الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

54- مسألة: [هل تقع "من" لابتداء الغاية في الزمان؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنَّ "من" يجوز استعمالها في الزمان والمكان.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز استعمالها في الزمان.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز استعمال "من" في الزمان أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] و {أَوَّلِ يَوْمٍ} من الزمان، [و] قال الشاعر، وهو زهير بن أبي سُلْمَى:
[232]
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ ... أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ
__________
[232] هذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني يمدح فيها هرم بن سنان المري، وقد استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل "ص1075" والرضي في شرح الكافية "2/ 298" وشرح البغدادي في الخزانة "4/ 126" والأشموني "رقم 567" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 300" والاستفهام في قوله "لمن الديار" للتعجب من شدة خراب هذه الديار حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف أصحابها، والقنة: أعلى الجبل، والحجر -بكسر فسكون- منازل ثمود عند وادي القرى من ناحية الشام، وأقوين: أقفرن وخلون، والحجج: جمع حجة -بكسر الحاء- وهي السنة، والدهر: الأبد الممدود، ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله "من حجج ومن دهر" فإن الكوفيين رووا هذه العبارة على هذا الوجه، واستدلوا بها على أنه يجوز استعمال "من" لابتداء الغاية الزمنية كما يجوز أن تجيء لابتداء الغاية المكانية، والبصريون ينكرون هذه الرواية ويزعمون أن الرواية الصحيحة في هذا البيت "أقوين" مذحجج ومذدهر" بل إن من العلماء من أنكر أن زهيرًا قال هذا البيت، وزعم أن زهيرًا بدأ قصيدته بقوله:
دع ذا وعد القول في هرم ... خير البداة وسيد الحضر
=
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "2/ 184" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 9 بولاق" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1075" وشرح الرضي على الكافية "2/ 298".

(1/306)


فدلَّ على أنه جائز.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن "مِنْ" في المكان نظير مُذْ في الزمان؛ لأن مِنْ وضعت لتدل على ابتداء الغاية في المكان؛ كما أن مُذْ وضعت لتدل على ابتداء الغاية في الزمان، ألا ترى أنك تقول: "ما رَأَيْتُهُ مُذْ يَوْمُ الجُمْعة" فيكون المعنى أن ابتداء الوقت الذي انقطعت فيه الرؤية يوم الجمعة، كما تقول: "ما سِرْتُ مِنْ بَغْدَادَ" فيكون المعنى ما ابتدأت بالسير من هذا المكان، فكما لا يجوز أن تقول "ما سرت مُذْ بغداد" فكذلك لا يجوز أن تقول "مَا رَأَيْتُهُ من يوم الجمعة".
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] فلا حجة لهم فيه؛ لأن التقدير فيه: من تأسيس أول يوم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مُقَامه، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] والتقدير فيه: أهل القرية وأهل العير، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] وكقولهم: الجودُ حاتمٌ، والشجاعة عنترة، والشعر زهير، أي: جود حاتم، وشجاعة عنترة، وشعر زهير، وكقولهم "بَنُو فَلَانٍ يَطَؤُهُمُ الطَّرِيقُ" أي: أهل الطريق، وقال الشاعر:
[233]
حسبت بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا ... وما هي -وَيْبَ غَيْرَكَ- بِالعَنَاقِ
__________
= وأن حمادًا الرواية لما رأى هذا البيت مطلع القصيدة ابتكر ثلاث أبيات جعلها مقدمة لهذا المطلع، أولها بيت الشاهد، وبعده:
لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر
قفرًا بمندفع النحائت من ... صفوي أولات الضال والسدر
فإن سلمنا صحة الرواية التي رواها الكوفيون وسلمنا مع ذلك صحة نسبة البيت إلى زهير فتخريجه على ما ذكره المؤلف.
[233] أنشد ابن منظور "ع ن ق" هذا البيت أول بيتين، وأسند روايتهما لابن الأعرابي، ونسبهما لقريط يصف الذئب فالخطاب له، ثم أنشده وحده "ب غ م" ونسبه لذي الخرق. وبغام الناقة -بضم الباء وتخفيف الغين- صوت لا تفصح به، وبغام الظبية: صوتها، وقد بغمت تبغم -من مثال ضرب ونصر وفتح- بغوما ويغاما. وتقول: بغمت الرجل؛ إذا لم تفصح له عن معنى ما تحدثه به. والراحلة، هنا: الناقة سميت بذلك لأن صاحبها يرتحلها: أي يركبها أو يضع رحله عليها، والعناق -بفتح العين وتخفيف النون- الأنثى من المعز. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "عناقا" فإنه على تقدير مضاف يتم به التشبيه، ألا ترى أنه لا يصح تشبيه صوت الناقة بالعناق نفسها؟ وإنما يصح تشبيه صوت الناقة بصوت العناق.

(1/307)


والتقدير فيه: بُغَامَ راحلتي بُغَامَ عَنَاقِ، وقال الآخر:
[234]
لقد خِفْتُ حتَّى لا تزيد مَخَافَتِي ... عَلَى وَعَلٍ في ذِي المَطَارَةِ عَاقِلٍ
والتقدير فيه: حتى لا تزيد مخافتي على مخافة وعلٍ، وهو من المقلوب، وتقديره: حتى لا تزيد مخافَةُ وَعِلٍ على مخافتي، كما قال الآخر:
[235]
كانت فريضةَ ما تقولُ كَمَا ... أن الزِّنَاء فريضةُ الرَّجْمِ
__________
[234] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني، وقد أنشده ياقوت في معجم البلدان "مطارة" كما أنشده الشريف المرتضي في أماليه "ص216" والوعل -بفتح الواو وكسر العين أو سكونها؛ وفيه لغة بضم الواو وكسر العين، وهي ضعيفة- تيس الجبل، والمطارة -بفتح الميم- قال ياقوت: "يجوز أن تكون الميم زائدة فيكون من طار يطير، أي البقعة التي يطار منها، وهو اسم جبل" ويضاف إليه "ذو" وعاقل: أي متحصن، وفي الحديث "ليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل" أي ليتحصنن أي يعتصم ويلتجئ إليه كما يتحصن الوعل إلى رأس الجبل. ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله "لا تزيد مخافتي على وعل" فإن الكلام فيه على تقدير مضاف: أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ألا ترى أن مخافته لا تشبه بالوعل نفسه، وإنما تشبه بمخافة الوعل؟ وقد قالوا: إن الكلام على القلب؛ فإن الأصل: لا تزيد مخافة الوعل المعتصم بالجبل على مخافتي، فقلب، قال الأصمعي: "يقول: قد خفت حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي، فلم يمكنه، فقلب" ا. هـ. وهذا أحد توجيهين في هذا البيت، والتوجيه الثاني: أن تكون "ما" في قوله "ما تزيد مخافتي زائدة، وكأنه قال: حتى تزيد مخافتي، والاستشهاد به لما أراد المؤلف منه لا يزول على أي الوجهين.
[235] هذا البيت قد أنشده ابن منظور "ز ن ى" ونسبه إلى الجعدي، وأنشده الشريف المرتضى في أماليه "ص216 ط الحلبي" والعباسي في معاهد التنصيص "ص86 بولاق" من غير عزو، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "أن الزناء فريضة الرجم" فإن هذا العبارة مقلوبة، وأصلها "أن الرجم فريضة الزنا" وعلماء العربية يختلفون في القلب: أجائز هو أم غير جائز، ولهم فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه جائز مقبول مطلقًا وممن ذهب هذا المذهب السكاكي، والثاني: أنه غير جائز ولا مقبول مطلقًا، وما وقع من ذلك في شعر الشعراء فهو من أخطائهم أوله تأويل آخر كالتأويل الذي ذكرناه في شرح الشاهد السابق "رقم 234" والثالث: أنه إذا كان قد تضمن اعتبارًا لطيفًا فهو جائز مقبول، وإن لم يتضمن اعتبارًا لطيفًا فهو مردود على صاحبه، ومن أمثلة القلب قول الراجز وأنشده ابن منظور "ح ل ا":
إن سراجًا لكريم مفخره ... تحلى به العين إذا ما تهجره
فقد أراد الراجز أن يقول "يحلى بالعين" فلم يستطع، فقلب، ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج وأنشده الخطيب القزويني في الإيضاح "ص78 بتحقيقنا" والشريف المرتضى في الأمالي "ص216" وسيأتي مع الشاهد 236 قريبًا:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
=

(1/308)


.....................
__________
= فقد أراد أن يقول "كأن لون سمائه أرضه" فقلبت، مثله قول القطامي "الإيضاح 78 والمعاهد 86":
فلما أن جرى سمن عليها ... كما طينت بالفدن السياعا
السمن -بكسر السين وفتح الميم- امتلاء الجسم بالشحم، وطينت: طليت بالطين، والفدن -بالتحريك- القصر المنيف، والسياع -بزنة الكتاب- الطين المخلوط بالتبن، وقد أراد أن يقول "كما طليت القصر بالسياع" فقلب، ومثله قول حسان بن ثابت يصف الخمر:
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
السبيئة: الخمر، وبيت رأس: بلد بالشام، ومزاجها: ما يخلط بها، وقد أراد أن يقول "يكون ما يمزج بها عسلًا وماء بجعل مزاجها اسم يكون وعسلًا وماء خبرها" فقلب، ومثله قول عروة بن الورد، وينسب للعباس بن مرداس السلمي:
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلا ما أطيق
فقد أراد أن يقول "فديته نفسي ومالي" فقلب، ومثله قول القطامي من قصيدته التي منها البيت السابق.
قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا
أراد أن يقول "ولا يك الوداع موقفا منك" فقلب، وهو أشبه ببيت حسان، ومثله قول الشاعر وهو من أبيات سيبويه "1/ 92".
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع
أضاف مدخلا -وهو اسم الفاعل من أدخل- إلى الظل، ثم نصب "رأسه" به على الاتساع والقلب، وكان الوجه أن يقول: مدخل رأسه الظل؛ لأن الرأس هو الداخل في الظل؛ ومثله قول الراعي يذكر ثورًا:
فصبحته كلاب الغوث يؤسدها ... مستوضحون يرون العين كالأثر
الغوث: قبيلة من طيّئ، ويؤسدها: يغريها، ومستوضحون: فاعل يؤسدها، وأراد "صيادون مستوضحون" فحذف الموصوف وأبقى الصفة، والمعنى يغريها صيادون ينظرون هل يرون شيئًا، وقوله "يرون العين كالأثر" هو المقلوب، وأصله: يرون الأثر كالعين، ومثل ذلك كله قول ابن مقبل، وقد أنشده ابن منظور "هـ ى ب":
ولا تهيبني الموماة أركبها ... إذا تجاوبت الأصداء بالسحر
فقد أراد أن يقول "ولا أتهيب الموماة أركبها" فقلب. وقد وقع القلب في شعر المحدثين؛ فمن ذلك قول أبي تمام الطائي:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى أشتارته أيد عواسل
البيت في وصف القلم، واللعاب: الريق، وهو ماء الفم، والأفاعي: الحيات، والأري -بفتح الهمزة وسكون الراء- ما لزق من عسل النحل في جوف الخلية، والجنى -بوزن الفتى- العسل، وإضافة الأري إليه للتخصيص؛ لأن الأري يكون أيضًا ما لزق بجوف القدر من الطبيخ، واشتارته: أي استخرجته وقطفته، وأيد عواسل: أي قاطفة للعسل، وقد أراد أن يقول "لعابه لعاب الأفاعي" فقلب، والبصريون يخرجونه على التقديم والتأخير، ونظيره =

(1/309)


تقديره: كما أن الرَّجْمَ فريضةُ الزِّنَاءِ:
وأما قول زهير:
[232]
أَقْوَيْنَ من حِجَج ومن دَهْرِ
فالرواية الصحية "مُذْ حِجَج ومُذْ دَهْرِ" ولئن سلمنا ما رويتموه "من حجج ومن دهر" فالتقدير فيه أيضا: من مَرِّ حِجَج ومن مَرِّ دَهْرِ، كما تقول: مَرّت عليه السنُون، ومَرّت عليه الدهُورُ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما بيَّنَّا في الآية، وقيل: إنَّ "من" ههنا زائدة، وهو قول أبي الحسن الأخفش؛ فإنه يجوز أن تُزَاد في الإيجاب، كما يجوز أن تُزَاد في النفي، ويحتج بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] أي يغفر لكم ذنوبكم، وبقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] أي يغضوا من أبصارهم، ويحتج أيضًا بقول الشاعر:
[210]
ألا حَيِّ نَدْمَانِي عُمَيْرَ بْنَ عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غَدَا
أراد اليوم أو غدًا، فكذلك ههنا: التقدير في قوله "من حجج ومن دهر" أي حججًا ودهرًا، فدلَّ على فساد ما ذهبوا إليه، والله أعلم.
__________
= قول حسان بن ثابت:
قبيلةٌ ألأم الأحياء أكرمها ... وأغدر الناس بالجيران وافيها
أراد أن يقول: أكرمها ألأم الأحياء: ووافيها أغدر الناس، فقلب، أو قدم وأخر، ونظيرهما البيت المشهور وقد ينسب إلى الفرزدق:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فقد أراد أن يقول: بنو أبنائنا بنونا، أي مثلهم، فقلب، أو قدم وأخر، وقد أطلنا عليك في الاستشهاد لهذا الموضوع فَعِه ولا تَنْسَهُ.

(1/310)


55- مسألة: [واو رُبَّ، هل هي التي تعمل الجر؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن واو رب تعمل في النكرة الخفض بنفسها وإليه ذهب أبو العباس المُبَرِّد من البصريين. وذهب البصريون إلى أن واو رب لا تعمل، وإنما العمل لربَّ مقدرة.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الواو هي العاملة لأنها نابت عن رُبّ، فلما نابت عن رُبّ وهي تعمل الخفض فكذلك الواو لنيابتها عنها، وصارت كواو القسم؛ فإنها لما نابت عن الباء عملت الخفض كالباء، فكذلك الواو ههنا: لما نابت عن رُبّ عملت الخفض كما تعمل رُبّ، والذي يدل على أنها ليست عاطفة أن حرف العطف لا يجوز الابتداء به، ونحن نرى الشاعر يبتدئ بالواو في أول القصيدة، كقوله:
[236]
وبَلَدٍ عَامِيَةٍ أَعْمَاؤُهُ
__________
[236] هذا بيت من مشطور الجرز، وبعده قوله:
كأن لون أرضه سماؤه
وهو من كلام رؤبة بن العجاج، وقد أنشده ابن منظور "ع م ى" وعزاه إليه، وانظر ما ذكرناه في بحث القلب "ص374" والأعماء: المجاهل، واحدها عمى -بوزن فتى- ومعنى قوله "عامية أعماؤه" أن مجاهله متناهية في العمى، وهو باب من المبالغة مثل قولهم: ليل أليل، وليل لائل، ويوم أيوم، وشعر شاعر، كأنهم لم يجدوا ما يصفونه به إلا أن يشتقوا له وصفًا من لفظه، وكأن رؤبه قد قال أعماؤه عامية، فقدّم وأخّر، وهم قلّما يأتون بهذا الضرب من المبالغة إلا على طريق الوصف كقولهم: شغل شاغل، وليل لائل، وما ذكرناه قريبًا، لكن رؤبة قد اضطر فقدّم وأخّر، وقوله "كأن لون أرضه سماؤه" من المقلوب، =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "2/ 202 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 28 بولاق" وشرح المفصل لابن يعيش "ص1110 وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "2/ 310"

(1/311)


وكقول الآخر:
[160]
وبلدة ليس بها أنيس
وما أشبه ذلك؛ فدلَّ على أنها ليست عاطفة، فَبَانَ بهذا صحة ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إن الواو ليست عاملة، وإن العمل لرُبَّ مقدرة، وذلك لأن الواو حرف عطف، وحرف العطف لا يعمل شيئًا؛ لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصًّا، وحرف العطف غير مختص؛ فوجب أن لا يكون عاملًا، وإذا لم يكن عاملًا وجب أن يكون العامل رُبّ مقدرة.
والذي يدل على أنها واو العطف وأن رب مضمرة بعدها أنه يجوز ظهورها معها، نحو "ورب بلد" وسنبيّن ذلك مستوفى في الجواب.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنها لما نابت عن رب عملت عملها كواو القسم" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه قد جاء عنهم الجرُّ بإضمار رب من غير عِوَض منها، وذلك نحو قوله:
[237]
رَسْمِ دَارٍ وَقَفْتُ في طَلَلِهْ ... كِدْتُ أَقْضِي الحياةَ من جَلَلِهْ
وقال الآخر:
[238]
مِثْلِكِ أو خَيْرٍ تَرَكْتُ رَذِيَّةً ... تُقَلِّبُ عينيها إذا طَارَ طَائِرُ
__________
= وأصله "كأن لون سمائه أرضه" وقد قدمنا كثيرًا من أمثلة القلب مع شرح الشاهد "رقم 235" ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله "وبلد" فإنه يريد "ورب بلد" وليست هذه الواو واو العطف. إذ لا معطوف عليه، بحكم أن هذا البيت أول الأرجوزة.
[237] هذا البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1110" ورضي الدين في باب حروف الجر من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 199" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 184" وفي أوضح المسالك "316" والأشموني "رقم 579" وابن عقيل "رقم 220" والرسم -بفتح الراء وسكون السين- ما بقي لاصقًا بالأرض من آثار الديار كالرماد ونحوه، والطلل -بفتح الطاء واللام جميعًا- ما بقي شاخصًا مرتفعًا من آثارها كالوتد ونحوه، وقوله "من جلله" يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون من قولهم "فعلت كذا من جلل كذا" أي من أجله وبسببه، والثاني: أن يكون من قولهم "فعلت كذا من جلل كذا" أي من عظمه في نفسي، ومحل الاستشهاد في البيت قوله "رسم دار" فإن الرواية فيه بجر الرسم، وقد خرجها العلماء على أنه مجرور لفظًا برب المحذوفة الباقي عملها، قال ابن يعيش "أراد رب رسم دار، ثم حذف، لكثرة استعمالها" ا. هـ.
[238] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 294" وقد غير المؤلف في صدره تغييرًا سننبه عليه، وقوله "أو خير" يريد أو خير منك، والرذية: فعيلة من قولهم "رذي البعير يرذي -من مثال =

(1/312)


والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أيضًا أنها تضمر بعد بَلْ، قال الشاعر:
[239]
بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الحَجَفَتْ
__________
= فرح يفرح" إذا هزل وأعيا حتى لا يستطيع براحًا ولا ينبعث، وهو رذي والأنثى رذية، وقال أبو زيد: الرذية الناقة المتروكة التي حسرها السفر لا تقدر أن تحلق بالركاب، وفي حديث الصدقة "فلا يعطي الرذية ولا الشرط اللئيمة" يخاطب الشاعر ناقته، يقول: قد تركت مثلك أو خيًرا منك بعد أن أعملتها في السفر، وأودعتها الطريق؛ فكلما مرّ عليها طائر قلبت عينها رهبة منه وخوفًا أن يقع عليها ليأكل منها. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "مثلك أو خير" حيث جر "مثلك" برب المحذوفة من غير أن يقيم الواو مقام رب؛ فهذا يدل على أن الجر ليس بالواو، إذ لو كان الجر بها لم تحذف؛ لأن الأصل في حرف الجر ألا يعمل وهو محذوف لضعفه، وإنما اغتفروا ذلك في رب لكثرة استعمالها، هكذا زعم المؤلف، وما ذكره من القاعدة صحيح، ولكن الرواية في صدر هذا البيت "ومثلك رهبي قد تركت" بنصب "مثلك" أو جره، أما نصبه فعلى أن يكون مفعولا مقدما لقوله تركت، وأما جره فعلى أن يكون مجرورًا برب المحذوفة بعد الواو، ونظيره قول امرئ القيس بن حجر الكندي في رواية:
ومثلك بكرًا قد طرقت وثيبًا ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
[239] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1218" ورضي الدين في شرح شافية الحاجب "رقم 101" وابن جني في سر صناعة الإعراب "رقم 107 في 1/ 177" وفي الخصائص "1/ 304 الدار" وقد أنشده ابن منظور "ح ج ف" ونقل عن ابن بري أنه من أرجوزة لسؤر الذئب، والتيهاء: الصحراء يضل سالكها، وجورزها -بفتح الجيم وسكون الواو- أي وسطها، وإنما شبه الصحراء بظهر الترس لأنها غير ذات أعلام يهتدي بها السائر. وإنما ذكر الوسط ليشير إلى أنه لم يتهيبها وأنه توسطها، وهذا الكلام كناية عن كونه قويًا جلدًا جريئًا لا يهاب. وللنحاة في هذا البيت شاهدان، أحدهما: في قوله "بل جوز تيهاء" حيث جرّ "جوز تيهاء" برب المحذوفة بعد بل، والثاني: في قوله "الحجفت" حيث وقف على تاء التأنيث بالتاء لا بالهاء، قال ابن منظور "يريد رب جوز تيهاء، ومن العرب من إذا سكت على الهاء جعلها تاء فقال: هذا طلحت، وخبز الذرت" ا. هـ. وقال ابن يعيش "من العرب من يجري الوقف مجرى الوصل فيقول في الوقف: هذا طلحت، وهي لغة فاشية حكاها أبو الخطاب، ومنه قولهم: وعليكم السلام والرحمت، ومنه قوله:
بل جوز تيهاء كظهر الحجفت
ا. هـ كلامه.
وقد ذكر الصاغاني أن الذين يقفون على الهاء بالتاء هم طيّئ.
ومثل هذا البيت في الجر برب المحذوفة بعد بل قول رؤبة بن العجاج:
بل بلد ذي صعد وأصباب ... قطعت أخشاه بعسف جواب

(1/313)


أراد بل رُبَّ جَوْزِ، ولا يقول أحد إن بل تجر. وكذلك تضمر بعد الفاء قال الشاعر:
[240]
فَخُورٍ قد لَهَوْتُ بهنَّ عِينٍ
وليست نائبةً عنها، ولا عوضًا منها.
والذي أعتمد عليه في الدليل على أن هذه الأحرف -التي هي الواو والفاء وبل- ليست نائبة عن رُبَّ ولا عِوَضًا عنها أنه يحسن ظهورها معها، فيقال "ورُبَّ بلد" و "بل ربّ بلد" و "فربّ حُورٍ" ولو كانت عوضًا عنها لما جاز ظهورها معها؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض. ألا ترى أن واو القسم لما كانت عوضًا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما؛ فلا يقال "وبالله لأفعلنَّ" وتجعلهما حرفَيْ قسم، وكذلك أيضًا التاء، لما كانت عوضًا من الواو كما كانت الواو عوضًا من الباء لم يجمع بينهما؛ فلا يقال: "وتالله" وتجعلهما حرفي قسم؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض، فأما قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]
__________
[240] هذا صدر بيت للمتنخل الهذلي، واسمه مالك بن عويمر، والبيت مع بيت سابق عليه هكذا:
فإما تعرضن سليم عني ... وتنزعك الوشاة أولو النباط
فحور قد لهوت بهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط
والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1111" والأشموني "رقم 577" وسليم: مصغر سلمى تصغير الترخيم، وقد حذف حرف النداء، والحور -بضم الحاء- جمع حوراء وهي التي اشتد بياض بياض عينها واشتد مع ذلك سواد سوادها، والعين -بكسر العين- جمع عيناء، وهي الواسعة العين، ويروى "قد لهوت بهن حينا" والنواعم: جمع ناعمة، وهي التي ترفل في النعيم، والمروط: جمع مرط -بكسر الميم وسكون الراء- وهو الثوب من الخز، والرياط: جمع ريط، وهو ضرب من الثياب، والاستشهاد بالبيت في قوله "فحور" حيث جر لفظ "حور" برب المحذوفة بعد الفاء، ونظير ذلك في هذا قول امرئ القيس -في رواية- وهو من شواهد سيبويه "1/ 294":
فمثلك حبلي قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تماثم محول
قال سيبويه بعد إنشاده "أي رب مثلك، ومن العرب من ينصبه على الفعل" ا. هـ، أي يجعله مفعولا به تقدم على عامله -وهو طرقت- لكونه مما يتعدى إلى المفعول به ولم ينصب مفعولا، فأما في بيت الشاهد فلا يجيء ذلك، ونظيره أيضًا قول ربيعة بن مقروم الضبي وهو من شعر الحماسة ومن شواهد الرضي "انظر الخزانة 4/ 201".
فإن أهلك فذي حنق لظاه ... على تكاد تلتهب التهابا
يريد فإن أهلك فرب ذي حنق إلخ، يعني إن أهلك فإني كثيرًا ما تركت مغيظًا محنقًا قد ألهبت قلبه وأشعلت نيران ضغنه بسبب ما جدلت وصرعت من ذوي قرباه مثلًا.

(1/314)


فالواو فيه واو عطف، وليست واو قسم؛ فلم يمتنع أن يجمع بينها وبين تاء القسم، فلما جاز الجمع بين الواو ورب دلَّ على أنها ليست عوضًا عنها، بخلاف واو القسم، وأنها واو عطف.
وقولهم "إن حرف العطف لا يجوز الابتداء به"، ونحن نرى الشاعر يبتدئ بالواو في أول القصيدة كقوله:
[236]
وبلد عَامِيةٍ أَعْمَاؤُهُ
فنقول: هذه الواو واو عطف وإن وقعت في أول القصيدة؛ لأنها في التقدير عاطفة على كلام مقدر، كأنه قال: رب قفر طامس أعلامه سلكته، وبلد عامية أعماؤه قطعته. يصف نفسه بركوب الأخطار وقطع المفاوز والقِفَاز، إشعارًا بشهامته وشجاعته.
وإذ قد ثبت ما ذكرناه أنها حرف عطف؛ فينبغي أن لا تكون عاملةً، فدل على أن النكرة بعدها مجرورة بتقدير رُبَّ على ما بينَّا، والله أعلم.

(1/315)


56- مسألة: [القول في إعراب الاسم الواقع بعد "مذ" و "منذ"] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "مذ"، و "منذ" إذا ارتفع الاسم بعدهما ارتفع بتقدير فعل محذوف. وذهب أبو زكرياء يحيى بن زياد الفَرَّاء إلى أنه يرتفع بتقدير مبتدأ محذوف. وذهب البصريون إلى أنهما يكونان اسمين مبتدأين، ويرتفع ما بعدهما لأنه خبر عنهما، ويكونان حرفين جَارَّيْنِ فيكون ما بعدهما مجرورًا بهما.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاسم بعدهما يرتفع بتقدير فعل محذوف أنهما مركبان من "مِنْ" و "إِذْ" فتغيرا عن حالهما في إفراد كل واحد منهما، فحذفت الهمزة ووصلت "مِنْ" بالذال وضمت الميم؛ للفرق بين حالة الإفراد والتركيب. والذي يدل على الأصل فيهما من وإذ أنَّ2 من العرب من يقول في منذ: "مِنْذُ" بكسر الميم؛ فكسر الميم يدل على أنها مركبة من من وإذ، وإذا ثبت أنها مركبة من من وإذ كان الرفع بعدهما بتقدير فعل؛ لأن الفعل يحسن بعد إذ؛ والتقدير: ما رأيته مذ مَضَى يومانِ، ومنذ مضى ليلتان، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضًا كان الخفض بهما اعتبارًا بمن، ولهذا المعنى كان الخفض بمنذ أَجْوَدَ من مذ؛ لظهور نون من فيها تغليبًا لمن، والرفع بمذ أجود لحذف نون من منها تغليبًا لإذ، والذي يدل على أن أصل مذ ومنذ واحد أنك لو سميت بمذ لقلت في تصغيره "مُنَيْذٌ" وفي تكسيره "أَمْنَاذٌ" فتعود النون المحذوفة؛ لأن التصغير والتكسير يردّانِ الأشياء إلى أصولها كما نقول في تصغير منذ وتكسيره إذا سميت به.
وأما الفَرَّاء فاحتج بأن قال: إنما قلت إن الاسم يرتفع بعدهما بتقدير مبتدأ
__________
1 انظر في هذه المسألة شرح الأشموني في حاشية الصبان "2/ 198 وما بعدها" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 21 وما بعدها" ومغني اللبيب لابن هشام "ص325 بتحقيقنا" وشرح الرضي على الكافية "2/ 110 وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص545".
2 في ر "وإذ أنه من العرب ... إلخ".

(1/316)


محذوفٍ، وذلك لأن مذ ومنذ مركبتان من مِن وذُو التي بمعنى الذي، وهي لغة مشهورة، قال قوال الطائي:
[241]
قُولَا لهذا المرء ذو جاء ساعيًا ... هَلُمَّ فإن المَشْرَفِيَّ الفَرَائِضُ
أراد: الذي جاء، وقال فيها أيضًا:
[242]
أَظُنُّكَ دُونَ المال ذُو جِئتَ تَبْتَغِي ... سَتَلْقَاكَ بِيضٌ للنفوس قوابضُ
أراد: الذي جئت تبتغي. وقال مِلْحَةُ الجَرْمِيُّ:
[243]
يُغَادِرُ مَحْضَ المَاءِ ذُو هُوَ مَحْضُهُ ... عَلَى إِثْرِهِ إِنْ كان للماء من مَحْضِ
__________
[241] هذا البيت أول ثلاثة أبيات لقوال الطائي -وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد آخر بني أمية- يقولها في ساعٍ جاءهم يطلب إبل الزكاة، وقد أثر أبو تمام في ديوان الحماسة ثلاثة الأبيات أولها هذا البيت، وثالثها البيت الذي يليه في شواهد المؤلف "انظر ص640 من شرح المرزوقي" وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في باب الموصولات من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 365 و 514" والأشموني "رقم 99" والساعي: هو الذي يلي جمع الزكاة من أربابها، وهلم: اسم فعل أمر معناه أقبل وتعال، والمشرفي: السيف، منسوب إلى المشارف وهي قرى كانت السيوف تصنع بها، والفرائض: جمع فريضة، وهي ما يؤخذ من السائمة في الزكاة، والشاعر يتهكم بالساعي الذي جاءهم يطلب الذي عليهم أداؤه من زكاة أموالهم، وكان قومه امتنعوا عن أداء حق الله في أموالهم. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "ذو جاء" فإن "ذو" في هذه العبارة اسم موصول بمعنى الذي، وهو صفة للمرء، أي: قولا لهذا المرء الذي جاء يطلب زكاة أموالنا تعال إلخ، والذين يستعملون "ذو" بمعنى الذي هم طيّئ.
[242] وهذا البيت أيضًا من كلمة قوال الطائي التي منها البيت السابق، كما أشرنا إلى ذلك في شرحه، وبيض: جمع أبيض، وهو السيف، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "ذو جئت" فإن "ذو" اسم موصول بمعنى الذي، وهو صفة للمال، ومن هنا تعلم أن الطائيين يستعملون "ذو" في العقلاء كما في البيت السابق، وفي غير العقلاء كما في هذا البيت.
[243] هذان البيتان من كلام ملحة الجرمي، وملحة يُضْبَطُ في بعض الأمهات بضم الميم، وفي بعضها بكسر الميم، وجرم -بفتح الجيم وسكون الراء- من طيّئ، والبيتان المستشهد بهما هنا هما السادس والسابع من كلمة عدتها ثمانية أبيات أثرها أبو تمام في ديوان الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص1806" والمحض -بالفتح- أصله اللبن الخالص بلا رغوة، ويستعمل في الحسب وغيره، وقوله "إن كان للماء من محض" لأن ماء المطر من جنس وحد، وقوله "يروي العروق ... إلخ" يريد بالباليات ما أشرف على اليبس من عروق الشجر، ويرويها: أي يعيدها غضة مرتوية، ورواية المرزوقي "يروي العروق الهامدات" ومحل الاستشهاد في البيت الأول من هذين البيتين قوله "ذو هو محضة" فإن "ذو" في هذه العبارة اسم موصول بمعنى الذي، والجملة بعده من المبتدأ والخبر لا محل لها من =

(1/317)


يُرَوِّي العروق البالياتِ من البِلَى ... من العَرْفَجِ النَّجْدِيِّ ذُو بَادَ والحَمْضِ
أراد: الذي هو محضه، والذي باد. وقال سِنَانُ بن الفَحْلِ:
[244]
فإنَّ المَاءَ ماءُ أبي وجَدِّي ... وبئري ذُو حفرت وذُو طَوَيْتُ
أراد: الذي حفرت والذي طويت؛ فلما رُكِّبَتَا حذفت الواو من "ذو" اجتزاء بالضمة عنها؛ لأنهم يجتزئون بالضمة عن الواو وبالكسرة عن الياء وبالفتحة عن الألف، قال الشاعر:
[245]
فلو أنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلِي ... وكان مع الأَطِبَّاءِ الشُّفَاةُ
__________
= الإعراب صلة، وذو صفة للماء، والهاء في "محضة" تعود إلى السحاب يعني يترك هذا السحاب محض الماء الذي هو -أي الماء- محضه: أي خالصة السحاب وصافيته. ومحل الاستشهاد في البيت الثاني قوله "ذو باد" فإن "ذو" اسم موصول بمعنى الذي أيضًا، وقد وقع صفة للعرفج النجدي.
[244] هذا البيت لسنان بن الفحل الطائي، من أبيات أوردها أبو تمام أيضًا في ديوان الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص590" وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص464" ورضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 511" والأشموني "رقم 101" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 51" وفي شرح قطر الندى "رقم 31" و "ذو حفرت" يريد التي حفرتها، و "ذو طويت" أي التي طويتها، وطي البئر: بناؤها بالحجارة، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "ذو حفرت وذو طويت" فإن "ذو" في هاتين العبارتين اسم موصول بمعنى التي، ويستدل بهاتين العبارتين على ثلاثة أشياء؛ الأول: أن "ذو" تأتي اسمًا موصولًا، والثاني: أنها تكون بلفظ واحد للمؤنث والمذكر، لأن البئر مؤنثة، والثالث: أنها تستعمل في غير العاقل كما استعملت في العاقل في الشاهد 241.
[245] هذا الشاهد من شواهد رضي الدين في باب المضمر من شرح الكافية وقد شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 385" ونص على أن الفَرَّاء أنشد البيت الأول في تفسيره، ثم قال بعد كلام طويل "ولم يعزهما الفَرَّاء فمن بعده إلى أحد" وهو من شواهد جار الله في الكشاف "2/ 61 بولاق" في أول تفسير سورة المؤمنين، والأطبا: جمع طبيب، وهو الذي يعالج الأسقام، وقال الشاعر:
يقولون: ليلى بالعراق مريضة، ... فياليتني كنت الطبيب المداويا
وأصله "الأطباء" كما ورد في الشرط الثاني فقصره الشاعر، و "الشفاة" جمع شاف، ويروى:
وكان مع الأطباء الأساة
وهو جمع آسٍ. ومن قولك: "أسا الجرح يأسوه" إذا عالجه ليبرأ، ويروى:
وكان مع الأطباء السقاة
جمع ساقٍ من "سقاه الدواء يسقيه" وجواب لو هو قوله: "إذا ما أذهبوا ... إلخ" ومحل الاستشهاد ههنا قوله "كان حولي" فإن أصل هذه العبارة "كانوا حولي" بواو الجماعة التي تعود إلى الأطباء، فحذف الشاعر الواو واكتفى بالضمة للدلالة.

(1/318)


إذا ما أذهبوا أَلَمًا بقلبي ... وإن قيل الشُّقَاةُ هُمُ الأسَاةُ
أراد "كانوا" فحذف الواو اجتزاء بالضمة. وقال الشاعر:
[246]
إذا ما شاء ضَرُّوا من أرادوا ... ولا يَأْلُوهُمُ أحدٌ ضِرَارًا
__________
= عليها، وقد قرئ في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بضم الحاء -وهي قراءة طلحة بن مصرف- فخرجها الزمخشري على أن الأصل "قد أفلحوا المؤمنون" فحذفت الواو لدلالة الضمة عليها، بدليل أن طلحة نفسه قرأ: "قد أفلحوا المؤمنون" بالواو، وقرئ: "تَمَامًا عَلَى الذِي أَحْسَنُ" برفع أحسن، وخرجها قوم على أن الأصل "على الذين أحسنوا" فحذفت الواو واكتفى بضم النون للدلالة عليها، وعلى هذه القراءة وهذا التخريج يكون "الذي مستعملًا في الجمع نظير قول الآخر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
واستبعد ذلك ابن هشام في المغني، ورجح تخريج الجمهور، وحاصله أن "أحسن" أفعل تفضيل وليس فعلًا ماضيًا، وهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: تمامًا على الذي هو أحسن، وقرئ: "لِمَنْ أَرَاد أن يتمُّ الرضاعة" برفع "يتم" وخرجه قوم على أن الأصل: "يتموا الرضاعة" فحذفت الواو اجتزاء بالضمة عنها، وخرجها قوم على أن "أن" المصدرية في "أن يتم" مهملة غير عاملة النصب حملًا على "ما" المصدرية أختها نظير قول الشاعر:
أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام، وألا تشعرا أحدًا
وقد اختلفت عبارة القوم في حذف حرف المد والاجتزاء بالحركة عنه للدلالة عليه: أهو ضرورة من ضرورات الشعر أم هو لغة لبعض العرب؟ فظاهر كلام سيبويه أن ذلك ضرورة؛ فإنه ذكر ذلك واستشهد له في "باب ما يحتمل الشعر" وصدر هذا الباب بقوله "1/ 8" "اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام: من صرف ما لا ينصرف يشبهونه بما ينصرف من الأسماء لأنها أسماء كما أنها أسماء، ومن حذف ما لا يحذف يشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفًا" ا. هـ. وظاهر كلام الفَرَّاء أن ذلك لغة لبعض العرب، قال "وقد تسقط العرب الواو وهي واو جمع اكتفاء بالضمة قبلها، فقالوا في ضربوا: قد ضرب، وفي قالوا: قد قال، وهي في هوازن وعليا قيس" ا. هـ، وانظر ما أشرنا إليه بعد شرح الشاهد 17 في المسألة الثانية:
[246] هذا البيت مما استشهد به الفَرَّاء في تفسيره، وتقول: ألا فلان يألو -بوزن سما يسمو- ألوا بوزن ضرب وألوا بوزن سمو؛ إذا قصر وأبطأ فيما يريد، يعني أن هؤلاء الناس يضرون من أرادوا ضره متى شاءوا، والناس لا يقصرون ولا يتمهلون عن إيصال الضر إليهم، ومحل الاستشهاد قوله "إذا ما شاء" فإن أصل هذه العبارة "إذا ما شاءوا" فحذف الواو، واكتفي بضم الهمزة التي قبلها للدلالة عليها، وحكى اللحياني عن الكسائي أن العرب تقول: أقبل يضربه لا يأل -بضم اللام- يريدون لا يألو، فاكتفوا بالضمة عن الواو، وحكى سيبويه أنهم يقولون: لا أدر -بكسر الراء- يريدون لا أدري، فاكتفوا بالكسرة عن الياء.

(1/319)


أراد "شاءوا"، وقال الآخر:
[247]
وأَخُو الغَوَان متى يَشَأْ يَضْرِمْنَهُ ... ويَكُنَّ أعداءَ بُعَيْدَ وِدَادِ
أراد "الغواني"، وقال الآخر:
[248]
كَفَّاكَ كَفٌّ لا تُلِيقُ دِرَهَمًا ... جودًا، وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّمَا
أراد"تعطي"، وقال الآخر:
[249]
ليس تخفى يَسَارَتِي قَدْرَ يوم ... ولقد يُخْفِ شِيمَتِي إِعْسَارِي
__________
[247] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون، وهو من شواهد سيبويه "1/ 10" والغواني: جمع غانية، وهي المرأة التي استغنت بجمالها عن الزينة، أو هي التي استغنت بزوجها عفة وتصونًا وحصانة، أو هي التي غنيت بمكانها: أي أقامت فيه ولم تفارقه، وقوله "متى يشأ" قد حذف منه المفعول، وأصل الكلام: متى يشأ صرمهن، ويصرمنه يبتتن حبال مودته ويقطعنها. يصف النساء بالغدر وقلة الوفاء والصبر، يقول: من كان مشغوفًا بهن مواصلًا لهن إذا تعرض لصرمهن سارعن إلى ذلك لتغيير أخلاقهن وقلة وفائهن، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "الغوان" فقد أراد أن يقول "الغواني" فحذف الياء ضرورة، واكتفى بالكسرة دليلًا عليها.
ومثل هذا البيت قول خفاف بن ندبة السلمي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 9":
كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عصف الإثمد
فإنه أرد "كنواحي ريش حمامة" فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها؛ لأنها تدل عليها، ومثله قول الآخر، وهو أيضًا من شواهد سيبويه "1/ 9":
فطرت بمنصلي في يعملات ... دوامي الأيد يخطبن السريحا
فقد أراد أن يقول "دوامي الأيدي" فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها.
[248] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل ي ق" ولم يعزه، وتقول: فلان ما يليق بكفه درهم -من مثال باع يبيع- أي ما يحتبس وما يبقى في كفّه، وتقول فلان ما يليق درهمًا -من مثال أنال ينيل- أي ما يحتبس وما يبقى درهمًا أيضًا، وقال الشاعر:
تقول إذا استهلكت مالًا للذة ... فكيهة: هل شيء بكفيك لائق؟
يصف صاحب الشاهد رجلًا بأنه جواد كريم وأنه شجاع فاتك، ونظيره قول الآخر:
يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرى لأعدائها غائظه
ومحل الاستشهاد في البيت قوله "تعط" فإنه أراد تعطي؛ لأن الفعل مرفوع لا مجزوم، فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة التي قبلها دالة عليها.
[249] أنشد بن منظور هذا البيت "ي س ر" ولم يعزه، واليسارة -ومثله اليسار- الغنى، وقد أيسر الرجل يوسر: أي استغنى، وقد صارت الياء في المضارع واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "يخف" فإنه أرد أن يقول يخفي؛ لأن الفعل مرفوع لا مجزوم، فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة قبلها للدلالة عليها.

(1/320)


أراد" يُخْفِي"، وقال الآخر:
[250]
لا صُلْحَ بيني -فَاعْلَمُوهُ- ولا ... بينكم، وما حملت عَاتِقِي
بسَيفِي، وما كُنَّا بنجدٍ، وما ... قَرْقَرَ قُمْرُ الوَادِ بالشَّاهِقِ
أراد "الوادي"، وقال الآخر وهو كعب بن مالك الأنصاري:
[251]
ما بَالُ هَمٍّ عَمِيدٍ بَاتَ يَطْرُقُنِي ... بالوادِ من هِنْدَ إذ نَعْدُو عَوَادِيهَا؟
__________
[250] أنشد الجوهري -وتبعه ابن منظور- هذين البيتين "ق م ر" ثاني وثالث ثلاثة أبيات، ونسبها لأبي عامر، جد العباس بن مرداس السلمي، والبيت الأول قوله:
لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراتق
وأنشدهما ابن منظور "ودي" عن ابن سيده، ونسبها لأبي الربيس التغلبي، وأنشد ابن جني ثانيهما في الخصائص "2/ 292" من غير عزو، قال ابن بري: سبب هذا الشعر أن الملك النعمان بن المنذر بعث جيشًا إلى بني سليم لشيء كان وجد عليهم من أجله، وكان مقدم الجيش عمرو بن فرتنا، فمر الجيش على غطفان، فاستجاشوهم على بني سليم، فهزمت بنو سليم جيش النعمان وأسروا عمرو بن فرتنا، فأرسلت غطفان إلى بني سليم وقالوا: نشدكم بالرحم التي بيننا إلا ما أطلقتم عمرو بن فرتنا، فقال أبو عامر هذه الأبيات، يقول: لا نسب بيننا وبينكم، ولا خلة -أي ولا صداقة- بعد ما أعنتم جيش النعمان ولم تراعوا حرمة النسب الذي بيننا وبينكم، وقد تفاقم الأمر بيننا فلا يرجى صلاحه فهو كالفتق الواسع في الثوب يتعب من يروم رتقه، والقمر -بضم القاف وسكون الميم- جمع قمرية، ومثاله روم ورومي وزنج وزنجي، والقمر: ضرب من الحمام، وقرقر: صوت، والشاهق: أراد الجبل العالي، ومحل الاستشهاد بالبيتين ههنا قوله "قمر الواد" فإنه أراد الوادي فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها. وفي قوله "اتسع الخرق على الراتق" شاهد آخر للنحاة، حيث قطع همزة الوصل في قوله "اتسع" ضرورة، وحسن ذلك كون هذه الكلمة في أول النصف الثاني من البيت؛ لأنه بمنزلة ما يبتدأ به، قال ابن سيده في التعليل لحذف الياء من "الواد" ما نصه: "حذف لأن الحرف لما ضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه ولم يقدر أن يتحامل بنفسه دعا إلى اخترامه وحذفه" ا. هـ. وهذا كلام ابن جني في الخصائص "2/ 292" وبل كلام ابن جني أصرح وانصع. وذلك قوله "وإذا كان الحرف لا يتحامل بنفسه حتى يدعو إلى اخترامه وحذفه كان بأن يضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه فيه أحرى وأحجى، وذلك نحو قول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وقوله "ذلك ما كنا نبغ" وقوله "الكبير المتعال" وقوله:
وما قرقر قمر الواد بالشاهق
" ا. هـ.
[251] ما بال هم: أي ما شأنه وما حاله، وعميد: فادح موجع، وأصله قولهم "عمده المرض يعمده" من مثال ضربه يضربه إذا فدحه، ودخل أعرابي علي بعض العرب وهو مريض فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أما الذي يعمدني فحصر وأسر، يريد أما الذي يفدحني ويشتد عليّ ويضنيني، ويطرقني: أي ينزل بي ليلًا، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله: =

(1/321)


أراد "بالوادي"، وقال أيضًا:
[252]
ولكن ببدرٍ سَائِلُوا عن بَلَائِنَا ... على النَّادِ، والأنباءُ بالغيب تَبْلُغُ
أراد "على النادي"، وقال الآخر:
[253]
ولا أدرِ من أَلْقَى عليه رِدَاءَهُ ... على أنه قد سُلَّ عن مَاجِدٍ مَحْضِ
أراد "أدري"، وقال الآخر:
[254]
فلست بمدركٍ ما فاتَ منِّي ... بلهفٍ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَانِّي
__________
= "بالواد" فإنه يريد بالوادي، فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة قبلها، على نحو ما ذكرناه في البيت قبله.
[252] بدر: أراد الموضع التي كانت فيه الغزوة المشهورة التي نصر الله فيها رسوله وأخزى الشرك وأهله، والبلاء -بفتح الباء- الجهد والصلابة، وأصله الاختبار والتجربة والامتحان، تقول: بلاه يبلوه، إذا جربه واختبره ليعرف مقدار ما عنده، والناد، هنا: القوم، وأصله المكان الذي يجتمعون فيه، والأنباء: الأخبار، واحدها نبأ -بفتح النون والباء جميعا- ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "على الناد" فإنه يريد على النادي، فحذف الياء مجترئًا بالكسرة قبلها، على نحو ما ذكرناه من قبل.
[253] هذا البيت من كلام أبي خراش الهذلي، يقوله في أخيه عروة، من أبيات رواها أبو تمام في الحماسة "انظر شرح المرزوقي 782" وياقوت في معجم البلدان "قوسي" وقوله "ألقى عليه رداءه" كان من عادة العرب أن الرجل يمر بالقتيل فيلقي عليه ثوبه يستره به، وفي مثل ذلك يقوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكًا:
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشية أروعا
وقد حكى أن مجتازًا اجتاز بعروة فرآه بادي العورة مصروعًا، فألقى رداءه عليه، ويحكى أن خراشًا ابن الشاعر الذي يكنى به وقع أسيرًا، وأنه نزل بآسره ضيف، فنظر ذلك الضيف إلى خراش -وكان ملقى وراء البيت- فسأل عن حاله ونسبه، فشرح قصته وانتسب، فقطع إساره وخلاه، فلما رجع رب البيت قال: أسيري أسيري، وأراد السعي في أثره، فوتر الضيف قوسه وحلف أنه إن تبعه رماه، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "ولا أدر" فإنه يريد ولا أدري؛ لأن الفعل غير مجزوم، فحذف الياء مجترئا بالكسرة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها، وقد روي البيت في الحماسة ومعجم البلدان وخصائص ابن جني "1/ 71" "ولم أدر" وعلى هذه الرواية يكون الفعل مجزومًا بحذف الياء، ولا شاهد فيه لما أراده المؤلف.
[254] هذا البيت قد أنشده ابن منظور "ل هـ ف" ولم يعزه، وأنشده البغدادي أثناء شرح الشاهد الثالث عشر "1/ 63" وهو من شواهد الأشموني "رقم 676" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 441" وقوله "بلهف" أي بقولي: يا لهفًا، وقوله "بليت" أي بقولي: يا ليتني، وقوله "ولا لواني" أي بقولي: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ومحل الاستشهاد ههنا =

(1/322)


أراد "بِلَهْفَا" فحذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها، فكذلك ههنا: حذف الواو من "ذو" اجتراء بالضمة عنها، وصُيِّرا كلمةً واحدة، وإذا كانا مركبتين من مِنْ وذو التي بمعنى الذي؛ فالذي اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد، والصلة لا تخلو: إما أن تكون من مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، فإذا قلت: "ما رأيته مذ يومان" أو "منذ ليلتان" فالتقدير فيه: ما رأيته من الذي هو يومان، فحذف "هو" الذي هو المبتدأ، وبقي الخبر الذي هو يومان، وحَذْفُ المبتدأ من الاسم الموصول جائز كقولك: "الذي أخوك زيد" أي: الذي هو أخوك زيد، والذي يدل على جوازه قولهم: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا" أي: ما أنا بالذي أنا1 قائل لك شيئًا، وهذا كثير في كلامهم، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضًا فهو مخفوض بمن؛ ولهذا إذا ظهرت النون في منذ كان الاختيار الخفض، وإذا لم تظهر كان الاختيار الرفع.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مرفوع ما بعدهما لأنه خبر عنهما، وذلك لأن مذ ومنذ معناهما الأمد، ألا ترى أن التقدير في قولك: "ما رأيتُهُ مذ يومان، ومنذ ليلتان" أي: أمَدُ انقطاع الرؤية يومان، وأَمَدُ انقطاع الرؤية ليلتان، والأمد في موضع رفع بالابتداء؛ فكذلك ما قام مقامه، وإذا ثبت أنهما مرفوعان بالابتداء وجب أن يكون ما بعدهما خبرًا عنهما، وإنما بنيا لتضمنهما معنى من وإلى، ألا ترى أنك إذا قلت: "ما رأيته مذ يومان، ومنذ ليلتان" كان معناه: ما رأيته من أول هذا الوقت إلى آخره، وبنيت مذ على السكون لأنه الأصل في البناء، وبنيت منذ على الضم لأنه لما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين حركت بالضم؛ لأن من كلامهم أن يُتْبِعُوا الضم الضم، كما قالوا: "رُدُّ يا فَتَى"، والشواهد على ذلك كثيرة جدًّا، وقد ذكرنا ذلك في مواضعه؛ فلا يفتقر إلى ذكره ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنهما مركبتان من من وإذ" قلنا: لا نسلم، وأي دليل يدل على ذلك؟ وهل يمكن الوقوف عليه إلا بوحي أو تنزيل؟ وليس إلى ذلك سبيل!
__________
= بهذا البيت قوله "بلهف" فإن أصل الكلام: بقولي يا لهفا، على أن اللهف مضاف إلي ياء المتكلم ثم قلبت الكسرة التي قبل ياء المتكلم فتحة وقلبت الياء ألفًا، ثم حذف هذه الألف المنقلبة عن ياء المتكلم مجتزئًا بالفتحة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة.
__________
1 لو جعل تقديره "ما أنا بالذي هو قائل لك شيئًا لكان أحسن، والمثال يروى في كتب النحاة "ما أنا بالذي قائل لك سوءًا" وانظر ص324 الآتية:

(1/323)


وقولهم: "إن من العرب من يقول في مُنْذُ مِنْذُ بكسر الميم" قلنا: أولا هذه لغة شاذة نادرة لا يعرج عليها؛ وليس فيها حجة على أنها مركبة من من وإذ، وإنما هي لغة نادرة بكسر كما جاءت اللغة الفصيحة المشهورة بالضم، فهو من جملة ما جاء على لغتين الضم والكسر، والضم أفصح، فأما أن تدل على أنها مركبة من من وإذ فكَلَا!.
وقولهم: "إن الرفع بعدهما يكون بتقدير فعل، والتقدير فيه: مذ مضى يومان، ومنذ مضى ليلتان، اعتبارًا بإذ، والخفض يكون بعدهما اعتبارًا بمن" قلنا: هذا باطل؛ لأن الحرفين إذا ركبا بطل عمل كل واحد منهما مفردًا، وحدث حكم آخر، كما قلنا في "لولا، ولوما، وإلَّا" وما أشبه ذلك، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في مسألة الاستثناء.
وهذا هو الجواب عن قول الفراء "إنهما مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي" والذي يبطل ما ذهب إليه الفَرَّاء أن "ذو" التي بمعنى الذي إنما تستعملها طيّئ خاصة، و "منذ يومان" بالرفع مستعمل في لغة جميع العرب، فكيف استعملت العرب قاطبةً ذو بمعنى الذي مع مِنْ -على زعمكم- دون سائر المواضع؟ وهل ذلك إلا تحكم محض لا دليل عليه؟
وقولهم: إن التقدير فيه مِنَ الذي هو يومَانِ فحذف المبتدأ الذي هو هو، كقولهم: الذي أخوك زيد، أي الذي هو أخوك" قلنا: وهذا أيضًا لا يستقيم؛ لأن حذف المبتدأ من صلة الاسم الموصول لا يجوز في نحو "الذي أخوك زيد" أي: الذي هو أخوك، وإنما يجوز ذلك جوازًا ضعيفًا إذا طال الكلام؛ كقولهم: "الذي راغب فيك زيد، وما أنا بالذي قائلٌ لك شيئًا"1، وما أشبه ذلك، على أن من النحويين من يجعل الحذف في هذا النحو أيضًا شاذا لا يقاس عليه، وإذا كان شاذًّا لا يقاس عليه مع طول الكلام فمع عدمه أولى؛ فدل على فساد ما ذهب إليه، والله أعلم.
__________
1 المثال الذي يذكره النحاة "ما أنا قائل لك سوءا" فلعل ما هنا مصحف عنه، وقد تكرر هذا المثال في كلام المؤلف، وانظر ص323 السابقة.

(1/324)


57- مسألة: [هل يعمل حرف القسم محذوفًا بغير عوض؟]
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك إلا بعوض، نحو ألف الاستفهام، نحو قولك للرجل: "اللهِ ما فعلتَ كَذَا" أو هاء التنبيه نحو "هاللهِ".
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء عن العرب أنهم يُلْقُونَ الواو من القسم ويخفضون بها؛ قال الفراء: سمعناهم يقولون: "اللهِ لتفعلنَّ" فيقول المجيب: "ألله لأفعلنَّ" بألف واحدة مقصورة في الثانية؛ فيخفض بتقدير حرف الخفض وإن كان محذوفًا، وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف، حكى يونس بن حبيب البصري أن من العرب من يقول: "مررت برجل صالح إلا صالح فطالح" أي إلا أكن مررت برجل صالح؛ فقد مررت بطالح، وروي عن رؤبة بن العجاج أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول "خَيْرٍ عافاك الله" أي بخير. قال الشاعر:
[238]
رسمٍ دارٍ وَقَفْتُ في طَلَلِه ... كِدْتُ أقضي الحَيَاةَ من جَلَلِهْ
فخفض "رسم" بإضمار حرف الخفض، وقال الأخر:
[255]
لَاهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عنِّي، ولا أنت دَيَّانِي فَتَخْزُونِي
__________
[255] هذا البيت من قصيدة طويلة لذي الأصبع العدواني، واسمه الحارث بن محرث، يعاتب فيها ابن عم له، وقد روى القصيدة أبو علي القالي في أماليه "1/ 259 بولاق" والمفضل الضبي "المفضلية 31" والبيت من شواهد الأشموني "رقم 557" وابن جني في الخصائص "2/ 288" ورضي الدين في باب الظروف وباب حروف الجر من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 222 و 4/ 243" وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 237" وابن عقيل "رقم 408" وابن يعيش في شرح المفصل "ص111 و 1300" ومعنى =

(1/325)


فخفض "لاهِ" بتقدير اللام، كأنه قال: لله ابنُ عَمِّكَ، وقال الآخر:
[161]
أَجِدَّكَ لَسْتَ الدَّهْرَ رَائِي رَامَةٍ ... ولا عاقل إلَّا وأنت جَنِيبُ1
ولا مُصْعدٍ في المصعِدِينَ لمَنْعِج ... ولا هَابطٍ ما عِنْتَ هَضْبَ شَطِيبِ
فخفض على تقدير الباء، كأنه قال "بمصعد"2، وقال الآخر:
[115]
بَدَا لِي أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... ولا سَابِقٍ شيئًا إذا كان جَائِيًا
وقال الآخر، وهو الفرزدق:
[117]
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مصلحين عَشِيرةً ... ولا نَاعِبٍ إلا بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
فخفض "ناعب" بإضمار حرف الخفض، وقال الفرزدق أيضًا:
[256]
وما زُرْتُ سَلْمَى أن تكون حَبِيبَةً ... إِلَيَّ، ولا دَيْنٍ بها أنا طَالِبُهْ
__________
= "أفضلت" زدت في المنزلة، والديان: الذي يملك الأمر ويتصرف فيه على مشيئته، وتخزوني: تذلني وتقهرني، ومحل الاستشهاد ههنا بهذا البيت قوله "لاه ابن عمك" واعلم أولا أن العرب تقول: لله أنت، ولله درك، ولله ابن عمك بثلاث لامات أولها لام الجر وثانيها لام التعريف وثالثها فاء الكلمة على أن لفظ الجلالة مأخوذ من ل ي هـ أو عين الكلمة على أن اللفظ الكريم مأخوذ من أل هـ، هذا هو الأصل في الاستعمال العربي، وربما قالوا "لاه أبوك" و "لاه" ابن عمك" بلام واحدة فيحذفون لامين، وقد اختلف النحاة في اللام الباقية، فذهب سيبويه إلى أن الباقية هي اللام التي من أصل الكلمة والمحذوف لام الجر ولام التعريف، وهذا هو الذي أراده المؤلف، وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أن الباقي هو لام الجر، وقد حذف لام التعريف واللام التي من أصل الكلمة وقد فصلنا مقالة الشيخين واستدللنا للمذهبين وبيَّنَّا أرجحهما في شرحنا على شرح الأشموني "3/ 286" فانظره، وانظر إلى المراجع التي أشرنا إليها في تخريج هذا الشاهد هنا.
[256] هذا البيت من قصيدة للفرزدق يمدح فيها المطلب بن عبد الله المخزومي، وهو من شواهد الأشموني "رقم 401" أنشده في باب تعدي الفعل وفي باب حروف الجر، وأنشده شيخ النحاة سيبويه "1/ 418" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 787" وقوله "أن تكون حبيبة" المصدر المنسبك من أن المصدرية وما بعدها مفعول لأجله، فأصله مجرور باللام الدالة على التعليل، وأصل الكلام: لأن تكون حبيبة، ثم حذفت اللام لأن حرف الجر يكثر حذفه قبل أن المصدرية وأن المؤكدة، وقد اختلف العلماء في المصدر المنسبك بعد حذف حرف الجر: أهو مجرور بذلك الحرف المحذوف، أم أنه انتصب على التوسع بعد حذف حرف الجر؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن المصدر مجرور بذلك الحرف المحذوف =
__________
1 في هذين البيتين الإقواء كما هو ظاهر.
2 الأولى أن يقول "كأنه قال برائي رامة" وهذا هو جر المعطوف على خبر ليس المنصوب بتوهم أنه قد دخلت الباء الزائدة على الخبر.

(1/326)


فخفض "دين" بإضمار حرف الخفض.
والذي يدل على ذلك أنكم تُعْمِلُونَ رُبَّ مع الحذف بعد الواو والفاء وبل؛ فدل على جوازه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف، وإنما تعمل مع الحذف، وإنما تعمل مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوض، ولم يوجد ههنا، فبقينا فيما عداه على الأصل، والتمسك بالأصل تمسك باستصحاب الحال، وهو من الأدلة المعتبرة، ويُخَرَّجُ على هذا الجر إذا دخلت ألف الاستفهام وها التنبيه نحو: "آلله ما فَعَلَ، وهالله ما فَعَلْتُ" لأن ألف الاستفهام وها صارتا عوضًا عن حرف القسم؛ والذي يدل على ذلك أنه لا يجوز أن يظهر معهما حرف القسم؛ فلا يقال: "أوالله" ولا "ها والله"؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض، ألا ترى أن الواو لما كانت عوضًا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما؛ فلا يجوز أن يقال: "بِوَاللهِ لأفعلنَّ"؟ فكذلك ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقولهم "ألله لأفعلن" فإنما جاز ذلك مع هذا الاسم خاصة على خلاف القياس لكثرة استعماله، كما جاز دخول حرف النداء عليه مع الألف واللام دون غيره من الأسماء لكثرة الاستعمال؛ فكذلك ههنا: جاز حذف حرف الخفض لكثرة الاستعمال مع هذا الاسم دون غيره، فبقينا فيما عداه على الأصل. يدل على أن هذا الاسم يختص بما لا يكون في غيره، ألا ترى أنه يختص بالتاء كقوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] وإن كان لا يجوز دخول التاء في غيره، كما لا يجوز إدخال التاء
__________
= فيجعلون العطف عليه بالجر تبعا لحاله الذي هو عليه حقيقة، وأما الذين يذهبون إلى أن المصدر بعد حذف حرف الجر صار منصوبا فيجعلون العطف عليه بالجر على أحد وجهين: الأول أنه معطوف على محل المصدر الذي كان له قبل حذف حرف الجر، والثاني أنه معطوف على التوهم، وكأن الشاعر بعد أن قال "أن تكون حبيبة" قد توهم أنه أدخل حرف الجر لأنه كثيرًا ما يتكلم به، فأتى بالمعطوف مجرورًا، قال ابن هشام في المغني "ص526 بتحقيقنا": "وقوله:
"وما زرت ليلى أن تكون حبيبة"
البيت
رووه بخفض دين عطفًا على محل أن تكون؛ إذ أصله لأن تكون، وقد يجاب بأنه عطف على توهم دخول اللام، وقد يعترض بأن الحمل على العطف على المحل أظهر من الحمل على العطف على التوهم، ويجاب بأن القواعد لا تثبت بالمحتملات" ا. هـ. وقال سيبويه بعد إنشاد البيت "جره لأنه صار كأنه قال: لأن تكون" ا. هـ. وقال الأعلم: "الشاهد فيه حمل دين على معنى لأن تكون، وجرّه" ا. هـ.

(1/327)


في "أسْنَتُوا" إلا في خلاف الخِصْبِ، ولا يقال "تالرحمن"1 ولا "تالرحيم" وكما أن ما حكاه أبو الحسن الأخفش من قوله "تَرَبِّي" لا يدل على جوازه لشذوذه وقلته؛ فكذلك قولهم "ألله لأفعلن" لا يدل على جوازه في غيره، واختصاص هذا الاسم بهذا الحكم كاختصاص "لات" بحين، و "لَدُنْ" بغدوة، و "جاءت" بحاجتك في قولهم "ما جاءت حَاجَتَكَ" فإن لات لا تعمل إلا في الحين، ولدن لا تنصب إلا غُدْوَة، وجاءت لا تنصب إلا حاجتك، كأنهم قالوا: ما صارت حاجتك، وكانت حاجتك، وأدخلوا التاء على ما2 إذ كان ما هو الحاجة كما قال بعضهم "مَنْ كانت أُمَّكَ" فنصب الأم وأنَّث من حيث أوقعها على مؤنث؛ ولأن هذا الاسم عَلَم فجاز أن يختص بما لا يكون في غيره؛ لأن الأسماء الأعلام كثيرًا ما يُعْدَلُ ببعضها عن قياس الكلام، ألا ترى أنهم قالوا "مَوْهَبٌ، ومَوْرَقٌ" ففتحوا العين وقياسها أن تكسر، وكذلك قالوا: "حَيْوَة" بالواو وإن كان قياسها أن تكون بالياء، وكذلك قالوا "مَزْيَدٌ، ومَكْوَزَةٌ، ومَدْيَنٌ" فصححوا وإن كان القياس أن يُعِلُّوا؛ لأن ما كان من الأسماء على مَفْعَلٍ أو مفعلٍ؛ فإنه يعتل لمجيئه على وزن الفعل وفصل الميم له من أمثلته، وكذلك قالوا "محْبَبٌ" بغير إدغام وإن كان القياس الإدغام، وكذلك قالوا "العجَّاج، والحجَّاج" بإمالة الألف وإن كان قياسها أن لا تمال؛ لعدم شرط الإمالة من الياء والكسرة، وهذا لأن من كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام: إما لكثرة الاستعمال، أو تنبيه على أصل، أو غير ذلك.
وأما احتجاجهم بما حكى يونس أن من العرب من يقول "مررت برجل صالح إلا صالح فطالح" أي "إلا أكن مررت برجل صالح فقد مررت بطالح" قلنا: هذا لغة قليلة الاستعمال بعيدة عن القياس؛ فلا يجوز أن يقاس عليها: أما قلتها في الاستعمال فظاهر؛ لأن أكثر العرب لا تتكلم بها، وإنما جاءت قليلة في لغة لبعض العرب؛ وأما بُعْدُهَا عن القياس فإنك تفتقر إلى إضمار أشياء، وحكم الإضمار أن يكون شيئًا واحدًا، ألا ترى أنك إذا قلت "مررت برجل صالح إلا صالح فطالح" تقديره: إلا أكن مررت بصالح [فقد مررت بطالح] فتفتقر إلى أشياء، وذلك بعيد عن القياس، وهذا شبيه بقول النحويين "ما مررت بزيد فكيف أخيه" ويقول الرجل: جئتك بدرهم، فيقول المجيب "فهلا دينار" وهذا كله رديءٌ لا تتكلم به العرب.
__________
1 من النحاة من جوز دخول التاء على "رب" مضافا للكعبة أو إلى ياء المتكلم فيقال "ترب الكعبة" ويقال "تربي لأفعلن" ومنهم من حكى دخولها على "الرحمن" فيقال "تالرحمن" ومنهم من حكى دخولها على "حياتك" فيقال "تحياتك" وكل ذلك قليل أو نادر.
2 المراد أنهم أنثوا الفعل المسند إلى ضمير عائد إلى ما، مراعاة لمعنى ما. وذلك أنهم قالوا "جاءت" بتاء التأنيث؛ لأن في جاء ضميرًا مستترًا يعود إلى "ما" وما هي الحاجة؛ لأن المبتدأ والخبر شيء واحد.

(1/328)


وأما ما روي عن رؤبة من قوله "خيرٍ عافاك الله، أي: بخير" فهو من الشاذ الذي لا يعتد به لقلته وشذوذه، وكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات وقد أجبنا عنها في مواضعها بما يغني عن الإعادة.
وأما إضمار رب بعد الواو والفاء وبل -وهي حروف جر- فإنما جاز ذلك لأن هذه الأحرف صارت عوضًا عنها دالة عليها، فجاز حذفها، وما حذف وفي اللفظ على حذفه دلالة أو حُذِفَ إلى عوض وبدل؛ فهو في حكم الثابت، وقد بيَّنَّا ذلك مستقصى في موضعه، بخلاف ههنا، فإنكم جوزتم حذف حرف القسم ولا دلالة في اللفظ على حذفه ولا إلى عوض وبدل، فبان الفرق بينهما، والله أعلم.

(1/329)