الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

35 مسألة: [هل تكون "إلا" بمعنى الواو؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "إلا" تكون بمعنى الواو. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لمجيئه كثيرًا في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيكُمْ حُجَّةٌ الَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] أي ولا الذين ظلموا، يعني ولا الذين ظلموا لا يكون لهم أيضًا حجة، ويؤيد ذلك ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعض القراء أنه قرأ: "إلى الذين ظلموا" مخففًا يعني مع الذين ظلموا منهم، كما قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ} [المائدة: 6] أي مع المرافق ومع الكعبين، وكما قال تعالى: {مَنْ أنْصَارِي إلى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي مع الله، وكما قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلى أمْوَالِكُم} [النساء: 2] أي مع أموالكم، وكقولهم في المثل: "الذّود إلى الذّود إبل" أي مع الذّود، وكقول ابن مُفَرِّغٍ:
[156]
شَدَخَتْ غُرَّةُ السَّوَابِقِ فيهم ... في وجوه إلى اللّمَام الجِعَاد
__________
[156] هذا البيت من كلام ابن مفرغ الحميري، واسمه يزيد بن ربيعة، وقد روى ابن منظور هذا البيت في اللسان مرتين، أولاهما: في "ش د خ" وقال قبل إنشاده "وقال الراجز" وهذا سبق قلم منه؛ فإن البيت من الخفيف، وليس رجزًا، وثانيتهما: في "ل م م" ونسبه إلى ابن مفرغ. وشدخت: أي اتسعت في الوجهن قال أبو عبيدة: "يقال لغرة الفرس إذا كانت مستديرة: وتيرة، فإذا سالت وطالت فهي شادخة" ا. هـ. والغرة -بضم الغين وتشديد الراء- بياض في جبهة الفرس، والسوابق: جمع سابق، وأصله الفرس يأتي في الحلبة سابقًا، =
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب "ص73 بتحقيقنا" وحاشية الصبان على الأشموني "2/ 127 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 422 بولاق" وشرح الرضي على الكافية "1/ 213".

(1/216)


أي مع اللمام، وقال ذو الرمة:
[157]
بها كُلُّ خَوَّارٍ إلى كُلِّ صَعْلَةٍ
أي مع كل صعلة، وقال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] أي ومن ظلم لا يحب أيضًا الجهر بالسوء1 منه، إلى غير ذلك من المواضع، ثم قال الشاعر:
[158]
وكُلُّ أخٍ مُفَارِقَهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الفَرْقَدَان
__________
= واللمام: جمع لمة وتجمع أيضًا على لمم -بكسر اللام في المفرد وفي جميعه- واللمة: الشعر إذا نزل من الرأس فجاوز شحمة الأذن، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرس يقال له: ذو اللمة، والجعاد: جمع جعدة -بفتح فسكون- وهي أنثي الجعد، والجعد: ضد السبط، والسبط: المسترسل من الشعر، وجعوده الشعر هي الغالبة على شعور العرب، وعلي هذا يمدح الرجل بأنه جعد الشعر، تعني أنه عربي، فإذا أردت أن شعره مفلفل كشعر الزنج كان ذمًّا. والاستشهاد بالبيت في قوله "إلى اللمام" فإن إلى ههنا تدل على معنى مع، وأقوى ما يدل على ذلك أن الرواية في اللسان "ل م م" "مع اللمام الجعاد" وإذا جاءت كلمة في إحدى الروايات مكان كلمة في رواية أخرى دلَّ ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد.
[157] هذا صدر بيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، ونعجزه قوله:
ضهول ورفض المذرعات القراهب
وقد أنشد ابن منظر هذا البيت في اللسان "ص ع ل - ض هـ ل" ونسبه إلى ذي الرمة، ثم قال "قال ابن بري: الصعلة النعامة، والخوار: الثور الوحشي الذي له خوار -وهو صوته- وضهول: تذهب وترجع والمذرعات من البقر: التي معها أولادها، والقراهب: جمع فرهب -بوزن جعفر- وهو المسن مطلقا، ويقال: الكبير الضخم من الثيران، والقرهب أيضًا: السيد، والاستشهاد بالبيت في قوله "إلى كل صعلة" فإن إلى في هذا الموضع تدل على معنى مع، وهو ظاهر إن شاء الله.
[158] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 381" وقد نسبه إلى عمرو بن معد يكرب، وقال الأعلم "ويروى لسوار بن المضرب" ا. هـ، وأنشده الجاحظ في البيان "1/ 288" منسوبا إلى عمرو، والبيت من شواهد الأشموني "رقم 453" ومغني اللبيب "رقم 108" ورضي الدين في شرح الكافية في باب الاستثناء، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 52 بولاق". وقال: إن هذا البيت يروى في شعرين لشاعرين، أحدهما: عمرو بن معد يكرب، والثاني: حضرمي بن عامر أحد بني أسد، واستشهد به أيضًا موفق الدين بني يعيش في شرح =
__________
1 الأشهر في تفسير هذه الآية أن "إلا" فيها استثنائية، واستمع إلى جار الله يقول: "إلا من ظلم" أي إلا جهر من ظلم، استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء، وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم" ا. هـ.

(1/217)


أي والفرقدان، والشواهد على هذا في أشعارهم كثيرة جدا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن "إلا" لا تكون بمعنى الواو لأن إلا للاستثناء، والاستثناء يقتضي إخراج الثاني من حكم الأول، والواو للجمع، والجمع يقتضي إدخال الثاني في حكم الأول؛ فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {الَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150] فلا حجة لهم فيه؛ لأن "إلا" ههنا استثناء منقطع، والمعنى: لكن الذين ظلموا يحتجون عليكم بغير حجة، والاستثناء المنقطع كثير في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ الَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] معناه لكن يتبعون الظن، وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20] معناه لكن يبتغي وجه ربه الأعلي، وقال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [التين: 5-6] معناه لكن الذي آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر، ثم قال النابغة:
[159]
وَقَفَتُ فيها أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا ... أَعَيَتْ جَوَابًا، وما بالرَّبْعِ مِن أَحَدِ
__________
= المفصل "ص284" والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "إلا الفرقدان" فإن الكوفيين زعمو أن "إلا" في هذا البيت حرف عطف بمنزلة الواو، وكأنه قال: كل أخ مفارقة أخوه، والفرقدان أيضًا، وقد حمل الشريف المرتضي في أماليه "2/ 88" على هذا المعنى قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ الَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: إلا بمعنى الواو، والتأويل: خالدين فيها ما دامت السماات والأرض وما شاء ربك من الزيادة، واستشهد على ذلك ببيت الشاهد، وبقول الآخر: "وهو المخبل السعدي":
وأرى لها دارًا بأغدرة الـ ... ـسيدان لم يدرس لها رسم
إلا رمادًا هامدًا دفعت ... عنه الرياح خوالد سحم
والمراد بإلا ههنا الواو، وإلا كان الكلام متناقضًا، ا. هـ. والذي رآه سيبويه في بيت الشاهد -وسيذكر المؤلف في الرد على كلمات الكوفيين- أن "إلا" ههنا اسم بمعنى غير، وهي صفة لكل، ولهذا ارتفع ما بعدها؛ لأن إلا التي بمعنى غير يظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية، ومن هنا تدرك أنه لا يجوز جعل إلا صفة لأخ المضاف إليه، إذ لو كانت صفة لأخ لكان ما بعدها مجرورًا فكان يقول "إلا الفرقدين" كما قال الآخر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لشحط الدار إلا ابني شمام
كما أنه لا يجوز لك أن تجعل "إلا" في بيت الشاهد استثنائية؛ لأنها لو كانت هي الاستثنائية لكان ما بعدها منصوبًا، لأن الكلام قبلها تام موجب، ونصب المستثنى بعد الكلام التام الموجب واجب كما تعلم.
[159] هذان البيتان من قصيدة النابغة الذبياني التي يعدونها من المعلقات والتي مطلعها =

(1/218)


إلا الأَََوَارِيَّ لأيًا ما أُبَيِّنُهَا ... والنُّؤْيُ كالحوض بالمظلومة الجَلدِ
وقال آخر:
[160]
وبلدةٍ ليس بها أنيس ... إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ
__________
=
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت طال عليها سالف الأمد
والبيتان من شواهد سيبويه "1/ 364" وشرح المفصل لابن يعيش "ص265" وانظر مع ذلك خزانة الأدب "2/ 76" وشرحنا على شرح الأشموني "الشواهد 21 و180 و271 و 476" وقوله "أصيلالا" أصله أصيلا -بالنون- فأبدل النون لامًا، وهو إبدال غير قياسي، والأصيلان: تصغير أصلان، الذي هو جمع أصيل، والأصيل: الوقت قبيل غروب الشمس، وأعيت: عجزت وضعفت، والأواري: جمع آرية أو آري، وهو محبس الخيل، وقوله "لأيا ما أبينها" يريد ما أعرفها وأتبينها إلا بعد لأي، أي بطء والنؤي -بالضم- حفيرة تحفر حول الخيمة لتمنع تسرب المطر إليها، والمظلومة: أراد بها الفلاة التي حفر فيها الحوض لغير إقامة، والجلد: الصلبة، والاستشهاد بالبيتين في قوله "إلا الأواري" فإن هذا من نوع الاستثناء المنقطع لكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وهذا النوع يجوز فيه وجهان: الإبدال من المستثنى منه فيتبعه في إعرابه، على أن تتوسع في المستثنى منه فتجعله شاملًا للمستثنى، والنصب على الاستثناء قال الأعلم: "الشاهد في قوله إلا الأواري بالنصب على الاسثثناء المنقطع؛ لأنها من غير جنس الأحدين، الرفع جائز على البدل من الموضع، والتقدير: وما بالربع أحد إلا الأواري، على أن تجعل من جنس الأحدين اتساعًا ومجازًا" ا. هـ. وليس عجيبًا أن تجعل المستثنى من هذا النوع داخلًا في جنس المستثنى منه؛ فقد جرت عادة العرب في كلامهم أن يجعلوا الشيء من جنس غير جنسه توسعًا، انظر إلى قول أبي ذؤيب الهذلي:
فإن تمس في قبر برهوة ثاويًا ... أنيسك أصداء القبور تصيح
فقد جعل أصداء القبور أنيسًا وليست في الأصل من جنس الأنيس، ثم انظر إلى قول ابن الأيهم التغلبي:
ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب
ثم انظر إلى قول عمرو بن معد يكرب
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
فقد جعل الضرب الوجيع تحية، وهو في الأصل من غير جنسها.
[160] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من كلام جران العود، واسمه عامر بن الحارث "د52" والبيتان من شواهد سيبويه "1/ 133 و365" وابن يعيش "ص265" والأشموني "رقم 444" وأوضح المسالك "رقم 145" وشذور الذهب "رقم 125" ولميس: اسم امرأة، واليعافير: جمع يعفور بضم الياء أو فتحها وهو الظبي الذي لونه لون العفر وهو التراب، والعيس: جمع أعيس أو عيساء، وأصلها الإبل لكنه أراد بقر الوحش، الاستشهاد به في قوله "إلا اليعافير وإلا العيس" حيث رفع ما بعد إلا على البدل مما قبلها مع أن اليعافير والعيس ليسا من جنس الأنيس في الأصل، ولكنه توسع فجعلهما من =

(1/219)


وعلى ذلك أيضًا يحمل ما احتجوا به من قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: من الآية148] ؛ فإن معناه لكن المظلوم يجهر بالسوء؛ لما يلحقه من الظلم، فيكون في ذلك أعذر ممن يبدأ بالظلم، وعلى ذلك أيضا يحمل قول الشاعر:
[158]
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
أراد لكن الفرقدان فإنهما لا يفترقان، على زعمهم في بقاء هذه الأشياء المتأخرة إلى وقت الفناء، ويحتمل أن تكون "إلا" في معنى غير، ولذلك ارتفع ما بعدها، والمعنى: كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي لو كان فيهما آلهة غير الله، ولهذا كان ما بعدها مرفوعًا، ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل؛ لأن البدل في الإثبات غير جائز؛ لأن البدل يوجب إسقاط الأول، ولا يجوز أن تكون {آلِهَةٌ} في حكم الساقط؛ لأنك لو أسقطته لكان بمنزلة قولك: لو كان فيهما إلا الله، وذلك لا يجوز، ألا ترى أنك لا تقول "جاءني إلا زيد" لأن الغرض في "إلا" -إذا جاءت قبل تمام الكلام- أن تثبت بها ما نفيته، نحو "ما جاءني إلا زيد" وليس في قوله: {لَوْ كَانَ} نفي فيفتقر إلى إثبات، ولو جاز أن يقال "جاءني إلا زيد" على إسقاط إلا مثلا حتى كأنه قيل جاءني زيد و "إلا" مزيد لاستحال ذلك في الآية؛ لأنه كان يصير قولك "لو كان فيهما إلا الله" بمنزلة لو كان فيهما الله لفسدتا، وذلك مستحيل.
وأما قراءة من قرأ: "إلى الذين ظلموا منهم" بالتخفيف، فإن صحت وسلم
__________
= جنسه، قال سيبويه بعد أن أنشد البيت "جعلها أنيسها" يريد جعل اليعافير والعيس أنيس هذه البلدة. وقال الأعلم "الشاهد فيه رفع اليعافير والعيس بدلا من الأنيس على الاتساع والمجاز" ا. هـ. وإبدال المستثنى من المستثنى منه إذا كان في أصله من غير جنسه هو لغة بني تميم، يجيزون فيه النصب على الاستثناء والبدلية، أما الحجازيون فلا يجيزون فيه غير النصب على الاستثناء، وعليه قول الأسود بن يعفر، وهو من شعر المفضليات:
مهامهًا وخروقًا لا أنيس بها ... إلا الضوابح والأصداء والبوما
ويحتمل ذلك قول الكلحبة اليربوعي:
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا
فإنه يجوز أن يكون قوله "إلا مضيعًا" استثناء مما قبله فيكون قد وضع الصفة مكان الموصوف، وأصل الكلام: ولا أمرللمعصي إلا أمرًا مضيعًا، ويجوز أن يكون "مضعيًا" حالًا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله.

(1/220)


لكم ما ادّعيتموه على أصلكم من أن إلى تكون بمعنى مع فليس لكم فيه أيضًا حجة تدل على أن "إلا" تكون بمعنى الواو؛ لأنه ليس من الشرط أن تكون إحدى القراءتين بمعنى الأخرى، وإذا اعتبرتم هذا في القراءات وجدتم الاختلاف في معانيها كثيرًا جدًّا، وهذا مما لا خلاف فيه، وإذا ثبت هذا فيجوز أن تكون قراءة من قرأ "إلى الذين" بالتخفيف بمعنى مع، وقراءة من قرأ "إلا" بالتشديد بمعنى لكن، على ما بيَّنَّا، والله أعلم.

(1/221)


مسألة هي يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام
...
36 مسألة: [هل يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام، نحو قولك: "إلا طَعَامَكَ ما أكل زيد" نصَّ عليه الكسائي، وإليه ذهب أبو إسحاق الزَّجَّاج في بعض المواضع. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز تقديمه أن العرب قد استعملته مقدّمًا، قال الشاعر:
[161]
خلَا أن العِتَاق مِنَ المَطَايَا ... حَسَِيَن بِِهِ فَهُنَّ إليه شُوسُ
__________
[161] هذا البيت من كلام أبي زبيد الطائي، وقد أنشده ابن منظور "ح س س - ح س ي" ونسبه في المرتين إليه، غير أنه رواه في المرة الأولى مثل ما أنشده المؤلف، ورواه في المرة الثانية:
سوى أن العتاق.... إلخ
والعتاق: جمع عتيق، وهو الأصيل، والمطايا: جمع مطية، وهي الدابة، سميت بذلك لأنها تمطو في سيرها، أي تسرع، أو لأن راكبها يقتعد مطاها، وهو ظهرها، وحسين به -بفتح الحاء وكسر السين أو فتحها، وآخره نون جماعة الإناث- أصله حسسن به، فأبدل من ثاني المثلين ياء، قال ابن منظور: "قال ابن سيده: وقالوا: حسست به، وحسست به -بكسر السين فيهما- وحسيته -بفتح السين- وأحسيت، وهذا كله من محول المضعف ... ثم قال عن الفراء: حسيت بالخبر، وأحسيت به، يبدلون من السين ياء، قال أبو زبيد:
خلا أن العتاق ... إلخ
قال الجوهري وأبو عبيدة يروي بيت أبي زبيد:
أحَسَّنَّ به فهن إليه شوس
وأصله أحسسن" ا. هـ. وقال: "وحسيت الخبر بالكسر مثل حسست، قال أبو زبيد:
سوى أن العتاق ... إلخ
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الرضي على الكافية "1/ 209" وشرحنا على شرح الأشموني "2/ 455 و 492" وحاشية الصبان على الأشموني "2/ 130" وحاشية العليمي على التصريح "1/ 428".

(1/222)


وقال الآخر:
[162]
وبَلْدَةٍ ليس بها طُورِيُّ
...
ولا خَلَا الجنَّ بها إِنْسِيُّ
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الاستثناء يضارع البدل بدليل قولهم: ما قام أحد إلا زيدًا؛ وإلا زيدٌ؛ والمعنى واحد، فلما جاز البدل لم يجز تقديمه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه" لأنا نقول: لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز تقديمه على المستثنى منه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه، وقد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم، قال الكميت:
[163]
فما لي إلا آل أحمد شيعةٌ
...
ومالي إلا مَشْعَبَ الحق مشعبُ
__________
= وأحسيت الخبر مثله، قال أبو نخيلة:
لما احتسى منحدر من مصعد ... أن الحيا مغلولب لم يجمد
احتسى: أي استخبر فأخبر أن الخصب فاشٍ. والمنحدر: الذي يأتي القرى، والمصعد: الذي يأتي إلى مكة" ا. هـ. وقول أبي زبيد "فهن إليّ شوس" الشوس: جمع أشوس، وهو الوصف من الشوس بفتح الشين والواو جميعًا وهو النظر بمؤخر العين. والاستشهاد بالبيت في قوله "خلا أن العتاق من المطايا" حيث قدم المستثنى في أول الكلام، وقد أنشده الكوفيون ذاهبين إلى أن فيه دليلًا على جواز تقديم المستثنى قبل جملة الكلام، ونظيره قول الأعشى، وهو من شواهد الأشموني وابن عقيل:
خلا الله لا أرجو سواك، وإنما ... أعد عيالي شعبة من عيالكا
[162] هذان بيتان من مشطور الجرز، وهما من كلام العجاج، وقد أنشدهما الرضي في شرح الكافية أول باب الاستثناء، وشرحهما البغدادي في الخزانة "2/ 2" وأنشد أولهما ابن منظور "ط ور" ونسبه إلى العجاج. والعرب تقول: ما بالدار طوري، وما بالدار طوراني، وما بالدار دوري، وما بالدار ديار، تريد ما بالدار أحد، وقالوا أيضًا: رجل طوري، يريدون رجلًا غريبًا، ومحل الاستشهاد قوله "ولا خلا الجن بها إنسي" حيث قدم الاستثناء على جملة الكلام، وأصل العبارة: ولا بها إنسي خلا الجن، فالجار والمجرور خبر مقدم، وإنسي: مبتدأ مؤخر، وخلا الجن: استثناء، وبهذا ونحوه استدل الكوفيون على جواز تقديم الاستثناء على جملة الكلام، وقد بيَّنَّا لك ذلك في شرح الشاهد السابق.
[163] هذا البيت من قصيدة هاشمية للكميت بن زيد الأسدي، وهو من شواهد ابن يعيش "ص263" والأشموني "رقم 448" وابن عقيل "رقم 167" وأوضح المسالك "262" وشذور الذهب "رقم 124" وشرح قطر الندى "رقم 109" والشيعة: هم الأنصار والأشياع والأعوان، ومشعب الحق: يروى في مكانه "مذهب الحق" والمراد الطريق الذي يعتقد أنه الطريق الثابت الذي لا يجوز الانحراف عنه. والاستشهاد بالبيت في موضعين منه؛ الأول قوله "إلا آل أحمد" والثاني قوله "إلا مشعب الحق" حيث قدم المستثنى في كل موضع منهما على المستثنى منه، وأصل نظم الكلام وما لي شيعة إلا آل أحمد، وما لي مشعب إلا =

(1/223)


فقدم المستثنى على المستثنى منه، وقال الآخر:
[164]
الناس أَلْبٌ علينا فيكَ ليس لنا ... إلا السُّيُوفَ وأَطْرَافَ القَنَا وَزَرُ
فقدَّم المستثنى على المستثنى منه، وهذا كثير في كلامهم.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه يؤدِّي إلى أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، وذلك لا يجوز؛ لأنها حرف نفي يليها الاسم والفعل كحرف الاستفهام، وكما 126 أنه لا يجوز أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله؛ فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها.
ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا ذلك لأن الاستثناء يضارع البدل، ألا ترى أنك تقول "ما جاءني أحد إلا زيد، وإلا زيدًا" والمعنى واحد، فلما جارى الاستثناء البدل امتنع تقديمهُ كما يمتنع تقديمُ البدل على المبدل منه، وما ذكروه
__________
= مشعب الحق، وقد كان المستثنى لو أنه جاء به على أصل الكلام يجوز فيه وجهان:
الأول: النصب على الاستثناء، والثاني: الإتباع على البدلية، فلما قدمه على المستثنى لزمه -في لغة عامة العرب- النصب على الاستثناء، ولم يجز فيه الإتباع على البدلية؛ لأن البدل لا يتقدم على المبدل منه لأنه تابع ورتبة التابع تكون بعد رتبة المتبوع ألا ترى أنهم إذا قدموا صفة النكرة عليها نحو قولك: فيها قائما رجل، وقول كثير:
لعزة موحشًا طلل ... يلوح كأنه خلل
وجب نصب الصفة على الحال، ولم يجز إتباعها للموصوف على أن تكون نعتًا كما كانت وهي متأخرة؟ وقد جاء على الإتباع قول حسان بن ثابت:
لأنهم يرجون منه شفاعة ... إذا لم يكن إلا النبيون شافع
فقد قدم المستثنى وهو قوله النبيون على المستثنى منه -وهو قوله شافع- ومع ذلك لم ينصبه على الاستثناء كما ينصبه عامة العرب، ويمكن أن يكون هذا البيت ردًّا على قول الكوفيين "إن المستثنى يضارع البدل، والبدل لا يتقدم" فيقال لهم: لا نسلم أنه يضارع البدل وأن البدل لا يتقدم؛ فإن من العرب من يقدمه ويبقيه على الإتباع، فتفطن لذلك.
[164] هذا البيت من كلام كعب بن مالك، الأنصاري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 381" وابن يعيش "ص263" وألب: أي مجتمعون متألبون قد تضافروا على خصومتنا وإرادة النيل منا، والوزر -بفتح الواو والزاي معًا- الحصن والملجأ، وأصل معناه الجبل. يقول هذا البيت للنبي صلوات الله وأزكى تسليماته عليه. والاستشهاد به في قوله "إلا السيوف" حيث قدم هذا المستثنى على المستثنى منه وهو قوله "وزر" وأصل الكلام: ليس لنا وزر وملجأ نلجأ إليه إلا السيوف وأطراف القنا، ولو أنه جاء بالكلام على أصله لكان له أن ينصب المستثنى على الاستثناء وأن يتبعه بالرفع على البدلية، لكنه لما قدم المستثنى وجب فيه -عند عامة العرب- أن ينصبه؛ لما ذكرنا من العلة في شرح الشاهد السابق، وهذا وضاح إن شاء الله تعالى.

(1/224)


على هذا فنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم، إن شاء الله تعالى.
ما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقول الشاعر:
[161]
خلا أن العتاق من المطايا
فنقول؛ لا نسلم ههنا أن الاستثناء وقع في أول الكلام، فإن هذا الشعر لأبي زُبَيْدٍ، وقبل هذا:
[161]
إلى أن عَرَّسُوا وأَغَبَّ منهم ... قريبًا ما يُحَسُّ له حَسِيسُ
خلا أن العتاق من المطايا ... حَسِينَ به فهنَّ إليه شُوسُ
وأما قول الآخر:
[162]
وبلدة ليس بها طُورِيُّ ... ولا خلا الجن بها إِنْسيُّ
فتقديره: وبلده ليس بها طوريُّ ولا إنسيُّ خلا الجن، فحذف إنسيًّا، فأضمر المستثنى منه، وما أظهره تفسير لما أضمره، وقيل: تقديره ولا بها إنسيّ خلا الجنّ؛ فـ "بها" مقدرة بعد "لا" وتقديم الاستثناء فيه للضرورة؛ فلا يكون فيه حجّة.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أنه قد ضارع البَدَلَ. قولهم "لو كان الأمر كما زعمتم لوجب انه لا يجوز تقديمه على المستثنى منه، كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه" قلنا: هذا فاسد؛ لأن المستثنى لما تَجَاذبه شَبَهان: أحدهما كونه مفعولًا، والآخر كونه بدلًا؛ جعلت له منزلة متوسطة، فجاز تقديمه على المستثنى منه، ولم يجز تقديمه على الفعل الذي ينصبه، عملًا بكلا الشبهين، على أن من العرب من يجوز البدل مع التقديم، فيقول: ما جاءني إلا زيدٌ أحدٌ؛ فيرفع على البدل مع تقديمه على المبدل منه1؛ لأن هذا التقديم التقدير به التأخيرُ، وإن كانت اللغة الفصيحة العالية النصب، والله أعلم.
__________
1 الشاهد عليه بيت حسان الذي رويناه لك في شرح الشاهد 163.

(1/225)


37- مسألة: [حاشى في الاستثناء، فعل أو حرف أو ذات وجهين] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "حاشى" في الاستثناء فعل ماضٍ، وذهب بعضهم إلى أنه فعل استعمل استعمال الأدوات، وذهب البصريون إلى أنه حرف جر، وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أنه يكون فعلًا ويكون حرفًا.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه فعل أنه يتصرف، والدليل على أنه يتصرف قول النابغة:
[165]
ولا أرى فاعلًا في الناس يُشْبِهُهُ ... وما أُحَاشِي من الأقوام من أحد
__________
[165] هذا البيت من قصيدة النابغة الذبياني المعلقة التي منها الشاهد رقم 159 السابق في المسألة 35 وهو من شواهد ابن يعيش "ص299" ومغني اللبيب "رقم 186" والأشموني "رقم 467" والرضي في باب الاستثناء، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 44" وأنشده ابن منظور مرتين "ح ش ا" وقوله "ولا أحاشي" أراد لا أستثني أحدًا ممن يفعل الخير، و "من" في قوله "من أحد" زائدة، وأحد بعدها: مفعول به لأحاشي. والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا أحاشي" فإن هذا فعل مضارع بمعنى استثني، وقد جاء في كلام العرب المحتج بكلامهم، فيدل على أن "حاشا" التي تستعمل في الاستثناء فعل، وأنه مع ذلك متصرف، وهذا أحد ثلاثة أدلة للكوفيين استدلوا بها على أن "حاشا" الاستثنائية فعل، والثاني: أن حرف الجر يأتي بعدها متعلقًا بها نحو قوله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ} والثالث: أنه قد يتصرف في لفظها بالحذف فيقال: حشا، وحاش، وقد علم أن الحذف لا يكون إلا في الاسم نحو يد ودم وأخ وغد وأب وحم "انظر ما ذكرناه في المسألة الأولى من هذا الكتاب" أو في الفعل نحو قولهم: لم يك، ولا أدر، ولم أبل والأصل: لم يكن: ولا أدري، ولم أبال وقد ذكر المؤلف هذه الأدلة، وحاول أن يرد كل واحد منها بما تراه في كلامه، وسنتعرض له في شرح الشواهد الآتية، وهذا لأن سيبويه لم يحفظ في "حاشا" إلا الجر =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لابن يعيش "ص299" وشرح الأشموني "2/ 498 بتحقيقنا" ولسان العرب "ح ش ا" وحاشية الصبان "2/ 146" وتصريح الشيخ خالد "1/ 439 بولاق" وشرح الرضي على الكافية "1/ 224" وأسرار العربية للمؤلف "ص83 ليدن".

(1/226)


وإذا كان متصرفًا فيجب أن يكون فعلًا؛ لأن التصرف من خصائص الأفعال.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه فعل أن لام الخفض تتعلق به، قال الله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل، لا بالحرف؛ لأن الحرف لا يتعلق بالحرف، وإنما حذفت اللام لكثرة استعماله في الكلام.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه فعل أنه يدخله الحذف، والحذف إنما يكون في الفعل، لا الحرف، ألا ترى أنهم قالوا في حاشى لله: حاش لله، ولهذا قرأ أكثر القراء {حَاشَ لِلَّهِ} بإسقاط الألف، وكذلك هو مكتوب في المصاحف؛ فدل على أنه فعل.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه ليس بفعل وأنه حرف أنه لا يجوز دخول "ما" عليه؛ فلا يقال "ما حاشى زيدًا" كما يقال "ما خلال زيدًا، وما عدا عمرًا" ولو كان فعلًا كما زعموا لجاز أن يقال "ما حاشى زيدًا" فلما لم يقولوا ذلك دلَّ
__________
= بها، كما لم يحفظ دخول "ما" عليها، فقرر أنها لا تكون إلا حرف جر، لكن العلماء الثقات حفظوا الأمرين جميعًا: حفظوا دخول "ما" على حاشا في قول الأخطل:
رأيت الناس ما حشا قريشًا ... فإنا نحن أكثرهم فعالا
وحفظوا النصب به دون أن تلحقها "ما" نحو ما رواه أبو زيد قال: "سمعت أعرابيًا يقول: اللهم اغفر لي ولمن سمع حاشا الشيطان وابن الأصبغ" بنصب ما بعد حاشا والمعطوف عليه، كما حفظوا الذي حفظه سيبويه من الجر بها، وإذن يكون حال "حاشا" مثل حال "عدا، وخلا" كل واحد من هذه الثلاثة يكون حرفًا تارة، ويكون فعلًا تارة أخرى، وهذا مذهب أبي العباس المُبَرِّد، وهو الذي تؤيِّده جملة الشواهد الواردة في هذه المسألة، وقد تفطن لذلك موفق الدين ابن يعيش، فقال: "أما حاشا فهو حرف جر عند سيبويه، يجر ما بعده، وهو مع ما بعده في موضع نصب بما قبله، وفيه معنى الاستثناء، وزعم الفَرَّاء أن حاشى فعل ولا فاعل له، وأن الأصل في قولك "حاشى زيدًا" حاشا لزيد، فحذفت اللام لكثرة الاستعمال وخفضوا بها، وهذا فاسد؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل، وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أنها تكون حرف جر كما ذكر سيبويه، وتكون فعلًا ينصب ما بعده، واحتج لذلك بأشياء، منها أنه يتصرف فتقول: حاشيت أحاشي، والتصرف من خصائص الأفعال، ومنها أنه يدخل على لام الجر، فتقول: حاشى لزيد، قال الله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ} ولو كان حرف جر لم يدخل على مثله، ومنها أنه يدخله الحذف، نحو حاش لزيد، وقد قرأت القراء إلا أبا عمرو {حَاشَ لِلَّهِ} وليس القياس في الحروف الحذف، إنما ذلك في الأسماء نحو أخ ويد، وفي الأفعال نحو لم يك ولا أدر، وهو قول متين يؤيده أيضًا ما حكاه أبو عمرو الشيباني وغيره أن العرب تخفض بها وتنصب" ا. هـ باختصار يسير، ومثله قول الراعي:
أن على أهوى لألأم حاضر ... حسبا، وأقبح مجلس ألوانا
قبح الإله -ولا أحاشي غيرهم- ... أهل السبيلة من بني حمانا

(1/227)


على فساد ما ذهبوا إليه، يدل عليه أن الاسم يأتي بعد حاشى مجرورًا، قال الشاعر:
[166]
حاشى أبي ثوبان؛ إنَّ به ... ضَنًّا على المَلْحَاة والشَّتم
فلا يخلو: إما أن يكون هو العامل للجر، أو عامل مقدّر، بطل أن يقال عامل مقدّر؛ لأن عامل الجر لا يعمل مع الحذف1 فوجب أن يكون هو العامل على ما بيَّنَّا.
__________
[166] أنشد ابن منظور هذا البيت نقلًا عن الجوهري، ونسبه إلى سبرة بن عمرو الأسدي، ثم قال: وهو منصوب في المفضليات للجميح الأسدي، واسمه منقذ بن الطماح، والصواب أن الشاهد من كلام الجميع، وقد لفق النحاة هذا البيت من بيتين، وصواب الإنشاد هكذا:
حاشى أبا ثوبان؛ إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة فدم
عمرو بن عبد الله؛ إن به ... ضنا عن الملحاة والشتم
والبيت من شواهد مغني اللبيب "رقم 187" والأشموني "رقم 465" وقوله "ليس ببكمة" يريد ليس بأبكم والفدم -بفتح الفاء وسكون الدال- العيي عن الكلام في ثقل وقلة فهم، والملحاة: مفعلة من قولك "لحوت الرجل ولحيته" إذا لمته وألححت في لومك. والاستشهاد بالبيت في قوله "حاشا أبي ثوبان" فقد أتى المؤلف بهذا البيت ليستدل به على أن "حاشا" تجر ما بعدها، وروى "حاشا أبي ثوبان" وكذلك وقعت الرواية في الصحاح واللسان بجر ما بعد حاشا، لكن الثابت في المفضليات وهو الذي حكاه ابن هشام في المغني وتبعه عليه الأشموني نصب ما بعد حاشا في هذا البيت، ونحن لا ننكر أن حاشا يجر ما بعدها؛ فقد ورد ذلك في عدة أبيات، منها قول عمر بن أبي ربيعة وأنشده في اللسان:
من رامها حاشى النبي وأهله ... في الفخر غطغطه هناك المزبد
ومنها ما أنشده في اللسان عن الفَرَّاء ولم يعزه:
حشا رهط النبي؛ فإن منهم ... بحورا لا تكدرها الدلاء
ومنها قول الأقيشر، وأنشده في اللسان أيضا:
في فتية جعلوا الصليب إلههم ... حاشاي إني مسلم معذور
وإنما قلنا إن الياء في "حاشاي" في محل جر لأنها لو كانت في محل نصب لأتى بنون الوقاية فكان يقول "حاشاني" كما قال الآخر في "عدا":
تمل الندامى ما عداني؛ فإنني ... بكل الذي يهوى نديمي مولع
نقول: نحن لا ننكر أن "حاشا" يأتي بعدها الاسم مجرورًا، لكن الاسم في هذا البيت منصوب بعد حاشا في رواية الرواة من حملة الشعر، وقد ذكر ابن هشام الروايتين، ثم قال: ويحتمل أن من روى "حاشا أبا ثوبان" قد أتى بالكلمة على لغة من يلزم الأسماء الستة الألف في الأحوال كلها، وهو كلام عجيب من مثل ابن هشام، أن يحمل البيت على لغة ضعيفة لمجرد أن سيبويه شيخ النحاة لم يحفظ النصب بعد حاشى.
__________
1 في الأصل "لا يعمل مع الحرف" وهو ظاهر التحريف، والمؤلف يشير بهذا إلى رد مذهب الفَرَّاء الذي ذكرناه في شرح الشاهد 165 السابق، وخلاصته أن المجرور بعد حاشى مجرور بحرف جر محذوف، وأن أصل قولك "حاشى زيدًا" بالجر هو "حاشى لزيد" وحاشا فعل ماضٍ، والجار والمجرور متعلق به، =

(1/228)


وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه يتصرف" قلنا: 128 لا نُسَلِّم، وأما قول النابغة:
[165]
وما أُحَاشِي من الأقوام من أحد
فنقول: قوله "أُحَاشِي" مأخوذ من لفظ حاشى، وليس متصرفًا منه، كما يقال: بَسْمَلَ، وهلَّلَ، وحَمْدَلَ، وسَبْحَلَ، وحَوْلَقَ، إذا قال: بسم الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذلك يقال "لبَّى" إذا قال: لبيك، و"أَفَّفَ" إذا قال: أفّة، وهو اسم للضُّجرَة، و"دَعْدَعَ" إذا قال لغنمه: دَاعْ دَاعْ، وهو تصويت بها، و "بأبأ الرجل بفلانٍ" إذا قال له: بأبي أنت، كما قال:
[167]
وإن تُبَأْبَأْنَ وإن تُفَدَّين
__________
[167] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، والاستشهاد به في قوله "تبأ بأن" حيث اشتق هذا الراجز فعلًا من اسم الصوت الذي هو "بأ، بأ" والعرب تشتق من أسماء الأصوات على مثال الدحرجة ثم تأخذ من هذا المصدر أفعالًا على مثال دحرج يدحرج، قالوا: بأبأت الصبي، وبأبأت به، أبأبئ بأبأة؛ إذا قلت له: بأبي أنت وأمي، وأو قلت له: با، با، وكذلك قالوا: بأبأ الصبي أباه؛ إذا قال له: با، با، وقالوا: نخنخت البعير أنخنخه نخنخة؛ إذا قلت له: نخ، وقال ابن جني "سألت أبا عليّ فقلت له: بأبأت الصبي بأبأة إذا قلت له: با، با، فما مثال البأبأة عندك الآن؟ أتزنها على لفظها في الأصل فتقول: مثالها البقبقة بمنزلة الصلصلة والقلقلة؟ فقال: بل أزنها على ما صارت إليه وأترك ما كانت عليه فأقول: الفعللة، قال: وهو كما ذكر" ا. هـ. وقد كتبنا بحثًا وافيًا عن الاشتقاق من أسماء الأصوات والنحت من الجمل في القسم الأول من كتابنا دروس التصريف فارجع إليه إن شئت، ومثل بيت الشاهد قول الراجز الآخر:
وصاحب ذي عمرة داجيته ... بأبأته، وإن أبى فديته
حتى أتى الحي وما آذيته
ومثله قول الآخر:
إذا ما القبائل بأبأننا ... فماذا نرجي ببئبائها؟
__________
= ثم حذف حرف الجر وبقي عمله، وحاصل الرد أن حرف الجر عامل والعامل ضعيف لا يعمل وهو محذوف، ومثله مثل النواصب والجوازم مع الفعل المضارع، لا يعمل شيء منها إلا مذكورًا، وللفراء أن يقول: لا نسلم لكم هذا فقد عمل حرف الجر وهو محذوف، ألا ترى أن رب تعمل محذوفة بعد الواو والفاء وبل، وقد عمل غير رب الجر وهو محذوف، كما في قول الشاعر:
إذا قيل أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع
فأنتم تقررون أن أصل الكلام: أشارت إلى كليب، فحذفت "إلى" وبقي عملها، ومع أن هذا الكلام صحيح لا نرى لك أن تقره وتجعل منه قاعدة مطردة.

(1/229)


فكما بُنِيَتْ هذه الأفعال من هذه الألفاظ وإن كانت لا تتصرف فكذلك ههنا.
وأما قولهم "إن لام الجر تتعلق به" قلنا: لا نسلم، فإن اللام في قولههم "حاشى لله" زائدة لا تتعلق بشيء، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [لأعراف: 154] لأن التقدير فيه: يرهبون ربهم، واللام زائدة لا تتعلق بشيء، وكقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] أي ألم يعلم أن الله؛ والباء زائدة لا تتعلق بشيء، وكقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] أي: أقرأ اسم ربك، وكقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] أي ولا تلقوا أيديكم، وقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أي تنبت الدهن، ويجوز أن تكون هنا مُعَدِّية؛ لأنه يقال: نبت وأنبت، لغتان بمعنى واحد، وكقولهم "بحسبك زيد" أي حسبك وكقول الشاعر:
[168]
نضرب بالسيف ونرجو بالفَرَجْ
أي نرجو الفَرَجَ، والباء زائدة لا تتعلق بشيء فكذلك ههنا.
وأما قوله تعالى: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف: 12] فليس لهم فيه حجة؛ فإن حاشى ههنا ليس باستثناء، إذ ليس هو موضع استثناء، وإنما هو كقولك إذا قيل
__________
= ومثله ما أنشده ابن السكيت:
ولكن يبأبئه بؤبؤ ... وبئباؤه حجا أحجؤه
يبأبئه: يفديه، وبؤبؤ: أي سيد كريم، وبئباؤه: تفديته، وحجأ: فرح وأحجؤه: أفرح به.
[168] هذا بيت من مشطور الرجز ينسب للجعدي من غير تعيين، وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 158" وشرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه البغدادي "4/ 159" وقبل البيت قوله:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
والفلج -بفتح الفاء واللام جميعًا- الماء الجاري، ويقال: البئر الكبيرة، وقالوا: عين خلج، وماء فلج، ويروى "أرباب الفلج" والمعنى واحد، والاستشهاد بالبيت في قوله "نرجو بالفرج" حيث زاد الراجز الباء في المفعول به، وذلك أن الرجاء وما تصرف منه يتعدى إلى المفعول بنفسه، تقول: رجاه يرجوه، وكذلك ارتجاه يرتجيه، ورجاه يرجيه بتضعيف الجيم، قال الله تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُون} وقال بشر:
فرجِّي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزي آبا
وقد اختلفت عبارة العلماء في زيادة الباء في بيت الشاهد، فقال ابن عصفور: زيادة الباء هنا ضرورة، وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب، إنما عدي الرجاء بالباء لأنه بمعنى الطمع، والطمع يتعدى بالباء كقولك: طمعت بكذا، قال الشاعر:
طمعت بليلى أن تجود، وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع

(1/230)


لك فلان يقتل أو يموت أو نحو ذلك "حاشاه" وهذا ليس باستثناء، وإنما هو بمنزلة قولك "بعيدًا منه" فكذلك ههنا.
وأما قولهم "يدخله الحذف والحذف لا يكون في الحرف" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين.
أحدهما: أنا لا نسلم أنه قد دخله الحذف؛ فإن الأصل عند بعضهم 129 في حاشى حاش بغير ألف، وإنما زيدت فيه الألف. وهذا هو الجواب عن احتجاجهم بقراءة من قرأ: {حَاشَ للهِ} ثم نقول: إن هذه القراءة قد أنكرها أبو عمرو بن العلاء سيِّد القُرَّاء، وقال: العرب لا تقول "حاش لك" ولا "حاشك" وإنما تقول "حاشى لك، وحاشاك" وكان يقرؤها "حَاشَى للهِ" بالألف في الوصل، ويقف بغير ألف في الوقف متابعةً للمصحف؛ لأن الكتابة على الوقف لا على الوصل، وكذلك قال عيسى بن عمر الثقفي وكان من الموثوق بعلمهم في العربية: العرب كلها تقول "حاشى لله" بالألف، وهذه حجة لأبي عمرو.
والوجه الثاني: أنا نسلم أن الأصل فيه حاشى بالألف، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال، وقولهم "إن الحرف لا يدخله الحذف" قلنا: لا نسلم، بل الحرف يدخله الحذف، ألا ترى أنهم قالوا في رُبَّ: رُبَ، بالتخفيف، وقد قرئ به، قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] ثم قال الشاعر:
[169]
أَزُهَيْرُ إِنْ يَشِبِ القَذَالُ فإنَّه ... رُبَ هَيْضَلٍ لجِبٍ لَفَفْتُ بهَيْضَلِ
__________
[169] هذا البيت من كلام أبي كبير الهذلي، واسمه عامر بن حلس، وقد استشهد بالبيت رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه البغدادي، في الخزانة "4/ 165" وأنشده موفق الدين بن يعيش "ص1093" وقوله "أزهير" الهمزة فيه للنداء، وزهير: اسم ابن الشاعر، بدليل قوله في قصيدة أخرى:
أزهير هل عن شيبة من مقصر ... أم لا سبيل إلى الشباب المدبر
فقد الشباب أبوك إلا ذكره ... فأعجب لذلك فعل دهر وامكر
والقذال بفتح القاف، بزنة السحاب ما بين نقرة القفا وأعلى الأذن، وهو آخر موضع من الرأس يشيب شعره، وربما أطلق القذال وأريد الرأس كله من باب إطلاق اسم الجزء وإرادة كله، والهيضل -بزنة جعفر- الجماعة من الناس، ولجب -بفتح اللام وكسر الجيم- معناه كثير الجلبة مرتفع الأصوات، ويروى في مكانه "مرس" -بفتح فكسر- ومعناه شديد، وقوله: "لففت" يروى بفاءين ومعناه جمعت، ويروى "لفقت" بفاء بعدها قاف، ومعناه جمعت أيضًا، يريد أنه جمع جيشًا يجيش للحرب والطعان والاستشهاد بالبيت في قوله "رب هيضل": حيث جاء برب مخففة بياء واحدة، وقد اختلف العلماء في الباء الباقية: أساكنة هي أم مفتوحة، فذكر قوم منهم ابن جني أنها ساكنة، وعليه يكون الشاعر قد حذف الباء الثانية =

(1/231)


وقال الآخر:
[170]
أَلَمْ تَعْلَمَنْ يا رَبِّ أَنْ رُبَ دعوة ... دعوتك فيها مخلصًا لو أُجَابُهَا
وفي رُبَّ أربع لغات: ضم الراء وفتحها، مع تشديد الباء وتخفيفها، نحو: رُبَّ، ورُبَ، ورَبَّ، ورَبَ. وكذلك حكيتم عن العرب أنهم قالوا في سوف أفعلُ: "سَوْ أفعل" بحذف الفاء، وحكاه أبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب في أماليه، وحكى ابن خَالَوَيْهِ فيها أيضا "سَفَ أفعل" بحذف الواو، وزعمتم أيضًا أن الأصل في سأفعل: سوف أفعل، فحذفت الواو والفاء معًا، وسوف حرف، وإذا جوّزتم حذف حرفين فكيف تمنعون جواز حذف حرف واحد؟ فدلَّ على فساد ما ذكرتموه، والله أعلم.
__________
= التي كانت مفتوحة وأبقى الأولى على حالها التي كانت عليها، وينشدون بالسكون قول الشاعر:
ألا رب ناصر لك من لؤي ... كريم لو تناديه أجابا
ومنهم من روى "رب" في بيت الشاهد بفتح الباء، وصرح العسكري في كتاب التصحيف بالوجهين، وقد قال أبو علي في كتاب الشعر: الحروف على ضربين: حرف فيه تضعيف، وحرف لا تضعيف فيه؛ فالأول قد يخفف بالحذف منه كما فعل ذلك في الاسم والفعل بالحذف والقلب، وذلك نحو إن وأن ولكن ورب، والقياس إذا حذف المدغم فيه أن يبقى المدغم على السكون، وقد جاء:
أزهير إن يشب القذال.. البيت
ويمكن أن يكون الآخر منه حرك لما لحقه الحذف والتأنيث فأشبه بهما الأسماء" ا. هـ.
[170] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وألفاظه ومعانيه ظاهرة، والاستشهاد به في قوله "رب دعوة" حيث ورد فيه "رب" مخففًا بحذف إحدى الباءين، والكلام فيه كالكلام في الشاهد السابق، ولكن بينهما فرقًا من جهة واحدة، وتلخيصها أن "رب" في البيت السابق مخففة قطعًا، إذ لا يصح وزن البيت إلا على تخفيفها إما بسكون بائها وإما بفتحها، أما في هذا البيت فالوزن يتم على تخفيفها وعلى تشديدها، بل قد يكون تشديدها أوفق، ولا دليل على التخفيف إلا الرواية، وقد أتى المؤلف بالبيت السابق، فيكون قد روي عن أثبات العلماء التخفيف في هذا البيت أيضًا.

(1/232)


38- مسألة: [هل يجوز بناء "غير" مطلقًا؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "غير" يجوز بناؤها على الفتح في كل موضع 130 يحسن فيه "إلا" سواء أضيفت إلى متمكن أو غير متمكن، وذلك نحو قولهم: ما نفعني غير قيام زيد، وما نفعني غير أَنْ قام زيد.
وذهب البصريون إلى أنها يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن، بخلاف ما إذا أضيفت إلى متمكن.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوّزنا بناءها على الفتح إذا أضيفت إلى اسم متمكن أو غير متمكن وذلك لأن "غير" ههنا قامت مقام "إلَّا" وإلا حرف استثناء، والأسماء إذا قامت مقام الحروف وجب أن تُبْنَى، وهذا لا يختلف باختلاف ما يضاف إليه من اسم متمكن كقولك: ما نفعني غير قيامك، أو غير متمكن كما قال:
[171]
لم يمنع الشَّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حمامة في غصون ذات أَوْقَالِ
__________
[171] هذا البيت قد استشهد به سيبويه "1/ 369" ولم يعزه، وعزاه الأعلم إلى رجل من كنانة ولم يعينه، واستشهد به رضي الدين في باب الاستثناء وفي باب الظرف وقد شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 45" ونسبه لأبي قيس بن الأسلت، وأنشده ابن منظور "وق ل" ولم يعزه، واستشهد به ابن هشام في مغني اللبيب مرتين "رقم 262" فانظره ف ي"ص159 و 517" والأوقال: الأعالي وهو أيضا ثمار الدوم، ومنه قالوا "توقل في الجبل" أي صعد وارتفع. يقول الشاعر: لم يمنعنا من التعريج على الماء إلا صوت حمامة ذكرتنا من نحب فهيجتنا وحثتنا على السير، وموطن الاستشهاد فيه قوله "غير أن نطقت" فإن الرواية فيه بفتح "غير" مع أنها فاعل لقوله "لم يمنع" فدلَّ ذلك على أنه بناها على الفتح؛ قال الأعلم: =
__________
1 انظر في هذه المسألة: كتاب سيبويه "1/ 368" ومغني اللبيب لابن هشام "ص159 و516" وشرح الأشموني "3/ 421 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "2/ 221".

(1/233)


وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن، ولا يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى متمكن، وذلك لأن الإضافة إلى غير
__________
= "الشاهد فيه بناء غير على الفتح لإضافتها إلى غير متمكن، وإن كانت في موضع رفع، وذلك أن "أن" حرف يوصل بالفعل، وإنما تؤولت اسمًا مع ما بعدها من صلتها لأنها دلت على المصدر ونابت منابه في المعنى، فلما أضيفت غير إليها مع لزومها للإضافة بنيت معها، وإعرابها على الأصل جائز حسن، ونظير بنائها بناء أسماء الزمان إذا أضيفت إلى الجمل والأفعال، كقولك: عجبت من يوم قام زيد ومن يوم زيد قائم؛ لأن حق الإضافة أن تقع على الأسماء المفردة دون الأفعال والجمل، فلما خرجت عن أصلها بني الاسم" ا. هـ. وقال سيبويه: "والحجة على أن هذا في موضع رفع أن أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعًا:
لم يمنع الشرب منها ... البيت
وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع، فقال الخليل: هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع، فكذلك غير أن نطقت، وكما قال النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت: ألما تصح والشيب وازع؟
أنه جعل حين وعاتبت اسمًا واحدًا" ا. هـ.
وقد جعل الأعلم إضافة غير في هذا البيت إلى غير متمكن -أي إلى مبنيّ- بسبب وجود "أن" المصدرية في صدر المضاف إليه، مع علمه أن أن المصدرية حرف، وأن الحرف لا يقع في موقع من مواقع الإعراب أصلًا؛ فلا يكون مضافًا إليه، بل مع علمه أن هذا الحرف المصدري مع مدخوله في تأويل اسم مفرد معرب -وهو المصدر المسبوك من أن ومدخولها- وأنت لو تأملت في هذا البيت وجدت البصريين والكوفيين متَّفقين على جواز بناء غير في هذا البيت وأمثاله، ولكن الاختلاف بينهم في تعليل هذا البناء، فالكوفيون يعللونه -على ما قال المؤلف عنهم- بأنها قامت مقام إلا الاستثنائية، والبصريون قد عللوه بأنها أضيفت إلى مبني فاكتسبت البناء من المضاف إليه، وذلك كما يكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير والتأنيث، وقد فصل ابن هشام في مغني اللبيب "ص510 ما بعدها" الأمور التي يكتسبها المضاف من المضاف إليه، فارجع إليها إن شئت.
ومن شواهد بناء غير لكونها أضيفت إلى مبنيّ -على ما يقول البصريون- قول الشاعر وأنشده ابن هشام في المغني:
لذ قيس حين يأبى غيره ... تلقه بحرا مفيضًا خيره
الرواية في هذا البيت بفتح "غيره" بدليل الروي، ونظير ما أنشده المؤلف في بناء غير لكونها أضيفت إلى جملة مصدره بأن قول الحارث بن حلزة اليشكري من قصيدته التي تعد في المعلقات، وهو من شواهد الرضي:
غير أني قد أستعين على الـ ... هم إذا خف بالثوى النجاء
فغير ههنا استثناء منقطع، وهي مفتوحة، ويجوز أن تكون فتحتها فتحة إعراب، ويجوز أن تكون فتحة بناء، وفي هذا القدر كفاية ومقنع إن شاء الله.

(1/234)


المتمكن تجوّز في المضاف البناء، قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] فبنى "يومَ" في قراءة من قرأ بالإضافة والفتح وهي قراءة نافع وأبي جعفر؛ لأنه أضيف إلى "إذ" وهو اسم غير متمكن، وقال الشاعر:
[172]
رددنا لِشَعْثَاءَ الرسولَ، ولا أَرَى ... كيومئذٍ شيئًا تُرَدُّ رَسَائِلُهْ
فكذلك ههنا، وسبب هذا يُسْتَقْصَى في الجواب إن شاء الله تعالى، وأما الإضافة إلى المتمكن فلا تجوّز في المضاف البناء فقلنا: إنه باقٍ على أصله في الإعراب، فكذلك ههنا؛ وسنبين هذا مستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى:
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنها في معنى إلا فينبغي أن تبنى" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأنه لو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال: "زيد مثل عمرو" فيبنى "مثل" على الفتح لقيامه مقام الكاف؛ لأن قولك: "زيد مثل عمرو" في معن ى"زيد كعمرو" ولما وقع الإجماع على خلاف ذلك دلَّ على فساد ما ادَّعيتموه.
وأما قول الشاعر:
[171]
لم يمنع الشَّرْبَ منها غير أن نَطَقَتْ ... حمامة في غصونٍ ذاتِ أَوْقَالِ
فنقول: لا نسلم أنه بنى لأنه قام مقام "إلا" وإنما بنى "غير" لأنه إضافة إلى غير متمكن، والاسم إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه، ولهذا نظائر كثيرة من كتاب الله تعالى وكلام العرب، وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]
__________
[172] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وشعثاء: اسم امرأة، والرسول هنا الرسالة، ومنه قول كثيرة عزة:
لقد كذب الواشون، ما بحت عندهم ... بسر، ولا أرسلتهم برسول
وقول الأسعر الجعفي:
ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... بأني عن فتاحتكم غني
وقول العباس بن مرداس السلمي:
إلا من مبلغ عني خفافا ... رسولًا بيت أهلك منتهاها؟
والاستشهاد بالبيت في قوله "كيومئذ" فإن الرواية فيه بفتح يوم مع أنه مدخول حرف الجر، فدلَّ ذلك على أنه بناه على الفتح لإضافته إلى المبنيّ وهو "إذ" وأنت خبير بأن تنوين "إذ" هو تنوين العوض عن الجملة التي من حق "إذا" أن يضاف إليها، كما في قوله تعالى: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} تقديره: ويوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون؛ وكذلك قوله سبحانه: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} في قراءة من قرأ بفتح يوم، ويجوز الإعراب مع ذلك، فتجعل فتح يوم في الآية الأولى فتح الإعراب وأنه منصوب على الظرفية متعلق بيفرح، وقد قرئ في الآية الثانية بجر يوم من يومئذ، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى:

(1/235)


في قراءة من قرأ "مِثْلَ" بالفتح، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب، وإن كان في موضوع رفع؛ لأنه اسم مبهم مثل غير أضيف إلى غير متمكن، وقال تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذ} [هود: 66] فيمن قرأ بالفتح، وقال تعالى: {من عَذَابِ يَوْمِئِذ} [المعارج: 11] فيمن قرأ بالفتح، وهي قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر، ثم قال الشاعر:
[173]
أَزَمَانَ من يُرِدِ الصَّنِيعَةَ يُصْطَنَعْ ... فينا، ومن يرد الزَّهَادَةَ يُزْهَدِ
فبنى "أزمان" لإضافته إلى "من" وهو غير متمكن وقال الآخر:
[174]
على حين من تَلْبَثْ عليه ذنُوبُه ... يجد فَقْدَهَا وفي المقام تَدَابُرُ
فبنى "حين" لإضافته إلى "من" وقال الآخر:
[175]
على حين عاتبتُ المشيب على الصَّبَا ... وقلتُ: ألمَّا تَصْحُ والشيب وازعُ؟
__________
[173] الصنيعة: كل معروف تسديه إلى غيرك تصطنعه به، أي تعجله من نفرك، وقال الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها مكان المصنع
والاستشهاد بالبيت في قوله "أزمان من يرد ... إلخ" فإنه يجوز في "أزمان" أن يكون مبنيًّا على الفتح لكونه ظرفًا مبهمًا قد أضيف إلى جملة مصدرة باسم مبني وهو من ويجوز أن يكون منصوبًا على الظرفية، ونظيره قول العجاج:
أزمان أبدت واضحًا مفلجًا ... أغر براقًا وطرفًا أدعجا
[174] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 441" والرضي في باب الجوازم، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 649" والذنوب -بفتح الذال- الدلو إذا كانت مملوءة بالماء، وقد ضربه مثلا لما يدلى به من الحجة، وقوله "يجد فقدها" روى سيبويه في مكان هذه العبارة "يرث شربه" والشرب -بالكسر- الحظ من الماء، والمقام: أراد به مقامًا فأخر فيه غيره وكثرت المخاصمة فيه والمحاجة، والتدابر -بالباء الموحدة- التقاطع، وأصله أن يولي كل واحد من الخصمين صاحبه دبره، وروى سيبويه "تداثر" بالثاء المثلثة -وهو التزاحم-. وأصله مأخوذ من الدثر -بفتح الدال وسكون الثاء- وهو المال الكثير. والاستشهاد بالبيت في قوله "على حين من ... إلخ" فإن الرواية فيه بفتح حين مع دخول حرف الجر عليها، وذلك دليل على أن الشاعر بنى هذه الكلمة على الفتح؛ إذ لو كان أعربها لجرها بالكسرة، وإنما بناها لكونها مضافة إلى جملة صدرها مبني -وهو "من"- وقد ذكر سيبويه أن إضافة "حين" إلى "من" الشرطية ضرورة من ضرورات الشعر، قال الأعلم: "الشاهد مجازاته بمن مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة، وحكمها ألا تضاف هي وإذا إلا إلى جملة مخبريها، والمبهمات إنما تفسر وتوصل بالأخبار، وجاز هذا في الشعر تشبيهًا لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر والفعل والفاعل" ا. هـ.
[175] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني، وهو من شواهد سيبويه "1/ 369" وابن يعيش "335 =

(1/236)


وقال الآخر:
[176]
على حين انْحَنَيْتُ وشابَ رَأْسِي ... فأي فتى دعوت وأي حينِ؟
وقال الآخر:
[177]
يمُرُّون بالدَّهْنَا خفافًا عيابُهُم ... ويخرجن من دَاِرين بُجْرَ الحَقَائِبِ
__________
= و545" ورضي الدين في شرح الكافية في باب الظروف، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 151" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 777" والأشموني "رقم 618" وأوضح المسالك "رقم 335" وابن عقيل "رقم 237" وشذور الذهب "رقم 25" وعاتبت: فعل ماضٍ من العتاب، وهو اللوم في تسخط وكراهية، والمشيب: الشيب، والصبا -بكسر الصاد- الصبوة وهي الميل إلى شهوات النفس واتباع لذائذها، وأصح: مضارع من الصحو، وأصله ضد السكر، وأراد هنا الرجوع إلى ما هو خليق به من كمالات النفس، والوازع: اسم الفاعل من وزعه يزعه كوضع يضع أي نهاه وزجره وكفه عن فعل المقابح. والاستشهاد به في قوله "على حين عاتبت" فإنه يروى بفتح حين وبجره، أما فتحه -مع دخول حرف الجر عليه- فبسبب بنائه على الفتح لكونه أضيف إلى جملة صدرها فعل ماضٍ مبني، فاكتسب المضاف البناء من المضاف إليه، وأما جره فعلى الأصل، فمجموع الروايتين يدلُّ على أن الظرف المبهم إذا أضيف إلى جملة صدرها مبني جاز فيه الإعراب على أصله والبناء لاكتسابه البناء مما أضيف إليه.
[176] انحنيت: أراد كبرت سني وضعفت قوتي فصرت لا أمشي إلا منحني الظهر والاستشهاد به في قوله "على حين انحنيت" حيث وردت "حين" بالفتح مع دخول حرف الجر عليها، فيدل ذلك على أنه بناها على الفتح لإضافتها إلى جملة صدرها مبني وهو الفعل الماضي، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة.
[177] هذان البيتان من شواهد سيبويه "1/ 59" ولم يعزهما ولا عزاهما الأعلم، وقد أنشدهما ابن منظور "ن د ل" من غير عزو، وهما من شواهد الأشموني "رقم 14" وأوضح المسالك"رقم 48" وابن عقيل "رقم 162" وقد نسبهما العيني إلى الأحوص ثم قال: "وذكر في الحماسة البصرية أن قائلهما هو أعشى همدان يهجو لصوصًا، وقال الجوهري: قال جرير يصف ركبًا:
يمرون بالدَّهْنَا خفافًا ...
والأظهر ما قاله في الحماسة" ا. هـ، وقال ابن منظور: "وندل التمر من الجلة والخبز من السفرة يندُلُه ندلًا: غرف منهما بكفه جمعاء كتلًا، وقيل: هو الغرف باليدين جميعًا، والرجل مندل بكسر الميم، وقال يصف ركبا ويمدح قوم دارين بالجود:
يمرون بالدَّهْنَا ... البيتين
يقول: اندلي يا زريق -وهي قبيلة- ندل الثعالب، يريد السرعة، والعرب تقول: أكسب من ثعلب، قال ابن بري: وقيل في هذا الشاعر: أنه يصف قوما لصوصًا يأتون إلى دارين فيسرقون ويملئون حقائبهم ثم يفرغونها ويعودون إلى دارين، وقيل: يصف تجارًا، وقوله =

(1/237)


على حين ألهى الناس جُلُّ أُمُورِهِمْ ... فَنَدْلًا زُرَيْقُ المال نَدْلَ الثَّعَالِبِ
وإذا بني المضاف في هذه الأماكن من كتاب الله تعالى وكلام العرب لإضافته إلى غير متمكن دلَّ على أن قوله "غير أن نطقت" مبنيٌّ لإضافته إلى غير متمكن على ما بيَّنَّا، والله أعلم.
__________
= "على حين ألهى الناس جل أمورهم" يريد حين اشتغل الناس بالفتن والحروب، والبجر: جمع أبجر، وهو العظيم البطن: والندل: التناول، وبه فسر بعضهم قوله فندلا زريق المال" ا. هـ كلامه بحروفه. والاستشهاد به ههنا في قوله "على حين ألهى الناس" فإن الرواية فيه قد جاءت بفتح "حين" مع دخول حرف الجر عليه؛ فدلَّ على أنه بناه، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة.

(1/238)


39- مسألة: [هل تكون "سوى" اسمًا أو تلزم الظرفية؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "سُِوًى" تكون اسمًا وتكون ظرفًا. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون إلا ظرفًا.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها تكون اسمًا بمنزلة "غير" ولا تلزم الظرفية أنهم يدخلون عليها حرف الخفض، قال الشاعر:
[178]
ولا ينطق المَكْرُوهَ مَنْ كَانَ مِنْهُمُ ... إذا جلسوا مِنَّا ولا من سِوَائِنَا
__________
[178] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 13 و 203" وأنشده ابن منظور "س وى" وقد استشهد به الأشموني "رقم 454" وابن عقيل "رقم 171" والبيت من كلام المرار بن سلامة العجلي، وقد نسب في كتاب سيبويه إليه مرة "1/ 13" ونسب مرة أخرى "1/ 203" لرجل من الأنصار غير معين، وقوله "ولا ينطق المكروه" يروى مكانه في "ولا ينطق الفحشاء" والفحشاء: الكلام القبيح، تقول: "أفحش الرجل في كلامه، وفحش -بتشديد الحاء- وتفحش؛ إذا أردت أنه يتكلم بقبيح الكلام، وقوله "إذا جلسوا" رويت هكذا في كتاب سيبويه "1/ 13" ورويت فيه أيضا "1/ 293" "إذا قعدوا" والمعنى واحد. والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا من سوائنا" حيث أتى بسواء مجرورة بمن، والكوفيون يستدلون بهذا البيت ونحوه على أن "سوى" تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل فتقع مبتدأ وفاعلًا واسمًا لأن ومجرورًا بحروف الجر، وسيبويه وشيخه الخليل ينكران ذلك، ويزعمان أنها بجميع لغاتها لا تخرج عن النصب على الظرفية إلا في ضرورة الشعر، ولكن كثرة الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم -وفيها استعمال هذه الكلمة في مواضع كثيرة من مواضع الإعراب- ترجح مذهب الكوفيين، وقريب منه مذهب الرُّمَّاني وأبي البقاء العكبري: زعمًا أن "سوى" تستعمل ظرفًا وتستعمل غير ظرف، إلا أن مجيئها منصوبة على الظرفية أكثر، وقد رجحه ابن هشام في مغني اللبيب، قال "وإلى مذهبهما أذهب" ا. هـ.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "2/ 476 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "2/ 141 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "1/ 436" وشرح رضي الدين على الكافية "1/ 227" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص298" وشرح ابن عقيل "1/ 517 بتحقيقنا" ولسان العرب "س وى".

(1/239)


فأدخل عليها حرف الخفض، وقال الشاعر:
[179]
تَجَانَفُ عن جوِّ اليمامة ناقتي ... وما قَصَدَتْ من أهلها لِسِوَائِكَا
فأدخل علها لام الخفض؛ فدلَّ على أنها لا تلزم الظرفية، وقال أبو دُؤَاد:
[180]
وكل من ظن أن الموت مخطئُهُ ... مُعَلَّلٌ بِسَواء الحقِّ مكذُوبُ
وقال الآخر:
[181]
أكُرُّ على الكَتِيبَةِ لا أُبَالِي ... أفيها كان حَتْفِي أم سِوَاهَا
فسواها: في موضع خفض بالعطف على الضمير المخفوض في "فيها" والتقدير: أم في سواها.
والذي يدلّ على ذلك أنه روي عن بعض العرب أنه قال "أتاني سواؤك" فرفع؛ فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه.
__________
[179] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 13" وقد نسبه إلى الأعشى، وكذلك نسبة الأعلم الشنتمري، وأنشده ابن منظور "س وى" وهو من شواهد الرضي في باب الاستثناء، وشرحه البغدادي في الخزنة "2/ 59" وقوله "تجانف" هو فعل مضارع، وأصله تتجانف، فحذف إحدى التاءين، والتجانف: الانحراف، وصف أنه لا يعدل في قصده على غير هذا الممدوح، وجعل الفعل للناقة مجازا. والاستشهاد بالبيت في قوله "لسوائكا" حيث أتى بسواء متأثرة بالعامل الذي هو لام الجر، فدلَّ ذلك على أنها تخرج عن النصب على الظرفية إلى الوقوع في مواقع الإعراب المختلفة، على نحو ما بيَّنَّاه في شرح البيت السابق.
[180] هذا البيت من كلام أبي دُؤَاد -كما قال المؤلف- واسم أبي دؤاد جويرية بن الحجاج، ويقال جارية بن الحجاج، وهو من شواهد الأشموني "رقم 455" وقوله "مخطئه" هو اسم الفاعل من قولك "أخطأك كذا" أي فاتك ولم يصبك، وفي الحديث "واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك" وقوله "معلل" هو اسم المفعول من قولك: "عللت فلانًا بكذا" إذا شغلته ولهيته به عن شيء يرغب فيه، وسواء الحق: أي غيره، والاستشهاد به في قوله "بسواء الحق" حيث أتى بكلمة "سواء" متأثرة بالعامل الذي هو باء الجر، وهو دليل للكوفيين على أنها لا تلزم النصب على الظرفية كما يقول سيبويه والخليل، وقد بيَّنَّا ذلك في شرح الشاهد 178.
[181] أكر: أي أرجع، يريد أنه قدم ولا يفر، والكتيبة: الجماعة من الجيش، والحتف -بفتح الحاء وسكون التاء المثناة- الموت والهلاك. وقد أنشد الكوفيون هذا البيت دليلًا عل أن "سوى" تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل، وذلك أنهم أعربوا "سوى" معطوفًا على الضمير المجرور محلًّا بفي في قوله "أفيها" وتقدير الكلام عندهم: أفي هذه الكتيبة كان هلاكه أم في كتيبة أخرى، ولم يرتضِ المؤلف هذا الإعراب مع أنه هو المتبادر، وجعل "سوى" منصوبًا عل الظرفية كما هو مبين في كلامه.

(1/240)


وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنهم ما استعملوه في اختيار الكلام إلا ظرفًا، نحو قولهم "مرت بالذي سواك" فوقوعها هنا يدل على ظرفيتها بخلاف غير، ونحو قولهم "مررت برجل سواك" أي مررت برجل مكانك، أي: يغني غَنَاءك ويسدُّ مسدَّكَ، وقال لبيد:
[182]
وابْذُلْ سَوَامَ المَالِ إنَّ ... سِوَاءَهَا دُهْمًا وجُونَا
فنصب سواءها على الظرف، ونصب "دهما" بإن، كقولك: إن عندك رجلا قال الله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} [المزمل: 12] والجون ههنا: البيض، وهو جمع جون، وهو من الأضداد، يقع على الأبيض والأسود، ولو كانت مما يستعمل اسمًا لكثر ذلك في استعمالهم، وفي عدم ذلك دليل على أنها لا تستعمل إلا ظرفًا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما أنشدوه من قول الشاعر:
[178]
إذا ما جلسوا منا ولا من سوائنا
وقول الآخر:
[179]
وما قصدت من أهلها لسوائكا
فإنما جاز ذلك لضرورة الشعر، وعندنا أنه يجوز أن تخرج عن الظرفية في ضرورة الشعر، ولم يقع الخلاف في حال الضرورة، وإنما فعلوا ذلك واستعملوها
__________
[182] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وسوام المال بفتح السين والواو جميعًا الذي يرعى حيث شاء لا يمنعه أحد، وهي أيضًا سائمة، وقد سامت تسوم، وأسامها صاحبها، وقال الله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُون} والدهم: جمع الأدهم وهو الذي لونه الدهمة -بالضم- وهي السواد وتكون الدهماء والدهم خيار الخيل والإبل عندهم، والجون -بضم الجيم- جمع جون بفتحها، وهو الأسود، وهو أيضًا الأبيض، ويقال: كل بعير جون من بعيد، وكل لون سواد مشرب حمرة فهو جون. والاستشهاد بالبيت في قوله "إن سواءها دهمًا وجونًا" حيث استعمل "سواء" ظرفًا متعلقًا بمحذوف يقع خبرًا لإن مقدمًا على اسمها، و "دهما" اسم إن تأخر عن خبرها، ولو أنه لم يستعمل سواء ظرفًا لنصبه على أنه اسم إن ورفع ما بعده؛ وذلك لأن اسم إن لا يتأخر عن خبرها إلا أن يكون الخبر ظرفًا نحو قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} أو جار ومجرورًا نحو قوله سبحانه: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَة} .
وأنت خبير -بعد الذي قررنا لك- أن الكوفيين لا يمانعون في أن تستعمل "سواء" بجميع لغاتها ظرفًا، ولكنهم يقررون أنها كما تكون ظرفًا تكون غير ظرف وتقع في جميع مواقع الإعراب متأثرة بالعوامل؛ فهذا الشاهد وغيره وآلاف الشواهد التي استعملت سواء فيها ظرفًا لا تنقض مذهبهم، فتنبه لذلك والله يعصمك.

(1/241)


اسمًا بمنزلة غير في حال الضرورة لأنها في معنى غير، وليس شيء يضطرون إليه إلا ويحاولون له وجهًا.
وأما قوله الآخر:
[181]
أفيها كان حتفي أم سِوَاهَا
فليس "سواها" في موضع جرّ بالعطف على الضمير المخفوض في فيها، وإنما هو منصوب على الظرف؛ لأن العطف على الضمير المجرور لا يجوز، وإنما هذا شيء تَبْنُونَهُ على أصولكم في جواز العطف على الضمير المخفوض، وسنبين فساده مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى:
وأما ما رووه عن بعض العرب أنه قال "أتاني سِوَاؤُكَ" فرواية تَفَرَّدَ بها الفَرَّاءُ عن أبي ثَروانَ، وهي روايةٌ شاذة غريبة؛ فلا يكون فيها حجة. والله أعلم.

(1/242)