الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

63- مسألة: [هل يجوز توكيد النكرة توكيدًا معنويًا؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن توكيد النكرة بغير لفظها جائز، إذا كانت مؤقتة نحو قولك: "قعدت يومًا كله، وقمت ليلة كلها". وذهب البصريون إلى أن تأكيد النكرة بغير لفظها غير جائز على الإطلاق. وأجمعوا على جواز تأكيدها بلفظها نحو: "جاءني رجلٌ رجل، ورأيت رجلًا رجلًا، ومررت برجلٍ رجلٍ" وما أشبه ذلك.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن تأكيدها جائز النقلُ والقياسُ:
أما النقل فقد جاء ذلك عن العرب، قال الشاعر:
[284]
لكنَّه شَاقَهُ أَنْ قيل ذا رَجَبٌ ... يا ليت عِدَّةَ حَوْلٍ كلِّهِ رَجَبُ
__________
[284] هذا البيت من كلام عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص364" والأشموني "رقم 763" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 402" وفي شرح شذور الذهب "رقم 228" وكلهم يروونه مثل رواية المؤلف، والصواب في روايته أنه بنصب "رجب" في آخر البيت لأنه من كلمة أولها:
يا للرجال ليوم الأربعاء، أما ... ينفك يحدث لي بعد النهي طربا
إذ لا يزال غزال فيه يفتنني ... يأتي إلى مسجد الأحزاب منتقبا
وذلك على أن يكون الشاعر قد أتى باسم ليت وخبرها منصوبين، كما هو لغة قوم من العرب، ونظير قول العماني الراجز:
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا
و"شاقه" بالشين المعجمة -أي أعجبه أو بعث الشوق إلى نفسه، ويروى "ساقه" بالسين المهملة، و"حول" بفتح الحاء وسكون الواو -هو العام، وأنشده ابن الناظم في شرح =
__________
1 انظر في هذه المسألة: حاشية الصبان على الأشموني "3/ 67 بولاق" وشرح التصريح للشيخ خالد الأهري "2/ 156 بولاق وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "1/ 310" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص364" وشرح ابن عقيل "2/ 166 بتحقيقنا".

(2/369)


فأَكَّد "حول" وهو نكرة بقوله "كله"؛ فدل على جوازه.
وقال الآخر:
[285]
إذا القَعُودُ كَرَّ فِيهَا حَفَدَا ... يومًا جديدًا كلّهُ مُطَرَّدا
فأكد "يومًا" وهو نكرة بقوله "كلّه".
وقال الآخر:
[286]
زَحَرْتَ بِهِ لَيْلَةً كلّهَا ... فجئتَ بِهِ مُؤْيدًا خَنْفَقِيقَا
__________
= الألفية تبعًا لوالده "ياليت عدة شهر" وقال ابن هشام -وتبعه الشيخ خالد- إن ذلك تحريف؛ لأنه لا يتصوّر أن يتمنى أحد أن يكون الشهر كله رجبًا؛ فإن الشهر الواحد لا يكون بعضه رجبًا وبعضه غير رجب حتى يتمنى أن يكون كله رجبًا، ولكن الشاعر يتمنى أن تكون شهوره كلها رجبًا. والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "حول كله" حيث جر "كله" على التوكيد لحول، ولا شك أن كلمة "حول" نكرة محدودة أي أنها ذات أول وآخر معروفان، فيكون فيه دليل على جواز توكيد النكرة المحدودة، والرواية على هذا بتنوين "حول" وجر "كله" وقد رد ابن يعيش الاستدلال بهذا البيت وزعم أن الرواية بجر "حول" من غير تنوين على أن كلمة "حول" مضاف و"كل" مضاف إليه، وذلك تمحل بعيد، والذي نرجحه أن كلام ابن يعيش هذا محرف عما ذكره المؤلف من أن الرواية عندهم "يا ليت عدة حولي" بإضافة حول إلى ياء المتكلم، وهو أيضا تمحّل، ولكنه أقرب مما وقع في شرح المفصل.
ونظير هذا البيت -في توكيد النكرة المحدودة بلفظ يدل على الشمول والإحاطة- قول العرجي وهو من شواهد مغني اللبيب:
نلبث حولا كاملا كله ... لا نلتقي إلا على منهج
[285] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص364" وقد أنشده ابن منظور "ط ر د" ولم يعزه أحدهما. والقعود -بفتح القاف- البكر من الإبل حين يركب، أي يمكن ظهره من الركوب، وأدنى ذلك أن يأتي عليه سنتان، والناقة قلوص، وحفد: فعل ماضٍ معناه خف في العمل وأسرع، وقال الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسرعت ... بأكفهن أزمّة الأجمال
واليوم المطرّد: الطويل، ويقال: الكامل التام، تقول: مرّ بنا يوم طريد، وطراد ومطرد، كله بمعنى الطويل، ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "يوما جديدا كله" حيث أكد قوله "يوما" -وهو نكرة محدودة- بقوله "كله" فذلك يدل على أن العرب تستجيز تأكيد النكرة المحدودة بألفاظ التوكيد المعارف، وهذا ظاهر إن شاء الله.
[186] هذا البيت من كلام شييم بن خويلد، وقد أنشده ابن منظور "خ ف ق" رابع أربعة أبيات، وقبله:
فقلت لسيدنا: يا حكيـ ... ـم إنك لم تأسُ أسوا رفيقا
=

(2/370)


فأكد "ليلةً" هي نكرة بقوله: "كلها" ومؤيدًا خنفقيقًا: اسمان من أسماء الداهية. وقال الأخر:
[287]
قد صَرَّتِ البَكْرَةُ يومًا أَجْمَعَا
__________
=
أعنت عديا على شأوها ... تعادي فريقا وتنفي فريقا
أطعت اليمين عناد الشمال ... تنحي بحد المواسي الحلوقا
وقوله: "يا حكيم" هزء منه وسخرية به، أي أنت الذي تزعم أنك حكيم وتخطئ هذ الخطأ، وقوله: "أطعت اليمين عناد الشمال" مثل ضربه، يريد فعلت فعلا أمكنت به أعداءنا منا، وقوله: "زحرت به ليلة كلها" أصل الزحير والزحار -مثل النعيب والنعاب- إخراج الصوت أو النفس بأنين عند عمل أو شدة، ويقال للمرأة إذا ولدت ولدًا: زحرت به، وتزحرت به، وقوله: "وجئت به مؤيدا خنفقيقا" أي ناقصًا مقصرًا والاستشهاد بهذا البيت في قوله: "ليلة كلها" حيث أكد قوله: "ليلة" وهي نكرة محدودة لها أول وآخر معروفان معهودان بقوله: "كلها" وذلك يدل لمذهب الكوفيين الذين أجازوا توكيد النكرة، ونظير هذا البيت -في توكيد النكرة- قول الراجز.
يا ليتني كنت صبيا مرضعا ... تحملني الذلفاء حولا أكتعا
إذا بكيت قبلتني أربعا ... إذًا ظللت الدهر أبكي أجمعا
الاستشهاد به في قوله: "حولا أكتعا" فإنه أكد قوله: "حولًا" وهو نكرة محدودة ذات أول وآخر معروفين بقوله: "أكتعا" وهو لفظ من ألفاظ التوكيد المعروفة.
وقد بيّن ابن هشام الصحيح من المذهبين بإيجاز في قوله: "وإذا لم يفد توكيد النكرة لم يجز باتفاق، وإن أفاد جاز عند الكوفيين، وهو الصحيح، وتحصل الفائدة بأن يكون المؤكد محدودًا والتوكيد من ألفاظ الإحاطة، كاعتكفت أسبوعًا كله، وقوله:
يا ليت عدة حول كله رجب
ا. هـ.
[287] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو مجهول النسبة، وهو من شواهد ابن يعيش "ص364" ورضي الدين في باب التوكيد من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 357" والأشموني "رقم 794" وابن عقيل "رقم 290" وقبل البيت المذكور قوله:
إنا إذا خطافنا تقعقعا
والخطاف -بوزن رمان- الحديدة المعوجة تكون في جانب البكرة، وتقعقع: تحرك وسمع له صوت، وصرت: صوتت، والبكرة: ما يستقى عليه الماء من البئر، وهي هنا بفتح الباء وسكون الكاف، وأصلها بالتحريك. والاستشهاد بالبيت في قوله: "يوما أجمعا" حيث أكد قوله: "يوما" وهو نكرة محدودة ذات مبدأ ونهاية بقوله: "أجمع" وزعم قوم منهم ابن جني في إعراب الحماسة بأن هذا البيت مصنوع، وزعم قوم آخرون منهم العيني بأن "يومًا" ليس بنكرة، وادعى أنه غير منون، وأن الألف منقلبة عن ياء المتكلم، وأصل الكلام "قد صرت البكرة يومي أجمعا" فقلب كسرة الميم فتحة فانقلبت ياء المتكلم ألفًا مثل قوله: تعالى: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} وقوله سبحانه: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وهذا كله تمحل بعيد وغير =

(2/371)


فأَكَّدَ "يومًا "بأجمع؛ فدلّ على جوازه.
وأما القياس فلأن اليوم مؤقت يجوز أن يقعد في بعضه، والليلة مؤقتة يجوز أن يقوم في بعضها، فإذا قلت "قعدت يوما كلُّهُ، وقمت ليلة كلَّهَا" صح معنى التوكيد؛ فدلَّ على صحة ما ذهبنا إلى.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن تأكيد النكرة غير جائز من وجهين:
أحدهما: أن النكرة شائعة ليس لها عين ثابتة كالمعرفة؛ فينبغي أن لا تفتقر إلى تأكيد؛ لأن تأكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه، وأما قولهم "رأيت درهما كل درهم" وما أشبه ذلك فهو محمول على الوصف لا على التأكيد.
والوجه الثاني: أن النكرة تدل على الشياع والعموم، والتوكيد يدل على التخصيص والتعيين، وكل واحد منهما ضِدُّ صاحبه؛ فلا يصلح أن يكون مؤكدًا له، ولو جوزنا ذلك لكنا قد صيرنا الشائع مخصصًا، وهذا ليس بتأكيد، بل هو ضد ما وضع له؛ لأن التأكيد تقرير، وهذا تغيير، ولهذا المعنى امتنع أن يجوز وصف النكرة بالمعرفة أو المعرفة بالنكرة؛ لأن كل واحد منهما ضد صاحبه؛ لأن النكرة شائعة، والمعرفة مخصوصة، والصفة في المعنى هي الموصوف، ويستحيل أن يكون الشيء الواحد شائعًا مخصوصًا في حال واحدة؛ فكذلك ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما استشهدوا به من الأبيات فلا حجة فيه: أما قول الشاعر:
[284]
يا ليت عِدَّةَ حَوْلٍ كلِّهِ رَجَبُ
فنقول الرواية الصحيحة:
[284]
يا ليت عدة حولي كلِّهِ رَجَبُ
بالإضافة، وهو معرفة لا نكرة، وأما قول الآخر:
[285]
يومًا جديدًا كله مطردًا"
__________
= مستساغ ومن الشواهد على جواز توكيد النكرة إن أفاد توكيدها ما أنشده سيبويه "1/ 44":
ثلاث كلهن قتلت عمدا ... فأخزى الله رابعة تعود
الرواية عنده برفع ثلاث ورفع كلهن، وإن كان مذهبه في مثل ذلك النصب بالفعل بدليل قوله بعد إنشاده "فهذا ضعيف، والوجه الأكثر الأعرف النصب" وإنما كان هذا ضعيفًا لأنه لم يذكر العائد على المبتدأ، ولو أنه قال "ثلاث كلهن قتلته عمدا" لكان مرضيًا عنده، وعلى كل حال فإن الشاعر قد أكد قوله "ثلاث" وهو نكرة بقوله "كلهن" وذلك ظاهر إن شاء الله.

(2/372)


فلا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يكون توكيدًا للمضمر في جديد، والمضمرات لا تكون إلا معارف، وكان هذا أولى به؛ لأنه أقرب إليه من "يوم" فعلى هذا يكون الإنشاد بالرفع، وأما قول الآخر:
[287]
قد صَرَّتِ البكرة يومًا أجمعا
فنقول: هذا البيت مجهول لا يعرف قائله؛ فلا يجوز الاحتجاج به.
ثم لو قدرنا أن هذه الأبيات التي ذكروها كلها صحيحة عن العرب، وأن الرواية1 ما ادعوه لَمَا كان فيها حجة، وذلك لشذوذها وقلتها في بابها؛ إذ لو طردنا القياس ففي كل ما جاء شاذًّا مخالفًا للأصول والقياس وجعلناه أصلًا لكان ذلك يؤدي إلى أن تختلط الأصول بغيرها، وأن يُجْعَل ما ليس بأصل أصلًا، وذلك يفسد الصناعة بأسرها، وذلك لا يجوز. على أن هذه المواضع كلها محمولة على البدل، لا على التأكيد.
وأما قولهم "إن اليوم مؤقتٌ فيجوز أن يقعد بعضه والليلة مؤقتة فيجوز أن يقوم بعضها، فإذا أكدت صح معنى التوكيد" قلنا: هذا لا يستقيم فإن اليوم وإن كان مؤقتا إلا أنه لم يخرج عن كونه نكرة شائعة، وتأكيد الشائع المنكور بالمعرفة لا يجوز كالصفة؛ ولأن تأكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه على ما بيَّنَّا، والله أعلم.
__________
1 في ر "فإن الرواية" ولا يصح المعنى على الفاء.

(2/373)


64- مسألة: [هل يجوز أن تجيء واو العطف زائدة؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الواو العاطفة يجوز أن تقع زائدة، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المُبَرِّد وأبو القاسم بن بَرْهَان من البصريين.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الواو يجوز أن تقع زائدة أنه قد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهاَ} [الزمر: 73] فالواو زائدة لأن التقدير فيه: فتحت أبوابها؛ لأنه جواب لقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} كما قال تعالى في صفة سوق أهل النار إليها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا َفُتِحَتْ أَبْوَابُهاَ} [الزمر: 71] ولا فرق بين الآيتين، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96، 97] فالواو زائدة؛ لأن التقدير فيه: اقترب؛ لأنه جواب لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1-5] والتقدير فيه أذنت، لأنه جواب "إذا" والشواهد على هذا النحو من التنزيل كثيرة. وقال الشاعر:
[288]
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتَحى ... بنا بَطْنُ حِقْفٍ ذِي قِفَافٍ عَقَنْقَلِ
__________
[288] هذا البيت من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي المشهور، وهو من شواهد الرضي في باب حروف العطف من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 413" وأجزنا: أي قطعنا، تقول: جزنا نجوز -من مثال قلنا نقول- وأجزنا، كلاهما بمعنى واحد، وقال الأصمعي: أجزنا قطعنا، وجزنا سرنا فيه وخلفناه وراءنا، والساحة: فناء الدار، وهي أيضًا الباحة، والفجوة، والقروة، والنالة، ويقال: هي الرحبة كالعرصة، وانتحى: اعترض، والخبت: =
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب "ص362" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1148" وشرح رضي الدين على الكافية "2/ 342".

(2/374)


والتقدير فيه: انتحى، والواو زائدة؛ لأنه جواب "لما" وقال الآخر:
[289]
حتى إذ قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ ... ورَأَيتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا
__________
= بطن من الأرض غامض، ويروى "بطن حقف" كما رواه المؤلف، والحقف -بالكسر- ما اعوج وتثنّى من الرمل، والقفاف: جمع قف -بالضم- وهو ما ارتفع من الأرض وغلظ ولم يبلغ أن يكون جبلًا، والعقنقل -بوزن سفرجل- المنعقد الداخل بعضه في بعض، واعلم قبل كل شيء أن من الرواة من يروي البيت الذي بعد هذا البيت المستشهد به هكذا:
هصرت بفودي رأسها فتمايلت ... على هضيم الكشح ريّا المخلخل
وهذه رواية الخطيب التبريزي، وعلى ذلك يكون جواب "لما" الواقعة في أول البيت المستشهد به هو قوله "هصرت.... إلخ" عند الفريقين، ولا يكون في البيت شاهد لما جاء به المؤلف من أجله، ومن الرواة من يروي البيت الذي عقب البيت المستشهد به هكذا:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ... على هضيم الكشح ريا المخلخل
وهذه الرواية هي التي دار حولها جدال الكوفيين والبصريين، وكلا الفريقين يسلم أنه لا بد لـ"لما" التي في أول بيت الشاهد من جواب؛ أما الكوفيون فيقولون: جواب لما في البيت نفسه وهو قوله "انتحى بنا بطن خبت" وكأنه قد قال: لما قطعنا ساحة الحي وفارقناها اعترض لنا بطن خبت، والواو في قوله وانتحى بنا.... إلخ زائدة، وأما البصريون فيقولون: الجواب محذوف، وكأنه قد قال: لما قطعنا ساحة الحي وفارقناها أمنا من ترصد الوشاة، أو نلنا ما كنا تمنيناه، أو نحو ذلك.
قال الخطيب التبريزي: "وذكر بعضهم أن جواب لما قوله انتحى بنا، والواو مقحمة، ويجو أن تكون الواو غير مقحمة ويكون الجواب محذوفا، ويكون التقدير: فلما أجزنا ساحة الحي أمنا، وعلى هذا يكون رواية البيت بعده: إذا قلت هاتي ... البيت" ا. هـ.
[289] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ق م ل" وأنشدهما ابن يعيش في شرح المفصل "ص1149" ولم يعزهما واحد منهما، وأنشدهما البغدادي في الخزانة "4/ 414" نقلا عن الفراء في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} من سورة يوسف، ومعنى: "قملت بطونكم" شبعت وضخمت، وفسره ابن منظور بقوله عن التهذيب "وقملت بطونكم: كثرت قبائلكم، بهذا فسره لنا أبو العالية" ا. هـ ووقع عند ابن يعيش "حتى إذا شبعت بطونكم" ومحل الاستشهاد في البيت قوله: "وقلبتم ظهر المجن لنا" فإن هذه الجملة جواب لما في البيت الأول عند الكوفيين، وعلى هذا تكون الواو زائدة، قال الفراء: قوله تعالى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} جواب "لما جهزهم" وربما أدخلت في مثلها الواو وهي جواب على حالها، كقوله في أول السورة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إليه} والمعنى -والله أعلم- وأوحينا إليه، وهي في قراءة عبد الله {لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ} ومثله في الكلام: لما أتاني وأثب عليه، كأنه قال: وثبت عليه، وقد جاء في الشعر ذلك، قال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى.. البيت.
وقال الآخر، وأنشد البيتين، أراد قلبتم" ا. هـ. وقال ابن يعيش: "وأما أصحابنا فلا يرون زيادة هذه الواو، ويتألون جميع ما ذكر وما كان مثله بأن أجوبتها محذوفة لمكان العلم =

(2/375)


وقَلَبْتُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا ... إنّ اللَّئِيمَ العَاجِزُ الخَبُّ
والتقدير فيه: قلبتم، والواو زائدة. والشواهد على هذا النحو من أشعارهم أكثر من أن تحصى.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الواو في الأصل حرف وُضِعَ لمعنى؛ فلا يجوز أن يحكم بزيادته مهما أمكن أن يُجْزَى على أصله، وقد أمكن ههنا، وجميع ما استشهدوا به على الزيادة يمكن أن يُحْمَل فيه على أصله وسنبين ذلك في الجواب عن كلماتهم.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] فنقول: هذه الآية لا حجة لكم فيها؛ لأن الواو في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} عاطفة وليست زائدة، وأما جواب {إِذَا} فمحذوف، والتقدير فيه: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها فَازُوا ونَعِمُوا، وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، واقترب} [الأنبياء: 96، 97] الواو فيه عاطفة، وليست زائدة، والجواب محذوف، والتقدير فيه: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون قالوا يا ويلنا، فحذف القول، وقيل: جوابها: "فإذا هي شاخصة"، وكذلك قول الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق 1: 5] الواو فيه عاطفة، وليست زائدة، والجواب محذوف، والتقدير فيه: إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخَلَّتْ وأذنت لربها وحقت يرى الإنسان الثواب والعقاب، ويدل على هذا التقدير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6] أي ساعٍ إليه في عملك، والكَدْحُ: عمل الإنسان من الخير والشر الذي يُجَازَى عليه بالثواب والعقاب.
وأما قول الشاعر:
[288]
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي قِفافٍ عقنقل
فالواو فيه أيضًا عاطفة، وليست زائدة، والجواب مقدر، والتقدير فيه: فلما
__________
= بها، والمراد في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أدرك ثوابنا ونال المنزلة الرفيعة لدينا، وكذلك {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} تقديره: صادفوا الثواب الذي وعدوه، ونحوه، وكذلك قول الشاعر: حتى إذا امتلأت بطونكم وكان كذا وكذا تحقق منكم الغدر، واستحققتم اللّوم ونحو ذلك مما يصلح أن يكون جوابًا" ا. هـ.

(2/376)


أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل خَلَوْنَا ونعمنا، وكذلك أيضا قول الآخر:
[289]
حتى إذا قَمِلَتْ بطونكم ... ورأيتم أبناؤكم شَبُّوا
وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخَبُّ
الواو فيه عاطفة، وليست زائدة، والتقدير فيه: حتى إذا قملت بطونكم ورأيتم أبناءكم شبوا وقلبتم ظهر المجن لنا بان غدركم ولُؤْمُكم.
وإنما حذف الجواب في هذه المواضع للعلم به؛ توخّيًا للإيجاز والاختصار.
وقد جاء حذف الجواب في كتاب الله تعالى وكلام العرب كثيرًا، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد: 31] فحذف جواب "لو" ولا بدّ لها من الجواب، والتقدير فيه: ولو أن قرآنا سُيِّرَت به الجبال أو قطعت به الأرض لكان هذا القرآن، فحذفه للعلم به توخيا للإيجاز والاختصار، وقال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 20] فحذف جواب "لولا" والتقدير فيه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لفَضَحَكُم بما ترتكبون من الفاحشة ولعاجَلَكم بالعقوبة؛ وقال عبد مَنَافٍ بن رِبْعٍ الهُذَلِيُّ:
[290]
حتى إذا أَسْلَكُوهُم في قُتَائِدَةٍ ... شَلَّا كما تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشَّرُدَا
__________
[290] أنشد ابن منظور هذا البيت "ق ت د -س ل ك" وأنشده ياقوت في معجم البلدان "قتائدة" ونسبه ابن منظور في الموضعين لعبد مناف بن ربع الهذلي، وتقول: سلك فلان الطريق، وسلك المكان يسلكه -من مثال نصره ينصره- سلكًا، وسلوكًا، وسلك فلان فلانا الطريق، وسلكه إياه، وأسلكه فيه، وأسلكه عليه، كل ذلك يقال وقال ساعدة بن العجلان:
وهم منعوا الطريق وأسلكوهم ... على شماء مهواها بعيد
وقال عدي بن زيد العبادي:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد ... وهم سلكوك في أمر عصيب
وقتائدة -بضم القاف وبعد الألف همزة- اسم مكان بعينه، وقيل: اسم جبل معين وقيل: هي ثنية مشهورة، وأراد: حتى إذا أسلكوهم في طريق في قتائدة، وقوله "شلًا" معناه الطرد، تقول: شلّه يشلّه شلا -من مثال مده يمده مدا- وشل العير أتنه والسائق إبله: طردها، فانشلت، والشّرد: جمع شرود -من وزان صبور وصبر- وهي الإبل النافرة.
والاستشهاد بهذا البيت لأن فيه حذف جواب إذا للعلم به ولقيام الدليل عليه، فكأنه قال: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلوهم وطردوهم شلّا وطردًا مثل طرد الجمالة شوارد إبلهم.

(2/377)


ولم يأتِ بالجواب؛ لأن هذا البيت آخر القصيدة؛ والتقدير فيه: حتى إذا أسلكوهم في قُتَائدة شُلُّوا شلًّا، فحذف للعلم به توخّيًا للإيجاز والاختصار على ما بيَّنَّا.
ثم حذف الجواب أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك لو قلت لعبدك "والله لئن قمت إليك" وسكتَّ عن الجواب ذهب فكره إلى أنواع من العقوبة والمكروه من القتل والقطع والضرب والكسر، فإذا تمثلَتْ في فكره أنواع العقوبات وتكاثرت عظمت الحال في نفسه ولم يعلم أيها يتقي؛ فكان أبلغ في رَدْعِهِ وزَجْرِهِ عما يُكْرَه منه، ولو قلت "والله لئن قمت إليك لأضربنك" وأظهرت الجواب لم يذهب فكره إلى نوع من المكروه سوى الضرب؛ فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه؛ لأنه قد وَطَّنَ له نفسَه فيسهل ذلك عليه، قال كثير:
[291]
وقلت له: يا عَزَّ كُلّ مُلِمَّةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذَلَّتِ
وكذلك الحال في الإحسان، نحو "والله لئن زرتني": إذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه من إكرامه والإنعام عليه؛ فكان ذلك أبلغ في استدعائه إلى الزيارة وإسراعه إليها، ولو قلت "والله لئن زرتني لأعطيتك درهما" لم يذهب فكره إلى غير الدرهم قط1؛ فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه؛ لأنه ربما يكون مستغنيا عنه غير راغب فيه؛ فلا يدعوه ذلك إلى الزيارة، وإذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه؛ فكان ذلك أدعى له إلى الزيارة، كما كان الأول أدعى إلى الترك، على ما بيَّنَّا، والله أعلم.
__________
[291] هذا البيت لكثير عزة، وقد أنشده ابن منظور "وط ن" وعزاه إليه، وعنده "كل مصيبة" والملمة: أصله اسم الفاعل المؤنث من قولهم "ألم بفلان أمر" أي نزل به، ثم استعملوه في النازلة من نوازل الدهر، وقوله "وطنت" هو بالبناء للمجهول مشدد الطاء مكسورة -من قولهم "وطن فلان نفسه على الأمر، ووطن نفسه للشيء" إذا حملها عليه فتحملته، وهو شبه التمهيد لقبولها ذلك الشيء، وذلت: انقادت وخضعت واحتملت ما حملها، والاستشهاد بالبيت في معناه، وهو أن كل شيء يعرض للإنسان إذا مهد نفسه لقبوله قبلته نفسه ورضيت به وصبرت عليه وإن كان مما يشق عليها احتماله. وشبه المؤلف جواب الشرط بهذا الأمر. فإن كان مذكورًا في الكلام كأن تقول "إن تلعب أضربك" وطن السامع نفسه على قبوله وراضها على أن تخضع له؛ فمتى وقع لم يكن شيئًا غريبًا على نفسه، وإن لم يذكر في الكلام كأن تقول "من يفعل كذا" وتقف عند ذلك، فإن السامع يتخيل كل ضرب من أضرب الثواب أو العقوبة المترتبة على فعله، فإذا وقع شيء منها كان جديدًا على نفسه؛ لأنه لم يقدره بذاته، وهذا واضح إن شاء الله تعالى.
__________
1 في ر "فقط" وليس بذاك.

(2/378)


65- مسألة: [هل يجوز العطف على الضمير المخفوض؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجب العطف على الضمير المخفوض، وذلك نحو قولك "مررت بك وزيد"
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز أنه قد جاء ذلك في التنزيل وكلام العرب، قال الله تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" [النساء: من الآية1] بالخفض وهي قراءة أحد القراء السبعة -وهو حمزة الزيات- وقراءة إبراهيم النخعي وقتادة ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش، ورواية الأصفهاني والحلبي عن عبد الوارث، وقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] فما: في موضع خفض لأنه عطف على الضمير المخفوض في "فيهن" وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء: 162] فالمقيمين: في موضع خفض بالعطف على الكاف في "إليك" والتقدير فيه: يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة يعني من الأنبياء عليهم السلام، ويجوز أيضًا أن يكون عطفًا على الكاف في "قبلك" والتقدير فيه: ومن قبل المقيمين الصلاة، يعني من أمتك، وقال تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] فعطف "المسجد الحرام" على الهاء من "به" وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] فمن: في موضع خفض بالعطف على
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرحنا على شرح الأشموني "4/ 535" وحاشية الصبان"3/ 99" وتصريح الشيخ خالد "2/ 190" وقد رجح ابن مالك في هذه المسألة مذهب الكوفيين، وشرح الرضي على الكافية "1/ 295" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص399".

(2/379)


الضمير المخفوض في "لكم" فدلَّ على جوازه، وقال الشاعر:
[292]
فاليوم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا ... فاذهب فما بك والأيامِ من عَجَبِ
فالأيام: خفض بالعطف على الكاف في "بك" والتقدير: بك وبالأيام، وقال الآخر:
[181]
أَكُرُّ على الكَتِيبَةِ لا أبالي ... أفيها كان حَتْفِي أم سِوَاهَا
فعطف "سواها" بأم على الضمير في "فيها" والتقدير: أم في سواها.
وقال الآخر:
[293]
تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... ومَا بَيْنَها والْكَعْبِ غُوطٌ نَفَانِفُ
__________
[292] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 392" وابن يعيش في شرح المفصل "ص399" ورضي الدين في باب العطف من شرح الكافية "1/ 296" وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 338" والأشموني "رقم 849" وابن عقيل "رقم 298" وكامل المُبَرِّد "2/ 39" ولم ينسبه واحد من هؤلاء إلى قائل معين، بل قال البغدادي "والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل" ا. هـ، وقوله: "قربت" معناه أخذت وشرعت. ومعنى البيت: إن هجاءك الناس وشتمهم لمن عجائب الدهر، وقد كثرت هذه الأعمال منك حتى صارت لا يتعجب منها. والاستشهاد بالبيت في قوله: "فما بك والأيام" حيث عطف قوله: "الأيام" بالواو على الضمير المتصل المجرور محلّا بالباء في قوله "بك" من غير أن يعيد مع المعطوف العامل في المعطوف عليه، وذلك في نظر البصريين ضرورة من الضرورات التي تقع في الشعر، قال ابن السَّرَّاج: "وأما الضمير المخفوص فلا يجوز أن يعطف الظاهر عليه، لا يجوز أن تقول: مررت بك وزيد؛ لأن المجرور ليس له اسم منفصل فيتقدم بأن يقع معطوفًا أحيانًا ويتأخر بأن يقع معطوفا أحيانًا أخرى، كما للمنصوب، وكل اسم معطوف عليه فهو بحيث يجوز أن يؤخر فيصير معطوفًا ويقدم الاسم الآخر المعطوف بحيث يصير معطوفًا عليه، فلما خالف الضمير المجرور سائر الأسماء من هذه الجهة لم يجز أن يعطف عليه، وقد حكي أنه جاء في الشعر" ا. هـ، وبمثل هذا التعليل علل ابن يعيش في شرح المفصل، وذكره المؤلف هنا، وقد وافق الكوفيين في هذه المسألة، وحكم بجواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة العامل في المعطوف عليه مع المعطوف: يونس بن حبيب شيخ سيبويه، والأخفش، وقطرب، والشلوبين وابن مالك.
[293] استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل "ص400" والأشموني "رقم 851" وابن النظام في شرح ألفية والده ابن مالك، وشرحه العيني "4/ 164" بهامش الخزانة" وقال: "وقال الجاحظ في كتاب "الحيوان": هو لمسكين الدارمي". والسواري: جمع سارية، وهي الأسطوانة "العمود" شبه أنفسهم بالسواري لطول أجسامهم، والطول مما تتمدح به العرب، قال الشاعر:
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أعزاء الرجال طوالها
والنحاة يروونه "طيالها". والكعب: يروى في مكانه "والأرض" والغوط -بضم الغين- جميع غائط، وهو المطمئن من الأرض، ونفانف: جمع نفنف -بوزن جعفر، وهو الهواء =

(2/380)


فالكعب: مخفوض بالعطف على الضمير المخفوض في "بينها" والتقدير: وما بينها وبين الكعب غوط نفانف، يعني أن قومه طوال، وأن السيف على الرجل منهم كأنه على سارية من طوله، وبين السيف وكعب الرجل منهم غائط -وهو المكان المطمئن من الأرض- ونفانف: واسعة، أي بين السيف والكعب مسافة؛ فعطف "الكعب"1 على الضمير المخفوض في "بينها" وقال الآخر:
[294]
هَلَّا سألت بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ ... وأبي نُعَيْمٍ ذي اللِّوَاء المُحْرِق
__________
= بين الشيئين، وكل شيء بينه وبين الأرض مهوى فهو نفنف، ويدل لهذا أنه يروى "فما بينها والأرض مهوى نفانف" وقال ذو الرمة:
ترى قرطها من حرة الليت مشرفا ... على هلك في نفنف يتطوح
وفسر الأصمعي النفنف بالمهواة بين الجبلين. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "فما بينها والكعب" حيث عطف الكعب بالواو على الضمير المتصل المخفوض بإضافة الظرف -وهو قوله: بين- إليه، من غير أن يعيد العامل في المعطوف عليه مع المعطوف، وهو يدل للكوفيين الذي أجازوا ذلك، ولم يقصروه على حال الضرورة.
ونظير ذلك ما أنشده ابن الناظم نقلًا عن الأخفش:
بنا أبدًا لا غيرنا تدرك المنى ... وتكشف غماء الخطوب الفوادح
فقد عطف "غيرنا" بلا على الضمير المتصل المجرور محلّا بالباء في قوله "بنا" من غير أن يعيد العامل في المعطوف عليه مع المعطوف، ونظير ذلك أيضًا ما أنشه ابن الناظم:
إذا أوقدوا نار لحرب عدوهم ... فقد خاب من يصلى بها وسعيرها
فقد عطف قوله "سعيرها" بالواو على الضمير المجرور محلّا بالباء في قوله "بها" من غير أن عيد العامل في المعطوف عليه مع المعطوف.
[294] ذو جماجم: أصله بضم أوله، وقد يقال بفتحه، قال ياقوت "جماجم بالضم، وهو من أبنية التكثير والمبالغة، وذو جماجم: من مياه العمق، على مسيرة يوم منه، وقد يقال فيه بالفتح أيضًا" ا. هـ. وقال ابن منظور "والجماجم: موضع بين الدهناء ومتالع في ديار تميم، ويوم الجماجم: من وقائع العرب في الإسلام، معروف" وأقول: المعروف وقعة دير الجماجم، وكانت بين الحجاج بن يوسف الثقفي وابن الأشعث بالعراق، قيل سمي بذلك لأنه بني من جماجم القتلى لكثرة من قتل به، وقيل سمي بذلك لأن الأقداح التي تصنع من الخشب كانت تصنع به، والقدح يسمى جمجمة إذا كان من خشب وجمعه جماجم. ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "عنهم وأبي نعيم" حيث عطف قوله "أبي نعيم" بالواو على الضمير المتصل المجرور محلّا بعن، من غير أن يعيد العامل في المعطوف عليه -وهو حرف الجر الذي هو عن- مع المعطوف، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى:
__________
1 في ر "فعطف بالكعب" ولا يصح.

(2/381)


فأبي نعيم: خفض بالعطف على الضمير المخفوض في "عنهم"؛ فهذه كلها شواهد ظاهرة تدل على جوازه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز، وذلك لأن الجار مع المجرور بمنزلة شيء واحد، فإذا عطفت على الضمير المجرور -والضمير إذا كان مجرورًا اتصل بالجار، ولم ينفصل منه، ولهذا لا يكون إلا متصلًا، بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب -فكأنك قد عطفت الاسم على الحرف الجار، وعَطْفُ الاسمِ عَلَى الحَرْفِ لا يجوز.
ومنهم من تمسّك بأن قال: إنما قلنا ذلك لأن الضمير قد صار عوضًا عن التنوين؛ فينبغي أن لا يجوز العطف عليه، كما لا يجوز العطف على التنوين، والدليل على استوائهما أنهم يقولون "يا غلام" فيحذفون الياء كما يحذفون التنوين وإنما اشتبها لأنهما على حرف واحد، وأنهما يكملان الاسم، وأنهما لا يُفْصَلُ بينهما وبينه بالظرف؛ وليس كذلك الاسم المظهر.
ومنهم من تمسك بأن قال: أجمعنا على أنه لا يجوز عطف المضمر المجرور على المظهر المجرور؛ فلا يجوز أن يقال "مررت بزيدٍ وَكَ" فكذلك ينبغي أن لا يجوز عطف المظهر المجرور على المضمر المجرور، فلا يقال "مررت بِكَ وزَيْدٍ" لأن الأسماء مشتركة في العطف، فكما لا يجوز أن يكون معطوفًا فلا يجوز أن يكون معطوفًا عليه.
والاعتماد على هذه الأدلة على الأول:
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ، الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] فلا حجة لهم فيه من وجهين؛ أحدهما: أن قوله {وَالْأَرْحَامَ} ليس مجرورًا بالعطف على الضمير المجرور، وإنما هو مجرور بالقسم، وجواب القسم قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] والوجه الثاني: أن قوله {وَالْأَرْحَامَ} مجرور بباء مقدرة غير الملفوظ بها، وتقديره: وبالأرحام، فحذفت لدلالة الأولى عليها، وله شواهد كثيرة في كلامهم سنذكر طرفًا منها مُسْتَوْفًى في آخر المسألة إن شاء الله تعالى.
أما قوله تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] فلا حجة لهم فيه أيضًا من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنه في موضع جرّ، وإنما هو في موضع رفع

(2/382)


بالعطف على "الله" والتقدير فيه: الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيهن ما يتلى عليكم، وهو القرآن، وهو أوجه الوجهين.
والثاني: أنا نسلم أنه في موضع جر، ولكن بالعطف على "النساء" من قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} لا على الضمير المجرور في "فيهنَّ".
وأما قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ} [النساء: 162] فلا حجة لهم أيضًا من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنه في موضع جر، وإنما هو في موضع نصب على المدح بتقدير فعل، وتقديره: أعني المقيمين، وذلك لأن العرب تنصب على المدح عند تكرر العطف والوصف، وقد يستأنف فيرفع، قال الله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: 177] فرفع "الموفون" على الاستئناف، فكأنه قال: وهم الموفون، ونصب "الصابرين" على المدح، فكأنه قال: اذكرِ الصابرين، ثم قالت الخرنق، امرأة من العرب:
[295]
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجُزْرِ
__________
[295] هذان البيتان من كلام الخرنق، وهي أخت طرفة بن العبد البكري لأمه من كلمة ترثي فيها زوجها عمرو بن مرثد وابنها علقمة بن عمرو وأخويه حسان وشرحبيلًا، وهما من شواهد سيبويه "1/ 104 و246 و249" ورضي الدين في باب النعت من شرح الكافي، وشرحها البغدادي في الخزانة "2/ 301" والأشموني "رقم 787" وأوضح المسالك لابن هشام "رقم 396" وشرحهما العيني "3/ 602 و4/ 72 بهامش الخزانة" والمعتر: اسم مكان الازدحام في الحرب، ويقال: "فلان طيب معقد الإزار" إذا كان عفيفًا لا يحله لفاحشة. وصفت قومها بالظهور والغلبة على العدو، وبالكرم ونحر الإبل للأضياف، وبأنهم شجعان صيد وأبطال صناديد يلازمون الحرب ولا يفارقونها، وبأنهم أعفة عن الفواحش لا يدنون منها ولا يقربونها، وجعلت قومها سما لأعدائهم يأتي عليهم ويفتك بهم ولا يذر منهم أحدًا، وآفة للجزر -وهي الإبل- لأنهم يكثرون من نحرها. والاستشهاد بالبيتين في هذا الموضع لأنها قطعت قولها "الطيبين" عن الموصوف -الذي هو قولها "قومي"- من الرفع إلى النصب بإضمار فعل، وفي رواية سيبويه "النازلين" بالنصب أيضًا على القطع، قال ابن هشام: "ويجوز رفع النازلين والطيبين على الإتباع لقومي، أو على القطع بإضمار "هم" ونصبهما بإضمار أمدح أو أذكر، ورفع الأول ونصب الثاني على ما ذكرنا، وعكسه على القطع فيهما" ا. هـ.

(2/383)


النازلون بكل مُعْتَرَكٍ ... والطيبين مَعَاقِدَ الأَزْرِ
فنصبت "الطيبين" على المدح فكأنها قالت: أعني الطيبين، ويروى أيضا "والطيبون" بالرفع، أي: وهم الطيبون، وقال الشاعر:
[296]
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وذا الرَّأْي حين تُغَمُّ الأمور ... بذات الصَّلِيلِ وذات اللُّجُمْ
فنصب "ذا الرأي" على المدح، فكذلك ههنا، وقال الآخر:
[297]
وكلُّ قوم أَطَاعُوا أمر مُرْشِدِهِمْ ... إلا نُمَيْرًا أَطَاعَتْ أَمْرَ غَاوِيهَا
__________
[296] أنشد جار الله الزمخشري أول هذين البيتين في الكشاف "1/ 15 بولاق" عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ولم ينسبه شراح شواهده، وأنشده ابن هشام في قطر الندى "رقم 137" وأنشده رضي الدين في باب المبتدأ والخبر وفي باب النعت من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 216 بولاق" والقرم -بفتح القاف وسكون الراء- وهو في الأصل الجمل المكرم الذي أعد للضراب، ثم أطلقوه على الرجل العظيم، وأصل الليث السبع، والكتيبة: الجماعة والفصيلة من الجيش، وأراد بليث الكتيبة الشجاع الفاتك، والمزدحم: أصله مكان الازدحام، وأراد هنا مكان المعركة وموطن الحرب، لأن الأبطال يتزاحمون فيه، وتغم الأمور: أي تتغطى وتستعجم على أهل الرأي لكثرة إشكالها، وذات الصليل وذات اللجم: معارك الحرب، وأصل الصليل صوت السيوف، واللجم: جمع لجام -بوزن كتاب وكتب- وهو العنان الذي يقود به الفارس فرسه. والاستشهاد به هنا في قوله "وذا الرأي" حيث قطعه عما قبله إلى النصب بفعل محذوف تقديره أمدح أو أذكر أو أعني، وما أشبه ذلك، على نحو ما ذكرناه في الشاهد السابق. والنحاة يستشهدون بهذا البيت لعطف بعض الصفات على بعض، فإنك تراه قد عطف قوله "وابن الهمام" على القرم، ثم عطف عليه "وليث الكتيبة" وذلك جائز لأن الموصوف بها واحد، ونظير هذا البيت في عطف بعض الصفات قوله ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارث الـ ... ـصابح فالغانم فالآيب
إلا أن العطف في بيت ابن زيابة بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب لأن الصفات التي ذكرها لا تحصل إلا مترتبة متعاقبة.
[297] هذان البيتان من شواهد سيبويه "1/ 249" ونسبهما لابن خياط العكلي، وكذلك وقع في شرح الأعلم الشنتمري، ووقع في خزانة الأدب للبغدادي "2/ 301 بولاق" "ابن حماط العكلي" ونمير: قبيلة من بني عامر، وغاويها: يراد بها ههنا مغويها، أي باعثها على الغي وحاملها عليه ومزينة لها، وعلى هذا يكون وزن فاعل ههنا للنسب، ونظيره قولهم: هم ناصب، إذا كانوا يريدون أنه منصب ومتعب، ويجوز أن يراد الغاوي في نفسه، لأنه إذا أطيع فقد أغوى من أطاعه، وقوله "الظاعنين ولما يظعنوا أحدا" يريد أنهم يظعنون عن ديارهم ويفارقونها خوفًا من عدوهم أن يدهمهم فلا يقوون على دفعه، وأنهم لا يستطيعون =

(2/384)


الظاعنين ولَمَّا يُظْعِنُوا أحدًا ... والقائلون: لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا
فرفع "القائلون" على الاستئناف؛ ولك أن ترفعهما جميعًا، ولك أن تنصبهما جميعا، ولك أن تنصب الأول وترفع الثاني، ولك أن ترفع الأول وتنصب الثاني، ولا خلاف في ذلك بين النحويين.
والوجه الثاني: أنا نسلم1 أنه في موضع جر، ولكن بالعطف على "ما" من قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 177] فكأنه قال: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين، على أنه قد روي عن عائشة عليها السلام أنها سئلت عن هذا الموضع، فقالت: هذا خطأ من الكاتب، وروي عن بعض لد عثمان أنه سئل عنه، فقال: إن الكاتب لما كتب {مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك} [البقرة: 177] قال: ما أكتب؟ فقيل له: اكتب والمقيمين الصلاة، يعني أن الممل أعمل قوله "اكتب" في "المقيمين" على أن الكاتب يكتبها بالواو كما كتب ما قبلها، فكتبها على لفظ الممل.
أما قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] فلا حجة لهم فيه؛ لأن "المسجد الحرام" مجرور بالعطف على "سبيل الله" لا بالعطف على "به" والتقدير فيه: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام؛ لأن إضافة الصد عنه أكثر في الاستعمال من إضافة الكفر به، ألا ترى أنهم يقولون: "صددته عن المسجد"، ولا يكادون يقولون: "كفرت بالمسجد"؟
__________
= أن يحملوا أحدا على مفارقة داره، فهم يخافون عدوهم لقلتهم ولذلهم وضعفهم، ولا يخافهم عدوهم، وقوله "والقائلون لمن دار نخليها" يريد أنهم إذا ارتحلوا عن دارهم وخلوها لم يعرفوا من يحلها من قبائل العرب، لأنهم أضعف من كل قبيلة، فكل قبيلة من قبائل العرب يجوز أن تحل دارهم. والاستشهاد ههنا بهذين البيتين في قوله "والقائلون" حيث رفعه على القطع بإضمار مبتدأ، والتقدير: هم الظاعنون، ويجوز أن يكون قوله "الظاعنين" تابعا لقوله "نميرا" ويجوز أن يكون مقطوعًا بتقدير فعل، أي أذم الظاعنين، أو أهجو، أو نحو ذلك، وتجوز في الوصفين جميع الوجوه التي ذكرها المؤلف: إتباعهما، وقطعهما، وإتباع الأول وقطع الثاني، والذي لا يجوز هو أن تقطع ثم تتبع، وذلك لأن الرجوع إلى الإتباع بعد أن انصرفت عنه قبيح، إذ القطع يفيد أن شأن المذكورين معلوم مشهور لا يحتاج إلى وصف يبينه، فإن عدت إلى الإتباع بعد أن قطعت فكأنك نقضت ما أفدته أولا. وكل موضع جاز فيه القطع فإنه يجوز أن يكون قطعه بالنصب بتقدير فعل مدح أو ذم ويجوز قطعه بالرفع بتقدير مبتدأ، سواء أكان المتبوع مرفوعًا أم منصوبًا أم مجرورًا، فاعرف ذلك وكن منه على ثبت.
__________
1 في ر "أنا لا نسلم" وليس بصحيح.

(2/385)


وأما قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] فلا حجة لكم فيه؛ لأن "مَنْ" في موضع نصب بالعطف على "مَعَايِشَ" أي: جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء.
وأما قول الشاعر:
[292]
فاذهب فما بك والأيام من عجب
فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنه مجرور على القسم، لا بالعطف على الكاف في "بك".
وأما قول الآخر:
[181]
أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سِوَاهَا
فلا حجة فيه أيضا؛ لأن "سواها" في موضع نصب على الظرف، وليس مجرورًا على العطف؛ لأنها لا تقع إلا منصوبة على الظرف، وقد ذكرنا ذلك في موضعه.
وأما قول الآخر:
[293]
وما بينها والكعبِ غُوطٌ نَفَانِفُ
فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنه ليس مجرورًا على ما ذكروا، وإنما هو مجرور على تقدير تكرير "بين" مرة أخرى، فكأنه قال: وما بينها وبين الكعب، فحذف الثانية لدلالة الأولى عليها، كما تقول العرب: ما كل بيضاءَ شحمةً، ولا سوداء تمرة، يريدون "ولا كل سوداء" فيحذفون "كل" الثانية لدلالة الأولى عليها، وقال الشاعر:
[298]
أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نَارَا
__________
[298] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 33" والزمخشري في المفصل "رقم 107 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص345" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 483" وفي أوضح المسالك "رقم 351" والأشموني "رقم 650" وابن عقيل "رقم 238" وشرحه العيني "3/ 445 بهامش الخزانة" والبيت من كلام أبي دؤاد الإيادي، واسمه جارية بن الحجاج -ويقال: حارثة، ويقال: جريرة، ويقال: جويرية- ومعنى البيت: هل تظنين كل رجل رجلًا؟ وهل تظنين كل نار توقد بالليل نارا؟ والمراد: لا ينبغي لك أن تظني كل من رأيت له صورة الرجال رجلًا، لأنه لا يستحق اسم الرجل على الحقيقة إلا من كانت له صفات سنية وأفعال كريمة، ولا ينبغي لك أن تظني كل نار توقد في الليل نارًا؛ لأن النار التي =
__________
1 في المسألة "رقم 39" التي عقدها في شأن "سوى" خاصة.

(2/386)


أراد "وكل نار" فاستغنى عن تكرير "كل" وهذا كثير في كلامهم، وبهذا يبطل قول من توهَّم منكم أن ياء النسب في قولهم: "رأيت التيميَّ تيم عديَّ" اسم في موضع خفض؛ لأنه أبدل منهما "تَيْمِ عديِّ" فخفضه على البدل؛ لأن التقدير فيه: صاحب تيم عدي، فحذف "صاحب" وجر ما بعده بالإضافة؛ لأنه في تقدير الثَّبَات، وهذا هو الجواب عن قول الآخر:
وأبي نعيم ذي اللواء المحرق
ثم لو حُمِلَ ما أنشدوه من الأبيات على ما ادعوه لكان من الشَّاذ الذي لا يقاس عليه، والله أعلم.
__________
= تستحق إطلاق هذا الاسم عليها هي النار التي يوقدها أربابها لقرى الضيفان ولهداية السالكين في ظلمات الليل. والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله: "ونار" فإن هذه الواو عاطفة، و"نار" يحتمل وجهين من الإعراب:
الأول: أن يكون مجرورا بتقدير مضاف يكون معطوفا على كل في قوله: "كل امرئ" وعلى هذا الوجه يكون الشاعر قد حذف المضاف وأبقى المضاف إليه على جره، وأصل الكلام: أتحسبين كل امرئ امرأ وكل نار نارا، فكل امرئ: مفعول أول لتحسبين، وامرأ: مفعوله الثاني، وكل نار: معطوف على كل امرئ، ونارًا معطوف على امرأ، فعطف على المفعول الأول مثله، وعلى المفعول الثاني مثله، فهو عطف اثنين على معمولين لعامل واحد وهو تحسبين، وكل ما فيه أنه حذف المضاف وأبقى المضاف إليه على جره كما قلنا، وهذا الوجه هو أقرب وجوه الإعراب في هذه العبارة ونظائرها، وهو الذي يعنيه المؤلف باستشهاده بهذا البيت في هذا الموضع.
والوجه الثاني: أن تجعل الواو العاطفة قد عطفت جملة على جملة، فتقدر فعلا كالفعل السابق في الكلام، وتقدر له مفعولا أول يكون مضافا إلى نار المجرور، وتقدير الكلام على هذا الوجه: أتحسبين كل امرئ امرأ وتحسبين كل نار نارا، فحذف الفعل وفاعله ومفعوله الأول، وأبقى المضاف إليه والمفعول الثاني، وهذا الوجه أقل قبولًا من الوجه السابق لما فيه من كثرة المحذوفات.
والذي لا يجوز أن تذهب إليه هو أن تجعل "نار" المجرور معطوفا على "امرئ" المجرور، و"نارا" المنصوب معطوفا على "امرأ" المنصوب، وذلك لأن هذا الوجه الذي نحذرك منه يستلزم عطف معمولين على معمولين لعاملين مختلفين، ألست ترى "امرئ" المجرور معمولا لكل باعتباره مضافًا إليه والمضاف يعمل في المضاف إليه الجر، و"امرأ" المنصوب معمولًا لتحسبين باعتباره مفعولًا ثانيًا، والعطف على معمولي عاملين مختلفين مما لا يجيزه النحاة، أما تقدير "كل" وهو الوجه الأول وتقدير الفعل وهو الوجه الثاني فكل واحد منهما يخلصك من هذا المحذور، وإن كان أحدهما أفضل من الآخر، فاعرف هذا، وكن منه على ثبت، والله يرشدك ويبصرك.

(2/387)


66- مسألة: [العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام، نحو: "قُمْتُ وزيدٌ".
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إلا على قبح في ضرورة الشعر.
وأجمعوا على أنه إذا كان هناك توكيد أو فصل فإنه يجوز معه العطف من غير قبح.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم 6، 7] فعطف "هو" على الضمير المرفوع المستكن في: {اسْتَوَى} والمعنى: فاستوى جبريل ومحمد بالأفق، هو مطلع الشمس؛ فدل على جوازه، وقال الشاعر:
[299]
قلت إذا أقبلت وزُهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ المَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلَا
__________
[299] هذا البيت من كلام عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 390" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "ص398" والأشموني "رقم 848" وابن عقيل "رقم 297" وشرحه العيني "4/ 161 في هامش الخزانة" وابن جني في الخصائص "2/ 386" وأبي العباس المُبَرِّد في الكامل "1/ 189 و2/ 39" وزهر -بضم الزاي وسكون الهاء- جمع زهراء، وأراد النساء المشرقات اللون، وتهادى: أصله تتهادى، فحذف إحدى التاءين، والنعاج: جمع نعجة، والفلا: جمع فلاة، وهي الصحراء الواسعة، وأراد بنعاج الفلا الظباء، وتعسفن: سرن سيرا شديدا ليس فيه تؤدة ولا رفق. والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "أقبلت وزهر" حيث عطف قوله "وزهر" على الضمير المستتر في قوله "أقبلت" من =
__________
1 انظر في هذه المسالة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 99 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 190" وكتاب سيبويه "1/ 389-390" وشرح الرضي على الكافية "1/ 294" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص397".

(2/388)


فعطف "زُهْرٌ" على الضمير المرفوع في "أَقْبَلَتْ" وقال الآخر:
[300]
وَرَجَا الأُخَيْطِلُ من سَفَاهَةِ رَأْيِهِ ... ما لم يكن وأبٌ له لِيَنَالَا
__________
= غير أن يؤكد الضمير المستتر بضمير منفصل، وهذا جائز في سعة الكلام عند الكوفيين، وخصه سيبويه وجمهور البصريين بحالة الضرورة. ونظيره مما لم ينشده المؤلف قول الراعي، وهو من شواهد سيبويه "2/ 391":
فلما لحقنا والجياد عشية ... دعوا يا لكلب واعتزينا لعامر
فقد عطف قوله "الجياد" بالواو على الضمير المرفوع المتصل في قوله "لحقنا" ولو أنه جرى على ما التزمه البصريون لقال: فلما لحقنا نحن والجياد، وقد وقع هذا في الكلام: من ذلك ما روي أن بعض العرب قال: مررت برجل سواء والعدم، برفع العدم على أنه معطوف على ضمير مستتر في سواء لأنه بمعنى مستو، ومن ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت وجار لي، برفع جار على أنه معطوف على الضمير المتصل المرفوع في "كنت" ومن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه "كنت وأبو بكر وعمر، وهاتان العبارتان عبارة عمر وعبارة علي قد رواهما البخاري في صحيحه، ولهذا ذهب ابن مالك في شرح التسهيل إلى موافقة الكوفيين، وإن كان قد رجح مذهب البصريين في الألفية.
[300] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي، يهجو الأخطل التغلبي، وهو من شواهد الأشموني "رقم 847" وأوضح المسالك "رقم 425" وابن الناظم، وشرحه العيني "4/ 160" بهامش الخزانة" والأخيطل: تصغير الأخطل، وأصله الوصف من الخطل، وهو الكلام الخارج عن حد الصواب والاعتدال، وبذلك لقبوا غياث بن الغوث التغلبي الذي يهجوه جرير، والسفاهة: ضعف الرأي. ومحل الاستشهاد في البيت قوله "يكن وأب له" حيث عطف قوله "أب" بالواو على الضمير المرفوع المستتر في "يكن" وهو يوافق رأي الكوفيين، على ما بَيَّنَّاه لك في شرح الشاهد السابق، ولو أنه جاء بالكلام على ما التزمه البصريون لقال: ما لم يكن هو وأب له. ومما جاء عن العرب مما فيه العطف بغير توكيد بالضمير المنفصل قول شاعر الحماسة، وهو من شواهد الرضي، وشرحه البغدادي "2/ 236"
ولست بنازل إلا ألمت ... برحلي أو خيالتها الكذوب
فقد عطف بأو قول "خيالتها" على الضمير المستتر في قوله "ألمت" والبصريون يرون هذا البيت أخف من بيت جرير وبيت عمر بن أبي ربيعة وبيت الراعي، والسر في ذلك أن الكلام طال بسبب إتيانه بمتعلق للفعل وهو قوله: "برحلي" فجعلوا طول الكلام نائبا مناب التوكيد، وجعلوا من هذه البابة قول الله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} فقد زعموا أن الكلام قد طال بذكر "لا" ولو أن ذكرها جاء بعد حرف العطف وهو الواو، فلذلك ساغ ترك التوكيد بالضمير المنفصل، وهو كلام لا يقضي العجب منه، أن يجدوا في كلام الله تعالى -وهو أفصح الكلام وأدقه رعاية للصحيح البالغ الغاية- دليلًا يشهد لخصومهم فيتمحّلون ويتعلّلون.

(2/389)


فعطف "وأبٌ" على الضمير المرفوع في "يَكُنْ" فدل على جوازه، كالعطف على الضمير المنصوب المتصل.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل وذلك لأنه لا يخلو: إما أن يكون مقدرًا في الفعل أو ملفوظًا به؛ فإن كان مقدرًا فيه نحو "قام وزيدٌ" فكأنه قد عَطَفَ اسمًا على فعل، وإن كان ملفوظًا به نحو "قمت وزيدٌ" فالتاء تنزل بمنزلة الجزء من الفعل، فلو جوّزنا العطف عليه لكان أيضًا بمنزلة عطف الاسم على الفعل، وذلك لا يجوز.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم 6، 7] فالواو فيه واو الحال، لا واو العطف، والمراد به جبريل وحده، والمعنى أن جبريل وحده استوى بالقوة في حالة كونه بالأفق، وقيل: فاستوى على صورته التي خلق عليها في حالة كونه بالأفق، وإنما كان قبل ذلك يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة رجل.
وأما ما أنشدوه من قوله:
[299]
قلت إذ أقبلت وزُهْرٌ تَهَادَى
[300]
ما لم يكن وأبٌ له لِيَنَالَا
فمن الشاذ الذي لا يؤخذ به، ولا يقاس عليه، على أنا نقول: إنما جاء ههنا لضرورة الشعر، والعطف على الضمير المرفوع المتصل في ضرورة الشعر عندنا جائز؛ فلا يكون لكم فيه حجة.
وتشبيههم له بالضمير المنصوب المتصل فلا وجه له بحال؛ لأن الضمير المنصوب المتصل وإن كان في اللفظ في صورة الاتصال فهو في النية في تقدير الانفصال، بخلاف الضمير المرفوع المتصل؛ لأنه في اللفظ والتقدير بصفة الاتصال؛ فبان الفرق بينهما، وقد ذكرنا ذلك مستوفى في كتابنا الموسوم بأسرار العربية1، والله أعلم.
__________
1 لم أجد هذا الموضوع الأصيل في أسرار العربية.

(2/390)