبت "بطنها" أو جررته لجاز. وتوجيه النصب والجر على مثل ما ذكرناه في شرح الشاهدين السابقين، فتأمل ذلك. والله يرشدك.

(1/165)


تُمَشِّي بها الدَّرْمَاءُ تَسْحَبُ قَصْبَهَا ... كأنْ بطنُ حُبْلَى ذَاتِ أَوْنَيْنِ مَتْئمِ
فيمن روى بالرفع، ومن روى بالجر جعل "أن" زائدة، ومن روى بالنصب أعملها مع التخفيف.
ومن كلامهم "أول ما أقول أنْ بسم الله" كأنهم قالوا: أنَّهُ بسم الله، وقال تعالى: {أَفَلا يرَوْنَ أَلَّا يرْجِعُ إِلَيهِمْ قَوْلًا} [طه: 89] كأنه قال: أنه لا يرجع إليهم قولًا، إلَّا أنها لا تخفف مع الفعل إلا مع أحد أربعة أحرف، وهي: لا، وقد، وسوف، والسين، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] وكذلك "علمت أنْ سوف يخرج مزيد، وعلمت أنْ قد خرج عمرو"، قال أبو صخر الهذلي:
[126]
فتعلمي أن قد كَلِفْتُ بكم ... ثم افعلي ما شئتِ عن عِلْمِ
ولا تُخَفَّف من غير واحد من هذه الأحرف؛ لأنهم جعلوها عوضًا مما لحق "أنْ" من التغيير، وكان التعويض مع الفعل أولى من الاسم، وذلك لأن "أنْ" لحقها مع الاسم ضرب واحد من التغيير، وهو الحذف، ولحقها مع الفعل ضربان: الحذف: ووقوع الفعل بعدها؛ فلهذا كان التعويض مع الفعل أولى من الاسم.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من إعمالها مع التخفيف ما حكى بعض أهل اللغة من إعمالها في المضمر مع التخفيف نحو قولهم: أظن أنّك قائم، وأحسب أنّه ذاهب، يريدون أنك وأنه بالتشديد، قال الشاعر:
[127]
فلو أنك في يوم الرَّخَاء سألتني ... فِرَاقَكَ لم أَبْخَلْ وأنت صديقُ
__________
[126] نسب المؤلف هذا البيت لأبي صخر الهذلي، وكذلك نسبه ابن يعيش في شرح المفصل "ص1132" وقد روى ابن منظور صدره "ع ل م" ونسبه إلى الحارث بن وعلة، وتعلمي: أي اعلمي واستيقني. وهو ملازم لصيغة الأمر، والشواهد عليه كثيرة "انظر شرح الشاهد 325 في شرح الأشموني بتحقيقنا" وكلفت: أولعت واشتد غرامي. والاستشهاد بالبيت في قوله "فتعلمي أن قد كلفت" حيث جاء بأن المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، وخبرها جملة "كلفت بكم" ولكون هذه الجملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء فصل بينها وبين أن بقد، وتقدير الكلام: فتعلمي أنه "أي الحال والشأن" قد كلفت بكم، ونظير هذا البيت في الفصل بين أن المخففة وجملة خبرها بقد قول الله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} وقول الشاعر، وهو من شواهد ابن مالك في شرح كافيته وشواهد الأشموني "رقم 282"
شهدت بأن قد خط ما هو كائن ... وأنك تمحو ما تشاء وتثبت
[127] أنشد الرضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية هذا البيت، وقد شرحه البغدادي في =

(1/166)


وقال الآخر:
[128]
وقد علم الصِّبْيَة المُرْمِلُون ... إذ اغبَرَّ أفقٌ وَهَبَّتْ شَمَالَا
__________
= الخزانة "2/ 465" ولم يعزه، وكذلك أنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص1128" ولم يعزه إلى قائل معين، وكذلك أنشده الفراء ولم يعزه، وأنشده ابن منظور "ص د ق" ولم يعزه أيضًا، وهو من شواهد الأشموني "رقم 280" وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 38" وابن عقيل "رقم 105" وصديق: مما يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، المذكر والمؤنث، وإن كان فعيلًا بمعنى فاعل؛ لأنهم حملوه على ضده وهو العدو، ومن إطلاقه على الأنثى بيت الشاهد وقول كثيرة عزة:
لَيالِيَ مِن عَيشٍ لَهَونا بِوَجهِهِ ... زَماناً وَسعدى لي صَديقٌ مُواصِلُ
ومن ذلك أيضًا قول جميل بن معمر:
كأن لم نقاتل يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق
ومن إطلاقه على جمع المذكرين قول الشاعر:
لعمري لئن كنتم على النأي والنوى ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق
وقول قعنب ابن أم صاحب:
ما بال قوم صديق ثم ليس لهم ... دين، وليس لهم عقل إذا ائتمنوا
ومن إطلاق على جمع المؤنث قول جرير:
نصبن الهوى، ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء، وهن صديق
أوانس، أما من أردن عناءه ... فعان، ومن أطلقنه فطليق
وقال يزيد بن الحكم في مثله
ويهجرن أقوامًا وهن صديق
ومحل الاستشهاد بالبيت الذي أثره المؤلف قوله "فلو أنك سألتني" حيث خفف "أن" المؤكدة، وأعملها في الاسم والخبر، فجاء باسمها ضميرا من ضمائر النصب المتصلة وهو الكاف، وجاء بخبرها جملة فعلية وهو قوله "سألتني طلاقك" وأكثر العلماء يرون مجيء اسم أن المخفف ضمير مخاطب شاذًّا.
[128] أنشد ثالث هذه الأبيات رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 352" وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص1131" وهو من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك "رقم 148" وفي مغني اللبيب "رقم 39" وأنشد أول هذه الأبيات في شذور الذهب "رقم 112" وأنشده الأشموني ثالثها "رقم 281 بتحقيقنا" والأبيات من كلمة لأخت عمرو بن العجلان الكاهلي الملقب بذي كلب، ومن الرواة من يسمي أخته عمرة، ومنهم من يسميها جنوب ويروى صدر أولها "لقد علم الضيف والمرملون" ويروى صدر ثالثها "بأنك ربيع وغيث مريع" والضيف: يطلق على الواحد والاثنين والجمع، والصبية: جمع صبي، والمرملون: جمع مرمل، وهو الذي نفد زاده، ويروى بدله "والمجتدون" وهو جمع المجتدي، وهو طالب الجداء، وهو كالعطاء وزنًا ومعنًى، وقوله "وهبت شمالًا" نصب شمالًا على الظرفية وأضمر في هبت ضمير الريح =

(1/167)


وخَلَّتْ عن أَوْلَادِهَا المرضعاتُ ... ولم تَرَ عينٌ لمُزْنٍ بِلَالَا
بأنك الربيعُ وغيثٌ مريعٌ ... وقِدْمًا هناك تكون الثَّمَالَا
أراد بأنّك بالتشديد، إلا أن الاستدلال على إعمالها في المضمر مع التخفيف
عندي ضعيف؛ لأن ذلك إنما يجوز في ضرورة الشعر لا في اختيار الكلام إلا في رواية شاذة ضعيفة غير معروفة فلا يكون فيه حجة.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما عملت لشبه الفعل لفظًا؛ فإذا خففت زال شَبَهها به فبطل عملها" قلنا: هذا باطل؛ لأن إن إنما عملت لأنها أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى؛ وذلك من خمسة أوجه، وقد قدمنا ذكرها في موضعها فإذا خففت صارت بمنزلة فعل حُذِفَ منه بعض حروفه، وذلك لا يبطل عمله، ألا ترى أنك تقول: "عِ الكلام، وشِ الثوب، وَلِ الأمْرَ" وما أشبه ذلك، ولا تُبْطِلُ عمله؛ فكذلك ههنا.
وأما قولهم "إن إن المشددة من عوامل الأسماء، وإن المخففة من عوامل الأفعال" قلنا: هذا الاستدلال ظاهر الاختلال، فإنا إذا قدرنا أنها مخففة من الثقيلة؛ فهي من عوامل الأسماء، وإذا لم نقدر أنها مخففة من الثقيلة؛ فليست من عوامل الأسماء، وإن الخفيفة في الأصل غير إن المخففة من الثقيلة؛ لأن تلك الخفيفة من عوامل الأفعال، وهذه المخففة من الثقيلة من عوامل الأسماء، ولم يقع الكلام في إن الخفيفة في الأصل، وإنما وقع في إن المخففة من الثقيلة، وقد بيَّنَّا الفرق بينهما، والله أعلم.
__________
= وإن لم يجرِ لها ذكر لانفهام المعنى وسياقته إلى ذهن السامع، ونظيره ما أنشده سيبويه من قول جرير "1/ 113 و 201":
هبت جنوبًا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانًا
وقوله "وخلت عن أولادها المرضعات" يريد أن الزمان قد اشتد حتى ذهلت كل مرضعة عن ولدها الذي ترضعه "بأنك ربيع" أي أنه كثير النفع واصل السيب والعطاء بمنزلة الربيع" وغيث مريع" -بفتح الميم أو ضمها- أي مكلئ خصيب "الثمالا" -بكسر الثاء المثلثة- هو الذخر والغياث. والاستشهاد فيه بقوله "بأنك ربيع" وقوله "وأنك تكون الثمالا" حيث خفف أن المؤكدة، وأعملها في الاسم والخبر، واسمها في الموضعين ضمير مخاطب مذكور، وخبرها في الموضع الأول مفرد وهو قوله ربيع، وفي الموضع الثاني جملة فعلية مؤلفة من تكون واسمها وخبرها، وذلك شاذ، والكثير المستعمل أن يكون اسمها ضميرًا محذوفًا؛ لتكون عاملة كلا عاملة، بسبب زوال بعض وجوه الشبه بينها وبين الفعل بالتخفيف، كما أن الأكثر عند جمهرة العلماء أن يكون الضمير المحذوف ضمير الشأن، وخالف في هذا ابن مالك فقال "إذا أمكن جعل الضمير ضمير غائب غير الشأن أو ضمير حاضر فهو أولى".

(1/168)


25- مسألة: [القول في زيادة لام الابتداء في خبر لكنَّ] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز دخول اللام في خبر "لكن" كما يجوز في خبر إن، نحو "ما قام زيدًا لَكِنَّ عمرًا لقائم" وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز دخول اللام في خبر لكنَّ.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز دخول اللام في خبر "لكنَّ" النقلُ والقياسُ:
أما النقل فقد جاء عن العرب إدخال اللام على خبرها، قال الشاعر:
[129]
ولكنَّنِي من حُبِّهَا لَكَمِيدُ2
__________
[129] قد استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل "ص1121 و 1135" ورضي الدين في شرح كافية ابن الحاجب "2/ 332" وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 343" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 386" والأشموني "رقم 265" وابن عقيل "رقم 99"وينص أكثر هؤلاء العلماء على أن هذا الشاهد لا يعلم قائله ولا تعرف له تتمة ولا سوابق أو لواحق، إلا ابن عقيل فإنه رواه بيتًا كاملًا من غير عزو، هكذا:
يلومونني في حب ليلى عواذلي ... ولكنني من حبها لعميد
والاستشهاد بالبيت في قوله "ولكنني لعميد" حيث قرن خبر "لكن" باللام التي تدخل في بعض المواضع لتفيد الكلام فضل توكيد، والبصريون يرون هذا شاذًّا لا يجوز القياس عليه، والكوفيون يرونه سائغًا جائزًا، وتفصيل مقالة الفريقين في أصل الكتاب.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "1/ 487 بتحقيقنا" وحاشية الصبان عليه "1/ 260 بولاق" والتصريح للشيخ خالد الأزهري "1/ 267 بولاق" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1135" ومغني اللبيب "ص233 و 492" وشرح ابن عقيل على الألفية "1/ 310 بتحقيقنا" وشرح الرضي على الكافية "2/ 332".
2 رواية النحاة، ومنهم من نقلها عن المؤلف "ولكنني من حبها لعميد".

(1/169)


وأما القياس فلأن الأصل في "لكنَّ" إنَّ، زيدت عليها لا والكاف؛ فصارتا جميعًا حرفًا واحدًا، كما زيدت عليها اللام والهاء في قول الشاعر:
[130]
لهِنَّكِ من عَبْسية لوَسِيمَةٌ ... على هَنَوَاتِ كاذبٍ من يَقُولُهَا
__________
[130] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل هـ ن" ثاني بيتين، ونسب روايتهما إلى الكسائي، ولم يعزهما إلى قائل معين، والبيت السابق عليه قوله:
وبي من تباريح الصبابة لوعة ... قتيله أشواقي، وشوقي قتيلها
وأنشد بيتًا آخر يشترك مع بيت الشاهد في صدره، ولم يعزه إلى معين أيضًا، وهو بتمامه هكذا:
لهنك من عبسية لوسيمة ... على كاذب من وعدها ضوء صادق
والاستشهاد بالبيت في قوله "لهنك لوسيمه" وللعلماء ثلاثة آراء في تخريج هذه العبارة:
الأول: أنها في الأصل "لإنك" بلام توكيد مفتوحة ثم إن المكسورة الهمزة المشددة النون، والأصل أن لام التوكيد التي تدخل على إن المكسورة تتأخر عن إن وما يليها؛ فتدخل على خبرها كما تقول "إن زيدًا لمنطلق" أو على اسمها بشرط أن يتأخر عن الخبر كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66] أو على ضمير الفصل الواقع بين اسمها وخبرها نحو قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: من الآية 62] ولا يجوز أن تقترن اللام بإن، ولكنه لما أبدل الهمزة من إن هاء توهم أنها كلمة أخرى غير إن، واللام في "لوسيمة" زائدة، وهذا معنى قول الجوهري: "وقولهم لهنك -بفتح اللام وكسر الهاء- فكلمة تستعمل عند التوكيد، وأصله لإنك، فأبدلت الهمزة هاء، كما قالوا في "إياك": هياك. وإنما جاز أن يجمع بين اللام وإن وكلاهما للتوكيد لأنه لما أبدلت الهمزة هاء زال لفظ إن فصار كأنه شيء آخر" ا. هـ كلامه بحروفه، وهذا المذهب ينسب إلى سيبويه.
الرأي الثاني: ذهب جماعة من النحاة إلى أن أصل "لهنك" لاه إنك، أي والله إنك، على نحو ما جاء في قول ذي الإصبع العدواني:
لاه ابن عمك، لا أفضلت في حسب ... عني، ولا أنت دياني فتخزوني
أي لله ابن عمك، ثم حذفت الألف والهمزة من "أن" فصار لهنك، وهذا مذهب ينسب إلى الكسائي وكان أبو عليّ الفارسي يرجحه، قال ابن جني تلميذه "وفيه تعسف" قال الجوهري: "وأنشد الكسائي:
لهنك من عبسية لوسيمه
وقال: أراد الله إنك من عبسية فحذف اللام الأولى "يريد لام الجر" والألف من إنك" ا. هـ، وقد نسب المؤلف هذا الرأي إلى المفضل.
الرأي الثالث: أن أصله "والله إنك" فحذف الواو وإحدى اللامين من "والله" وحذف الهمزة من إن، وهو رأي الفراء على ما قاله المؤلف، وفيه من التعسف أكثر مما في الرأي الثاني. والصواب الأول. وقد ورد كثيرًا في شعر العرب المحتج بهم، من ذلك قول محمد بن مسلمة، وأنشده ابن منظور، وهو من شواهد الرضي، وابن يعيش "1120":
ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق على وسيم
=

(1/170)


فزاد اللام والهاء على إن، فكذلك ههنا: زاد عليها لا والكاف؛ فإن الحرف قد يُوصَلُ في أوله وآخره، فما وصل في أوله نحو "هذا وهَذاكَ" وما وصل في آخره نحو قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: من الآية26] وكذلك نقول: إن قول العرب "كم مَالُكَ" إنها "ما" زيدت عليها الكاف، ثم إن الكلام كثر بها فحذفت الألف من آخرها وسُكّنتْ ميمُها، كما زيدت اللام على "ما" ثم لما كثر الكلام بها سكنت ميمها فقالوا: "لِمَ فعلت كذا"؟ قال الشاعر:
[131]
يا أبا الأسود لم أَسْلَمَتْنِي ... لهموم طَارِقَاتٍ وذِكَرْ
__________
= وقال تليد الضبي، وكان أحد اللصوص على عهد عمر بن عبد العزيز:
لهني لأشقى الناس إن كنت غارمًا ... قلائص بين الجهلتين ترود
وقال خداش بن زهير العامري، وهو صحابي شهد حنينًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لهني لأشقى الناس إن كنت غارمًا ... لعاقبة قتلي خزيمة والخضر
وقال الشاعر:
لهني لأشقى الناس إن كنت غارمًا ... لدومة بكرًا ضيعته الأراقم
وقال الشاعر:
وقالت: ألا هل تقصم الحب موهنًا ... من الليل، إن الكاشحين خضور
فقلت لها: ما تطعميني أقتلد ... لهن الذي كلفتني ليسير
وقال الآخر:
ثمانين حولًا لا أرى منك راحة ... لهنك في الدنيا لباقية العمر
وأنشد أبو زيد:
أبائنة حبي؟ نعم وتماضر ... لهنا لمقضي علينا التهاجر
[131] أولًا: انظر المسألة 40، ثم نقول: أنشد ابن هشام هذا البيت في مغني اللبيب "رقم 499 بتحقيقنا" ولم يتكلم السيوطي عليه مطلقًا، وأنشده البغدادي في خزانة الأدب "2/ 538" أثناء شرحه للشاهد رقم 436 من شواهد الكافية، والبيت من شواهد ابن يعيش "ص1287" وشرح الكافية للرضي "ش516" وشرحه للبغدادي في الخزانة "3/ 197" وهو أيضًا من شواهد الرضي في شرح الشافية "ش110" وشرحه البغدادي بإيجاز "ص224 بتحقيقنا" و "أسلمتني" هو من قولهم "أسلم فلانا فلانًا" بمعنى خذله وتركه لأعدائه، ويروى في مكانه "خليتني" أي تركتني، ويروى "خلفتني" والهموم: جمع هم، وهو الحزن، وطارقات: أصلها من الطروق، وهو المجيء ليلًا، وإنما خص الهموم بالطارقات لأنها في أكثر الأحوال تكون في الليل، إذ هو الوقت الذي يخلو فيه بنفسه وأفكاره وهواجسه، والذكر -بكسر الذال وفتح الكاف- جمع ذكرة، وهي ضد النسيان.
والاستشهاد بالبيت في قوله "لم" فإن هذه اللام حرف جر، والميم أصلها "ما" الاستفهامية حذفت ألفها ثم سكنت الميم، وللعلماء في كل واحد من حذف الألف وتسكين الميم كلام نلخصه لك فيما يلي: الأصل أن تبقى الكلمات -وبخاصة غير المتمكنة- على حالها، فلا =

(1/171)


وقال بعض العرب في كلامه -وقد قيل له: منذ كم قَعَدَ فلانٌ؟ - فقال: "كمنذ أَخَذْتَ في حديثك" فزاد الكاف في "منذ"؛ فدل على أن الكاف في كم زائدة، وقيل لبعضهم: كيف تصنعون الأَقِطَ؟ فقال: كَهَيَّنٍ، أي: يسير سَهْل، فيزيدون الكاف، فكذلك ههنا: زيدت لا والكاف على إنَّ وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فصارت حرفًا واحدًا، كما قالوا "لن" وأصلها لا أن، فحذفوا الألف والهمزة لكثرة الاستعمال، فصارتا حرفًا واحدًا، فكذلك ههنا، وبل أولى، فإنه
__________
= يتصرف فيها بحذف ولا غيره، إلا أنهم رأوا "ما" تكون موصولة أحيانًا واستفهامية أحيانًا أخرى، وأن إحداهما قد تلتبس بالأخرى؛ فلا يتبين للسامع إن كانت "ما" موصولة فيكون الكلام خبرًا، أو استفهامية فيكون الكلام إنشاء، ورأوا أن أكثر ما يكون الالتباس في موضع الجر، فأرادوا أن يفرقوا بين الحالين، فحذفوا ألف "ما" الاستفهامية في موضع الجر نحو قوله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] وقوله جلت كلمته: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] وقوله تباركت أسماؤه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} [الصف: 5] وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وأبقوا ألف" ما" الموصولة، نحو قوله سبحانه: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيدَي} [صّ: من الآية75] وقوله: {يؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ} [البقرة: 4] وهل حذف ألف "ما" الاستفهامية حينئذ واجب أو غالب؟ وهل هو عام في كل موضع وقعت فيه مجرورة أو خاص بما إذا كان الجار حرفًا من حروف الجر، فإن كان الجار اسمًا متمكنًا -نحو "مجيء م جئت"- اختلف الحكم؟ ظاهر عبارة الرضي أن حذف ألف ما الاستفهامية المجرورة غالب لا لازم، وهو ما صرح به الزمخشري في موضع في تفسيره، وعبارة ابن هشام في المغني صريحة في أن حذف هذه الألف واجب؛ وذكرها شاذ، وصرح بمثل هذا جار الله الزمخشري في موضع آخر من تفسيره، وذكر اللبلي في شرح أدب الكاتب أن الخوف خاص بما إذا كان الجار حرفًا، وذكر ابن قتيبة أن الحذف خاص بما إذا ذكر مع ما لفظ شئت -نحو سل عم شئت- والمعوّل عليه من هذا الكلام أن حذف الألف من "ما" الاستفهامية أكثر من ذكرها متى كانت مجرورة المحل، سواء أكان الجار حرفًا أم اسمًا، وقد ورد ذكرها في جملة من الأبيات، منها قول حسان بن ثابت الأنصاري:
على ما قام بشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد؟
ومن ذلك قول كعب بن مالك الأنصاري:
إما قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء ففيما يكثر القيل؟
وقرئ به في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} وأما إسكان الميم فهو حذف لفتحتها، إجراء للوصل مجرى الوقف، ونظيره قول ابن مقبل:
أأخطل لم ذكرت نساء قيس ... فما روعن عنك ولا سبينا
وقد ذهب الفراء إلى أن "كم" مركبة من الكاف الجارة و "ما" الاستفهامية، وقد حذفت ألف "ما" لدخول الجار عليها، وسكن آخرها إجراء للوصل مجرى الوقف كما فعل ابن مقبل في قوله "لم ذكرت" وكما فعل صاحب البيت المستشهد به في قوله "لم أسلمتني".

(1/172)


إذا جاز حذف الألف والهمزة لكثرة الاستعمال فلأن يجوز حذف الهمزة كان ذلك من طرق الأولى.
وقالوا: ولا يجوز أن يقال "إنه لو كان أصلها لا أنْ؛ لما جاز أن يقال: أما زيدًا فلن أضرب؛ لأن ما بعد أنْ لا يجوز أن يعمل فيما قبلها"؛ لأنا نقول: إنما جاز ذلك لأن الحروف إذا ركبت تغير حكمها بعد التركيب عما كان عليه قبل التركيب، ألا ترى أن "هل" لا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، وإذا ركبت مع "لا" ودخَلَها معنى التحضيص تغير ذلك الحكم عما كان عليه قبل التركيب؛ فجاز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، فيقال "زيدًا هلَّا ضربت"؟ فكذلك ههنا.
والذي يدل على أن أصلها إنَّ على ما بيَّنَّا أنه يجوز العطف على موضعها كما يجوز العطف على موضع إنَّ؛ فدلّ على أن الأصل فيها إنَّ زيدت عليها لا والكاف؛ فكما يجوز دخول اللام في خبر إنَّ؛ فكذلك يجوز دخولها في خبر لكن.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه لا يخلو إما أن تكون هذه اللام لام التأكيد أو لام القسم، على اختلاف المذهبين، وعلى كلا المذهبين فلا يستقيم دخول اللام في خبر لكن، وذلك لأنها إن كانت لام التأكيد فلام التأكيد إنما حسنت مع إنَّ لاتفاقهما في المعنى؛ لأن كل واحدة منهما للتأكيد وأما لكنَّ فمخالفة لها في المعنى، وإن كانت لام القسم فإنما حسنت مع إنَّ لأن إنَّ تقع في جواب القسم، كما أن اللام تقع في جواب القسم، وأما لكن فمخالفة لها في ذلك؛ لأنها لا تقع في جواب القسم؛ فينبغي أن لا تدخل اللام في خبرها.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قوله:
[129]
ولكنني من حبها لكميد
فهو شاذ لا يؤخذ به لقلّته وشذوذه، ولهذا لا يكاد يعرف له نظير في كلام العرب1 وأشعارهم، ولو كان قياسًا مطردًا لكان ينبغي أن يكثر في كلامهم وأشعارهم، كما جاء في خبر إنَّ، وفي عدم ذلك دليل على أنه شاذ لا يقاس عليه.
وأما قولهم "إن الأصل في لكنَّ إنَّ زيدت عليها لا والكاف فصارتا حرفًا واحدًا" قلنا: لا نسلم؛ فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى.
قولهم "كما زيدت اللام والهاء في قوله:
[130]
لَهِنَّكِ من عبسية لَوَسِيمَهٌ
__________
1 بل لا يعرف أوله ولا قائله.

(1/173)


قلنا: ولا نسلم أن الهاء في قوله "لهنك" زائدة، وإنما هي مبدلة من ألف إنَّ؛ فإن الهاء تبدل من الهمزة في مواضع كثيرة من كلامهم، يقال: هَرَقْتُ الماء، والأصل فيه أرقت، وهَرَحْتُ الدابة، والأصل فيه أرحت، وَهَنَرْتُ الثوب، والأصل فيه أنرت، وهِبْرِيَة، والأصل فيه أبرية وهو الحَزَاز في الرأس، وهَرَدْتُ والأصل أردتُ، وهِيَّاكَ، والأصل إياك، وقد قرأ بعض القراء: "هِيَّاكَ نعبد" وقال الشاعر:
[132]
فَهِيّاكَ والأمر الذي إن توسَّعت ... مواردة ضاقت عليك المصادر
وقال الأخر:
[133]
يا خَالِ هلَّا قُلْتَ إذا أعطيتني ... هِيَّاكَ هِيَّاكَ وحَنْوَاءَ العُنُقْ
أراد إياك، وقد قال الله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] قيل: أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء، ولهذا قيل في تفسير {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} حافظًا عليه، وقيل: شاهدًا، وقيل: رقيبًا عليه، وقيل: قَفَّانًا عليه، وكل هذه الألفاظ متقاربة في المعنى؛ فدلَّ على أن الهاء في "لهِنَّكِ" مبدلة من همزة، ولهذا المعنى جاز أن يجمع بين اللام وبينها لتغير صورتها، وقد حكي عن أصحابكم فيه وجهان: أحدهما قول الفراء، وهو أن أصله: والله إنك لوسيمة، فحذفت الهمزة من إنَّ، والواو من والله، وإحدى اللامين، فبقي لهنك، والوجه الثاني -وهو قول
__________
[132] هذا البيت أول بيتين رواهما أبو تمام في ديون الحماسة، ولم يعزهما ولا عزاهما أحد شراحه، والبيت الذي بعده هو قوله:
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
وقوله: "إن توسعت موارده" وقع في رواية المرزوقي "ص1152""إن توسعت مداخله" والاستشهاد بالبيت في قوله "فهياك" فإن أصل هذا اللفظ "فإياك" فأبدل من الهمزة هاء، ونظيره قول الآخر. وأنشده ابن منظور "أيا":
فانصرفت وهي حصان مغضبه ... ورفت بصوتها هيا أبه
أراد أن يقول "أيا أبه" "وأيا" و "هيا" كلاهما حرف نداء، إلا أن "أيا" أكثر استعمالا من "هيا" فيدل كثرة استعمال "أيا" على أنها الأصل.
[133] هذا بيت من الرجز، وقد أنشده ابن منظور "ح ن و" عن اللحياني عن الكسائي، والحنواء -ومثلها الحانية- من الغنم: التي تلوي عنقها لغير علة، وكذلك هي من الإبل، وقد يكون ذلك عن علة، والاستشهاد بالبيت في قوله "هياك هياك" وأصله "إياك إياك" فأبدل من الهمزة هاء، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق، ونظيره قول الآخر وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 18":
فأصاخ يرجو أن يكون حيا ... ويقول من فرح: هيا ربا

(1/174)


المفضل بن سلمة إن أصله لله إنَّك لَوَسِيمة، فحذفت لامان من لله، والهمزة من إن، فبقى "لهنك" فسقط الاحتجاج به على كلا المذهبين.
وأما قولهم "إن الحرف قد يوصل في أوله نحو هذا" قلنا: هذا إنما جاء قليلًا على خلاف الأصل لدليل دلّ عليه؛ فبقينا فيما عداه على الأصل، ولا يدخل هذا في القياس فيقاس عليه.
وأما قولهم "إن كم مَالُكَ أصلها ما زيدت عليها الكاف" قلنا: لا نسلم، بل هذا شيء تَدَّعُونه على أصلكم، وسنبين فساده في موضعه إن شاء الله تعالى:
وأما قولهم "إن لن أصلها لا أنْ" قلنا: لا نسلّم، بل هو حرف غير مركب، وقد نص سيبويه على ذلك، والذي يدل على أنه غير مركب من لا "وأن" أنه يجوز أنْ يقال: أما زيدًا فَلَنْ أضرب، ولو كان كما زعموا لما جاء 1 ذلك؛ لأن ما بعد أن لا يجوز أنْ يعمل فيما قبلها.
قولهم "إن الحروف إذا رُكبت تغيرَ حكمها عما كانت عليه قبل التركيب كَهْلًا" قلنا: إنما تغير حكم هَلّا لأَنَّ هَلّا ذهب منها معنى الاستفهام؛ فجاز أن يتغير حكمها، وأما لن فمعنى النفي باقٍ فيها؛ فينبغي أن لا يتغير حكمها، فَبَانَ الفرق بينهما.
وأما قولهم "إنه يجوز العطف على موضع لكِنَّ كما يجوز العطف على موضع إنَّ؛ فدلَّ على أن الأصل فيها إنَّ" قلنا: لا نسلم أنه إنما جاز العطف على موضع لكن لأن أصلها إن، وإنما جاز ذلك لأن لكن لا تغير معنى الابتداء؛ لأن معناها الاستدراك، والاستدراك لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف؛ فجاز أن يعطف على موضعها كإنَّ؛ لأن إنَّ إنما جاز أن يعطف على موضعها دون سائر أخواتها لأنها لم تغير معنى الابتداء، بخلاف كأن وليت ولعل؛ لأن كأن أَدْخَلَتْ في الكلام معنى التشبيه، وليت أدخلت في الكلام معنى التمني، ولعل أدخلت في الكلام معنى الترجِّي، فتغير معنى الابتداء، فلم يجز العطف على موضع الابتداء لزواله، فأما لكن لما كان معناها الاستدارك وهو لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف جاز العطف على موضعها كإنَّ، على أنه من النحويين من يذهب إلى زوال معنى الابتداء مع لكن فلا يجوز العطف على موضعها.
والذي يدل على أن لكن مخالفة لإنَّ في دخول اللام معها أنه لم يأتِ في كلامهم دخولُ اللام على اسمها إذا كان خبرُها ظرفًا أو حرف جر نحو "لكنَّ عندك
__________
1 ربما كان أصل العبارة "لما جاز ذلك".

(1/175)


لزيدًا، أول لكنَّ في الدار لعمرًا" كما جاء ذلك في إنَّ، فلما لم يأتِ ذلك في شيء من كلامهم ولا نُقِلَ في شيء من أشعارهم دلّ أنه يجوز دخول اللام في خبرها؛ لأن مجيئه في اسمها مقدم في الرتبة على مجيئته في خبرها، وإذا لم تدخل اللام في اسمها فإنْ لا تدخل في خبرها كان ذلك من طريق الأولى.
وبيانُ هذا وهو أن الأصل في هذه اللام أن تكون متقدمة في صدر الكلام؛ فكان ينبغي أن تكون مُقَدَّمة على إنَّ، إلا أنه لما كانت "اللام" للتأكيد وإن للتأكيد لم يجمعوا بين حرفي تأكيد؛ فكان الأصل يقتضي أن تنقل عن صدر الكلام وتدخل الاسم؛ لأنه أقرب إليه من الخبر، إلا أنه لما كان الاسم يلي إنَّ كرهوا أن يدخلوها على الاسم كراهيةً للجمع بين حَرْفَيْ تأكيد، فنقلوها من الاسم وأدخلوها على الخبر.
والذي يدل على أن الأصل فيها أن تكون مقدمة على إنَّ أنها لام الابتداء، ولام الابتداء لها صدر الكلام.
والذي يدل على أن الأصل فيها أن تدخل على الاسم قبل الخبر أنه إذا فصل بين إنَّ واسمها بظرف أو حرف جر جاز دخولها عليه، نحو "إن عندك لزيدًا، وإنَّ في الدار لعمرًا" قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيةً} [البقرة: 248] .
فإذا ثبت أن هذا هو الأصل، وأنه لا يجوز دخول اللام على اسم "لكن" إذا كان خبرها ظرفًا أو حرف جر؛ دلّ على أنه لا يجوز أن تدخل على خبرها؛ لأنه لو كان دخول اللام مع لكن كدخولها مع إن لجاز أن تدخل على اسمها إذا كان خبرها ظرفًا أو حرف جر، كما تدخل عليه خبرها؛ فلما لم يجزْ ذلك دلّ على فساد ما ذهبوا إليه، والله أعلم.

(1/176)


26- مسألة: [القول في لام "لعل" الأولى؛ زائدة هي أو أصلية؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن اللام الأولى في "لعل" أصلية، وذهب البصريون إلى أنها زائدة.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن اللام أصلية لأن "لعل" حرف، وحروف الحروف كلها أصلية؛ لأن حروف الزيادة التي هي الهمزة والألف والياء والواو والميم والتاء والنون والسين والهاء واللام والتي يجمعها قولك "اليوم تنساه" و "لا أنسيتموه" و "سألتمونيها" إنما تختص بالأسماء والأفعال، فأما الحروف فلا يدخلها شيء من هذه الحروف على سبيل الزيادة، بل يحكم على حروفها كلها بأنها أصلية في كل مكان على كل حال، ألا ترى أن الألف لا تكون في الأسماء والأفعال إلا زائدة أو منقلبة، ولا يجوز أن يحكم عليها في ما ولا ويا بأنها زائدة أو منقلبة، بل نحكم عليها بأنها أصلية؛ لأن الحروف لا يدخلها ذلك، فدلَّ على أن اللام أصلية.
والذي يدلّ على ذلك أيضًا أن اللام خاصة لا تكاد تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا شاذًّا، نحو "زَيْدَلٍ، وعَبْدَلٍ، وفَحْجَلٍ" في كلمات معدودة، فإذا كانت اللام لا تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا على طريق الشذوذ فكيف يحكم بزيادتها فيما لا يجوز فيه الزيادة بحال؟
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها زائدة لأنّا وجدناهم يستعملونها كثيرًا في كلامهم عاريةً عن اللام، قال نافع بن سعد الطائي:
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرحنا على شرح الأشموني "3/ 188 ش522" وشرح التصريح للشيخ خالد "2/ 3" ولسان العرب "ع ل ل - ل ع ل" وشرح المفصل لابن يعيش "ص1142" وشرح الرضي على الكافية "2/ 335" وخزانة الأدب للبغدادي "في شرح الشواهد 876 و 877 و 878" "ج4/ 368-378".

(1/177)


[134]
وَلَسْتُ بِلَوَّامِ عَلَى الأمر بَعْدَ مَا ... يَفُوتُ، ولكِنْ عَلَّ أَنْ أَتَقَدّمَا
أراد لعل، وقال العُجَيْز السَّلُولي:
[135]
لك الخير عَلِّلْنَا بها، عَلَّ سَاعَةً ... تمر، وسهواءً مِنَ اللّيلِ يَذْهَبُ
وقال الآخر:
[136]
عَلَّ صُرُوفَ الدّهر أو دُولَاتِهَا ... تُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِنَ لَمّاتها
__________
[134] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل ع ل" عن ابن بري، ونسبه لنافع بن سعد الغنوي، واستشهد به موفق الدين بن يعيش "ص1142" ولم يعزه، والاستشهاد به في قوله "عل" حيث جاء بهذا الحرف ساقط اللام الأولى التي في "لعل" وقد ذكر المؤلف -نقلًا عن البصريين- أن سقوط اللام في هذا البيت ونحوه يدل على أن هذه اللام زائدة في لعل، وأن الأصل هو "عل" ولا يتم هذا الكلام لهم؛ لأن الحروف بأنواعها ليست محلًّا للتصريف بالحذف والزيادة أو غيرهما، ولأنه يجوز أن يكون الأمر على عكس ما ذهبوا إليه، وأن الأصل هو لعل فحذفت لامها الأولى في عل، ويجوز أن يكون كل واحد منهما أصلًا برأسه، ولأن العرب قد تلعبت في لعل كثيرًا، فقد أبدلوا من عينها غينًا فقالوا: لغن، وأبدلوا عينها همزة ولامها الأخيرة نونًا فقالوا: لأن، وأبدلوا اللام الأخيرة نونًا مع حذف اللام الأولى فقالوا: عن، وزادوا على ذلك فأبدلوا العين همزة فقالوا: أن، فلم يبقَ من حروفها الأصلية شيء، وهذه كلها لغات من لغات العرب، وليست إحداهن بأن تكون أصلًا أولى من غيرها.
[135] نسب المؤلف هذا البيت للعجيز السلولي، والسهواء -بفتح السين، ممدودًا- ساعة من الليل وصدر منه، قاله ابن منظور، والاستشهاد بالبيت في قوله "عل" وهو نظير ما ذكرناه في البيت السابق.
[136] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن جني في الخصائص "1/ 316" وابن منظور "ع ل ل" ولم يعزهما، وأنشدهما في "ل م م" ونسب الإنشاد للفراء وزاد بعدهما:
فتستريح النفس من زفراتها
والاستشهاد هنا في قوله "عل" فقد جاء به المؤلف لمثل ما جاء بالبيتين السابقين من أجله شاهدًا لمجيء عل ساقطة اللام الأولى مدعيًا أن ذلك يدل على أن أصل لعل هو عل، وقد بينا ما في ذلك في شرح الشاهد 134، والعجب العاجب ما حكاه ابن منظور عن الكسائي أنه يروي قول الراجز "عل صروف الدهر" بجر صروف، ويخرجه على أن العين واللام الأولى أصلهما "لعا" وهي الكلمة التي تقال للعاثر دعاء له بأن ينتعش، حذفت اللام الأولى، فصار "عا" فأبدل من التنوين لامًا فصار "عل" بفتح العين وسكون اللام، واللام الثانية هي لام الجر، وكأن الراجز قد قال "لعا لصروف الدهر" وهو كلام يشبه الأحاجي. وهاك كلام ابن منظور: "قال الكسائي: العرب تصير لعل مكان لعا، وتجعل لعا مكان لعل، وقال في قوله:
عل صروف الدهر أو دولاتها

(1/178)


وقال الآخر:
[137]
ولا تُهِينَ الفَقِير؛ عَلَّكَ أَنْ ... تركع يومًا والدهر قد رَفَعَهْ
__________
= معناه: عا لصروف الدهر، فأسقط اللام من لعا لصروف الدهر، وصير نون لعا لامًا لقرب مخرج النون من اللام، هذا على قول من كسر صروف، ومن نصبها جعل عل بمعنى لعل، فنصب صروف الدهر، ومعنى لعا لك أي ارتفاعًا، قال ابن رومان: وسمعت الفراء ينشد عل صروف الدهر "أي بالجر" فسألته: لم تكسر على صروف؟ فقال: إنما معناه لعا لصروف الدهر ودولاتها، فانخفضت صروف باللام، والدهر بإضافة الصروف إليها، أراد: أو لعا لدولاتها ليدلننا من هذا التفرق الذي نحن فيه اجتماعًا ولمة من اللمات. قال: دعا لصروف الدهر ولدولاتها؛ لأن لعا معناه ارتفاعًا وتخلصًا من المكروه، وألقى اللام وهو يريدها، كقوله:
لئن ذهبت إلى الحجاج يقتلني
أراد ليقتلني" ا. هـ. وهو كما ترى.
[137] هذا البيت من كلمة للأضبط بن قريع، وقد رواها أبو عليّ القالي في أماليه، وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 257" والأشموني "رقم 968" وأوضح المسالك "رقم 476" وشرح المفصل "ص1242" وشرح الكافية في باب نوني التوكيد، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 588 بولاق" والاستشهاد به ههنا في قوله "علك أن تركع" حيث أسقط اللام الأولى من لعل، على نحو ما بيَّنَّاه في الشواهد السابقة، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضًا بقوله "لا تهين الفقير" فإن أصله عندهم: لا تهينن الفقير، بنون توكيد خفيفة، فحذف هذه النون الخفيفة تخلصًا من التقاء الساكنين اللذين هما نون التوكيد، ولام التعريف في "الفقير" والعرب تحذف نون التوكيد الخفيفة الساكنة وهي تريدها، فتبقى الكلمة على ما كانت عليه والنون متصلة بها، سواء أكان بعدها ساكن أم لم يكن، ولذلك نظائر كثيرة في كلام العرب، منها قول الشاعر، وأنشده أبو زيد في نوادره:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
فإنه أراد أن يقول: أضربن عنك الهموم، فحذف النون تخفيفًا, وإن لم يكن بعدها ساكن، ومثله ما أنشده الجاحظ في البيان:
خلافًا لقولي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف تذكرا
فقد أراد أن يقول: خالفن تذكر، فحذف نون التوكيد من "خالفن" وإن كان بعدها متحرك، وأبقى الفتحة على الفاء لتدل على النون، ومثله ما أنشده أبو عليّ الفارسي:
إن ابن أحوص مغرور فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلا قصر
فقد أراد أن يقول "فبلغنه" فحذف نون التوكيد للتخفيف وهو يريدها، بدليل أنه أبقى الفتحة، ومثله قول الآخر:
يا راكبًا بلغ إخواننا ... من كان من كندة أو وائل
أراد أن يقول "بلغن أخواننا" فحذف نون التوكيد لقصد التخفيف وهو يريدها؛ بدليل إبقائه الفتحة على الغين، وليس سبب الحذف هو قصد التخلص من التقاء الساكنين لأن ما بعد =

(1/179)


وقال الآخر:
[138]
يا أَبَتَا علَّكَ أو عَسَاكَا
وقالت أمُّ النُّحَيْفِ وهو سعد بن قُرْطٍ:
[139]
تربَّص بها الأيامَ علَّ صُرُوفَها ... سَتَرْمِي بها في جَاحِمٍ مُتَسَعِّر
__________
= الغين متحرك كما ترى، ونظيره أيضًا ما أنشده أبو زيد:
في أي يومي من الموت أفر ... في يوم لم يقدر أم يوم قدر
فقد أراد أن يقول: في يوم لم يقدرن -بتوكيد الفعل المضارع المبني للمجهول المنفي بلم- لكنه حذف نون التوكيد الخفيفة وهو يريدها، ولولا ذلك لسكن "يقدر" لكونه مسبوقًا بلم. وفي هذا القدر كفاية.
[138] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 388" ونسبه إلى رؤبة، وكذلك نسبه الأعلم الشنتمري، ولكنه لا يوجد في ديوانه. وهو من شواهد شرح المفصل "ص1142" والأشموني "رقم 252" ومغني اللبيب "رقم 248" وشرح رضي الدين على الكافية في باب الضمير، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 441" وابن جني في الخصائص "2/ 96" والاستشهاد به ههنا في قوله "علك" حيث أسقط اللام الأولى من لعل، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضًا بقوله "عساكا" ولهم في ذلك ثلاثة آراء:
أولهما: مذهب أبي العباس الْمُبَرِّد وأبي عليّ الفارسي، وتلخيصه أن "عسى" ههنا هي عسى الدالة على رجاء الخبر الرافعة للاسم الناصبة لخبر، وهي فعل ماضٍ، والضمير المتصل بها باقٍ على أصله من كونه ضمير نصب، لكن هذا الضمير هو خبر عسى فهو مبنيّ على الفتح في محلّ نصب، واسمها محذوف أو هو ما يذكر بعد الضمير في بعض التراكيب نحو قولك "عساك أن تزورنا" فالاسم هو الصدر المنسبك من أن المصدرية ومدخولها. والمذهب الثاني: مذهب يونس بن حبيب وأبي الحسن الأخفش، وتلخيصه أن الضمير المتصل بعسى هو اسمها، وهي عاملة الرفع والنصب، وهذا الضمير في هذا الموضع ضمير رفع لا ضمير نصب، والمذهب الثالث: مذهب شيخ النحاة سيبويه ومن تابعه، وتلخيصه أن عسى في هذا البيت ونحوه ليست هي عسى التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، بل هي ههنا حرف ترج ونصب مثل لعل، والضمير المتصل بها في محلّ نصب اسمها، وخبرها محذوف، أي عساك تبقى، مثلًا. وقد أشبعنا القول في هذه المسألة في شرحنا على الأشموني.
[139] قد نسب المؤلف هذا البيت لأم النحيف، وتربص: ارتقب وانتظر، والجاحم: الشديد الاشتعال، يقولون: جمر جاحم، ونار جاحمة، ومتسعر: ملتهب متوقد. والاستشهاد من هذا البيت في هذا الموضع بقوله "عل صروفها" حيث أسقط اللام الأولى من لعل، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.
ونظير هذه الشواهد التي أثرها المؤلف ما أنشده موفق الدين بن يعيش "1142":
عل الهوى من بعيد أن يقربه ... أم النجوم ومن القوم بالعيس
وما أنشده ابن منظور ونسبه لمجنون بني عامر:
يقول أناس: علّ مجنون عامر ... يروم سلوا، قلت: إني لما بيا

(1/180)


أراد لعل. فلما وجدناهم يستعملونها عاريةً عن اللام في معنى إثباتها دلّنا ذلك على أنها زائدة، ألا ترى أنا حكمنا بأن اللام في "زيدل، وعبدل، وأولالك" وما أشبه ذلك زائدة لأنا نقول في معناه "زيد، وعبد، وأولاك" وحكمنا بأن الهمزة في "النِّئْدُلَان" وهو الكابوس زائدة لأنا نقول في معناه "النيدلان" من غير همز، وكذلك بأن النون في "عَرَنْتَنٍ" زائدة لأنا نقول في معناه "عَرْتن" بغير النون الأولى، إلى غير ذلك من الشواهد؛ فكذلك ههنا.
والذي يدل على أنها زائدة أن هذه الأحرف، نعني إنَّ وأخواتها إنما عملت النصب والرفع لشبه الفعل؛ لأن أنّ مثل مَدّ، وليت مثل ليس، ولكن أصلها كِنَّ ركبت معها لا كما ركبت لو مع لا فقيل: لكنّ، وكأن أصلها أنَّ أدخلت عليها كاف التشبيه، فكذلك لعل أصلها علّ وزيدت عليها اللام؛ إذ لو قلنا إن اللام أصلية في لعل لأدَّى ذلك إلى أن لا تكون لعلَّ على وزن من أوزان الأفعال الثلاثية أو الرباعية؛ لأن الثلاثية على ثلاثة أضرب: فَعَلَ كضَرَبَ، وفَعُلَ كمَكُثَ، وفَعِلَ كعَلِمَ، وأما الرباعية فليس لها إلا وزن واحد، وهو فَعْلَلَ نحو دَحْرَجَ وسَرْهَفَ، فكان يؤدّي إلى أن يبطل عملها فوجب أن يحكم بزيادتها؛ لتكون على وزن الفعل كسائر أخواتها، فصارت بمنزلة زيادة لا والكاف في لكنَّ عندكم، فإنه إذا جاز أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكن وهما حرفان وأحدهما ليس من حروف الزيادة فلأن يجوز أن يحكم ههنا بزيادة اللام وهي حرف من حروف الزيادة كان ذلك طريق الأولى.
والصحيح في هذه المسألة ما ذهب إليه الكوفيون.
وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم "إنا وجدناهم يستعملونها كثيرًا في كلامهم بغير لام؛ بدليل ما أنشدوه من الأبيات" قلنا: إنما حذفت اللام من "لعل" كثيرًا في أشعارهم لكثرتها في استعمالهم، ولهذا 98 تلعبت العرب بهذه الكلمة، فقالوا: لعلَّ، ولَعَلْنَ، ولَعَنَّ -بالعين غير معجمة- قال الشاعر:
[140]
حتى يقول الجاهل المُنَطَّقُ ... لَعَنَّ هذا معه مُعَلَّقُ
__________
[140] نقل البغدادي في الخزانة "4/ 368" تلخيص هذه المسألة عن كتاب الإنصاف، وقد ورد ذكر هذا البيت عنده محرفًا، والمنطق -بزنة المعظم- لابس المنطقة، والمنطقة والمنطق والنطاق: كل شيء شدّ الرجل به وسطه، والمعلق -بزنة المعظم أيضًا- لعله أراد به التعويذة، وفي الحديث "من تعلق شيئًا وكل إليه" ومعناه: من علَّق على نفسه شيئًا من التعاويذ والتمائم وأشباهها معتقدًا أنها تجلب إليه نفعًا أو تدفع عنه ضرًّا لم ينظر الله إليه. والاستشهاد بالبيت في قوله "لعن" فإن هذه لغة من لغات العرب في "لعل" أبدلوا لامها الأخيرة المشددة نونًا، لكثرة ما تلعبوا بهذه الكلمة.

(1/181)


ولَغَنَّ -بالغين معجمة- وأنشدوا:
[141]
أَلَا يا صاحبي قِفَا لَغَنَّا ... نرى العَرَصَات أو أثرَ الخِيَامِ
ورَعَنَّ، وَعَنَّ، وَغَنَّ، ولَغَلَّ، وغَلَّ، فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالهم حذفوا اللام لكثرة الاستعمال. وكان حَذْفُ اللام أولى من العين -وإن كان أبعد من الطَّرَفِ- لأنه لو حذف العين لأدَّى ذلك إلى اجتماع ثلاث لامات فيؤدّي ذلك إلى الاستثقال؛ لأجل اجتماع الأمثال، أو لأن اللام تكون في موضع ما من حروف الزيادة وليس العين كذلك، والذي يدل على اعتبار ذلك أنهم جوَّزوا في تكسير فَرَزْدَقٍ وتصغيره فَرَازِقَ وفُرَيْزِقَ -بحذف الدال- ولم يجوِّزوا في تكسير جَحْمَرِش وتصغيره: جَحَامِشَ وجُحَيْمِشَ -بحذف الراء- لأن الدال تشبه حروف الزيادة لمجاورتها التاء ومجيئها بدلًا منها في مُزْدَان ومُزْدَجر، بخلاف الراء فإنها ليست كذلك، وإذا اعتبروا ذلك فيما يقرب من حروف الزيادة وليس منها فلأن يعتبروه فيما هو من حروف الزيادة في الجملة كان ذلك من طريق الأولى؛ فلهذا كان حذف اللام الأولى أولى.
وأما قولهم "إنا لما وجدناهم يستعملونها مع حذف اللام في معنى إثباتها دلَّ على أنها زائدة كاللَّام في زيدل وعبدل وأولالك" قلنا: إنما يعتبر هذا فيما يجوز أن تدخل فيه حروف الزيادة، فأما الحروف فلا يجوز أن تدخل عليها حروف الزيادة على ما بينا.
وأما قولهم "إن هذه الأحرف إنما عملت لشبه الفعل في لفظه" قلنا: لا نسلم أنها عملت لشبه الفعل في لفظه فقط، وإنما عملت لأنها أشبهته في اللفظ والمعنى، وذلك من عدة وجوه؛ أحدها: أنها تقضي الاسم كما أن الفعل يقتضي
__________
[141] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل غ ن" ونسبه للفرزدق، إلا أنه روى صدره هكذا:
قفا يا صاحبي بنا لغنا
والبيت مطلع قصيدة للفرزدق يمدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان، وهي ثابتة في ديوانه "835" وفي النقائض "ص1004 ط ليدن" ولكن رواية البيت فيهما هكذا:
ألستم عائجين بنا لعنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام
وعائجين: عاطفين ومائلين، والعرصات: جمع عرصة، وهي وسط الدار، ويقال لها أيضًا: ساحة، وباحة، وبالة، والخيام: جمع خيمة، وهي بيت من خشب يظلّل بالثمام في المرتبع لأنها أبرد ظلالًا من الأبنية، والاستشهاد بالبيت في قوله "لغنا" فإنها لغة في "لعلنا" وقد وقت هذه الكلمة في لسان العرب بالغين المعجمة، وفي النقائض بالعين المهملة، والخطب في ذلك سهل؛ لأن الوجهين صحيحان، وكل واحد منهما لغة.

(1/182)


الاسم، والثاني أن فيها معنى الفعل لأن أن وإن بمعنى أكدت، وكأن بمعنى شبهت، ولكن بمعنى استدركت، وليت بمعنى تمنيت، ولعل بمعنى ترجيت، "والثالث" أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي مبني 99 على الفتح، إلي غير ذلك من الوجوه التي تقدم ذكرها قبلُ، وهذه الوجوه من المشابهة بين لعل والفعل لا تَبْطُل بأن لا تكون على وَزْنٍ من أوزانه، وهي كافية في إثبات عملها بحكم المشابهة، على أنه قد ظهر نَقْصُها عن سائر أخواتها لعدم كونها على وزنٍ من أوزان الفعل وأنه لا يجوز أن تدخل عليها نون الوقاية كما يجوز في سائر أخواتها، فلا يكاد يقال"لَعَلَّنِي" كما يقال "إِنَّنِي، وكأنَّنِي، ولكنَّنِي، ولَيْتَنِي" إلا أن يجيء ذلك قليلًا كما قال عروة بن الوَرْدِ:
[142]
دَعِينِي أطوفْ في البلاد لَعَلَّنِي ... أُفِيد غِنًى فيه لذي الحَقِّ مَحْملُ
وذلك قليل.
وأما قولهم "إذا جاز لكم أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكنَّ وهما حرفان فَلأنْ يجوز أن يحكم بزيادة اللام وهي حرف واحد كان ذلك من طريق الأولى" قلنا: هذا فاسد؛ لأنكم لا تقولون بصحة مذهبهم، فكيف يجوز لكم أن تقيسوا عليه؟ فإن القياس على الفاسد فاسد، وقد بيَّنَّا فساد ما ذهبوا إليه في زيادة لا والكاف هناك كما بيَّنَّا فساد زيادة اللام ههنا، وكلاهما قول باطل، ليس له حاصل، والله أعلم.
__________
[142] البيت -كما قال المؤلف- لعروة بن الورد، المعروف بعروة الصعاليك. وقوله "دعيني" معناه اتركيني، ويروى "ذرينني" وهو بمعناه، وقوله "أطوف" أي أكثر الطواف والجولان، ويروى في مكانه "أسير" بتشديد الياء ومعناه أكثر السير، والاستشهاد بالبيت في قوله "لعلني" حيث وصل نون الوقاية بلعل حين أراد أن يعملها في ياء المتكلم، وقد زعم المصنف أن ذلك قليل، وأن الكثير "لعلي" بترك النون، وقد وردت عدة أبيات كبيت الشاهد، من ذلك قول حاتم الطائي، وأنشده ابن منظور "ع ل ل":
أريني جوادًا مات هزلًا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلًا مخلدًا
ومن ذلك قول الآخر، وهو من شواهد الأشموني "رقم 59" وابن عقيل "رقم 19" وابن الناظم في باب الضمير:
فقلت: أعيراني القدوم لعلني ... أخط بها قبرًا لأبيض ماجد
نعم حذف النون أعرف وأشهر، وبه وحده ورد في القرآن الكريم، نحو قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} [غافر: 36] وقوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: من الآية100] وقوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [طه: من الآية10] وقوله: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: من الآية 38] .

(1/183)