الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 48- مسألة: [هل يجوز ترخيم المضاف بحذف آخر
المضاف إليه؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن ترخيم المضاف جائز، ويُوقِعُون الترخيم في آخر
الاسم المضاف إليه، وذلك نحو قولك "يا آلَ عامِ" في يا آل عامرِ، و "يا
آل مالِ" في يا آل مالك، وما أشبه ذلك. وذهب البصريون إلى أن ترخيم
المضاف غير جائز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن ترخيم المضاف جائز أنه
قد قال جاء في استعمالهم كثيرًا، قال زُهَيْر بن أبي سُلْمَى
[218]
خُذُوا حَظَّكُمْ يا آل عِكْرِمَ واحْفَظُوا ... أَوَاصِرَنَا
والرِّحْمُ بالغَيْبِ تُذْكَرُ
__________
[218] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وقد استشهد به
سيبويه "1/ 343" وابن يعيش في شرح المفصل "ص185" والرضي في شرح الكافية
"1/ 136" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 373" كما استشهد به الأشموني
"رقم 916" والمؤلف في أسرار العربية "ص96" وقوله "خذوا حظكم" هو هكذا
في كتاب سيبويه وفي شرح الكافية والخزانة، وورد في شرح المفصل وكتب
المتأخرين "خذو حذركم" وقوله "يا آل عكرم" أراد بني عكرمة بن خصفة بن
قيس عيلان، والأواصر: جمع آصرة، وهي كل ما يعطفك على آخر ومنها الرحم،
ومزينة قوم زهير وآل عكرمة بن خصفة كلاهما من مضر، يقول: خذوا حظكم من
مودتنا ومسالمتنا، وكانوا قد اعتزموا غزو قومه. والاستشهاد بالبيت في
قوله "يا آل عكرم" فإن "آل عكرم" مركب إضافي، وقد رخمه بحذف آخر المضاف
إليه؛ فإن أصله "يا آل عكرمة" فحذف التاء، وقد استدل الكوفيون بهذا
البيت وأمثاله على أنه يجوز ترخيم المركب الإضافي المنادى بحذف آخر
المضاف إليه، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد، والحذف من
آخر الثاني مع أن المنادى هو الأول كأنه حذف من آخر الاسم =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 150 بولاق"
وتشريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 232" وأسرار العربية للمؤلف "ص96" وشرح
ابن يعيش على المفصل "ص185" وشرح الكافية "1/ 136".
(1/284)
أراد "يا آل عِكْرِمَةَ" إلا أنه حذف التاء
للترخيم، وهو عكرمة بن خَصَفَةَ1 بن قيس بن عيلان بن مضر، وهو أبو
قبائل كثيرة من قيس. وقال الآخر:
[219]
أبَ عُرْوَ لا تَبْعَدْ فكلُّ ابنِ حُرَّةِ ... سَيَدْعُوهُ دَاعِي
مِيتَهٍ فَيُجِيبُ
أراد "أَبَا عُروة". وقال الآخر:
[220]
إِمَّا تَرَيْنِي اليوم أُمَّ حَمْزِ ... قَارَبْتُ بين عَنَقِي
وَجَمْزِي
__________
= المفرد غير المضاف وأنكر ذلك عليهم البصريون، وذكروا أن الترخيم في
هذا البيت ونحوه شاذٌّ كالترخيم في غير النداء، فكما حذف بعض الشعراء
من أواخر الأسماء في غير النداء لأنهم اضطروا إلى ذلك حذفوا من أواخر
المركبات الإضافية في النداء لأنهم اضطروا إلى ذلك، وقد عقد سيبويه في
كتابه بابًا ترجمته "هذا باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطرارًا"
وقال الأعلم في بيت الشاهد "الشاهد في ترخيم عكرمة وتركه على لفظه،
ويحتمل أن تجعل فتحته إعرابًا، على أنه اسم لمؤنث فلا تصرفه؛ لأن عكرمة
وإن كان اسم رجل فإنه يقع على القبيلة" ا. هـ.
[219] هذا البيت من شواهد شرح المفصل "ص185" وشرح الكافية "1/ 136"
وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 377" واستشهد به أيضًا ابن هشام في أوضح
المسالك "رقم 451" وشرحه العيني "4/ 287 بهامش الخزانة" وقوله "لا
تبعد" أصل معناه لا تهلك، ولكنهم يريدون لا ينقطع ذكرك ولا تنسى
سوالفك، و "ميتة" بكسر الميم ولهذا انقلبت الواو الساكنة ياء، ووقع
بدلها عند بعض الذين استشهدوا بالبيت "موته" بفتح الميم وبقاء الواو
على حالها. ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله "أبا عرو" فإن هذا منادى
بحرف نداء محذوف، وهو مركب إضافي، وقد رخَّمَه الشاعر بحذف آخر المضاف
إليه، فإن أصله "يا أبا عروة" فحذف حرف النداء، وحذف التاء من عروة،
والكلام فيه كالكلام في البيت السابق.
[220] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من شواهد سيبويه "1/ 333" وقد
نسب في صدر الكتاب وفي شرح شواهده، لرؤبة بن العجاج، والعنق -بفتح
العين والنون جميعًا- ضرب من السير السريع، والجمز -بفتح فسكون- أشد من
العنق، وهو يشبه الوثب. وصف كبره وأنه قد قارب بين خطاه ضعفًا.
والاستشهاد بالبيت في قوله "أم حمز" فإن هذا منادى بحرف نداء محذوف،
وهو مركب إضافي، وقد رخمه بحذف آخر المضاف إليه "وأصله يا أم حمزة"
فحذف حرف النداء وهو يا، وحذف التاء من المضاف إليه، وهو نظير ما
ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.
واعلم أنَّا رأيناهم يرخمون المركب الإضافي المنادى على عدة وجوه:
الأول: أن يحذفوا آخر المضاف إليه، كما في الشواهد 218 و 219 و 220.
__________
1 في ر "عكرمة بن حفصة" تحريف.
(1/285)
أراد "أم حمزة" والشواهد على هذا كثيرة
جدا، فدل على جوازه. ولأن المضاف [154] والمضاف إليه بمنزلة الشيء
الواحد، فجاز ترخيمه كالمفرد.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن ترخيم المضاف غير جائز
أنه لم توجد فيه شروط الترخيم، وهي: أن يكون الاسم منادى، مفردًا
معرفةً، زائدًا على ثلاثة أحرف. والدليل على اعتبار هذه الشروط: أما
شرط كونه منادى فظاهر؛ لأنهم لا يرخمون في غير النداء إلا في ضرورة
الشعر، ألا ترى أنهم لا يقولون في حالة الاختيار في غير النداء "قام
عام" في عامر، ولا "ذهب مال" في مالك، فدل على أنه شرط معتبر. وأما شرط
كونه مفردًا فظاهر أيضًا؛ لأن النداء يؤثر فيه البناء، ويغيره عما كان
عليه قبل النداء، ألا ترى أنه كان معربًا فصار مبنيًّا؟ فلما غيّره
النداء عما كان عليه من الإعراب قبل النداء جاز فيه الترخيم؛ لأنه
تغيير، والتغيير يُؤْنِس بالتغيير؛ فأما ما كان مضافًا فإن النداء لم
يؤثر فيه البناء ولم يغيره عما كان عليه قبل النداء؛ ألا ترى أنه معرب
بعد النداء كما هو معرب قبل النداء؟ وإذا كان الترخيم إنما سَوَّغَهُ
تغييرُ النداء، والنداء لم يغير المضاف؛ فوجب أن لا يدخله الترخيم؛
فصار هذا بمنزلة حذف الياء في النسب من باب فُعَيلة وفَعِيلة كقولهم في
النسب إلى جُهَيْنَة "جُهَنِي" وإلى ربيعة "رَبَعِي" وإثباتها في باب
فُعَيل وفَعِيل كقولهم في النسب إلى قُشَيْرٍ "قُشَيْرِي" وإلى جرير
"جَرِيرِيّ" فإن الياء إنما حذفت من باب فُعَيلة وفَعِيلة ومن فُعَيل
وفَعِيل لأن النسب أثر فيه وغَيَّرَهُ بحذف تاء التأنيث منه، والتغيير
يؤنس بالتغيير، بخلاف باب فُعَيل وفَعِيل؛ فإن النسب لم يؤثر فيه
تغييرًا، فلم يحذف منه الياء، فأما قولهم في النسب إلى قريش "قُرَشِيّ"
وإلى هذيل "هُذَلِيّ" وإلى ثقيف "ثَقَفِيّ" -بحذف الياء في إحدى
اللغتين- فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه، واللغة الفصحى إثبات الياء،
وهي أن تقول: قُرَيْشِيّ، وهُذَيْلِيّ، وثَقِيفيّ، وهو القياس. قال
الشاعر:
221-
بكلِّ قُرَيْشِيّ عليه مَهَابَةٌ ... سَرِيع إلى دَاعِي النَّدَى
والتكَرُّمِ
__________
= والوجه الثاني: أن يحذفوا آخر المضاف لأنه هو المنادى عند التحقيق،
مثل قول الشاعر:
يا علقم الخير قد طالت إقامتنا
أراد "يا علقمة الخير" فرخّمه بحذف التاء من المضاف إذ كان هو المنادى.
والوجه الثالث: أن يحذفوا المضاف إليه كله، ومن ذلك قول عدي بن زيد:
يا عبد هل تذكرني ساعة ... في موكب أو رائدًا للقنيص؟
أراد أن يقول "يا عبد هند" لأنه ينادي عبد هند اللخمي، فحذف المضاف
إليه بته.
[221] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 70" ولم يعزه ولا عزاه الأعلم في
شرح شواهده، وهو =
(1/286)
وقال الآخر:
[222]
هُذَيْلِيَةٌ تَدْعُو إذا هي فَاخَرَتْ ... أبًا هُذَلِيًّا من
غَطَارِفَةٍ نُجْدِ
وكما أن الحذف ههنا إنما اختص بما غَيَّره النسب دون غيره، فكذلك الحذف
ههنا للترخيم إنما يختص بما غيَّره النداءُ -وهو المفرد المعرفة- دون
المضاف والنكرة. وأما شرط كونه زائدًا على ثلاثة أحرف فسنذكر ذلك في
المسألة التي بعد هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما استشهدوا به من الآيات فلا حجة
فيه؛ لأنه محمول عندنا على أنه حذف التاء لضرورة الشعر، والترخيم عندنا
يجوز
__________
= من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص771" وقد رواه ابن منظور "ق ر ش"
ثالث ثلاثة أبيات، ولم يعزها إلى قائل معين، والبيتان اللذان قبله هما
قوله:
ولست بشاوي عليه دمامة ... إذا ما غدا يغدو بقوس وأسهم
ولكنما أغدو على مفاضة ... دلاص كأعيان الجراد المنظم
وأول هذين البيتين من شواهد سيبويه "2/ 84" وثانيهما من شواهده أيضَا
"2/ 186" وقوله في بيت الشاهد الذي نحن بصدده "سريع إلى داعي الندى"
يريد أنه إذا دعاه الندى أو دعي إليه أجاب سريعًا نحوه، ومحل الاستشهاد
بهذا البيت هنا قوله "قريشي" حيث أجراه في النسب على أصله، ووفاه
حروفه، ولم يحذف ياءه، وهو القياس؛ لأن الياء لا يطرد حذفها إلا فيما
كانت فيه هاء التأنيث نحو جهينة ومزينة، إلا أن العرب آثرت في قريش
الحذف لكثرة الاستعمال له، فقالوا: قرشي.
[222] هذا البيت من شواهد الزمخشري في المفصل "انظر شرح ابن يعيش 769 و
770" والاستشهاد بهذا البيت في موضعين، الأول في قوله "هذيلية" والثاني
في قوله "أبا هذليا" فإن الشاعر قد جمع بين إثبات الياء في الكلمة
الأولى وحذف الياء في الكلمة الثانية، والقياس في مثله إبقاء الياء
وعدم حذفها.
قال أبو البقاء بن يعيش: "وقالوا ثقفي في النسبة إلى ثقيف، وهو أبو
قبيلة من هوازن، وهو شاذٌّ عند سيبويه، والقياس ثقفي، وهو لغة قوم من
العرب بتهامة وما يقرب منها، وقد كثر ذاك حتى كاد يكون قياسًا، وقالوا:
هذلي في النسبة إلى هذيل، وهو حي من مضر بن مدركة بن إلياس، والقياس
عند سيبويه: هذيلي، ومنه قوله:
"هذيلية تدعو إذا هي فاخرت" البيت
وقالوا: قرشي، والقياس قريشي، نحو قوله:
"بكل قريشي عليه مهابة" البيت
وقالوا: فقمي، في فقيم، وفقيم حي من كنانة، وهم نسأة الشهور، وقالوا في
مليح خزاعة: ملحى، وقالوا في سليم: سلمي، وفي خثيم: خثمي، والداعي إلى
هذا الشذوذ. طلب الخفة؛ لاجتماع الياء مع الكسرة وياءي النسب" ا. هـ.
(1/287)
لضرورة الشعر في غير النداء، قال الشاعر:
[223]
أَوْدَى ابْنُ جُلْهُمَ عَبَّادٌ بِصِرْمَتِهِ ... إنَّ ابْنَ جُلْهُمَ
أَمْسَى حَيَّةَ الوَادِي
أراد "جُلْهُمَةَ" فحذف التاء لضرورة الشعر، وقال الآخر:
[224]
ألا أَضْحَتْ حِبَالُكُمُ رِمَامَا ... وأَضْحَتْ مِنْكَ شَاسِعَةَ
أُمَامَا
__________
[223] هذا البيت من كلام الأسود بن يعفر، وهو من شواهد سيبويه "1/ 344"
ورواه ابن منظور "ج ل هـ م" وأودى بها: أي ذهب بها، والصرمة -بكسر
الصاد وسكون الراء- القطعة من الإبل ما بين الثلاثين إلى الأربعين،
والوادي: المطمئن من الأرض، وحية الوادي: كناية عن كونه يحمي ناحيته
ويتقي منه كما يتقى من الحية الحامية لواديها المانعة منه. ومحل
الاستشهاد بالبيت قوله "إن ابن جلهم" واعلم أولا أن العرب سمت المرأة
جلهم -بغير تاء- وسمت الرجل جلهمة -بالتاء- كذا جرى استعمالهم للاسمين،
ثم اعلم أنه يجوز أن يكون الشاعر قد عنى أباه، ويجوز أن يكون قد عنى
أمه، فإن كان قد عنى أباه كان أصل العبارة "إن ابن جلهمة" فرخمة بحذف
التاء مع أنه غير منادى، بل هو فاعل أودى ومضاف إليه، ولكن يسأل حينئذ
عما دعاه إلى فتح "جلهم" وهو علم لمذكر فلا يكون ممنوعًا من الصرف بعد
حذف التاء، والجواب عن هذا أنه لما حذف التاء أبقى الحرف الذي قبلها
على ما كان عليه، كالذي يرخم على لغة من ينتظر الحرف المحذوف، وإن كان
قد عنى أمه كان أصل العبارة "إن ابن جلهم" كما وردت في البيت؛ فلا يكون
في البيت -على هذا الوجه- ترخيم، ولا يستدل به على شيء من هذا الباب.
ويكون "جلهم" مجرورًا بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف
للعلمية والتأنيث كزينب ورباب من أعلام الإناث التي لا تاء فيها، ومن
هنا تعلم أن استشهاد المؤلف بهذا البيت لا يتم إلا على أساس أن الشاعر
أراد اسم الأب، وهو ظاهر بعد هذا الإيضاح. قال سيبويه رحمه الله: "وأما
قول الأسود بن يعفر:
أودى ابن جلهم عباد بصرمته
فإنما أراد أمه جلهم، والعرب يسمون المرأة جهلم والرجل جلهمة" ا. هـ.
يعني أنه لا ترخيم فيه عنده، وقال الأعلم: "الشاهد في قوله جلهم، وأنه
أراد أمه جلهم؛ فلا ترخيم فيه على هذا؛ لأن العرب سمت المرأة جلهم بغير
هاء، والرجل جلهمة بالهاء. كذا جرى استعمالهم للاسمين، وإن كان أراد
أباه فقد رخم" ا. هـ.
[224] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي، وروايته في الديوان
على قلق في وزنه" ص502":
أصبح حبل وصلكم رماما ... وما عهد كعهدك يا أماما
وليس في البيت -على هذه الرواية- ما يستشهد به لشيء في هذه المسألة كما
ترى، وكان أبو العباس المُبَرِّد يرد الاستشهاد بهذا البيت ويدعي أن
الرواية هي هذه، والبيت -على ما وراه المؤلف- من شواهد سيبويه "1/ 343"
ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 136" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 389
بولاق" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 457" =
(1/288)
أراد: "أمامة". وقال الآخر:
[225]
إنَّ ابْنَ حَارِثَ إنْ اشْتَقْ لِرُؤْيَتِه ... أو أَمْتَدِحْهُ فإن
الناس قد عَلِمُوا
__________
= والأشموني "رقم 924" وقد رواه المؤلف كما هنا في أسرار العربية "97"
والاستشهاد بالبيت على رواية النحاة في قوله "أماما" فإن أصله "أمامة"
فرخّمه الشاعر بحذف التاء في غير النداء لأنه اسم أضحت، وأبقى الحرف
الذي قبل التاء على حركته التي كانت له قبل حذف التاء وهي الفتحة؛ فهذا
يدل على أن ترخيم غير المنادى في الضرورة يجيء على الوجهين اللذين يجيء
عليهما ترخيم المنادى، نعني أنه يجوز عند الضرورة ترخيم الاسم الذي ليس
منادى مع قطع النظر عن الحرف الذي حذف للترخيم فتعامل الحرف الذي صار
آخر الكلمة بالذي يستحقه من حركات الإعراب، ويجوز ألا يقطع النظر عن
الحرف الذي حذف للترخيم فتبقي الحرف الذي صار آخر الكلمة على حركته
التي كانت عليه قبل الترخيم وتجعل حركة الإعراب مقدرة على الحرف الذي
حذف، وما في هذا البيت من هذا الضرب. فأما ما: اسم أضحى تأخر عن خبرها،
وهو مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الحرف المحذوف للترخيم، وتسمى هذه
لغة من ينتظر، وتسمى الأولى لغة من لا ينتظر، كما تسميان في ترخيم
المنادى.
[225] هذا البيت من كلام أوس بن حبناء، وهومن شواهد سيبويه "1/ 343"
والأشموني "رقم 925" والمراد بابن حارث ابن حارثة بن بدر الغداني سيد
بني غدانة بن يربوع بن تميم، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "ابن حارث"
فإن أصله حارثة بالتاء، فرخمه بحذف التاء، وأبقى الحرف الذي قبل التاء
على حركته التي كان عليها قبل الترخيم وهي الفتحة، ولولا ذلك لما كان
هناك سبب لإعراب "حارث" إعراب الاسم الذي لا ينصرف، وبيان ذلك أن
"حارث" مضاف إليه؛ فكان يجب أن يجر بالكسرة الظاهرة وينوّن؛ لأنه ليس
باسم قبيلة ولا بعلم مؤنث، ولا يكون مجرورًا بالفتحة نيابة عن الكسرة
إلا إذا كان واحدًا من هذين، لهذا كان تخريج شيخ النحاة سيبويه لهذا
وأمثاله على أنه رخمه في غير النداء على لغة من ينتظر الحرف المحذوف
كما كان له أن يفعل ذلك في ترخيم المنادى، ونظيره قول الشاعر.
لنعم التفى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر
أراد طريف بن مالك، فحذف الكاف، ونظيره قول الآخر:
ليس حي على المنون بخال
أراد أن يقول: ليس حي بخالد، فلم يتيسر له، فحذف الدال، ونظيره قول أبي
الطيب المتنبي:
لله ما فعل الصوارم والقنا ... في عمرو حاب وضبة الأغتام
أراد أن يقول: في عمرو حابس، فرخمه بحذف السين، غير أن هذه الأبيات
الثلاثة تستوي فيها اللغتان لغة من ينتظر الحرف المحذوف ولغة من لا
ينتظر الحرف المحذوف بسبب كون الحركة التي كانت للحرف الذي صار آخر
الكلمة هي نفس الحركة التي يقتضيها الإعراب.
(1/289)
أراد "ابن حارثة" وقال الآخر:
[226]
أبو حَنَشٍ يُؤَرِّقُنِي، وَطَلْقٌ ... وعَمَّارٌ، وآونَهً أُثَالَا
أراد "أثالة". وزعم المُبَرِّد أنه ليس في العرب أثالة، وإنما هو
أُثال. ونصبه على تقدير: يذكرني آونة أثالان وقيل: نصبه لأنه عطفه على
الياء والنون في "يؤرقني" كأنه قال: يُؤَرِّقُنِي وأثال، وقال بعض بني
عبْس:
[227]
أرِقُّ لأَرْحَامٍ أَرَاهَا قَرِيبَةً ... لحَارِ بنِ كَعْبٍ لا
لَجَرْمِ وَرَاسِبِ
أراد "لحارث بن كعب" وعبسٌ والحارثُ بن كعبِ بن ضَبَّةَ إِخوةٌ فيما
__________
[226] هذا البيت من كلام عمرو بن أحمر، وهو من شواهد سيبويه "1/ 343"
والأشموني "رقم 339" وابن عقيل "رقم 131" وقد استشهد به أبو الفتح بن
جني في الخصائص "2/ 378" وانظر العيني "2/ 421 بهامش الخزانة" و "أبو
حنش، وطلق، عمار" جماعة من قومه كانوا قد لحقوا بالشام؛ فصار يراهم في
النوم إذا أتى عليه الليل، ورواه ابن جني "وعباد" في مكان "عمار" ومحل
الاستشهاد هنا بهذا البيت قوله "أثالا" فإن أصله "أثالة" بالتاء فرخمه
بحذف هذه التاء في غير النداء، وأبقى الحرف الذي قبل التاء على حركته
التي كنت عليها قبل الترخيم -وهي الفتحة- على لغة من ينتظر الحرف
المحذوف، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق "225".
[227] أرق: أعطف، والأرحام: جمع رحم، وهو في الأصل القرابة من جهة
النساء، وقد يراد به القرابة مطلقًا، وجرم -بفتح الجيم وسكون الراء
المهملة- قبيلة من قضاعة، وهي جرم بن ربان، وفي العرب بنو راسب بن
الخزرج بن حرة بن جرم بن ربان، وبنو راسب بن الحارث بن عبد الله بن
الأزد، وبنو راسب بن ميدعان الذين منهم عبد الله بن وهب الراسبي الذي
كان على رأس الخوارج في يوم النهروان، ومحل الشاهد في البيت قوله "لحار
بن كعب" فإن أصل الكلام لحارث بن كعب، فرخم حارث بحذف الثاء التي هي
آخره وإن لم يكن منادى، وأبقي الحرف الذي قبل الثاء -وهو الراء- على
حركته التي كان عليها قبل الترخيم، وهي الكسرة، على نحو ما قررناه في
شرح الشواهد السابقة.
ومن هذه الشواهد المتعددة تعلم أن الذي وقع من العرب في أشعارها من
ترخيم غير المنادى قد جاء على طريقين: أحدهما أن يبقى الحرف الذي قبل
المحذوف على ما كان عليه قبل الحذف ويسمى هذا لغة من ينتظر، والثاني أن
يحرك الحرف الذي قبل الحرف المحذوف، بالحركة التي يقتضيها العامل،
ويعتبر كأنه آخر الكلمة حقيقة، ويسمى هذا لغة من لا ينتظر أو لغة
الاستقلال، وقد قبل سيبويه الوجهين جميعًا نظرًا منه إلى ما ورد عن
العرب، وأما أبو العباس المُبَرِّد فكان لا يقبل إلا ما جاء على لغة من
لا ينتظر الحرف المحذوف، وهي لغة الاستقلال، وكان يرد ما جاء على غير
هذا الوجه، قال رضي الدين "1/ 136" "ويجوز ترخيم غير المنادى للضرورة،
وإن خلا من تأنيث وعلمية، على تقدير الاستقلال كان أو على نية المحذوف،
عند سيبويه، والمبرد يوجب تقدير الاستقلال" ا. هـ.
(1/290)
يزعمون. وأن كل حال فالترخيم في غير النداء
للضرورة مما لا خلاف في جوازه، والشواهد عليه أشهر من أن تذكر، وأظهر
من أن تنكر، وكما أن الترخيم في ذلك كله لا يدل على جوازه في حالة
الاختيار، فكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات، وإذا كان الترخيم
يجوز لضرورة الشعر في غير النداء فلأن يجوز ترخيم المضاف لضرورة الشعر
في النداء كان ذلك من طريق الأولى.
وأما قولهم "إن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد؛ فجاز ترخيمه
كالمفرد" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه لو كان هذا معتبرًا لوجب أن يؤثر النداء
في المضاف1 البناء كما يؤثر في المفرد، فلما لم يؤثر النداء فيه البناء
دلَّ على فساد ما ذهبتم إليه والله أعلم.
__________
1 في ر "في المضاف إليه البناء" وليس بذاك.
(1/291)
49- مسألة: [هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي؟]
1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيم الاسم الثلاثي إذا كان أوسطه متحركًا،
وذلك نحو قولك في عُنُقٍ "يا عُنُ" وفي حَجَر "يا حَجَ" وفي
كَتِف"ياكَتِ" وذهب بعضهم إلى أن الترخيم يجوز في الأسماء على الإطلاق.
وذهب البصريون إلى أن ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف لا يجوز بحال، وإليه
ذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا ترخيم ما كان على ثلاثة
أحرف إذا كان أوسطه متحركًا لأن في الأسماء ما يماثله ويضاهيه نحو يَدٍ
ودَمٍ، والأصل في يد يَدَيٌ، وفي دم دَمَوٌ في أحد القولين، بدليل
قولهم: دَمَوَانً، وقد قال بعضهم: إن دمًا من ضوات الياء واحتج بقول
الشاعر:
[288]
فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا ... جَرَى الدَّمَيَانِ
بالخَبَرِ اليَقِينِ
__________
[228] يختلف العلماء كثيرًا في نسبة هذا البيت؛ فنسبه العيني -فيما
نقله عنه البغدادي، ولم أعثر عليه بعد طويل البحث- تبعًا لابن هشام
تبعًا لصاحب الحماسة البصرية إلى المثقب العبدي، وينسبه قوم إلى
الفرزدق، وقوم إلى الأخطل، وقوم إلى المرادس بن عمرو، واستصوب البغدادي
أنه لعلي بن بدال بن سليم، وأسند رواية ذلك إلى ابن دريد في كتاب
المجتبى عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، وقد أنشده ابن منظور "د م ى"
هذا البيت ثالث ثلاثة أبيات، والبيت من شواهد الزمخشري في المفصل، وابن
يعيش في شرحه "ص600" والرضي في باب المثني من شرح الكافية، وشرحه
البغدادي في الخزانة "3/ 349" والأشموني "رقم 1162" ومعنى البيت مبني
على ما كان العرب يعتقدونه من أن المتعادين لو ذبحا وأحدها جار الآخر
لم يختلط دم أحدهما بدم الآخر ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "الدميان"
حيث أتى بمثنى الدم وجعل لامه ياء، ومن المقرر أن التثنية والجمع
يردان. =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح رضي الدين على الكافية "1/ 136" وشرح موفق
الدين بن يعيش على المفصل "ص185" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/
149" وتصريح الشيخ خالد "2/ 234".
(1/292)
والأكثرون على أنه من ذوا ت الواو، إلا
أنهم استثقلوا الحركة على حرف العلة فيهما؛ لأن الحركات تستثقل على حرف
العلة، فحذفوه طلبًا للتخفيف وفرارًا من الاستثقال، فبقيت يدٌ ودمٌ،
فكذلك في محل الخلاف: الترخيم إنما وضع للتخفيف بالحذف، والحذف قد جاز
في مثله للتخفيف، فوجب أن يكون جائزًا.
__________
= الأشياء إلى أصولها، فمجيء الدميان بالياء يدل على أن اللام المحذوفة
من "الدم" كانت ياء، وهذه المسألة خلافية بن النحاة من ناحيتين، ونحن
نبين لك ذلك في وضوح واختصار فنقول: اعلم أولا أن العرب حذفت اللام من
الدم لمجرد التخفيف فقالوا "دم" كما قالوا: غد، ويد، وأب، وأخ، وحم،
وأنهم اشتقوا فعلا ووصفا من الدم فقالوا: دمى فلان يدمي فهو دم، بوزن
فرح يفرح فرحًا فهو فرح من الصحيح وعمي يعمي عمى فهو عم وشجى يشجى شجى
فهو شج من المعتل وأن أكثرهم يقولون في تثنية الدم "دميان"
ومنهم من يقول في تثنيته "دموان" بفتح الميم التي قبل الياء أو الواو،
وقد اختلف النحاة في المحذوف من "دم" أواو هو أم ياء؟ وفي أصل الميم
قبل الحذف أمفتوحة هي أم ساكنة؟ فقال قوم: أصل دم دمي -بسكون الميم
وبالياء في آخره- أما الدليل على أن أصل اللام ياء فهو تثنيته على
"دميان" وأما الدليل على أن أصل الميم ساكنة فهو القياس؛ وذلك لأن أكثر
ما حذف لامه اعتباطًا للتخفيف مثل ابن وغد ساكن العين، وتحريكها في
التثنية لا يقطع بأنها كانت محركة في المفرد، وقال قوم: أصل اللام
المحذوفة من "دم" واو, بدليل أنهم ثنوه فقالوا "دموان" ونحن بعد هذا
نذكر لك كلام ابن الشَّجَرِي في أماليه في هذه المسألة فإنه -فيما نرى-
أوفى كلامًا فيها، قال: "ودم عند بعض التصريفيين دمي -ساكن العين-
قالوا: لأن الأصل في هذه المنقوصات أن تكون أعينها سواكن حتى يقوم دليل
على الحركة، من حيث كان السكون هو الأصل والحركة طارئة، قالوا: وليس
ظهور الحركة في قولنا دميان دليلًا على أن العين متحركة في الأصل؛ لأن
الاسم إذا حذفت لامه واستمرت حركات الإعراب على عينه ثم أعيدت اللام في
بعض تصاريف الكلمة ألزموا العين الحركة، وقال من خالف أصحاب هذا القول:
أصل دم دمي -بفتح العين- لأن العرب قلبوا لامه ألفًا فألحقوه بباب
رَحَا فقالوا: هذا دمًا، مثل قولهم: هذه رحا، وقال بعض العرب في تثنيته
دمان فلم يردوا اللام، كما قالوا في تثنية يد: يدان، والوجه أن يكون
العمل على الأكثر، وكذلك حكى قوم دموان، والأعرف فيه الياء، وعليه
أنشدوا:
جرى الدميان بالخبر اليقين
ومن العرب من يقوم الدم -بتشديد الميم- كما تلفظ به العامة، وهي لغة
رديئة، وأنشدوا لتأبط شرًّا:
حيث التقت بكر وفهم كلها ... والدم يجري بينهم كالجدول
والعامة تفعل مثل هذا في الفم أيضًا، وإنما يكون ذلك في الشعر، كما
قال:
يا ليتها قد خرجت من فمه
ا. هـ كلامه، وفيه كفاية ومقنع.
(1/293)
قالوا: ولا يلزم على كلامنا إذا كان الأوسط
منه ساكنًا؛ فإنه لا يجوز ترخيمه وإن كان له نظير نحو يَدٍ وغَدٍ؛ لأنا
نقول: إنما لم يجز عندنا ترخيم ما كان الأوسط منه ساكنًا نحو زيد وعمرو
لأنه إذا حذف الحرف الأخير وجب حذف الحرف الساكن الذي قبله؛ فيبقى
الاسم على حرف واحد، وذلك لا نظير له في كلامهم، بخلاف ما إذا كان
أوسطه متحركًا على ما بيّنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجوز ترخيمه وذلك
أنا أجمعنا على أن الترخيم في عرف النحويين إنما هو حذفٌ دخل في الاسم
المنادى إذا كثرت حروفه، طلبًا للتخفيف، فإذا كان الترخيم إنما وضع في
الأصل لهذا المعنى فهذا في محل الخلاف لا حاجة بنا إليه؛ لأن الاسم
الثلاثي في غاية الخفة؛ فلا يحتمل الحذف، إذ لو قلنا إنه يخفف بحذف
آخره لكان ذلك يؤدي إلى الإجحاف به؛ فدلَّ على ما قلناه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما جوزنا ترخيمه لأن في
الأسماء ما يماثله، نحو يَدٍ ودَمٍ" فنقول: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنَّا نقول: إن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال، بعيدة عن
القياس: فأما قلتها في الاستعمال فظاهر؛ لأنها كلمات يسيرة معدودة،
وأما بعدها عن القياس فظاهر أيضًا، وذلك لأن القياس يقتضي أن لا يحذف؛
لأن حرف العلة إذا كان متحركًا فلا يخلو: إما أن يكون ما قبله ساكنًا
أو متحركًا، فإن كان ساكنًا فينبغي أن لا يحذف كما لا يحذف من ظَبْيٍ
ونِحْيٍ وغَزْوٍ ولَهْوٍ؛ لأن الحركات إنما تستثقل على حرف العلة إذا
كان ما قبله متحركًا لا ساكنًا، وإن كان ما قبله متحركًا فينبغي أن
يقلب ألفًا ولا يحذف، كقولهم: رحًى، وعمًى، وعصًا، وقفًا، ألا ترى أن
الأصل فيها رَحَيٌ وعَمَيٌ وعَصَوٌ وقَفَوٌ؛ بدليل قولهم: رَحَيَان،
وعَمَيَان، وعَصَوَان، وقَفَوَان، إلا أنه لما تحركت الياء والواو،
وانفتح ما قبلهما؛ قلبوا كل واحدة منهما ألفًا استثقالًا للحركات على
حرف العلة مع تحرك ما قبله، إلى غير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه، وعلي هذا
سائر الثلاثي المقصور، وإذا ثبت أن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال
بعيدة عن القياس فوجب أن لا يقاس عليها.
والوجه الثاني: وهو أن نقول: قياس محل الخلاف على يد ودم، ليس بصحيح،
وذلك لأنهم إنما حذفوا الياء والواو لاستثقال الحركات عليهما؛ لأنها
تستثقل على حرف العلة، أما في الترخيم فإنما وضع الحذف فيه على خلاف
القياس؛ لتخفيف الاسم الذي كثرت حروفه، ولم يوجد ههنا؛ لأنه أقل
الأصول، وهي في غاية الخفة، فلو جوزنا ترخيمه لأدَّى إلى أن
(1/294)
ينقص1 عن أقل الأصول وإلى الإجحاف به، وذلك
لا يجوز.
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه إذا كان الأوسط منه ساكنًا فإنه
لا يجوز ترخيمه.
قولهم "إنما لم يجز ترخيمه إذا كان الأوسط منه ساكنًا؛ لأنه إذا حذف
الحرف الأخير وجب حذف الساكن الذي قبله؛ فيبقى الاسم على حرف واحد"
قلنا: لا نسلّم أنه إذا كان قبل الآخر حرف ساكن أنه يجب حذفه في
الترخيم، وإنما هذا شيء ادَّعَيْتموه وجعلتموه أصلًا لكم لا يشهد به
نقلٌ ولا قياسٌ، وسنبين فساده في المسألة التي بعد هذه، إن شاء الله
تعالى:
__________
1 في ر "لأدى إلى أن ينقض" وهو تحريف ما أثبتناه.
(1/295)
50- مسألة: [ترخيم الرباعي الذي ثالثه
ساكن] 1
ذهب الكوفيون إلى أن ترخيم الاسم الذي قبل آخره حرف ساكن يكون بحذفه
وحذف الحرف الذي بعده، وذلك نحو قولك في قِمَطْرٍ "يا قِمَ" وفي
سِبَطْرٍ "ياسِبَ" وما أشبه ذلك وذهب البصريون إلى أن ترخيمه يكون بحذف
الحرف الأخير منه فقط.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يرخم بحذف حرفين، وذلك
لأن الحرف الأخير إذا سقط من هذه الأسماء بقي آخرها ساكنًا، فلو قلنا
إنه لا يحذف لأدَّى ذلك إلى أن يشابه الأدوات2 وما أشبهها من الأسماء،
وذلك لا يجوز.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الترخيم يكون في هذه
الأسماء بحذف حرف واحد أننا نقول: أجمعنا على أن حركة الاسم المرخم
باقية بعد دخول الترخيم كما كانت قبل دخول الترخيم من ضم وفتح وكسر،
ألا ترى أنك تقول في بُرْثُن "يا بُرْثُ" وفي جَعْفَر "يا جَعْفَ" وفي
مالك "يا مَالِ" وقد قرأ بعض السلف "ونادوا يا مال ليقض علينا ربك"
وذُكِرَ أنها قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فيبقى
كل واحدة من هذه الحركات بعد دخول الترخيم كما كانت قبل وجود الترخيم
في أَقْيَسِ الوجهين، فكذلك ههنا، وهذا لأن الحركات إنما بقيت على ما
كانت عليه ليُنْوَى بها تمام الاسم، ولو لم يكن كذلك لكان يجب أن يحرك
المرخّم بحركة واحدة، فإذا ثبت أن الحركات
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد "2/ 234 بولاق" وشرح الأشموني
بحاشية الصبان "3/ 149 بولاق" وأسرار العربية للمؤلف "ص95 ليدن" وشرح
ابن يعيش على المفصل "ص185 ليبزج" وشرح الكافية "1/ 136".
2 المراد بالأدوات الحروف، والمراد بما أشبهها من الأسماء هو الأسماء
المبنية كأسماء الشرط والاستفهام.
(1/296)
إنما بقيت لينوى بها تمام الاسم فهذا
المعنى موجود في الساكن حسب وجوده في المتحرك؛ فينبغي أن يبقى على ما
كان عليه إذا كان ساكنًا كما يبقى على ما كان عليه إذا كان متحركًا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "لو أسقطنا الحرف الأخير لبقي ما
قبله ساكنًا فيشبه الأدوات" وهي الحروف. قلنا: هذا فاسد؛ لأنه لو كان
هذا معتبرًا لوجب أن يحذف الحرف المكسور؛ لئلا يشبه المضاف إلى
المتكلم، ولا خلاف أن هذا لا قائل به؛ فدلَّ على فساد ما ذهبوا إليه،
والله أعلم.
(1/297)
51- مسألة: [القول في ندبة النكرة والأسماء
الموصولة؟] 1
ذهب الكوفِيُّون إلى أنه يجوز ندبة النكرة والأسماء الموصولة، وذهب
البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك..
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز ندبه النكرة
والأسماء الموصولة، وذلك لأن الاسم النكرة يقرب من المعرفة بالإشارة
نحو "واراكباه" فجازت ندبته كالمعرفة، والأسماء الموصولة معارف بصلاتها
كما أن الأسماء الأعلام معارف، وكما يجوز ندبه الأسماء الأعلام نحو زيد
وعمرو فكذلك يجوز ندبه ما يشبهها ويقرب منها، والدليل على صحة هذا
التعليل ما حكي عنهم من قولهم: "وَامَنْ حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَاهْ"
وما أشبه ذلك.
وأما البصريون فاحتجوا بأن، قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن
الاسم النكرة مبهم لا يخصُّ واحدًا بعينه، والمقصود بالندبة أن
يُظْهِرَ النَّادِبُ عُذْرَهُ في تَفَجُّعِهِ على المندوب ليساعَدَ في
تفجعه فيحصل التأسِّي بذلك فيخف ما به من المصيبة، وذلك إنما يحصل
بندبة المعرفة، لا بندبة النكرة، وإذا كان ندبة النكرة ليس فيها فائدة
وجب أن تكون غير جائزة، وأما الأسماء الموصولة فإنها أيضًا مبهمة،
فأشبهت النكرة؛ فوجب أن لا تجوز ندبتها كالنكرة.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الإشارة قد قَرَّبَت
الاسم النكرة من المعرفة فجازت ندبته كالمعرفة" قلنا: إلا أنه باقٍ على
إبهامه، والمندوب يجب أن يندب بأعرف أسمائه، وأما الأسماء الموصولة وإن
كانت قد تخصصت بالصلة فإنها لا تخلو عن إبهام؛ لأن تخصيصها إنما يحصل
بالجمل، والجمل في الأصل نكرات.
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 239" وشرح
الأشموني بحاشية الصبان "3/ 144" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص187" وشرح
الرضي على الكافية "1/ 144 وما بعدها".
(1/298)
وأما ما حكوه من قولهم "وامن حفر بئر
زمزماه" فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه، على أنا نقول: إنما جاء مع
شذوذه ههنا لأنه كان معروفًا، وهو عبد المطّلب جدّ النَّبي صلى الله
عليه وسلم، وكان قد عُرِف بحفر بئر زمزم، وله يقول خُوَيْلِدُ بن أسد:
[229]
أقول وما قولي عليكم بِسُبَّةٍ ... إليك ابن سلمى أنت حَافِرُ زَمْزَمَ
حَفِيرَةُ إبراهيم يوم ابن هَاجَرَ ... ورَكْضَةُ جِبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب: ما وجدت أحدًا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد؛
فلما كان عبد المطلب معروفًا بحفرها تنزَّل الاسم الموصول الدالُّ عليه
منزلة اسمه العلم، والله أعلم
__________
[299] هذان البيتان لخويلد بن أسد بن عبد العزى، كما قال المؤلف، وهو
أبو عدي خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو أم المؤمنين
وصفية رسول رب العالمين السيدة خديجة بن خويلد، وجد الزبير بن العوام
بن خويلد حواري سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمّته صفية
بنت عبد المطلب، و "ابن سلمى" هو عبد المطلب بن هاشم جد سيدنا ومولانا
خاتم الأنبياء والمرسلين، وأم عبد المطلب هي سلمى بنت عمرو بن زيد بن
لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن تيم الله بن ثعلبة بن
عمرو بن الخزرج، وإبراهيم: أراد به أبا الأنبياء إبراهيم خليل الله،
وابن هاجر: هو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وهو الجد الأعلى لقريش، بل
وللعرب جميعًا، والاستشهاد بالبيت في قوله "إليك ابن سلمى أنت حافر
زمزم" فإنه يدل على أن عبد المطلب ابن هاشم -وهو ابن سلمى- كان مشهورًا
بأنه حافر بئر زمزم، فإذا قال قائل "وامن حفر بئر زمزماه" فكأنه قال:
واعبد المطلباه.
(1/299)
52- مسألة: [هل يجوز إلقاء علامة الندبة
على الصفة؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن تُلْقَى علامة الندبة على الصفة، نحو
قولك "وازيدُ الظريفاه" وإليه ذهب يونس بن حبيب البصريُّ وأبو الحسن بن
كَيْسَان.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أنه يجوز أن نلقي علامة
الندبة على المضاف إليه، نحو قولك: "واعبد زَيْدَاه، واغلام عَمْرَاهْ"
فكذلك ههنا؛ لأن الصفة مع الموصوف بمنزلة المضاف مع المضاف إليه؛ فإذا
جاز أن تُلْقَى علامةُ النُّدْبَةِ على المضاف إليه فكذلك يجوز أن
تُلْقَى على الصفة.
والذي يدل على ذلك ما رُوِيَ عن بعض العرب أنه ضاع منه جُمجمتان -أي
قَدَحَان- فقال "واجُمْجُمَتَيَّ الشَّامِيَّتَيْنَاه" وألقى علامة
الندبة على الصفة؛ فَدَلَّ على ما قلناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز أن تلقى علامة
الندبة على الصفة لأن علامة الندبة إنما تلقى على ما يلحقه تنبيه
النداء لمدِّ الصوت، وليس ذلك موجودًا في الصفة؛ لأنها لا يلزم ذكرها
مع الموصوف؛ فوجب أن لا يجوز وسنبيّن هذا في الجواب إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنا أجمعنا على أنه يجوز أن
تلقى علامة الندبة على المضاف إليه فكذلك على الصفة؛ لأن الصفة مع
الموصوف بمنزلة المضاف مع المضاف إليه"، قلنا: لا نسلم؛ فإن المضاف لا
يتم بدون ذكر المضاف إليه، بخلاف الموصوف مع الصفة فإن الموصوف يتم
بدون ذكر الصفة. ألا ترى أنك لو قلت "عبد" في قولك عبد زيد أو "غلام"
في قولك غلام عمرو
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الكافية لرضي الدين "1/ 145" وشرح الأشموني
بحاشية الصبان "3/ 145" وتصريح الشيخ خالد "2/ 230" وشرح ابن يعيش على
المفصل "ص178".
(1/300)
لم يتم إلا بذكر المضاف إليه، ولو قلت
"زيد" في قولك هذا زيد الظريف يتم الموصوف بدون ذكر الصفة، وكنت في
ذكرها مخيّرًا: إن شئت ذكرتها، وإن شئت لم تذكرها، فَبَانَ الفرق
بينهما.
وأما ما روي عن بعض العرب من قوله "واجمجمتيّ الشاميّتيتاه" فيحتمل أن
يكون إلحاق علامة الندبة من قياس يونس، وعلى كل حال فهو من الشاذ الذي
لا يُعْبأ به ولا يقاس عليه، كقولهم "وامَنْ حَفَرَ بئر زَمْزَمَاهْ"
وما أشبه ذلك، والله أعلم.
(1/301)
53- مسألة: [اسم لا المفرد النكرة،
مُعْرَبٌ أو مبنيٌّ؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المفرد النكرة المنفي بلا معرب منصوب بها
نحو "لا رجلَ في الدَّارِ"
وذهب البصريون إلى أنه مبنيٌّ على الفتح.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب بها لأنه اكتفى
بها من الفعل؛ لأن التقدير في قولك "لا رجل في الدار" لا أجد رجلاً في
الدار، فاكتفوا بلا من العامل، كما تقول "إن قُمْتَ قُمْتُ، وإنْ لا
فلا" أي وإن لا تَقُمْ فلا أقُومُ، فلما اكتفوا بلا من العامل نصبوا
النكرة به، وحذفوا التنوين بناء على الإضافة.
ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا إنه منصوب بها لأن "لا" تكون بمعنى
غير، كقولك" زيد لا عاقل ولا جاهل" أي: غير عاقل وغير جاهل، فلما جاءت
ههنا بمعنى ليس نصبوا بها: ليخرجوها من معنى غير إلى معنى ليس ويَقَعَ
الفرق بينهما.
ومنهم من تمسك بأن قال: إنما أعملوها النصب لأنهم لما أولوها النكرة
-ومن شأن النكرة أن يكون خبرها قبلها- نصبوا النكرة بغير تنوين.
ومن النحويين من قال: إنه منصوب لأن "لا" إنما عملت النصب لأنها نقيضة
إنَّ؛ لأن "لا" للنفي، و"إنَّ" للإثبات، وهم يحملون الشيء على ضده، كما
يحملوه على نظيره، إلا أن "لا" لما كانت فرعًا على "إن" في العمل، و
"إنَّ" تنصب مع التنوين نَصَبَتْ "لا" من غير تنوين؛ لينحطَّ الفرع عن
درجة الأصل؛ لأن الفروع أبدًا تنحط عن درجات الأصول.
__________
1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص99" وشرح الأشموني
بحاشية الصبان "2/ 6 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 288 وما
بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص129" وشرح رضي الدين على الكافية
"1/ 234".
(1/302)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما
قلنا إنه مبنيٌّ على الفتح لأن الأصل في قولك "لا رجل في الدار؟ " لا
مِنْ رجل في الدار؛ لأنه جواب من قال "هل من رجل في الدار؟ " فلما حذفت
"من" من اللفظ وركبت مع لا تضمنت معنى الحرف فوجب أن تُبْنَى، وإنما
بنيت على حركة لأن لها حالة تمكنٍ قبل البناء، وبنيت على الفتح لأنه
أخفّ الحركات.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما قلنا إنه منصوب بلا؛
لأنها اكتفي بها عن الفعل" قلنا: هذا مجرد دعوى يفتقر إلى دليل؛ ثم لو
كان كما زعمتم لوجب أن يكون منوّنًا.
قولهم "حذف التنوين بناء على الإضافة" قلنا: لو كان هذا صحيحًا لوجب أن
يطرد في كل ما يجوز إضافته من الأسماء المفردة المنونة، فلما قلتم إنه
يختص بهذا الموضع دون سائر المواضع دلَّ على فساد ما ذهبتم إليه.
وأما قولهم "إنَّ لا تكون بمعنى غير، فلما جاءت بمعنى ليس منصوبًا بها
ليخرجوها من معنى غير" قلنا: ولِمَ إذا كانت بمعنى ليس ينبغي أن
يُنْصَب به؟ وهلّا رفعوا بها على القياس؛ فإنهم يرفعون بها إذا كانت
بمعنى ليس، قال الشاعر:
[230]
من صَدَّ عن نِيرَانِهَا ... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَرَاحُ
__________
[230] هذا البيت من كلام سعد بن مالك القيسي، وهو من شواهد سيبويه "1/
28 و354" وشرح الرضي على الكافية في باب ما ولا المشبهين بليس، وشرحه
البغدادي في الخزانة "1/ 223" والزمخشري في المفصل "رقم 24 بتحقيقنا"
وشرح ابن يعيش "ص134" والأشموني "رقم 225" وأوضح المسالك "رقم 107"
ومغني اللبيب "رقم 396" وصد: أي أعرض، والضمير في "نيرانها" يعود إلى
الحرب التي ذكرها في أبيات سابقة، وأراد من نكل عنها ولم يقتحم لظاها،
وقوله "فأنا ابن قيس" نسب نفسه إلى جدّه الأعلى؛ فإنه سعد بن مالك بن
ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، والمراد من هذه العبارة أنا ذلك المعروف
بالجراءة والنجدة والشهامة الذي طرق سمعك اسمه وعرفت عنه ما عرفت من
صفات البطولة. والاستشهاد به في قوله "لا براح" حيث أعمل فيه "لا" عمل
ليس؛ فرفع بها الاسم، وحذف خبرها، وتقدير الكلام: لا براح لي، وقد قال
ابن هشام في شرح الشاهد -تبعًا لابن يعيش والمُبَرِّد- إنه يجوز أن
تكون لا نافية مهملة، وبراح -على هذا- يكون مبتدأ، وقد حذف خبره،
واعترض جماعة هذا الكلام بأن المعهود في لا النافية أن تعمل عمل إن أو
عمل ليس، فإن لم تعمل أحد العملين وجب تكرارها كأن تقول: لا رجل عندك
ولا امرأة فلما لم تتكرر علمنا أنها عاملة، ولما كان الاسم الذي بعدها
مرفوعًا علمنا أنها عملت عمل ليس، وقد تمحل قوم فقالوا: يجوز أن تكون
مهملة ولكنها لم تتكرر للضرورة وهذا كلام لا يجوز لك أن تأخذ به؛ لأن
المصير إلى الضرورة أمر لا يجوز ارتكابه إلا حين لا يكون للكلام محمل
صحيح يحمل عليه.
(1/303)
أي ليس براح، وقال الآخر:
[231]
واللهِ لولا أن تَحُسَّ الطُّبَّخُ ... بِي الجحيمَ حين لا
مُسْتَصْرَخُ
أي ليس مستصرخ هناك لنا.
وأما قولهم "إنما أعملوها النصب لأنهم لما أَوْلُوهَا النكرة -ومن شأن
النكرة أن يكون خبرها مقدما عليها- نصبوا بها النكرة" قلنا: ولم قلتم
ذلك؟ وما وجه المناسبة بينه وبين النصب؟ ثم لو كان كما زعمتم وأنه معرب
منصوب لوجب أن يدخله التنوين ولا يحذف منه؛ لأنه اسم معرب منصوب لوجب
أن يدخله التنوين ولا يحذف منه؛ لأنه اسم معرب ليس فيه ما يمنعه من
الصَّرْفِ، فلم مُنِعَ من التنوين دلَّ على أنه ليس بمعرب منصوب.
وهذا هو الجواب عن قول من ذهب إلى أنه منصوب بلا؛ لأنها نقيضَةُ إنَّ؛
فإنه كان ينبغي أن يكون منوّنًا.
قولهم: "إنَّ لا لما كانت فرعًا على إنَّ في العمل، وأن تنصب مع
التنوين نَصَبَتْ لا من غير تنوين؛ لينحط الفرع عن درجة الأصل". قلنا:
هذا فاسد، وذلك لأن التنوين ليس من عمل إن، وإنما هو شيء يستحقه الاسم
في الأصل، وإنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان التنوين من عمل إن، ولا
خلاف بين النحويين أن التنوين ليس من عملها، وإذا لم يكن من عمل إن
التي هي الأصل، فلا معنى لحذفه مع "لا" التي هي الفرع لينحط الفرع عن
درجة الأصل؛ لأن الفرع إنما ينحط عن درجة الأصل فيما كان من عمل الأصل،
وإذا لم يكن من عمل الأصل، فيجب
__________
[231] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ط ب خ - ح
ش ش" ولم يعزهما إلى قائل معين، وأنشد سيبويه كلمة الاستشهاد "1/ 357"
ولم يعزها، ولا بينها الأعلم ولا تكلم عليها. وتقول: حش النار يحشها
حشًا: أي جمع لها ما تفرق من الحطب وأوقدها، وتقول حش الحرب يحشها
حشًا؛ إذا أسعرها وهيّجها، تشبيها بإسعار النار، قال زهير:
يحشونها بالمشرفية والقنا ... وفتيان صدق لا ضعاف ولا نكل
والطبخ: الملائكة الموكلون بعذاب الكفار، والاستشهاد بالبيت في قوله
"لا مستصرخ" حيث رفع الاسم الواقع بعد "لا" النافية التي بمعنى ليس،
وقد علمت مما قدمناه في شرح الشاهد السابق أن جمهرة البصريين على أنه
مرفوع بلا؛ لأنها لما شبهت بليس عملت عملها فرفعت الاسم ونصبت الخبر،
وأنا أبا العباس المُبَرِّد وموفق الدين بن يعيش -وتبعهما ابن هشام-
جوزوا أن تكون "لا" في مثل هذا نافية مهملة لا عمل لها، والاسم المرفوع
بعدها مبتدأ خبره محذوف، وهذا تخريج يتفق مع مذهب الكوفيين، ولكنا
آثرنا لك ألا تأخذ بهذا التخريج لما بيَّنَّا لك من أن "لا" لو كانت
مهملة لوجب تكرارها، فلما لم تتكرر في هذا الشاهد والذي قبله كان ذلك
دليلا على أنها عاملة.
(1/304)
أن يكون ثابتًا مع الفرع، كما كان ثابتًا
مع الأصل، ثم انحطاطُهَا عن درجة "إِنَّ" قد ظهر في أربعة أشياء:
أحدها: أن إنَّ تعمل في المعرفة والنكرة، ولا لا تعمل إلا في النكرة
دون المعرفة.
والثاني: أن إنَّ لا تركَّب مع الاسم لقوتها، ولا تركَّب مع الاسم
لضعفها.
والثالث: أن إنَّ تعمل في الاسم مع الفصل بينها وبينه بالظرف وحرف
الجر، ولا لا تعمل مع الفصل بينها وبينه بالظرف ولا حرف الجر.
والرابع: أن إنَّ تعمل في الاسم والخبر عندنا، ولا إنما تعمل في الاسم
دون الخبر عند أهل التحقيق والنظر.
فقد ظهر انحطاطُ لا عن درجة إنَّ على ما بيّنا، والله أعلم.
(1/305)
|