الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 27- مسألة: [القول في تقديم معمول اسم
الفعل عليه] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "عليك، ودونك، وعندك" في الإغراء يجوز تقديم
معمولاتها عليها، نحو "زيدًا عليك، عمرًا عندك، وبكرًا دونك". وذهب
البصريون إلى أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها، وإليه ذهب الفراء من
الكوفيين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز تقديم معمولاتها
عليها النقل والقياس.
أما النقل فقد قال الله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:
24] والتقدير فيه: عليكم كتاب الله: أي الزموا كتاب الله، فنصب كتاب
الله بعليكم، فدَّل على جواز تقديمه. واحتجوا أيضًا بالأبيات المشهورة:
[143]
يا أيها المائح دَلْوِي دُونَكُمَا ... إني رأيت الناس يَحْمِدُونَكَا
__________
[143] هذا الشاهد قد أنشده رضي الدين في باب أسماء الأفعال، وشرحه
البغدادي في الخزانة "2/ 15" وأنشده ابن يعيش "ص144" وأنشده ابن هشام
في مغني اللبيب "رقم 859" وفي أوضح المسالك "رقم 464" وأنشده الأشموني
"رقم 938" وهو من كلام راجز جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، ونسبه
الشيخ خالد لجارية من مازن، والصواب ما قدمناه وأن الجارية روته وليس
لها. والمائح -بالهمزة- هو الرجل يكون في جوف البئر يملأ الدلاء، فإن
كان وقوفه على شفير البئر ينزع الدلاء ويجذبها فهو ماتح -بالتاء-
ودونكا: معناه خذ، والاستشهاد في قوله دلوي دونكا" فإن ظاهره أن "دلوي"
مفعول به مقدم لدونك، وبهذا الظاهر أخذ الكسائي وجماعة من الكوفيين
وبَنَوْا على قاعدة حاصلها أنه يجوز تقديم معمول اسم الفعل عليه، حملًا
على الفعل؛ لأن اسم الفعل إنما عمل لكونه تضمن معنى الفعل، والفعل يجوز
تقديم معموله عليه، ومن تمام حمل اسم الفعل على الفعل أن يجوز في اسم
الفعل ما جاز في الفعل خصوصًا أنه قد ورد عن العرب في مثل =
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 252 بولاق"
وحاشية الصبان على الأشموني "3/ 177 بولاق" وشرح رضي الدين على الكافية
"2/ 64".
(1/184)
يُثْنُونَ خيرًا ويُمَجِّدُونَكَا
والتقدير فيه: دونك دلوي؛ فدلوي في موضع نصب بدونك؛ فدل على جواز
تقديمه.
وأما القياس فقالوا: أجمعنا على أن هذه الألفاظ قامت مقام الفعل، ألا
ترى أنك إذا قلت "عليك زيدًا" أي الزم زيدًا، وإذا قلت "عندك عمرا" أن
تناول عمرا، وإذا قلت "دونك بكرا" أي خذ بكرًا، ولو قلت "زيدًا الزم،
وعمرًا تناول، وبكرًا خذ" فقدمت المفعول لكان جائزًا، فكذلك مع ما قام
مقامه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجوز تقديم
معمولاتها عليها أن هذه الألفاظ فرعٌ على الفعل في العمل؛ لأنها إنما
عملت عمله لقيامها مقامه؛ فينبغي أن لا تتصرف تصرفَهُ؛ فوجب أن لا يجوز
تقديم معمولاتها عليها وصار هذا كما نقول في الحال إذا كان العامل فيها
غير فعل؛ فإنه لا يجوز تقديمها عليه لعدم تصرفه، فكذلك ههنا؛ إذ لو
قلنا إنه يَتَصَرَّف عملها، ويجوز تقديم معمولاتها عليها لأدَّى ذلك
إلى التسوية بين الفرع والأصل، وذلك لا يجوز؛ لأن الفروع أبدًا تنحط عن
درجات الأصول.
__________
= هذا الشاهد، ولم يرتضِ البصريون هذا، وقالوا: إن البيت يحتمل وجوهًا
أخرى من الإعراب؛ منها أن يكون "دلوي" مفعولًا به لفعل محذوف يفسره اسم
الفعل، ومنها أن يكون "دلوي" مبتدأ وخبره الجملة من اسم الفعل وفاعله،
والرابط ضمير منصوب بدونك محذوف، والتقدير: دلوي دونكه، كما تقول: دلوي
خذه، ولم يذكر المؤلف هذا التخريج لأنه لا يجيزه، ومنها أن يكون دلوي
خبر مبتدأ محذوف، ثم قالوا: إن البيت الواحد لا تثبت به قاعدة، فليكن
هذا البيت شاذًّا إن لم تقبلوا تأويله.
(1/185)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما
احتجاجهم بقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] فليس
لهم فيه حجة؛ لأن {كِتَابَ اللهِ} ليس منصوبا بعليكم، وإنما هو منصوب
لأنه مصدر، والعامل فيه فعل مقدر، والتقدير فيه: كتب كتابًا اللهُ
عليكم، وإنما قُدِّرَ هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه، كما قال
الشاعر:
[144]
ما إن يَمَسُّ الأرضَ إلا مَنْكِبٌ ... منه، وحرف السَّاقِ، طَيَّ
المِحْمَلِ
فقوله "طي المحمل" منصوب لأنه مصدر، والعامل فيه فعل مُقَدَّر،
والتقدير فيه: طُوِيَ طي المحمل، وإنما قدر ولم يظهر لدليل ما تقدم
عليه من قوله: "ما إن يمس الأرض إلا منكب منه"، فكذلك ههنا: قُدِّرَ
هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالاتُكُمْ} [النساء: من الآية23] فإن فيه دلالة على أن ذلك مكتوب
عليهم؛ فلما قدر هذا الفعل ولم يظهر بقي التقدير فيه: كتابًا اللهُ
عليكم، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل كقوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ
تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِي تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ}
[النمل: من الآية88] فَنَصَبَ
__________
[144] هذا البيت لأبي كبير الهذلي، يقوله في تأبط شرا وكان أبو كبير
زوج أمه يصفه بالضمور، والبيت من شواهد سيبويه "1/ 180" والأشموني "رقم
325" وأوضح المسالك "رقم 251" والبيت من قصيدة لأبي كبير ثابتة في شعر
الهذليين "2/ 88" وقد اختار أبو تمام في أوائل ديوان الحماسة أبياتًا
من هذه القصيدة يقع بيت الشاهد ثامنها، وانظر بعد ذلك خزانة الأدب
للبغدادي "3/ 466 و 4/ 165" و "إن" في قوله "ما إن يمس" زائدة، ومعنى
البيت: ما يمس الأرض منه -إذا نام- إلا جانبه وحرف ساقه، وذلك لأنه
مطوي ضامر غير سمين وهضيم الكشح غير ثقيل؛ فهو لا ينبسط على الأرض ولا
يضع أعضاءه كلها عليها، والاستشهاد بالبيت في قوله "طي المحمل" حيث
نصبه بعامل محذوف يدل عليه سابق الكلام، والمؤلف رحمه الله يقدر هذا
العامل فعلًا، وكأن الشاعر على هذا قد قال: قد طوي هذا الفتي طي
المحمل، وهو تابع في هذا لشيخ النحاة سيبويه وشراح كلامه، قال سيبويه:
"وقد يجوز أن تضمر فعلًا آخر كما أضمرت بعد قولك له صوت، يدلك عليه أنك
لو أظهرت فعلًا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولًا عليه صار بمنزلة له
صوت، وذلك قوله:
ما إن يمس الأرض.... البيت
صار ما إن يمس الأرض بمنزلة له طي؛ لأنه إذا ذكر ذا عرف أنه طيان" ا.
هـ. وقال الأعلم: "الشاهد فيه نصب طي المحمل بإضمار فعل دلّ عليه ما إن
يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق؛ لأن ذلك لانطواء كشحه وضمر بطنه،
فكأنه قال: طوي طيًّا مثل طي المحمل؛ فشبهه في طي كشحه وإرهاف خلقه
بحمالة السيف، وهو المحمل، وزعم أنه إذا اضطجع نائمًا نبا بطنه عن
الأرض، ولم ينلها منه إلا منكبه وحرف ساقه" ا. هـ بحروفه.
(1/186)
{صُنْعَ} على المصدر بفعل مقدر، وإنما قدر
هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم
عليه من الكلام، والتقدير فيه: صَنَعَ صنعًا الله، وحُذِفَ الفعل وأضيف
المصدر إلى الفاعل؛ لأنه يضاف إلى الفاعل كما يضاف إلى المفعول، وقال
الراعي:
[145]
دَأَبْتُ إلى أن يَنْبُتَ الظِّلُّ بَعْدَمَا ... تَقَاصَرَ حتى كَادَ
في الآل يَمْصَحُ
وجِيفَ المَطَايَا، ثم قلتُ لصحبتي ... ولم ينزلوا: أَبْرَدْتُمُ
فَتَرَوَّحُوا
فنصب "وَجيفَ" على المصدر بفعل مُقَدَّر على ما تقدم، وأضاف المصدر إلى
الفاعل، وقال لبيدٌ:
[146]
حتى تهجَّر في الرَّوَاح وهَاجَهَا ... طَلَبَ المُعَقبِ حَقَّهُ
المَظْلُومُ
__________
[145] هذان البيتان من شواهد سيبويه "1/ 91 و192" وقد نسبهما في صدر
الكتاب إلى الراعي، وكذلك نسبهما الأعلم إليه، ودأبت: أراد لزمت السير
وجددت فيه، ومصح الظل: أي ذهب، والوجيف: سرعة السير، قال الأعلم:
"الشاهد فيه نصب وجيف المطايا على المصدر المؤكد لمعنى قوله دأبت؛ لأنه
بمعنى واصلت السير وأوجفت المطي، أي سمتها الوجيف وهو سير سريع، وصف
أنه واصل السير إلى الهاجرة ثم نزل مبردًا بأصحابه ثم راح سائرًا،
ومعنى قوله إلى أن ينبت الظل إلى أن يأخذ في الزيادة بعد زوال الشمس
وينمو، يقال: نبت لفلان مال، إذا نما وزاد، والآل: الشخص، ومعنى يمصح
يذهب، يريد عند قائم الظهيرة، والمطايا: الرواحل؛ لأنها تمطى أي تستعمل
ظهورها، والمطا: الظهر، ومعنى أبردتم: خلتم في برد العشي، وتروحوا:
سيروا رواحًا" ا. هـ كلامه.
[146] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري -كما قال المؤلف- وهو
في وصف حمار وحش وأتنه شبه به ناقته، وقد أنشده الجوهري في الصحاح وابن
منظور في اللسان "ع ق ب" وهو من شواهد الأشموني "رقم 690" وأوضح
المسالك "رقم 369" وابن عقيل "رقم 254" ورضي الدين في باب المصدر،
وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 441" وتهجر: سار في وقت الهاجرة وهي نصف
النهار عند اشتداد الحر، والرواح: الوقت من زوال الشمس إلى الليل،
وهاجها: أزعجها، والضمير المستتر يعود إلى حمار الوحش، والضمير البارز
المتصل يعود إلى الأتن، والمعقب: الذي يطلب حقه مرة عقب مرة ولا يتركه،
والاستشهاد بالبيت في قوله "طلب المعقب" فإن هذا مصدر تشبيهي منصوب على
أنه مفعول مطلق مضاف إلى فاعله، وأصل الكلام: وهاجها طالبا إياها طلبا
غير منقطع مثل طلب المعقب حقه، فأضاف المصدر إلى فاعله ثم جاء بمفعوله
بعد ذلك، بدليل أنه رفع "المظلوم" لكونه نعتا للمعقب، وقد ورد نظير ذلك
في أفصح الكلام، في قول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فدفع مصدر، وقد أضيف إلى فاعله وهو لفظ الجلالة،
ثم أتى بعد ذلك بمفعوله وهو الناس.
ونظير هذا البيت -في إضافة المصدر إلى فاعله والإتيان بعد ذلك بمفعوله-
قول ابن =
(1/187)
كأنه قال: طلبًا المعقبُ حَقَّهُ، ثم أضاف
المصدر إلى المعقب وهو فاعل بدليل أنه قال "المظلوم" بالرفع حملًا
للوصف على الموضع، وإضَافَةُ المصدر إلى الفاعل أكثر من أن تحصى، قال
الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [البقرة: 251] فأضاف
المصدر إلى اسم الله تعالى وهو الفاعل، ونحوه قولهم "ضربي زيدًا
قائمًا، وأكثر شُرْبِي السويقَ ملتُوتًا" وقال الشاعر:
[147]
فلا تُكْثِرَا لَوْمِي، فإن أَخَاكُمَا ... بِذِكْرَاهُ ليلى العامرية
مُولَعُ
فأضاف المصدر إلى الضمير في "ذكراه" وهو فاعل، وقال الآخر:
[148]
أُفَنَى تِلَادِي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبِ ... قَرْعُ القَوَاقِيزِ
أَفْوَاهَ الأَبَارِيقِ
__________
= الإطنابة وفيه ما ذكر ثلاث مرات:
أبت لي عفتي، وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
[147] الذكرى -بكسر الذال المعجمة وسكون الكاف- اسم مصدر بمعنى التذكر،
ويجوز أن يحمل عليه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ومولع: هو الوصف من "أولع فلان بكذا -بالبناء
للمجهول-" إذا لج به وأغرى به، والمصدر الإيلاع، والاسم الولوع -بفتح
الواو- والاستشهاد بهذا البيت ههنا في قوله "بذكراه ليلى العامرية" فإن
الذكرى ههنا اسم مصدر يدل على معنى المصدر ويعمل عمله، وقد أضافه
الشاعر إلى فاعله وهو ضمير الغيبة المتصل العائد على الأخ، ثم أتى بعد
ذلك بمفعول المصدر -وهو قوله ليلى العامرية- ونظيره قول حسان بن ثابت
الأنصاري:
لأن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد
فإن "ثواب" اسم مصدر بمعنى الإثابة ويعمل عمل المصدر، وقد أضافه إلى
فاعله وهو لفظ الجلالة، وأتى بعد ذلك بمفعوله وهو قوله "كل موحد" ومن
يروي "جنانا" بالنصب يجعله مفعولًا ثانيًا ويكون خبر "إن" محذوفًا، أي
لأن ثواب الله كل موحد جنانًا موصوفة بأنها من الفردوس وبأنه يخلد فيها
حاصل؛ ومن رفع "جنان" فهو خبر إن.
[148] هذا البيت من كلام الأقيشر الأسدي، واسمه المغيرة بن عبد الله،
أحد بني عمرو بن أسد، وهو من شواهد الأشموني "رقم 688" وقد أنشده ابن
منظور "ق ق ز" أول ثلاثة أبيات. والتلاد -بزنة الكتاب- كل مال ورثته عن
آبائك، ومثله التالد، والتليد، ويقابله الطارف والطريف، ويقال كل منهما
على ما استحدثته من المال، والنشب -بفتح النون والشين جميعًا- العقار،
أو المال الأصيل من ناطق وصامت، والقرع: الضرب، والقواقيز: جمع قاقوزة،
وهي القدح الذي يشرب فيه، ويروى "القوارير" وهو جمع قارورة، وهي
الزجاجة، ويراد بها هنا الكأس المتخذة من الزجاج، والأباريق: جمع
إبريق، وهو ما كان له عروة، فإن لم يكن له عروة فهو كوز، ومحلّ
الاستشهاد بالبيت قوله "قرع القوافيز أفواه" وهذه العبارة تروى بنصب
"أفواه وبرفعها؛ فمن نصب فقد جعل القرع =
(1/188)
فأضاف المصدر إلى "القوافيز" وهو فاعل فيمن
روى "أَفْوَاهَ" منصوبًا، ومن روى "أَفْوَاهُ" بالرفع جعله مضافًا إلى
المفعول، والشواهد على هذا النحو كثيرة جدًّا.
وأما البيت الذي أنشدوه:
[143]
يا أيها المائح دَلْوِي دُونَكَا
فلا حُجَّةَ لهم فيه من وجهين؛ أحدهما: أن قوله "دلوي" ليس هو في موضع
نصب، وإنما هو في موضع رفع؛ لأنه خبر مبتدأ مقدر1، والتقدير فيه: هذا
دلوى دونكا. والثاني: أنا نسلم2 أنه في موضع نصب، ولكنه لا يكون
منصوبًا بدونك، وإنما هو منصوب بتقدير فعل؛ كأنه قال: خُذْ دَلْوِي
دُونَكَ، و "دونك" مفسر لذلك الفعل المقدر.
وأما قولهم "إنها قامت مقام الفعل فيجوز تقديم معمولها عليها كالفعل"
قلنا: هذا فاسد، وذلك لأن الفعل3 الذي قامت هذه الألفاظ مقامه يستحق في
الأصل أن يعمل النصب، وهو متصرف في نفسه فتصرف عملهُ، وأما هذه الألفاظ
فلا تستحق في الأصل أن تعمل النصب، وإنما أُعْمِلَتْ لقيامها مقام
الفعل، وهي غير متصرفة في نفسها؛ فينبغي أن لا يتصرف عملها؛ فوجب أن لا
يجوز تقديم معمولها عليها، والله أعلم.
__________
= مصدرًا مضافًا إلى فاعله ثم بعد ذلك أتى بمفعوله، ومن رفع فقد جعل
الفرع مصدرًا مضافًا إلى مفعوله ثم أتى بعد ذلك بفاعله، وكل من الوجهين
صحيح من جهة العربية ومن جهة المعنى؛ فقد أضيف المصدر إلى فاعله ثم أتى
بمفعوله كثيرًا كما في الشواهد السابقة وما أثرناه معها، وأضيف إلى
مفعوله ثم أتى بفاعله كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فإن الحج مصدر
مضاف إلى مفعوله الذي هو البيت وقد جيء بعده بفاعله وهو قوله سبحانه من
استطاع.
ومن الأول: -زيادة على ما أثرناه- قول الشاعر، وهو الأشجعي:
وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
وقد جاء في القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ
آبَاءَكُمْ} ومنه قوله سبحانه: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ} ومن شواهد ذلك في اسم المصدر قول القطامي:
أكفرا بعد ردّ الموت عني ... وبعد عَطَائِك المائة الرتاعا
__________
1 ويجوز أن يكون مبتدأ خبره الجملة من اسم الفعل وفاعله المستتر فيه
وجوبًا، لكن المؤلف لا يجيز هذا الوجه، لأن الإخبار بالجملة الإنشائية
لا يصح عنده؛ لذلك لم يذكر هذا الوجه، وقد نبهناك إلى ذلك في شرح
الشاهد.
2 في ر "أنا لا نسلم ... إلخ" ولا يصح مع ما بعده.
3 في ر "الفعل التي" وليس بشيء.
(1/189)
28- مسألة: [القول في أصل الاشتقاق؛ الفعل
هو أو المصد ر؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتقٌّ من الفعل وفرع عليه، نحو "ضرب
ضربًا، وقام قيامًا" وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع
عليه.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنَّ المصدر مشتق من الفعل؛
لأن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتلّ لاعتلاله، ألا ترى أنك تقول "قَاوَمَ
قِوَامًا" فيصح المصدر؛ لصحة الفعل، وتقول: "قَامَ قيامًا" فيعتلّ؛
لاعتلاله؛ فلما صح لصحته واعتل لاعتلاله دلّ على أنه فرع عليه.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر
يُذْكَر تأكيدًا للفعل، ولا شك أن رتبة المُؤَكَّدِ قبل رتبة
المُؤَكِّد؛ فدلَّ على أن الفعل أصل، والمصدر فرع. والذي يؤيد ذلك أنا
نجد أفعالًا ولا مصادر لها، خصوصًا على أصلكم، وهي نعم وبئس وعسى وليس
وفعل التعجب حَبَّذَا، فلو لم يكن المصدر فرعًا لا أصلًا لما خلا عن
هذه الأفعال؛ لاستحالة وجود الفرع من غير أصل.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر
لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل، والفاعل2 وضع له فَعَلَ ويَفْعلُ؛
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرحنا عل شرح الأشموني "2/ 341" وحاشية الصبان
"2/ 96 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 393" بولاق" وشرح الرضي
على الكافية "2/ 178" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص135" وأسرار العربية
للمؤلف "ص69 ليدن".
2 كذا، ونرجح أن الأصل "والفعل وضع له ... إلخ".
(1/190)
فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر
أصلًا للمصدر.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن المصدر إنما سُمِّيَ مصدرًا لصدور الفعل
عنه، كما قالوا للموضع الذي تصدر عنه الإبل مصدرًا لصدورها عنه" لأنا
نقول: لا نسلم، بل سُمِّيَ مصدرًا لأنه مصدرو عن الفعل، كما قالوا
"مَرْكَبٌ فَارِه، ومشرب عذب" أي: مركوب فاره، ومشروب عذب، والمراد به
المفعول، لا الموضع، فلا تَمَسُّكَ لكم بتسميته مصدرًا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن المصدر أصل للفعل أن
المصدر يدل على زمان مطلق، والفعل يدل على زمان معين، فكما أن المطلق
أصل للمقيد، فكذلك المصدر أصل للفعل.
وبيان ذلك أنهم لما أرادوا استعمال المصدر وجدوه يشترك في الأزمنة
كلها، لا اختصاص له بزمان دون زمان، فلما لم يتعين لهم زمان حدوثه لعدم
اختصاصه اشتقوا له من لفظه أمثلة تدل على تعين الأزمنة، ولهذا كانت
الأفعال ثلاثة: ماضٍ، وحاضر، ومستقبل؛ لأن الأزمنة ثلاثة؛ ليختص كل فعل
منها بزمان من الأزمنة الثلاثة؛ فدلَّ على أن المصدر أصل للفعل.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر اسم،
والاسم يقوم بنفسه ويستغني عن الفعل، وأما الفعل فإنه لا يقوم بنفسه
ويفتقر إلى الاسم، وما يستغني بنفسه ولا يفتقر إلى غيره أولى بأن يكون
أصلًا مما لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى غيره.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته
يدل على شيئين: الحدث، والزمان المحصل، والمصدر يدل بصيغته على شيء
واحد وهو الحدث، وكما أن الواحد أصل الاثنين فكذلك المصدر أصل الفعل.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر له
مثال واحد نحو الضَّرْبَ والقَتْلَ، والفعل له أمثلة مختلفة، كما أن
الذهب نوع واحد، وما يوجد منه أنواع وصُوَر مختلفة.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته
يدل على ما يدل عليه المصدر، والمصدر لا يدل على ما يدل عليه الفعل،
ألا ترى أن "ضرب" يدل على ما يدل على الضَّرْبُ، والضرب لا يدل على ما
يدل عليه "ضرب" وإذا كان كذلك دلّ على أن المصدر أصل والفعل فرع؛ لأن
(1/191)
الفرع لا بُدّ أن يكون فيه الأصل، وصار هذا
كما تقول في الآنية المصوغة من الفضة فإنها تدل على الفضة لا تدل على
الآنية، وكما أن الآنية المصوغة من الفضة فرع عليها ومأخوذة منها فكذلك
ههنا: الفعل فرع على المصدر ومأخوذ منه.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر ليس مشتقًّا من الفعل أنه
لو كان مشتقًّا منه لكان يجب أن يجري على سَنَنٍ في القياس، ولم يختلف
كما لم يختلف أسماء الفاعلين والمفعولين؛ فلما اختلف المصدر اختلاف
الأجناس كالرجل والثوب والتراب والماء والزيت وسائر الأجناس دلّ على
أنه غير مشتق من الفعل.
ومنهم من تمسك بأن قال: لو كان المصدر مشتقًّا من الفعل لوجب أن يدل
على ما في الفعل من الحدث والزمان وعلى معنى ثالث، ما دلَّتْ أسماء
الفاعلين والمفعولين على الحدث وذات الفاعل والمفعول به1؛ فلما لم يكن
المصدر كذلك دلّ على أنه ليس مشتقًّا من الفعل.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر ليس مشتقًّا من الفعل
قولهم "أَكْرَمَ إِكْرَامًا" بإثبات الهمزة، ولو كان مشتقًّا من الفعل
لوجب أن تحذف منه الهمزة كما حذفت من اسم الفاعل والمفعول نحو
"مُكْرِم، ومُكْرَم" لَمَّا كانا مشتقين منه؛ فلما لم تحذف ههنا كما
حذفت مما هو مشتق منه دلّ على أنه ليس بمشتق منه.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل تسميته مصدرًا؛
فإن المصدر هو الموضع الذي يَصْدُرُ عنه، ولهذا قيل للموضع الذي تصدر
عنه الإبل "مَصْدَر" فلما سُمِّيَ مَصْدَرًا دلّ على أن الفعل قد
صَدَرَ "عنه" وهذا دليل لا بأس به في المسألة، وما اعترض به الكوفيون
عليه في دليلهم فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء
الله تعالى:
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن المصدر يصح لصحة الفعل
ويعتلُّ لاعتلاله" قلنا: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن المصدر الذي لا عِلَّة فيه ولا زيادة لا يأتي إلا
صحيحًا نحو "ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا" وما أشبه ذلك، وإنما يأتي معتلًّا ما
كانت فيه الزيادة، والكلام إنما وقع في أصول المصادر، لا في فروعها.
__________
1 في الأصل "وذات الفعل والمفعول به" وليس بشيء.
(1/192)
الثاني: أنا نقول: إنما صح لصحته واعتلَّ
لاعتلاله للتشاكل، وذلك لا يدل على الأصلية1 والفرعية، وصار هذا كما
قالوا "يَعِدُ" والأصل فيه يوعد؛ فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة،
وقالوا: "أَعِدُ، ونَعِدُ، وتَعِدُ" والأصل فيها أَوْعِدُ ونَوْعِدُ
وتَوْعِدُ، فحذفوا الواو -وإن لم تقع بين ياء وكسرة- حملًا على يَعِدُ،
ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من يَعِدُ وكذلك قالوا "أُكْرِمُ" والأصل
فيه أُأَكْرِم، فحذفوا إحدى الهمزتين استثقالًا لاجتماعهما، وقالوا:
"نكرم، وتكرم، ويكرم"، والأصل فيها: نُؤَكْرِم، وتُؤَكْرِم،
ويُؤَكْرِم، كما قال الشاعر:
[1]
فإنه أهل لأن يُؤَكْرَما
فحذفوا الهمزة -وإن لم يجتمع فيها 2 همزتان- حملًا على أُكْرِم؛ ليجري
الباب على سَنَنٍ واحد، ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من أكرم، فكذلك
ههنا.
والثالث: أنا نقول: يجوز أن يكون المصدر أصلًا ويحمل على الفعل الذي هو
فرع، كما بنينا الفعل المضارع في فعل جماعة النسوة نحو "يضربن" حملا
على "ضربن" وهو فرع؛ لأن الفعل المستقبل قبل الماضي، وكما قال الفراء:
إنما بني الفعل الماضي على الفتح في فعل الواحد لأنه يفتح في الاثنين،
ولا شك أن الواحد أصل للاثنين؛ فإذا جاز لكم أن تحملوا الأصل على الفرع
هناك جاز لنا أن نحمل الأصل على الفرع ههنا.
وأما قولهم "إن الفعل يعمل في المصدر؛ فيجب أن يكون أصلًا" قلنا: كونه
عاملًا فيه لا يدل على أنه أصل له، وذلك من وجهين:
أحدهما: أنا أجمعنا على أن الحروف والأفعال تعمل في الأسماء؛ ولا خلاف
أن الحروف والأفعال ليست أصلًا للأسماء، فكذلك ههنا.
والثاني: أن معنى قولنا "ضرب ضربًا" أي أوقع ضربًا، كقولك "ضرب زيدًا"
في كونهما مفعولين، وإذا كان المعنى أوقع ضربًا فلا شك أن الضرب معقول
قبل إيقاعه، مقصود إليه، ولهذا يصح أن يؤمر به فيقال: "اضْرِبْ" وما
أشبه ذلك، فإذا ثبت أنه معقول قبل إيقاعك معلوم قبل فعلك دلّ على أنه
قبل الفعل.
وأما قولهم: "إن المصدر يذكر تأكيدًا للفعل، ورتبة المؤكَّد قبل رتبة
المؤكِّد" قلنا: وهذا أيضًا لا يدل على الأصالة والفرعية، ألا ترى أنك
إذا قلت 106- "جاءني زيدٌ زيدٌ، ورأيت زيدًا زيدًا، ومررت بزيدٍ زيدٍ"
فإن زيدًا الثاني يكون
__________
1 في نسخة "الأصل".
2 "فيها" أي في الكلمة التي هي "يؤكرم".
(1/193)
توكيدًا للأول في هذه المواضع كلها، وليس
مشتقًّا من الأول ولا فرعًا عليه، فكذلك ههنا.
وأما قولهم "إنا نجد أفعالًا ولا مصادِرَ لها"، قلنا: خُلُوّ تلك
الأفعال التي ذكرتموها عن استعمال المصدر لا يخرج بذلك عن كونه أصلًا
وأن الفعل فرع عليه؛ لأنه قد يستعمل الفرع وإن لم يستعمل الأصل، ولا
يخرج الأصل بذلك عن كونه أصلًا ولا الفرع عن كونه فرعًا، ألا ترى أنهم
قالوا: "طَيْرٌ عَبَادِيد" أي متفرقة، فاستعملوا لفظ الجمع الذي هو فرع
وإن لم يستعملوا لفظ الواحد الذي هو الأصل، ولم يخرج بذلك الواحد أن
يكون أصلًا للجمع، وكذلك أيضًا قالوا: "طيرًا أَبَابِيل" قال الله
تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيهِمْ طَيرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3]
أي جماعات في تفرقة وهو جمع لا واحد له في قول الأكثرين، زعم بعضهم أن
واحده إِبَّوْلٌ، وزعم بعضهم أن واحدهُ إِبِّيلٌ، وكلاهما مخالف لقول
الأكثرين، والظاهر أنهم جعلوا واحده إبولا وإبيلا قياسًا وحملًا، لا
استعمالًا ونقلًا، والخلاف إنما وقع في استعمالهم لا في قياس كلامهم.
ثم نقول: ما ذكرتموه معارَضٌ بالمصادر التي لم تستعمل أفعالُهَا، نحو:
"وَيْلَهُ، وَوَيْحَهُ، وَوَيْهَهُ، وَوَيْبَهُ، وَوَيْسَهُ، وأهلًا
وسهلًا، ومرحبًا، وسقيًا، ورعيًا، وأُفَّةً، وتُفَّهً، وتَعْسًا،
ونَكْسًا، وبُؤْسًا، وبُعْدًا، وسُحْقًا، وجُوعًا، ونُوْعًا، وجَدْعًا،
وعَقْرًا، وخَيْبَةً، ودَفْرًا، وتَبًّا، وبَهْرًا".
قال ابن ميادة
[149]
تَفَاقَدَ قْوَمِي إذ يبيعون مُهْجَتِي ... بِجَارِيَة، بَهْرًا لهم
بَعْدَهَا بَهْرًا
__________
[149] هذا البيت من كلام ابن ميادة، واسمه الرياح بن أبرد -كما قال
المؤلف- وقد أنشده ابن منظور "ف ق د - ب هـ ر" ونسبه إليه في المرتين،
وهو من شواهد سيبويه "1/ 157" وتفاقد قومي: يريد فقد بعضهم بعضًا، وقد
اختلف أهل اللغة في تفسر قوله "بهرا" فقال قوم: أراد خيبة لهم، وقيل:
أراد تعسا لهم، وقيل: معناه غلبة لهم وقهرًا، أي غلبوا وقهروا، قال
الأعلم: "يقول: فقد بعض قومي بعضًا حيث لم يعينوني على جارية شغفت
بحبها، وعرضوني لتلف مهجتي حبًّا لها، فغلبوا غلبة، وقهرهم العدو
قهرًا، وقوله بعدها: أي بعد هذه الفعلة" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في
قوله "بهرا" فقد زعم المؤلف أن هذا مصدر من المصادر التي لم تستعمل
أفعالها، وهذا الكلام غير مستقيم؛ لأنه إن أراد أنه لا فعل له مثل بله
وويح فلا صحة لهذا الكلام؛ لأن "بهرا" ليس مثل هذين في أنه لا فعل له،
بل له فعل وهو قولهم "بهره يبهره" أي غلبه، وإن أراد أنه يستعمل
منصوبًا بفعل لا يظهر لأنه محذوف وجوبًا، وهذا هو الصواب، وهو الذي
ذكره سيبويه، واسمع إلى عبارة سيبويه "هذا باب ما ينصب من المصادر على
إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره، وذلك قولك: سقيًا، ورعيًا، وقولك
خيبةً، ودفرًا، وجدعًا، وعقرًا، وبؤسًا، وأفةً، وتفهً، =
(1/194)
فإن هذه كلها مصادر لم تستعمل أفعالها، فإن
زعمتم أن ما ذكرتموه من خلوّ الفعل عن المصدر يصلح أن يكون دليلا لكون
الفعل أصلًا فليس بأولى مما ذكرناه من خلو المصدر عن الفعل في كون
المصدر أصلًا؛ فتتحقق المعارضة فيسقط الاستدلال.
وأما قولهم "إن المصدر لا يتصور ما لم يكن فعل فاعل، والفعل وضع له
فَعَلَ ويَفْعَلُ" قلنا: هذا باطل؛ لأن الفعل في الحقيقة ما يدل عليه
المصدر، نحو الضَّرب والقتل، وما نسميه فعلًا من فَعَل ويَفْعَلُ إنما
هو إخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان معين، ومن المحال الإخبار بوقوع شيء
قبل تسميته؛ لأنه له جاز أن يقال "ضرب زيد" قبل أن يوضع الاسم للضرب
لكان بمنزلة قولك: أخبرك بما لا تعرف، وذلك محال، والذي يدل على صحة ما
ذكرناه تسميته مصدرًا، قولهم "إن المراد به المفعول، لا الموضع،
كقولهم: مركب فاره، ومشرب عذب، أي مركوب فاره ومشروب عذب" قلنا: هذا
باطل من وجهين؛ أحدهما: أن الألفاظ إذا أمكن حملها على ظاهرها فلا يجوز
العدول بها عنه، والظاهر يوجب أن يكون المصدر للموضع لا للمفعول؛ فوجب
حمله عليه. والثاني: أن قولهم "مركب فاره، ومشرب عذب" يجوز أن يكون
المراد به موضع الركوب وموضع الشرب، ونسب إليه الفَرَاهَة والعُذُوبة
للمجاورة، كما يقال "جَرَى النهرُ" والنهر لا يجري، وإنما يجري الماء
فيه، قال الله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:
25] فأضاف الفعل إليها وإن كان الماء هو الذي يجري فيها، لما بيَّنَّا
من المجاورة، ومنه قولهم "بَلَدٌ آمِنٌ، ومكان آمِنٌ" فأضافوا الأمن
إليه مجازًا؛ لأنه يكون فيه؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم
رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] وقال تعالى:
{أَوَلَمْ يرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]
فأضاف الأمن إليه لأنه يكون فيه، ومنه قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ
اللَّيلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] فأضاف المكر إلى الليل والنهار لأنه
يقع فيهما،
__________
= وبعدًا، وسحقًا، ومن ذلك قولك: تعسا، وتبا، وجوعا، وجوسا، ونحو قول
ابن ميادة:
تفاقد قومي.. البيت
وقال "عمرو بن أبي ربيعة المخزومي":
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد النجم والحصى والتراب"
ا. هـ
نقول: إن أراد المؤلف ذلك المعنى لم يتم له معارضة الخصم؛ لأن من غرضه
أن يقول: إن لنا في العربية مصادر ليست لها أفعال، فكيف يستقيم أن
يقال: إن المصدر مأخوذ من الفعل؟ وهل ثمة فرع ليس له أصل؟ ولو أنه
اقتصر على ويله وويحه وويبه وويسه لتم له الكلام؛ لأن هذه المصادر لم
يستعمل العرب لها أفعالا، فاعرف هذا، ولا تكن أسير التقليد.
(1/195)
ومنهم قولهم "ليل نائمٌ" فأضافوا النوم إلى
الليل لكونه فيه، قال الشاعر:
[150]
لقد لُمْتِنَا يا أُمَّ غَيْلَانَ في السُّرَى ... ونِمْتِ، وما ليل
المَطِيِّ بنائم
أي بمنوم فيه، ومنه قولهم "يومٌ فاجرٌ" فأضافوا الفجور إليه لأنه يقع
فيه، قال الشاعر:
[151]
ولما رأيت الخيل تَتْرَى أَثَائجًا ... علمتُ بأن اليوم أَحْمَسُ
فَاجِرُ
أي مفجور فيه، والشواهد على هذا النحو من كتاب الله تعالى وكلام العرب
أكثر من أن تُحْصَى؛ فدلَّ على أن المراد بقولهم: "مركب فاره، ومشرب
عذب" موضع للركوب وموضع الشرب، وأضيف إليه الفَرَاهة والعُذُوبة
للمجاورة على ما بيَّنَّا.
وقد أفردنا في هذه المسألة جزءًا استوفينا فيه القول، واستقصينا فيه
الكلام، والله أعلم.
__________
[150] هذا البيت من قصيدة طويلة لجرير بن عطية ثابتة في ديوانه "553"
وهي إحدى النقائض بينه وبين الفرزدق، وقد وردت في النقائض "ص753 ليدن"
والبيت من شواهد الإيضاح للقزويني "ص27 بتحقيقنا" والسرى -بضم السين
مقصورًا، بزنة الهدى- السير ليلًا.
والاستشهاد بالبيت في قوله "وما ليل المطي بنائم" حيث أسند النوم إلى
ضمير مستتر يعود إلى الليل، وقد جعل الليل نائمًا بسبب كونه ظرفًا يقع
فيه النوم، وقد ورد هذا الإسناد المجازي في كلام جرير نفسه عدة مرار،
منها قوله يهجو البراجم:
وما علم الأقوام أسرق منكم ... وألأم لؤمًا منك قيس البراجم
لقد أمن الأعداء أن تفجعوهم ... وما ليل جارٍ حلَّ فيكم بنائم
ومنها قوله في ربيعه:
باتت ربيعة لا تعرس ليلها ... عني، وليلي عن ربيعة نائم
ونظيره قول الراجز، وهو من شواهد الإيضاح أيضًا "ص26":
فنام ليلي وتجلى همي
[151] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، و "تترى" من
المواترة، وهي التتابع؛ فهذه التاء بدل من واو، مثل التاء من "تخمة" و
"تكلة" فإن أصل هذه التاء واو، وفي القرآن الكريم: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا تَتْرَا} قالوا: هو من المواترة وهي تتابع الأشياء وبينها
فجوات وفترات؛ لأن بين كل رسولين فترة، ومن العرب من ينوِّنها فيجعل
ألفها للإلحاق بمنزلة أرطى ومعزى، ومنهم من لا ينوِّنها يجعل ألفها
للتأنيث مثل ألف سكرى وغضبى. وقالوا "جاءت الخيل تترى" يريدون جاءت
متقطعة. وقوله "أثائج" هي عندي جمع وثيج، وقد قالوا "فرس وثيج" يريدون
أنه قوي، وقيل: مكتنز، جمعوه على وثائج، ثم أبدلوا من الواو همزة
فقالوا "أثائج". والاستشهاد من هذا البيت في قوله "أن اليوم أحمس فاجر"
حيث أسند الفجور إلى اليوم بسبب كونه ظرفًا زمانيًّا يقع فيه الفجور،
على مثال ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.
(1/196)
29- مسألة: [القول في عامل النصب في الظرف
الواقع خبرًا] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الظرف ينتصب على الخلاف إذا وقع خبرًا للمبتدأ نحو
"زيد أَمَامَكَ، عمرو وَرَاءَكَ" وما أشبه ذلك. وذهب أبو العباس أحمد
بن يحيى ثَعْلَب من الكوفيين إلى أنه ينتصب لأن الأصل في قولك: "أمامك
زيدٌ" حلَّ أمامك، فحذف الفعل وهو غير مطلوب واكتفى بالظرف منه فبقي
منصوبًا على ما كان على مع الفعل. وذهب البصريون إلى أنه ينتصب بفعل
مقدر، والتقدير فيه: زيد استقرَّ أمامك، وعمرو استقرَّ وراءك. وذهب
بعضهم إلى أنه ينتصب بتقدير اسم فاعل، والتقدير: زيد مستقر أمامك،
وعمرو مستقر وراءك
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه ينتصب بالخلاف وذلك لأن
خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ، ألا ترى أنك إذا قلت "زيد قائم،
وعمرو منطلق" كان قائم في المعنى هو زيد، ومنطلق في المعنى هو عمرو،
فإذا قلت "زيد أمامك، وعمرو وراءك" لم يكن أمامك في المعنى هو زيد، ولا
وراءك في المعنى هو عمرو، كما كان قائم في المعنى هو زيد ومنطلق في
المعنى هو عمرو، فلما كان مخالفًا له نصب على الخلاف ليُفَرِّقوا
بينهما.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه ينتصب بعامل مقدر وذلك
لأن الأصل في قولك "زيد أمامك، وعمرو وراءك": في أمامك، وفي ورائك؛ لأن
الظرف: كل اسم من أسماء الأمكنة أو الأزمنة يراد فيه معنى "في" وفي:
حرف جر، وحروف الجر لا بُدّ لها من شيء تتعلق به؛ لأنها دخلت رابطةً
تربط الأسماء بالأفعال، كقول: "عجبت من زيد، ونظرت إلى عمرو" ولو قلت
"من زيد" أو "إلى عمرو" لم يجز حتى تُقَدِّر لحرف الجر شيئًا يتعلق به،
فدلَّ على أن التقدير في
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "1/ 265 بتحقيقنا" وحاشية الصبان
"1/ 193 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 198 وما بعدها" وشرح
المفصل "ص110" وشرح رضي الدين على الكافية "1/ 83".
(1/197)
قولك "زيد أمامك، وعمرو وراءك" زيد استقر
في أمامك، وعمرو استقر في ورائك ثم حذف الحرف فاتصل الفعل بالظرف
فنصبه، فالفعل الذي هو استقر مقدر مع الظرف، كما هو مقدر مع الحرف.
وأما مَنْ ذهب من البصريين إلى أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل -وهو
مستقر- قال: لأن تقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل؛ لأن اسم الفاعل
اسم يجوز أن يتعلق به حرف الجر، والاسم هو الأصل1، والفعل فرع، فلما
وجب تقدير أحدهما كان تقدير الأصل أولى من تقدير الفرع.
والصحيح عندي هو الأول، وذلك لأن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل
وإن كان هو الأصل في غير العمل؛ فلما وجب ههنا تقدير عامل كان تقدير ما
هو الأصل في العمل -وهو الفعل- أولى من تقدير ما هو الفرعُ فيه وهو اسم
الفاعل.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنَّا وجدنا الظرف يكون صلة للذي، نحو:
"رأيت الذي أمامك، والذي وراءك" وما أشبه ذلك؛ والصلة لا تكون إلا جملة
فلو كان المقدر اسم الفاعل الذي هو مستقر لكان مفردًا؛ لأن اسم الفاعل
مع الضمير لا يكون جملة، وإنما يكون مفردًا، والمفرد لا يكون صلة
ألبتة، فوجب أن يكون المقدر الفعل الذي هو استقر، لأن الفعل مع الضمير
يكون جملة؛ فدل على ما بيَّنَّاه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن خبر المبتدأ في المعنى
هو المبتدأ، وإذا قلت "زيد أمامك، وعمرو وراءك" فأمامك ليس هو زيد،
ووراءك ليس هو عمرو، فلما كان مخالفًا له وجب أن يكون منصوبًا على
الخلاف" قلنا: هذا فاسد؛ وذلك لأنه لو كان الموجب لنصب الظرف كونَهُ
مخالفًا للمبتدأ لكان "المبتدأ" أيضًا يجب أن يكون منصوبًا؛ لأن
المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدأ؛ لأن الخلاف لا يتصور
أن يكون من واحد وإنما يكون من اثنين فصاعدًا؛ فكان ينبغي أن يقال
"زيدًا أمامك" وعمرًا وراءك" وما أشبه ذلك؛ فلمالم يجز ذلك دلّ على
فساد ما ذهبوا إليه.
وأما قول أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: "أنه انتصب بفعل محذوف غير
مقدر، إلى آخر ما قرر" ففاسد أيضًا؛ وذلك لأنه يؤدِّي إلى أن يكون
منصوبًا بفعل
__________
1 لأن تقدير الاسم لا يحوج إلى تقدير آخر، بخلاف تقدير الفعل فإنه يحوج
إلى تقدير آخر، وما لا يحوج إلى التقدير أصل لما يحوج إليه. وأيضًا لأن
الاسم مفرد، والفعل مع فاعله جملة، والمفرد أصل، والجملة فرع عليه.
(1/198)
معدوم من كل وجه لفظًا وتقديرًا، والفعل لا
يخلو، إما أن يكون مظهرًا موجودًا أو مقدرًا في حكم الموجود، فأما إذا
لم يكن مظهرًا موجودًا ولا مقدرًا في حكم الموجود كان معدومًا من كل
وجه، والمعدوم لا يكون عاملًا، وكما يستحيل في الحسِّيَّات الفعل
باستطاعةٍ معدومةٍ، والمشيُ برجلٍ معدوم، والقطع بسيف معدوم، والإحراق
بنار معدومة؛ فكذلك يستحيل في هذه الصناعة النصب بعامل معدوم لأن العلل
النحوية مشبهة بالعلل الحسية. والذي يدل على فساد ما ذهب إليه أنه لا
نظير له في العربية، ولا يشهد له شاهد من العلل النحوية، فكان فاسدًا.
والله أعلم.
(1/199)
30- مسألة: [القول في عامل النصب في
المفعول معه] 1
ذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف، وذلك نحو قولهم
"استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطَّيَالِسَة". وذهب البصريون إلى
أنه منصوب بالفعل الذي قبله بتوسُّط الواو. وذهب أبو إسحاق الزَّجَّاج
من البصريين إلى أنه منصوب بتقدير عامل، والتقدير: ولابَسَ الخشبَةَ،
وما أشبه ذلك؛ لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو. وذهب أبو
الحسن الأَخْفَش إلى أن ما بعد الواو ينتصب بانتصاب "مع" في نحو "جئتُ
مَعَه".
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب على الخلاف وذلك
لأنه إذا قال "استوى الماءُ والخشبةَ" لا يحسن تكرير الفعل فيقال:
استوى الماء واستوت الخشبة؛ لأن الخشبة لم تكن مُعْوَجَّةٌ فتستوي،
فلما لم يحسن تكرير الفعل كما يحسن في "جاء زيدٌ وعمرو" فقد خالف
الثاني الأول، فانتصب على الخلاف كما بيَّنَّا في الظرف نحو: "زيد
خلفك" وما أشبه ذلك.
والذي يدل على أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يعمل فيه أنَّ نحو استوى
وجاء فعلٌ لازمٌ، والفعل اللازم لا يجوز أن ينصب هذا النوع من الأسماء؛
فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك
لأن هذا الفعل وإن كان في الأصل غير متعدٍّ إلا أنه قَوِيَ بالواو
فتعدَّى إلى الاسم فنصبه كما عُدِّيَ بالهمزة في نحو "أخرجتُ زيدًا"
وكما عُدِّيَ بالتضعيف نحو "خرَّجت المتَاعَ" وكما عُدِّيَ بحرف الجر
نحو: "خَرَجْتُ به" إلا أن الواو لا تعمل؛ لأن الواو في الأصل حرف عطف،
وحرف العطف لا يعمل، وفيه معنيان العطف
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "2/ 395" وحاشية الصبان "2/ 119"
وتصريح الشيخ خالد "1/ 415" وشرح المفصل "ص222 وما بعدها" وشرح الرضي
على الكافية "1/ 180".
(1/200)
ومعنى الجمع، فلما وضعت موضع "مع" خُلِعَتْ
عنها دلالة العطف وأخلصت للجمع كما أن فاء العطف فيها معنيان: العطف،
والإتباع؛ فإذا وقعت في جواب الشرط خُلِعَتْ عنها دلالة العطف وأخلصت
للاتباع، وكذلك همزة الخطاب في "هَاءَ يا رجلُ" فإنها إذا ألحقتَهَا
الكاف جردتها من الخطاب؛ لأنه يصير بعدها في الكاف، ونظير ما نحن فيه
من كل وَجْهٍ نصبُهُمْ الاسم في باب الاستثناء بالفعل المتقدم بتقوية
"إلا" فكذلك ههنا: المفعول معه منصوب بالفعل المتقدم بتقوية الواو، على
ما بيَّنَّا، وهذا هو المعتمد عند البصريين.
وأما ما ذهب إليه الزَّجَّاج من أنه منصوب بتقدير عامل، والتقدير
ولَابَسَ الخشبة لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو. قلنا:
هذا باطل؛ لأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتعلق به، فإن كان
يفتقر إلى توسط حرف عَمِلَ مع وجوده، وإن كان لا يفتقر إلى ذلك عمل مع
عدمه، وقد بيَّنَّا أن الفعل قد تعلق بالمفعول معه بتوسط الواو، وأنه
يفتقر في عمله إليها، فينبغي أن يعمل مع وجودها، فكيف يُجْعَل ما هو
سببٌ في وجود العمل سببًا في عدمه؟ وهل ذلك إلا تعليق على العلة ضدّ
المقتضى؟ ولو كان لما ذهب إليه وجه لكان ما ذهب إليه الأكثرون أولى؛
لأن ما ذهب إليه يفتقر إلى تقدير، وما ذهب إليه الأكثرون لا يفتقر إلى
تقدير، وما لا يفتقر إلى تقدير أولى مما يفتقر إلى تقدير.
وأما ما ذهب إليه الأَخْفَش من أنه ينتصب انتصاب "مع" فضعيف أيضًا؛ لأن
"مع" ظرف، والمفعول معه في نحو "استوى الماءُ والخشبةَ، وجاء البردُ
والطَّيَالِسَةَ" ليس بظرف، ولا يجوز أن يجعل منصوبًا على الظرف.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه منصوب على الخلاف؛ لأنه
لا يحسن تكرير الفعل؛ فخالف الثاني الأول، فانتصب على الخلاف" قلنا:
هذا باطل بالعطف الذي يخالف بين المعنيين نحو قولك: "ما قام زيدٌ لكن
عمروٌ، وما مررت بزيدٍ لكن بكرٍ" وما بعد لكن يخالف ما قبلها، وليس
بمنصوب، فإن لكن يلزم أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها على كل حال،
سواء لزمت العطف في النفي عندنا أو جاز بها العطف في الإيجاب عندكم؛
فلو كان كما زعمتم لوجب أن لا يكون ما بعدها إلا منصوبًا لمخالفته
الأول، وإذا كان الخلاف ليس موجبًا للنصب مع "لكِنْ" وهو حرف لا يكون
ما بعده إلا مخالفًا لما قبله فلأن لا يكون موجبًا للنصب مع الواو التي
لا يجب أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها كان ذلك من طريق
(1/201)
الأولى، وكذلك أيضًا يبطل بلا في قولك "قام
زيدٌ لا عمروٌ، ومررت بزيدٍ لا عمرو" وما بعد "لا" يخالف ما قبلها
كلكن، وليس بمنصوب؛ فدلَّ على أن الخلاف لا يكون موجبًا للنصب.
وقولهم "إن الفعل المتقدم لازم؛ فلا يجوز أن يعمل في المفعول معه"
قلنا: إلا أنه تعدَّى بتقوية الواو؛ فخرج عن كونه لازمًا على ما
بيَّنَّا، فلا نعيده ههنا، والله أعلم.
(1/202)
|