الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

المجلد الثاني
مسألة القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه
...
بسم الله الرحمن الرحيم
60- مسألة: [القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض لضرورة الشعر. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك بغير الظرف وحرف الجر.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن العرب قد استعملته كثيرًا في أشعارها، قال الشاعر:
[265]
فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَّةٍ ... زَجَّ القَلُوصَ أَبِي مَزَادَهْ
__________
[265] هذا البيت من الشواهد التي لا يعرف قائلها، ولا يعرف له سوابق أو لواحق، حتى قال جار الله في المفصل "1/ 291 بتحقيقنا": "وما يقع في بعض نسخ الكتاب من قوله:
فزججتها بمزجة.... البيت
فسيبويه بريء من عهدته" ا. هـ، وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في شرح الكافية في باب الإضافة، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 251" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "ص341" وابن جني في الخصائص "2/ 406" والأشموني "رقم 656 بتحقيقنا" وزججتها: طعنتها بالزج، والزج -بضم الزاي وتشديد الجيم- الحديدة التي تركب في أسفل الرمح، فأما الحديدة التي تركب في أعلى الرمح فهي السنان -بزنة الكتاب- ويروى "فزخختها" بخاءين مكان الجيمين، ماضٍ من الزخ وهو الدفع مطلقًا، أو الدفع في وهدة، والمزجة -بكسر الميم وفتح الزاي وتشديد الجيم- الرمح القصير كالمزراق، والمزخة في الرواية الأخرى: اسم الآلة من الزخ، والقلوص -بفتح القاف- الناقة الشابة، وأبو مزادة: كنية رجل، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "زج القلوص أبي مزادة" فيمن رواه بفتح القلوص وجر أبي مزادة بالياء نيابة عن الكسرة، حيث فصل بين المضاف =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "2/ 237 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 71 بولاق" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص339" وشرح الرضي على الكافية "1/ 270".

(2/349)


والتقدير: زج أبي مَزَادَةَ القَلُوصَ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالقلوص، وهو مفعول، وليس بظرف ولا حرف خفض، وقال الآخر:
[266]
تمرُّ على ما تستمرُّ، وقد شَفَتْ ... غَلَائِلَ عبدُ القَيْسِ منها صُدُورِهَا
__________
= الذي هو قوله زج والمضاف إليه الذي هو قوله أبي مزادة بمفعول المضاف الذي هو قوله القلوص، وبيان ذلك أن زج مصدر فعل يتعدى إلى المفعول به، فهو يعمل عمل الفعل المتعدي: يرفع فاعلا، وينصب مفعولا، وتجوز إضافته إلى أيهما شاء المتكلم ثم يأتي بعد ذلك بالآخر، وقد أراد المتكلم ههنا أن يضيف هذا المصدر إلى فاعله وهو أبو مزادة، ففعل ذلك، ولكنه جاء بالمفعول بين المضاف والمضاف إليه، ولو أنه اتبع المهيع لقال: زج أبي مزادة القلوص، أو لقال: زج القلوص أبو مزادة، فأضاف المصدر إلى فاعله ثم أتى بمفعوله أو أضاف المصدر إلى مفعوله ثم أتى بفاعله، فلما لم يفعل أحد الوجهين مع تمكنه منه بغاية اليسر علمنا أنه لا يرى بهذا الفصل بأسًا، وأنه يعتقد جوازه من غير ضرورة ولا شذوذ، قال ابن اجني: "وفي هذا البيت عندي دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول، ألا تراه ارتكب ههنا الضرورة -مع تمكنه من ترك ارتكابها- لا لشيء غير الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول" ا. هـ.
[266] هذا البيت من الشواهد التي لا يعرف قائلها، بل ذكر المؤلف أنه مصنوع، وقد استشهد به رضي الدين في باب الإضافة في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 250" وذكر أن ابن السيد أنشده في أبيات المعاني عن الأخفش، وتمر: من المرور، وتستمر: من الاستمرار، والغلائل: جمع غليل وهو الضغن، وشفي: أصله أن يقال: "شفى الله المريض يشفيه" أي أذهب عنه العلة، وشفاء الضغن: يراد به ذهابه واقتلاعه من الصدور، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "شفت غلائل عبد القيس منها صدورها" فقد زعم الكوفيون أن الشاعر قد فصل بين المضاف الذي هو قوله غلائل والمضاف إليه الذي هو قوله صدورها بأجنبي وهو فاعل شفت الذي هو قوله عبد القيس والجار والمجرور الذي هو قوله منها، وأصل الكلام على هذا التخريج: وقد شفت عبد القيس منها غلائل صدورها، وفي البيت تخريج آخر يخرجه عن الاستشهاد لهذه المسألة، وذلك أن تجعل غلائل مقطوعًا عن الإضافة وإنما ترك تنوينه لكونه، على صيغة منتهى الجموع فهو ممنوع من الصرف، وتجعل قوله "صدورها" بالجر مضافًا إلى محذوف مماثل للمذكور، وأصل الكلام على هذا: وقد شفت غلائل عبد القيس منها غلائل صدورها، وكل ما في البيت على هذا التخريج أن الشاعر قدم المفعول على الفاعل وحذف المضاف لدلالة ما تقدم عليه، فأما تقديم المفعول فلا ينازع أحد في جوازه، وأما حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره فله نظائر منها قراءة من قرأ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} بجر "الآخرة" على تقدير: والله يريد ثواب الآخرة ومنها قول ابن قيس الرقيات، وهو الشاهد رقم 19 السابق:
رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
فإن هذا البيت يخرج على تقدير: رحم الله أعظما دفنوها بسجستان أعظم طلحة الطلحات.

(2/350)


والتقدير: شفت غلائل صدورها عبد القيس منها، ففصل بين المضاف والمضاف إليه، وقال الآخر:
[267]
يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَمْ تُرَعْ ... بِوَادِيهِ مِنْ قَرْعِ القِسِيَّ الكَنَائِنِ
__________
[267] هذا البيت من كلام الطرماح بن حكيم "انظر الديوان 169" وقد أنشده ابن منظور "ح وز" وابن جني في الخصائص "2/ 406 ط الدار" وابن الناظم في شرح ألفية والده ابن مالك، وشرحه العيني "3/ 462 بهامش الخزانة" والبيت في وصف بقر الوحش، وتطفن: أي تدرن حوله، تقول: طاف الرجل بالقوم، وطاف عليهم، وأطاف أيضًا: أي استدار، وأطاف فلان بالأمر؛ إذا أحاط به، وأنشد أبو الجراح:
أطفئت به نهارا غير ليل ... وألهى ربها طلب الرجال
وقال أبو خراش:
أطفت عليه الطير وهو ملحب ... خلاف البيوت عند محتمل الصرم
وأصل الحوزي: التوحد المنفرد، وأراد به في بيت الشاهد فحل البقر الوحشي الذي يصفه، والمراتع: جمع مرتع وهو مكان الرتع، يريد أنه منفرد بهذه الأماكن يرتع فيها ما شاء، ولم يرع -بالبناء للمجهول- أي لم يخف، والقرع: الضرب، والقسي جمع قوس، والكنائن: جمع كنانة، وهي جراب توضع فيه السهام. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "قرع القسي الكنائن" فإن الرواية فيه بنصب "القسي" وجر "الكنائن" فيكون تخريجه على أن قوله "قرع" مصدر مضاف إلى قوله "الكنائن" الذي هو فاعل المصدر، وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله "القسي" الذي هو مفعول المصدر ونظير ذلك قراءة ابن عامر في الآية 137 من سورة الأنعام التي تلاها المؤلف {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} بنصب "أولادهم" وجر "شركائهم" على أن قتل" مصدر مضاف إلى فاعله وهو قوله {شُرَكَاؤُهُمْ} وقد فصل بينهما بمفعول المصدر وهو قوله {أَوْلادِهِمْ} ومثل ذلك أيضًا قول الشاعر:
عتوا إذا أجبناهم إلى السلم رأفة ... فسقناهم سوق البغاث الأجادل
الرواية فيه بنصب "البغاث" وجر "الأجادل" ومجازها أن قوله "سوق" مصدر مضاف إلى فاعله وهو قوله "الأجادل" وقد فصل بينهما بمفعول المصدر وهو قوله "البغاث" وأصل الكلام: فسقناهم سوق الأجادل البغاث، ومثله قول عمرو بن كلثوم:
وحلق الماذي والقوانس ... فداسهم دوس الحصاد الدائس
الرواية بنصب "الحصاد" وجر "الدائس" وتخريجها أن "دوس" مصدر مؤكد لعامله وهو مضاف إلى فاعله الذي هو قوله "الدائس" وقد فصل بينهما بمفعول المصدر الذي هو قوله "الحصاد" وأصل الكلام: فداسهم دوس الدائس الحاصد. ونظيره قول أبي جندل الطهوي:
يفركن حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج
الرواية فيه بنصب "القطن" وجر "المحالج" وتخريجها أن قوله "فرك" مصدر مؤكد لعامله الذي هو قوله "يفركن" وقد أضاف هذا المصدر إلى فاعله الذي هو قوله "المحالج" وفصل بينهما بمفعول المصدر وهو قوله "القطن" وأصل الكلام: فرك المحالج القطن.

(2/351)


والتقدير: مِنْ قَرْعِ الكَنَائِنِ القِسِيَّ، وقال الآخر:
[268]
فَأَصْبَحَتْ بَعْدَ خَطِّ بَهْجَتِهَا ... كأنَّ قَفْرًا رُسُومَهَا قَلَمَا
والتقدير: بعد بهجتها، ففصل بين المضاف الذي هو "بعد" والمضاف إليه الذي هو "بهجتها" بالفعل الذي هو "خط" وتقدير البيت: فأصبحت قفرًا بعد بهجتها كأن قلما خط رسومها. وقد حكى الكسائي عن العرب: هذا غلام والله زيد، وحكى أبو عبيدة قال: سمعت بعض العرب يقول: إن الشاة لَتَجْتَرُّ فتسمع صوت والله رَبِّهَا، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله "والله"، وإذا جاء هذا في الكلام ففي الشعر أولى، وقد قال ابن عامر أحد القراء السبعة {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} بنصب "أولادهم" وجر "شركائهم" ففصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله "أولادهم" والتقدير فيه: قتلُ شركائِهِم أولادَهم، ولهذا كان منصوبًا في هذه القراءة، وإذا جاء في القرآن ففي الشعر أولى.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد؛ فلا يجوز أن يفصل بينهما، وإنما جاز الفصل بينهما بالظرف وحرف الجر، كما قال عمرو بن قَمِيئَةَ:
[269]
لَمَّا رَأَتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ ... للهِ دَرُّ اليوم مَنْ لَامَهَا
__________
[268] أنشد ابن منظور هذا البيت "خ ط ط" ولم يعزه، وهذا البيت مهلهل النسج مضطرب التركيب، يصف الشاعر فيه الديار بالخلاء وارتحال الأنيس وذهاب المعالم، وأصل نظام البيت هكذا: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلما خط رسومها؛ ففصل بين أصبح وخبرها، وبين المضاف والمضاف إليه، وبين الفعل ومفعوله، وبين كأن واسمها، وقدم خبر كأن عليها وعلى اسمها، فصار أحجية من الأحاجي، واستشهاد المؤلف به في قوله "بعد خط بهجتها" حيث فصل بين المضاف الذي هو قوله "بعد" والمضاف إليه وهو وقوله "بهجتها" بأجنبي وهو قوله "خط" وهو فعل ماضٍ فاعله مستتر فيه يعود إلى القلم الذي في آخر البيت، ومفعول خط هو قوله "رسومها" وأصل هذه العبارة: كأن قلما خط "هو" رسومها.
[269] هذا البيت من كلام عمرو بن قميئة صاحب امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم، وهو الذي يقول فيه:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
والبيت من شواهد سيبويه "1/ 91" والزمخشري في المفضل "رقم 99" وابن يعيش في شرح المفصل "ص339" ورضي الدين في باب الإضافة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 247" وساتيدما: جبل عند ميافارقين، واستعبرت: بكت من وحشة الغربة ولبعدها عن أهلها، والعرب تقول "لله در فلان" إذا دعوا له أو تعجبوا من =

(2/352)


ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف؛ لأن التقدير لله در من لامها اليوم، وقال أبو حيّة النّميري:
[270]
كما خُطَّ الكتابُ بِكَفّ يومًا ... يهوديّ يُقَارِبُ أو يُزِيلُ
__________
= بلوغه الغاية في شيء ما، وصف الشاعر امرأة نظرت إلى ساتديما فذكرت به بلادها فاستعبرت شوقًا إليها، ثم قال: لله در من لامها اليوم على بكائها، يتعجب من شأن لائمها وينكر عليه فعله؛ لأنها عنده قد بكت بحق فلا محل للومها. ومحل الاستشهاد هنا بهذا البيت قوله "در اليوم من لامها" فإن قوله "در" مضاف وقوله "من لامها" اسم موصول مضاف إليه، وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وهو قوله "اليوم".
[270] هذا البيت من كلام أبي حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، وهو من شواهد سيبويه "1/ 91" وابن جني في الخصائص "2/ 405" والأشموني "رقم 662" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 358" وابن عقيل "رقم 240" وشرحه العيني "3/ 470 بهامش الخزانة" ورواه ابن منظور "ع ج م" غير أنه روى صدره:
كتحبير الكتاب بكف يوما
وصف أبو حية رسوم الدار فشبهها بالكتاب في دقتها والاستدلال بها، وخص اليهودي لأن اليهود هم أهل الكتابة، وجعل كتابته بعضها متقاربًا وبعضها مفترقًا متباينًا لاقتضاء آثار الديار تلك الصفة والحال، ومعنى قوله "يزيل" يفرق ما بينها ويباعد. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "بكف يوما يهودي" فإن قوله "كف" مضاف إلى قوله "يهودي" وقد فصل بينهما بالظرف وهو قوله "يوما" وهذا الظرف أجنبي من المضاف إذ لا عمل له فيه، وهو نظير بيت عمرو بن قميئة "رقم 269" ونظيرهما قول الآخر وهو من شواهد الأشموني "رقم 658":
فرشني بخير لا أكونن ومدحتي ... كناحت يوما صخرة بعسيل
ومحل الاستشهاد به في قوله "كناحت يوما صخرة" فإن قوله "ناحت" مضاف إلى قوله "صخرة" وقد فصل بينهما بالظرف وهو قوله "يوما" غير أن هذا الظرف متعلق بالمضاف الذي هو قوله ناحت، لأن هذا المضاف اسم فاعل يعمل عمل الفعل فيجوز أن يتعلق به الظرف، ونظيره قول الآخر وهو من شواهد سيبويه "1/ 90" وابن يعيش "ص339".
رب ابن عم لسليمى مشمعل ... طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
عند من رواه بجر "زاد الكسل" فإن هذه الرواية تخرج على أن قوله "طباخ" مضاف إلى قوله "زاد الكسل" وقد فصل بينهما بالظرف وهو قوله "ساعات الكرى" وهذا الظرف منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، ويروى بنصب "زاد الكسل" وتخرج على أنه أضاف قوله "طباخ" إلى "ساعات الكرى" ويكون قوله "زاد الكسل" مفعولا به لقوله طباخ، وفاعله ضمير مستتر فيه، ونظيره تمامًا ما أنشده سيبويه.
يا سارق الليلة أهل الدار
يروى بنصب "أهل الدار" على أنه أضاف قوله "سارق" إلى الظرف، ويروى بجر "أهل الدار" على أنه أضاف قوله "سارق" إلى قوله "أهل الدار" وفصل بينهما بالظرف الذي هو قوله "الليلة".

(2/353)


ففصل بين المضاف والمضاف إليه؛ لأن تقديره: بكف يهودي يومًا، وقال ذو الرمة:
[271]
كَأَنَّ أصواتَ من إِيغَالِهِنَّ بنا ... أَوَاخِرَ المَيْسِ أَصْوَاتُ الفَرَارِيج
وقال امرأةٌ من العرب دُرْنَا بنتُ عَبْعَبَةَ الجَحْدَرِيَّة، وقيل: عَمْرَةُ الجُشَمِيَّة:
[272]
هما أَخَوَا في الحرب مَنْ لا أخا لَهُ ... إذا خاف يومًا نبوةً فدعاهما
__________
[271] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وهو من شواهد سيبويه "1/ 92" وابن جني في الخصائص "2/ 404" ورضي الدين في باب الإضافة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 119 و250" و"من" للتعليل، والإيغال: الإبعاد، تقول: "أوغل في الأرض" إذا أبعد فيها، والضمير يعود إلى الإبل، والأواخر جمع آخرة الرحل، وهي العود الذي يستند إلى الركب، والميس -بفتح الميم وسكون الياء. شجر تتخذ منه الرحال والأقتاب، وإضافة الأواخر إليه على معنى من، مقل الإضافة في قولهم: باب ساج، وخاتم فضة، والفراريج: جمع فروج، وهو الصغير من الدجاج، ويروى "إنقاض الفراريج" بكسر الهمزة، والإنقاض: مصدر "أنقضت الدجاجة" أي صوتت، ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله: "أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس" فإن قوله: "أصوات" مضاف إلى قوله: "أواخر الميس" وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالجارين والمجرورين اللذين هما قوله: "من إيغالهن بنا" وأصل الكلام: كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا، وسنذكر لك نظائر هذا مع شرح الشاهد الآتي:
[272] هذا البيت لشاعرة من شواعر العرب من كلمة ترثي فيها أخوين لها، وقد اختلف الرواة في تسميتها، فسماها سيبويه والزمخشري وابن يعيش "درنا بنت عبعبة، من قيس بن ثعلبة" وسماها أبو تمام في ديوان الحماسة عمرة الخثعمية، وروى الخطيب التبريزي عن أبي رياش أن الصواب أن قائل الأبيات "درماء بنت سيار بن عبعبة الجحدرية" والبيت من شواهد سيبويه "1/ 93" والزمخشري في المفصل "رقم 100 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص340" وابن جني في الخصائص "2/ 405" وابن الناظم، وشرحه العيني "3/ 472 بهامش الخزانة" وأصل النبوة -بفتح وسكون الباء الموحدة- أن يضرب بالسيف فلا يمضي في الضريبة، رثت أخويها فهي تقول: لقد كانا لمن ليس له أخ في الحرب ولا ناصر يأخذ بيده أخوين: ينصرانه إذا دهمه العدو، ويأخذان بيده إذا غشيه الهول فخاف ألا يستطيع دفع الهلاك عن نفسه، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "أخوا في الحرب من لا أخا له" فإن قوله: "أخوا" مثنى الأخ مضاف إلى الاسم الموصول وهو قوله: "من" وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو قوله: "في الحرب" وأصل الكلام: هما أخوا من لا أخا له في الحرب، ونظيره -فيما رأى ابن مالك- الحديث "هل أنتم تاركو لي صاحبي" فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "تاركو" مضاف وقوله: "صاحبي" مضاف إليه، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور الذي هو قوله: "لي" ونظيره قول الشاعر:
لأنت معتاد في الهيجا مصابرة ... يصلى بها كل من عاداك نيرانا
=

(2/354)


ففصل بين المضاف والمضاف إليه؛ لأن تقديره: هما أخوا من لا أخا له في الحرب؛ لأن الظرف1 وحرف الجر يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، فبقينا فيما سواهما على مقتضى الأصل.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما أنشدوه فهو مع قلّته لا يعرف قائله؛ فلا يجوز الاحتجاج به.
وأما ما حكى الكسائي من قولهم "هذا غلامُ واللهِ زيدٍ" وما حكاه أبو عبيده عن بعض العرب من قولهم "فتسمع صَوْتَ والله رَبِّهَا" فنقول: إنما جاء ذلك في اليمين لأنها تدخل على أخبارهم للتوكيد، فكأنهم لما جازوا بها موضعها استدركوا ذلك بوضع اليمين حيث أدركوا من الكلام؛ ولهذا يسمونها في مثل هذا النحو "لغوًا" لزيادتها في الكلام في وقوعها غير موقعها.
والذي يدل على صحة هذا أنا أجمعنا وإياكم على أنه لم يجئ عنهم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير اليمين في اختيار الكلام.
وأما قراءة من قرأ من القراء: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} فلا يَسُوغُ لكم الاحتجاج بها: لأنكم لا تقولون بموجبها؛ لأن الإجماع واقع على امتناع الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول في غير ضرورة الشعر، والقرآن ليس فيه ضرورة، وإذا وقع الإجماع على امتناع الفصل [به] بينهما في حال الاختيار سقط الاحتجاج بها على حالة الاضطرار، فبان أنها إذا لم يجز أن تجعل حجّة في النظير لم يجز أن تجعل حجة في النقيض.
والبصريون يذهبون إلى وَهْي هذه القراءة وَوَهْم القارئ؛ إذ لو كانت صحيحة لكان ذلك من أفصح الكلام، وفي وقوع الإجماع على خلافه دليل على وَهْيِ القراءة، وإنما دعا ابن عامر إلى هذه القراءة أنه رأى في مصاحف أهل الشأم "شركائهم" مكتوبا بالياء ومصاحف أهل الحجاز والعراق "شركاؤهم" بالواو، فدلّ2 على صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.
__________
= والاستشهاد في قوله "معتاد" في الهيجا مصابرة" فإن قوله "معتاد مضاف إلى قوله "مصابرة" وقد فصل بينهما بالجار والمجرور وهو قوله "في الهيجا" وأصل الكلام: لأنت معتاد مصابرة في الهيجا.
__________
1 قوله "لأن الظرف وحرف الجر يتسع فيهما" تعليل لقوله فيما سبق "وإنما جاز الفصل بينهما بالظرف وحرف الجر".
2 أي فدلَّ وهي القراءة وعدم صحة الاستدلال بها على صحة ما ذهبنا إليه.

(2/355)


61- مسألة: [هل تجوز إضافة الاسم إلى اسم يوافقه في المعنى؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان. وذهب البصريون أنه لا يجوز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء في كتاب الله وكلام العرب كثيرًا، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليقينِ} [الواقعة: 95] واليقين في المعنى نعت للحق؛ لأن الأصل فيه الحق اليقين، والنعت في المعنى هو المنعوت، فأضاف المنعوت إلى النعت وهما بمعنى واحد، وقال تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] والآخرة في المعنى نعت الدار، والأصل فيه وللدار الآخرة خير، كما قال تعالى في موضع آخر: {ولَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [الأنعام: 32] فأضاف دار إلى الآخرة، وهما بمعنى واحد، وقال تعالى: {جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ: 9] والحب في المعنى هو الحصيد، وقد أضافه إليه، وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] والجانب في المعنى هو الغربي، ثم قال الراعي:
[372]
وقَرَّبَ جانب الغربي يَأْدُو ... مَدَبَّ السَّيلِ، واجتنب الشِّعَارَا
__________
[273] أنشد ابن منظور هذا البيت "د ب ب -ش ع ر" ولم يعزه، والبيت في وصف الحمار وحش، ودب السيل -بفتح الميم وداله مفتوحة أو مكسورة- موضع جريه، ويقال "تنح عن مدب السيل" بفتح الدال وكسرها، أي ابتعد عن مكان جريه والشعار -بفتح الشين بزنة السحاب، عن ابن السكيت والرياشي، وقال شمر والأصمعي هو بكسر الشين بزنة الكتاب مثل شعار المرأة -وهو الشجر الملتف، وقيل: هو ما كان من الشجر في لين ووطاء من الأرض يحله الناس يستدفئون به في الشتاء ويستظلون به في القيظ، ويقال "أرض ذات شعار" أي ذات شجر، يريد الشاعر أن هذا الحمار الوحشي قد اجتنب الشجر مخافة أن =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "2/ 215 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "2/ 40 بولاق" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص329 وما بعدها إلى 333" وشرح الرضي على الكافية "1/ 263-266".

(2/356)


ومن ذلك قولهم "صَلَاةُ الأولى، ومَسْجدُ الجامع، وبَقْلَةُ الحمقاء" والأولى في المعنى هي الصلاة، والجامع هو المسجد، والبقلة هي الحمقاء، وقد أضافوها إليها، فدل على ما قلناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز لأن الإضافة إنما يراد بها التعريف والتخصيص، والشيء لا يتعرف بنفسه، لأنه لو كان فيه تعريف كان مستغنيًا عن الإضافة، وإن لم يكن فيه تعريف كان بإضافته إلى اسمه أبعد من التعريف؛ إذ يستحيل أن يصير شيئًا آخر بإضافة اسمه إلى اسمه؛ فوجب أن لا يجوز كما لو كان لفظهما مُتَّفِقًا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما احتجوا به فلا حجة لهم فيه؛ لأنه كله محمول على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه، أما قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليقينِ} [الواقعة: 95] فالتقدير فيه: حق الأمر اليقين، كما قال تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي دين الملة القيمة، وأما قوله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] فالتقدير فيه: ولدار الساعة الآخرة، وأما قوله تعالى: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ: 9] أي حب الزرع الحصيد، ووصف الزرع بالحصيد، وهو التحقيق1؛ لأن الحب اسم لما ينبت في الزرع، والحصد إنما يكون للزرع الذي ينبت فيه الحب، لا للحب، ألا ترى أنك تقول "حصدت الزرع" ولا تقول "حصدت الحب" وأما قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] فالتقدير فيه: بجانب المكان الغربيّ، وأما قولهم "صلاة الأولى" فالتقدير فيه: صلاة الساعة الأولى، وأما قولهم "مسجد الجامع" فالتقدير فيه: مسجد الموضع الجامع، وأما قولهم "بقلة الحمقاء" فالتقدير فيه: بقلة الحبة الحمقاء2؛ لأن البقلة اسم لما نبت من تلك الحبة، ووصف الحبة بالحمق، وهو التحقيق1؛ لأنها الأصل، وما نَبَتَ
__________
= يرمى فيها ولزم مدرج السيول لأن الصيادين يبتعدون عنه، ومحل الاستشهاد عن المؤلف بهذا البيت في هذا الموضع قوله "جانب الغربي" فإن المراد بالجانب هو نفس المراد بالغربي عن الكوفيين، وقد أضاف الشاعر "جانب" إلى "الغربي" فيكون قد أضاف اسمًا إلى اسم آخر بمعناه، وزعموا أن قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} من هذا القبيل، والبصريون يذهبون إلى أن الكلام تقدير مضاف يكون موصوفًا بما جعل مضافًا إليه، أي جانب المكان الغربي، فهو من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وهو تكلّف لا داعي له.
__________
1 كذا في الأصل في الموضعين، والراجح عندنا أن الواو في قوله "وهو التحقيق" زائدة، وأصل الكلام: ووصف الزرع بالحصيد هو التحقيق، وكذلك في الموضع الثاني.
2 في ر "بقلة الجنة الحمقاء" تحريف.

(2/357)


منها فرع عليها، فكان وصف الأصل بالحمق أولى من وصف الفرع، وإنما وصفت بذلك لأنها تنبت في مَجَارِي السيول فتقلعها، ولذلك يقولون في المثل "هو أحمق مِنْ رِجْلَةٍ" فإذا كان جميع ما احتجوا به محمولًا على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه على ما بيَّنَّا لم يكن لهم فيه حجّة، والله أعلم.

(2/358)


62- مسألة: ["كلا" و"كلتا" مثنيان لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "كلا، وكلتا" فيهما تثنية لفظية ومعنوية، وأصل كلا "كل" فخفّفت اللام، وزيدت الألف للتثنية، وزيدت التاء في "كلتا" للتأنيث، والألف فيهما كالألف في "الزيدان"، والعمران" ولزم حذف نون التثنية منهما للزومهما الإضافة.
وذهب البصريون إلى أن فيهما إفراًدا لفظيًّا وتثنية معنوية، والألف فيهما كالألف في "عصًا، ورحًا".
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنهما مثنَّيان لفظًا ومعنًى وأن الألف فيهما للتثنية النقل والقياس:
أما النقل فقد قال الشاعر:
[274]
في كِلْتَ رجليها سُلَامَى وَاحِدَهْ ... كِلْتَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ1
__________
[274] هذا البيت من شواهد رضي الدين في شرح الكافية "1/ 28" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 62 بولاق" وشرحه العيني "1/ 159 بهامش الخزانة" ومن شواهد الأشموني "رقم 18" وقد أنشده ابن منظور "ك ل ا" ولم أعثر له على نسبة إلى قائل معين، ويروى:
كلتاهما قد قرنت بزائده
والسلامى -بضم السين وتخفيف اللام، بزنة الحبارى- واحدة السلاميات، وهي العظام التي تكون بين كل مفصلين من مفاصل الأصابع في اليد أو الرجل. ومحل الاستشهاد بهذا البيت في هذا الموضع قوله "في كلت" فإن البغداديين والفراء زعموا أن "كلت" ههنا مفرد كلتا في نحو قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} وزعموا أن "كلا" و"كلتا" مثنَّيان لفظًا ومعنًى، والألف فيهما زائدة للدلالة على التثنية، والتاء في "كلتا" =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرحنا على شرح الأشموني "1/ 45" وحاشية الصبان "1/ 83 بولاق" وتصريح الشيخ خالد مع حاشية يس "1/ 80 بولاق" وشرح رضي الدين على الكافية "1/ 28" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص63 ليبزج".

(2/359)


فأفرد قوله "كِلْتَ" فدلَّ على أن "كِلْتَا" تثنية.
__________
= للتأنيث، وأصل كل واحد منهما قبل اللواحق "كل" بتشديد اللام -الذي يستعمل في نحو قولك "الأمر كله بيد الله" فحذفت لامها الثانية وكسرت كافها، ثم لو أردت المفرد المؤنث زدت التاء فقلت "كلت" كما قال الراجز "في كلت رجليها" وإذا أردت المثنى المذكر زدت الألف الدالة على التثنية فقلت "كلا الرجلين عندي رجل خير" وإذا أردت المثنى المؤنث زدت التاء للدلالة على التأنيث والألف للدلالة على التثنية فقلت "كلتا المرأتين عفيفة المئزر" وسيبويه رحمه الله وجمهور نحاة البصرة لا يرتضون هذا الكلام، وعندهم أن "كلا" و"كلتا" مفردان لفظًا مثنيان معنًى، والألف فيهما هي لام الكلمة، فوزن "كلا" فعل -بكسر الفاء وفتح العين، نظير رضا ومعى- وهذه الألف التي في "كلا" منقلبة عن واو، وقيل: عن ياء، ووزن "كلتا" فعلى مثل ذكرى -والتاء فيها هي لام الكلمة، وأصلها واو على ما اختاره ابن جني، واختار أبو علي أن أصلها ياء، أما الألف في "كلتا" فهي زائدة لدلالة التأنيث، قالوا: والدليل على أن هاتين الكلمتين مفردان لفظًا مثنيان معنًى أنه يخبر عنهما بالمفرد ويعود الضمير إليهما مفردًا، ولو كانا مثنيين لفظًا ومعنًى لما جاز أن يخبر عنهما بالمفرد ولا أن يعود إليهما الضمير مفردا، وأيضا فإنا نجد العرب جميعًا إذا أضافوهما إلى الاسم الظاهر يلزمونهما الألف في الرفع والنصب والجر نحو "كلا الرجلين مؤدب" ونحو "كلتا المرأتين صالحة" وهو "إن كلا هذين الرجلين مستقيم" وما أشبه ذلك ولو كانا مثنيين لفظا ومعنى لوجب أن يجيئا بالياء في حال النصب والجر في لسان أكثر العرب من غير تفرقة بين ما إذا كان المضاف إليه مضمرًا وما إذا كان مظهرًا، كسائر المثنيات، واستمع إلى ما نقله ابن منظور عن الجوهري، قال: "كلا في تأكيد الاثنين نظير كل في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى، فإذا ولي اسمًا ظاهرًا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، بالألف، تقول: رأيت كلا الرجلين، وجاءني كلا الرجلين، فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب فقلت: رأيت كليهما، ومررت بكليهما، وتبقى في الرفع على حالها، وقال الفراء: هو مثنى، مأخوذ من كل، فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية، وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين، ولم يتكلم منهما بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل، وكلت، وكلان، وكلتان، واحتج بقول الشاعر:
في كلت رجليها سلامى واحده
أراد في إحدى رجليها فأفرد، وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تنقلب ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر؛ ولأن معنى كلا مخالف لمعنى كل؛ لأن كلا للإحاطة، وكلا يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإنما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم نحن اسم مفرد يدل على الاثنين فما فوقهما" ا. هـ كلامه.
ونظير هذا الشاهد -في حذف الألف من "كلتا" بخصوصها- قول الشاعر الآخر، وهو من شواهد الرضي:
كلت كفيه توالي دائمًا ... بجيوش من عقاب ونعم
=

(2/360)


وأما القياس فقالوا: الدليل على أنها ألف التثنية أنها تنقلب إلى الياء في النصب والجر إذا أضيفتا إلى المضمر، وذلك نحو قولك: "رأيت الرجلين كليهما، ومررت بالرجلين كليهما، ورأيت المرأتين كلتيهما، ومررت بالمرأتين كلتيهما" ولو كانت الألف في آخرهما كالألف في آخر "عصًا، ورحًا" لم تنقلب كما لم تنقلب ألفهما نحو "رأيت عصاهما ورحاهما، ومررت بعصاهما ورحاهما" فلما انقلبت الألف فيهما انقلاب ألف "الزيدان، والعمران" دل على أن تثنيتهما لفظية ومعنوية.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن فيهما إفرادًا لفظيًّا وتثنية معنوية أن الضمير تارة يُرَدّ إليهما مفردًا حملًا على اللفظ، وتارة يردّ إليهما مثنى حملًا على المعنى.
فأما رَدُّ الضمير مفردًا حملًا على اللفظ فقد جاء ذلك كثيرًا، قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] فقال: {آتَتْ} بالإفراد حملًا على اللفظين ولو كان مثنى لفظًا ومعنًى لكان يقول: {آتَتْا} كما تقول: الزيدان ذهبا، والعمران ضربا، وقال الشاعر:
[275]
كِلَا أَخَوَيْنَا ذو رجال، كأنهم ... أُسُودُ الشّرَى من كل أَغْلَبَ ضَيْغَمِ
__________
= والعرب كما تشبع الحركات فتنشأ عنها حروف اللين "انظر الشواهد 6-17 في المسألة الثانية" تقطع حروف المد، وتحذفها مجتزئة بالحركات التي قبلها؛ لأنها مجانسة لها ودالة عليها "وانظر الشواهد 245-254 التي مرت في المسألة 56، ثم انظر لها نظائر في المسالة 72" وفي هذا القدر ما يكفي أو يغني.
[275] الشرى -بفتح الشين، بوزن الفتى- موضع تنسب إلى الأسود، ويقال للشجعان: هم أسود الشرى، قال بعضهم: شرى موضع بعينه تأوي إلى الأسود، وقيل: هو شرى الفرات وناحيته، وبه غياض وآجام ومأسدة، وقال الشاعر:
أسود شرى لاقت أسود خفية
والشرى: طريق في جبل سلمى أحد جبلي طيّئ كثير الأسد. والأغلب: يراد منه الأسد، والضيغم: الأسد أيضًا، وقيل: هو الواسع الشدق من الأسد، وأصل اشتقاقه من الضيغم وهو العض الشديد، ومحل الاستشهاد من البيت قوله "كلا أخوينا ذو رجال" فدل ذلك على أن "كلا" له جهة إفراد، وإلا لما صح الإخبار عنه بالمفرد؛ لأن المبتدأ والخبر يجب أن يتطابقا في الإفراد والتثنية والجمع، ولا تخلو جهة الإفراد في كلا أن تكون جهة اللفظ أو جهة المعنى، وقد اتفق الفريقان الكوفيون والبصريون على أن "كلا" مثنى في المعنى -وقد أخبر عن "كلا" بمفرد وهو قوله "ذو رجال"- فبقي جهة اللفظ، فوجب أن يكون مفردًا لفظًا، وهو ما ذهب إليه البصريون.

(2/361)


فقال "ذو" بالإفراد حملًا على اللفظ، ولو كان مثنى لفظًا ومعنًى لقال "ذَوَا" وقال الآخر:
[276]
كِلَا أَخَوَيكُم كان فَرْعًا دِعَامَة ... ولكنهم زَادُوا وأَصْبَحْتَ نَاقِصَا
فقال "كان" بالإفراد حملًا على اللفظ، ولم يقل "كانا" وقال الآخر:
[122]
أُكَاشِرُهُ وأعلم أن كِلَانَا ... على ما ساء صاحِبَهُ حَرِيصُ
فقال "حريص" بالإفراد ولم يقل "حريصان" وقال الآخر:
[277]
كلانا يا يزيد يحب ليلى ... بِفِيَّ وفِيكَ مِنْ ليلى التُّرَابُ
فقال "يحب" بالإفراد على ما بيَّنَّا. وقال الآخر:
[278]
كِلَانا ثَقَلَيْنَا وَاثِقٌ بِغَنِيمَةٍ ... وقد قَدَرَ الرَّحمن ما هو قادر
__________
[276] أنشد ابن منظور صدر هذا البيت "ك ل ا" ونسبه إلى الأعشى، ولكنه رواه "كلا أبويكم" كما في الديوان "109" وأصل الفرع -بفتح الفاء وسكون الراء- القوس يكون خير القسي ومنه قالوا: فرع فلان فلانًا، أي فاقه، وقالوا: فرع فلان القوم، تفرعهم: أي فاقهم وعلاهم، والدعامة -بكسر الدال وتخفيف العين- سيد القوم ورئيسهم، وقالوا: فلان دعامة عشيرته، يريدون أنه سيدها، والاستشهاد بهذا البيت هنا في قوله "كلا أخويكم كان فرعًا" حيث أعاد الضمير من "كان" على "كلا" وهو ضمير المفرد الغائب، فدلَّ على أن في "كلا أخويكم" جهة إفراد، وهي جهة اللفظ، على نحو ما بيناه في شرح الشاهد السابق.
[277] هذا البيت لمزاحم بن الحارث العقيلي، وكان يحب ليلى بنت مهدي صاحبة قيس بن معاذ المعروف بمجنون ليلى، وصحة رواية البيت مع بيتين يليانه هكذا:
كلانا يا معاذ يحب ليلى ... بفي وفيك من ليلى التراب
شركتك في هوى من كان حظي ... وحظك من مودتها العذاب
لقد خبلت فؤادك ثم ثنت ... بقلبي؛ فهو مخبول مصاب
ومعاذ: هو معاذ بن كليب العامرين كان مجنونا من مجانين ليلى، وكان مزاحم قد شركه في حبها، ويقال: إنه لما سمع هذه الأبيات من مزاحم التبس وخولط في عقله وقوله "بفي وفيك من ليلى التراب" دعاء على نفسه وعلى صاحبه بأنه يرجع كل منهما من حب ليلى بالخيبة من غير أن ينال حظا من مودتها. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "كلانا يحب ليلى" حيث أعاد الضمير من "يحب" مفردًا إلى "كلانا" فدل ذلك على أن لكلا جهة إفراد، وهي جهة اللفظ، على نحو ما قررناه في الشاهد 275، ونظير هذا البيت في الإخبار عن كلا بالمفرد قول ليلى العامرية:
كلانا مظهر للناس بغضًا ... وكل عند صاحبه مكين
فقال: "كلانا مظهر" فأخبر بالمفرد الذي هو "مظهر" عن "كلا" فهذا يدل على أن "كلا" مفرد لفظًا؛ لأن معناها مثنى بالإجماع.
[278] هذا البيت من كلام إياس بن مالك بن عبد الله المعني، وبعده قوله:
فلم أرَ يوما كان أكثر سالبًا ... ومستلبًّا سرباله لا يناكر
=

(2/362)


فقال "واثق" بالإفراد. وقال الآخر:
[279]
كِلَا يَوْمَيْ أُمَامَةَ يومُ صَدٍّ ... وإن لم نَأْتِهَا إلا لمَامَا
__________
=
وأكثر منا يافعا يبتغي العلا ... يضارب قرنا دارعًا وهو حاسر
وقد أنشد ابن منظور هذه الأبيات "ق د ر" وعزاها إليه. وثقل الرجل -بفتح الثاء والقاف جميعا- حشمه ومتاع بيته، وأراد به ههنا النساء، يقول: نساؤنا ونساؤهم طامعات في ظهور كل واحد من القبيلين على صاحبه، والأمر في ذلك يجري على ما قدره الله تعالى، و"مستلبًا سرباله" هو بنصب سرباله على أنه مفعول ثان لمستلب، وفي مستلب ضمير مستتر هو نائب فاعله وهو المفعول الأول. وأراد بقوله "لا يناكر" أنه لا ينكر ذلك لأنه مصروع قد قتل، ومن الناس من يرويه برفع "سرباله" على أنه هو نائب الفاعل وليس في مستلب ضمير، واليافع: المترعرع الداخل في عصر شبابه، والدارع: لابس الدرع، والحاسر: الذي لا درع عليه، و"قدر" في البيت الأول هو بالتخفيف و"قادر" اسم الفاعل منه، وفي حديث الاستخارة: "فاقدره لي ويسّره عليّ" ومعناه اقضِ لي به وهيّئ لي أسبابه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله "كلا ثقلينا واثق" حيث أخبر بواثق وهو مفرد عن "كلا" فوجب أن يكون "كلا" مفردا لوجوب توافق المبتدأ والخبر، ولما كان "كلا" مثنى من جهة المعنى بالإجماع وجب أن يكون مفردًا من جهة اللفظ ليتم توافق المبتدأ وخبره، وهذا رأي البصريين في "كلا" أنها مفرد لفظًا مثنًى معنًى.
[279] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي "د539" من قصيدة يقولها لهريم وهلال بن أحوز المازني، وأولها قوله:
ألا حي المنازل والخياما ... وسكنا طال فيها ما أقاما
وقد أنشد ابن منظور بيت الشاهد "ك ل ا" وعزاه إليه؛ ورواية اللسان مثل رواية المؤلف ههنا، ولكن الذي في ديوان جرير "كلا يومي أمامه يوم صدق" أي يوم صالح، والذوق يشهد أن رواية الديوان خير مما هنا، وتقول "فلان لا يزورنا إلا لماما" تريد أنه يزور في بعض الأحيان على غير مواظبة، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "كلا يومي أمامة يوم" حيث أخبر بيوم وهو مفرد عن "كلا" وذلك يدل على أن "كلا" مفرد، على نحو ما قررناه في الشواهد السابقة، ونظير بيت جرير قول امرئ القيس بن حجر الكندي:
كلانا إذا ما نال شيئا أفاته ... ومن يحترث حرثي وحرثك ينسل
ألا تراه قد أعاد الضمير على كلانا مفردا في "نال" وفي "أفاته" ومثله قول عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب:
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
فأخبر عن "كلا" بالمفرد هو قوله "غني" وأعاد الضمير إليه مفردًا في قوله "عن أخيه" وفي قوله "حياته"، ونظير ذلك قول القتال الكليبي:
تضمنت الأروى لنا بطعامنا ... كلانا له منها نصيب ومأكل
فأعاد الضمير إلى كلانا مفردًا في قوله "له" وعلى وجه الإجمال إنك لتجد العرب يراعون في "كلا" الإفراد أكثر مما يراعون التثنية، وعلى ذلك جرى أكثر كلامهم.

(2/363)


فقال "يوم" بالإفراد. وقال أبو الأَخْزَرِ الحِمَّانِيُّ:
[280]
فكلتاهما خرَّت وأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كما سجدت نَصْرَانَةٌ لم تَحَنَّفِ
فقال "خرت" بالإفراد. وقال الآخر:
[281]
فكلتاهما قد خُطَّ لي في صَحِيفَةٍ ... فلا العيش أهواهُ ولا الموتُ أَرْوَحُ
__________
[280] أنشد ابن منظور هذا البيت "ن ص ر" وعزاه لأبي الأخزر الحماني، وقال: إنه يصف ناقتين طأطأتا رءوسها من الإعياء، فشب رأس الناقة في تطأطئها برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. وقول "أسجد رأسها" هو لغة في "سجد رأسها" تقول: أسجد الرجل، إذا طأطأ رأسه وانحنى، وكذلك تقول "أسجد البعير" ومنه قول الأسدي وأنشده أبو عبيد:
وقلن له اسجد لليلى فأسجدا
والنصرانة: واحدة النصارى، والمذكر عند الخليل نصران، وجعله نظير ندمان وندمانة وندامى، وقال ابن بري: قوله أن النصارى جمع نصران ونصرانة إنما أريد بذلك الأصل دون الاستعمال، وإنما المستعمل في الكلام نصراني ونصرانية، وإنما جاء نصرانة في بيت الأخزر على جهة الضرورة، وقوله "لم تحنف" أي لم تختتن، هذا أشبه ما يراد بهذه الكلمة ههنا، ويأتي تحنف بمعنى اعتزل الأصنام، وبمعنى عمل عمل الحنيفية، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "كلتاهما خرت وأسجد رأسها" حيث أعاد الضمير على "كلتا" مفردًا في قوله "خرت" وفي قوله "رأسها" فهذا يدل على أن "كلتا" عنده لها جهة إفراد، وإلا لما صح عود الضمير مفردًا عليها؛ لأن ضمير الغيبة يجب أن يطابق مرجعه إفرادًا وتثنية وجمعًا، وقد أجمع أهل البلدين على أن "كلتا" من جهة المعنى مثنى فلم يبقَ إلا جهة اللفظ، فوجب أن يكون "كلتا" مفردًا لفظًا.
[281] خط -بالبناء للمجهول- كتب، تقول: "خط فلان بالقلم، أو غيره، من مثال مد" أي كتب، و"خط الشيء يخطه" كتبه، والصحيفة: ما يكتب فيه، وتجمع على صحائف وهو قياس نظرائها، وتجمع أيضًا على صحف -بضم الصاد والحاء جميعًا- وفي التنزيل العزيز: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ونظير صحيفة وصحف قولهم: سفينة وسفن، شبهوهما بما لا تاء فيه من نحو قضيب وقضب وقليب وقلب، ومن العلماء من يثبت صحيفا -بغير تاء- فيكون الصحف جمع صحيف، كما أثبتوا سفينًا أيضًا -فيكون السفن جمع سفين، وقد يقال: إنهم جمعوا صحيفة وسفينة على صحيف وسفين ثم جمعوا صحيفًا وسفينًا الجمع على صحف وسفن، وانظر إلى قول طرفة بن العبد البكري:
عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طورًا ويهتدي
تجد قوله: "أو من سفين ابن يامن" دالًا على الجمع، فيكون ما ذهبنا إلى أدق وأقيس وقوله "ولا الموت أروح" من قولهم "روح الشيء يروح روحًا -مثل فرح يفرح فرحًا" إذا كان أجلب للراحة. والاستشهاد بالبيت في قوله "كلتاهما قد خط" حيث أعاد الضمير إلى "كلتاهما" مفردًا في قوله "قد خط" فذلك يدل على أن لكلتا جهة إفرادًا، وهي جهة لفظه، لأنه من جهة المعنى مثنى باتفاق من الكوفيين والبصريين جميعًا على نحو ما قررناه في الشواهد السابقة، وكان من حق العربية عليه أن يقول "فكلتاهما قد خطت" فيؤنث الفعل؛ =

(2/364)


فقال: "خُطَّ" بالإفراد، والشواهد على هذا النحو كثيرًا جدًّا.
وأما رَدُّ الضمير مثنى حملًا على المعنى فعلى ما حكي عن بعض العرب أنه قال "كِلَاهُمَا قَائِمَان، وكِلْتَاهُمَا لقيتهما" وقال الشاعر:
[282]
كلاهما حين جَدَّ الجَرْيُ بينهما ... قد أَقْلَعَا، وكلا أَنْفَيهِمَا رَابِي
__________
= لأن الاستعمال العربي على أنه إذا كان الفاعل ضميرًا مؤنثًا وجب في غير الضرورة إلحاق تأء التأنيث بالفعل المسند إلى هذا الضمير سواء أكان مرجع الضمير حقيقي التأنيث نحو "زينب قامت" أم كان مجازي التأنيث نحو "الشمس طلعت" فاعرف هذا.
[282] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب، وكان جرير بن عطية قد زوج ابنته عضيدة للأبلق، فعيره الفرزدق وهجاه، وقيل البيت المستشهد به قوله:
ما كان ذنب التي أقبلت تعتلها ... حتى اقتحمت بها أسكفة الباب
ولم يقف العيني على سبب الشعر ولا السيوطي فزعما أن الكلام في وصف فرسين، وتبعهما العلامتان الصبان والأمير، والصواب ما ذكرناه، وهذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص64" وابن جني في الخصائص "2/ 421 و3/ 314" والأشموني "رقم 20" وابن هشام في المغني "رقم 339" والضمير في "كلاهما" وما بعده يعود إلى عضيدة وزوجها الأبلق، أو يعود إلى جرير وابنته على نوع من الالتفات فقد كان من حق الكلام عليه -إذا أراد ذلك- أن يقول "كلاكما" وتعتلها: تجذبها جذبا عنيفا، وبابه نصر أو ضرب، وأسكفة الباب -بفتح الهمزة وسكون السين وضم الكاف وتشديد الفاء مفتوحة- عتبته، و"أقلعا" كفا عنه وتركاه، و"رابي" منتفخ. والاستشهاد بالبيت في قوله "كلاهما قد أقلعا" وقوله "وكلا أنفيهما رابي" فقد أعاد الضمير إلى "كلاهما" في العبارة الأولى مثنى وذلك قوله "أقلعا" مراعاة لمعنى "كلا" وأخبر عن كلا في العبارة الثانية بمفرد، وذلك في قوله "رابي" مراعاة للفظ "كلا" فدل ذلك على أنه يجوز مراعاة لفظ "كلا" ومراعاة معناها، ويجوز الجمع بين الوجهين في الكلام الواحد، قال ابن جني في تخريج قوله قد أقلعا "هذا محمول على المعنى كما يحمل على معنى كل ومن، نحو قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ، وقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليكَ} وفي موضع آخر {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُون إليكَ} وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فأعاد الضمير على اللفظ تارة بالإفراد وعلى المعنى أخرى بالجمع، فكذلك كلا لفظه مفرد ومعناه التثنية فلك أن تحمل الخبر تارة على اللفظ فتفرده، وتارة على المعنى فتثنية" ا. هـ ومثل قوله "كلاهما قد أقلعا" في عود الضمير إلى كلا مثنى -قول الشاعر وأنشده أبو عمرو الشيباني:
كلا جانبيه يعسلان كلاهما ... كما اهتز خوط النبعة المتتابع
فأخبر بقوله "يعسلان" وفيه ضمير المثنى عن قوله "كلا جانبيه" وقوله "كلاهما" الثاني توكيد لكلا الأول مراعاة للمعنى أيضا، ويجوز أن يكون "كلاهما" الثاني توكيدًا للضمير في قوله "يعسلان" فاعرف ذلك.
ومن الجمع بين مراعاة لفظ "كلا" ومعناه قول الأسود بن يعفر في بعض الاحتمالات:
إن المنية والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سوادي

(2/365)


فقال "أقلعا" حملًا على المعنى، وقال "رابي" حملًا على اللفظ.
والحمل في "كلا، وكلتا" على اللفظ أكثر من الحمل على المعنى، ونظيرهما في الحمل على اللفظ تارة وفي الحمل على المعنى أخرى "كلٌّ" فإنه لما كان مفردًا في اللفظ مجموعًا في المعنى رُدّ الضمير إليه تارة على اللفظ وتارة على المعنى، كقولهم "كل القوم ضربته، وكل القوم ضربتهم" وقد جاء بهما التنزيل، قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93] فقال {آتِي} بالإفراد حملًا على اللفظ، وقال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] فقال {أَتَوْهُ} بالجمع حملًا على المعنى، إلا أن الحمل على المعنى في "كل" أكثر من الحمل على المعنى في "كلا، وكلتا".
والذي يدل على أن فيهما إفرادًا لفظيًّا أنك تضيفهما إلى التثنية فتقول: "جاءني كِلَا أَخَوَيكَ، ورأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك، وجاءني أَخَوَاكَ كِلَاهُمَا، ورأيتُهُمَا كِلَيْهِمَا، ومررت بهما كليهما" وكذلك حكم إضافة "كلتا" إلى المُظْهَر والمُضْمَر، فلو كانت التثنية فيهما لفظية لما جاز إضافتهما إلى التثنية؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه.
والذي يدل على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها تجوز إمالتها، قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} [الاسراء: 23] وقال تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] قرأهما حمزة والكسائي وخلف بإمالة الألف فيهما، ولو كانت الألف فيهما للتثنية لما جازت إمالتها؛ لأن ألف التثنية لا تجوز إمالتها.
والذي يدل أيضا على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها لو كانت للتثنية لانقلبت في حالة النصب والجر إذا أُضِيفَتَا إلى المظهر؛ لأن الأصل هو المظهر، وإنما المضمر فرعه، تقول: "رأيت كلا الرجلين، ومررت بكلا الرجلين"، وكذلك تقول في المؤنث: "رأيت كلتا المرأتين، ومررت بكلتا المرأتين" ولو كانت للتثنية لوجب أن تنقلب مع المظهر كما تنقلب مع المضمر؛ فلما لم تنقب دلَّ على أنها ألف مقصورة، وليست للتثنية.
والذي يدل على أن "كلا" ليست مأخوذة من "كُلّ" أن كُلّا للإحاطة وكِلَا لمعنًى مخصوص؛ فلا يكون أحدهما مأخوذًا من الآخر.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقول الشاعر:
[274]
في كِلْتَ رِجْلَيْهَا سُلَامَى واحده

(2/366)


فلا حجة فيه؛ لأن الأصل أن يقول "كلتا بالألف، إلا أنه حذفها اجتزاء بالفتحة عن الألف لضرورة الشعر، كما قال الآخر:
[254]
فلست بمدرك ما فات مني ... بَلَهْفَ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَ انِّي
[283]
وَصَّانِي العَجَّاجُ فيما وَصَّنِي
أراد "فيما وصاني". وهذا كثير في أشعارهم.
وأما قولهم "إن الألف فيهما تنقلب في حالة النصب والجر إذا أضيفتا إلى المضمر" قلنا: إنما قلبت في حالة الإضافة إلى المضمر لوجهين:
أحدهما: أنهما لما كان فيهما إفراد لفظي وتثنية معنوية، وكانا تراة يضافان إلى المظهر وتارة يضافان إلى المضمر -جعلوا لهما حظًّا من حالة الإفراد وحظًّا من حالة التثنية، فجعلوهما مع الإضافة إلى المظهر بمنزلة المفرد على صورة واحدة في حالة الرفع والنصب والجر، وجعلوهما مع الإضافة إلى المضمر بمنزلة التثنية في قلب الألف من كل واحد منهما ياء في حالة النصب والجر؛ اعتبارًا بكلا الشبهين. وإنما جعلوهما مع الإضافة إلى المظهر بمنزلة المفرد لأن المظهر هو الأصل والمفرد هو الأصل فكان الأصل أولى بالأصل، وجعلوهما مع الإضافة إلى المضمر بمنزلة التثنية لأن المضمر فرع والتثنية فرع فكان الفرع أولى بالفرع، وهذا الوجه ذكره بعض المتأخرين.
والوجه الثاني: وهو أَوْجَهُ الوجهين، وبه عَلَّلَ أكثر المتقدمين -وهو أنه إنما لم تُقْلَبْ الألف فيهما مع المظهر وقلبت مع المضمر لأنهما لزمتا الإضافة وجر الاسم بعدهما؛ فأشبهتا لَدَى وإلى وعَلَى، وكما أن لدى وإلى وعلى لا تقلب ألفها ياء مع المظهر نحو "لَدَى زيدٍ، وإلى عمروٍ، وعلى بكر" وتقلب مع المضمر نحو "لديك، وإليك، وعليك" فكذلك "كلا، وكلتا" لا تقلب ألفهما ياء مع المظهر، وتقلب مع المضمر.
__________
[283] هذا بيت من الرجز المشطور من كلام رؤبة بن العجاج، وقد أنشده ابن منظور "وص ى" وعزاه إليه، وتقول: أوصيت الرجل إيصاء، ووصيته -بالتضعيف- توصية؛ إذا عهدت إليه، وأوصيت له بشيء، وقد أوصيت إليه؛ إذا جعلته وصيك، وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضا. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "وصني" فإنه أراد أن يقول: "وصّاني العجاج فيما وصّاني" بالألف في الفعل الثاني كما جاء في الفعل الأول، فلما يتأتّ له، فحذف الألف؛ ليستقيم له الوزن والقافية جميعًا.

(2/367)


والذي يدل على صحة ذلك أن القلب في "كلا، وكلتا" إنما يختص بحالة النصب والجر، دون حالة الرفع؛ لأن "لَدَيْكَ" إنما تستعمل في حالة النصب والجر، ولا تستعمل في حالة الرفع؛ فلهذا المعنى كان القلب مختصًّا بحالة النصب والجر دون حالة الرفع، وقد أفردنا في الكلام على "كلا، وكلتا" جزءًا استقصينا فيه القول عليهما، والله أعلم.

(2/368)