الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

58- مسألة: [اللام الداخلة على المبتدأ، لام الابتداء أو لام جواب القسم؟]
ذهب الكوفيون إلى أن اللام في قولهم "لزيدٌ أفضلُ من عمروٍ" جواب قسم مقدَّر، والتقدير: والله لزيد أفضل من عمرو، فأضمر اليمين اكتفاءً باللام منها، وذهب البصريون إلى أن اللام لام الابتداء.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن هذه اللام جواب القسم وليست لام الابتداء أن هذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب. وذلك نحو قولهم "لَطَعَامَكَ زيدٌ آكلٌ" فلو كانت هذه اللام لامَ الابتداء لكان يجب أن يكون ما بعدها مرفوعًا، ولمَا كان يجوز أن يليها المفعول الذي يجب أن يكون منصوبًا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها لام الابتداء أنها إذا دخلت على المنصوب بظننت أوجبت له الرفع وأزالت عنه عمل ظننت، تقول: ظننت زيدًا قائمًا، فإذا أدخلت على زيد اللام قلت: ظننت لزيد قائم، فأوجبت له الرفع بالابتداء بعد أن كان منصوبًا؛ فدل على أنها لام الابتداء.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الظن محمول على القسم؛ فاللام جواب القسم، كقولهم: والله لزيد قائم، لا لام الابتداء، فإذا كانت جواب القسم فحكمها أن تُبْطِل عمل ظننت؛ فلهذا وجب أن يرفع زيد بما بعده، لا بالابتداء، وهذا لأن حكم لام القسم في كل موضع أن لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، ولا ما بعدها فيما قبلها؛ لأن ما بعدها من الكلام محلوف عليه؛ فلو جعل شيء منه قبلها لزال منه معنى الحلف عليه" لأنا نقول: لا يجوز أن يكون الظن قسمًا، لأنه إنما نُقْسِمُ بالشيء في العادة إذا كان عظيمًا عند الحالف، كقوله "والله، والقرآن، والنبي، وأبي" وما أشبه ذلك مما يحلف به أهل الجاهلية والإسلام، ومعنى الظن خارج عن هذا المعني.

(1/330)


فأما قولهم "جَيْرِ لأذهبنَّ، وعوْضُ لأقومنَّ، وكلَّا لأنطلقن" فإنما أقسموا بها لأنهم أجروها مجرى حق، والحق معظم في النفوس، بخلاف الظن الذي فيه معنى الشك، وجير بمعنى نَعَمْ، قال الشاعر:
[257]
إن الذي أغناك يغنيني جَيْر ... واللهُ نَفَّاحُ اليَدَينِ بالخير
وعَوْضُ بمعنى الدهر، قال الشاعر:
[258]
رَضِيعَيْ لبَانٍ ثَدْيَ أمِّ تَحَالفَا ... بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نتفرَّقُ
__________
[257] هذان بيتان من مشطور الرجز، والذي يؤخذ من كلام أهل اللغة أن "جير" تأتي على وجهين: أولهما: أن تكون حرف جواب كأجل، ومعناهما نعم، وعليه جاء قول الراجز:
قالت: أراك هاربا للجور ... من هدة السلطان، قلت: جير
وهي في هذا الوجه مبنية إما على الكسر كما هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وإما على الفتح للتخفيف مثل أين وكيف، والوجه الثاني: أن تكون بمعنى اليمين، يقال: جير لا أفعل كذا، ولا جير لا أفعل ذلك، قال الجوهري: "قولهم جير لا آتيك -بكسر الراء- يمين للعرب، ومعناها حقا" ا. هـ وأنكر ابن هشام في المغني الاستعمال الثاني، قال "ص120": "جير -بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس، وبالفتح للتخفيف كأين وكيف -حرف جواب بمعنى نعم، لا اسم بمعنى حقا فتكون مصدرا، ولا بمعنى أبدًا فتكون ظرفًا، وإلا لأعربت ودخلت عليها أل" ا. هـ. وفي كلام ابن هشام هذا مناقشة؛ فإنه قطع بأنها لا تكون إلا حرف جواب بمعنى نعم، ونفى أن تكون اسمًا بمعنى حقًّا يستعمل في اليمين، واستدل بأنها لو كانت اسمًا بمعنى حقًّا لوجب إعرابها وجاز دخول أل عليها، وكل ذلك غير مسلم له، أولا: لأن أثبات العلماء قد نقلوا أن العرب تستعملها بمعنى اليمين، وقد استقر عند المحققين أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وثانيا: أنه لا يلزم من كونها تأتي اسمًا بمعنى حقًّا أن تعرب، لأن لبنائها مع ذلك سبابً معترفًا به، وبهذا السبب نفسه بنيت بعض الأسماء، وهذا السبب هو شبهها الحرف شبهًا لفظيًا، فإن "جير" التي هي اسم بمعنى حقا أشبهت "جير" التي هي حرف جواب، كما أن "حاشا" التنزيهية بنيت لشبهها حاشا الحرفية شبهًا لفظيًا، ولم يلزم من كونها بمعنى تنزيهًا أن تعرب ولا أن تدخلها أل، وأيضًا "ما" التي هي نكرة بمعنى شيء لم يلزم من أن تكون بمعنى اسم تدخل عليه أل أن تكون هي بحيث تدخل عليها أل، وقول الراجز المستشهد بكلامه "والله نفاح اليدين بالخير" مأخوذ من قولهم "نفحة بشيء" أي أعطاه، و"نفحه بالمال نفحًا" أعطاه، وفي الحديث "المكثرون هم المقلون إلا من نفح فيه يمينه وشماله" أي ضرب يديه فيه بالعطاء. وقال الشاعر، وهو ابن ميّادة الرماح بن أبرد يمدح الوليد بن يزيد:
لما أتيتك أرجو فضل نائلكم ... نفحتني نفحة طابت لها العرب
[258] هذا البيت من قصيدة الأعشى ميمون بن قيس التي مدح بها المحلق فرفع من شأنه، ومطلعها:
أرقت، وما هذا السهاد المؤرق؟ ... وما بي من سقم، وما بي معشق
والبيت المستشهد به من شواهد رضي الدين في باب الظروف من شرح الكافية، وقد شرحه =

(1/331)


وفي عَوْضُ ثلاث لغات: عوضُ بالضم، وعوضَ بالفتح، وعوضِ بالكسر، وكلًّا بمعنى حقًّا، قال الشاعر:
[259]
أليس قليلَا نَظْرَةٌ إن نَظَرْتُهَا ... إليكِ؟ وكَلَّا ليس منك قليلُ
__________
= البغدادي في الخزانة "3/ 209" وشواهد الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه "س559" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 246" وابن جني في الخصائص "1/ 265 الدار" وأنشده ابن منظور "ع وض - س ح م" وانظر القصيدة في ديوان الأعشى "ص145 فينا".
واللبان -بكسر اللام بزنة الكتاب- هو اللبن، فإن لم تنوّنه فهو مضاف إلى ثدي أم، وإن نونته جررت ثدي أم على البدل أو نصبته على البدل أيضًا باعتبار موضع اللبان لأنه في المعنى مفعول به لرضيعي، أو نصبته بتقدير أعني أو نحوه، وقوله "تحالفا" يروى مكانه "تقاسما" أي حلف كل منهما وأقسم، أو عقدا محالفة بينهما، والأسحم الذي تحالفا عليه: يقال هو الدم، وكان من عادتهم أن يغمسوا أيديهم في الدم عندما يتحالفون، ويقال: هو الرحم، ويقال: هو حلمة الثدي، ويقال: هو الليل، و "عوض" يأتي ظرفًا لا يستقبل من الزمان مبنيًّا على الضم في محل نصب، تقول: لا أكلمك عوض يا فتى، تريد لا أكلمك أبدًا، ويأتي بمعنى القسم، تقول: لا أفعل هذا عوض، تحلف بالدهر والزمان، وهذا المعنى هو الذي أراده المؤلف هنا. قال ابن يعيش "أما عوض فهو اسم من أسماء الدهر، وهو للمستقبل من الزمان، كما أن قط للماضي، وأكثر استعماله في القسم، تقول: عوض لا أفارقك، أي لا أفارقك أبدًا، كما تقول: قط ما فارقتك، وعوض مبنية لقطعها عن الإضافة، وفيها لغتان: الفتح، والضم، فمن فتح فطلبًا للخفة، ومن ضم فتشبيهًًا بقبل وبعد.... فإن أضفته أعربته، تقول: لا أفعله عوض العائضين، أي دهر الداهرين، فيكون معربًا، وانتصابه على الظرف لا على حدة في:
بأسحم داج عوض لا نتفرق
وعوض من لفظ العوض ومعناه، وذلك أن الدهر لا يمضي منه جزء إلا ويخلفه جزء آخر، فصار الثاني كالعوض من الأول" ا. هـ.
وأغرب ابن الكلبي فزعم أن "عوض" في بيت الأعشى اسم صنم كان لبكر بن وائل، قال ابن هشام "واختلف في قول الأعشى:
بأسحم داج عوض لا نتفرق
فقيل: ظرف لنتفرق، وقال ابن الكلبي: قسم، وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل، بدليل قوله:
حلفت بمائرات حول عوض ... وأنصاب تركن لدى السعير
والسعير: اسم لصنم كان لعنزة، ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت" ا. هـ.
[259] هذا البيت ثالث تسعة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص1340" ونسبها لابن الطثرية، واسمه يزيد بن سلمة بن سمرة، والطثرية أمه، نسبت إلى طثر، وهو حي من اليمن. يقول: أليس قليلا نظرة منك إذا حصلت لي، ثم استدرك على نفسه ناقضًا لما اعتقده، فقال: كلا، لا قليل منك، ومثل هذا البيت في المعنى قول الآخر:
هل إلى نظرة إليك سبيل؟ ... فيروى الظما ويشفى الغليل
=

(1/332)


وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن هذه اللام ليست لام الابتداء، لأن الابتداءَ يوجب الرفع، وهذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب، نحو قولهم "لطَعَامَكَ زيدٌ آكلٌ" قلنا: الأصل في اللام ههنا أن تدخل على زيد الذي هو المبتدأ، وإنما دخلت على المفعول الذي هو معمول الخبر لأنه لما قُدِّمَ في صدر الكلام وقع موقع المبتدأ؛ فجاز دخول اللام عليه؛ لأن الأصل في هذه اللام أن تدخل على المبتدأ، فإذا وقع المفعول موقعه جاز أن تدخل هذه اللام عليه كما تدخل على المبتدأ، وإذا جاز دخول هذه اللام على معمول الخبر إذا وقع موقعه، كقولك "إن زيدًا لَطَعَامَكَ آكلٌ" وكقول الشاعر:
[260]
إنَّ امْرَأَ خَصَّنِي عمدًا مودَّتَهُ ... على التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ
وإن كان الأصل فيها أن تدخل -بعد نقلها عن الاسم- على الخبر لا على معموله؛ لوقوعه موقعه1، فكذلك يجوز دخول هذه اللام على المفعول إذا وقع موقع المبتدأ، وإن كان الأصل فيها أن تدخل على المبتدأ؛ لوقوعه موقعه، والله أعلم.
__________
=
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن يحب القليل
وموطن الاستشهاد بالبيت قوله "وكلا ليس منك قليل" فإن المؤلف قد ذهب إلى أن "كلا" في هذه العبارة بمعنى حقا، وهذا شيء قاله الكسائي ومتابعوه، فأما سيبويه والخليل والمُبَرِّد والزجاج وأكثر البصريين فقالوا: إن كلا حرف معناه الردع والزجر، لا معنى له عندهم إلا ذلك، وقال الكسائي: قد يخرج "كلا" عن الردع والزجر فيكون بمعنى حقًّا وقال أبو حاتم ومتابعوه: قد يخرج كلا عن معنى الردع والزجر فيكون بمعنى "ألا" الاستفتاحية، وقال النضر بن شميل والفراء ومن تابعهما: قد يخرج كلا عن معنى الردع والزجر فيكون حرف جواب بمعنى إي ونعم، وحمل هؤلاء على ذلك قول الله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَر} فقالوا: المراد -والله أعلم- إي والقمر.
[260] هذا البيت من كلام أبي زبيد الطائي من كلمة يمدح فيها الوليد بن عقبة، ويصف نعمة أنعمها عليه مع بعده وتنائيه عنه، وهو من شواهد سيبويه "1/ 281" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 925" وقوله "خصني مودته" أراد أن يقول: خصني بمودته، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إلى المجرور بنفسه فنصبه، والمكفور: اسم المفعول من قولهم "كفر فلان النعمة" إذا جحدها ولم يقم بحقها من الشكر، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "لعندي غير مكفور" حيث أدخل لام الابتداء على الظرف ولم يدخلها على خبر إن، وأصلها أن تدخل على خبر إن أو اسمها المتأخر عن خبرها، فأصل الكلام هنا: لغير مكفور عندي.
__________
1 قوله: "لوقوعه موقعه" تعليل لقوله: "جاز دخول هذه اللام على معمول الخبر" ونبّهنا على ذلك لتباعد ما بينهما بما وقع اعتراضًا.

(1/333)


59- مسألة: [القول في أيمن في القسم مفرد هو أو جمع؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن قولهم في القسم "أيمن الله" جمع يمين. وذهب البصريون إلى أنه ليس جمع يمين، وأنه اسم مفرد مشتق من اليُمْن.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن "أيمن" جمع يمين أنه على وزن أَفْعُل، وهو وزن يختص به الجمع، ولا يكون في المفرد، يدل عليه أن التقدير في قولهم "أيمن الله" أي: عليَّ أَيْمُنُ اللهِ، أي أَيْمَانُ اللهِ عليَّ فيما أُقسم به، وهم يقولون في جمع يمين "أَيْمُنٌ" قال زهير:
[261]
فتجمع أَيْمُنٌ منا ومنكم ... بِمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بها الدِّمَاءُ
__________
[261] هذا البيت لزهير بن أبي سلمى كما قال المؤلف "الديوان 78 الدار" وقد رواه ابن منظور "ق س م - ي م ن" والأيمن: جمع يمين، وأراد بقوله "فتجمع أيمن منا ومنكم" تحلفون ونحلف، وقوله "بمقسمة" هو بضم الميم وفتح السين بينهما قاف ساكنة وهو الموضع يحلف فيه عند الأصنام، ويروى "بمقسمة" -بفتح الميم- وأراد بها القسامة، وأصل القسامة -بزنة السحابة- أن يوجد رجل قتيلا فيجيء أولياؤه فيدعون على رجل أنه قاتله، ولا تكون لهم بينة كاملة، أو يوجد القتيل في محلة قوم ولا بينة على أن قاتله فلان منهم، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا أن فلانًا قتله، أو أن هؤلاء قتلوه، فإن حلفوا استحقوا دية القتيل، وإن أبوا أن يحلفوا حلف المدعى عليه وبرئ. وعلى هذا يكون المعنى بيت زهير: تؤخذ أيمان مثل الأيمان التي تؤخذ في القسامة، وتمار بها الدماء: أي تسيل، والمراد دم البدن التي تنحر.
ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "أيمن" فإنه جمع يمين، قال سيبويه: "وقالوا: يمين وأيمن، وقالوا: أيمان فكسروها على أفعال كما كسروها على أفعل" ا. هـ. وقد كسروا يمينًا على يمن -بضم الياء والميم جميعا- كما كسروا شمالًا على شمل، ومن ذلك قول زهير:
قد نكبت ماء شرج عن شمائلها ... وجو سلمى على أركانها اليمن
__________
1 انظر في هذه المسألة: التصريح للشيخ خالد "2/ 456" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 232" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1290" ولسان العرب "ي م ن".

(1/334)


وقال الأزرقُ العنبري:
[262]
طِرْنَ انْقِطَاعَةَ أَوْتَارٍ مُحَظْرَبَةٍ ... في أَقْوُسٍ نازَعَتْهَا أَيْمُنٌ شُمُلَا
وقال الآخر:
[263]
يأتي لها من أَيْمُنٍ وأَشْمُلِ
__________
[262] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 194" وابن يعيش في شرح المفصل "ص633 و 640" ورضي الدين في شرح الشافية، وشرحه البغدادي "ص133 بتحقيقنا" وقد أنشده ابن منظور "ش م ل" وكلهم نسبوه إلى الأزرق العنبري، وهو يصف في هذا البيت طيرًا ترن، فشبه صوت طيرانها بسرعة بصوت أوتار تقطعت عند الجذب والنزع عن القوس، فقوله "انقطاعة" مفعول مطلق يراد به التشبيه: أي طرن طيرانا ذا صوت يشبه صوت انقطاع أوتار محظربة، والمحظربة: المحكمة الفتل، والأقوس: جمع قوس، و "نازعتها أيمن شملا" يريد أن الأيمن تجذبها إلى ناحية، والأشمل تجذبها إلى ناحية أخرى، فهما يتنازعان في جذبها ويتغالبان عليه.
والاستشهاد به هنا في قوله "أيمن" فإنه جمع بمين -وهي اليد- فيدل ذلك على أن همزة "أيمن" همزة قطع في الأصل، ولكنها صيرت همزة وصل تخفيفًا لكثرة الاستعمال.
[263] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من كلام أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وقد أنشده ابن منظور "ي م ن" وسيبويه "2/ 47 و195" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1291" ويروى:
يبري لها من أيمن وأشمل
وبرى يبري -مثل رمى يرمي- أي تعرض، والأيمن: جمع يمين، وأراد جهة اليمين، والأشمل: جمع شمال، وأراد جهة الشمال.
قال ابن منظور في تفسير بيت الشاهد: "يقول: يعرض لها من ناحية اليمين وناحية الشمال، وذهب إلى معنى أيمن الإبل وأشملها، فجمع لذلك" ا. هـ.
ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "أيمن" فإن أيمنا هنا جمع يمين، ويريد الكوفيون بالاستشهاد بهذه الأبيات الثلاثة أن المعهود في لفظ أيمن أن يكون جمع يمين، سواء أكان بمعنى الحلف والقسم كما في البيت الأول من هذه الأبيات وهو بيت زهير "رقم 261" أم كان بمعنى اليد اليمنى كما في البيتين الثاني والثالث وهما بيت الأزرق وبيت أبي النجم "رقم 262 و 263" ولم يعرف أيمن مفردًا، بل لم يعرف مفرد آخر على وزن أفعل -بضم العين- وهمزة أفعل الجمع همزة قطع كأكلب وأقوس وأرهط وأفلس وما أشبه ذلك، وإنما صيرت الهمزة في أيمن المراد به الحلف همزة وصل لكثرة الاستعمال، ولهذا تجدها مفتوحة على ما كانت عليه وهي همزة قطع، وعلي خلاف المعهود في همزة الوصل من أنها مكسورة. قال ابن يعيش: "وذهب الكوفيون إلى أن همزته همزة قطع، وأنه جمع لا مفرد، وهو جمع يمين، كما قال العجلي:
يبري لها من أيمن وأشمل
وسقطت همزته في الوصل لكثرة الاستعمال" ا. هـ، وسيأتي في شرح الشاهد الآتي بيان حجة البصريين.

(1/335)


والأصل في همزة أيمن أن تكون همزة قطع، لأنه جمع، إلا أنها وُصِلَتْ لكثرة الاستعمال؛ وبقيت فتحتها على ما كانت عليه في الأصل، ولو كانت -على ما زعمتم- في الأصل همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة على حركتها عندكم في الأصل. والذي يدل على أنها ليست همزة وصل أنها ثبتت في قولهم "أم الله لأفعلنَّ" فتدخل الهمزة على الميم وهي متحركة، ولو كانت همزة وصل لوجب أن تحذف لتحرك ما بعدها.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مفرد وليس بجمع يمين لأنه لو كان جمع يمين لوجب أن تكون همزته همزة قطع، فلما وجب أن تكون همزته همزة وصل دلَّ على أنه ليس بجمع يمين، قال الشاعر:
[264]
وقد ذَكَرَتْ لِي بِالكثيب مُؤَالفًا ... قِلَاصَ سُلَيْمٍ أو قِلَاصَ بني بكر
__________
[264] هذان البيتان من كلام نصيب بن رباح، وقد أنشد ثانيهما سيبويه "2/ 147" وابن يعيش "ص1260"وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 142" وابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 58" وفي سر صناعة الإعراب "1/ 120" وابن منظور "ي م ن" والخطيب القزويني في الإيضاح "رقم 480 بتحقيقنا" وصف نصيب أنه تعرض لزيادة من يحب، فتعلل بأنه ينشد إبلًا ضلت له مخافة أن ينكر عليه مجيئه وإلمامه بهم، ومعنى "نشدتهم" سألتهم، يقال "نشد فلان الضالة" إذا سأل عنها، ويقال "أنشد فلان الضالة" إذا عرفها. ومحل الاستشهاد قوله "لا يمن الله" حيث ورد بهمزة وصل؛ فدل ذلك على أن "أيمن" مفرد وليس بجمع؛ إذ لو كان جمعا لكانت همزته همزة قطع كالهمزة في أرهط وأكلب وأرؤس وأفؤس ونحو ذلك، قال سيبويه: "وزعم يونس أن همزة ايم موصولة، وكذلك تفعل بها العرب، وفتحوا الألف كما فتحوا الألف التي في الرجل، وكذلك أيمن، قال الشاعر:
فقال فريق القوم لما نشدتهم البيت
ا. هـ كلامه.
قال الأعلم: "الشاهد في حذف ألف أيمن؛ لأنها ألف وصل عنده، فتحت لدخولها على اسم لا يتمكن في الكلام، إنما هو مخصوص بالقسم مضمن معناه" ا. هـ.
وقال ابن هشام: "أيمن المختص بالقسم: اسم، لا حرف، خلافًا للزجاج والرماني، مفرد مشتق من اليمن وهو البركة، وهمزته وصل، لا جمع يمين وهمزته قطع، خلافًا للكوفيين ويرد مذهب الكوفيين جواز كسر همزته وفتح ميمه، ولا يجوز مثل ذلك في الجمع من نحو أفلس وأكلب، وقول نصيب:
فقال فريق القوم لما نشدتهم ... البيت.
فحذف ألفها في الدرج، ويلزمه الرفع بالابتداء، وحذف الخبر، وأضافته إلى اسم الله سبحانه وتعالى، خلافًا لابن درستويه في إجازة جره بحرف القسم، ولابن مالك في جواز إضافته إلى الكعبة ولكاف الضمير، وجوز ابن عصفور كونه خبرًا والمحذوف مبتدأ، أي قسمي أيمن الله، ا. هـ، والله -سبحانه وتعالى- أعلى وأعلم وأعز وأكرم.

(1/336)


فَقَالَ فريقُ القومِ لما نَشَدْتُهُمْ: ... نعم، وفريق: ليْمُنُ اللهِ ما ندري
ويدل عليه أنهم قالوا في أيمن الله "مُ الله" ولو كان جمعًا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفًا واحدًا؛ إذ لا نظير له في كلامهم، فدلَّ على أنه ليس بجمع، فوج بأن يكون مفردًا.
وأما ما ذكروه من كونها همزة وصل لكثرة الاستعمال فسنبين أنه حجة عليهم في الجواب عن كلماتهم، إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه جمع يمين، بدليل أنه على وزن أَفْعُل، وأفعل وزن يختص به الجمع، ولا يكون في المفرد" قلنا: لا نسلم؛ بل قد جاء ذلك في المفرد؛ فإنهم قالوا: رَصاصٌ آنُكٌ، وهو الخالص، وقالوا "أَسْنُمَة" اسم موضع وأكمه، و "أشُدُّ" على الصحيح، وهو منتهى الشباب والقوة، وقيل: هو الحلم، وقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: أربعون سنة.
وقولهم "الأصل في الهمزة أن تكون همزة قطع لأنه جمع يمين" قلنا: لو كانت الهمزة فيه همزة قطع لما جاز فيه كسر الهمزة فقيل "إيمُنُ الله" لأن ما جاء من الجمع على وزن أَفْعُلُ لا يجوز فيه كسر الهمزة، فلما جاز ههنا بالإجماع كسرة الهمزة دل على أنها ليست همزة قطع.
وأما قولهم "إنها لو كانت همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة" قلنا: إنما جاءت مفتوحة -وإن كان القياس يقتضي أن تكون مكسورة- لأنهم لما كثر استعماله في كلامهم فتحوا فيه الهمزة لأنها أخف من الكسرة كما فتحوا الهمزة التي تدخل على لام التعريف -وإن كان الأصل فيها الكسر- لكثرة الاستعمال، فكلك ههنا.
وأما قولهم "إن الهمزة ثبتت في قولهم أمُ الله لأفعلن مع تحرك ما بعدها" قلنا: إنما ثبتت الهمزة فيه من وجهين؛ أحدهما: أن الأصل في الكلمة "أيمن" فالهمزة داخله على الياء وهي ساكنة، فلما حذفت -وحذفها غير لازم- بقي حكمها. والثاني: أن حركة الميم حركة إعراب، وليست لازمة وتسقط في الوقف؛ فلذلك ثبتت همزة الوصل.
والدليل على ذلك أن العرب تقول في الأحمر: "أَلَحْمَر" فلا يحذفون همزة الوصل؛ لأن حركة اللام ليست بلازمة، وبعض العرب يحذفون الهمزة لتحرك ما بعدها، على أن من العرب من يقول "مُ اللهِ" فيحذف الهمزة، وفيها لغات كثيرة تنيف على عشر لغات: أَيْمُنُ الله، وإِيْمُن الله، وأَيْمُ الله، وإِيْمُ الله، وأمُ الله، ومُ

(1/337)


الله، ومَ الله، ومِ الله، ولَيْمُنُ الله، ومُنُ الله، ومُنْ رَبِّي، ومِنْ رِبِّي. و "مُنْ" لا تدخل إلا على "رَبِّ" وحده، ولا تدخل على غيره، كما لا تدخل التاء إلا على الله في "تالله". والله أعلم.
تم الجزء الأول من كتاب "الإنصاف، في مسائل الخلاف"
لأبي البركات الأنباري
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني منه مفتتحًا بالمسألة "60"- القول الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف والجار والمجرور.
نسأل الله تعالى أن يعين على إكماله بمنه وكرمه وفضله.

(1/338)


فهرس المحتويات
1- مسألة: الاختلاف في اصل اشتقاق الاسم 8
2- مسألة: الاختلاف في إعراب الأسماء الستة 17
3- مسألة: القول في إعراب المثنى والجمع على حَدِّه 29
4- مسألة: هل يجوز جمع العلم المؤنث بالتاء جمع المذكر السالم؟ 34
5- مسألة: القول في رافع المبتدأ ورافع الخبر. 38
6- مسألة: في رافع الاسم الواقع بعد الظرف والجار والمجرور 44
7- مسألة: القول في تحمل الخبر الجامد ضمير المبتدأ 48
8- مسألة: القول في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه 50
9- مسألة: القول في تقديم الخبر على المبتدأ 56
10- مسألة: القول في العامل في الاسم المرفوع بعد لولا 60
11- مسألة: القول في عامل النصب في المفعول 66
12- مسألة: القول في ناصب الاسم المشغول عنه 69
13- مسألة: القول في أولى العاملين بالعمل في التنازع 71
14- مسألة: القول في نعم وبئس، أفعلان هما أم اسمان؟ 81
15- مسألة: القول في "أفعل" في التعجب، اسم هو أو فعل 104
16- مسألة: القول في جواز التعجب من البياض والسواد، دون غيرهما من الألوان 120
17- مسألة: القول في تقديم خبر "ما زال" وأخواتها عليهن 126
18- مسألة: القول في تقديم خبر "ليس" عليها 130
19- مسألة: القول في العامل في الخبر بعد "ما" النافية النصب 134
20- مسألة: القول في تقديم معمول خبر "ما" النافية عليها 140
21- مسألة: القول في تقديم معمول الفعل المقصور عليه 141
22- مسألة: القول في رافع الخبر بعد "إن" المؤكدة 144
23- مسألة: القول في العطف على اسم "إن" بالرفع قبل مجيء الخبر 151

(1/341)


24- مسألة: القول في عمل "إن" المخففة النصب في الاسم 159
25- مسألة: القول في زيادة لام الابتداء في خبر لكنَّ 169
26- مسألة: القول في لام "لعل" الأولى زائدة هي أو أصلية؟ 177
27- مسألة: القول في تقديم معمول اسم الفعل عليه 184
28- مسألة: القول في أصل الاشتقاق، الفعل هو أو المصدر؟ 190
29- مسألة: القول في عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا 197
30- مسألة: القول في عامل النصب في المفعول معه 200
31- مسألة: القول في تقديم الحال على الفعل العامل فيها 203
32- مسألة: هل يقع الفعل الماضي حالا 205
33- مسألة: ما يجوز من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية
إذا وُجِدَ معها ظرف مكرر 210
34- مسألة: القول في العامل في المستثنى النصب 212
35- مسألة: هل تكون "إلا" بمعنى الواو 216
36- مسألة: هل يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام؟ 222
37- مسألة: حاشى في الاستثناء، فعل أو حرف أو ذات وجهين 226
38- مسألة: هل يجوز بناء "غير" مطلقًا؟ 233
39- مسألة: هل تكون "سوى" اسمًا أو تلزم الظرفية؟ 239
40- مسألة: "كم" مركبة أو مفردة؟ 243
41- مسألة: إذا فصل بين "كم" الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورًا؟ 247
42- مسألة: هل تجوز إضافة النيف على العشرة 252
43- مسألة: القول في تعريف العدد المركب وتمييزه 255
44- مسألة: القول في إضافة العدد المركب إلى مثله 263
45- مسألة: المنادى المفرد العلم، معرب أو مبني؟ 264
46- مسألة: القول في نداء الاسم المحلَّى بأل 274
47- مسألة: القول في الميم في "اللهمَّ" أعِوَضٌ من حرف النداء أم لا؟ 279
48- مسألة: هل يجوز ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه؟ 284
49- مسألة: هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي؟ 292
50- مسألة: ترخيم الرباعي الذي ثالثه ساكن 296
51- مسألة: القول في ندبة النكرة والأسماء الموصولة؟ 298

(1/342)


52- مسألة: هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة؟ 300
53- مسألة: اسم لا المفرد النكرة، معرب أو مبني؟ 302
54- مسألة: هل تقع "من" لابتداء الغاية في الزمان؟ 306
55- مسألة: واو رب، هل هي التي تعمل الجر؟ 311
56- مسألة: القول في إعراب الاسم الواقع بعد "مذ" و"منذ" 316
57- مسألة: هل يعمل حرف القسم محذوفا بغير عوض؟ 325
58- مسألة: اللام الداخلة على المبتدأ، لام الابتداء أو لام جواب القسم؟ 330
59- مسألة: القول في أيمن في القسم، مفرد هو أو جمع؟ 334

(1/343)