الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 67- مسألة: [هل تأتي "أو" بمعنى الواو،
وبمعنى "بل"؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "أو" تكون بمعنى الواو، وبمعنى بل.
وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو، ولا بمعني بل.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك كثيرًا
في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُون} [الصافات: 147] فقيل في التفسير: إنها
بمعنى بل، أي: بل يزيدون، وقيل: إنها بمعنى الواو، أي: ويزيدون، ثم قال
الشاعر:
[301]
بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمس في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وصُورَتِهَا أو
أَنْتِ في العَيْنِ أَمْلَحُ
__________
[301] بدت: أي ظهرت، وقرن الشمس -بفتح القاف وسكون الراء المهملة-
أولها عند طلوعها، وقيل: هي أول شعاعها، وقيل: ناحيتها، ورونق الضحى:
أوله، يقال: "زرت فلانا رونق الضحى" أي في أوله، وقال الشاعر:
ألم تسمعي -أي عبد- في رونق الضحي ... بكاء حمامات لهن هدير
وقالوا "رونق الشباب" وهم يريدون أوله وماءه. والاستشهاد به ههنا في
قوله "أو أنت أملح" فإن الكوفيين أنشدوا البيت مستدلين به على أن "أو"
في هذه العبارة بمعنى بل، فكأن الشاعر بعد أن قال "بدت مثل قرن الشمس"
رأى أنها أعلى من ذلك فأضرب عما قال أولًا فقال: بل أنت أملح. قال ابن
هشام في مغني اللبيب "ص64 بتحقيقنا": "السادس -من معاني أو- الإضراب
كبَلْ، فعن سيبويه إجازة ذلك بشرطين تقدم نفي أو نهي، وإعادة العامل،
نحو ما قام زيد أو ما قام عمرو، ولا يقم زيد أو لا يقم عمرو، ونقله عنه
ابن عصفور، ويؤيده أنه قال في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً} ولو قلت أولًا تطع كفورًا انقلب المعنى، ويعني
أنه يصير إضرابًا عن النهي الأول ونهيًا عن الثاني فقط، وقال الكوفيون
وأبو علي وأبو الفتح وابن برهان: تأتي للإضراب =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 93" وتصريح
الشيخ خالد الأزهري "2/ 184".
(2/391)
أراد "بل وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ
مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] أي: وكفورًا، ثم قال
النابغة:
[302]
قالت: ألا لَيْتَمَا هذَا الحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا، أو
نِصْفُهُ فَقَدِ
__________
= مطلقًا، احتجاجًا بقول جرير:
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم ... لم أحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين، أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
وقراءة أبي السمال "أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ" بسكون واو أو" ا. هـ كلامه وقال البغدادي في شرح شواهده:
"على أن أو فيه بمعنى بل للإضراب الانتقالي، وقيل: للشك، كأن كثرتهم
أوجبت الشك في عدتهم، ومن ثم احتجاج في عدتهم إلى عداد، وقال الكوفيون:
أو هنا بمعنى الواو" ا. هـ كلامه. والحاصل أن الكوفيين يخرجون هذا
البيت بأحد تخريجين: الأول: أن أو بمعنى واو العطف التي لمطلق الجمع،
والمعنى عليه: كانوا ثمانين وزادوا ثمانية، والثاني: أن أو بمعنى بل
للإضراب الانتقالي، والمعنى عليه: كانوا ثمانين بل زادوا على الثمانين
ثمانية، وقد ذكر هذا شراح الألفية منهم ابن عقيل "1/ 181" والأشموني
"برقم 847" والبصريون يخرجونه على أن أو فيه للشك، وسيذكر المؤلف هذا
التخريج قريبا.
[302] هذا البيت من قصيدة النابغة الذبياني المعلقة التي منها الشاهدان
"101 و159" وهو من شواهد سيبويه "1/ 282" وابن هشام في مغني اللبيب
"رقم 93" وأنشده فيه ثلاث مرات "ص63 و286 و308 بتحقيقنا"، وفي أوضح
المسالك "رقم 138" وفي شذور الذهب "رقم 138" والأشموني "رقم 271" ورضي
الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/
297" كما شرحه العيني "2/ 254 بهامش الخزانة" ومحل الاستشهاد بهذا
البيت في هذا الموضع قوله "أو نصفه" فإن الكوفيين ينشدونه شاهدا على أن
"أو" بمعنى الواو الدالة على مطلق الجمع، ويؤيد ما ذهبوا إليه أمران
الأول: أنه يروى "ونصفه" بالواو، وقد ذكرنا لك من قبل أنه إذا رويت
عبارة بروايتين ووضعت في إحداهما كلمة مكان كلمة في الرواية الأخرى
دلَّ ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد، والثاني: أن فتاة الحي التي حكى
النابغة عنها أنها قالت "ألا ليتما" إلى آخر البيت كانت قد تمنت هذا
الحمام ونصفه منضمًّا إلى حمامتها، ويرون عنها أنها قالت:
ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه
ونصفه قديه ... تم الحمام ميه
ولا يتم الحمام مائة إلا إذا انضم الحمام إلى نصفه إلى حمامتها، بدليل
قول النابغة في هذه القصة من أبيات القصيدة:
فحسبوه فألفوه كما ذكرت ... ستًا وستين لم تنقص ولم تزد
ولو كانت "أو" على أصله لم تصلح هذه الحسبة، وتخريج المؤلف لهذا البيت
على أن في الكلام حذف المعطوف عليه وحرف العطف وأن تقدير الكلام: ليتما
هذا الحمام لنا أو هو ونصفه -مع بقاء أو على معناها الأصلي- بعيد كل
البعد، فوق أنه لا مستند له من قواعد =
(2/392)
أي: ونِصْفُه، والشواهد على هذا النحو من
كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثرُ من أن تُحْصَى.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الأصل في "أو" أن تكون لأحد الشيئين
على الإبهام، بخلاف الواو وبل؛ لأن الواو معناها الجمع بين الشيئين،
وبل معناها الإضراب، وكلاهما مخالف لمعنى أو، والأصل في كل حرف أن لا
يدل إلا على ما وُضِعَ له، ولا يدل على معنى حرف آخر؛ فنحن تمسكنا
بالأصل، ومن تمسك بالأصل استغنى عن إقامة الدليل، ومن عدل عن الأصل بقي
مُرْتَهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليل لهم يدل على صحة ما ادعوه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى:
{وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 174]
فلا حجة لهم فيه، وذلك من وجهين؛ أحدهما: أن يكون للتخيير، والمعنى
أنهم إذا رآهم الرائي تخير في أن يقدرهم مائة ألف، أو يزيدون على ذلك،
والوجه الثاني: أن يكون بمعنى الشك، والمعنى أن الرائي إذا رآهم شك في
عِدَّتِهِم لكثرتهم، أي: أن حالهم حال من يُشَك في عدتهم لكثرتهم؛
فالشك يرجع إلى الرائي، لا إلى الحق تعالى: كما قال تعالى: {فَمَا
أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] بصيغة التعجب، والتعجب
يرجع إلى المخاطبين، لا إلى الله تعالى، أي: حالهم حال من يُتَعَجب
منه؛ لأن حقيقة التعجب في حق الحق لا تتحقق؛ لأن التعجب إنما يكون
بحدوث علم بعد أن لم يكن، ولهذا قيل في معناه: التعجب ما ظهر حكمه وخفي
سببه، والحق تعالى عالم بما كان، وبما يكون، وبما لا يكون أن لو كان
كيف كان يكون، وكما أن التعجب يرجع إلى الخلق لا إلى الحق، فكذلك ههنا.
__________
= النحاة، فإن الذي تعودوا أن يقولوه: إن المحذوف هو الحرف العاطف
والمعطوف به، كما في الآية الكريمة التي تلاها {فَقُلْنَا اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} التقدير: فضرب فانفجرت، فالمحذوف
الذي قدره هو فاء العطف والفعل الذي تعطفه هذه الفاء على ما قبله، فأما
ما قدره في البيت فهو معطوف على اسم مذكور بحرف مذكور وعاطف آخر لاسم
مذكور على المعطوف المحذوف، وهذا شيء عجيب أوقعه فيه التعصب للبصريين
ولو سلمنا أن ذلك جائز لما صلح أيضا؛ لأن مراد النابغة أن يصف هذه
الفتاة بدقة النظر وسرعة الحساب فكيف يتفق ذلك مع شكلها فيما تتمناه
هذا ما ظهر لي. والنحاة يستشهدون بهذا البيت أيضا على أن ليت إذا اتصلت
بها ما الزائدة لم تخرجها عما استقر لها من الاختصاص بالجمل الاسمية،
وأن الأكثر فيها مع الاتصال بما إعمالها في الاسم والخبر، وهم يروون
قوله "ألا ليتما هذا الحمام" بنصب الحمام على الإعمال، وبرفعه على
الإهمال.
(2/393)
وأما احتجاجهم بقول الشاعر:
[301]
.... أو أنتِ في العين أَمْلَحُ
فالرواية فيه "أم أنت في العين أملح" ولئن سلمنا أن الرواية "أو" فلا
حجة لهم فيه أيضا؛ لأن "أو" فيه للشك، وليست بمعنى بل؛ لأن مذهب
الشعراء أن يخرجوا الكلام مُخْرَج الشك وإن لم يكن هناك شك؛ ليدلوا
بذلك على قوة الشبه، ويسمى في صنعة الشعر "تجاهل العارف" كقول الشاعر:
[303]
فَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بين جُلَاجِل ... وبين النَّقَا آأَنْتِ
أَمْ أُمُّ سَالِمِ؟
وكقول الآخر:
[304]
بالله يا ظَبَيَاتِ القَاعِ قُلْنَ لَنَا: ... ليلاي منكنّ أَمْ ليلى
من البَشَرِ؟
__________
[303] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وهو من شواهد سيبويه
"2/ 168" وابن جني في الخصائص "2/ 458" والقزويني في الإيضاح "379"
ورضي الدين في شرح الشافية "رقم 168" وشرحه البغدادي "ص347 بتحقيقنا"
وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص1315" وانظر بعد ذلك أمالى أبي علي
القالى "2/ 61" وكامل المُبَرِّد "بغية الآمل 6/ 181" وأمالى ابن
الشجري "1/ 321" ولسان العرب "ج ل ل" ومعجم ياقوت "جلاجل" والوعساء:
رملة، وجلاجل: قد ضبطها ابن منظور بفتح الجيم الأولى، وقال ياقوت
"جلاجل: بالضم وكسر الثانية، ويروى بفتح الأولى، ورأيته بخط أبي زكريا
التبريزي بحاءين مهملتين الأولى مضمومة.. جبل بالدهناء" ا. هـ.
والاستشهاد بالبيت في قوله "أأنت أم سالم" فإن ظاهر ما تدل عليه هذه
العبارة أنه لا يعلم أيهما أجمل فاستفهم لتخبره، ولكن الحقيقة أنه عارف
أن أم سالم أجمل، فتجاهل ليأخذ الإقرار بأن أم سالم أجمل، وهذا نوع من
البديع يسمى تجاهل العارف وقد عرفه السكاكي بأنه "سوق المعلوم مساق
المجهول لنكتة" والنكتة ههنا هي إظهار تدلهه في الحب وأنه لفرط عشقه لم
يعد يعرف أظهر الأشياء وأقربها إليه.
[304] هذا البيت من شواهد الإيضاح للقزويني "ص379 بتحقيقنا" وأوضح
المسالك لابن هشام "رقم 539" وشرح الأشموني "رقم 131" وشرحه العيني "1/
416 و4/ 518" وقد اختلف العلماء في نسبة هذا البيت، فزعم قوم أنه
لمجنون بني عامر، وكأنهم اغتروا بذكر اسم ليلى فيه، وقد بحثت جميع
ديوان المجنون فلم أجده فيه، ونسبه قوم لذي الرمة، ونسبه العيني
للعرجي، ونسبه العباسي لبعض الأعراب ولم يسمه "المعاهد 418" ونسبه
القزويني للحسين بن عبد الله الغزي، ونسبه الباخرزي في الدمية لبدوي
سماه كاهلا الثقفي، وانظر بعد ذلك كله الشاهد رقم "78" الذي مضى في
المسألة 15، والقاع: أرض سهلة قد انفرجت عنها الجبال والآكام،
والاستشهاد به ههنا في قوله "ليلى منكن أم ليلى من البشر" فإن ظاهر هذه
العبارة أنه لا يعلم إن كانت ليلى من جنس الظباء أم من جنس الإنسان،
فاستفهم لتخبره، والحقيقة أنه لا يجهل ذلك، فتجاهل وهو عارف، ويسمي
علماء البديع =
(2/394)
وإن لم يكن هناك شك ولا شبهة، وإذا كانوا
يخرجون الكلام مُخْرَجَ الشك وإن لم يكن هناك شك لم تخرج "أو" عن
أصلها.
وأما قول الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}
[الإنسان: 24] فلا حجة لهم فيه؛ لأن "أو" فيها للإباحة، أي: قد أبحتُكَ
كُلَّ وَاحِدٍ منهما كيف شئت، كما تقول في الأمر "جالس الحسن أو ابن
سيرين" أي: قد أبحتك مجالسة كل واحد منهما كيف شئت، والمنع بمنزلة
الإباحة، فكما أنه لا يمتنع من شيء أبحته له، فكذلك لا يُقْدِم على شيء
نهيته عنه، وأما قول الآخر:
[302]
... أو نِصْفُهُ فَقَدِ
فنقول: الرواية "ونصفه فقد" بالواو؛ فلا يكون لكم فيه شاهد، ولو سلمنا
أن الرواية على ما رويتموه فنقول: "أو" فيه باقية على أصلها، وهو أن
يكون التقدير فيه: ليتما هذا الحمام أو هو ونصفه، فحذف المعطوف عليه
وحرف العطف، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}
[البقرة: 60] أي: فضرب فانفجرت، وعلى هذا التقدير قول الشاعر:
[305]
ألا فَالبَثَا شَهْرَيْنِ أَوْ نِصْفَ ثَالِثِ
أي: شهرين أو شهرين ونصف ثالث، ألا ترى أنك لا تقول مبتدئا "لبثت نصف
ثالث" وإذا وجب أن يكون المعطوف عليه محذوفًا كانت باقية على أصلها،
فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.
__________
= هذا النوع من الكلام تجاهل العارف، وهو نظير ما ذكرناه في البيت
السابق، ونظير هذين البيتين قول أبي الطيب المتنبي:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي؟
وقول التهامي يشكو السهر:
قصرت جفوني أم تباعد بينها ... أم مقلتي خلقت بلا أشفار؟
وقول مهيار الديلمي:
سلا ظبية الوادي - وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا -
أأنت أمرت البدر أن يصدع الدجى ... وعلمت غصن البان أن يتميلا؟
[305] لم أقف لهذا الشاهد على تكملة، ولا على سوابق أو لواحق تتصل به،
ولا على نسبة إلى قائل معين، والاستشهاد به في قوله "أو نصف ثالث" فإنه
على تقدير حذف معطوف وحرف عطف، وأصل الكلام: ألا فالبثا شهرين أو شهرين
ونصف شهر ثالث، وقد بيَّنَّا لك رأينا في هذا التقدير في شرح الشاهد
رقم 302.
(2/395)
68- مسألة: [هل يجوز أن يعطف بـ"لكن" بعد
الإيجاب؟]
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف بـ"لكن" في الإيجاب، نحو: "أتاني زيد
لكن عمرو". وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف بها في الإيجاب، فإذا
جيء بها في الإيجاب وجب أن تكون الجملة التي بعدها مخالفة للجملة التي
قبلها، نحو "أتاني زيد لكن عمرو لم يأت" وما أشبه ذلك. وأجمعوا على أنه
يجوز العطف بها في النفي.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن "بل" يجوز العطف بها
بعد النفي والإيجاب؛ فكذلك "لكن" وذالك لاشتراكهما في المعنى، ألا ترى
أنك تقول "ما جاءني زيد لكن عمرو" فتثبت المجيء للثاني دون الأول، كما
لو قلت "ما جاءني زيد بل عمرو" فتثبت المجيء للثاني دون الأول، فإذا
كانا في معنى واحد، وقد اشتركا في العطف بهما في النفي، فكذلك في
الإيجاب.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز العطف بها بعد
الإيجاب وذلك لأن العطف بها في الإيجاب إنما يكون في الغلط والنسيان،
ألا ترى أنك لو عطفت بها بعد الإيجاب لكنت تقول "جاءني زيد لكن عمرو"
فكنت تثبت للثاني بلكن المجيء الذي أثبته للأول، فيعلم أن الأول مرجوع
عنه كالعطف ببل في الإيجاب، نحو جاءني زيد بل عمرو" وإذا كان العطف
بلكن في الإيجاب إنما يكون في الغلط والنسيان فلا حاجة إليها؛ لأنه قد
استغنى عنها ببل في الإيجاب؛ لأنه لا حاجة إلى تكثير الحروف الموجبة
للغلط، وقد يستغنى بالحرف عن الحرف في بعض الأحوال إذا كان في معناه،
ألا ترى أنهم استغنوا بإليك عن حَتَّاكَ، وبمثلك عن كَكَ، وكذلك
استغنوا عن وَدَعَ بِتَرَكَ؛ لأنه في معناه، وكذلك استغنوا به عن
وَذَرَ، وكذلك استغنوا بمصدر ترك واسم الفاعل منه عن مصدر ودع ووذر،
وعن اسم الفاعل منهما، فيقال: ترك تركًا فهو تارك، ولا يقال: وَدَعَ
وَدْعًا
(2/396)
وهو وادع. لا وَذَرَ وَذَرًا فهو واذر؛
فأما قول أبي الأسود الدؤلي:
[306]
ليت شعري عن خَلِيلِي ما الذي ... غَالَهُ في الحب حتى وَدَعَهْ؟
وقول سُوَيد بن أبي كاهل:
[307]
فَسَعَى مَسْعَاتَهُ في قَوْمِهِ ... ثُمَّ لم يَبْلُغْ ولا عَجْزَا
وَدَعْ
__________
[306] أنشد ابن منظور هذا البيت "ود ع" ونسبه إلى أبي الأسود الدؤلي،
ثم قال "وهذا البيت روى الأزهري عن ابن أخي الأصمعي أن عمه أنشده لأنس
بن زنيم:
ليت شعري عن أميري ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه
لا يكن برقك برقًا خلبًا ... إن خير البرق ما الغيث معه
قال ابن بري: وقد روي البيتان للمذكورين" ا. هـ كلام ابن منظور،
واستشهد به الرضي في شرح الشافية "رقم 20" وشرحه البغدادي "ص50" وودع
يدع: معناه ترك يترك، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "ودعه" بتخفيف
الدال مفتوحة -حيث ورد فيه الفعل الماضي الثلاثي من هذه المادة،
والمشهور أن العرب أهملت الماضي الثلاثي من هذه المادة، واستعملت
المضارع والأمر منها، وقد ذكر المؤلف أن المشهور أن العرب أهملت اسم
الفاعل من هذه المادة أيضًا، وأنهم استغنوا عن الفعل الثلاثي المجرد من
هذه المادة بفعل آخر من معناه، وهو ترك، واستغنوا كذلك عن "وذر"
الماضي؛ لأن ترك يقوم مقامه، واستعملوا مضارع "وذر" وأمره، فقالوا
"يذر، ذر" قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وقال سبحانه {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيداً} وقد استعمل الشاعر في بيت الشاهد "ودع" الثلاثي المجرد حين
اضطر؛ مراجعة لأصل مهجور، ونظيره قول الآخر:
وكان ما قدموا لأنفسهم ... أكثر نفعًا من الذي ودعوا
ونظيرهما قول الآخر:
فسعى مساعاته في قومه ... ثم لم يدرك، ولا عجزًا ودع
وقد قرأ عروة بن الزبير في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى} بتخفيف الدال، قال الليث: "العرب لا تقول: ودعته فأنا وادع،
ولكن يقولون في الغابر "أي في المضارع" يدع، وفي الأمر: دعه، وفي
النهي: لا تدعه" ا. هـ. وقد ورد استعمال اسم الفاعل من ودع الثلاثي
المجرد في قول معن بن أوس:
عليه شريب لين وادع العصا ... يساجلها حماته وتساجله
وفي بيت آخر أنشده أبو علي الفارسي في البصريات:
فأيهما ما أتبعن فإنني ... حزين على ترك الذي أنا وادع
كما ورد المصدر الثلاثي المجرد في حديث ابن عباس "لينتهين أقوام عن
ودعهم الجمعات أو ليختمن على قلوبهم" أي عن تركهم إياها والتخلف عنها،
قال ابن بري "وزعم النحوية أن العرب أماتوا مصدر يدع ويذر، واستغنوا
عنه بالترك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب، وقد وردت عنه هذه
الكلمة" ا. هـ. وقال ابن الأثير: "وإنما يحمل قول النحاة على قلة
استعماله، فهو شاذ في الاستعمال صحيح في القياس، وقد جاء في غير حديث،
حتى قرئ به في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
بالتخفيف" ا. هـ.
[307] هذا البيت من كلام سويد بن أبي كاهل، اليشكري، وهو البيت الحادي
والثمانون من =
(2/397)
فهو محمول على أنه بمعنى وَدَّعَ بالتشديد
فخفَّف، وهو على كل حال من الشاذ الذي لا يعتدُّ به في الاستعمال. وإذا
كان كذلك وجب أن تكون الجملة التي بعدها مخالفة لما قبلها؛ ليكونا
خبرين مختلفين.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنا أجمعنا على أن بل يجوز
العطف بها بعد النفي والإيجاب فكذلك لكن لاشتراكهما في المعنى" قلنا:
إنما شاركت لكن بل في النفي دون الإيجاب؛ لأن مشاركتها لها في النفي
صواب وليس على سبيل النسيان والغلط؛ ألا ترى أنك إذا قلت في النفي "ما
جاءني زيد لكن عمرو" لم توجب نسيانًا ولا غلطًا كما لو قلت "ما جاءني
زيد بل عمرو" وإذا كان استعماله في النفي لا يوجب نسيانا ولا غلطا،
فتكثير ما هو صواب لا يُنْكَر، بخلاف استعماله في الإيجاب؛ فإنه يوجب
النسيان والغلط، والنسيان والغلط إنما يقع نادرًا قليلًا، فاقتصر فيه
على حرف واحد وهو "بل".
ثم ليس من ضرورة تشارك لكن وبل في بعض الأحوال مشاركتهما في كل
الأحوال، ألا ترى أن "بل" لا يحسُنُ دخول الواو عليها؟ ولا يقال "وبل"
و"لكن" يحسن دخول الواو عليها فيقال "ولكن" قال الله تعالى: "وَلَكِنِ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا" [البقرة: 102] في قراءة من قرأ بالتخفيف،
وكذلك قوله: "وَلَكِنِ البر" [البقرة: 177] والشواهد على ذلك من كتاب
الله وكلام العرب مما لا يحصى كثرة، وذلك لا يوجد البتة في "بل" فدلَّ
على ما قلناه، والله أعلم.
__________
= المفضلية الأربعين "انظر المفضليات ص190-202 ط دار المعارف" وقبل
البيت المستشهد به قوله:
كيف يرجون سقاطي بعدما ... لاح في الرأس بياض وصلع
ورث البغضة عن آبائه ... حافظ العقل لما كان استمع
يصف شانئه بأنه ورث بغضه عن آبائه، وسمعهم يذكرون العداوة وأسبابها
ويشتمونه فحفظ ذلك عنهم بعد أن وعاه وعقله، ومسعاتهم: سعي آبائه،
ورواها المؤلف "مسعاته" يريد أنه سعى كما كانوا يسعون فلم يظهر بشيء
كما لم يظفروا من قبل. والاستشهاد به في قوله "ودع" حيث استعمل الفعل
الماضي الثلاثي المجرد، ومعناه ترك، والكلام فيه كالكلام في الشاهد
السابق، قال ابن جني "إنما هذا على الضرورة؛ لأن الشاعر إذا اضطر جاز
له أن ينطق بما ينتجه القياس وإن لم يرد به سماع -ثم أنشد بيت أبي
الأسود، وهو الشاهد السابق- وعليه قراءة بعضهم: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَمَا قَلَى} لأن الترك ضرب من القلى، فهذا أحسن من أن يعل باب استحوذ
واستنوق الجمل لأن استعمال ودع مراجعة أصل، وإعلال استحوذ واستنوق
ونحوهما من المصحح ترك أصل، وبين مراجعة الأصول وتركها ما لا خفاء به"
ا. هـ. وانظر كتاب سيبويه "2/ 256"
(2/398)
69- مسألة: [هل يجوز صرف أفعل التفضيل في
ضرورة الشعر؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "أفعل منك" لا يجوز صَرْفُه في ضرورة الشعر.
وذهب البصريون إلى أنه يجوز صرفه في ضرورة الشعر.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "مِنْ" لما اتصلت
به منعت من صرفه لقوة اتصالها به، ولهذا كان في المذكر والمؤنث
والتثنية والجمع على لفظ واحد، نحو "زيد أفضل من عمرو، وهند أفضل من
دعد، والزيدان أفضل من العمرين، والزيدون أفضل من العمرين" وما أشبه
ذلك؛ فدل على قوة اتصالها به؛ فلهذا قلنا: لا يجوز صرفه.
ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا ذلك لأن "من" تقوم مقام الإضافة ولا
يجوز الجمع بين التنوين والإضافة؛ فكذلك لا يجوز الجمع بينه وبين ما
يقوم مقام الإضافة، وإنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما
دليلان من دلائل الأسماء، فاستغني بأحدهما عن الآخر.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز صرفه لأن الأصل
في الأسماء كلها الصرف، وإنما يُمْنَع بعضها من الصرف لأسباب عارضة
تدخلها على خلاف الأصل؛ فإذا اضطر الشاعر ردَّها إلى الأصل، ولم يعتبر
تلك الأسباب العارضة التي دخلت عليها، قال أبو كبير الهذلي:
[308]
ممن حملن به وهن عَوَاقِدٌ ... حُبُكَ النِّطَاق فَشَبَّ غير مُهَبَّل
__________
[308] هذا البيت من كلام أبي كبير الهذلي، واسمه عامر بن الحليس،
ويقال: عويمر بن الحليس، أحد بني سعد بن هذيل، وهو من كلمة أثر منها
أبو تمام في ديوان الحماسة =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 233" وتصريح
الشيخ خالد الأزهري "2/ 286 بولاق" وشرح الرضي على الكافية "1/ 33"
وشرح ابن يعيش على المفصل "ص83" وأسرار العربية للمؤلف "ص122".
(2/399)
فصرف "عواقد" وهي لا تنصرف؛ لأنه ردها إلى
الأصل، وقال النابغة:
[309]
فَلَتَأْتِيَنْكَ قَصَائِدٌ
__________
= عشرة أبيات ثانيها هذا البيت، وانظر الشاهد "رقم 144" في المسألة رقم
28، والبيت المستشهد به هنا من شواهد سيبويه "1/ 56" وابن هشام في مغني
اللبيب "رقم 942" وابن يعيش في شرح المفصل "ص830" ورضي الدين في باب
اسم الفاعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 466"
والأشموني "رقم 707" وابن الناظم في باب إعمال اسم الفاعل، وشرحه
العيني "3/ 558" والضمير في قوله "حملن" يعود إلى النساء وإن لم يجر
لهن ذكر، ولكن لما كان المراد مفهوما جاز هذا الإضمار، والحبك -بضم
الحاء المهملة والباء الموحدة- جمع حبيك، والحبك: الطرائق، والنطاق
-بكسر النون بزنة الكتاب- ما تشده المرأة في حقوها، وتقول: انتطقت
المرأة؛ إذا لبست النطاق، واحتبكت؛ إذا لبست الحباك وهو الإزار، وشب:
قوي وترعرع، والمهبّل: المدعو عليه بالهبل وهو الثكل، وقيل: هو المعتوه
الذي لا يتماسك. يقول: إن هذا الفتى من الفتيان الذين حملت أمهاتهم بهم
وهن غير مستعدات للفراش فنشأ محمودًا مرضيًا. والاستشهاد بهذا البيت
ههنا في قوله "عواقد" فإن هذه الكلمة على صيغة منتهى الجموع وهي تقتضي
المنع من صرف الاسم، ولكن الشاعر قد صرف هذه الكلمة ونونها حين اضطر
لإقامة الوزن، ونظيره قول امرئ القيس بن حجر الكندي:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سوالك نقب بين حزمي شعبعب؟
وقول زهير بن أبي سلمى:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم؟
وقوله سحيم:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... تحملن من جنبي شروري غواديا
ومن صرف الاسم الممنوع من الصرف قول امرئ القيس في معلقته:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت: لك الويلات إنك مرجلي
والنحاة يستشهدون ببيت الشاهد على أنه نصب قوله "حبك النطاق" بعواقد
الذي هو جمع عاقدة الذي هو اسم الفاعل المؤنث من قولهم "عقدت المرأة
نطاقها" إذا شدَّته وربطته.
[309] هذه قطعة من بيت للنابغة الذبياني، وهو بتمامه.
فلتأتينك قصائد، وليدفعن ... جيشا إليك قوادم الأكوار
وكان زرعة بن عمرو بن خويلد لقي النابغة بعكاظ، فأشار عليه أن يطلب إلى
قومه ويحضهم على قتال بني أسد وترك حلفهم، وأبى النابغة، فبلغه أن زرعة
يتوعده، فقال قصيدته التي منها بيت الشاهد، وأولها:
طال الثواء على رسوم ديار ... قفر أسائلها، وما استخباري؟
والقوادم: جمع قادمة، والقادمة: مقدم الرحل، والأكوار: جمع كور، وهو
رحل الناقة. ويتهدده بأنه سيهجوه، وبأنه سيغزوه، والاستشهاد بالبيت في
قوله "قصائد" فإن هذه الكلمة على صيغة منتهى الجموع وهي تقتضي منع
الصرف، وقد صرف الشاعر هذه الكلمة حين اضطر إلى إقامة الوزن، على نحو
ما قررناه في البيت الذي قبل هذا البيت.
(2/400)
فصرف "قصائد" وهي لا تنصرف؛ لأنه ردها إلى
الأصل، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة في أشعارهم.
والذي يدل على هذا أن ما لا أصل له في الصرف ودخول التنوين لا يجوز
للشاعر أن ينونه للضرورة، لأنه لا أصل له في ذلك فيرده إلى حالة قد
كانت له، فإذا ثبت هذا فنقول: أفعل منك اسم، والأصل فيه الصرف، وإنما
امتنع من الصرف لوزن الفعل والوصف، فصار بمنزلة "أحمر"، وكما وقع
الإجماع على أن "أحمر" يجوز صرفه في ضرورة الشعر ردًّا إلى الأصل فكذلك
أفعل منك، ثم إذا جار عندكم في ضرورة الشعر ترك صرف ما أصله الصرف -وهو
عدول عن الأصل إلى غير أصل- فكيف لا يجوز صرف ما أصله الصرف وهو رجوع
عن غير أصل إلى أصل؟ وهل منع ذلك إلا رفض القياس، وبناء على غير أساس؟
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن من لما اتصلت به منعت من
صرفه" قلنا: هذا باطل؛ لأن اتصال من ليس له تأثير في منع الصرف، وإنما
المؤثر في منع الصرف وزن الفعل والوصف. والذي يدل على ذلك أنهم قد
قالوا: "زيد خير منك، وشر منك" فيصرفون مع اتصال "من" به، ولم يمنعوهما
الصرف مع دخول "من" عليهما واتصالها بهما، ولو كان كما زعموا لوجب أن
لا ينصرفا لاتصال "من" بهما، فلما انصرفا مع اتصال "من" بهما دلّ على
أن اتصالها بهما لا أثر له في منع الصرف، وإنما المؤثر في منع الصرف
وزن الفعل والوصف.
والذي يدل على صحة هذا أنه لما زال وزن الفعل من "خير منك، وشر منك"
انصرف؛ لأن الأصل: أخير منك، وأشرر منك؛ إلا أنهم حذفوا الهمزة منهما
لكثرة الاستعمال، وأدغموا إحدى الراءين في الأخرى من قولهم "شر منك"
لئلا يجتمع حرفان متحركان من جنس واحد في كلمة واحدة؛ لأن ذلك مما
يستثقل في كلامهم، فلما نقصا عن وزن الفعل بقي فيهما علة واحدة وهي
الوصف، فَرُدَّا إلى الأصل وهو الصرف؛ لأن العلة الواحدة لا تقوى على
منع الصرف الذي هو الأصل.
وأما قولهم "إنه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث؛ لاتصال من به" قلنا: إنما
لم يثنَّ ولم يجمع ولم يؤنث لثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه لم يثنَّ ولم يجمع ولم يؤنث لأنه تضمن معنى المصدر؛
لأنك إذا قلت "زيد أفضل منك" كان معناه فضل زيد يزيد على فضلك؛ فجعل
موضع يزيد فضله أفضل، فتضمن معنى المصدر والفعل معا، والفعل والمصدر
مذكران، ولا تدخلهما تثنية ولا جمع، فكذلك ما تضمنهما.
(2/401)
والوجه الثاني: أنه لم يثنَّ ولم يجمع ولم
يؤنث لأنه مضارع للبعض الذي يقع به التذكير والتأنيث والتثنية والجمع
بلفظ واحد.
والوجه الثالث: إنما لم يثنَّ ولم يجمع لأن التثنية والجمع إنما تلحق
الأسماء التي تنفرد بالمعاني، و"أفعل" اسم مركب يدل على فعل وغيره، فلم
يجز تثنيته ولا جمعه، كما لم يجز تثنية الفعل ولا جمعه لما كان مركبا
يدلُّ على معنى وزمان، وإنما فعلت العرب ذلك اختصارًا للكلام، واستغناء
بقليل الكلام عن كثيره، ولم يجز تأنيثه لما ذكرنا من تضمنه معنى
المصدر، والمصدر مذكر، ثم على أصلكم إنما وُحِّد "أفعل" لأنه جرى مجرى
الفعل؛ ولهذا كانت إضافته غير حقيقية.
وأما قولهم "إن من تقوم مقام الإضافة، ولا يجوز الجمع بين التنوين
والإضافة" قلنا: لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يدخله الجر في موضع
الجر، كما إذا دخلته الإضافة، فلما أجمعنا على أنه لا ينصرف ويكون في
موضع الجر مفتوحًا كسائر ما لا ينصرف دلَّ على فساد ما ذهبتم إلى.
وأما قولهم "إنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما دليلان من
دلائل الأسماء" قلنا: لا نسلم أنه إنما لم يجز الجمع بين التنوين
والإضافة لأنهما دليلان من دلائل الأسماء، وإنما لم يجز الجمع بين
التنوين والإضافة لوجهين:
أحدهما: أن الإضافة تدل على التعريف، والتنوين يدل على التنكير فلو
جوّزنا الجمع بينهما لأدى ذلك إلى أن يجمع بين علامة تعريف وعلامة
تنكير في كلمة واحدة، وهما ضدّان، والضدّان لا يجتمعان.
والوجه الثاني: أن الإضافة علامة الوصل، والتنوين علامة الفصل. فلو
جوّزنا الجمع بينهما لأدّى ذلك إلى أن يجمع بين علامة وصل وعلامة فصل
في كلمة واحدة، وهما ضدّان، والضدّان لا يجتمعان.
وما ذهبوا إليه من التعليل يبطل بحرف الجر مع لام التعريف؛ فإنهما يجوز
اجتماعهما، نحو "مررت بالرجل" وإن كانا دليلين من دلائل الأسماء، إلى
غير هذين الدليلين من دلائل الأسماء، والله أعلم.
(2/402)
70- مسألة: [منع صرف ما ينصرف في ضرورة
الشعر] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر، وإليه ذهب
أبو الحسن الأخفش وأبو علي الفارسي وأبو القاسم بن برهان من البصريين،
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز، وأجمعوا على أنه يجوز صرف ما لا ينصرف
في ضرورة الشعر.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف
في ضرورة الشعر أنه قد جاء ذلك كثيرًا في أشعارهم، قال الأخطل:
[310]
طَلَبَ الأَزَارِقَ بِالكَتَائِبِ إذ هَوَتْ ... بِشَبِيبِ غَائِلَةِ
الثُّغُورِ غَدُورُ
__________
[310] هذا البيت للأخطل -غياث بن الغوث- التغلبي، من كلمة يمدح فيها
سفيان بن الأبيرد، وهو من شواهد الأشموني "رقم 994" وابن هشام في أوضح
المسالك "رقم 487" وابن الناظم في باب ما لا ينصرف من شرح الألفية،
وشرحه العيني "4/ 362 بهامش الخزانة" والأزارق: جمع أزرقي، وهو المنسوب
إلى نافع بن الأزرق، رأس الخوارج، وكان من حق العربية عليه أن يقول
"الأزارقة" لأنهم يزيدون التاء في الجمع عوضًا عن ياء النسبة التي تكون
في المفرد، قالوا: المهالبة، والأشاعرة، في جمع أشعري ومهلبي، ولكنه
حذف التاء حين اضطر لإقامة الوزن، والكتائب: جمع كتيبة، وهي الفرقة من
الجيش، وتطلق الكتيبة على الخيل المغيرة من المائة إلى الألف، وهوت:
سقطت، وشبيب: هو شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني، وكان رأسًا من رءوس
الخوارج في عهد عبد الملك بن مروان، وقاتله الحجاج بن يوسف الثقفي.
ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله: "بشبيب" حيث منعه من الصرف مع أنه
ليس فيه إلا العلمية، وهي وحدها لا تقتضي المنع من الصرف، وإنما تقتضيه
إذا انضمت إليه علة أخرى مثل التأنيث في فاطمة وحمزة وزينب، ومثل العدل
في عمر وزفر وجمح، ومثل زيادة الألف والنون في عثمان وعفان وعمران،
ومثل وزن الفعل =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 233" وتصريح
الشيخ خالد الأزهري "2/ 287" والمفصل مع شرحه لابن يعيش "ص81" وشرح
الرضي على الكافية "1/ 34"
(2/403)
فترك صرف "شبيب" وهو منصرف، وقال حَسَّان:
[311]
نصروا نبيهم وشدُّو أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يوم تَوَاكُلِ الأبطالِ
فترك صرف "حنين" وهو منصرف، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] ولم يُرْوَ عن أحد من
القراء أنه لم يصرفه، وقال الفرزدق:
[312]
إذا قال غَاوٍ من تَنْوخَ قصيدةً ... بها جَرَبٌ عُدَّتْ على
بِزَوْبَرَا
__________
= في أحمد ويشكر وبقم، قال ابن يعيش "السبب الواحد لا يمنع الصرف في
حال الاختيار والسعة، وقد أجاز الكوفيون والأخفش وجماعة من المتأخرين
البصريين كأبي علي وابن البرهان وغيرهما ترك صرف ما ينصرف، وأباه
سيبويه وأكثر البصريين، وقد أنكر المنع أبو العباس المُبَرِّد، وقال:
ليس لمنع الصرف أصل يردّ إليه، وقد أنشد من أجاز ذلك أبياتًا صالحة
العدة ... وقد تأولها أبو العباس وروى شيئًا منها على غير ما رووه" ا.
هـ. وقال ابن هشام "وأجاز الكوفيون والأخفش والفارسي للمضطر أن يمنع
صرف المنصرف، وأباه سائر البصريين، وعن ثعلب أنه أجاز ذلك في الكلام"
ا. هـ. وقال الرضي "وجوز الكوفيون وبعض البصريين للضرورة ترك صرف
المنصرف، لا مطلقًا، بل بشرط العلمية دون غيرها من الأسباب؛ لقوتها
وذلك بكونها شرطًا لكثير من الأسباب مع كونها سببًا" ا. هـ.
[311] هذا البيت لحسان بن ثابت الأنصاري، وقد أنشده ابن منظور "ح ن ن"
وعزاه إليه، وحنين -بالضم، على زنة التصغير- اسم واد بين مكة والطائف،
قال الأزهري: حنين اسم وادٍ كانت به وقعة أوطاس، ذكره الله تعالى في
كتابه فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}
وقال الجوهري: حنين موضع، يذكر ويؤنث، فإذا قصدت به الموضع ذكرته
وصرفته كقوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وإن قصدت به البقعة أنثته ولم
تصرفه، وأنشد لذلك بيت حسان، وإذا كان ما قاله الجوهري صحيحًا -وهو
صحيح إن شاء الله- فإن منع حسان صرف "حنين" يكون جاريًا على القياس،
ولا ضرورة فيه؛ لأن فيه علتين إحداهما العلمية والأخرى التأنيث، فأما
أن القراء أجمعوا على صرف "حنين" في الآية الكريمة فلا يدل على عدم
جوازه في السعة بتقدير تأنيثه على أنه علم على البقعة، وذلك لأن
القراءة لا تتبع صحة الوجه عربية، ولكنها سنة متبعة وهي لا تخالف
العربية ولكن ليس معنى هذا أن كل ما جاز في العربية جازت القراءة به،
ولكن معناه أن كل ما قرئ به فهو جائز في العربية، وفرق بين الكلامين،
والمؤلف نفسه شنع على الكوفيين في المسألة "33" على أساس زعمهم أن كل
ما جاز في العربية يرد في القرآن ولم يقرأ به القراء.
[312] نسب المؤلف هذا البيت للفرزدق، وقد أنشده ابن منظور "ز ب ر"
ونسبه إلى ابن أحمر، وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص44 ليبزج" ونسبه
إلى الطرماح، وأنشد ابن سيده في المخصص "15/ 183" كلمة الاستشهاد من
هذا البيت، من غير عزو، وقد رجعت إلى ديوان الفرزدق، فوجدت فيه أربعة
أبيات يقولها لقومه يقع هذا البيت ثانيها، وقبله:
يا قوم إني لم أكن لأسبكم ... وذو البرء محقوق بأن يتعذرا
(2/404)
فترك صرف "زَوْبَرَ" وهو منصرف، ومعناه
نُسِبَتْ إليّ بكمالها من قولهم: أخذ الشيء بزَوْبَرِهِ، إذا أخذه كله،
وقيل: "بزَوْبَرَا" أي كذبًا وزورًا، وقال الآخر:
[313]
إلى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أَرْحَلُ نَاقَتِي ... عمرو فَتُبْلِغُ
حَاجَتِي أو تُزْحِفُ
__________
= ووجدت له قطعة أخرى عدتها اثنا عشر بيتًا يقولها في التنصل إلى خالد
القسري عامل هشام بن عبد الملك بن مروان على العراق؛ من هجاء كان قد
هجى به خالد، فاتّهم الفرزدق بذلك الهجو، وهذا البيت يقع سادس أبياتها،
وأولها:
ألكني إلى راعي الخليفة والذي ... له الأفق والأرض العريضة نورا
والغاوي: غير الرشيد، ويروى "إذا قال راوٍ" ويروى "عاوٍ" بالعين
المهملة -من العواء، وهو صوت الكلب، وبها جرب: أي فيها عيب من هجاء
ونحوه، وقوله "عدت عليّ بزوبرا" أي نسب إليّ بكمالها، مأخوذ من قولهم:
أخذ الشيء بزوبره، يريدون كله، جعل زوبر علمًا على هذا المعنى. وقد نقل
ابن جني عن أبي علي ما قد يفيد أن منع صرف زوبر في هذا البيت جارٍ على
القياس، قال "سألت أبا علي عن ترك صرف زوبر، فقال: علقه علمًا على
القصيدة فاجتمع فيه التعريف والتأنيث" ا. هـ.
[313] هذا البيت من كلام بشر بن أبي خازم، وقد أنشده ابن منظور "ز ح ف"
وعزاه إليه، غير أنه وقع هناك هكذا:
قال ابن إياس ارْحَلْ ناقتي ... عمرو فتبلغ حاجتي أو تُزْحِفُ
والذي يتجه لي أن ما وقع في اللسان محرف عما رواه المؤلف هنا، ثم إني
رأيت البغدادي يشير إلى أن هذا البيت قد قيل في مدح عمرو بن حجر
الكندي، وأم أناس: كما قال المؤلف أيضًا هي بنت ذهل، من بني شيبان، وقد
روي هذا البيت على وجه آخر، وهو:
وإلى ابن أم أناس تعمد ناقتي ... عمرو، لتنجح ناقتي أو تتلف
وقد بحثت طويلًا عن الكلمة التي منها هذا البيت فلم أعثر عليها. وتقول
"رحل فلان ناقته يرحلها، من باب فتح" إذا وضع عليها الرحل وهيأها
للسفر، وقوله "فتبلغ حاجتي" حذف المفعول الأول، وأصل الكلام: فتبلغني
حاجتي، وقد أعتاد الشعراء أن يطلبوا إلى الناقة إبلاغهم حاجتهم، وانظر
إلى قول الشماخ بن ضرار الغطفاني:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وإلى قول عنترة بن شداد العبسي قبله:
هل تبلغني دارها شدنية ... لعنت بمحروم الشراب مصرم
وقوله في بيت الشاهد "أو تزحف" مأخوذ من قولهم "زحف البعير يزحف زحفا
-مثل فتح يفتح فتحا- وزحوفا، وزحفانا" إذا أعيا فجر فرسنه، يقول: إني
أرحل ناقتي إلى عمرو بن أم أناس، فإما أن تبلغني مقصدي وإما أن تعيا
فلا تستطيع السير، يريد أنه لا يرأف بها ولا يشفق عليها ولا يعطيها
شيئًا من الراحة. والاستشهاد بالبيت في قوله "أم أناس" فقد منع "أناس"
من الصرف، فجره بالفتحة من غير تنوين مع أنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو
العلمية، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة.
(2/405)
فترك صرف "أناس" وهو منصرف، و"أم أناس" بنت
ذهل من بني شيبيان، و"عمرو" يريد عمرو بن حجر الكندي، وقال الآخر:
[314]
أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وأَنَّ يَوْمِي ... بأَوَّلَ أَوْ بَأَهْوَنَ
أَوْ جُبَارِ
أَوِ التَّالي دُبَارَ؛ فإن أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِسَ أو عَرُوبةً أو
شِيَارِ
فترك صرف "دبار" وهو منصرف، و"دبار" يوم الأربعاء، وما ذكره في هذين
البيتين أسماء الأيام في الجاهلية؛ فأول: يوم الأحد، وأهون: يوم
الإثنين، وجبار: يوم الثلاثاء، ودبار: يوم الأربعاء، ومؤنس: يوم
الخميس، وعروبة: يوم الجمعة، وشيار: يوم السبت، وقال الآخر:
[315]
فَأَوْفَضْنَ عنها وهي تَرْعُو حُشَاشَةً ... بِذِي نَفْسِهَا
والسَّيْفُ عُرْيَانُ أَحْمَرُ
__________
[314] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ج ب ر - د ب ر - ش ى ر - أن س - هـ
ون" ولم يعزهما إلى قال معين في أحد هذه المواضع، وهذه الأسماء أعلام
على أيام الأسبوع، على ما كان العرب يسمونها في الجاهلية، وقد بينها
المؤلف، ومحل الاستشهاد في البيت قوله "دبار" حيث منعه من الصرف مع أنه
لا يوجد فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، ونظيره يقال في "مؤنس" أما
"أول، وأهون" ففيهما العلمية ووزن الفعل وأما "عروبة" ففيه العلمية
والتأنيث، وأما "جبار، وشيار" فقد صرفهما فجرهما بالكسرة، وعدم
تنوينهما بسبب الرويّ، وقد ضبط في لسان العرب "دبار، ومؤنس" بالجر،
وفيه مقال.
[315] أوفضن عنها: أسرعن، والإيفاض: الإسراع. وفي القرآن الكريم:
{كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ووفضت الإبل تفض
-مثل وعد يعد- واستوفضت تستوفض، إذا أسرعت، وأوفض الرجل واستوفض: أي
أسرع، واستوفض إبله: طردها واستعجلها، وترغو: من الرغاء، وهو صوت
الإبل، تقول: رغا البعير، يرغو رغاء، إذا صوت فضج، وقد يقال الرغاء
لصوت الضباع والنعام. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "عريان" حيث منعه من
الصرف مع أنه ليس فيه إلا الوصفية، وهي وحدها غير كافية في منع الصرف.
فإن قلت: كيف زعمت أن هذه الكلمة ليس فيها غير الوصفية مع أن الألف
والنون فيها زائدتان، فتكون قد اشتملت على الوصفية وزيادة الألف
والنون، وهما علتان تقتضيان المنع من الصرف نحو عطشان وسكران وغضبان
وغرثان.
قلت: إن شرط تأثير زيادة الألف والنون في منع الصرف مع الوصفية أن يكون
مؤنث ما فيه الألف والنون بألف التأنيث، ألست ترى مؤنث عطشان عطشى،
ومؤنث سكران سكرى، ومؤنث غضبان غضبى، ومؤنث غرثان غرثى، وترى مؤنث
عريان عريانة، ومؤنث سيفان -وهو الرجل الطويل الممشوق- سيفانة، ومؤنث
ندمان ندمانة، فما كان مؤنثه فعلى فهو ممنوع من الصرف للوصفية وزيادة
الألف والنون، وما كان مؤنثه فعلانة فهو مصروف، والسر في ذلك أن زيادة
الألف والنون مع الوصف محمولة في المنع من الصرف على ألف التأنيث
الممدودة وهذه لمذكرها صيغة غير صيغة المؤنث نحو حمراء وأحمر ودعجاء =
(2/406)
فترك صرف "عُرْيَان" وهو منصرف؛ لأن مؤنثه
عُرْيَانَة لا عَرْيَا.
وقال الآخر:
[316]
قالت أميمة ما لِثَابِتَ شاخصًا ... عَارِي الأَشَاجِعِ نَاحِلًا
كالمُنْصُلِ
فترك صرف "ثابت" وهو منصرف، وقال العباس بن مرداس السُّلمِي:
[317]
فَمَا كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ ... يفوقان مرداس في مَجْمَعِ
__________
= وأدعج، فوجب في الالف والنون أن تكون صيغة المؤنث غير صيغة المذكر
حتى يتم الشبه بين الفرع والأصل، فإن وجدت كلمة فيها الوصفية والألف
والنون الزائدتان، وكان لها مؤنثان أحدهما على فعلانة بزيادة تاء
التأنيث والآخر على فعلى بالألف المقصورة فإن هذه الكلمة تكون ذات
وجهين، كل وجه منهما يرجع إلى لغة غير التي يرجع إليها الوجه الآخر،
ومن أمثلة ذلك عطشان وغضبان، فإن جمهور العرب يقولون في مؤنثهما عطشى
وغضبى، وعلى هذا يكون عطشان وغضبان، ممنوعين من الصرف، وبنو أسد وحدهم
يقولون في مؤنثهما: عطشانة وغضبانة، وعلى هذا يكون عطشان وغضبان
مصروفين، وشيء آخر في "عريان" يدلك على أنه مصروف، وذلك أن الألف
والنون الزائدين لا يكونان مانعين من الصرف مع الوصفية إلا فيما كان
أوله مفتوحًا كجميع الأمثلة التي ذكرناها، وعريان مضموم الأول، فأنت لا
تحتاج في معرفة أنه لا يمنع من الصرف إلى جديد.
[316] أميمة: من أسماء النساء، وأصلها تصغير أم، وقوله "ما لثابت" أي
ما الذي طرأ عليه بعدنا حتى غيّر حاله، وشاخصًا: يحتمل وجهين، أولهما:
أن يكون مأخوذًا من قولهم "شخص بصر فلان فهو شاخص" إذا فتح عينيه وجعل
لا يطرف، ويكون ذلك عند الذهول أو مشارفة الموت، والثاني: أن يكون
مأخوذًا من قولهم "شخص فلان بشخص شخوصًا" أي سار من بلد إلى بلد، تريد
أنه متهيّئ للرحيل، والأول أقرب لما بعده، وقوله "عاري الأشاجع" تريد
أنه هزل وضعف، وناحلا: أي قد شحب لونه وتغير وضعف جسمه وهزل، والمنصل
-بضم الميم وصاده مضمومه أو مفتوحة- السيف، ولم يجئ على هذين الوزنين
غير هذه الكلمة وقولهم "منخل" -بضم ميمه وخائه وبضم الميم وفتح الخاء-
ومحل الاستشهاد هنا بهذا البيت قوله "ما لثابت" حيث منع "ثابت" من
الصرف مع أنه ليس فيه إلا العلمية، على نحو ما قررناه في الشواهد
السابقة، وفي قوله "عاري الأشاجع" شاهد للنحاة، حيث لم يظهر الفتحة
التي يقتضيها الإعراب على ياء "عاري" فإن هذه الكلمة حال من ثابت مثل
قوله "شخاصا" الذي قبله، وقد عامل الشاعر الاسم المنقوص في حال النصب
معاملة الاسم المنقوص المرفوع والمجرور، ولذلك نظائر كثيرة في العربية.
[317] هذا البيت من كلام العباس بن مرداس السلمي، يقوله لسيدنا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وزع غنائم حنين فأعطى عيينة بن حصن
الفزاري والأقرع بن حابس وغيرهما من المؤلفة قلوبهم أكثر مما أعطى
العباس بن مرادس، فغضب العباس فقال أبياتًا منها هذا البيت، وهو من =
(2/407)
فترك صرف "مرادس" وهو منصرف.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الرواية:
[317]
يفُوقَان شَيْخِيَ في مَجْمَعِ
وشيخه أبُوهُ مرادس" لأنا نقول: بل الرواية الصحية المشهورة ما رويناه،
على أنا لو قدرنا أنه قد روى رواية أخرى كما رويتموه فما العذر عن هذه
الرواية الصحيحة مع شهرتها؟ وقال دَوْسَر بن دهبل القريعي:
[318]
وقَائِلَةٍ ما بَالُ دَوْسَرَ بَعْدَنَا ... صَحَا قَلْبُهُ عن آلِ
ليلى وعن هِنْدِ
فلم يصرف "دوسر" وهو منصرف.
قالوا: ولا يجوز أن يقال إن الرواية:
[318]
ما للقُرَيْعِيِّ بَعْدَنَا
__________
= شواهد الرضي في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 71"
وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص81" والأشموني "رقم 992" وابن الناظم
في باب الاسم الذي لا ينصرف من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 365
بهامش الخزانة" وحصن: هو أبو عيينة، وحابس: أبو الأقرع، ومرداس: أبو
العباس قائل هذا البيت، يريد أن أبويهما لم يكونا خيرا من أبيه،
والاستشهاد به في قوله "مرداس" حيث منعه من الصرف وليس فيه إلا علة
واحدة وهي العلمية، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة،
والرواية الأخرى -وهي "يفوقان شيخي في مجمع"- هي رواية أبو العباس
المبرد، وقد قال ابن مالك "وللمبرد إقدام في رد ما لم يرو، مع أن البيت
بذكر مرداس ثابت بنقل العدل عن العدل في صحيح البخاري ومسلم، وذكر شيخي
لا يعرف له سند صحيح، ولا سبب يدنيه من التسوية فكيف من الترجيح" ا.
هـ.
[318] هذا البيت لدوسر بن دهبل القريعي كما قال المؤلف، وقد استشهد به
الأشموني "رقم 993" وابن الناظم، وشرحه العيني "4/ 366 بهامش الخزانة"
وما بال دوسر: أي ما شأنه وما حاله؟ وصحا قلبه: تريد أنه سلا أحبابه
وترك ما كان عليه من الصبابة، ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني:
صحا القلب عن سلمى، وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق والثقل
وأصرح منه قول زهير أيضًا:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله
والاستشهاد بهذا البيت ههنا في قوله "دوسر" حيث منعه من الصرف مع أنه
ليس فيه إلا علة واحدة وهي العلمية، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشواهد
السابقة، والرواية الأخرى -وهي "ما للقريعي بعدنا"- ذكرها ابن عصفور،
وقال "والجيد الصحيح عندنا في إنشاد هذا البيت، ثم ذكرها" وهذه جرأة
كجرأة أبي العباس المُبَرِّد التي حكيناها لك، وندد بها العلامة بن
مالك، وذكرنا لك نص عبارته في شرح الشاهد السابق.
(2/408)
لأنَّا نقول؛ بل الرواية الصحيحة المشهورة
ما رويناه، ولو قدرنا أن ما رويتموه صحيح فما عذركم عما رويناه مع صحته
وشهرته؟ وقال الآخر:
[319]
وَمُصْعَبُ حِينَ جَدَّ الأَمْـ ... ـر أكثرُها وأطيبُها
قالوا: ولا يجوز أن يقال إن الرواية:
[319]
وأنتم حين جَدَّ الأمر ...
لأنَّا نقول: بل الراوية الصحيحة ما رويناه، ولو قدرنا ما رويتموه
صحيحًا فما عذركم عما رويناه على ما بيّنّا؟ وقال الآخر:
[320]
وممن ولدوا عامرُ ... ذو الطَّولِ وذو العَرْضِ
__________
[319] أنشد ابن يعيش في شرح المفصل "ص81" هذا البيت من غير عزو،
والمصعب في الأصل: الفحل، وقالوا "رجل مصعب" يعنون أنه سيد، ثم سموا
مصعبا، وممن سمي بهذا الاسم مصعب بن الزبير بن العوام، وقالوا
"المصعبان" يعنون مصعبا وابنه عيسى بن مصعب، وقيل: يعنون مصعب بن
الزبير وأخاه عبد الله، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "ومصعب" فإنه
مرفوع بغير تنوين، فدل ذلك على أنه ممنوع من الصرف، مع أنه ليس فيه إلا
علة واحدة وهي العلمية، والدليل على أن الأصل في مصعب الصرف قول عبيد
الله بن قيس الرقيات:
إنما مصعب شهاب من اللـ ... ـه تجلت عن وجهه الظلماء
وقول الفرزدق همام بن غالب "الديوان ص26":
وقدر أي مصعب في ساطع سبط ... منها سوابق غارات أطانيب
و" أطانيب" في قول الفرزدق ليست وصفًا للسوابق كما توهمه صاحب اللسان،
فقال "وخيل أطانيب: يتبع بعضها بعضا، ومنه قول الفرزدق، ثم أنشد البيت"
ولو كانت الأطانيب من صوف الخيل المعبر عنها ههنا بالسوابق لكانت
منصوبة، ولكن الأطانيب في هذا البيت من وصف الغارات المجرور، وقال صاحب
الأساس "وغارات أطانيب: متصلة لا آخر لها، وقال الفرزدق، ثم أنشد
البيت".
[320] هذا البيت لذي الإصبع العدواني، واسمه الحارث بن محرث بن حرثان
من كلمة رواها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني "3/ 4 و10 بولاق" والبيت
من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص81" وابن عقيل "321" وابن الناظم في
باب ما لا ينصرف من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 364 بهامش الخزانة"
وأنشده ابن منظور "ع م ر" من غير عزو "وعامر" هو عامر بن الظرب
العدواني، الذي يقول فيه ذو الإصبع من كلمة الشاهد:
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
وهو ذو الحلم الذي قيل فيه المثل "إن العصا قرعت لذي الحلم" وقيل: إن
ذا الحلم هو عمرو بن حممة الدوسي "انظر شرح التبريزي على الحماسة 1/
201 بتحقيقنا" وقوله "ذو الطول وذو العرض" كناية عن عظم جسمه، والعرب
تتمدح بطول الأجسام، ومن ذلك =
(2/409)
فترك صرف "عامر" وهو ينصرف، ولم يجعله
قبيلة لأنه وصفه فقال "ذو الطول وذو العرض" ولو كانت قبيلة لوجب أن
يقول: ذات الطول وذات العرض، ولا يجوز أن يقال "إنما لم يصرفه لأنه ذهب
به إلى القبيلة كما قرأ سيد القراء أبو عمرو بن العلاء "وجئتك من
سَبَأَ بنَبَأ يقين" فترك صرف سَبَأ، لأنه جعله اسمًا للقبيلة حملًا
على المعنى، وقال الشاعر:
[321]
من سَبَأَ الحَاضِرِينَ مأرِبَ إذ ... يبنون من دون سَيْلِهِ العَرِمَا
__________
= قول الشاعر، وهو من شواهد النحاة:
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أعزاء الرجال طيالها
والقماءة -بفتح القاف بزنة الصحابة- قصر القامة، وطيالها: أي طوالها،
ويروى بالواو أيضا، ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "عامر" فقد جاء به
مرفوعًا من غير تنوين، فدلّ على أنه منعه من الصرف مع أنه ليس فيه إلا
علة واحدة وهي العلمية، والكلام فيه كالكلام في الشواهد السابقة،
وسنتعرض لهذا البيت مرة أخرى في شرح الشاهد 327 الآتي:
[321] أنشد ابن منظور هذا البيت "س ب أ "من غير عزو، وأنشده مرة أخرى
"ع ر م" وعزاه إلى الجعدي من غير تعيين، وهو من شواهد سيبويه "2/ 28"
وعزاه الأعلم إلى النابغة الجعدي، وسبأ: اسم بلدة كانت تسكنها بلقيس
صاحبة سليمان بن داود، وقيل: اسم رجل يجمع عامة قبائل اليمن، وقال
الزّجّاج: سبأ هي مدينة تعرف بمأرب، من صنعاء على مسيرة ثلاث ليال، وفي
القرآن الكريم: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]
والقراء يقرأون {مِنْ سَبَأٍ} بالجر والتنوين على أنه مصروف، وكان أبو
عمرو بن العلاء يقرأ بالفتح من غير تنوين على أنه ممنوع من الصرف، فأما
من صرفه فعلى تأويله بمذكر، وأما من لم يصرفه فعلى تأويله بمؤنث،
الحاضرين: جمع حاضر وأصل الحاضر الحي العظيم، وقال ابن سيده: الحي إذا
حضروا الدار التي بها مجتمعهم. وقال الشاعر:
في حاضر لجب بالليل سامره ... فيه الصواهل والرايات والعسكر
ونظيره سامر لجماعة السمار، وحاج لجماعة الحجاج، وجامل لجماعة الجمال،
وأراد ههنا معنى الوصف الذي يتضمنه هذا اللفظ، ومأرب: اسم بلاد الأزد
التي أخرجهم منها سيل العرم، وانتصابه على معنى "في" والعرم -بفتح
العين وكسر الراء أو فتحها جمع عرمة، وهي سد يعترض به الوادي، وقيل:
العرم جمع لا واحد له، وقال أبو حنيفة الدينوري: العرم هي الأحباس تبنى
في أوساط الأودية. والاستشهاد بالبيت هنا في قوله: "سبأ" حيث منعه من
الصرف، فجاء به مفتوحًا من غيرت تنوين، مع أنه ليس فيه إلا سبب واحد
-وهو العلمية- فإنه أراد به ههنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ومن
ينسب إلى بدليل أنه وصفه بعد ذلك بقوله "الحاضرين" وبهذا استدل
الكوفيون على أنه يجوز للشاعر إذا اضطر أن يمنع الاسم المنصرف من
الصرف، والبصريون يتمحلون فيدعون أنه منع "سبأ" من الصرف لأنه أراد به
مؤنثًا وهو القبيلة، ووصفه بالمذكر نظرًا إلى المعنى لأن القبيلة رجال
أو فيهم رجال. ونقول: إنه لما جرت عادة الشعراء بأن يصرفوا "سبأ"
فيجروه =
(2/410)
فلم يصرف "سبأ" لأنه جعله اسمًا لقبيلة
حملًا على المعنى، وقال الله تعالى: {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا
رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} [هود: 68]
فلم يصرف {ثَمُودَ} الثاني؛ لأنه جعل اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى،
ثم قال الشاعر:
[322]
تَمُدُّ عليهم من يمين وأَشْمُلٍ ... بُحُورٌ له من عَهْدِ عَادَ
وتُبّعَا
وقال الآخر:
[323]
لو شَهْدَ عاد من زمان عَادِ ... لَابْتزَّهَا مَبَارِكَ الجِلَادِ
__________
= بالكسرة مع التنوين نحو قول الشاعر:
أضحت ينفرها الولدان من سبإ ... كأنهم تحت دفّيها دحاريج
فإن منعها شارع من الصرف يكون قد جاء بها على خلاف المعهود من أمثاله،
وهذا هو المنع من الصرف مع عدم استكمال سبب المنع، ثم إن الكوفيين لا
يقولون: إنه يجوز منع المنصرف من الصرف في سعة الكلام، بل يقولون:
استساغ الشعراء لأنفسهم حين الضرورة أن يمنعوا المصروف من الصرف.
[322] أنشد ابن منظور هذا البيت "ع ود" من غير عزو، وهو من شواهد
سيبويه "2/ 27" ونسبه إلى زهير، وعاد: قبيلة، وهم قوم هود عليه السلام،
قال الليث: "عاد الأولى هم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم
الله. وأما عاد الأخيرة فهم بنو تميم، ينزلون رمال عالج، عصوا الله
فمسخوا" ا. هـ. وتبع -بضم التاء وتشديد الباء مفتوحة- واحد التبابعة
وهم ملوك اليمن، سموا بذلك لأن بعضهم كان يتبع بعضا، كلما هلك واحد
منهم قام مقامه آخر تابعًا له على مثل سيرته. والاستشهاد بالبيت في
قوله "عاد وتبعا" حيث منعهما من الصرف مع أنه لا يوجد فيهما إلا علة
واحدة وهي العلمية، وقد وردت كلمة "عاد" في القرآن الكريم عدة مرار
مصروفة على الأصل، من ذلك قول الله تعالى: {وَإلى عَادٍ أَخَاهُمْ
هُوداً} [الأعراف: 65] وقوله سبحانه: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً
الْأُولَى} [النجم: 50] ووردت كلمة تبع في القرآن الكريم مصروفة أيضًا،
وذلك في قوله سبحانه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان:
37] فمجيء هاتين الكلمتين في قول الشاعر: من عهد عاد وتبعا" غير
منصرفتين: أي مجرورتين بالفتحة نيابة عن الكسرة يدل على أنه يجوز
للشاعر حين يضطر أن يمنع الاسم المنصرف من الصرف، وقد حكى ابن منظور "ع
ود" أنه يقال "ما أدري أي عاد هو" غير مصروف، ومعناه ما أدري أي خلق
هو، وهو غريب جدًا، فإن البصريين لم يقبلوا القول بجواز منع صرف
المصروف في الضرورة، والكوفيين إنما أجازوا ذلك في ضرورة الشعر، فكيف
جاز في السعة ذلك؟
[323] هذان البيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد سيبويه "2/ 27"
ولم ينسبهما إلى قائل معين، ولا نسبهما الأعلم في شرحه، وشهد: هو هنا
بفتح الشين وسكون الهاء، وأصله بكسر الهاء على مثال علم، فسكن الشاعر
العين المكسورة للتخفيف، وانظر الشواهد "73-77" السابقة، وابتزها:
سلبها، ومبارك الجلاد: وسط الحرب ومعظمها، وأصل الكلام: لابتزها من
مبارك الجلاد، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى الاسم بنفسه. ومحل =
(2/411)
وقال الآخر:
[324]
عَلِمَ القبائل من مَعَدَّ وغيرها ... أن الجَوَادَ محمدٌ بنُ عطارِدِ
وقال الآخر:
[325]
ولسنا إذا عُدّ الحصى بِأقِلَّةٍٍ ... وإن مَعَدّ اليوم مُودٍ
ذَلِيلُهَا
__________
= الاستشهاد بهذا البيت هنا قوله "عاد" الأولى فإنه روي بالفتح من غير
تنوين، وذلك يدل على أنه منعه من الصرف، والقول فيه كالقول في البيت
السابق، وأما "عاد" التي وردت في البيت بعد ذلك فهي مجرورة بالكسرة
الظاهرة بدليل الرويّ في البيت الثاني، فلا دليل فيه؛ لأنه جاء على
الأصل.
[324] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 27" ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم،
ولكن الأعلم قال "والممدوح محمد بن عطارد، أحد بني تميم وسيدهم في
الإسلام" ا. هـ، ومعد: هو ابن عدنان جد العرب العدنانية. والاستشهاد
بالبيت في قوله "معد" حيث منعه الشاعر من الصرف، وهو إن كان المراد به
الرجل الذي اسمه "معد" والحيّ لم يكن فيه إلا سبب واحد من أسباب منع
الصرف، وإن كان المراد به القبيلة -وهو الظاهر في هذا البيت لقوله قبل
ذلك: "علم القبائل" ثم قوله "وغيرها" بضمير المؤنث- كان منعه من الصرف
جاريًا على القاعدة المطردة لأنه حينئذ يكون مشتملًا على العلمية
والتأنيث، قال الأعلم: "الشاهد فيه ترك صرف معد حملًا على معنى
القبيلة، والأكثر في كلامهم صرفه؛ لأن الغالب عليه أن يكون اسمًا
للحيّ" ا. هـ. ومن منع صرف "معد" قول الشاعر، وهو من شواهد سيبويه
أيضًا:
وأنت امرؤ من خير قومك فيهم ... وأنت سواهم في معد مخير
[325] أنشد ابن منظور هذا البيت "م ع د" من غير عزو، وهو من شواهد
سيبويه "2/ 27" ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم إلى قائل معين. ووقع في
اللسان "مؤذ ذليلها" تحريف ما أثبتناه موافق لما في أصول هذا الكتاب
ولما جاء في كتاب سيبويه، والحصى: يضرب مثلا في الكثرة، وانظر إلى قول
الأعشى ميمون:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
والمودي: الهالك، تقول: أودى يودي هو مود، تريد هلك فهو هالك. يقول:
إذا كثر عدد من حصل من الأشراف وأهل المجد والعدد لم يكن عددنا قليلا
فنهلك ونذهب ونضيع سدى من القلة والذلة. والاستشهاد بالبيت في قوله
"معد" حيث منعه من الصرف، والكلام فيه كالكلام في البيت السابق "رقم
324": إن كان المراد الحي أو الرجل الذي اسمه "معد" لم يكن فيه إلا سبب
واحد من أسباب منع الصرف فيكون منعه من الصرف للضرورة، وإن كان المراد
به القبيلة كان منعه من الصرف على القاعدة المطردة لاشتماله على
العلمية والتأنيث، والوجه الثاني: هو الظاهر في هذا البيت أيضا؛ لأنه
أعاد الضمير على "معد" مؤنثًا في قوله "مود ذليلها" فيكون هذا مما يرجح
أنه أراد به القبيلة، فاعرف ذلك.
(2/412)
وقال الآخر:
[326]
غَلَبَ المَسَامِيحَ الوَلِيدُ سَمَاحَةً ... وكَفَى قريش
المُعْضِلَاتِ وسَادَهَا
فلم يصرف "قريش" لأنه جعله اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى، والحمل على
المعنى كثير في كلامهم، قال الشاعر:
[327]
قامت تُبَكِّيهِ على قبره ... من لي من بعدك يا عَامِرُ
__________
[326] هذا البيت لعدي بن الرقاع العاملي، وقد أنشده ابن منظور "ق ر ش"
أول بيتين ونسبهما إليه، وقال: إنه يمدح فيهما الوليد بن عبد الملك بن
مروان، والبيت الثاني هو قوله:
وإذا نشرت له الثناء وجدته ... ورث المكارم طرفها وتلادها
والبيت من شواهد سيبويه "1/ 26" والمساميح: جمع سمح على غير قياس، وهو
الذي خلقه السماحة والجود، والمعضلات: الشدائد، واحدها معضلة، وسادها:
أي صار سيدها ووالي أمورها. والاستشهاد به في قوله "قريش فقد منعه من
الصرف، وأنت إن أردت به الحي أو الرجل كان منعه من الصرف ضرورة من
الضرورات التي أباحها الكوفيون للشاعر وحظرها البصريون على الشاعر
وغيره، وإن أردت به القبيلة كان منعه من الصرف جاريًا على القاعدة
المطردة لوجود سببين مانعين من الصرف حينئذٍ وهما العلمية والتأنيث،
قال الأعلم الشنتمري "الشاهد فيه ترك صرف قريش حملا على معنى القبيلة،
والصرف فيها أكثر وأعرف لأنهم قصدوا بها قصد الحي وغلب ذلك عليها" ا.
هـ كلامه؛ أما أن المراد في هذا البيت القبيلة فيرشحه قوله بعد ذلك في
البيت "وسادها" فأعاد الضمير مؤنثًا؛ فذلك يؤيد أنه عنى القبيلة، وقال
ابن سيده: وقول الشاعر:
وجاءت من أباطحها قريش ... كسيل أتى بيشة حين سالا
قال: عندي أنه أراد قريش -غير مصروف- لأنه عنى القبيلة، ألا تراه قال
جاءت فأنث؟ قال: وقد يجوز أن يكون أراد: وجاءت من أباطحها جماعة قريش
فأسند الفعل إلى الجماعة، فقريش على هذا مذكر، اسم للحي" ا. هـ كلامه،
وقال سيبويه: "وإن شئت جعلت تميما وأسدا اسم قبيلة فلم تصرفه، والدليل
على ذلك قول الشاعر:
نبا الخز عن روح، وأنكر جلده ... وعجت عجيجًا من جذام المطارف
وسمعنا من العرب من يقول:
فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإن الريح طيبة قبول
فإذا قالوا: ولد سدوس كذا وكذا، أو ولد جذام كذا وكذا؛ صرفوه، ومما
يقوّي ذلك أن يونس زعم أن بعض العرب يقول: هذه تميم بنت مر، وسمعناهم
يقولون: قيس بنت عيلان، وتميم صاحبة ذلك، فإنما قال بنت حين جعله اسمًا
للقبيلة، ومن ذلك قولهم: باهلة بن أعصر، فباهلة امرأة، ولكنه جعله
اسمًا للحي فجاز له أن يقول: ابن" ا. هـ كلامه. وحاصله أنك حين تريد
الحي أو القوم تذكر وتصرف، وليس يعنيك إن كان أصل الاسم لمذكر أو مؤنث،
وحين تريد القبيلة تؤنث وتمنع الصرف ولا يعنيك أن يكون أصل الاسم لمذكر
أو مؤنث.
[327] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ع م ر" من غير عزو، والبيتان في
الحديث عن امرأة قامت =
(2/413)
تَرَكَتْنِي في الدَّار ذَا غُرْبَةٍ ...
قد ذلَّ من ليس له ناصرُ
وكان الأصل أن يقول "ذات غربة" فحمله على المعنى، فكأنها قالت: تركتني
إنسانًا ذا غربة، والإنسان يطلق على الذكر والأنثى، وقال الأعشى:
[328]
لقوم فكانوا هُمُ المُنْفِدِينَ ... شرابهمُ قبلَ إنفادِهَا
__________
= على قبر رجل تبكيه، وقوله "تركتني في الدار ذا غربة" معناه أنها -وإن
كانت في دارها وبين ذويها وأهلها- تشعر بالوحدة والغربة؛ لأنها ما كانت
تجد الأنس في غير عامر المبكى، ثم علل ذلك بقوله "قد ذل من ليس له
ناصر" ومحل الاستشهاد قوله "ذا غربة" فإنه كان ينبغي -لو أنه أجرى
الكلام على ما يقتضيه اللفظ- أن يقول "ذات غربة" لأن الحديث على لسان
امرأة، بدليل قوله "قامت تبكيه" لكنه -مع ذلك- أجرى الكلام على المعنى؛
فإن المرأة يقال لها "إنسان" أو "شخص" والشخص مذكر، فيجوز أن تجري عليه
صفات المذكرين تبعًا للفظه، ويجوز أن تجري عليه صفات المؤنثات تبعا
للمراد منه، أما أن المرأة يطلق عليها لفظ "شخص" فدليله قول عمر بن أبي
ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فقد قال "ثلاث شخوص" بغير تاء في ثلاث، وترك التاء في لفظ العدد يكون
عندما يكون المعدود مؤنثا، ويدل لهذا أيضا أنه فسر ثلاث الشخوص بقوله
"كاعبان ومعصر" والكاعب: المرأة التي كعب ثديها ونهد. وفي بيت الشاهد
قال "ذا غربة" أي أشخاص ذا غربة، وهذا ظاهر إن شاء الله.
ومن الإجراء على المعنى ما أنشده ابن منظور "ب ك ى" قال: "وقول طرفة:
وما زال عني مما كننت يشوقني ... وما قلت حتى ارفضّت العين باكيا
فإنه ذكر باكيا -وهي خبر عن العين، والعين أنثى- لأنه أراد حتى ارفضت
العين ذات بكاء، وإن كان أكثر ذلك إنما هو فيما كان معنى فاعل لا معنى
مفعول، وقد يجوز أن يذكر على إرادة العضو، ومثل هذا يتسع فيه القول،
ومثله قول الأعشى:
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفًا مخضبا
أي ذات خضاب، أو على إرادة العضو كما تقدم، وقد يجوز أن يكون مخضبا
حالا من الضمير الذي في يضم" ا. هـ كلامه بحروفه.
[328] هذا البيت هو الثالث والعشرون من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس
مطلعها:
أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها
وقبل البيت المستشهد به قوله:
فباتت ركاب بأكوارها ... لدينا، وخيل بألبادها
وانظر الديوان "ص50-56" وقد وهم المؤلف فزعم أن ضمير المؤنث في قوله
"قبل إنفادها" يعود إلى الشراب لأنه الذي تقدم ذكره في البيت، وعنده أن
الشاعر أراد أن يقول "فكانوا هم المنفدين شرابهم قبل إنفاده" غير أن
القافية ألجأته إلى أن يقول "قبل إنفادها" وأنه استساغ ذلك لأن الشراب
ههنا هو الخمر، والخمر مؤنثة، فلما لم يتيسر له أن يعيد إليه الضمير
باعتبار لفظه المتقدم أعاده إلى باعتبار معناه فأنثه، هكذا زعم المؤلف،
وليت =
(2/414)
وكان الأصل أن يقول "قبل إنفاذه" لأن
الشراب مذكر، إلا أنه أنثه حملًا على المعنى؛ لأن الشراب هو الخمر في
المعنى، وقال الآخر:
[329]
يا بئرُ يا بئرَ بني عَدِيِّ ... لأَنْزَحَنَّ قَعْرَكَ بالدُّلِيِّ
حتى تعودي أَقْطَعَ الوَلِيِّ
وكان الأصل أن يقول "قَطْعِي الولي" لأن البئر مؤنثة، إلا أنه ذكره
حملا على المعنى، فكأنه قال: حتى تعودي قليبا أقطع الولي، والقليب
الأغلب عليه التذكير، ولذلك قالوا في جمعه "أَقْلِبَةٌ" وأفعلة بناء
يختص به المذكر في القلة كاختصاص المؤنث بأَفْعُلٍ في القلة، وقوله "ذو
الطول وذو العرض" يرجع إلى الحي، فانتقل
__________
= شعري كيف ينفدون الشراب قبل إنفاده؟ ولكن العلماء الأثبات أعادوا
الضمير المؤنث في قوله "قبل إنفادها" إلى أحد شيئين يصح مع كل واحد
منهما اللفظ والمعنى؛ أما أحد هذين فقد ذكره أبو عبيدة، قال: فكانوا هم
المنفدين شرابهم قبل أن تنفد عقولهم، يعني أنهم شربوا حتى أنفدوا ما
عندهم من الشراب ولم تغب عقولهم، بل بقيت لهم يقظتهم وصحوهم وعلمهم بما
يدور حولهم، وأما الثاني: فقد ذكره غير أبي عبيدة، قال: فكانوا هم
المنفدين شرابهم قبل إنفاد دراهمهم، يريد أنهم مياسير وأن أموالهم زادت
على ثمن ما شربوه، وكلا هذين الوجهين صحيح المعنى صحيح اللفظ، ويكون
مرجع الضمير ملحوظا من السياق ومدلولا عليه به ولا يكون في البيت دليل
على ما ساقه المؤلف للاستشهاد به عليه.
[329] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور، والبئر: معروفة، وهي مؤنثة
بغير علامة تأنيث؛ فيخبر عنها بالمؤنث، وتوصف بصفات المؤنث، ويعود
إليها الضمير مؤنثا؛ وتقول: نزحت البئر أنزحها نزحا -من مثال فتح يفتح
فتحا- إذا استقيت ماءها حتى ينفد أو يقل، وقالوا "هذا ماء لا ينزح"
بكسر الزاي وبفتحها -يريديون أنه كثير لا ينفد، وقعر البئر -بفتح القاف
وسكون العين- أقصاه وعمقه ونهاية أسفله والدّلي: جمع دلو، وأصلها دلوو
-على مثال فأس وفئوس وقبر وقبور، ثم قلبت الواو المتطرفة ياء فصار
"دلوي" فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء
وأدغمت الياء في الياء، ثم قلبت ضمة الدال كسرة لمناسبة الياء المشددة،
وهذه الأعمال إلى هنا واجبة كلها، ثم لك بعد ذلك أن تقلب ضمة الدال
كسرة؛ لمناسبة ما بعدها ولأن الانتقال من ضمة إلى كسرة بعدها ياء مشددة
ثقيل، ولك أن تبقيها على حالها، وتقول: قطع ماء الركية قطوعًا وقطاعا،
تريد أنه انقطع أو قل، والولي -من مثال غني- أصله المطر ينزل بعد
المطر، والمطر الأول يسمى الوسمي، وأراد الماء، والاستشهاد بهذه
الأبيات في قوله "حتى تعودي أقطع الولي" فإن قوله "أقطع الولي" من صفات
البئر، وقد علمت أن البئر مؤنثة، فمن حق ما توصف به أن يؤتى به على
غرار صفات المؤنث، فكان من حق العربية عليه أن يقول "حتى تعودي قطعي
الولي" إلا أنه لما كان من أسماء البئر القليب، وكان الأغلب على القليب
التذكير، وصف البئر التي ذكرها في كلامه بالمذكر باعتبار أنها قليب،
فحمل صفتها على المعنى، وهذا ظاهر إن شاء الله.
(2/415)
من معنى إلى معنى، والتنقل من معنى إلى
معنى كثير في كلامهم كما قال الشاعر:
[330]
إن تميمًا خُلِقَتْ ملمومًا ... قومًا ترى واحدهم صِهْمِيما
فقال "خُلِقَتْ" أراد به القبيلة، ثم قال "ملموما" أراد به الحي، ثم
ترك لفظ الواحد وحقق مذهب الجمع فقال "قوما ترى واحدهم صهميما"
والصهميم: هو الذي لا ينثني عن مراده، لأنا نقول1: نحن لا ننكر الحمل
على المعنى في كلامهم، ولا التنقل من معنى إلى معنى، ولكن الظاهر ما
صرنا إليه؛ لأن الحمل على اللفظ والمعنى2 أولى من الحمل على المعنى دون
اللفظ، وجري الكلام على معنى واحد أولى من التنقل من معنى إلى معنى،
فلما كان ما صرنا إلى أكثر في الاستعمال وأحسن في الكلام كان ما صرنا
إليه أولى، وقال أبو دَهْبَلٍ الجمحي:
[331]
أنا أبو دهبل وَهْبٌ لِوَهَبْ ... من جُمَحٍ، والعزُّ فيهم والحَسَبْ
__________
[330] هذان بيتان من الرجز المشطور أنشدهما مع بيتين آخرين ابن منظور
"ص هـ م" قال: "والصهميم: السيد الشريف من الناس، ومن الإبل الكريم،
والصهميم: الخالص في الخير والشر، مثل الصميم، قال الجوهري: والهاء
عندي زائدة وأنشد أبو عبيد للمخيس:
إن تميما خلقت ملموما ... مثل الصفا لا تشتكي الكلوما
قوما ترى واحدهم صهميما ... لا راحم الناس ولا مرحوما
قال ابن بري: صوابه أن يقول: وأنشد أبو عبيدة للمخيس الأعرجي، قال: كذا
قال أبو عبيدة في كتاب المجاز في سورة الفرقان عند قوله عز وجل:
{وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [الفرقان: 11]
فالسعير مذكر، ثم أنثه فقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
سَمِعُوا لَهَا} [الفرقان: 12] وكذلك قوله "إن تميما خلقت ملموما" فجمع
وهو يريد أبا الحي، ثم قال "لا راحم الناس ولا مرحوما" قال: هذا الرجز
يروى في رجز رؤبة أيضا، وقال ابن بري: وهو المشهور" ا. هـ. فالأبيات
تنسب إلى المخيس الأعرجي وإلى رؤبة بن العجاج، والأشهر الأعرف أنها
لرؤبة بن العجاج، والملموم: اسم المفعول من اللم وهو الجمع الكثير
الشديد، وهو أيضا مصدر قولهم "لم الشيء يلمه لما" إذا جمعه وأصلحه:
والصفا: جمع صفاة وهي الصخرة الملساء، والكلوم جمع كلم وهو الجرح وزنا
ومعنى. ومحل الاستشهاد قولهم "خلقت ملموما" فإنه قد جاء به كما يجيء
بأوصاف المؤنث، فدل بهذا على أنه يريد بتميم القبيلة، وكذلك في قوله
"لا تشتكي الكلوما" ثم بعد ذلك قال "قوما ترى واحدهم صهميما" فأجرى
الكلام على أنه يريد الحي، وقد سمعت في كلام أبي عبيدة ما يؤيده.
[331] أبو دهبل -بفتح الدال والباء بينهما هاء ساكنة، ويضبط بكسر الدال
والباء وهو خطأ- اسمه وهب بن زمعة -بسكون الميم قبلها زاي مفتوحة- أحد
بني جمح وكان رجلًا جميلًا =
__________
1 هذا متعلق بقوله السابق "قالوا: ولا يجوز أن يقال إنه لم يصرفه لأنه
ذهب به إلى القبيلة.... إلخ".
2 في ر "لأن الحمل على اللفظ لمعنى" ولا يتسق مع ما بعده.
(2/416)
فترك صرف "دهبل" وهو منصرف، وقال الآخر:
[332]
أخشى على دَيْسَمَ من بُعْدِ الثَّرَى ... أبى قضاءُ اللهِ إلا ما ترى
فترك صرف "ديسم" وهو منصرف.
فإذا صحت هذه الأبيات بأسرها دلَّ على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما من جهة القياس فإنه إذا جاز حذف الواو المتحركة للضرورة من نحو
قوله:
[333]
فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قال قَائلٌ: ... لمن جَمَلٌ رِخْوُ
المِلَاطِ نَجِيبُ
__________
= شاعرًا عفيفًا، وقد قال الشعر في آخر خلافة علي بن أبي طالب رضي الله
عنه، وأكثر مدائحه في عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن
عبد الله بن مخزوم، وفي هذا البيت الذي أنشده المؤلف شاهدان: الأول: في
قوله "أبو دهبل" حيث منعه من الصرف مع أنه علم على وزن جعفر، وليس فيه
إلا العلمية، وقياس أمثاله أن ينون ويجر بالكسرة، لكنه لما اضطر لإقامة
الوزن منعه من التنوين وجره بالفتحة، هذا بيان كلام المؤلف، لكن يقال
على هذا: إن كلمة "دهبل" في الأصل فعل ماضٍ، قال في اللسان "التهذيب:
ابن الأعرابي: دهبل؛ إذا كبر اللقم ليسابق في الأكل" ا. هـ. وقال ابن
دريد في الاشتقاق "ص129" "دهبل دهبلة؛ إذا مشى مشيا ثقيلا" فإذا كان
"دهبل" في الأصل فعلًا ماضيًا فيجوز أن يكون الشاعر رجع به إلى أصله
فحكاه كما تحكى الجمل التي يسمى بها نحو يزيد ويشكر، وعلى هذا لا يكون
في البيت شاهد لما ذكره المؤلف، والشاهد الثاني: في قوله "من جمح" فإن
هذا الاسم أحد الأعلام المعدولة عن فاعل، ففيه العلمية والعدل، فكان
يجب عليه أن يمنعه من الصرف، لكنه لما اضطر إلى تنوينه صرفه، ولا يختلف
النحاة في أنه يجوز للشاعر عند الضرورة أن يصرف الاسم الذي لا ينصرف.
[332] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشد ابن منظور "د س م" هذين
البيتين عن ابن دريد، من غير عزو، إلا أن عنده "من برد الثرى" والديسم
في الأصل: ولد الدب، ويقال: إنه ولد الذئب من الكلبة، والديسم أيضًا:
الظلمة، وسئل أبو الفتح صاحب قطرب -وكان اسم أبي الفتح هذا "ديسم"-
فقال: الديسم: الذرة، وقد سمي به، ومحل الاستشهاد قوله "ديسم" فقد منعه
من الصرف فترك تنوينه وجره بالفتحة مع أنه ليس فيه غير العلمية. قال
ابن منظور: "ترك صرفه للضرورة" ا. هـ.
[333] هذا البيت من شواهد رضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية، وقد
شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 396" وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل "82
و416" وابن جني في الخصائص "1/ 96" وكل هؤلاء الأعلام رووه على ما رواه
المؤلف، وفي كلام البغدادي ما يفيد أن البيت من شواهد سيبويه في باب ما
يحتمل الشعر، وقد راجعت كتاب سيبويه فلم أجده، والبيت من كلام العجير
السلولي، إلا أن الذي في شعر العجير رويّه لام على هذا الوجه.
فبيناه يشري رحله قال قائل: ... لمن جمل رخو الملاط ذلول؟
=
(2/417)
فَلأَن يجوز حذف التنوين للضرورة كان ذلك
من طريق الأولى، وهذا لأن الواو من "هو" متحركة، والتنوين ساكن، ولا
خلاف أن حذف الحرف الساكن أسهل من حذف الحرف المتحرك، فإذا جاز حذف
الحرف المتحرك الذي هو الواو للضرورة فلأن يجوز حذف الحرف الساكن كان
ذلك من طريق الأولى؛ ولهذا كان أبو بكر بن السراج من البصريين -وكان من
هذا الشأن بمكان- يقول: لو صحت الرواية في ترك صرف ما ينصرف لم يكن
بأبعد من قولهم:
[333]
فبيناه يشري رحله قال قائل
ولما صحت الرواية عند أبي الحسن الأخفش وأبي علي الفارسي وأبي القاسم
بن برهان من البصريين صاروا إلى جواز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر
واختاروا مذهب الكوفيين على مذهب البصريين، وهم من أكابر أئمة البصريين
والمشار إليهم من المحققين.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ترك صرف ما
ينصرف لأن الأصل في الأسماء الصرف، فلو أنا جوزنا ترك صرف ما ينصرف
لأدّى ذلك إلى ردّه عن الأصل إلى غير أصل، ولكان أيضا يؤدي إلى أن
يلتبس ما ينصرف بما لا ينصرف؛ وعلى هذا يخرج حذف الواو، من "هو" في نحو
قوله:
[333]
فبيناه يشري رحله قال قائل
__________
= والبيت في وصف رجل أضل بعيره ويئس من عوده فأراد أن يبيع رحله فبينا
هو يبيع رحله؛ إذ سمع من يعرف البعير ليطلبه صاحبه، شبه حاله مع من يحب
بحال صاحب هذا البعير، والاستشهاد بالبيت في قوله "فبيناه" فإن أصل هذه
الكلمة "فبينا هو" بضم الهاء وفتح الواو، والعلماء يختلفون في حذفها:
هل حذفت وهي متحركة مفتوحة أو سكنت أولًا ثم حذفت وهي ساكنة؟ أما
الأعلم فزعم أن الشاعر سكن الواو، ضرورة، ثم حذف هذه الواو الساكنة
ضرورة أخرى، فأدخل ضرورة على ضرورة وأما ابن يعيش والمؤلف فكذا أن
الشاعر حذفها وهي مفتوحة، ومن أمثال هذا البيت قول الشاعر وهو من شواهد
سيبويه "1/ 12":
بيناه في دار صدق قد أقام بها ... حينا يعللنا وما نعلله
قال الأعلم: "أراد بينا هو، فسكن ضرورة، ثم حذف، فأدخل ضرورة على
ضرورة" ا. هـ. ونظيره قول الراجز، وأنشده سيبويه أيضا:
هل تعرف الدار على تبراكا؟ ... دار لسعدى إذه من هواكا
قال الأعلام: "أراد إذ هي فسكن الياء أولا ضرورة، ثم حذفها ضرورة أخرى
بعد الإسكان، تشبيها لها بعد سكونها بالياء اللاحقة في ضمير الغائب إذا
سكن ما قبله والياء والواو اللاحقة له في هذا الحال، نحو عليه ولديه
ومنه وعنه" ا. هـ. وقال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت المستشهد به ههنا:
"إنما هو فبينا هو، فحذف الواو من هو وهي متحركة من نفس الكلمة، وإذا
جاز حذف ما هو من نفس الحرف كان حذف التنوين الذي هو زيادة للضرورة
أولى: ا. هـ.
(2/418)
فإنه لا يؤدِّي إلى الالتباس، بخلاف حذف
التنوين، فَبَانَ الفرق بينهما.
والذي أذهب إليه في هذه المسألة مذهب الكوفيين؛ لكثرة النقل الذي خرج
عن حكم الشذوذ، لا لقوته في القياس.
وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم "إنما لم يجز ترك صرف ما
ينصرف لأنه يؤدّي إلى ردّه عن الأصل إلى غير أصل "قلنا: هذا يبطل بحذف
الواو من "هو" في قوله:
[333]
فبيناه يشري رحله قال قائل
خصوصًا على أصلكم، أن الواو عندكم أصلية لا زائدة كما هي على أصل الخصم
زائدة:
قولهم "إنما جاز1 لأنه لا يؤدي إلى الالتباس؛ بخلاف ما هنا" قلنا:
الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنه لا يؤدي ههنا إلى الالتباس؛ لأنك تقول "غزا
هو" فيكون توكيدا للضمير المرفوع بأنه فاعل، فإذا حذفت الواو منه
التبست الهاء الباقية بالهاء التي هي ضمير المنصوب بأنه مفعول نحو
"غزاه" فإنه يجوز أن لا تمطل حركتها، قال الشاعر:
[334]
تراه كأن الله يَجْدَعُ أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر
__________
[334] أنشد هذا البيت ابن منظور "ج د ع" ولم يعزه، وأنشده الجاحظ في
الحيوان "6/ 40" ونسبه إلى خالد بن الطيفان، وأنشده ابن جني في الخصائص
"2/ 431" والشريف المرتضى في أماليه "2/ 259 و375" والبيت من شواهد ابن
الناظم في شرح الألفية في باب عطف النسق، وقد شرحه العيني "4/ 171"
بهامش الخزانة، وقال "قائله هو الزبرقان بن بدر، قاله كراع، ونسبه
الجاحظ لخالد بن الصليفان "هكذا" وقبله:
ومولى كمولى الزبرقان دملته ... كما دملت ساق يهاض بها كسر
إذا ما أحالت والجبائر فوقها ... مضى الحول، لا برء مبين، ولا جبر
ومولى الزبرقان الذي يشير إليه صاحب البيت المستشهد به هو -كما في
الحيوان 6/ 39- علقمة بن هوذة وفيه يقول الزبرقان:
لي ابن عم لا يزا ... ل يعيبني ويعين عائب
والنحاة يستشهدون بهذا البيت في قوله "وعينيه" فإن هذه الكلمة لا يصح
أن تكون معطوفة على قوله "أنفه" لأنها لو كانت معطوفة على أنفه لكانت
معمولة لقوله يجدع ضرورة أن =
__________
1 يريد "إنما جاز للضرورة نحو فبيناه يشري".
(2/419)
وكذلك الهاء أيضًا في سائر المنصوبات؛ فإنه
يجوز أن لا تُمْطَلَ حركتُها في الشعر كضمير المجرور؛ فإنهم يسوُّون
بينهما في ذلك، قال الشاعر:
[335]
له زجل كأنه صوتٌ حادٍ ... إذا طلب الوسيقة أو زَمِيرُ
وقال الآخر:
[336]
أو مُعْبَرُ الظَّهْرِ يَنْأَى عن وَلِيَّتِهِ ... ما حجَّ ربُّهُ في
الدنيَا ولا اعْتَمَرَا
__________
= المعطوف يشارك المعطوف عليه في تسلط عامله عليه، ولا يصح ذلك؛ لأن
الجدع في لسان أهل هذه اللغة خاص بالأنف، فلا يجوز أن تقول: جدعت
عينيه، ولا جدعت يديه، ولا جدعت أذنيه، وما أشبه ذلك، ولهذا كان قوله
"وعينيه" عندهم مفعولا به لفعل محذوف تقديره "ويفقأ عينيه" وتكون جملة
هذا الفعل معطوفة بالواو على جملة الفعل السابق، قال السيد المرتضى
"أراد ويفقأ عينيه، لأن الجدع لا يكون بالعين، واكتفى بيجدع من يفقأ"
ا. هـ. والمؤلف قد أنشد هذا البيت ليستشهد به على أن الشاعر قد يمطل
حركة ضمير الغائب المتصل -أي يمدها فينشأ عنها حرف مد يجانس حركتها-
وقد لا يمطلها، وبيان ذلك أنك تقول "أعطيته مما له عندي" فتمطل الهاء
في "أعطيته" وفي "له" والأولى في محل نصب والثانية في محل جر -حتى ينشأ
من ضمة كل منهما واو، ويجوز أن تكتفي بالضمة في كل كلمة منهما، وأن
تمطل واحدة وتدع أخرى بلا مطل، كل ذلك جائز، وليس واحد من الوجهين
بأولى من الآخر، وقد جمع الشاعر صاحب هذا الشاهد بين الوجهين في هذا
البيت؛ فقد مطل الهاء في "أنفه" واكتفى بالحركة من غير مطل في
"وعينيه".
[335] هذا البيت من كلام الشماخ بن ضرار الغطفاني يصف حمار وحش، وهو من
شواهد سيبويه "1/ 11" وابن جني في الخصائص "1/ 127" والزجل -بالتحريك-
صوت فيه حنين وترنم، والحادي: الذي يتغنى أمام الإبل ويطربها لكي
يعينها على السير وألا تمل، والزمير: صوت المزمار، والوسيقة: أراد به
أنثى حمار الوحش. يقول: إذا طلب أنثاه صوت بها وكأنه صوته -لما فيه من
الحنين، ومن حسن الترجيع والتطريب- صوت حاد يتغنى بإبل أو صوت مزمار.
والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "كأنه صوت حاد" فإن الشاعر لم يمطل
الضمة التي على ضمير الغائب في كأنه حتى تنشأ عنها واو، بل اختلس الضمة
اختلاسًا، وهذا بين بعد ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.
[336] وهذا البيت أيضا من شواهد سيبويه "1/ 12" ونسبه لرجل من باهلة،
ولم يزد الأعلم في نسبته على ذلك، والشاعر يصف بعيرا لم يستعمله صاحبه
في سفر لحج أو عمرة، ومعبر الظهر: ممتلئة باللحم مع كثرة وبره،
والولية: البرذعة، وأراد بقوله "ينأى عن وليته" أنه يعسر وضعها عليه
لكونه قد اشتد سمنه وكثر وبره، وكان ينبغي أن يقول "تنأى عنه وليته"
لكنه قلب، ووجهه أنه إذا نأى عنها فإنه يجعلها تنأى عنه، وربه: أي
صاحبه. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "ربه" فإنه اختلس الضمة التي على
ضمير الغائب المجرور اختلاسًا، ولم يشبع هذه الضمة حتى تنشأ عنها واو،
على نحو ما قررناه في شرح الشاهد رقم 334.
(2/420)
وقال الآخر:
[337]
فما له من مجد تلِيدٍ، ومَالَهُ ... من الريح فضلٌ لا الجنوبُ ولا
الصَّبَا
وقال الآخر:
[338]
فإن يَكُ غثًّا أو سمينًا فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مَقْنَعَا
وقال الآخر:
[339]
وأيقن أن الخيل إن تَلْتَبِسْ به ... يكن لفَسِيل النخل بعده آبِرُ
__________
[337] هذا البيت للأعشى ميمون بن قيس "د90" وهو من شواهد سيبويه "1/
12" ونسبه للأعشى، وتبعه الأعلم، وهو البيت الرابع والعشرون من قصيدة
له مطلعها:
كفى بالذي تولينه لو تجنبا ... شفاء لسقم بعد ما كان أشيبا
والأعشى يهجو في البيت رجلا بأنه لئيم الأصل لم يرث مجدا ولا كسب
خيرًا، فضرب له المثل بنفي حظه من الريحين والجنوب والصبا لأن الجنوب
والصبا أكثر الرياح عندهم خيرًا، والجنوب تلقح السحاب، والصبا تلقح
الأشجار، وقد يتأول على أنه لا خير عنده ولا شر، كما يقال: فلان لا
ينفع ولا يضر، أي أنه ليس بشيء يعبأ به. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله
"وما له من مجد" حيث اختلس ضمه الهاء اختلاسًا ولم يشبعها حتى تنشأ
عنها واو، ولكن رواية المؤلف ورواية سيبويه من قبله تخالف رواية
الديوان، فقد ورد البيت في الديوان هكذا:
وما عنده مجد تليد، وما له ... من الريح فضل، لا الجنوب ولا الصبا
والهاء في "عنده" على هذه الرواية مشبعة غير مختلسة، وسيبويه غير متهم
فيما يرويه عن العرب.
[338] هذا البيت من كلام مالك بن خريم -بالخاء المعجمة، بوزن المصغر-
وهو من شواهد سيبويه "1/ 10" وقد نسبه إليه، وأقر الأعلم هذه النسبة.
يصف الشاعر ضيفًا نزل به، وأنه سيقدم إليه ما عنده من القرى، ويحكمه
فيه ليختار منه أفضل ما تقع عليه عيناه، فيقنع بذلك. ومحل الاستشهاد
بالبيت قوله "لنفسه" فإن الشاعر قد اختلس كسرة الهاء اختلاسًا، ولم
يمطلها حتى تنشأ عنها ياء، وذلك مما يقع في الشعر، وهو مثل ما ذكرناه
في الشواهد السابقة.
[339] وهذا البيت أيضًا من شواهد سيبويه "1/ 11" ونسبه إلى حنظلة بن
فاتك، وأقر الأعلم هذه النسبة، قال الأعلم: "والبيت يتأول على معنيين،
أحدهما -وهو الأصح: أن يكون وصف جبانًا، فيقول: أيقن هذا الرجل أنه إن
التبست به الخيل قتل فصار ماله إلى غيره، فكع وانهزم. والمعنى الآخر أن
يكون وصف شجاعًا فيقول: قد علم أنه إن ثبت وقتل لم تتغير الدنيا بعده
وبقي من أهله من يخلفه في حرمه وماله، فثبت ولم يبال بالموت" ا. هـ.
والخيل: أراد بها خيل الفرسان في الحرب، وفسيل النخل -بفتح الفاء-
صغاره، والآبر: الذي يصلح النخل، وعمله الإبار، ومحل الاستشهاد من
البيت قوله: "بعده" حيث اختلس ضمه الهاء اختلاسًا ولم يمطلها حتى تنشأ
عنها واو، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة.
(2/421)
211- وقال الآخر:
[340]
أَنَا ابْنَ كِلَابٍ وابْنُ أوْس؛ فمن يَكُنْ ... قِنَاعُهُ مُغْطِيًّا
فإني مُجْتَلَى
وقال الآخر:
[341]
لأَعْلِطَنَّهُ وسمًا لا يُفَارِقُهُ ... كما يُحَز بحمَّى المَيسَمِ
البَحِرُ
وقال الآخر:
[342]
لي والدٌ شيخٌ تَهِضْهُ غَيْبَتِي ... وأظن أن نفاد عُمْرِهِ عَاجِلُ
__________
[340] أنشد ابن منظور هذا البيت "غ ط ى" من غير عزو. وتقول: غطى الشيء
يغطيه غطيًا -من مثال رماه يرميه رميا- إذا ستره، وتقول "فلان مغطى"
تريد أنه خامل الذكر لا نباهة له، وقال حسان بن ثابت:
رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم
وقول صاحب الشاهد "فإني مجتلى" حكى ابن منظور أنه يروى "فإني لمجتلى"
والمراد فإني نابه الذكر محمود الأثر، وهو في هذا الموضع قريب من قولهم
"هو ابن جلا" ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "قناعه" حيث اختلس الشاعر
ضمه الهاء اختلاسًا، ولم يمطلها حتى تنشأ عنها واو، والكلام فيه
كالكلام في الشواهد السابقة.
[341] أنشد منظور هذا البيت "ب ح ر" من غير عزو، وأعلطنه: أصل هذه
المادة العلاط -بوزن الكتاب- وهو صفحة العنق من كل شيء، والعلاطان:
صفحتا العنق من الجانبين، ثم سموا السمة في عرض عنق البعير أو الناقة
علاطًا، فإن كانت السمة بالطول سموها سطاعا، وقالوا: علط البعير
والناقة يعلطهما -من بابي ضرب ونصر- إذا وسمهما، وقالوا أيضا "علطه"
بالتشديد للكثرة، وقالوا: علطه بالقول -أو بالشر- إذا رماه بعلامة يعرف
بها، والعلاط -بالكسر- الذكر بالسوء. والوسم: العلامة، والميسم -بكسر
الميم الأولى- اسم الآلة من الوسم، والبحر -بفتح الباء وكسر الحاء-
الوصف من البحر -بالتحريك- وهو أن يلقى البعير بالماء فيكثر منه حتى
يصيبه منه داء، يقال: بحرا يبحر بحرا -من مثال فرح يفرح فرحا- فإذا
أصابه هذا الداء كوي في موضع فيبرأ، قاله الفراء، وقال الأزهري: الداء
الذي يصيب البعير فلا يروى بالماء هو النجر أو البجر -بالنون والجيم أو
بالباء والجيم- وأما البحر فهو داء يورث السل، وأبحر الرجل؛ إذا أخذه
السل، ورجل بحير وبحر: مسلول ذاهب اللحم، عن ابن الأعرابي، ومحل
الاستشهاد بهذا البيت قوله "لأعلطنه" حيث اختلس ضمة الهاء اختلاسا، ولم
يمطلها حتى تنشأ عنها واو، على مثال ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.
[342] الشيخ: من استبانت فيه السن، وقيل: الرجل شيخ متى بلغ خمسين سنة
إلى آخر عمره، وقيل: إلى الثمانين، وتهضه: مضارع "هاض العظم يهيضه
هيضا" مثل باعه يبيعه بيعا -إذا كسره بعد ما كاد ينجبر، وكل وجع على
وجع فهو هيض، وتقول "هاضني هذا الأمر" إذا ردك في مرضك، وقد عامل قوله
"تهضه" معاملة المجزوم وإن لم يسبقه جازم، وقد كان =
(2/422)
والوجه الثاني: أنه يبطل بصرف ما لا ينصرف،
فإنه يوقع لبسًا بين ما ينصرف وما لا ينصرف في نحو قوله:
[343]
قواطنًا مكة من وُرْقِ الحَمِي
وكذلك سائر ما لا ينصرف، ومع هذا فقد وقع الإجماع على جوازه، فكذلك
ههنا.
فإن قالوا: الكلام به يتحصل القانون دون الشعر1، وصرف ما لا ينصرف لا
يوقع لبسا بين ما ينصرف وما لا ينصرف؛ لأنه لا يلتبس ذلك في اختيار
الكلام.
قلنا: وهذا هو جوابنا عما ذكرتموه؛ فإنه إذا كان الكلام هو الذي يتحصل
به القانون دون الشعر، فترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر لا يوجب لبسًا
بين ما ينصرف وما لا ينصرف؛ إذ لا يلتبس ما ينصرف وما لا ينصرف في
اختيار الكلام، والله أعلم.
__________
= من حق العربية عليه أن يقول: "تهيضه غيبتي" إلا أنه حذف الياء كما
يحذفها لو أن الفعل كان مجزومًا، ونفاد عمره: ذهابه وزواله، ومحل
الاستشهاد في البيت قوله "عمره" فقد اختلس كسرة الهاء -وهي ضمير الغائب
العائد إلى والد- اختلاسًا، ولم يشبعها حتى تتولد عنها ياء، وهو نظير
ما تقدم في شرح الشواهد السابقة.
[343] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من شواهد سيبويه "1/ 8" ونسبه إلى
العجاج، وقد أنشده ابن منظور "ح م م" ثالث ثلاثة أبيات، ونسبها إلى
العجاج وهي في روايته هكذا:
ورب هذا البلد المحرم ... والقاطنات البيت غير الريم
قواطنا مكة من ورق الحمى
وهو من شواهد ابن عقيل "رقم 262" وشرحه العيني "3/ 554 في هامش
الخزانة" والقاطنات: جمع قاطنة، وهي اسم الفاعل المؤنث من "قطن المكان
يقطنه" إذا أقام فيه، والريم: جمع رائمة، وهي اسم الفاعل المؤنث من
"رام الموضع يرميه" إذا فارقه وتركه، ويروى "أوالفا" وهو جمع آلفة،
ومهما يكن من شيء فإن في قوله "أوالفا" أو "قواطنا" صرف الاسم الذي لا
ينصرف؛ فإنه على صيغة منتهى الجموع، وكان عليه أن ينصبه بالفتحة من غير
تنوين، إلا أنه لما اضطر إلى إقامة الوزن نونه.
__________
1 يريد المؤلف بهذه العبارة أن قوانين العربية وقواعدها إنما تؤخذ من
الكلام وهو النثر -وذلك بسب أن الشعر لضيق العبارة فيه بسبب الوزن
والرويّ والقافية تعرض للشاعر فيه عوارض تدفعه إلى أن يرتكب ما لا
يرتكبه لو أنه في فسحة من أن يقول ما شاء.
(2/423)
|