الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

40- مسألة: ["كم" مركّبة أو مفردة؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "كم" مركبة. وذهب البصريون إلى أنها مفردة موضوعة للعدد.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في كم "ما" زيدت عليها الكاف؛ لأن العرب قد تصل الحرف في أوله وآخره، فما وصلته في أوله نحو: "هذا، وهذاك" وما وصلته في آخره نحو قوله تعالى: {إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} [المؤمنون: 93] فكذلك ههنا: زادوا الكاف على "ما" فصارتا جميعًا كلمة واحدة، وكان الأصل أن يقال في "كم مالك": كما مالك، إلا أنه لما كثرت في "134" كلامهم وجرت على ألسنتهم حذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها، كما فعلوا في "لِمْ" فصار "كم مالك" والمعنى: كأي شيء مالُكَ من الأعداد، والدليل على ذلك قولهم "كأيِّنْ من رجل رأيت" أي: كم من رجل رأيت، ونظير كم "لِمَ" فإن الأصل في لم "ما" زديت عليها اللام؛ فصارتا جميعًا كلمة واحدة، وحذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت ميمها، فقالوا: لم فعلتَ كذا؟ قال الشاعر:
[131]
يا أبا الأسودِ لِمْ أَسْلَمْتَنِي ... لهمومٍ طارقاتٍ وذِكَر؟
وقال الآخر:
[183]
يا أَسَديُّ لم أكلته لِمَهْ؟ ... لو خافك اللهُ عليه حَرَّمَهْ
فما قَرِبْتَ لحمه ولا دَمَهْ
__________
[183] أنشد ابن منظور هذا الشاهد "روح" ونسبه إلى سالم بن دارة، ولكنه روى أوله "يا فقعسي" والفقعسي: المنسوب إلى فقعس، والأسدي: المنسوب إلى أسد، و "لم" مؤلفة من لام الجر مكسورة و "ما" الاستفهامية، وقد حذف ألف "ما" الاستفهامية لدخول حرف =
__________
1 انظر قبل كل شيء مناقشة الفريقين في المسألة الخامسة والعشرين، ثم انظر: شرح الأشموني وحاشية الصبان عليه "4/ 70 بولاق" وشرح الكافية لرضي الدين "2/ 89" ولسان العرب "ك م م".

(1/243)


يعني جَرْوَ كلب، ويقال: إن بني أسد كانت تأكله، فتعير ذلك.
وزيادة الكاف كثيرة، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وحكي عن بعض العرب أنه قيل له: كيف تصنعون الأقِطَ؟ قال: كَهيَّنٍ، وقال الراجز:
[184]
لَوَاحِقُ الأقراب فيها كالمَقَقْ
__________
= الجر عليها كما عرفت في شرح الشاهد رقم 131، ثم لم يكتفِ بحذف الألف حتى سكن الميم بعد أن كانت مفتوحة، و "لمه" مؤلفة كسابقتها من لام الجر مكسورة و "ما" الاستفهامية، وهذه الهاء يجوز أن تكون هاء السكت اجتلبها الراجز ليقف على "ما" الاستفهامية بعد حذف ألفها لكونها مجرورة بحرف الجر، ويجوز أن يكون قلب ألف "ما" هاء حين أراد الوقف، كما فعل راجز آخر في قوله. وأنشده ابن يعيش "454 و1282":
قد وردت من أمكنه ... من ههنا ومن هنه
إن لم أروها فمه
ألا ترى أنه قلب ألف "هنا" هاء، وقلب ألف "ما" في قوله "فمه" هاء، وأصل الكلام: إن لم أروها فما يكون؟ وأنت ترى أن الراجز الذي استشهد به المؤلف قد حذف ألف "ما" الاستفهامية وسكن الميم مرة، وقلب ألفها هاء، مرة أخرى، وهذا نوع من التصرف في الاسم الذي يشبه الحرف، وهو ما يريد المؤلف أن يقرره، فافهم ذلك والله يرشدك.
[184] هذا البيت من الرجز المشطور، وهو من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج، والبيت من أبيات منها وصف فيها حمار وحش وأتنه التي شبه ناقته بها في الجلادة وسرعة العدو، وليس في وصف الخيل كما زعم العيني، وقبل البيت قوله:
قب من التعداء حقب في سوق
وهو من شواهد الأشموني "رقم 560" وابن عقيل "رقم 210" ورضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 266" وابن منظور "م ن ل"والقب: جمع أقب أو قباء، وهو وصف من القبب -بالتحريك- وهو دقة الخصر، يريد أنهن ضامرات البطون، والتعداء: أحد مصادر "عدا يعدو" أي أسرع السير، والحقب: جمع أحقب أو حقباء، والسوق -بفتح السين والواو- جميعًا طول الساق أو غلظها أو حسنها، واللواحق: جمع لاحقة، وهي الهزيلة الضامرة، وفعله من باب فرح، والأقراب: جمع قرب -كقفل أو عنق- وهو البطن، والمقق -بالتحريك- الطول، ويقال: هو الطول الفاحش في دقة. والاستشهاد بالبيت في قوله "كالمقق" فإن الكاف في هذه الكلمة حرف جر زائد لا يدل على معنى التشبيه، وهذ تخريج جماعة من النحاة منهم أبو علي الفارسي وابن جني وابن السَّرَّاج والرضي، وحمل أبو علي على زيادة الكاف قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} فزعم أن تقدير الكلام: أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، أو الذي مر على قرية، وهذا يدل على أنه لا يرى زيادة الكاف قاصرة على الضرورة الشعرية، فتنبه لهذا.

(1/244)


أي: المَقَقُ، وهو الطُّولُ..
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها مفردة لأن الأصل هو الإفراد، وإنما التركيب فرع، ومَنْ تمسك بالأصل خرج عن عُهْدَة المطالبة بالدليل، ومَنْ عَدَلَ عن الأصل افتقر إلى إقامة الدليل؛ لعدوله عن الأصل، واستصحابُ الحال أحد الأدلة المعتبرة.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل في كم ما زيدت عليها الكاف" قلنا: لا نسلم؛ فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى.
قولهم "إن العرب قد تصل الحرف في أوله نحو هذا" فقد قدمنا الجواب عنه فيما سبق.
وأما قولهم "كان الأصل أن يقال في كم مالك: كما مالك، إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت الميم كما فعلوا ذلك في لِمَ" قلنا: لا نسلم أنه يجوز إسكان الميم في "لم" في اختيار الكلام، وإنما يجوز ذلك في الضرورة؛ فلا يكون فيه حجة، قال الشاعر:
[131]
يا أبا الأسود لِمْ أسلمتني
وكما قال الأخر:
[183]
يا أسديُّ لم أكلته لِمَهْ
فسكن "لم" للضرورة، تشبيهًا لها بما يجيء من الحروف على حرفين الثاني منهما ساكن؛ فلا يكون فيه حجة. ثم لو كان الأمر كما زعمتم وأن كم كلِمَ لوجب أن يجوز فيها الأصل كما يجوز الأصل في لم فيقال: كَمَا مَالُكَ، كما يقال: لِمَا فعلت، وأن يجوز فيها الفتح مع حَذْفِ الألف كما يجوز في لِمَ فيقال: كَمَ مَالُكَ، كما يجوز لِمَ فعلت، وأن يجوز فيها هاء الوقف فيقال: كَمَهْ، كما يجوز في لِمَ هاء الوقف يقال: لِمَهْ؛ فلما لم يجز ذلك دلَّ على الفرق بينهما.
وأما قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلا نسلم أن الكاف فيه زائدة؛ لأن "مثله" ههنا بمعنى هو، فكأنه قال ليس [كـ] هو شيء، والمِثلُ يطلق في كلام العرب ويُرَاد به ذات الشيء، يقول الرجل منهم: مِثْلِي لا يفعل هذا، أي: أنا لا أفعل هذا، ومثلي لا يقبل من مثلك، أي: أنا لا أقبل منك، قال الشاعر:
[185]
يا عاذِلي دَعْنِي من عَذْلِكَا ... مثلى لا يَقْبَلُ من مثلكا
__________
[185] العاذل: الذي يلوم في تسخط وكراهية لما يلومك فيه، ودعني: اتركني وقوله "مثلي لا يقبل من مثلك" أصل معناه: من كان متصفًا بصفاتي فإنه لا يقبل ممن كان متصفًا =

(1/245)


أي: أنا لا أقبل منك. ثم لو قلنا إن الكاف ههنا زائدة لما امتنع؛ لأن دخول الكاف ههنا كخروجها، ألا ترى أن معنى "ليس كمثله شيءٌ" ومعنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} واحدٌ. وكذلك الكاف في قوله: كَهَيِّنٍ، وقول الراجز:
[184]
لواحق الأقراب فيها كَالمَقَقْ
بخلاف الكاف في "كَمْ" فإن الكاف في كم ليس دخولها كخروجها، بل لو قدّرنا حذفها من الكلام لاختلّ معناها ولم تحصل الفائدة بها، ألا ترى أن قولك "ما مالُكَ" لا يفيد ما يفيد قولك "كم مالُكَ" فدلَّ على الفرق بينهما، والله أعلم.
__________
= بصفاتك، وقد جرت عادة العرب في كلامهم أنهم يكنون بهذه العبارة عن معنى "أنا لا أقبل منك" قال ابن هشام في المغني "ص179": "ولأنهم إذا بالغوا في نفي الفعل عن أحد قالوا "مثلك لا يفعل كذا" ومرادهم إنما هو النفي عن ذاته، ولكنهم إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه" ا. هـ. وقال الخطيب القزويني في الإيضاح "ص325 بتحقيقنا" وهو يمثل للكناية: "وكقولهم مثلك لا يبخل. قال الزمخشري: نفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية؛ لأنهم إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه" وأقول: إن العرب تسلك سبيل الكناية بلفظ مثل ولفظ غير فيقولون: مثلك يرعى الحق، ومثلك يعرف الفضل لذويه، ومثلك لا يغضي على القذى، ومثلك يؤدّي الواجب، ومنه قول الشاعر:
مثلك يثني المزن عن صوبه ... ويسترد الدمع مع غربه
وقالوا: غيري يخوف بالتهديد، وغيري يقنع باليسير، وغيري يفعل كذا، وهم يريدون أنا لا أخوف بالتهديد، وأنا لا أقنع باليسير، وأنا لا أفعل كذا، ومنه قول الشاعر وهو المتنبي:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
وكذلك قول الآخر: وهو أبو تمام:
وغير يأكل المعروف سحتًا ... وتشحب عنده بيض الأيادي
وقد سبقهما إلى مثل ذلك عنترة بن شداد العبسي في قوله:
سواي يهاب الموت أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يعيش مخلدا
وهذا أبلغ من أن يقول: أنا لا أهاب الموت، وأنا لا آكل المعروف سحتًا، وأنا لا أنخدع بأكثر الناس، أما أن المراد بهذا الكلام ما ذكرناه فقد أوضحه الشاعر في قوله:
ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فردًا بلا مشبه
وأما أنه أبلغ مما لو صرحت بالضمير المنفصل وحذفت المثل والغير فلأنه كناية، والكناية -كما هو مقرر- أبلغ من التصريح؛ لأنها تساوي عند التحقيق ذكرى الدعوى مع إقامة البينة عليها.

(1/246)


41- مسألة: [إذا فصل بين "كَمْ" الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورً ا؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا فصل بين "كم" في الخبر وبين الاسم بالظرف وحرف الجر كان مخفوضًا، نحو: كم عندك رَجُلٍ، وكم في الدار غلامٍ؟. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيه الجر، ويجب أن يكون منصوبًا.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يكون مخفوضًا بدليل النقل والقياس:
أما النقل فقد قال الشاعر:
[186]
كم بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلَى ... وشَرِيفٍ بُخْلُهُ قد وَضَعَهْ
__________
[186] هذا البيت من كلام أنس بن زنيم، الكناني، أحد بني الديل بن بكر، وهو من شواهد سيبويه "1/ 296", ابن يعيش في شرح المفصل "ص582" ورضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 119" والأشموني "رقم 1138" والمقرف: النذل اللئيم الأب، ومعنى البيت أنه قد يرتفع اللئيم بجوده، ويتضع الكريم الأب بسبب بخله، ومحل الشاهد في البيت قوله "كم بجود مقرف نال العلا" واعلم أولا أن "كم" في هذا البيت خبرية تدل على التكثير، كأنك قلت: كثير من المقرفين نالوا العلا بسبب جودهم وكثير من الذين لهم آباء كرماء قد اتضع حالهم بسبب بخلهم، ثم أعلم ثانية أن قوله "مقرف" يروى بثلاثة أوجه: الرفع، والنصب، والجر، فما رواية الرفع فعلى أن تكون "كم" ظرفًا متعلقًا بقوله "نال" الآتي، ويكون "مقرف" مبتدأ، وجملة "نال العلا" في محل رفع خبر المبتدأ، وكأنه قال: مقرف نال العلا في مرات كثيرة بسبب جوده، وأما رواية النصب فعلى أن تجعل "مقرفًا" تمييزًا لكم الخبرية، وإنما نصب للفصل بينه وبينها، وأما رواية الجر فعلى أن تجعل "مقرف" بالجر تمييزًا لكم الخبرية على أصله، ولا تعتد بالفاصل بينهما، وكم على وجهي الجر والنصب مبتدأ، وجملة "نال العلا" في =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني وحاشية الصبان "4/ 67" وشرح كافية ابن الحاجب لرضي الدين "2/ 91" وشرح ابن يعيش على مفصل الزمخشري "ص581".

(1/247)


فخفض "مُقْرِفٍ" مع الفصل، وقال الآخر:
[187]
كَمْ في بني بكر بن سعد سَيِّدٍ ... ضخمٍ الدَّسِيعَةِ ماجدٍ نَفَّاعِ
وأما القياسُ فلأن خفض الاسم بعد "كم" في الخبر بتقدير "من" لأنك إذا قلت "كم رَجُلٍ أكرمت، وكم امرأة أَهَنْتَ" كان التقدير فيه: كم من رجل أكرمت، وكم من امراة أهنت؛ بدللي أن المعنى يقتضي هذا التقدير، وهذا التقدير مع وجود الفصل بالظرف وحرف الجر كما هو مع عدمه، فكما ينبغي أن يكون الاسم مخفوضًا مع عدم الفصل فكذلك مع وجوده.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنها في هذه الحالة بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه" لأنا نقول: لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينها وبين معمولها، ألا ترى أنك لو قلت "ثلاثون عندك رجلا" لم يجز، فكذلك كان ينبغي أن يقولوا ههنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجرّ لأن "كم" هي العاملة فيم بعدها الجرَّ، لأنها بمنزلة عدد مضاف إلى ما بعده، وإذا فصل بينهما بظرف أو حرف جرٍّ بطلت الإضافة، لأن الفصل بين الجار والمجرور بالظرف وحرف الجرّ لا يجوز في اختيار الكلام، فعدل إلى النصب.
__________
= محل رفع خبره. ثم اعلم ثالثًا أن الكوفيين يستشهدون بالبيت على رواية الجر، ويجعلون الفصل بين "كم" الخبرية وتمييزها مغتفرًا، ولا يمنع الفصل من بقاء التمييز مجرورًا بإضافة "كم" إليه على مذهب سيبويه، وبحرف جر مقدر -وهو من- على مذهب الفَرَّاء، وفي الجر على كلا القولين جهة ضعف.
[187] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 296" وابن يعيش في شرح المفصل "ص582" ورضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 122" والأشموني "رقم 1139" ورواية سيبويه "كم في بني سعد بن بكر" ورواية الأعلم "كم في بني بكر بن عمرو".
والدسيعة: العطية، ويقال: هي الجفنة، والمعنى أنه واسع المعروف وأنه ماجد شريف.
والاستشهاد به في قوله "كم في بني بكر بن سعد سيد" حيث فصل بين كم الخبرية وتمييزها الذي هو قوله "سيد" بالجار والمجرور الذي هو قوله "في بني سعد بن بكر" والكلام فيه كالكلام في البيت السابق.
ومثل هذين البيتين قول الشاعر، وأنشده سيبويه أيضًا:
كم فيهم ملك أغر وسوقة ... حكم بأردية المكارم محتبي
وكذلك قول الآخر، وأنشده الأشموني "رقم 1137":
كم دون ميه موماة يهال لها ... إذا تيممها الخريت ذو الجلد

(1/248)


لامتناع الفصل بينهما، قال الشاعر:
[188]
كَمْ نَالَنِي منهُمُ فضلًا على عَدَمٍ ... إذ لا أَكَادُ من الإِقْتَارِ أَحْتَمِلُ
والتقدير: كم فضل، إلا أنه لما فصل بينهما بنالني منهم نصب "فضلًا" فرارًا من الفصل بين الجار والمجرور، وقال الآخر:
[189]
تَؤُمُ سِنَانًا وكم دُونَهُ ... من الأرض مَحْدُودِبًا غارُهَا
والتقدير: كم محدودب غارها دونه من الأرض، إلا أنه لما فصل بينهما نصب "محدودبًا" وإن لم يقصد الاستفهام؛ لئلا يفصل بين الجار والمجرور، وإنما عدل إلى النصب لأن "كم" تكون بمنزلة عدد ينصب ما بعده، ولم يمتنع النصب بالفصل كما امتنع الجر؛ لأن الفصل بين الناصب والمنصوب له نظير في كلام العرب، بخلاف الفصل بين الجار والمجرور؛ فإنه ليس له نظير في
__________
[188] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 295" وابن يعيش في شرح المفصل "ص581" والأشموني "رقم 1140" ورضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي "3/ 122" والبيت من كلام القطامي -واسمه عمير بن شييم- من قصيدته التي يمدح فيها عبد الواحد بن الحارث بن الحكم والي المدينة في عهد مروان بن الحكم الأموي والتي مطلعها قوله:
أنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت، وإن طالت بك الطيل
وقوله: "إنا محيوك" معناه إنا داعون لك بالتحية، وهي البقاء، والطلل -بالتحريك- ما بقي شاخصًا مرتفعًا من آثار الديار، والطيل -بكسر الطاء وفتح الياء مخففة- جمع طيلة، وهي الدهر، والإقتار: الفقر، و "أحتمل" يروى بالحاء المهملة، ومعناه أرتحل لطلب الرزق، ويروى بالجيم، ومعناه أجمع العظام لأستخرج ودكها وشحمها وأتعلل به، مأخوذ من الجميل وهو الودك. يقول: لقد أنعم على هؤلاء وزادوا في إنعامهم عند فقري وحاجتي التي بلغت إلى حد أنني لا أقدر على الارتحال لطلب الرزق ضعفًا وفقرًا. والاستشهاد به في قوله "كم نالني منهم فضلًا" حيث نصب تمييز "كم" الخبرية لما فصل بين كم وتمييزها وسيبويه لا يوجب ذلك إلا في ضرورة الشعر، والفراء يجيزه في السعة، وقد بيَّنَّا لك هذا في شرح الشواهد السابقة.
[189] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو من شواهد سيبويه "1/ 265" والزمخشري في مفصله وابن يعيش في شرحه "ص581" والأشموني "رقم 1141" وصف زهير في هذا البيت ناقته، وتؤم: أي تقصد، وفيه ضمير مستتر تقديره هي يعود إلى الناقة، والغار: الغائر المطمئن من الأرض، وجعله محدودبًا لما يتصل به من الآكام ومتون الأرض. والاستشهاد به في قوله "وكم دونه من الأرض محدوبا" حيث أتى بتمييز كم الخبرية منصوبًا لما فصل بين كم وبينه بالظرف والجار والمجرور والكلام فيه كالكلام فيما قبله.

(1/249)


كلام العرب؛ فكان ما صرنا إليه أولى مما صرتم إليه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما احتجوا به من قوله:
[186]
كم بجود مقرفٍ نال العلى
فالكلام عليه من وجهين؛ أحدهما: أن الرواية الصحيحة "مقرفٌ" بالرفع بالابتداء، وما بعدها الخبر، وهو قوله "نال العلى". والثاني: أن هذا جاء في الشعر شاذًّا؛ فلا يكون فيه حجّة، وهذا هو الجواب عن البيت الآخر.
وأما قولهم "إن خفض الاسم بعد كم بتقدير من، والتقدير مع وجود الفصل كما هو مع عدمه" قلنا: لا نسلم أن جر الاسم بعد كم بتقدير من، بل العامل فيه كم؛ لأنها عندنا بمنزلة عدد يضاف إلى ما بعده، وعند المحققين من أصحابكم أنها بمنزلة رُبَّ؛ فيخفضون بها الاسم الذي بعدها كرُبَّ.
والذي يدل على فساد ما ذهبتم إليه أن حرف الجر لا يجوز أن يعمل مع الحذف، وإنما يجوز أن يعمل حرف الجر مع الحذف في مواضع يسيرة على خلاف الأصل، إذا حذف إلى عوض وبدل، كرب بعد الواو والفاء وبل، على أنكم تزعمون أن حرف الجر غير مقدر بعد هذه الحروف، وإنما هي العاملة بطريق النيابة عن حرف الجر، لا حرف الجر، وقد بيَّنَّا ذلك مُسْتَوْفًى في موضعه.
وقولهم: "إنها لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينها وبين معمولها؛ لأن ثلاثين لا يجوز أن يفصل بينها وبين معمولها" قلنا: إنما جاز الفصل بين كم [138] ومميزها جوزًا حسنًا دون "ثلاثين" ونحوه لأن كم مُنِعَتْ بعض ما لثلاثين من التصرف؛ فجعل هذا عوضًا مما مُنِعته، ألا ترى أن "ثلاثين" تكون فاعلة لفظًا ومعنًى، كقولك: ذهب ثلاثون، وتقع مفعوله في رتبتها، كقولك: أعطيت ثلاثين، ولا يكون ذلك في كم، فلما مُنِعَتْ كم بعض ما لثلاثين من التصرف جعل لها ضرب من التصرف لا يكون لثلاثين؛ ليقع التعادل بينهما، على أنه قد جاء الفصل بين ثلاثين ومميزها في الشعر، قال الشاعر:
[190]
على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثُون للْهَجْر حَوْلًا كَمِيلًا
__________
[190] البيت الأول من هذين البيتين من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص581" والرضي في شرح الكافية في باب التمييز وفي باب الكنايات، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 573" وابن الناظم، والأشموني "رقم 1131" وهما معًا من شواهد سيبويه "1/ 292" وقد نسب العيني "4/ 489 بهامش الخزانة" بيت الشاهد للعباس بن مرداس السلمي، وقال البغدادي: "وهما من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل" والعجول -بفتح =

(1/250)


يُذَكِّرُنِيكَ حَنِينُ العَجُول ... ونَوْحُ الحمامة تدعو هَدِيلًا
ففصل بين "ثلاثين" وبين مميّزها بالجار والمجرور، وإن كان قليلًا لا يقاس عليه، والله أعلم.
__________
= العين الناقة التي ألقت ولدها قبل موعدها، أو هي التي ذبح ولدها أو مات، وحنينها: أراد به ما تظهره من الوله على ولدها، والهديل: أصله صوت الحمام، ويراد منه فرخ الحمام الذي تزعم العرب أن جارحًا صاده على عهد نوح فكل حمامة تبكي عليه إلى اليوم.
يقول: إنني لا أنسى عهدك على بعده، فكلما حنت عجول وناحت حمامة رقت نفسي فذكرتك. والاستشهاد به في قوله "ثلاثون للهجر حولًا"حيث فصل بين اسم العدد -وهو قوله "ثلاثون"- وتمييزه -وهو قوله "حولًا"- وهذا يقوي ما جوزه النحاة في "كم" من الفصل بينها وبين تمييزها عوضًا عما منعته من التصرف في الكلام بالتقديم والتأخير بسبب كونها أشبهت كم الاستفهامية فألزمت التصدير لذلك، وإن كان بين "كم" وبين اسم العدد فرق، فإن الثلاثين ونحوها من أسماء الأعداد لا تمتنع من التقديم والتأخير، لأنها لم تتضمن معنى يوجب لها التصدير، فكان عملها في التمييز أوسع من عمل كم، قال سيبويه "1/ 291": "واعلم أن كم تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم، لأن العشرين عدد منون، وكذلك كم هو منون عندهم، كما أن خمسة عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا: خمسة عشر درهما، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف، وموضعه موضع اسم منون، وكذلك كم موضعها موضع اسم منون، وذهبت منها الحركة كما ذهبت من إذ؛ لأنهما غير متمكنين في الكلام" ثم قال بعد كلام: "وتقول: كم رجل زارني، ولا تقول: زارني كم رجل، ولو قال: أتاك ثلاثون اليوم درهما، كان قبيحًا في الكلام؛ لأنه لا يقوى قوة الفاعل، وليس مثل لم؛ لما ذكرت لك، وقد قال الشاعر.
على أنني بعد ما قد مضى ثلاثون.....
وكم رجلًا أتاك، أقوى من كم أتاك رجلًا، وكم ههنا فاعلة" ا. هـ. وقال ابن يعيش: "فإن قيل: فلم قبح الفصل بين العدد ومميزه ولم يحسن أن تقول: قبضت خمسة عشر لك درهما، ورأيت عشرين في المسجد رجلًا؟ قيل: إنما كان كذلك لضعف عمل العشرين ونحوها فيما بعدها؛ لأنها عملت على التشبيه باسم الفاعل ولم تقوَ قوته، مع أنه قد جاء ذلك في الشعر" ا. هـ. ومثل هذا البيت في الفصل بين اسم العدد ومميزه ما أنشده ابن يعيش "581" ونسب روايته إلى سيبويه، ونسبه لعبد بني الحسحاس:
فأشهد عند الله أن قد رأيتها ... وعشرون منها إصبعًا من ورائيا

(1/251)


42- مسألة: [هل تجوز إضافة النَّيِّف إلى العشرة] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة النيف إلى العشرة، نحو: خَمْسَةَ عَشَرٍ. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفين فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك عنهم في استعمالهم، قال الشاعر:
[191]
كُلِّفَ من عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
ولأن النَّيِّف اسم مظهر كغيره من الأسماء المظهرة؛ فجاز إضافته إلى ما بعده كسائر الأسماء المظهرة التي تجوز إضافتها.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه قد جعل الاسمان اسمًا واحدًا، فكما لا يجوز أن يضاف الاسمُ الواحدُ بعضُه إلى بعضٍ، فكذلك ههنا.
__________
[191] استشهد بهذا البيت الأشموني "رقم 1132" وجماعة من شراح الألفية "انظر العيني بهامش الخزانة 4/ 488" والعناء -بفتح العين- النصب والتعب، والشقوة -بكسر الشين وسكون القاف- ومثله الشقاء والشقاوة: ضد السعادة، والحجة -بكسر الحاء وتشديد الجيم مفتوحة- السنة.
والاستشهاد بالبيت في قوله "بنت ثماني عشرة" فإن الكوفيين أنشدوه شاهدًا على جواز إضافة النيف -وهو هنا قوله "ثماني"- إلى العشرة، من غير أن يكون هناك شيء آخر، وهم يجيزون ذلك في الكلام، ومن هنا تعلم أن قول ابن مالك في التسهيل "ولا يجوز بإجماع ثماني عشرة -يعني بإضافة الأول إلى الثاني- إلا في الشعر" ليس بمستقيم؛ فإن الكوفيين -كما سمعت- يجيزون إضافة صدر المركب إلى عجزه سواء أكان مع هذا المركب شيء آخر يضاف المركب إليه نحو ما حكاه الفَرَّاء من أنه سمع أبا فقعس الأسدي وأبا الهيثم العقيلي يقولان "ما فعلت خمسة عشرك" أم لم يكن مع المركب شيء أصلًا كما في هذا البيت!.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "ص624-627 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "4/ 57 و58 وما بعدهما" وشرح التصريح للشيخ خالد "2/ 346 بولاق".

(1/252)


وبيان هذا أن الاسمين لما ركّبا دلَّا على معنًى واحد، والإضافة تُبْطِل ذلك المعنى، ألا ترى أنك إذا قلت "قبضتُ خَمْسَةَ عَشَرَة" من غير إضافة دلَّ على أنك قد قبضت خمسة وعشرة، وإذا أضفت فقلت "قبضتُ خَمْسَةَ عَشَرٍ" دلَّ على أنك قد قبضت الخمسة دون العشرة، كما لو قلت "قبضتُ مال زيدٍ" فإن المال يدخل في القبض دون زيد، وكذلك "ضربت غلامَ عمروٍ" فإن الضرب يكون للغلام دون عمرو، فلما كانت الإضافة تُبْطِل المعنى المقصود من التركيب وجب أن لا تجوز.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما أنشدوه من قوله:
[191]
بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ من حِجَّتِهْ
فلا يعرف قائله، ولا يؤخذ به، على أنا نقول: إنما صَرَّفَهُ لضرورة الشعر ورَدَّه إلى الجر لأن "ثماني عشرة"؛ لما كانا بمنزلة اسم واحد، وقد أضيف إليهما بنت في قوله: "بِنْتَ ثماني عشرة" ردَّ الإعراب إلى الأصل بإضافة بنت إليهما، لا بإضافة ثماني إلى عشرة، وهم إذا صَرَّفُوا المبنيَّ للضرورة رَدُّوهُ إلى الأصل، قال الشاعر:
[192]
سلامُ اللهِ يا مطرًا عليها ... وليس عليك يا مطرُ السلامُ
__________
[192] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 313" ورضي الدين في باب المنادى من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 294 بولاق" والأشموني "رقم 875" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 571" وفي أوضح المسالك "رقم 437" وفي شذور الذهب "رقم 53" وابن عقيل "رقم 307" والبيت من كلام الأحوص، واسمه محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت، الأوسي وكان الأحوص يعشق امرأة فتزوجها رجل يقال له مطر، فغلب الوجد على الأحوص حتى صرّح بما كان يكتمه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله "يا مطر" حيث أتى بالمنادى المفرد العلم منوّنًا حيث اضطر إلى ذلك، قال سيبويه "1/ 313" "وأما قول الأحوص"
سلام الله يا مطر عليها
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف لأنه بمنزلة اسم لا يصرف، لأنك أردت في حال التنوين في مطر ما أردت حين كان غير منون" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه تنوين مطر وتركه على ضمه، لجريه في النداء على الضم واطراد ذلك في كل علم مثله، فأشبه المرفوع غير المنصرف في غير النداء، فلما نون ضرورة ترك على لفظه، كما ينون الاسم المرفوع الذي لا ينصرف، فلا يغيره التنوين عن رفعه، وهذا مذهب الخليل وأصحابه واختيارهم، وأبو عمرو ومن تابعه يختارون نصبه مع التنوين؛ لمضارعته النكرة بالتنوين، ولأن التنوين يعاقب الإضافة، فيجرونه على أصله لذلك، وكلا المذهبين مسموع من =

(1/253)


وجميعُ ما يُرْوَى من هذا فَشَاذٌّ لا يقاس عليه.
وأما قولهم "إن النَّيِّف اسم مظهر كغيره من الأسماء التي يجوز إضافتها؛ فجاز إضافته كسائر الأسماء المظهرة التي يجوز إضافتها" قلنا: إلا أنه مركب، والتركيب ينافي الإضافة؛ لأن التركيب أن يجعل الاسمان اسمًا واحدًا، لا على جهة الإضافة؛ فيدلَّان على مسمًى واحد، بخلاف الإضافة؛ فإن المضاف يدل على مسمى، والمضاف إليه يدل على مسمى آخر؛ وإذا كان التركيب ينافي الإضافة، كما أن الإضافة تنافي التركيب على ما بيَّنَّا؛ وجب أن لا تجوز إضافة النَّيِّف إلى العشرة لاستحالة المعنى، والله أعلم.
__________
= العرب، والرفع أقيس لما تقدم من العلة" ا. هـ. وقد ارتضى الزجاجي في أماليه مذهب الخليل، ولكنه لم يرتضِ التعليل الذي علَّل به سيبويه وتبعه عليه الأعلم قال: "الاسم العلم المنادى المفرد مبنيّ على الضَّمِّ؛ لمضارعته عند الخليل وأصحابه للأصوات ولوقوعه موقع الضمير عند غيرهم، فإذا لحقه التنوين في ضرورة الشعر فالعلة التي من أجلها بني قائمة بعد فيه، فينون على لفظه؛ لأنا قد رأينا من المبنيّات ما هو منوّن نحو إيه وغاق وما أشبه ذلك، وليس بمنزلة ما لا ينصرف؛ لأن ما لا ينصرف أصله الصرف، وكثير من العرب لا يمتنع من صرف شيء في ضرورة ولا غيرها، إلا أفعل منك، فإذا نون فإنما يرد إلى أصله، والمفرد المنادى العلم لم ينطق به منصوبًا منونًا قط في غير ضرورة شعر؛ فهذا بيّن واضح" ا. هـ كلامه بحروفه.

(1/254)


43- مسألة: [القول في تعريف العدد المركب وتمييزه] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال في خمسة عشر درهما: "الخمسة العشر درهمًا، والخمسَةَ العَشَرَ الدرهَمَ"2. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إدخال الألف واللام في العشر، ولا في الدرهم، وأجمعوا على أنه يجوز أن يقال "الخمسة عَشَرَ درهمًا" بإدخال الألف واللام على الخمسة وَحْدَهَا.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد صحَّ عن العرب ما يوافق مذهبنا، ولا خلاف في صحة ذلك عنهم، وقد حكى ذلك أبو عمرو عن أبي الحسن الأخفش عن العرب، وإذا صحَّ ذلك النقل وجب المصيرُ إليه، واعتمادهم في هذه المسألة على النقل؛ لأن قياسهم فيها ضعيف جدًّا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز دخول الألف واللام إلا على الاسم الأول لأن الاسمين لما رُكِّبَ أحَدُهما مع الآخر تَنَزَّلا منزلة اسم واحد، وإذا تنزَّلا منزلة اسم واد فينبغي أن لا يجمع فيه بين علامتي تعريف، وأن
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "1/ 330 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 180 بولاق".
2 يريد أنهم يجوّزون تعريف العدد المركب -وهو أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما- بتعريف جزءيه: الصدر والعجز؛ فيقولون الأحد العشر والتسعة العشر، ويجوّزون في تمييز هذا العدد المركب أن يجيء منكرًا على ما هو الأصل في التمييز، فيقولون: الأحد العشر درهمًا، والتسعة العشر درهمًا، وأن يجيء معرفًا أيضًا، وهذا بناء منهم على أصلهم الذي ذهبوا إليه في التمييز، وهو جواز مجيئه معرفة، فيقولون في هذا الباب: زارني الخمسة العشر الرجل، كما يقولون: زارني الخمسة العشر رجلًا، والحاصل أن في هذا الأسلوب أربع صور، الأولى: أن تقول: زارني الخمسة عشر رجلًا، والثانية: أن تقول: زارني الخمسة عشر الرجل: والثالثة: أن تقول: زارني الخمسة العشر رجلًا، والرابعة: أن تقول: زارني الخمسة عشر الرجل، والبصريون لا يجيزون من هذه العبارة إلا الصورة الأولى، والكوفيون يجيزون الصور الأربع كلها، ولا يوجبون منها واحدة بعينها.

(1/255)


يلحق الاسم الأول منهما؛ لأن الثاني يتنزل منزلة بعضِ حروفهِ، وكذلك عَرَّفَتِ العربُ الاسم المركَّبَ، قال ابن أحمر:
[193]
تَفَقَّأَ فوقه القَلَعُ السَّوَارِي ... وجُنَّ الخَازِبَازِ به جُنُونَا
فقال "الخازبار" فأدخل الألف واللام على الاسم الأول، ولم يكرّره فيقول "الخازالباز" ولم يُحْكَ ذلك عنهم في شعر ولا في كلام، والخاز باز ههنا: أراد به صوت الذبابا، ويقال "جن الذبابُ" إذا طار وهَاجَ، وقيل: المراد بالخازبار نَبْتٌ، كما قال الشاعر.
[194]
رَعَيْتُهَا أَكْرَمَ عُودٍ عُودًا ... الصِّلَّ والصِّفْصِلَّ واليَعْضِيدَا
__________
[193] هذا بيت من الوافر، وقد أنشده ابن منظور "ف ق أ - ق ل ع - خ وز" ونسبه لعمرو بن أحمر وأنشده موفق الدين بن يعيش في شرح المفصل "ص570" وأنشده رضي الدين في باب المركبات من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 109" وتقول "تفقأ الدمل والقرح، وتفقأت السحابة عن مائها" أي تشققت، أو تبعجت بمائها. و "القلع" -بفتح القاف واللام جميعًا، وآخره عين مهملة- قطع من السحاب كأنها الجبال، واحدته قلعة -بالتحريك- ويقال: القعلة من السحاب التي تأخذ ناحية من السماء، والسواري: جمع سارية، وأراد بها ههنا السحابة التي تأتي ليلًا، والخازباز: ضرب من النبات، وجنونه: طوله وسرعة نباته، ويقال: الخازباز ههنا: نوع من ذباب العشب يطير في الربيع يدل خصب السنة، وجنونه: هزجه وطيرانه، قال ابن منظور "والخازباز ذباب، اسمان جعلا واحدًا، وبنيا على الكسر، لا يتغير في الرفع والنصب والجر، قال عمرو بن أحمر:
تفقأ فوقه القلع السواري إلخ
وسُمّي الذبان به -وهما صوتان جعلا واحدًا- لأن صوته خازباز، ومن أعربه نزّله بمنزلة الكلمة الواحدة فقال خازباز "برفع آخره" وقيل: أراد النبت، وقيل: أراد ذبان الرياض، وقيل: الخازباز حكاية لصوت الذباب فسماه به" ا. هـ، والاستشهاد به في قوله "وجن الخازباز" حيث أدخل عليه الألف واللام وتركه على بنائه كما تقول "الخمسة عشر" فتدخل عليه الألف واللام وهو على حاله من البناء.
[194] هذه أبيات من الرجز المشطور، وقد رواها كلها ابن منظور على ترتيب ما رواه المؤلف ههنا "خ وز" وموفق الدين بن يعيش في شرح المفصل "ص569" والصل، والصفصل، واليعضيد، والخازباز: كلها أسماء من أسماء النبات، والسنم -بفتح السين وكسر النون- العالي المرتفع، يريد طول النبات الذي أرعاه إبله، والمجود: اسم مفعول من "جاده الغيث يجوده" إذا أصابه منه الجود -بفتح فسكون- وهو القوي الشديد من المطر، وعامر ومسعود: راعيان، وكنى بقوله "بحيث يدعو عامر مسعودا" عن طول النبات طولًا يواري كل راعٍ منهما عن الآخر، فلا يعرف أحدهما مكان صاحبه حتى يدعوه فيسمع صوته فيعرف مكانه، والاستشهاد بالأبيات للدلالة على أن "الخازباز" نبت، وهو ظاهر من قوله إنه أرعاه إبله.

(1/256)


والخَازِبَازِ السَّنِمَ المَجُودَا ... بحيث يدعو عامرٌ مسعودَا
ويقال"جُنَّ النباتُ" إذا خرج زَهْرُهُ. والخاز باز أيضًا: داءٌ في اللَّهَازِمِ، قال الشاعر:
[195]
يا خازباز أرسل اللَّهَازِمَا ... إنِّي أَخَافُ أن تَكُونَ لازمًا
والخازباز فيم يقال أيضًا: السِّنَّوْرُ، وفي الخازباز سبعُ لغاتٍ: خَازِبَازِ، وخَازَبَازَ وخَازِبَازُ، وخَازَبَازُ، وخَازُبَازٍ، وخَازِبَاء -مثل نافقاء- وخِزْبَاز -مثل سِرْدَاحٍ- قال الشاعر:
[196]
مثل الكلاب تَهِرُّ عند دِرَابِهَا ... وَرِمَتْ لِهَازِمُهَا من الخِزْبَازِ
وإنما لم يجز دخول الألف واللام على "درهم" لأنه منصوب على التمييز، والتمييز لا يكون إلا نكرة، وإنما وجب أن يكون نكرة لأن الغرض أن يميّز المعدود به من غيره، وذلك يحصل بالنكرة التي هي الأخَفُّ، فكانت أولى من المعرفة التي هي الأَثْقَلُ.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما حكوه عن العرب فلا حُجَّةَ لهم فيه؛ لقلّته في الاستعمال وبُعْدَهُ عن القياس: أما قلته في الاستعمال فظاهر؛ لأنه إنما جاء شاذًّا عن بعض العرب؛ فلا يعتدُّ به لقلته وشذوذه، فصار
__________
[195] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "خ وز" ولم يعزهما، وابن يعيش "ص570" وقال قبل إنشادهما "وقال الراجز وهو العدوى" ا. هـ. والخازباز: داء يأخذ الإبل والناس في حلوقها، وقال ابن سيده: الخازباز قرحة تأخذ في الحلق، ومنهم من خص بهذا الداء الإبل، واللهازم: جمع لهزمة -بكسر اللام والزاي وبينهما هاء ساكنة- واللهزمتان: عظمان ناتئان تحت الأذن، وقيل: اللهازم: جمع لهزمة، وهي لحمة في أصل الحنك.
[195] هذا بيت من الكامل، أنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص570" وابن منظور "خ وز" عن الأخفش، وعند ابن يعيش:
مثل الكلاب تهر عند بيوتها
وعند الأخفش:
مثل الكلاب تهر عند جرائها
وقال ابن بري: صواب إنشاده:
مثل الكلاب تهر عند درابها
والدراب -بكسر الدال- جمع درب، شبههم بالكلاب النابحة عند الدروب.

(1/257)


بمنزلة دخول الألف واللام في قول الشاعر:
[91]
يقول الخَنَا، وأبغض العُجْمِ ناطقًا ... إلى ربِّنَا صوتُ الحمار اليُجَدّعُ
ويستخرج اليَرْبُوعَ من نَافِقَائِهِ ... ومن جُحْرِهِ بالشِّيحَةِ اليَتَقَصَّعُ
أراد الذي يتقصع، فكما لا يجوز أن يقال أن الألف واللام يجوز دخولهما على الفعل لمجيئه ههنا لقلته وشذوذه فكذلك أيضًا لا يجوز أن يحتجّ بذلك لقلته وشذوذه، وكما قال الشاعر:
[197]
يا ليت أمَّ العمرو كانت صَاحِبِي ... مكان من أَشْتَى عَلَى الرَّكائِب
أراد "أم عمرو". وكما قال الآخر:
[198]
باعد أَمَّ العَمْرِو من أسِيرِهَا ... حُرَّاسُ أَبْوَابٍ عَلَى قُصُورِهَا
__________
[197] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشد أولهما ابن منظور "وب ر" وأنشدهما معًا موفق الدين بن يعيش في شرح المفصل "ص51" من غير عزو، وأسند روايتهما إلى ابن الأعرابي، و "أم العمرو" أراد أم عمرو، فأدخل الألف واللام على العلم الذي هو عمرو، وسنذكر لك وجهه، والصاحب: المعاشر، لا يتعدى تعدي الفعل على أن فعله -وهو صحب- متعد؛ فلا تقول "زيد صاحب عمرًا" كما تقول "زيد ضارب عمرًا" لأنهم استعملوا صاحبًا استعمال الأسماء، وجمعه أصحاب وأصاحيب، وصحبان نظير شاب وشبان، وصحاب نظير جائع وجياع، وصحب نظير شارب وشرب، وصحابة -بفتح الصاد أو كسرها- حكى جميع هذه الجموع الأخفش، وأشتى: دخل في زمان الشتاء، فإن أردت أنه أقام في موضع شتاء فقل: شتا يشتو، وقال طرفة:
حيثما قاظوا بنجد، وشتوا ... عند ذات الطلح من ثني وقر
والركائب: جمع ركوب -بفتح الراء- وهو ما يركب من كل دابة، فعول بمعنى مفعول، وقيل: الركائب جمع ركاب، والاستشهاد به في قوله "أم العمرو" حيث دخل الألف واللام على العلم، قال جار الله في المفصل "1/ 34 بتحقيقنا": "وقد يتأول العلم بواحد من الأمة المسماة به؛ فلذلك من التأويل يجري مجرى رجل وفرس، فيجترأ على إضافته وإدخال اللام عليه، قالوا: مضر الحمراء، وربيعة الفرس، وأنمار الشاة. وعن أبي العباس: إذا ذكر الرجل جماعة اسم كل واحد منهم زيد قيل له: فما بين الزيد الأول والآخر، وهذا الزيد أشرف من ذلك الزيد، وهو قليل" ا. هـ. وقال ابن يعيش في شرح هذا الكلام "اعلم أن العلم الخاص لا تجوز إضافته ولا إدخال لام التعريف فيه لاستغنائه بتعريف العلمية عن تعريف آخر، إلا أنه ربما شورك في اسمه أو اعتقد ذلك، فخرج عن أن يكون معرفة، ويصير أمة كل واحد له مثل اسمه، ويجري حينئذٍ مجرى الأسماء الشائعة نحو رجل وفرس، فحينئذٍ يجترأ على إضافته وإدخال الألف واللام عليه كما يفعل ذلك في الأسماء الشائعة" ا. هـ.
[198] أنشد جار الله الزمخشري هذا البيت في المفصل "رقم 7 بتحقيقنا" وعزاه إلى أبي النجم =

(1/258)


وكما قال الآخر:
[199]
وَجْدَنَا الوليد بْنَ اليزيد مباركًا ... شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الخِلَافَةِ كَاهِلُهْ
وكما قال الآخر:
[200]
أَمَا وَدِمَاءٍ مَائِرَاتٍ تَخَالُهَا ... على قُنَّة العُزّى وبالنَّسْرِ عَنْدَمَا
__________
= العجلي، وأنشده في اللسان "وب ر" وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل وأقر عزوه إلى أبي النجم "ص51 و 320"، وأنشده ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 69 بتحققنا" من غير عزو، والأسير: أصله الذي يقع عند الحرب في يد عدوه، فعيل بمعنى مفعول، وأراد هنا الذي قيده حبها عن أن ينظر إلى غيرها وعنى به نفسه، والحراس: جمع حارس.
والاستشهاد به في قوله "أم العمرو" حيث أدخل الألف واللام على العلم، والكلام فيه مثل الكلام في الشاهد السابق، وأنكر ابن منظور رواية "أم العمر" وقال "صواب الإنشاد يا ليت أم الغمر" ا. هـ أي بالغين معجمة.
[199] هذا البيت من قصيدة لابن ميّادة واسمه الرماح بن أبرد، وميّادة: اسم أمّه يمدح فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقد أنشده الزمخشري في المفصل "رقم 8 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص52" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 70 بتحقيقنا" وفي أوضح المسالك "رقم 19" والأشموني "رقم 35" ورضي الدين في باب توابع المنادى، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 328" والأعباء: جمع عبء -بكسر العين وسكون الباء- وهو ما يثقل عليك حمله أو يبهظك أداؤه، وأراد بأعباء الخلافة مصاعبها الجمة وتبعاتها الكثيرة التي يئود حملها القائم بها، ويروى "بأحناء الخلافة" والأحناء: جمع حنو -بكسر فسكون- وأحناء الأمور: جوانبها ونواحيها، وأطلقوا أحناء الأمور على ما تشابه منها وأشكل المخرج منه، والكاهل: اسم لما بين الكتفين، ويعبر بشدة الكاهل عن القوة. والاستشهاد بالبيت هنا في قوله "اليزيد" فإنه يعني يزيد بن عبد الملك والد ممدوحه، وقد أدخل أل على يزيد وهو علم، وذلك لأنه اعتقد فيه الشياع بسبب تعدد المسمى بهذا الاسم، وفي بني أمية قوم الممدوح عدة ممن سمي بيزيد
[200] أنشد ابن منظور البيت الأول من هذه الأبيات "م ور" ونسبه لعبد الحق، ولم يزد على ذلك، وأنشده مرة أخرى "ع ن د م" من غير عزو، وأنشد ثلاثتها "أب ل" ونسبها لابن عبد الجن "تصحيف عبد الحق"، وأنشد ثالثها "ل ع ع" ونسبه إلى حميد بن ثور، وراجعت ديوان حميد فلم أجده في أصل قصيدته التي مطلعها.
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما
ونبه الأستاذ الميمني على أن هذا البيت مما وجده في اللسان مما لا يوجد في أصل الديوان، وأنشد ابن يعيش ثاني هذه الأبيات "ص646" وفي رواية اللسان "أما ودماء لا تزال كأنها" وأنشدها كما هنا في "أب ل" ودماء مائرات: أي مائجات، يريد أنها كثيرة، وذلك لكثرة القتل، والقنة -بضم القاف وتشديد النون- أصلها أعلى الجبل، والعزى: اسم صنم، ونسر: اسم صنم أيضا، وفي التنزيل العزيز "ولا يغوث ويعوق ونسرا" وقد =

(1/259)


وما سَبَّحَ الرُّهْبَان في كلِّ بِيْعَةٍ ... أَبِيلَ الأَبِيلَينَ المسيحَ ابنَ مريمَا
لقد ذاق منَّا عامرٌ يَوْمَ لَعْلَعٍ ... حسامًا إذا ما هُزّ بالكف صمَّمَا
أراد "وبنسر" بدليل قوله تعالى: {وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {نوح: 23] وكما قال الآخر:
[201]
ولقد جَنَيْتُكَ أكْمُؤًا وعَسَاقِلَا ... ولقد نَهَيْتُكَ عن بَنَات الأَوْبَرِ
__________
= أدخل عليه الشاعر الألف واللام، ونسر: كان صنما لذي الكلاع بأرض حمير، ويغوث: كان لمذحج، ويعوق: لهمدان، وهي من أصنام قوم نوح عليه السلام، والعندم -بوزن جعفر- هو دم الأخوين، ويقال: هو دم الغزال بلحاء شجر الأرطى يطبخان جميعًا حتى ينعقد فتختضب به الجواري، وقال الأصمعي: هو صبغ زعم أهل البحرين أن جواريهم يختضبن به، والبيعة -بكسر الباء- متعبد النصارى، ووقع في اللسان "في كل هيكل" والهيكل: هو البيعة، والأبيل -بفتح الهمزة- رئيس النصارى، وقيل: هو الراهب، وقيل: هو صاحب الناقوس، ولعلع: اسم موضع فيما حكاه صاحب اللسان، وقال ياقوت: هو جبل كانت به وقعة لهم، أو هو ماء بالبادية معروف. والاستشهاد بهذه الأبيات في قوله و"بالنسر" حيث أدخل الألف واللام على العلم الخاص، للضرورة، والذي يدل على أن العلم "نسر" بدون الألف واللام قول العباس بن عبد المطلب، يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرًا وأهله الغرق
قال ابن الأثير "يريد الصنم الذي كان يعبده قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام" ا. هـ. وقد ورد في الكتاب الكريم اسم أصنام قوم نوح في الآية التي تلونا عليك وفيها "نسر" بدون ألف ولام، فتكون الألف واللام في هذا الشاهد زائدة.
[201] أنشد ابن منظور هذا البيت "وب ر" وأسند روايته للأحمر والأصمعي، وهو من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 72" وأوضح المسالك "رقم 62" والأشموني "رقم 127" وابن عقيل "رقم 36" وجنيتك: أي جنيت لك، وهو نظير قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} والأكمؤ: جمع كمء -بوزن كلب وأكلب، وفلس وأفلس- وقد يجمع الكمء على كمأة، فيكون المفرد خاليًا من التاء والجمع مقرونًا بها، وهو عكس شجر وشجرة وكلم وكلمة ونظائرهما، وهما من نوادر اللغة، والعساقل: جمع عسقل -بوزن جعفر- وهو ضرب من الكمأة أبيض، وبنات أوبر: ضرب آخر من الكمأة مزغب على لون التراب، والاستشهاد بالبيت في قوله "بنات الأوبر" وذلك أن بنات أوبر علم على هذه الكمأة، وأصله بدون ألف ولام، وقد زاد الشاعر الألف واللام حين اضطر لإقامة وزن البيت، وهذا رأي كان الأصمعي يقوله، ويشبه "بنات الأوبر" بأم العمرو، في أن كلا منهما علم بدون الألف واللام، وأن الشاعر زاد الألف واللام اضطرارًا، وثمه رأي آخر كان الأصمعي يجوزه أيضا، قال: "وقد يجوز أن يكون أوبر نكرة فعرفه باللام، كما حكى سيبويه أن عرسًا من "ابن عرس" قد نكره بعضهم فقال: هذا ابن عرس مقبل" ا. هـ.

(1/260)


أراد "بنات أوبر" وكما قال الآخر:
[202]
وإني حُبِسْتُ اليوم والأمس قبلهُ ... ببابك حتى كادت الشمس تغرب
أراد "وأمس" ولهذا تركه على جهته الأولى مكسورًا، وكما قال الآخر:
[203]
فإن الأولاء يَعْلَمُونَكَ مِنْهُمُ
__________
[202] هذا البيت من كلام نصيب بن رباح، الأموي بالولاء، وقد أنشده ابن منظور "أم س" وعزاه إليه، واستشهد به ابن هشام في شرح شذور الذهب "رقم 44" والاستشهاد به في قوله "والأمس" حيث أدخل الألف واللام على أمس، مع أن المراد به اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وهو في هذه الحالة علم، والعلم لا تدخله أل، لكنه لما اضطر أدخل عليه أل ليقيم وزن البيت، واعلم أن "أمس" إما أن يراد به يوم ما من الأيام السابقة، وإما أن يراد به خصوص اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وعلى كل حال إما أن يجمع جمع التكسير أو يصغر أو تدخله الألف واللام وإما ألا يكون شيئًا من ذلك، بل يكون مفردًا مكبرًا غير مقترن بأل، فإن أريد به يوم ما من الأيام الماضية أو جمع جمع تكسير أو صغّر أو دخلته أل المعرفة فهو معرب، وإن أريد به اليوم الذي قبل يومك الحاضر ولم يجمع ولم يصغر ولم تدخل عليه أل المعرفة فللعرب فيه لغتان: الأولى بناؤه على الكسر وهي لغة أهل الحجاز، والثانية إعرابه إعراب ما لا ينصرف بالضمة من غير تنوين في حالة الرفع، وبالفتحة من غير تنوين في حالتيّ الجر والنصب، وقال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} فالأمس في هذه الآية الكريمة لا يراد به خصوص اليوم السابق على يومك الذي أنت فيه فهو نكرة، وهو معرب على اللغتين جميعًا، وهو مجرور بالكسر لاقترانه بأل، وإذا علمت ذلك فاعلم أن "الأمس" في بيت نصيب يروى بالنصب وبالجر، أما رواية النصب فلا إشكال فيها؛ لأنه يكون حينئذ ظرفًا معطوفًا على "اليوم" والمعطوف على المنصوب منصوب، وأما رواية الجر فإنها تحتاج إلى نظر؛ فمن العلماء من قال: هو مبني على الكسر في محل نصب، واضطر إلى أن يدعي أن أل الداخلة عليه ليست أل المعرفة، ولكنها زائدة مثل زيادتها في "بنات الأوبر" وفي "أم العمرو" وفي "طبت النفس" وهذا هو الذي يجري عليه كلام المؤلف في هذا الموضع، وقال قوم: لا، بل هذه الألف واللام معرفة، والأمس معطوف على اليوم، والعطوف على المنصوب منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة التوهم، وذلك أن الشاعر بعد أن قال "وقفت اليوم" توهم أنه أدخل على اليوم "في" التي ينتصب الظرف على معناها، فجاء بالمعطوف مجرورًا على هذا التوهم، وفي لسان العرب "أم س" بحث لابأس به في كلمة "أمس" وموضع بنائها ومواضع إعرابها.
[203] أنشد ابن منظور هذا الشاهد صدر بيت ولم يذكر تتمته "باب الألف اللينة 20/ 321" و "الأولاء" ههنا اسم إشارة، وأصلها "أولاء" فزاد الألف واللام، ولو لم يزدها لم يتأثر البيت، فإن الوزن مستقيم بذكرها وبحذفها، ولكنه مع هذا لا يخلو عن الضرورة، وذلك لأن أسماء الإشارة معرفة من غير حاجة إلى الألف واللام، وكأنه قال: فإن هؤلاء يعلمونك =

(1/261)


[142] أراد "أولاء" فكما أن زيادة الألف واللام في هذه المواضع لا تدل على جواز زيادتها في اختيار الكلام فلا يجوز أن يقال في زيد الزيد وفي عمرو العمرو؛ لمجيئه شاذًّا، فكذلك ههنا، وأما بُعْدُه عن القياس فقد بَيَّنَّاه في دليلنا، والله أعلم.
__________
= كثير، بل هي مما لازمتها من حين وضعها، ومن ذلك قول الشاعر:
فإن الألى بالطف من آل هاشم ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا
ومن قول خلف بن حازم:
إلى النفر البيض الأولاء كأنهم ... صفائح يوم الروع أخلصها الصقل
ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص غير أنه حذف الصلة للعلم بها:
نحن الأولى فاجمع جمو ... عك ثم وجههم إلينا
أي نحن الذين عرفوا بالشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالعدو، فزيادة "أل" في "الأولاء" الموصولة زيادة لازمة لا تفارقها، سواء أكانت مقصورة كما في البيت الأول أم كانت ممدودة كما في البيتين بعده، أما "أولاء" الإشارية فأصل استعمالها أن تكون مجردة من أل، وزيادة أل فيها مما ألجأت إليه الضرورة، فاعرف هذا وتنبه له والله يرشدك.

(1/262)


مسألة القول في إضافة العدد المركب إلى مثله
...
44- مسألة: [القول في إضافة العد المركب إلى مثله] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز أن يقال "ثَالِثَ عَشَرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ"
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال "ثَالِثَ عَشَرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ"
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أنه لا يمكن أن يُبْنَى من لفظ ثلاثة عشر فاعل، وإنما يمكن أن يبنى من لفظ أحدهما، وهو العدد الأول الذي هو الثلاثة، ولا يمكن أن يبنى من لفظ العدد الثاني -وهو العشر- فَذِكْرُ العشر مع ثالث لا وجه له.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل أن يقال "ثالث عشر ثلاثة عشر" وقد جاء عن العرب، فإذا ساعده النقل والقياس -وهو الأصل- وجب أن يكون جائزًا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه لا يمكن أن يبنى منهما فاعل، وإنما يمكن أن يبنى من أحدهما" قلنا: هذا هو الحجة عليكم؛ فإنه لما لم يمكن أن يبنى منهما وبني من أحدهما احتيج إلى ذكر الآخر؛ ليتميز ما هو واحد ثلاثة مما هو واحد ثلاثة عشر، فأتى باللفظ كله، والله أعلم.
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد "2/ 357" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 64 بولاق".

(1/263)