الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

45- مسألة: [المنادى المفرد العلم؛ معرب أو مبنيّ؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المنادى المعرف المفرد معرب مرفوع بغير تنوين. وذهب الفَرَّاء من الكوفيين إلى أنه مبنيّ على الضم، وليس بفاعل ولا مفعول. وذهب البصريون إلى أنه مبني على الضم، وموضعه النصب؛ لأنه مفعول.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنا وجدناه لا مُعْرِبَ له يصحبه من رافع ولا ناصب ولا خافض، ووجدناه مفعول المعنى؛ فلم نخفضه لئلا يشبه المضاف، ولم ننصبه لئلا يشبه ما لا ينصرف؛ فرفعناه بغير تنوين ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع صحيح فَرْق، فأما المضاف فنصبناه لأنا وجدنا أكثر الكلام منصوبًا؛ فحملناه على وجه من النصب لأنه أكثر استعمالًا من غيره.
وأما الفَرَّاء فتمسّك بأن قال: الأصل في النداء أن يقال "يا زيداه"، كالندبة؛ فيكون الاسم بين صوتين مَدِيدَين وهما "يا" في أول الاسم، والألف في آخره والاسم فيه ليس بفاعل ولا مفعول ولا مضاف إليه، فلما كثر في كلامهم استغنوا بالصوت الأول وهو "يا" في أوله عن الثاني وهو الألف في آخره، فحذفوها وبَنَوْا آخر الاسم على الضم تشبيهًا بقَبْلُ وبَعْدُ؛ لأن الألف لما حذفت وهي مرادة معه، والاسم كالمضاف إليها إذا كان متعلقًا بها؛ أَشْبَهَ آخرُهُ آخِرَ ما حذف منه المضاف إليه وهو مراد معه نحو "جئتُ من قبلُ ومن بعدُ" أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك، قال الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك؛ فكذلك ههنا.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "لو كانت الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف
__________
1 انظر في هذه المسالة: أسرار العربية للمؤلف "ص90 ليدن" وشرح المفصل لابن يعيش "ص159 ليبزج" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "1/ 120" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 119 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "2/ 208".

(1/264)


إليه لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو "واقِنَّسْرُونَاه" لأنا نقول: نحن لا نجوِّز نُدْبَة الجمع الذي على هجاءين؛ فلا يجوز عندنا ندبة "قنسرون" بحذف النون ولا إثباتها كما لا يجوز تثنيته ولا جمعه.
قالوا: ولا يجوز أيضا أن يقال "إن هذا يبطل بالمنادى المضاف، نحو: يا عَبْدَ عمرو؛ فإنه يفتقر في باب الصوت إلى ما يفتقر إليه المفرد؛ فكان ينبغي أن يقال: يا عبدُ عمرو -بالضم- لأن أصله: يا عبد عمراه" لأنا نقول: إنما لم يقدر ذلك في المنادى المضاف لأجل طوله، بخلاف المفرد، فَبَانَ الفرقُ بينهما.
وأما المضاف فإنما وجب أن يكون مفتوحًا لأن الاسم الثاني حّل محلّ ألف الندبة في قولك "يا زيداه" والدال في "يا زيداه" مفتوحة، فبقيت الفتحة على ما كانت في "يا عبد عمرو" كما كانت في "يا زَيْدَاهُ" والمضموم ههنا بمنزلة المنصوب، والمنصوب بمنزلة المندوب، ولا يقال إنه نُصِبَ بفعل ولا أداة.
قال: والذي يدل على أن المفرد بمنزلة المضاف امتناع دخول الألف واللام عليه، والذي يدل على أنه ليس منصوبًا بفعل امتناع الحال أن تقع معه؛ فلا يجوز أن يقال "يازيدُ راكبًا"، والذي يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملُكَ نعتَهُ على النصب نحو "يا زيدُ الظريفَ" كما يحمل نعتهُ على الرفع نحو: "يا زيدُ الظريفُ".
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مبنيّ وإن كان يجب في الأصل أن يكون معربًا لأنه أَشْبَهَ كاف الخطاب، وكاف الخطاب مبنيّة؛ فكذلك ما أشبهها. ووجه الشبه بينهما من ثلاثة أوجه: الخطاب، والتعريف، والإفراد، فلما أشبه كاف الخطاب من هذه الأوجه وجب أن يكون مبنيًّا كم أن كاف الخطاب مبنية.
ومنهم من تمسك بأن قال: إنما وجب أن يكون مبنيًّا لأنه وقع موقع اسم الخطاب؛ لأن الأصل في "يا زيد" أن تقول: يا إيَّاكَ، أو يا أنت؛ لأن المنادى لما كان مخاطبًا كان ينبغي أن يستغنى عن ذكر اسمه ويؤتى باسم الخطاب فيقال: "يا إياك" أو "يا أنت" كما قال الشاعر:
[204]
يا مُرَّ يا ابْنَ واقعٍ يا أَنْتَا ... أنت الذي طَلّقْتَ عامَ جُعْتَا
__________
[204] هذه خمسة أبيات من الرجز المشطور، وهي لسالم بن دارة يقولها في مر بن واقع "انظر شرح التبريزي على الحماسة بتحقيقنا" وقد استشهد بالبيتين الأول والثاني رضي الدين في باب النداء من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 289" وابن يعيش في شرح =

(1/265)


حتى إذا اصْطَبَحْتَ واغْتَبَقْتَا ... أقبلت معتادًا لما تَرَكْتَا
قد أحسن الله وقد أَسَأْتَا
فلما وقع الاسم المنادى موقع اسم الخطاب وجب أن يكون مبنيًّا كما أن اسم الخطاب مبنيّ، وإنما وجب أن يكون مبنيًّا على الضم لوجهين:
أحدهما: أنه لا يخلو: إما أن يبنى على الفتح، أو الكسر، أو الضم، بطل أن يبنى على الفتح لأنه كان يلتبس بما لا ينصرف، وبطل أن يبنى على الكسر لأنه كان يلتبس بالمضاف إلى النفس، وإذا بطل أن يبنى على الفتح وأن يبنى على الكسر تعين أن يبنى على الضم.
والوجه الثاني: أنه بني على الضم فرقًا بينه وبين المضاف؛ لأنه إن كان مضافًا إلى النفس كان مكسورًا، وإن كان مضافًا إلى غيرك كان منصوبًا؛ فبني على الضم؛ لئلا يلتبس بالمضاف؛ لأنه لا يدخل المضاف.
وإنما قلنا "إنه في موضع نصب" لأنه مفعول؛ لأن التقدير في قولك "يا زيدُ" أدعو زيدًا، أو أنادي زيدًا، فلما قامت "يا" مقام أدعو عملت عمله، والذي يدل على أنها قامت مقامه من وجهين؛ أحدهما: أنها تدخلها الإمالة نحو "يا"
__________
= المفصل "ص57 و 160 ليبزج" والأشموني "رقم 866" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 431" والاستشهاد به ههنا في قوله "يا مر يا بن واقع" وفي قوله "يا أنتا" فإن النداء الثاني -وهو قوله "يا أنتا"- يدل على النداء الأول -وهو قوله"يامر يابن واقع"- في معناه، فيكون الاسم العلم المنادى واقعًا موقع الضمير، وقد علم أن الضمير مبني، فيكون الواقع موقعه مبنيًّا أيضًا، قال ابن يعيش "ص160" "فإن قيل: فلم بني، وحق الأسماء أن تكون معربة؟ فالجواب أنه إنما بني لوقوعه موقع غير المتمكن، ألا ترى أنه وقع موقع المضمر، والمتمكنة من الأسماء إنما جعلت للغيبة؛ فلا تقول قام زيد وأنت تحدثه عن نفسه، إنما إذا أردت أن تحدثه عن نفسه فتأتي بضميره فتقول: قمت، والنداء حال خطاب، والمنادى مخاطب، فالقياس في قولك يا يزيد أن تقول: يا أنت، والدليل على ذلك أن من العرب من ينادي صاحبه إذا كان مقبلًا عليه ومما لا يلتبس ندؤاه بالمكنى، فيناديه بالمكنى على الأصل فيقول: يا أنت، قال الشاعر:
يا مر يا ابن واقع يا أنتا
غير أن المنادى قد يكون بعيدًا منك أو غافلًا، فإذا ناديته بأنت أو إياك لم يعلم أنك تخاطبه أو تخاطب غيره؛ فجئت بالاسم الذي يخصه دون غيره وهو زيد، فوقع ذلك الاسم موقع المكنى، فتبنيه لما صار إليه من مشاركة المكنى الذي يجب بناؤه" ا. هـ.
واعلم أن العرب إذا استعملت الضمير في النداء استعملته على وجهين: أحدهما أن يأتوا به ضميرًا من ضمائر النصب فيقولوا "يا إياك" والثاني أن يأتوا به ضميرًا من ضمائر الرفع فيقولوا "يا أنت" كما في البيت المستشهد به.

(1/266)


زيد، ويا عمرو" والإمالة إنما تكون في الاسم والفعل، دون الحرف، فلما جازت فيها الإمالة دلَّ على أنها قد قامت مقام الفعل، والوجه الثاني: أن لام الجر تتعلق بها نحو "يا لزيد، ويا لعمرو" فإن هذه اللام لام الاستغاثة، وهي حرف جر؛ فلو لم تكن "يا" قد قامت مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر؛ لأن الحرف لا يتعلق بالحرف، فدلَّ على أنها قد قامت مقام الفعل، ولهذا زعم بعض النحويين أن فيها ضميًرا كالفعل.
وذهب بعض البصريين إلى أن "يا" لم تَقُمْ مَقَامَ أدعو، وأن العامل في الاسم المنادى أدعو المقدر، دون يا، والذي عليه الأكثرون هو الأول.
فإذا ثَبَتَ بهذا أنه منصوب، إلا أنهم بنوه على الضم لما ذكرنا.
والذي يدل على أنه في موضع نصب أنك تقول في وصفه "يا زيدُ الظريفَ" بالنصب حملًا على الموضع، كما تقول "يا زيدُ الظريفُ" بالرفع حملًا على اللفظ، كما تقول "مررت بزيدٍ الظريفِ والظريفَ" فالجرّ على اللفظ، والنصب على الموضع، فكذلك ههنا: نُصِبَ لأن المنادى المفرد في موضع نصب لأنه مفعول، وهذا هو الأصل في كل منادى، ولهذا لمَّا لم يعرض للمضاف والمشبه بالمضاف ما يوجب بناءهما كالمفرد بَقِيَا على أصلهما في النصب.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين، أما قولهم "إن المنادى لا مُعْرِبَ له يصحبه" قلنا: لا نسلم، وقد بيَّنَّا ذلك في دليلنا.
وقولهم "إنَّا رفعناه" قلنا: وكيف رفعتموه ولا رافع له؟ وهل لذلك قَطٌّ نظيرٌ في العربية؟ وأين يوجد فيها مرفوع بلا رافع أو منصوب بلا ناصب أو مخفوض بلا خافض؟ وهل ذلك إلا تحكم مَحْضٌ لا يستند إلى دليل؟! ثم نقول: ولم رفعتموه بلا تنوين؟ قولهم "ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع فرق" قلنا: هذا باطل؛ فإن فيما يرفع بغير تنوين ما هو صحيح الإعراب، وذلك الاسم الذي لا ينصرف.
وقولهم "إنَّا حملنا المضاف على لفظ المنصوب لكثرته في الكلام" قلنا: هذا يبطل بالمفرد؛ فإنه كان ينبغي أن يحمل على النصب لكثرته في الكلام، فلما لم يحمل المفرد على النصب دلَّ على أنه ليس لهذا التعليل أصل.
وأما قول الفراء "إن الأصل في النداء أن يقال يا زيداه كالندبة" فمجرد دعوى يفتقر إلى دليل.
وقوله "إن الألف المزيدة في آخره بمنزلة المضاف إليه، فلما حذفوها بَنَوْهُ على الضم، كما إذا حذف المضاف إليه من قبل ومن بعدُ" قلنا: هذا يبطل

(1/267)


بالمنادى المضاف، نحو "يا عبد عمرو" فإنه يفتقر في باب الصوت إلى ما يفتقر إليه المفرد؛ فكان يجب أن يقال "يا عبد عمرو" بالضم، لأن أصله يا عبد عمرواه.
قوله "إنما لم يقدر ذلك في المنادى المضاف لطوله" قلنا: هذا باطل؛ لأن الطول لا يمنع تقرير الكلمة على حقها من تقدير الصوت في أوله وآخره؛ لأنه لا فرق في باب النداء بين طويل الأسماء وقصيرها، ألا ترى أنك لو ناديت رجلًا اسمه قَرَعَبْلَانة أو هَزَنْبَرَان أو أَشْنَانْدَانة وما أشبه ذلك لوجب فيه الضم، وإن كان أكثر حروفًا من "يا عبد عمرو" فدلَّ على بطلان ما ذهب إليه.
وأما جعله نصب المضاف مبنيًّا على فتح ما قبل الألف المزيدة في آخر المنادى فباطل أيضًا بما إذا قال "يا خيرًا من زيد" إذا كان مفردًا مقصودًا له، فإنه لا يخلو: إما أن يحمل نصب خير على الألف التي تدخل للصوت الرفيع، أو على غيره، فإن قال "على الألف" فكان ينبغي أن نقول "يا خيرًا من1 زيد" وهذا لا يقوله أحد، وإذا لم تدخله الألف وقد نُصِبَ دلَّ على أنه لم يحمل على الألف، وأنه محمول على غيره.
والذي يدلُّ على بطلان ما ذهب إليه من جعله الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف إليه أنه لو كان كذلك لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو: "واقنسروناه" قولهم "نحن لا نجوِّز ندبة الجمع الذي على هجاءين فلا يجوز عندنا ندبة قنسرون بحذف النون ولا إثباتها" قلنا: هذا يلزمكم إذا جعلتم مكان الواو ياء، فإنه يجوز عندكم أن تقولوا: واقنسريناه، وإن امتنع عندكم واقنسروناه، وكلاهما لفظ الجمع.
وأما قوله "إن المفرد بمنزلة المضاف؛ بدليل امتناع دخول الألف واللام عليه" قلنا: لا نسلم أن امتناع دخول الألف واللام عليه لما ذكرت، وإنما امتنع دخول الألف واللام عليه لأن الإشارة إليه والإقبال عليه أَغْنَتْ عن دخول الألف واللام عليه.
وأما قوله "الذي يدل على أنه ليس منصوبًا بفعل امتناعُ الحال أن تقع معه" قلنا: لا نسلم أن امتناع الحال أن تقع معه إنما كان لأجل العامل، ولكن لتناقض معنى الكلام فيه، وذلك لأنا لو قلنا "يا زيدُ راكبًا" على معنى الحال لكان التقدير أن النداء في حال الركوب، وإن لم يكن راكبًا فلا نداء، وهذا مستحيل؛ لأن النداء قد وقع بقوله "يا زيد" فإن لم يكن راكبًا لم يخرجه ذلك عن أن يكون قد
__________
1 أي من غير تنوين "خير".

(1/268)


نادى زيدًا بقوله: "يا زيد" وليس ذلك في سائر الكلام، ألا ترى أنك لو قلت: "اضرب زيدًا راكبًا" فلم تجده راكبا لم يجز أن تضربه، على أنه قد حكى أبو بكر بن السراج عن أبي العباس المُبَرِّد أنه قال: قلت لأبي عثمان المازني: ما أنكرت من الحال للمَدْعُوِّ؟ قال: لم أنكر منه شيئًا، إلا أن العرب لم تَدْعُ على شريطةٍ؛ فإنهم لا يقولون "يا زيد راكبًا" أي: ندعوك في هذه الحالة ونمسك عن دعائك ماشيًا؛ لأنه إذا قال "يا زيد" فقد وقع الدعاء على كل حال، قلت: فإن احتاج إليه راكبا ولم يحتج إليه في غير هذه الحالة، فقال: ألست تقول يا زيد دعاء حقًّا؟ فقلت: بلى، فقال: على ما تحمل المصدر؟ قلت: لأن قولي يا زيد كقولي أدعو زيدًا؛ فكأني قلت: أدعو دعاء حقًّا، فقال: لا أرى بأسًا بأن تقول على هذا: يا زيد راكبًا، فالزم القياس، قال أبو العباس: وجدت أنا تصديقًا لهذا قول النابغة:
[205]
قالت بَنُو عامر: خَالُوا بني أسد ... يا بُؤْسَ للجهل ضَرَّارًا لأقوام
__________
[205] هذا البيت للنابغة الذبياني كما قال المؤلف، وكان بنو عامر قد طلبوا إلى قوم النابغة أن يقاطعوا بني أسد، فجهلهم النابغة في ذلك، والبيت من شواهد سيبويه "1/ 346" ورضي الدين في أول باب المنادى من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 285" ومعنى "خالوا بني أسد" أي تاركوهم وقاطعوهم، وحرفيته خلوا بينهم وبين أنفسهم ولا تكونوا معهم، ومنه قالوا للمرأة المطلقة "خلية" وقالوا "خليت النبت" أي قطعته، وقوله "يا بؤس للجهل" معناه ما أبأس الجهل على صاحبه وأضره له، والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "يا بؤس للجهل ضرارًا" فإن هذه الكلمة حال، وقد جعله المُبَرِّد حالًا من المضاف الذي هو المنادى، ومن المعلوم أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها؛ فيكون العامل في هذه الحال هو العامل في المنادى -وهو حرف النداء النائب مناب أدعو- وكأنه قال: أدعو بؤس الجهل أدعوه حال كونه ضرارًا لأقوام، ومن العلماء من جعل هذه الحال من المضاف إليه الذي هو الجهل؛ فيكون العامل فيه هو المضاف لأنه هو العامل في صاحبه، ومن هؤلاء رضي الدين في شرح الكافية والأعلم الشنتمري، قال رضي الدين "1/ 120": "واعلم أنه قد ينصب عامل المنادى المصدر اتفاقًا نحو: يا زيد دعاء حقا، وأجاز المُبَرِّد نصبه للحال نحو: يا زيد قائما، إذا ناديته في حال قيامه، قال: ومنه قوله:
يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام:
والظاهر أن عامله بؤس الذي بمعنى الشدة، وهو مضاف إلى صاحب الحال -أعني الجهل- تقديرًا؛ لزيادة اللام؛ فهو مثل: أعجبني مجيء زيد راكبًا" ا. هـ. فأنت ترى أنه بعد أن نقل مذهب المُبَرِّد استظهر غيره وهو الذي حكيناه عنه، وقال الأعلم "ونصب ضرارًا على الحال من الجهل" ا. هـ، والاستشهاد الثاني بهذه الجملة في زيادة اللام وإقحامها بين المضاف الذي هو بؤس والمضاف إليه الذي هو الجهل، قال سيبويه "ومثل هذا قول الشاعر إذا اضطر:
يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام
حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت: يا بؤس الجهل" يريد أن الشاعر مع مجيء اللام =

(1/269)


وقوله "والذي يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملُكَ نعتَه على النصب نحو يا يزيد الظريفَ كما يحمل نعته على الرفع نحو يا زيد الظريفُ" قلنا: لا نسلِّم أن نصب الوصف لأن المفرد بمنزلَةِ المضاف، وإنما نصبه لأن الموصوف وإن كان مبنيًّا على الضم فهو في موضع نصب لأنه مفعول؛ فَنُصِبَ وصفُه حملًا على الموضع كما رفع حملًا على اللفظ، وحَمْلُ الوصف والعطف على الموضع جائزٌ في كلامهم كما يحمل على اللفظ؛ ولهذا يجوز بالإجماع "ما جاءني من أحد غيرُك" بالرفع، كما يجوز بالجرّ، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] بالرفع والجر؛ فالرفع على الموضع، والجر على اللفظ.
قال الشاعر:
[145]
حتى تَهَجَّرَ في الرَّوَاحِ وهَاجَهَا ... طَلَبَ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلُومُ
فرفع "المظلوم" وهو صفة للمجرور الذي هو "المعقب" حملًا على الموضع؛ لأنه في موضع رفع بأنه فاعل، إلا أنه لما أضيف المصدر إليه دخله الجرّ للإضافة، وكذلك يجوز أيضًا الحملُ على الموضع في العطف نحو "مَرَرْتُ بزيد وعمرًا" كما يجوز "وعمروٍ" قال الشاعر:
[206]
فلستُ بِذِي نَيْرَبٍ في الصَّدِيقِ ... ومَنَّاعَ خَيْرٍ وسَبَّابَهَا
ولا مَنْ إذا كان في جَانِبٍ ... أَضَاعَ العَشِيرَةَ فَاغْتَابَهَا
__________
= ترك التنوين؛ لأنه قدر اللام غير موجودة وأن الاسم المضاف إلى ما بعده، وقال الأعلم "الشاهد فيه إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه في وقوله يا بؤس للجهل، توكيدًا للإضافة" ا. هـ.
[206] هذان البيتان من كلام عدي بن خزاعي، وقد رواهما صاحب الصحاح "ن ر ب" كما رواهما المؤلف، ولكن ابن منظور نقل عن ابن بري أن صواب الإنشاد هكذا:
ولست بذي نيرب في الكلام ... ومناع قومي وسبابها
ولا من إذا كان في معشر ... أضاع العشيرة واغتابها
ولكن أطاوع ساداتها ... ولا أعلم الناس ألقابها
والنيرب -بوزن جعفر وكوثر- الشر والنميمة، وتقول "نيرب الرجل" -مثل بيطر مما ألحق بدحرج بزيادة الياء- تريد سعى ونم، وتقول "نيرب الكلام" تريد خلطه، ورجل نيرب، ورجل ذو نيرب؛ أي ذو شر ونميمة، ومحل الاستشهاد قوله "ومناع خير" على ما رواه المؤلف؛ فإن الرواية في هذه الكلمة وردت بنصب "مناع" المعطوف على قوله "بذي نيرب" الذي هو خبر ليس مزيدًا فيه الباء، وإنما أتى الشاعر بالمعطوف منصوبًا لأن موضع المعطوف عليه النصب لكونه خبر ليس، وهذه الباء الداخلة عليه زائدة لا عمل لها إلا في اللفظ.

(1/270)


وقال الآخر وهو عُقَيبة الأسدي:
[207]
مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بَالجِبَالِ ولا الحَدِيدا
فنصب "الحديد" حملًا على موضع "بالجبال" لأن موضعها النصبُ بأنها خبر ليس، ومن زعم أن الرواية "ولا الحديدِ" بالخفض فقد أخطأ؛ لأن البيت الذي بعده:
أَدبرُوهَا بني حربٍ عليكم ... ولا تَرْمُوا بِهَا الغَرَضَ البَعِيدَا
والرويّ المخفوض لا يكون مع الرويّ المنصوب في قصيدة واحدة؛ وقال العجاج:
[208]
كشحًا طَوَى من بَلَدٍ مُخْتَارًا ... مِنْ يَأْسِهِ اليَائِسِ أو حِذَارَا
__________
[207] هذا البيت والبيت الذي رواه المؤلف بعد قليل على أنه تالٍ لهذا البيت لتبيين قافية الكلمة وأنها منصوبة، هما من كلام لعقيبة بن هبيرة الأسدي يقوله لمعاوية بن أبي سفيان يشكو إليه جور عماله، وهما من شواهد سيبويه "1/ 34 و 352 و 375 و 448" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 740" ورضي الدين في أثناء باب توابع المنادى من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 343" واعلم أولًا أن قصيدة عقيبة بن هبيرة الأسدي رويها مجرور، وهي تروى هكذا:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
أكلتم أرضنا فجرزتموها ... فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع في الخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود؟
وقد روى سيبويه البيتين اللذين رواهما المؤلف بالنصب، وقال الأعلم "وقد رد على سيبويه رواية البيت بالنصب؛ لأن البيت من قصيدة مجرورة معروفة، وبعده ما يدل على ذلك، وهو قوله:
أكلتم أرضنا فجرزتموها البيت
وسيبويه غير متهم فيما نقله رواية عن العرب، ويجوز أن يكون البيت من قصيدة منصوبة غير هذه المعروفة، أو يكون الذي أنشده ردّه إلى لغته فقبله منه سيبويه، فيكون الاحتجاج بلغة المنشد، لا بقول الشاعر" ا. هـ كلامه، ومنه يتبين أن الذي كان في نسخة كتاب سيبويه التي كانت بيد الأعلم بيت واحد؛ فالظاهر أن نقلة كتاب سيبويه أضافوا البيت الثاني ليظهر أن ثمة قصيدة بالنصب وأن البيت من هذه القصيدة، ومحل الاستشهاد قوله "ولا الحديدا" حيث نصب المعطوف نظرًا إلى موضع المعطوف عليه، قال سيبويه "ومما جاء من الشعر في الإجراء على الموضع قول عقيبة الأسدي، وأنشد البيتين" ا. هـ وقال الأعلم "استشهد به على جواز المعطوف على موضع الباء وما عملت فيه؛ لأن معنى لسنا بالجبال ولسنا الجبال واحد" ا. هـ.
[208] الكشح -بفتح الكاف وسكون الشين- ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف وهو موضع السيف من المتقلد، ويقال "طوى فلان كشحه على الأمر" إذا استمر ودام عليه، ويقال =

(1/271)


وقال الآخر:
[209]
فَإِنْ لم تَجِدْ من دون عَدَنَانَ والدًا ... ودون مَعَدٍّ فَلْتَزَعْكَ العَوَاذِلُ
وقال الآخر أيضًا:
[210]
أَلَا حَيَّ نَدْمَانِي عُمَيْرَ بْنَ عَامِرٍ ... إذا ما تَلَاقَيْنَا مِنَ اليَوْمِ أو غَدَا
__________
= "طوى كشحه عنا" إذا ذهب وقطع أواصر الرحم قال الشاعر:
طوي كشحًا خليلك والجناحا ... لبين منك، ثم غدا صراحا
ويقال "طوى فلان كشحًا على ضغن" إذا عاداك وفاسدك، قال زهير:
وكان طوى كشحًا على مستكنة ... فلا هو أبداها ولم يتجمجم
محل الاستشهاد هنا قوله "أو حذرا" حيث عطف هذا المنصوب على قوله "يأسة اليائس" المجرور لكون محل هذا المجرور النصب لكونه مفعولًا لأجله، وقد علمت أن المفعول لأجله يجوز جره بحرف جر دالٍ على التعليل ولو استوفى شروط النصب، ألا ترى أنه لو لم يأتِ بمن لكان يقول: يأسة اليائس أو حذارًا، فينصب المعطوف والمعطوف عليه جميعًا؟ وقد ذكرنا لك جملة من الشواهد للعطف على المحل تجري في أبواب مختلفة في شرح الشاهد رقم 116 فارجع إليها إن شئت.
[209] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وقد استشهد به سيبويه "1/ 34" ورضي الدين في أثناء باب توابع المنادى، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 339" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 733" وانظر شرح شواهد المغني للسيوطي "ص55" ومحل الاستشهاد قوله "ودون معد" حيث عطف "دون" هذه المنصوبة على "دون" السابقة المجرورة؛ لكون محل الأولى المجرورة هو النصب؛ فإن المجرور بحرف الجر مفعول به في المعنى، ألا ترى أن العامل هنا وهو قوله "تجد" يتعدى إلى ثاني مفعوليه بنفسه تارة وبحرف الجر تارة أخرى، قال الأعلم: "حمل دون الآخرة على موضع الأولى لأن معنى لم تجد من دون عدنان ولم تجد دون عدنان واحد" ا. هـ. وقال ابن هشام في المغني "ص473 بتحقيقنا": "وللعطف على المحل ثلاثة شروط: الأول أماكن ظهوره في الفصيح، ألا ترى أنه يجوز في ليس زيد بقائم وما جاءني من امرأة أن تسقط الباء فتنصب ومن فترفع؛ فعلى هذا لا يجوز: مررت بزيد وعمرًا، خلافًا لابن جني؛ لأنه لا يجوز في الفصيح: مررت زيدًا، ولا تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائدًا كما مثلنا، بدليل قوله:
"فإن لم تجد من دون عدنان والدًا" البيت
وأجاز الفارسي في قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أن يكون {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} عطفًا على محل "هذه" لأنه محل النصب" ا. هـ المقصود منه بتصرف يسير جدا.
[210] دمان -ومثله النديم- الذي يجالسك ويشاربك، وقال الشاعر:
وندمان يزيد الكأس طيبا ... سقيت وقد تغورت النجوم
والاستشهاد بالبيت في قوله "أو غدا" حيث جاء به منصوبًا تبعًا لمحل "اليوم" الذي هو المعطوف عليه؛ على مثال ما قلنا في شرح الشواهد السابقة، ومن العلماء من خرج هذا =

(1/272)


فنصب "غدًا" حملًا على موضع "من اليوم" وموضعها نصب.
والشواهد على الحمل على الموضع في الوصف والعطف أكثر من أن تُحْصَى وأوفر من أن تُستقصى، والله أعلم.
__________
= البيت على أن "من" في قوله "من اليوم" زائدة؛ فيكون "اليوم" منصوبًا على الظرفية، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وسيذكر المؤلف هذا التخريج في آخر المسألة 54.

(1/273)


46- مسألة: [القول في نداء الاسم المحلَّى بأل] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز نداء ما فيه الألف واللام نحو "يا الرجل ويا الغلام" وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه جائز أنه قد جاء ذلك في كلامهم، قال الشاعر:
[211]
فَيَا الغُلَامَان اللّذَانِ فَرَّا ... إيَّاكُمَا أن تَكْسِبَانِي شَرًّا
__________
[211] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد استشهد بهما ابن يعيش في شرح المفصل "ص172" ورضي الدين في أثناء باب توابع المنادى من شرح الكافية "1/ 132" وشرحهما البغدادي في الخزانة "1/ 358 بولاق" والأشموني "رقم 879" وابن عقيل "رقم 309" وقوله "إياكما أن تكسباني شرا" روى في مكانه "إياكما أن تعقبانا شرا" وهو تحذير، وتقديره: احذرا من أن تكسباني شرا، ويجوز في حرف المضارعة في "تكسباني" الفتح على أنه مضارع كسب الثلاثي والضم على أنه مضارع أكسب، وكل أهل اللغة يجيزون أن تقول "كسبت زيدًا مالًا، أو علمًا" إلا ابن الأعرابي فإنه كان يوجب أن تقول "أكسبت زيدًا مالًا" بالهمز. ومحل الاستشهاد قوله "فيا الغلامان" حيث جمع بين حرف النداء وأل، والبصريون يقررون أن الجمع بين حرف النداء وأل جائز في موضعين: أحدهما في نداء اسم الله تعالى في نحو قولك "يا ألله" وثانيهما فيما تحكيه من الجمل نحو أن تسمي رجلًا "الرجل منطلق"، وفيما عدا هذين لا يجوز الجمع بين حرف النداء وأل في الاختيار، وأما الكوفيون فقد أجازوا ذلك اعتمادًا على ما ورد منه في نحو البيت المستشهد به، ونحو قول الآخر وهو من شواهد الأشموني "رقم 878":
عباس يا الملك المتوج والذي ... عرفت له بيت العلا عدنان
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص171 ليبزج" وكتابه سيبويه "1/ 310" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 125" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 216" وأسرار العربية للمؤلف "ص93 ليدن" وشرح رضي الدين على الكافية "1/ 128 و 132".

(1/274)


فقال: يا الغلامان "فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام.
وقال الآخر:
[212]
فَدَيْتُكَ يا الَّتِي تَيَّمْتِ قَلْبِي ... وأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالْوُدِّ عَنِّي
فقال "يا التي" فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام؛ فدلّ على جوازه.
والذي يدل على صحة ذلك أنا أجمعنا على أنه يجوز أن نقول في الدعاء "يا ألله اغفر لنا" والألف واللام فيه زائدان، فدلَّ على صحة ما قلناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الألف واللام تفيد التعريف، و "يا" تفيد التعريف، وتعريفان في كلمة لا يجتمعان؛ ولهذا
__________
[212] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 310" والزمخشري في المفصل "رقم 35 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص172" وأسرار العربية للمؤلف "ص93" ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 132" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 358" وقوله "فديتك" قد روي "من أجلك يا التي" بإلقاء حركة الهمزة من "أجلك" وهي الفتحة على النون قبلها وحذف الهمزة، و "تيمت قلبي" أي استعبدته وأذللته، وقوله "بالود" وهو كذلك في كتاب سيبويه وشرح الأعلم، وورد في المفصل "بالوصل" ومحل الاستشهاد قوله "يا التي" حيث جمع بين حرف النداء وأل، مع أن أل في هذه الكلمة لازمة لا يجوز إسقاطها؛ لأنها لازمتها من حال الوضع، ولهذا يزعم البصريون أن هذا البيت أخف شذوذًا من البيت السابق "رقم 211" لأن الألف واللام في قول الشاعر "فيا الغلامان" ليسا بلازمين، قال الأعلم: "الشاهد فيه دخول حرف النداء على الألف واللام في قوله "يا التي" تشبيهًا بقولهم "يا الله" للزوم الألف واللام لها، ضرورة، ولا يجوز ذلك في الكلام" ا. هـ.
وقال ابن يعيش "وأما بيت الكتاب:
من أجلك يا التي تيمت قلبي ... إلخ"
فشاذٌّ قياسًا واستعمالًا، فأما القياس فلما في نداء ما فيه الألف واللام على ما ذكر، وأما الاستعمال فظاهر، فإنه لم يأتِ منه إلا ما ذكر، وهو حرف أو حرفان، ووجه تشبيهه بيا الله من جهة لزوم الألف واللام وإن لم يكن مثله، والفرق بينهما أن الذي والتي صفتان يمكن أن ينادى موصوفهما وينوي بهما صفتين كقولك: يا زيد الذي في الدار ويا هند التي أكرمتني، ويقع صفة لأيها، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِين آمنوا} و {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} وليستا اسمين، ولا يكون ذلك في اسم الله تعالى؛ لأنه اسم غالب جرى مجرى الأعلام كزيد وعمرو" ا. هـ.
وقال أبو سعيد السيرافي: "كان أبو العباس لا يجيز يا التي، ويطعن على البيت، وسيبويه غير متهم فيما رواه، ومن أصحابنا من يقول: إن قوله يا التي تيمت قلبي على الحذف، كأنه قال: يا أيها التي تيمت قلبي، فحذف، وأقام النعت مقام المنعوت" ا. هـ.

(1/275)


لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية في الاسم المنادى العلم نحو "يا زيد" بل يُعَرَّى عن تعريف العلمية ويُعَرَّف بالنداء؛ لئلا يُجْمَع بين تعريف النداء وتعريف العلمية، وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية فَلأن لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف الألف واللام أَوْلَى، وذلك لأن تعريف النداء بعلامة لفظية، وتعريف العلمية ليس بعلامة لفظية، وتعريف الألف واللام بعلامة لفظية، كما أن تعريف النداء بعلامة لفظية، وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية وأحدهُما بعلامة لفظية والآخر ليس بعلامة لفظية فَلأَن لا يجو الجمع بين تعريف النداء وتعريف الألف واللام وكلاهما بعلامة لفظية كان ذلك من طريق الأولى1.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قوله:
[211]
فيا الغلامان اللذان فَرَّا
فلا حجة لهم فيه؛ لأن التقدير فيه "فيا أيها الغلامان" فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، وكذلك قول الآخر:
[212]
فديتك يا التي تَيَّمْتِ قلبي
حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، على أن هذا قليل، إنا يجيء في الشعر؛ [150] فلا يكون فيه حجة، على أنه سَهَّلَ ذلك أن الألف واللام من "التي" لا تنفصل منها، فنزلت بعض حروفها الأصلية، فيتسهل دخول حرف النداء عليها. وأما قولهم "إنا نقول في الدعاء يا ألله" فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الألف واللام عوض عن همزة "إله" فتنزلت منزلة حرف من نفس الكلمة، وإذا تنزَّلت منزلة حرف من نفس الكلمة جاز أن يدخل حرف النداء عليه، والذي يدل على أنها بمنزلة حرف من نفس الكلمة أنه يجوز أن يقال في النداء "يا
__________
1 هذه إحدى ثلاث علل ذكرها البصريون وأنصارهم، والعلة الثانية أن تعريف الألف واللام تعريف العهد، وهو يتضمن معنى الغيبة؛ لأن العهد يكون بين اثنين -هما المتكلم والمخاطب- في شأن ثالث غائب عنهما، والنداء خطاب لحاضر، فلو جمعت بينهما لتنافي التعريفان، والعلة الثالثة أن المنادى المقرون بأل إما أن يبنى وإما أن يعرب، وكلاهما مشكل، أما البناء فوجه إشكاله من جهتين: الأولى أن الألف واللام من خصائص الأسماء؛ فهي تبعد الاسم من شبه الحرف الذي هو علة البناء، والجهة الثانية أن الألف واللام معاقبة للتنوين، فهي كالتنوين، فكأن الاسم المقترن بهما منون فمن أجل ذلك استكرهوا دخول الألف واللام مطردًا في المنادى المبني، وأما الإعراب فوجه إشكاله أن العلة التي من أجلها بنوا المنادى -وهو وقوع المنادى موقع الضمير، ومشابهته الضمير في الإفراد والتعريف- موجودة في ذي الألف واللام إذا نودي، فكيف يعرب؟

(1/276)


ألله "بقطع الهمزة، قال الشاعر:
[213]
مباركٌ هو ومَنْ سَمَّاهُ ... على اسمِكَ اللهم يا أللهُ
ولو كانت كالهمزة التي تدخل مع لام التعريف لوجب أن تكون موصولة، فلما جاز فيها ههنا القطع دلَّ على أنها نزلت منزلة حرفٍ من نفس الكلمة، كما أن الفعل إذا سمي به فإنه تُقْطَع همزةُ الوصل منه نحو اضْرِبْ واقْتُلْ، تقول "جاءني إضرب، ورأيت إضرب، ومررت بإضرب" و "جاءني أقتل، ورأيت أقتل، ومررت بأقتل1" بقطع الهمزة ليدل على أنها ليست كالهمزة التي كانت في الفعل قبل التسمية، وأنها بمنزلة حرف من نفس الكلمة، فكذلك ههنا.
والذي يدل على ذلك أنهم لو أجروا هذا الاسم مجرى غيره مما فيه ألف ولام لكانوا يقولون "يا أيها الله" كما يقولون "يا أيها الرجل" إما على طريق الوجوب عندنا، أو على طريق الجواز عندكم، فلما لم يجز أن يقال ذلك على كل حالٍ دلَّ على صحّة ما ذهبنا إليه.
__________
[213] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن منظور "أل هـ" ولم يعزهما، والاستشهاد بهما في قوله "يا ألله" حيث ورد لفظ الجلالة منادى مقطوع الهمزة وقد زعم المؤلف -تبعا لأنصار البصريين- أن قطع الهمزة يدل على أنها نزلت من اللفظ الكريم منزلة جزء منه، وإلا لجاءت همزة وصل غير مقطوعة؛ لكونها في الأصل همزة أل المعرفة، وهمزة أل المعرفة همزة وصل كما هو معروف، وفي كل دعوى من هذه الدعاوى الكثيرة مقال، قال ابن منظور "الفراء: ومن العرف من يقول إذا طرح الميم: يا ألله اغفر لي -بهمزة- ومنهم من يقول: يا الله -بغير همز- فمن حذف الهمزة فهو على السبيل؛ لأنها ألف ولام مثل لام الحارث من الأسماء وأشباهه؛ ومن همزها توهم الهمزة من الحرف؛ إذ كانت لا تسقط منه الهمزة، قال:
مبارك وهو من سماه البيت" ا. هـ كلامه.
__________
1 من ذلك قول الراعي، وهو من شواهد المفصل "رقم 2 بتحقيقنا":
أشل سلوقية باتت وبات بها ... بوحش إصمت في اصلابها أود
أشلى: أي أغرى، وأنكر ثعلب مجيء أشلى بمعنى أغرى، وهو محجوج بمثل هذا البيت، وسلوقية: أي كلابا منسوبة إلى سلوق، وإصمت: اسم علم على برية بعينها، وقال أبو زيد: يقال: لقيته ببلدة إصمت، أي في بلد قفر، وفي أصلابها أود: أي في وسط ظهورها اعوجاج، والاستشهاد به في قوله "إصمت" فإن أصله فعل أمر من صمت يصمت صماتًا، فسمي به مكان معين، وقد غيروه حين النقل من فعل الأمر إلى العلمية ثلاثة تغييرات: التغيير الأول أنهم قطعوا همزه فصيروها همزة قطع بعد أن كانت همزة وصل، والثاني أنهم كسروا ميمه بعد أن كانت مضمومة، والثالث أنهم حركوا آخره بعد أن كان ساكنًا.

(1/277)


والوجه الثاني: أن هذه الكلمة كثر استعمالها في كلامهم؛ فلا يقاس عليها غيرها.
والوجه الثالث: أن هذا الاسم عَلَم غير مُشْتَقّ أتي به على هذا المثال من البناء من غير أصل يُرَدُّ إليه؛ فينزل منزلة سائر الأسماء الأعلام، وكما يجوز دخول حرف النداء على سائر الأسماء الأعلام فكذلك ههنا.
والمعتمد من هذه الأوجه هو الوجه الأول، والله أعلم.

(1/278)


47- مسألة: [القول في الميم في "اللهمّ" أَعِوَضٌ من حرف النداء أم لا؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الميم المشدّدة في "اللهم" ليست عوضًا من "يا" التي للتنبيه في النداء. وذهب البصريون إلى أنها عوض من "يا" التي للتنبيه في النداء، والهاء مبنية على الضم لأنه نداء.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل فيه "يا الله أمَّنا بخير" إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حَذَفُوا بعض الكلام طلبًا للخفة، والحذف في كلام العرب لطلب الخفة كثير؛ ألا ترى أنهم قالوا "هلمَّ، ووَيْلُمِّهِ" والأصل فيه: هل أمَّ، ووَيْلَ أمه، وقالوا "أيش" والأصل: أيُّ شيء.
وقالوا "عم صباحًا" والأصل: أنعم صباحًا. وهذا كثير في كلامهم.
قالوا: والذي يدل على أن الميم المشددة ليست عوضًا من "يا" أنهم يجمعون بينهما، قال الشاعر:
[214]
إني إذا ما حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقول: يا اللهمَّ، يا اللهُمَّا
__________
[214] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور في لسان العرب "أل هـ" ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 132" وشرحهما البغدادي في الخزانة "1/ 358" وأنشدهما الأشموني "رقم 880" وابن عقيل "رقم 310" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 439" وابن يعيش "ص181" والحدث –بالتحريك- ما يحدث من الأمور، ومحل الاستشهاد هنا قوله "يا اللهم" حيث جمع الشاعر بين حرف النداء والميم المشددة في نداء لفظ الجلالة، واعلم أولا أن نداء لفظ الجلالة قد ورد على عدة أوجه؛ الوجه الأول -وهو الأصل، والأكثر استعمالًا- أن تقول: يا ألله، تدخل حرف النداء على الاسم الجليل، وتقطع الهمزة، والوجه الثاني: أن تقول: يا الله، تدخل حرف النداء على الاسم العظيم، =
__________
1 انظر في هذه المسألة: لسان العرب "أل هـ" وشرح الكافية "1/ 132" وشرح المفصل لابن يعيش "ص181" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 126 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 217 بولاق".

(1/279)


وقال الآخر:
[215]
وما عليكِ أن تَقُولِي كُلّمَا ... صَلَّيتِ أو سبّحتِ: يا اللهمَّ ما
أُرْدُدُ علينا شيخنا مُسَلّمَا
وقال الآخر:
[216]
غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْتَ يا اللهُمَّا
__________
= وتجعل همزته همزة وصل، وقد سبق ذكر هذين الوجهين في شرح الشاهد السابق "رقم 213" والوجه الثالث: أن تقول: اللهم، تحذف حرف النداء وتأتي في آخر الاسم الكريم بميم مشددة، وقد اختلف النحاة في هذه الميم المشددة، فقال البصريون وأنصارهم: هي عوض عن حرف النداء، وقال قوم -منهم الفراء- هذه الميم المشددة بقية كلمة، وأصل العبارة: يا الله أمنا بخير، وقد أنكر ذلك الزَّجَّاج، وشنع على القائل به، فمن ذهب إلى أن الميم المشددة عوض عن حرف النداء قال: لا يجمع بين حرف النداء والميم المشددة في الكلام، فإن ورد ذلك في شعر فهو شاذٌّ لا يقاس عليه، لأنه لا يجمع بين العوض والمعوض عنه، ومن هؤلاء شيخ المحققين ابن مالك الذي يقول في الخلاصة "الألفية":
والأكثر اللهم، بالتعويض ... وشذّ يا اللهم في قريض
ومن ذهب مذهب الفَرَّاء لم ينكر الجمع بين الميم المشددة وحرف النداء، والوجه الرابع: أن تقول: لا هم، فتحذف حرف النداء وأل من أول الاسم الكريم، وتجيء بالميم المشددة في آخره، ومنه قول الراجز:
لا هم إن كنت قبلت حجتج ... فلا يزال شاحج يأتيك بج
يريد: إن كنت قبلت حجتي ويأتيك بي، فأبدل الياء جيمًا، وأكثر هذه الوجوه هو الوجه الثالث، وهو الذي ورد استعماله في القرآن الكريم، نحو قوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
[215] هذه ثلاثة أبيت من الرجز المشطور، وقد أنشدها ابن منظور في اللسان "أل هـ" ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 132" وشرحها البغدادي في الخزانة "1/ 359" و "ما" في قوله "وما عليك" استفهامية تقع مبتدأ خبره الجار والمجرور، والمعنى: أي شيء عليك؟ وسبحت: أي نزهت ربك وعظمته وقدسته. أو قلت: سبحان الله. وصليت: دعوت، وشيخنا: أراد أبانا، ونظير ذلك قول الأعشى ميمون بن قيس:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلًا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت؛ فاغتمضي ... نومًا، فإن لجنب المرء مضطجعا
ومحل الاستشهاد قوله "يا اللهم ما" حيث جمع بين حرف النداء والميم المشددة، ولم يكتفِ بذلك، بل زاد ميمًا مفردة بعد الميم المشددة، وقد بيَّنَّا أقوال العلماء في الجمع بين حرف النداء والميم في شرح الشاهد السابق "214".
[216] هذا بيت من مشطور الرجز، ولم أقف له على سوابق أو لواحق، والاستشهاد به في قوله "يا اللهم" حيث جمع بين حرف النداء والميم المشددة في آخر لفظ الجلالة، والكلام فيه على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.

(1/280)


فجمع بين الميم و "يا" ولو كانت الميمُ عوضًا من "يا" لما جاز أن يجمع بينهما؛ لأن العوض والمعوَّض لا يجتمعان.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنا أجمعنا أن الأصل "يا ألله" إلا أنا لما وجدناهم إذا أدخلو الميم حذفوا "يا" ووجدنا الميم حرفين و "يا" حرفين، ويستفاد من قولك "اللهمَّ" ما يستفاد من قولك "يا ألله" دلَّنَا ذلك على أن الميم عوض من "يا"؛ لأن العوض ما قام مقام المعوض، وههنا الميم قد أفادت ما أفادت "يا" فدلَّ على أنها عوض منها، ولهذا لا يجمعون بينهما إلا في ضرورة الشعر، على ما سنبين في الجواب إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين1: أما قولهم "إن الأصل يا ألله أمّنا بخير، فحذفوا بعض الكلام لكثرة الاستعمال" قلنا: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه لو كان الأمر كما زعمتم وأن الأصل فيه يا ألله أمنا بخير لكان ينبغي أن يجوز أن يقال اللهمنا بخير، وفي وقوع الإجماع على امتناعه دليل على فساده.
والوجه الثاني: أنه يجوز أن يقال "اللهمَّ أُمَّنَا بخير" ولو كان الأول يراد به "أمَّ" لما حسن تكرير الثاني؛ لأنه لا فائدة فيه.
والوجه الثالث: أنه لو كان الأمر كما زعمتم لما جاز أن يستعمل هذا اللفظ إلا فيما يؤدي عن هذا المعنى، ولا خلاف أنه يجوز أن يقال "اللهم العَنْهُ، اللهم أَخْزِهِ، اللهم أهلكه" وما أشبه ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ولو كان الأمر كما زعموا لكان التقدير: أمَّنَا بخير، إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ولا شك أن هذا التقدير ظاهر الفساد والتناقض؛ لأنه لا يكون أمهم بالخير أن يمطر عليهم حجارة من السماء أو يُؤْتَوْا بعذاب أليم.
وهذا الوجه عندي ضعيف، والصحيح من وجه الاحتجاج بهذه الآية أنه لو كانت الميم من الفعل لما افتقرت إن الشرطية إلى جواب في قوله: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] وكانت تسد مسدَّ الجواب، فلما افتقرت إلى الجواب في قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} [الأنفال: 32] دلَّ أنها ليست من الفعل.
__________
1 انظر رد الزَّجَّاج على ما ذهب إليه الفَرَّاء من أن أصل "اللهم" يا ألله أمنا بخير، في لسان العرب "أل هـ".

(1/281)


يحتمل عندي وجهًا رابعًا: أنه لو كان الأصل "يا ألله أمّنا بخير" لكان ينبغي أن يقال: اللهم وارحمنا، فلما لم يجز أن يقال إلا "اللهم ارحمنا" ولم يجز "وارحمنا" دلَّ على فساد ما ادَّعُوه.
وأما قولهم "إن هلم أصلها هل أم" قلنا: لا نسلم، وإنما أصلها "ها المم" فاجتمع ساكنان: الألف من "ها" واللام من "المم" فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، ونقلت ضمة الميم الأولى إلى اللام، وأدغمت إحدى الميمين في الأخرى، فصار هَلُمَّ.
وقولهم "الدليل على أن الميم ليست عوضًا من يا أنهم يجمعون بينهما كقوله:
[214]
إني إذا ما حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقول يا اللهمَّ يا اللهمَّا
وقول الآخر:
[215]
وما عليك أن تقولي كلمَّا ... سبَّحت أو صلَّيت يا اللهمَّ ما"
فنقول: هذا الشعر لا يعرف قائله؛ فلا يكون فيه حجة، وعلى أنه إن صحَّ عن العرب فتقول: إنما جمع بينهما لضرورة الشعر، وسَهَّل الجمع بينهما للضرورة أن العوض في آخر الاسم، والمعوض في أوله، والجمع بين العوض والمعوض منه جائز في ضرورة الشعر، قال الشاعر:
[217]
هَمَا نَفَثَا في فِيَّ من فَمَوَيْهِمَا ... على النَّابِحِ العَاوِي أَشَدُّ رِجَامِ
__________
[217] هذا البيت آخر قصيدة للفرزدق همام بن غالب يهجو فيها إبليس وابنه، وهو من شواهد سيبويه "2/ 83 و 202" وقد أنشده ابن منظور "ف م م – ف وهـ" وعزاه إليه في المرتين، واستشهد به رضي الدين في باب الإضافة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 269" وكان رجل من موالي بأهله قد أعطى الفرزدق نحي سمن على أن يهب له أعراض قومه -يعني يتركهم ولا يهجوهم- فقال هذه القصيدة "انظر الديوان 769-771" وقوله "هما نفثا" رواية الديوان "هما تفلا" وضمير المثنى يعود إلى إبليس وابنه اللذين ذكرهما في قوله قبل بيت الشاهد:
وإن ابن إبليس وأبليس ألبنا ... لهم بعذاب الناس كل غلام
وقوله "أشد الرجام" أشد هنا أفعل تفضيل مضاف إلى ما بعده، ووقع في الديوان "أشد لجامي" على أن "أشد" فعل مضارع، ولعله تحريف، والاستشهاد بالبيت في قوله "فمويهما" فإن هذا مثنى الفم مضافًا إلى ضمير الغائبين، وللعلماء فيه كلام نلخصه لك فيما يلي: أكثر العلماء على أن أصل الفم "فوه" بدليل قولهم "تفوه فلان بكذا، وقولهم: فلان أفوه من فلان، وفلان مفوه، مثل مكرم، ثم حذفوا الهاء اعتباطًا، ولم يعوضوا منها شيئًا. =

(1/282)


فجميع بين الميم والواو وهي عوض منها لضرورة الشعر، فجمع بين العوض والمعوّض، فكذلك ههنا، والله أعلم.
__________
= ثم حذفوا الواو وعوضوا منها الميم فصار "فم" على وزن "فع" وإذا ثنيت الفم بعد رده إلى أصله قلت "فوهيهما" ولكن الشاعر قال "فمويهما" فأبقى الميم التي قصدوا بها التعويض عن الواو المحذوفة من المفرد، وأعاد الواو التي هي عين الكلمة، فجمع بذلك بين العوض -وهو الميم- والمعوض عنه وهو الواو، ومن المعلوم أن الجمع بين العوض والمعوض منه لا يقع في كلام العرب، وقد حاول أبو علي أن يتلخص من هذا المأزق مع البقاء على ما أصّلوه من قاعدة عدم الجمع بين العوض والمعوض منه؛ لهذا قال: "ويجوز فيها وجه آخر، وهو أن تكون الواو في فمويهما لامًا في موضع الهاء من أفواه، وتكون الكلمة تعتقب عليها لامان، هاء مرة، وواو أخرى، فجرى هذا مجرى سنة وعضة، ألا ترى أنهما في قول سيبويه واوان، بدليل: سنوات، وأسنتوا، ومساناة، وعضوات، وتجدهما في قول من قال: ليست بسنهاء، وبعير عاضه، هاءين؟ " ا. هـ، وهذا الكلام يحتمل وجهين؛ الوجه الأول: أن يكون يريد أن الميم عوض عن الهاء التي هي لام الكلمة، وقد قدمها عن مكانها الأصلي قال الجوهري "وقالوا في التثنية: فموان، وإنما أجازوا ذلك لأن هناك حرفا آخر محذوفا وهو الهاء، كأنهم جعلوا الميم في هذه الحال عوضا عنها، لا عن الواو"ا. هـ، وفيه بعد. والوجه الثاني: أن يكون أراد أن أصل الفم فمو، فالميم عين الكلمة والواو لامها، وتقلب هذه الواو ألفًا في المفرد لتحركها وانفتاح ما قبلها فتقول: فما، كما تقول: عصا، وعلى هذا قول الراجز:
يا حبذا وجه سليمى والفما ... والجيد والنحر وثدي قد نما
قال ابن بري "وقد جاء في الشعر فما مقصورة مثل عصا، وعلى ذلك جاء تثنيته فموان" ا. هـ، وعلى هذا يكون "والفما" في قول الراجز اسمًا مفردًا مقصورًا مرفوعًا بضمة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر، وخرّجَه الفَرَّاء على وجهين آخرين: أحدهما أن يكون أصله "والفمان" على التثنية، فحذف النون، والثاني أن تكون الواو واو المعية و "الفما" منصوب على أنه مفعول معه منصوب بالفتحة الظاهرة وألفه للإطلاق وجوز ابن جني وجه ثالثًا، وهو أن يكون منصوبًا بفعل مضمر، كأنه قال: وأحب الفم، ويكون نصبه بالفتحة الظاهرة أيضًا. وقد أطلت عليك في تخريج هذه الكلمة فبحسبك هذا.

(1/283)