الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 71- مسألة: [القول في علّة بناء "الآن"؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "الآن" مبنيّ؛ لأن الألف واللام دخلتا على فعل
ماضٍ من قولهم: "آن يَئِينُ" أي حان، وبقي الفعل على فتحته.
وذهب البصريون إلى أنه مبنيّ لأنه شابه اسم الإشارة، ولهم فيه أيضًا
أقوال أُخَرُ نذكرها في دليلهم.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الألف واللام فيه
بمعنى الذي، ألا ترى أنك إذا قلت "الآن كان كذا" كان المعنى: الوقت
الذي آن كان كذا، وقد تُقَامُ الألف واللام مقام الذي لكثرة الاستعمال
طلبًا للتخفيف، قال الفرزدق:
[344]
ما أنت بالحَكَمِ التُرْضَى حُكُومَتُهُ ... ولا البَلِيغِ ولا ذِي
الرَّأْيِ والجَدَلِ
__________
[344] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب يهجو فيه رجلا من بني
عذرة، وهو من شواهد الأشموني "رقم 97" وأوضح المسالك "رقم 30" وشذور
الذهب "رقم 2" وقد شرحه العيني "1/ 111 بهامش الخزانة" والحكم
-بالتحريك الذي يحكمه الخصمان ليفصل بينهما، والبليغ: اللسن الفصيح،
ويروى في مكان هذه الكلمة "ولا الأصيل" والأصيل: الحسيب، والجدل
-بالتحريك- شدة الخصومة. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "الترضى" حيث دخلت
ال الموصولة على الفعل المضارع، وهذا يدل على أن الموصولة لا تدل على
أن ما دخلت عليه اسم، لأنها تدخل على الاسم نحو القائم والمضروب، وعلى
الفعل وغيره كما في بيت الشاهد وما يليه من الشواهد.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "1/ 57 و175
بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 58 و180" وشرح ابن يعيش على
المفصل "ص554" وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب "2/ 118".
(2/424)
أراد "الذي تُرْضَى" وقال الآخر:
[345]
بل القوم الرسول الله فيهم ... هم أهل الحكومة من قُصِيِّ
وقال الآخر:
[91]
يقول الخَنَا وأبغض العُجْمِ نَاطِقًا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع
ويستخرج اليربوع من نَافِقَائِهِ ... ومن جُحره بالشّيحة اليَتَقَصَّعُ
أراد "الذي يُجَدَّعُ، والذي يَتَقَصَّعُ" فكذلك ههنا في الآن، وبقي
الفعل على فتحته، كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه نَهَى عن
قيل وقال" وهما فعلان ماضيان، فأدخل عليهما حرف الخفض وبَقَّاهما على
فتحهما، وكذلك قولهم "من شَبّ إلى دَبَّ" بالفتح؛ يريديون من أن كان
صغيرًا إلى أن دَبَّ كبيرًا، فَبَقُّوا الفتح فيهما، فكذلك ههنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن سبيل الألف واللام
أن يدخلا لتعريف الجنس، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي
خُسْرٍ} [العصر: 2] وكقولهم "الرجل خير من المرأة" وكقولهم "أهلك الناس
الدينار والدرهم" أو لتعريف العهد، كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا
إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15،
16] أو يدخلا على شيء قد غلب عليه نعته فعرف به، كقولك: الحارث،
والعباس، والسِّمَاك، والدَّبَرَان؛ فلما دخلا ههنا على غير ما ذكر
ودخلت على معنى الإشارة إلى الوقت الحاضر صار معنى قولك "الآن" كقولك:
هذا الوقت، فشابه اسم الإشارة، واسم الإشارة مبنيّ؛ فكذلك ما أشبهه،
وكان الأصلُ فيه أن يبنى على السكون إلا أنه بني على حركة لالتقاء
الساكنين، وكانت الفتحة أولى لوجهين:
أحدهما: أنها أَخَفُّ الحركات وأشكلها بالألف والفتحة التي قبلها
فأتبعوها
__________
[345] وقع في كتب النحاة بيت يشبه أن يكون هو هذا البيت لولا اختلاف
يسير، والبيت المشار إليه هو:
من القوم الرسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد
وهو من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 67" وابن عقيل "رقم 31"
والأشموني "رقم 108" ودانت: خضعت وانقادت وذلت، ومعد: هو ابن عدنان أبو
العرب الحجازية كلهم، وبنو قصيّ: هم قريش، وبنو هاشم قوم النبي -صلى
الله عليه وسلم- منهم: ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "الرسول الله
منهم" فإن ال في أول هذه العبارة موصولة، والأصل في صلة ال الموصولة أن
تكون صفة صريحة كاسم الفاعل واسم المفعول، ولكن الشاعر قد جاء في هذا
الكلام بصلة ال الموصولة جملة اسمية من مبتدأ وخبر كما تكون صلة الذي
وفروعه، وكأنه قال: من القوم الذين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
منهم.
(2/425)
الألف والفتحة التي قبلها كما أتبعوا ضمة
الذال التي في "مُنْذُ" ضمة الميم، وإن كان حق الذال أن تكسر لالتقاء
الساكنين.
والوجه الثاني: أن نظائرها من الظروف المستحقة لبناء أواخرها على حركة
كأين وأيان بنيت على الفتح؛ فكذلك "الآن" لمشاركتها لهما في الظرفية.
ومنهم من قال، وهو أبو العباس المبرد: إنما بني "الآن" لأنه وقع في أول
أحواله بالألف واللام، وسبيل ما يدخل عليه الألف واللام، أن يكون
منكورًا أولا ثم يعرف بهما، فلما خالف سائر أخواته من الأسماء وخرج إلى
غير بابه بُنِيَ.
ومنهم من قال، وهو أبو سعيد السيرافي: إنما بني لأنه لما لزم موضعًا
واحدًا أشبه الحرف؛ لأن الحروف تلزم مواضعها التي وضعت فيها في
أوليتها، والحروف مبنية؛ فكذلك ما أشبهها.
ومنهم من قال، وهو أبو علي الفارسي: إنما بني لأنه حذف منه الألف
واللام وضمن الاسم معناهما، وزيدت فيه ألف ولام أُخْرَيان.
وبني على الفتح في جميع الوجوه؛ لما ذكرناه في الوجه الأول، وهو الذي
عليه سيبويه وأكثر البصريين.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الألف واللام فيه بمعنى
الذي "قلنا" هذا فاسد؛ لأن الألف واللام إنما يدخلان على الفعل وهما
بمعنى الذي في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات، لا في اختيار
الكلام؛ فلا يكون فيه حجة.
وأما ما شبهوه به من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قيل وقال فليس بمشبه
له؛ لأنه حكاية، والحكايات تدخل عليها العوامل فَتُحْكَى، ولا تدخل
عليها الألف واللام؛ لأن العوامل لا تغير معاني ما تخل عليه كتغيير
الألف واللام، ألا ترى أنك تقول: "ذهب تأبط شرًّا، وذَرَّى حبًا، وبرق
نحره، ورأيت تأبط شرا، وذرى حبا، وبرق نحره، ومررت بتأبط شرا، وذرى
حبا، وبرق نحره" ولا تقول: هذا التأبط شرا، ولا الذرى حبا، ولا البرق
نحره، وما أشبه ذلك، وكذلك تقول: رفعنا اسم كان بكان، ونصبنا اسم إن
بإن، ولا تقول رفعناه بالكان ونصبناه بالإنّ، فبان الفرق بينهما؛ وهذا
هو الجواب عن قولهم "من شَبَّ إلى دَبَّ" على أنه لو أخرجت هذه الأشياء
إلى الأسماء فقيل "عن قيلٍ وقالٍ"، "ومن شبٍّ إلى دبٍّ" فأدخلت الجر
والتنوين لكان ذلك جائزًا بالإجماع، على أنه قد صحّ عن العرب أنهم
قالوا: من شب إلى دب -بالجر والتنوين- وقد حكى ذلك أبو زكريا يحيى بن
زياد الفراء من أصحابكم، وذلك ألزم لكم وأوفى حجة عليكم، والله أعلم.
(2/426)
72- مسألة [فعل الأمر معرب أو مبنيّ؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن فعل الأمر للمُوَاجَهِ المُعَرَّى عن حرف المضارعة
-نحو افعل- معربٌ مجزومٌ.
وذهب البصريون إلى أنه مبني على السكون.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه معرب مجزوم لأن الأصل
في الأمر للمُوَاجَهِ في نحو: "افْعَلْ" لِتَفْعَلْ، كقولهم في الأمر
للغائب "ليفعل" وعلى ذلك قوله تعالى: "فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس: 58] في قراءة من قرأ بالتاء من أئمة
القرَّاء، وذُكِرَتِ القِرَاءةُ أنها قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-
من طريق أُبَيِّ بن كعب، ورويت هذه القراءة عن عثمان بن عفان وأنس بن
مالك والحسن البصري ومحمد بن سيرين وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي جعفر
يزيد بن القعقاع المدني وأبي رجاء العُطَارديّ وعاصم الجَحْدَريّ وأبي
التَّيَّاح وقتادة والأعرج وهلال بن يِسَاف والأعمش وعمرو بن فائد
وعلقمة بن قيس ويعقوب الحضرمي وغيرهم من القراء. وقد جاء في الحديث
"ولتَزُرَّهُ ولو بِشَوْكَةٍ" أي زُرَّهُ، وجاء عنه -صلوات الله- عليه
أنه قال في بعض مغازيه: "لتأخذوا مصافّكم" أي خذوا، وقال -صلوات الله
عليه- مرة أخرى "لِتَقُومُوا إلى مَصَافِّكم" أي قوموا، وقال الشاعر:
[346]
لِتَقُمْ أنت يابْنَ خير قريش ... فَتُقَضَّى حَوَائجُ المسْلِمينَا
__________
[346] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 379" وأنشده
مرتين "في ص227 و552" ولم يتحدث عنه السيوطي في شرح شواهده، ويروى "كي
لتقضى حوائج المسلمينا" ويروى "فلتقضى حوائج المسلمينا". وتقول: قضى
فلان الشيء؛ تريد عمله، وقال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
=
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "1/ 64 بولاق"
وشرح ابن يعيش على المفصل "ص965 وشرح الرضي على الكافية "2/ 249"
وأسرار العربية للمؤلف "ص125".
(2/427)
...................................................................
__________
= مسرودتان: أراد درعين، والسوابغ: جمع سابغة، وهي الدرع أيضا، وفي
القرآن الكريم {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] أي دروعا سابغات.
والحوائج: جمع حاجة، على غير قياس، كأنهم جمعوا حائجة، وكان الأصمعي
ينكر هذا الحرف ويدعي أنه مولد، قال ابن بري "إنما أنكره الأصمعي
لخروجه عن قياس جمع حاجة، والنحويون يزعمون أنه جمع لواحد لم ينطق به
وهو حائجة، وذكر بعضهم أنه سمع حائجة لغة في الحاجة، وأما قول الأصمعي
إنه مولد فإنه خطأ منه؛ لأنه قد جاء ذلك في حديث سيدنا رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وفي أشعار العرب الفصحاء، فمما جاء في الحديث ما روي
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله عبادا
خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون يوم
القيامة" ومما جاء في أشعار العرب الفصحاء قول أبي سلمة المحاربي:
ثممت حوائجي، ووذأت بشرًا ... فبئس معرس الركب السغاب
ثممت -بالثاء المثلثة-: أصلحت. وقال الشماخ:
تقطع بيننا الحاجات إلا ... حوائج يعتسفن مع الجريء
وقال الأعشى:
الناس حول قبابه ... أهل الحوائج والمسائل
وقال الفرزدق:
ولي ببلاد السند عند أميرها ... حوائج جمات وعندي ثوابها
وقال هميان بن قحافة:
حتى إذا ما قضت الحوائجا ... وملأت حلابها الخلانجا"
ا. هـ.
وقول الشاعر في البيت المستشهد به "فتقضى" هو بتشديد الضاد في هذه
الرواية نظير ما أنشده ابن خالويه:
خليلي إن قام الهوى فاقعدا به ... لعنا نقضى من حوائجنا رما
وفي الرواية الأخرى "كي لتقضى" هو بالتخفيف من مثال رمى يرمى. ثم إن
قرأت هذا الفعل بالبناء للمعلوم في أي الروايتين كنت قد عاملت الفعل
المعتل بالياء في حال النصب كما تعامله في حال الرفع فقدرت الفتحة على
الياء ومن حقها أن تظهر، وإن قرأته بالبناء للمجهول كانت الفتحة مقدرة
على الألف، وكان قوله "حوائج المسلمينا" مرفوعًا على أنه نائب الفاعل،
ونرى لك أن تقرأ هذه القراءة. والاستشهاد بالبيت في قوله "لتقم" حيث إن
الشاعر استعمل أمر المخاطب بالفعل المضارع المقرون بلام الأمر، وهو
الأصل. وقد رجح ابن هشام في مغني اللبيب رأي الكوفيين في هذه المسألة،
قال "وزعم الكوفيون وأبو الحسن أن لام الطلب حذفت حذفًا مستمرًا في نحو
قم واقعد، وأن الأصل لتقم ولتقعد، فحذفت اللام للتخفيف، وتبعها حرف
المضارعة، وبقولهم أقول: لأن الأمر معنى حقه أن يؤدى بالحرف، ولأنه أخو
النهي ولم يدل على النهي إلا بالحرف، ولأن الفعل إنما وضع لتقييد الحدث
بالزمان المحصل، وكونه أمرًا أو خبرًا خارج عن مقصوده، ولأنهم قد نطقوا
بذلك الأصل كقوله "لتقم أنت.. البيت" وكقراءة جماعة "فبذلك فلتفرحوا"
وفي الحديث =
(2/428)
وقال الآخر:
[347]
فلتكن أبعد العُدَاةِ من ... الصلح من النجم جَارُهُ العَيُّوقُ
وقال الآخر:
[348]
لتبعد إذ نأى جَدْوَاكَ عنِّي ... فلا أشقى عليك ولا أُبَالِي
__________
= "لتأخذوا مصافكم" ولأنك تقول: اغز واخش وارم واضربا واضربوا واضربي
كما تقول في الجزم، ولأن البناء لم يعهد كونه بالحذف، ولأن المحققين
على أن أفعال الإنشاء مجردة عن الزمان كبعت وأقسمت وقبلت، وقد أجابوا
عن كونها -مع ذلك- أفعالا بأن تجردها عارض لها عند نقلها عن الخبر، ولا
يمكنهم ادعاء ذلك في نحو قم؛ لأنه ليس له حالة غير هذه، وحينئذ فتشكل
فعليته. فإذا ادعى أن أصله "لتقم" كان الدال على الإنشاء اللام، لا
الفعل" وهو كلام دقيق، وفيه كل ما ذكره المؤلف عنهم وزيادة، فاحرص
عليه.
[347] النجم: أراد به ههنا الثريا، والعيوق -بفتح العين وتشديد الياء
مضمومة- قال الجوهري: "نجم أحمر مضيء في طرف المجرّة الأيمن؛ يتلو
الثريا، ولا يتقدم، وأصله فيعول، فلما التقى الياء والواو والأولى
ساكنة صارتا ياء مشددة" ا. هـ. وفي قوله "من النجم" إشكال، فإن "من"
التي تدخل على المفضول إنما تلحق أفعل التفضيل إذا كان نكرة، تقول: زيد
أشرف منك نسبًا، وأضوأ منك وجهًا، فإذا ألحقت ال بأفعل التفضيل أو
أضفته لم تأتِ بمن مع المفضول، تقول: زيد الأشرف نسبا، والأضوأ وجها،
وزيد أشرف الناس نسبا، وأضوأ الناس وجها، ولا تأتي بمن، فلا تقول: زيد
الأشرف منك نسبا والأضوأ منك وجها، وزيد أشرف الناس منك وجها، وزيد
أضوأ الناس منك وجها، ولهذا كان قوله "من النجم" محل كلام كقول الأعشى
ميمون:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
وكقول قيس بن الخطيم الأنصاري:
نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركض الجياد في السدف
ويمكن أن يتمحل في بيت الشاهد مثل الذي تمحله النحاة في بيت الأعشى
وبيت قيس، فيدعى أن "من" هذه ليست متعلقة بأبعد المذكور المضاف إلى
"العداة" ولكنها متعلقة بأبعد آخر محذوف ليس مضافًا، وتقدير الكلام على
هذا: لتكن أبعد العداة من الصلح أبعد من النجم.... إلخ، فأما "من" في
قوله "من الصلح" فليست هي من التي يمتنع لحاقها لأفعل التفضيل المقرون
بال أو المضاف، وذلك لأنها ليست "من" الداخلة على المفضول، والممنوع هو
من التي تدخل على المفضول، ولهذا كان قول الشاعر:
فهم الأقربون من كل خير ... وهم الأبعدون من كل ذم
صحيحًا لا غبار عليه. ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "فلتكن أبعد....
إلخ" حيث أمر المخاطب بالفعل المضارع المبدوء بتاء المضارعة المقرون
بلام الأمر، على ما هو الأصل في هذا المعنى، وقد ذكرنا مثله في شرح
الشاهد السابق.
[348] الجدوى -بوزن التقوى- العطية، والجدا -بالفتح- مثله، وتقول: جدا
عليه يجدي =
(2/429)
فثبت أن الأصل في الأمر للمواجهة [في نحو
افعل] أن يكون باللام نحو لتفعل كالأمر للغائب، إلا أنه لما كثر
استعمال الأمر للواجه في كلامهم وجرى على ألسنتهم أكثر من الغائب
استثقلوا مجيء اللام فيه مع كثرة الاستعمال فحذفوها مع حرف المضارعة
طلبا للتخفيف، كما قالوا "أيش" والأصل: أيّ شيء، وكقولهم "عِمْ صباحا"
والأصل فيه: انْعِم صباحا، من نعم ينعم بكسر العين في أحد اللغتين،
وكقولهم "وَيْلُمِّهِ" والأصل فيه: ويل أمه، إلا أنهم حذفوا في هذه
المواضع لكثرة الاستعمال، فكذلك ههنا: حذفوا اللام لكثرة الاستعمال؛
وذلك لا يكون مزيلا لها عن أصلها ولا مبطلا لعملها.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه معرب مجزوم أنا أجمعنا على أن
فعل النهي معرب مجزوم نحو "لا تفعل" فكذلك فعل الأمر نحو "افعل" لأن
الأمر ضد النهي، وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره، فكما
أن فعل النهي معرب مجزوم فكذلك فعل الأمر.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه معرب مجزوم بلام مقدرة أنك تقول
في المعتل "اغْْزُ، وارْمِ، واخش" فتحذف الواو والياء والألف كما تقول
"لم يغزُ، ولم يرمِ، ولم يخشَ" بحذف [حرف] العلة؛ فدل على أنه مجزوم
بلامٍ مقدرة.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن حرف الجر لا يعمل مع الحذف فحرف الجزم
أولى؛ لأن حرف الجر أقوى من حرف الجزم؛ لأن حرف الجر من عوامل الأسماء،
وحرف الجزم من عوامل الأفعال، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال،
فإذا كان الأقوى لا يعمل مع الحذف فالأضعف أولى" لأنا نقول: قولكم "إن
حرف الجر لا يعمل مع الحذف" لا يستقيم على أصلكم؛ فلا يصلح إلزامًا
لكم؛ فإنكم تذهبون إلى أن "رُبَّ" تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو
والفاء وبل، وإعمالها بعد الواو نحو قول الراجز:
[236]
وبَلَدٍ عامِيَةٍ أَعَماؤُهُ ... كأن لون أرضه سماؤه
__________
= جدى، وكذلك أجداه: أي أعطاه، وفلان قليل الجدا على قومه، وقال أبو
العيال الهذلي:
بخلت فطيمة بالذي توليني ... إلا الكلام، وقلما تجديني
وقوله: "لتبعد" أراد لتهلك فما في حياتك خير، ونأى: بعد، وقوله "فلا
أشقى عليك ولا أبالي" يريد إن هلكك يذهب عني ما أنا فيه من الشقاء
بحياتك. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "لتبعد" حيث أمر المخاطب بالفعل
المضارع المبدوء بتاء المضارعة المقرون بلام الأمر، على نحو ما قررناه
في شرح الشاهد السابق.
(2/430)
أي: ورُبَّ بلد، وإعمالها بعد الفاء نحو
قول الشاعر:
[240]
فَحُورٍ قد لَهَوْتُ بِهِنَّ عِينٍ
أي: فرُبَّ حورٍ، وإعمالها بعد بل نحو قول الراجز:
[349]
بل بلد ملءُ الفجاجِ قَتَمُهْ ... لا يَشْتَرِي كَتّانُهُ وجَهْرَمُهْ
أي: بل رب بلد، فأعملتم "رب" في هذه المواضع مع الحذف، وهي حرف خفض
وهذه مناقضة ظاهرة؛ فدل على أن حرف الخفض قد يعمل مع الحذف، على أنه قد
حكى نَقَلَةُ اللغة عن رؤبة أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت، يقول: خيرٍ
عافاك الله، أي: بخير، فيعمل [حرف] الخفض مع الحذف.
وكذلك أيضا مَنْعُكُمْ إعمال حرف الجزم1 مع الحذف لا يستقيم أيضا على
أصلكم، فإنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع،
وهي: الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والتمني، والعرض، والأمر
نحو: ايتني آتك، والنهي: لا تفعل يكن خيرًا لك، والدعاء: اللهم ارزقني
بعيرًا أحجَّ عليه، والاستفهام: أين بيتك أزرك، والتمني: ألا ماء
أشربه، والعرض: ألا تنزل أكرمك، فأعملتم حرف الشرط مع الحذف في هذه
المواضع كلها لتقديره فيها.
__________
[349] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من كلام رؤبة بن العجاج من
أرجوزة طويلة يمدح فيها أمير المؤمنين أبا العباس السفاح أول الخلفاء
العباسيين، وأول هذه الأرجوزة قوله:
قلت لزير لم تصله مريمه ... ضليل أهواء الصبا يندمه
والبيت المستشهد به ههنا من شواهد الأشموني "رقم 574" وابن هشام في
مغني اللبيب "رقم 168" وفي شذور الذهب "رقم 163" وابن عقيل "رقم 219"
والبلد يذكر ويؤنث، والتذكير أكثر، والفجاج: جمع فج، وهو الطريق
الواسع، وقتمه -بفتح القاف والتاء جميعًا، وأصله القتام، بوزن السحاب،
فخففه بحذف الألف -وهو الغبار، والجهرم -بوزن جعفر- هو البساط، وقيل:
أصل هذه الكلمة "جهرميه" بياء مشددة كياء الكرسي، للنسبة إلى جهرم وهي
إحدى بلاد فارس، وإنه حذف ياء النسبة لما يصف نفسه بالقدرة على الأسفار
وتحمل المشاق، ويشير إلى أن ناقته جلدة قوية على قطع الطرق الوعرة
والمسالك الصعبة، والاستشهاد بالبيت في قوله "بل بلد" حيث جر النكرة
بعد بل برب المحذوفة، وأصل الكلام "بل رب بلد" وانظر الشاهد رقم 239
السابق، ومثل هذا الشاهد قول رؤبة بن العجاج أيضا:
بل بلد ذي صعد وأصباب ... تخشى مراديه وهجر دواب
__________
1 في الأوروبية "إعمال حرف الجر مع الحذف" محرفا عما أثبتناه.
(2/431)
وقد جاء عن العرب إعمال حرف الجزم مع
الحذف، قال الشاعر:
[350]
محمد تَفْدِ نفسك كلُّ نفسٍ ... إذا ما خِفْتَ من أَمْرٍ تَبَالَا
والتقدير فيه: لتفد نفسك، فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم، وقال
الشاعر:
[351]
فقلت ادْعِي وأدْعُ؛ فإن أَنْدى ... لصوت أن ينادي داعيان
__________
[350] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 408" وابن يعيش في شرح المفصل
"ص942" والمؤلف في أسرار العربية "ص125" ورضي الدين في باب جوازم
المضارع من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 629" وابن
الناظم في باب الجوازم من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 418" وقد
اختلف العلماء في نسبة هذا البيت؛ فنسبه الرضي في باب فعل الأمر "2/
249" إلى حسان بن ثابت، وهو غير موجود في ديوانه، ونسبه ابن هشام في
شذور الذهب إلى أبي طالب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم،
قال البغدادي "وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: هو للأعشى
"ا. هـ" وهو عجيب غاية في العجب، والتبال: سوء العاقبة، وأصله الوبال
-بالواو- فأبدلت الواو تاء، والمعنى: إذا خفت وبال أمر أعددت له،
والاستشهاد بالبيت في قوله "تفد" فإن سيبويه رحمه الله -كالكوفيين- خرج
هذه الكلمة في هذا البيت على أن الأصل "لتفد" بلام الأمر مكسورة وبجزم
الفعل المضارع بحذف الياء وإبقاء الكسرة دالة عليها، ثم حذفت اللام
وبقي الفعل على ما كان عليه معها، قال سيبويه "واعلم أن هذه اللام قد
يجوز حذفها في الشعر، وتعمل مضمرة، وكأنهم شبهوها بأن إذا عملت مضمرة،
قال الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا
وإنما أراد لتفد" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه إضمار لام الأمر في
قوله تفد، والمعنى لتفد نفسك، وهذا من أقبح الضرورة، لأن الجازم أضعف
من الجار، وحرف الجر لا يضمر" يريد أن حرف الجر لا يعمل وهو محذوف، مع
أنه أقوى من الجازم، وإذا كان الأقوى لا يعمل محذوفا فلأن لا يعمل
الأضعف محذوفا من باب الأولى. وقد خرجه قوم تخريجًا آخر، فذهبوا إلى أن
"تفد" فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخفيف اجتزاء
بكسر ما قبلها للدلالة عليها، وكأنه قال: محمد تفدي نفسك كل نفس، ثم
حذف الياء مضطرا ليقيم وزن البيت، واكتفى بالكسرة التي قبلها، وقد قرر
المؤلف أن العرب قد تحذف حروف المد واللين وتكتفي بالحركات التي قبلها
لأنها مجانسة لها، وانظر الشواهد "245-254" ثم انظر الشاهد 283.
[351] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 426" وابن هشام في مغني اللبيب
"رقم 648" وفي أوضح المسالك "رقم 501" وفي شذور الذهب "رقم 154"
والأشموني "رقم 1035" وابن عقيل "رقم 327" وقد اختلف العلماء في نسبة
هذا البيت، فنسبه سيبويه إلى الأعشى، وقال الأعلم "ويروى للحطيئة"
والصحيح أن البيت من كلمة عدة أبياتها ثلاثة عشر بيتًا لدثار بن شيبان
النمري، أحد بني النمر بن قاسط، وهذه القصيدة مما رواه أبو =
(2/432)
أراد "ولأَدْعُ "وقال الآخر:
[352]
على مثل أصحاب البعوضة فَاخْمِشِي ... لك الويلُ حُرّ الوجه أو يَبْكِ
من بَكَى
__________
= السعادات بن الشجري في مختاراته "ق3 ص6" وكل من ذكرنا من النحاة من
سيبويه إلى آخرهم رووا "ادعى وأدعو إن أندى" ولكن ابن الشجري روى "ادعى
وأدع فإن أندى" كما روى المؤلف، وأندى: أفعل تفضيل من قولهم "ندى صوت
فلان يندى ندى -من مثال فرح يفرح فرحًا" إذا ارتفع وبعد. ومحل
الاستشهاد من البيت قوله "وأدع" فإن المؤلف أنشده على لسان الكوفيين
على أن الشاعر أراد "ولأدع" بلام الأمر وبجزم الفعل المضارع بحذف الواو
والضمة قبلها دليل عليها، وهذا يدل على أن العرب لا ترى مانعا من أن
تحذف الحرف الجازم للمضارع وتبقي عمله، على خلاف ما ذهب إليه البصريون
من أن ذلك لا يجوز، وأما النحاة الذين رووا "وأدعوا" ومنهم سيبويه
-فإنهم يستدلون بهذه العبارة على أن الفعل المضارع ينصب في جواب الأمر
بعد الواو، كما انتصب المضارع المقترن بهذه الواو بعد النهي في قول أبي
الأسود الدؤلي، ونسبه سيبويه "1/ 424" إلى الأخطل:
لا تنه عن عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ومثل بيت الشاهد -في حذف لام الأمر وبقاء المضارع مجزوما بعد حذفه- قول
الشاعر، وهو من شواهد ابن الناظم في شرح الألفية، وشرحه العيني "4/
420".
فلا تستطل مني بقائي ومدتي ... ولكن يكن للخير منك نصيب
فإنه أراد: ولكن ليكن للخير منك نصيب، فحذف لام الأمر وأبقى المضارع
-وهو "يكن"- مجزومًا كما كان واللام مقترنة به.
[352] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 409" وأنشده ابن منظور "ب ع ض"
وكلاهما نسبه لمتمم بن نويرة. والبعوضة: اسم مكان بعينه، كانت فيه
موقعة قتل فيها جماعة من قومه. ومحل الاستشهاد في البيت قوله "أو يبك"
وللعلماء في تخريج هذه الكلمة رأيان، الأول: أن "يبك" مجزوم بلام أمر
محذوفة، وأصل الكلام "أو ليبك" فحذف لام الأمر وأبقى عملها، على نحو ما
ذكرناه في شرح الشاهد السابق وبهذا يستدل الكوفيون على أن حذف حرف
الجزم مع بقاء عمله واقع في كلام العرب، والتخريج الثاني: أن "يبك"
مجزوم حملًا على معنى "فأخمشي" لأن فعل الأمر أصله فعل مضارع للمخاطب
مجزوم بلام الطلب وكأنه قال "على مثل أصحاب البعوضة فلتخمشي وجهك أو
يبك من بكى" والبصريون يرون هذا الوجه أقرب مأخذا وأيسر طريقا من الوجه
الأول؛ لأنه يخلصهم من استشهاد الكوفيين بالبيت ويبقى لهم ما أصلوه من
القاعدة التي تقول: إن حذف حروف الجزم وبقاء عملها وحذف حروف الجر
وبقاء عملها لا يجوز؛ لأنها عوامل ضعيفة.
ونظير هذا البيت ما أنشده سيبويه "1/ 409" ونسبه لأحيحة بن الجلاح:
فمن نال الغنى فليصطنعه ... صنيعته ويجهد كل جهد
والاستشهاد به في قوله "ويجهد" فإنه جزمه بتقدير لام أمر، وأصل العبارة
"وليجهد" فحذف اللام، وأبقى الفعل مجزوما كما كان واللام مقترنة بهن
وسيبويه يقول "واعلم أن حروف الجزم لاتجزم إلا الأفعال، ولا يكون الجزم
إلا في هذه الأفعال المضارعة =
(2/433)
أراد "لِيَبْكِ" وقال الآخر:
[353]
من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
أراد "فليدن" فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم، وهذا كثير في
أشعارهم، وإذا جاز أن يعمل حرف الجزم مع الحذف في هذه المواضع جاز أن
يعمل ههنا مع الحذف لكثرة الاستعمال.
وكذلك أيضا منعكم إعمال سائر عوامل الأفعال مع الحذف لا يستقيم أيضا
على أصلكم؛ فإنكم تذهبون إلى أن أن الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف بعد
الفاء إذا كانت جوابا للستة الأشياء التي جوزتم فيها إعمال أن الخفيفة
الشرطية مع الحذف، نحو: ايتني فآتيك، ولا تفعل يكون خيرا لك، واللهم
ارزقني بعيرا فأحج عليه، وأين بيتك فأزورك، وألا ماء فأشربه، وألا تنزل
فأكرمك، وكذلك تعملونها مع الحذف بعد الفاء في جواب النفي نحو: ما أنت
صاحبي فأعطيك، وكذلك أيضا تعملونها مع الحذف بعد الواو نحو: لا تأكل
السمك وتشرب اللبن، وبعد "أو" نحو: لأشكونك أو تُعْتِبَنِي، وبعد لام
كي نحو: جئتك لتكرمني، وبعد لام الجحود نحو: ما كنت لأفعل ذلك، وبعد
حتى نحو: سرت حتى أدخلها، قال الله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ
اللَّهِ} [التوبة: 6] وإذا جاز لكم أن تعملوا أن الناصبة للفعل بعد هذه
الأحرف مع الحذف وهي من عوامل الأفعال وإن الجازمة للفعل في المواضع
التي بيّناها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال جاز أن تعمل اللام الجازمة
للفعل مع الحذف لكثرة الاستعمال وإن كانت من عوامل الأفعال.
__________
= للأسماء، كما أن الجر لا يكون إلا في الأسماء، والجزم في الأفعال
نظير الجر في الأسماء، فليس للاسم في الجزم نصيب، وليس للفعل في الجر
نصيب، فمن ثم لم يضمروا الجازم كما لم يضمروا الجار، وقد أضمره الشاعر،
شبهه بإضمارهم رب وواو القسم في كلام بعضهم "ا. هـ كلامه.
[353] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن منظور "ز ج ر" ولم
يعزهما، وتقول: دنا فلان من فلان يدنو، تريد قرب يقرب، وزجره: منعه،
وأراد بالمزاجر الأسباب التي من شأنها أن تمنعه وتنهره وتنهاه. ومحل
الاستشهاد من البيت قوله "فيدن مني" فإن أصله -فيما زعم الكوفيون ومن
استشهد بهذا البيت- "فليدن مني" بلام أمر مقترنة بفعل مضارع مجزوم بحذف
الواو والضمة قبلها دليل عليها، فحذف الراجز لام الأمر وأبقى الفعل
المضارع على جزمه الذي كان عليه واللام مقترنة به. ورواية ابن منظور في
البيت "فليدن مني تنهه" بلام الأمر، وقال بعد إنشاده "ويروى: من كان لا
يزعم أني شاعر فيدن مني، أراد فليدن، فحذف اللام، وذلك أن الخبن في مثل
هذا أخف على ألسنتهم، والإتمام عربي" ا. هـ.
(2/434)
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إنَّ نَزَالِ
مبنيّ لأنه قام مقام فعل الأمر، فلو لم يكن فعل الأمر مبنيًّا وإلا لما
بني ما قام مقامه" لأنا نقول: إنما بني نزال لتضمنه معنى لام الأمر،
ألا ترى أن نزال اسم انْزِلْ، وأصله لتنزل، فلما تضمن معنى اللام كتضمن
أين معنى حرف الاستفهام، وكما أن أين بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام؛
فكذلك بنيت نزال لتضمنها معنى اللام.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مبني على السكون لأن
الأصل في الأفعال أن تكون مبنية، والأصل في البناء أن يكون على السكون،
وإنما أعرب ما أعرب من الأفعال أو بني منها على فتحة لمشابهة ما
بالأسماء، ولا مشابهة بوجه ما بين فعل الأمر والأسماء؛ فكان باقيًا على
أصله في البناء.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه مبني أنا أجمعنا على أن ما كان
على وزن فَعَالِ من أسماء الأفعال -كنزال، وتراك، ومناع، ونعاء، وحذار،
ونظار- مبني؛ لأنه ناب عن فعل الأمر فنزال ناب عن انزل، وتراك ناب عن
اترك، ومناع ناب عن امنع، ونعاء ناب عن انع، وحذار ناب عن احذر، ونظار
ناب عن انظر، قال زهير:
[354]
ولأنت أشجع من أسامة إذ ... دُعِيَتْ نَزَالِ وَلَجَّ في الذُّعْر
__________
[354] هذا البيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني "د 88-95" يمدح فيه
هرم بن سنان المري، وانظر الشاهد رقم 232 الذي مضى في المسألة 54، وهو
من شواهد سيبويه "2/ 37" وابن يعيش في شرح المفصل "ص495 و514" ورضي
الدين في باب أسماء الأفعال من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة
"3/ 61" وأنشده ابن منظور "ن ز ل" معزوا إليه، وأسامة: علم جنسي على
الأسد، ووقع في رواية سيبويه "ولنعم حشو الدرع أنت" يريد أنت شجاع
مقدام إذا لبست الدرع فكنت حشوها واشتدت الحرب فتنادى الأبطال: نزال،
وصار الناس من الذعر في مثل لجة البحر، و"نزال" اسم فعل أمر معناه
انزل، ومن حقه ألا يقع في مواقع الإعراب، فلا يكون فاعلًا ولا نائب
فاعل ولا مفعولا به ولا غير ذلك، وذلك بسبب أن الفعل وما كان اسمًا له
لا ينبغي أن يقع هذه المواقع، إلا أنه قد يقصد لفظه على طريق الحكاية،
وحينئذ يقع في مواقع الإعراب المختلفة، وقد وقع هذا اللفظ في هذا البيت
نائب فاعل، وقد أنث له الفعل بالتاء ليدل على أنه مؤنث، ونظير ذلك ما
ورد في قول زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريه كلما دعيت نزال
فقد وقع لفظ "نزال" نائب فاعل في هذا البيت وأنث له الفعل كما في البيت
المستشهد به، وبني في كل من البيتين على الكسر لما سنذكره في شرح
الشاهد الآتي:
(2/435)
أراد انْزِلْ، وأنثها لأنها بمنزلة
النَّزْلة، وقال الآخر:
[355]
عرضنا نزالِ فلم ينزلوا ... وكانت نزال عليهم أَطَمْ
وقال الآخر:
[356]
فدعوا نزال فكنت أوَّل نازلٍ ... وعَلَامَ أَرْكَبُهُ إذا لم أَنْزِلِ
__________
[355] هذا البيت من كلام جريبة الفقعسي، وقد أنشده ابن منظور "ن ز ل"
وعزاه إليه، وقد فسرنا "نزال" في البيت السابق بما يغني عن الإعادة،
و"أطم" أفعل تفضيل من قولهم "طم الأمر" أي تفاقم، وأصله قولهم "طم
الماء طما وطموما" أي غمر، و"طم البحر" أي غلب سائر البحور، وقد وقع
لفظ "نزال" في هذا البيت في موقعين من مواقع الإعراب، الأول: وقع فيه
مفعولا به، وذلك قوله "عرضنا نزال" والثاني: وقع فيه اسمًا لكان، وذلك
قوله "وكانت نزال" وذلك كله لأنه قصد اللفظ على ما بيناه في شرح الشاهد
السابق، قال ابن السراج: اعلم أنه لا يبنى على مثال فعال من هذا الباب
على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدول عن جهته، وإنما بني على الكسر لأن
الكسر مما يؤنث به، تقول للمرأة: أنت فعلت، وإنك فاعلة، وكان أصل هذا
-إذا أردت به الأمر- السكون، فحركته لالتقاء الساكنين، وجعلت الحركة
الكسرة للتأنيث، وذلك قولك: نزال، وتراك؛ ومعناه انزل واترك، فهما
معدولان عن المتاركة والمنازلة، قال الشاعر تصديقًا لذلك:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال، ولج في الذعر
فقال "دعيت" لما ذكرت لك من التأنيث" ا. هـ كلامه.
[356] هذا البيت من كلام ربيعة بن مقروم الضبي، وقد أنشده ابن منظور "ن
ز ل" ثاني بيتين من غير عزو، وأولهما قوله:
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسليم أوظفة القوائم هيكل
والأوظفة: جمع وظيف -بوزن رغيف وأرغفة- والوظيف: مستدق الذارع والساق
من الخيل والإبل، والهيكل: الفرس الطويل علوًا عدولًا، وهو الضخم من كل
الحيوان، وقال امرؤ القيس في معلقته:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
قال ابن منظور في تفسير بيت ربيعة "وصف فرسه بحسن الطراد فقال: وعلام
أركبه إذا لم أنازل الأبطال عليه؟ وكذلك قول الآخر:
فلم أذخر الدهماء عند الإغارة ... إذا أنا لم أنزل إذا الخيل جالت؟
فهذا بمعنى المنازلة في الحرب والطراد لا غير، ويدل علي أن نزال في
قوله "فدعوا نزال" بمعنى المنازلة دون النزول إلى الأرض قوله:
وعلام أركبه إذا لم أنزل؟
أي لماذا أركبه إذا لم أقاتل عليه؟ أي في حين عدم قتالي عليه؟ وإذا
جعلت نزال بمعنى النزول إلى الأرض صار المعنى: وعلام أركبه حين لم أنزل
إلى الأرض؟ ومعلوم أنه حين لم ينزل هو راكب، فكأنه قال: وعلام أركبه في
حين أنا راكب؟ "ا. هـ. ومحل الاستشهاد =
(2/436)
وقال الآخر:
[357]
تَرَاكِهَا من إبل تَرَاكِهَا ... أما ترى الموت لدى أَوْرَاكِهَا
أراد "اتْرُكْهَا" وقال الآخر:
[358]
مَنَاعِهَا من إبل مَنَاعِهَا ... أما ترى الموت لدى أرباعها
أراد "امنعها" وقال جرير:
[359]
نَعَاءِ أبا ليلى لكل طِمِرَّةٍ ... وجَرْدَاءَ مثل القَوْسِ سَمحٌ
حُجُولُهَا
__________
= بالبيت ههنا قوله "فدعوا نزال" حيث أوقع لفظ "نزال" في موقع المفعول
به لأنه أراد هذا اللفظ ولو أراد المعنى لم يجز له أن يوقعه في شيء من
مواقع الإعراب؛ لأن الفعل وما هو بمعناه لا يقع في شيء منها، وقد بينا
لك ذلك في شرح الشواهد السابقة.
[357] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من شواهد سيبويه "2/ 37" وابن
يعيش في شرح المفصل "ص515" ولم يعزهما واحد منهما إلى قائل معين، وقد
أنشدهما ابن منظور "ت ر ك" وعزاهما إلى طفيل بن يزيد الحارثي، وتراك:
اسم فاعل أمر بمعنى اترك، وهو مبني على الكسر لما ذكرنا في شرح الشاهد
355، وفيه ضمير مستتر واجب الاستتار كما يكون في فعل الأمر، والضمير
البارز المتصل في محل نصب به. ومحل الاستشهاد قوله "تراكها" حيث استعمل
فعال المأخوذ من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف اسم فعل أمر، وبناه على
الكسر، على ما بيناه في شرح الشواهد السابقة.
[358] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد سبيوبه "2/ 36" وابن
يعيش في شرح مفصل الزمخشري "ص515" ولم يعزهما واحد منهما لقائل معين،
ومناع: اسم فعل أمر بمعنى امنع، والأرباع: جمع ربع، وهو المنزل والدار
بعينها، والوطن متى كان وبأي مكان كان، ويجمع أيضا على أربع ورباع
وربوع. ومحل الاستشهاد به قوله "منعها" حيث استعمل فعال المأخوذ من
مصدر الفعل الثلاثي المتصرف اسم فعل أمر، وبناه على الكسر، على نحو ما
بيناه في شرح الشواهد السابقة.
[359] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 37" ونسبه إلى جرير بن عطية،
ووافق الأعلم على هذه النسبة، ولكني لم أجده في ديوان جرير، ونعاء: اسم
فعل أمر معناه انع، أي اذكر خبر موته والفجيعة فيه، والطمرة -بكسر
الطاء والميم جميعا، وتشديد الراء مفتوحة- الخفيفة السريعة من الخيل،
والجرداء: القصيرة الشعر، وهذان من الأوصاف التي توصف بها عتاق الخيل،
وشبهها بالقوس لانطوائها من الهزال، يريد أنه كان يجهدها في الحرب
والإغارات حتى هزلت، وقوله "سمح حجولها" الحجل: القيد، يريد أنها مذللة
خاضعة للتقييد، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "نعاء أبا ليلى" حيث
استعمل فيه اسم الفعل المأخوذ من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف -وهو نعى-
وجاء به على وزن فعال، وبناه على الكسر، وقد أضمر فيه فاعله كما يضمر
في فعل الأمر الذي بمعناه، ونصب به المفعول -وهو قول "أبا ليلى"- لأن
فعل الأمر الذي هو بمعناه يصل إلى المفعول به =
(2/437)
أراد "انْعَ" وقال الآخر:
[360]
نعاءِ ابن ليلى للسَّماحة والنَّدَى ... وأيدي شمال باردات الأنامل
[361]
نعاءِ جُذَامًا غير موت ولا قتل ... ولكن فِرَاقًا للدَّعَائِمِ
والأَصْل
أراد "انْعَ جُذَامًا" وقال الآخر، وهو أبو النجم:
[362]
حَذَارِ من أرماحنا حَذَارِ
__________
= بنفسه، والمؤلف يريد أن يستدل بهذا ونحوه على أن الأسماء التي على
وزن فعال الدالة على الأمر مبنية على الكسر في لسان العرب، وقد بينا
علة ذلك في شرح الشواهد السابقة.
[360] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 37" ولم يعزه، ولا عزاه الأعلم
الشنتمري في شرح شواهده، ونعاء: أي انع، أي اذكر خبر موته والفجيعة
فيه، والسماحة: الجود، والندى: الكرم، وقوله "وأيدي شمال باردات
الأنامل" أحسن ما يحمل عليه هذا الكلام أن تكون الواو للحال، وأيدي
شمال: مبتدأ، وباردات الأنامل: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في محل
نصب حال، أي اذكر خبر موت ابن ليلى للجود والكرم في حال كون أيدي
الشمال باردات الأنامل، أي ليكن ذكرك إياه عند برد ريح الشمال لأنه هو
الذي كان يغيث من هذا البرد، وخص الشمال لأنها أبرد الرياح، ولأنها هي
التي يأتي معها القحط والجدب؛ فعندها تظهر حاجة المحتاجين الذين كان
يقوم عليهم، وخص الأنامل -وهي أطراف الأصابع- لأن البرد يسرع إليها.
والاستشهاد بهذا البيت في قوله "نعاء ابن ليلى" والكلام فيه كالكلام
فيما قبله.
[361] هذا البيت للكميت بن زيد كما قال المؤلف، وهو شواهد ابن يعيش في
شرح المفصل "ص515" وقد أنشده ابن منظور "ن ع ا" وكلاهما نسبه إلى
الكميت. ونعاءك معناه انع، والأصل فيه ذكر خبر موته والفجيعة فيه،
وكانوا في جاهليتهم إذا مات منهم ميت له خطر وقدر ركب راكب وجعل يسير
في الناس ويرد عليهم محلاتهم وهو يقول "نعاء فلانا" أي أظهر خبر وفاته،
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما كان أهل الجاهلية يصنعونه،
والدعائم: جمع دعامة، وأصله أن يميل شيء فتدعمه بخشبة ونحوها لتقيمه،
وسموا سيد القوم دعامة، من ذلك، لأنه الذي يقيم ما اعوج من أمورهم.
يقول: انع هؤلاء القوم واذكر الفجيعة فيهم، ولكن لا تذكر ذلك لأنهم
ماتوا أو قتلوا، ولكن لأنهم فارقوا سادتهم وأهل الخطر منهم فتبدد أمرهم
وانصدع شملهم. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "نعاء جذاما" حيث
استعمل فيه اسم فعل أمر مأخوذًا من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف، وبناه
على الكسر، والكلام فيه كالكلام فيما مضى من الشواهد.
[362] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 37" وقد نسبه إلى أبي النجم الفضل
بن قدامة العجلي، وقد أنشده ابن منظور "ح ذ ر" وأنشد بعده:
أو تجعلوا دونكم وبار
(2/438)
أراد "احْذَرْ" وقال رؤبة:
[363]
نَظَارِ كي أركبها نَظَارِ
أراد "انْظُرْ" فلو لم يكن فعل الأمر مبنيًّا وإلا لما بني ما ناب
مَنَابَهُ، وما ذكره الكوفيون على هذا فسنذكر فساده في الجواب عن
كلماتهم في موضعه إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل في افعل لتفعل"
قلنا: لا نسلم، قولهم "كما قالوا للغائب: ليفعل" قلنا: فكان يجب أن لا
يجوز حذف اللام منه، كما لا يجوز في الغائب، قولهم "إنما حذفت في الأمر
للمواجهة لكثرة الاستعمال" قلنا: هذا فساد؛ لأنه لو كان الأمر كما
زعمتم لوجب أن يختص الحذف بما يكثر استعماله دون ما يقل استعماله- نحو:
احْرَنْجَمَ واعْرَنْزَمَ، واعْلَوَّطَ، واخْرَوَّطَ، واسْبَطَرَّ،
واسْبَكَرَّ- وما أشبه ذلك من الأفعال؛ لأن الحذف لكثر الاستعمال إنما
يختص بما يكثر في الاستعمال، ألا ترى أنهم قالوا في "لم يكن": لم يَكُ؛
فحذف النون لكثرة الاستعمال، ولم يقولوا في "لم يَصُنْ": لم يَصُ، ولا
في "لم يَهُنْ": لم يَهُ، لأنه لم يكثر استعماله، وقالوا في "لم
أُبَالِ": لم
__________
= ونسبهما إليه، وحذار: اسم فعل أمر معناه احذر، واشتقاقه من الحذر،
ووبار: أرض كانت من مساكن عاد بين اليمن ورمل يبرين، فلما أهلك الله
عادًا صارت خرابًا لا يتقاربها أحد من الناس، ومحل الاستشهاد بالبيت
قوله "حذار" وهو اسم لفعل الأمر وواقع موقعه، وكان حقه السكون لأن فعل
الأمر مبني على السكون، إلا أنه حرك للتخلص من التقاء الساكنين، وخص
بالكسر لأنه اسم مؤنث والكسرة والياء مما يخص به المؤنث نحو قولك "أنت
تذهبين" كسرة التاء في "أنت" دالة على المؤنث والياء في "تذهبين" دالة
على المؤنث، وربما نونه بعضهم كما في قول الشاعر:
حذار حذار من فوارس دارم ... أبا خالد من قبل أن تتندما
فنوّن "حذار" الثانية ولم يكن ينبغي له ذلك، غير أنه اضطر إلى ذلك ليتم
به الوزن.
[363] هذا البيت من كلام رؤبة بن العجاج، وهو من شواهد سيبويه "2/ 37"
ونسبه إلى رؤبة، ووافق الأعلم على هذه النسبة. ونظار: اسم فعل أمر
بمعنى انظر، أي انتظر، تقول: نظرته أنظره -من مثال نصرته أنصره-
وانتظرته أنتظره، وأنظرته أنظره، كله بمعنى واحد، وقرئ في قوله تعالى:
{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] بقطع الهمزة على
أنه من مثال أكرم وبوصل الهمزة على أنه ثلاثي من باب نصر، وقيل في
التفسير: إن المعنى على القراءتين انتظرونا، وقال عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
ومحل الاستشهاد من البيت قوله "نظار" فإنه اسم فعل أمر مبني على الكسر،
والقول فيه كالقول فيما سبق من الشواهد، والعلة كالعلة.
(2/439)
أَبَلْ؛ فحذفوا الكسرة لكثرة الاستعمال،
ولم يقولوا في "لم أوَالِ": لم أوَلْ، ولا في "لم أَعَالِ": لم أَعَلْ؛
لأنه لم يكثر استعماله، وكذلك قالوا في أي شيء": أيْشٍ -بالشين معجمة-
لكثرة استعماله، ولم يقولوا في "أي سَيء": أيس -بالسين غير معجمة- لقلة
استعماله، وقالوا "عِمْ صباحًا" في أنعم صباحا؛ لكثرته، ولم يقولوا
"عمِ ْبَالًا" في انعم بالًا؛ لقلته، وقالوا "وَيْلُمِّهِ" في: ويل
أمِّهِ، ولم يقولوا في "ويلخته" في ويل أخته؛ لقلته، فلما حذفت اللام
وحرف المضارعة في محل الخلاف من جميع الأفعال التي تكثر في الاستعمال
والتي تقل في الاستعمال دلَّ على أن ما ادَّعَوْهُ من التعليل ليس عليه
تعويل، ثم لو قدرنا أن الأصل فيه ما صرتم إليه إلا أنه قد تضمن معنى
لام الأمر، فإذا تضمن معنى لام الأمر فقد تضمن معنى الحرف، وإذا تضم
معنى الحرف وجب أن يكون مبنيًّا. ثم نقول إن علة وجود الإعراب في الفعل
المضارع وجود حرف المضارعة، فما دام حرف المضارعة ثابتا كانت العلة
ثابتة، ومادامت العلة ثابتة سليمة عن المضارعة كان حكمها ثابتًا؛ ولهذا
كان قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 10] معربًا، وقوله
صلوات الله عليه "ولتزُرَّهُ" و"لتأخُذُوا" و"لتقومُوا" وما أشبهه
معربًا لوجود حرف المضارعة، ولا خلاف في حذف حرف المضارعة في محل
الخلاف، وإذا حذف حرف المضارعة -وهو علة وجود الإعراب فيه- فقد زالت
العلة؛ فإذا زالت العلة زال حكمها، فوجب أن لا يكون فعل الأمر معربًا.
وأما قولهم "إن فعل النهي معرب مجزوم، فكذلك فعل الأمر؛ لأنهم يحملون
الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره" قلنا: حمل فعل الأمر على فعل
النهي في الإعراب غير مناسب؛ فإن فعل النهي في أوله حرف المضارعة الذي
أوجب للفعل المشابَهَةَ بالاسم، فاستحق الإعراب، فكان معربًا وأما فعل
الأمر فليس في أوله حرف المضارعة الذي يوجب للفعل المشابهة بالاسم؛
فيستحق أن لا يعرب؛ فكان باقيًا على أصله في البناء.
والذي يدل على ذلك أن لام التأكيد التي تدخل على الفعل المضارع في نحو
"إن زيدا ليقوم" كما تقول "إن زيدا لقائم" لا يجوز دخولها على فعل
الأمر، كما لا يصح دخولها على الفعل الماضي، وإن كان الماضي أقوى من
فعل الأمر بدلالة الوصف به، والشرط به، وبنائه على حركة تشبه حركة
الإعراب [و] بدليل أنه لا يلحق آخره هاء السكت، كما لا يلحق آخر الاسم
المعرب، وإذا كان الماضي لا تدخله هذه اللام مع وجود شبه ما بالأسماء
فلأن لا تدخل هذه اللام فعل الأمر مع عدم شبهٍ ما بالأسماء كان ذلك من
طريق الأولى، وإذا ثبت أنها لا تدخله دلَّ على أنه لا مشابهة بينه وبين
الاسم، وإذا لم يكن بينه وبين الاسم مشابهة كان مبنيًّا على أصله.
(2/440)
وأما قولهم: "إنك تحذف الواو والياء والإلف
من نحو: اغز، وارم، واخش، ما تحذفها من نحو: لم يغز، ولم يرم، ولم يخش"
قلنا: إنما حذفت هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف للبناء، لا
للإعراب والجزم، حملًا للفعل المعتل على الصحيح، وذلك أنه لما استوى
الفعل المجزوم الصحيح وفعل الأمر الصحيح، كقولك "لم يفعل وافعل يا فتى"
وإن كان أحدهما مجزومًا والآخر ساكنًا سوِّيَ بينهما في الفعل المعتل،
وإنما وجب حذفها في الجزم لأن هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف
جرت مجرى الحركات لأنها تشبهها، وهي مركبة منها في قول بعض النحويين،
والحركات مأخوذة منها في قول آخرين، وعلى كلا القولين فقد وجدت
المشابهة بينهما، وكما أن الحركات تحذف للجزم، فكذلك هذه الأحرف، فلما
وجب حذف هذه الأحرف في المعتل للجزم، فكذلك يجب حذفها من المعتل
للبناء؛ حملًا للمعتل على الصحيح؛ لأن الصحيح هو الأصل، والمعتل فرع
عليه؛ فحذف حملًا للفرع على الأصل.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وأنه ليس مجزومًا بلام مقدرة أن حرف الجر
لا يعمل مع الحذف، فحرف الجزم أولى.
قولهم "إنكم تذهبون إلى أن رب تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو والفاء
وبل" قلنا: إنما جاز ذلك لأن فيما بقي من هذه الأحرف دليلًا على ما
ألقي وبيانًا عنه، فلما كانت هذه الأحرف دليلًا عليه وبيانا عنه جاز
حذفه؛ لأن المحذوف بهذه المثابة في حكم الثابت، بخلاف حرف الجزم؛ فإنه
حذف وليس في اللفظ حرف يدل عليه ولا يبين عنه، فبان الفرق بينهما.
وأما قولهم "إنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع،
وهي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض" قلنا: الجواب عن
هذا من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم حذف حرف الشرط في هذه المواضع، ولا أن الفعل مجزوم
بتقدير حرف الشرط، وإنما هو مجزوم لأنه جواب لهذه الأشياء التي هي
الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض، وهذا الوجه ذكره بعض
النحويين، وليس بصحيح؛ لأنك لو حملت الكلام على ظاهره من غير تقدير حرف
الشرط لكان ذلك يؤدي إلى محال، ألا ترى أنك إذا قلت: "ايتني آتك" كان
الأمر بالإتيان موجبًا للإتيان، وإذا قلت: "لا تفعل يكن خيرًا" كان
النهي عن الفعل موجبًا للخير، وإذا قلت: "اللهم ارزقني بعيرا أحجَّ
عليه" كان الدعاء بالرزق موجبًا للحج، وإذا قلت: "أين بيتك أزرْك" كان
الاستفهام عن بيته موجبًا للزيارة، وإذا قلت: "ألا
(2/441)
ماء أشربْه" كان التمني للماء موجبًا
للشرب، وإذا قلت "ألا تنزل عندنا أكرمْك" كان العرض موجبًا للكرامة،
وذلك محال؛ لأن الأمر بالإتيان لا يكون موجبًا للإتيان وإنما يوجبه
الإتيان؛ والنهي عن الفعل لا يكون موجبًا للخير، وإنما يوجبه الانتهاء،
والدعاء بالرزق لا يكون موجبًا للحج، وإنما يوجبه الرزق، والاستفهام عن
بيته لا يكون موجبًا للزيارة، وإنما يوجبه التعريف، والتمني للماء لا
يكون موجبًا للشرب، وإنما يوجبه وجوده، والعرض بالنزول لا يكون موجبًا
للكرامة، وإنما يوجبه النزول؛ فدل على أن حرف الشرط فيها كلها مقدر،
وأن التقدير: ايتني فإنك إن تأتني آتك، ولا تفعل فإنك إن لا تفعل يكن
خيرًا لك، واللهم ارزقني بعيرًا فإنك إن ترزقني بعيرًا أحج عليه، وأين
بيتك فإنك إن تعرِّفْنِي بيتك أزرك، وألا ماء فإن يك ماء أشربه، وألا
تنزل فإنك إن تنزل أكرمك؛ فدلّ على أن هذا الوجه الذي ذكره بعضهم عن
تعري الكلام عن تقدير حرف الشرط ليس بصحيح.
والوجه الثاني: وهو الصحيح -أنا نسلم تقدير حرف الشرط، وأنه حذف، وإنما
حذف لدلالة هذه الأشياء عليه، فصار في حكم ثابت على ما بيَّنَّا في حذف
رُبَّ.
وأما قولهم "إن إعمال حرف الجزم مع حذف الحرف قد جاء كثيرًا، وأنشدوا
الأبيات التي رووها" فنقول: أما قوله:
[350]
محمد تَفْدِ نفسك كُلُّ نفس ... إذا ما خفت من أمر تَبَالَا
فقد أنكره أبو العباس محمد بن يزيد المُبَرِّد، ولئن سلمنا صحته -وهو
الصحيح- فنقول: قوله "تفد نفسك" ليس مجزومًا بلام مقدرة، وليس الأصل
فيه لتفد نفسك، وإنما الأصل: تفدي نفسك، من غير تقدير لام، وهو خبر
يراد به الدعاء، كقولهم: غفر الله لك، ويرحمك الله، وإنما حذف الياء
لضرورة الشعر اجتزاء بالكسرة عن الياء، كما قال الأعشى:
[247]
وأخو الغَوَانِ متى يشأ يَصْرِمْنَهَ ... ويَصِرْنَ أعداء بُعَيْدَ
وِدَادِ
أراد "الغواني" فاجتزأ بالكسرة عن الياء، وقال الآخر:
[364]
فما وَجَدَ النَّهْدِيُّ وَجْدًا وَجَدْتُهُ ... ولا وَجَدَ
العُذْرِيُّ قبل جَمِيلُ
__________
[364] النهدي: المنسوب إلى نهد -بفتح النون وسكون الهاء- وهي قبيلة من
قبائل اليمن يرجع نسبها إلى قضاعة، فهي نهد بن زيد بن ليث بن سود بن
أسلم بن الحاف بن قضاعة، والعذري: المنسوب إلى عذرة -بضم العين وسكون
الذال المعجمة- وهي قبيلة عظيمة =
(2/442)
أراد "قَبْلِي" وقال الآخر:
[365]
وطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلَاتِ ... دوامي الأيدِ يَخْبِطْنَ
السَّرِيحَا
أراد "الأيدي". وقال خُفَافُ بن نَدْبَةَ السلمي:
[366]
كنواحِ ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ
أراد "كنواحي" فاجتزأ بالكسرة عن الياء كما يجتزئون بالضمة عن الواو
وبالفتحة عن الألف، فاجتزاؤهم بالضمة عن الواو كقولهم في قاموا "قامُ"
وفي كانوا "كانُ" قال الشاعر:
[245]
فلو أن الأطِبَّاء كانُ حَوْلِي ... وكانَ مع الأطباء الأَسَاةُ
إذا ما أذهبوا ألمًا بقلبي ... وإن قيل: الأطِبَّاء الشّفَاةُ
أراد "كانوا" فاجتزأ بالضمة عن الواو.
__________
= من قبائل العرب يرجع نسبها إلى قضاعة أيضا، فهي: عذرة بن سعد بن هذيم
بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، ومن بني عذرة جميل بن
عبد الله بن معمر صاحب بثينة، ومنهم أيضا عروة بن حزام بن مالك صاحب
عفراء، ومنهم مجنون بني عامر صاحب ليلى، والاستشهاد في هذا البيت بقوله
"قبل" فإنه يروى بكسر اللام وأصله "قبلي" فحذف ياء المتكلم مكتفيًا
بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها، ولو أنه قال "قبل" بضم اللام على
حذف المضاف إليه ونيّة معناه لاستقام له الوزن وسلم من كل شيء، فقد كان
متمكنًا من أن يأتي بالبيت على وجه لا ضرورة فيه، وذلك يدل على أن حذف
حرف العلة لدلالة الحركة عليه أمر هين عندهم لا يرون به بأسا، وانظر
الشواهد 245-254 التي مضت في المسألة 56 ثم انظر الشاهد 274 والشاهد
283 في المسألة 62.
[365] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 9" ولم يعزه ولا عزاه الأعلم إلى
قائل معين، والمنصل -بضم الميم والصاد بينها نون ساكنة- السيف،
واليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة القوية على العمل، وقوله "دوامي
الأيد" إشارة إلى أنه كان في سفر وأن نوقه قد حفين لإدمان السير ودميت
أخفافهن، والسريح: جلود أو خرق تشد على أخفاق الناقة، وصف أنه عقر نوقه
بسيفه للأضياف مع شدة حاجته إليهن لكونه مسافرًا، والاستشهاد بالبيت في
قوله "دوامي الأيد" حيث حذف الياء اكتفاء بالكسرة قبلها، وأصله "دوامي
الأيدي".
[366] هذا البيت من شواهد سيبويه أيضا "1/ 9" ونسبه إلى خفاف بن ندبة
السلمي -وصف الشاعر شفتيّ امرأة فشبهها بنواحي ريش الحمامة في رقتهما
ولطافتهما، وأراد أن لثاتها تضرب إلى السمرة فكأنها مسحت بالإثمد، وعصف
الإثمد: ما سحق منه، وخص الحمامة النجدية لأنه يريد الحمام الورق وهي
تألف الجبال، ولا تألف الفيافي والسهول، والنجدية: المنسوبة إلى النجد،
وهو ما ارتفع من الأرض، والاستشهاد بالبيت في قوله "كنواح" فإنه أراد
أن يقول: كنواحي ريش حمامة" فلم يتهيأ له أن يقيم وزن البيت مع الياء
فحذفها اكتفاء بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها.
(2/443)
واجتزاؤهم بالفتحة عن الألف نحو ما أنشدوا:
[245]
فلست بمدركٍ ما فاتَ منِّي ... بِلَهْفٍ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَانِّي
أراد "بلهفًا" فاجتزأ بالفتحة عن الألف، كما قال رؤبة:
[283]
وصَّانِي العجاج فيما وَصَّنِي
أراد "فيما وصاني" فاجتزأ بالفتحة عن الألف.
واجتزاؤهم بهذه الحركات عن هذه الأحرف كثير في كلامهم، والشواهد على
ذلك أكثر من أن تُحْصَى.
ثم لو صح أن التقدير فيه "لتفد" كما زعمتم فنقول: إنما حذف اللام
لضرورة الشعر. وما حذف للضرورة لا يجعل أصلًا يقاس عليه.
وأما قوله.
[351]
فقلت ادْعِي وأَدْعُ فإنَّ أندى
فإنه قد روي:
[351]
... ادعي وأَدْعُو إنَّ أندى
بإثبات الواو في "أدعو" وحذف الفاء من "إن" فلا يكون فيه حجة، ولئن صح
ما رووه فهو محمول على ضرورة الشعر كما بينا في البيت الأول، وهو
الجواب عن قول الآخر:
[352]
... أو يَبْكِ من بَكَى
وعن قول الآخر:
[353]
فيدن مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
والذي يدل على أن ذلك مما يختص بالشعر أن أبا عثمان المازني قال: جلست
في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في
شعر، وأنشد:
[353]
من كان لا يزعم أني شاعر ...
فَيَدْنُ مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام؟ فقال: لأن الشعر يضطر فيه
الشاعر فيحذف؛ فدل على أن هذا الحذف إنما يكون في الشعر لا في اختيار
الكلام، بالإجماع.
وأما ما رووه عن رؤبة من قوله: "خيرٍ" فلا خلاف أنه من الشاذ النادر
الذي لا يعرَّجُ عليه، ولهذا أجمع النحويون قاطبة على أنه لا يجوز في
جواب من قال: "أين تذهب" أن يقال: زيدٍ، على تقدير إلى زيد، وفي امتناع
ذلك
(2/444)
بالإجماع دليل على أنه من النادر الذي لا
يلتفت إليه ولا يقاس عليه.
وأما قولهم "إنكم تذهبون إلى أن "أن" الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف
بعد الفاء والواو وأو ولام كي ولام الجحود وحتى، وإذا جاز لكم أن
تعملوها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال كذلك يجوز لنا أن نُعْمِلَ
اللام مع الحذف وهي من عوامل الأفعال" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين.
أحدهما: إنما جاز حذفها لأن هذه الأحرف دالة عليها، فصارت في حكم ما لم
يحذف، على ما بينا في حذف رب وحرف الشرط، بخلاف لام الأمر، فبان الفرق
بينهما.
والوجه الثاني: أنه لو كانت اللام الجازمة للفعل محذوفة كما تحذف أن
لكان يجب أن يُلْقَى حرف المضارعة فيقال "تفعل" في معنى لتفعل، كما بقي
حرف المضارعة مع حذف أن بعد الفاء والواو وأو ولام الجحود ولام كي
وحتى، فلما حذف ههنا حرف المضارعة فقيل "افعل" دل على أن ما ذهبوا إليه
قياس باطل لا أصل له ولا حاصل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن ما كان على وزن فعال من أسماء
الأفعال نحو نزال مبنيّ لقيامه مقام فعل الأمر، فلو لم يكن فعل الأمر
مبنيا وإلا لما بني ما قام مقامه.
قولهم "إنما بني ما كان على فعال من أسماء الأفعال لتضمنه معنى لام
الأمر، لأن نزال اسم انزل وأصله لتنزل" قلنا: هذا بناء منكم على أن فعل
الأمر مقتطع من الفعل المضارع، وقد بينا فساده بما يغني عن الإعادة،
ودللنا على أن فعل الأمر صيغة مُرْتَجَلَةٌ قائمة بنفسها باقية في
البناء علي أصلها؛ فوجب أن يكون هذا الاسم مبنيًّا لقيامه مقامه على ما
بينا، والله أعلم.
(2/445)
73- مسألة: [القول في علة إعراب الفعل
المضارع] 1
أجمع الكوفيون والبصريون على أن الأفعال المضارعة معربة، واختلفوا في
علة إعرابها؛ فذهب الكوفيون إلى أنه إنما أعربت لأنه دخلها المعاني
المختلفة والأوقات الطويلة. وذهب البصريون إلى أنها إنما أعربت لثلاثة
أوجه؛ أحدها2 أن الفعل المضارع يكون شائعًا فيتخصص، كما أن الاسم يكون
شائعًا فيتخصص، ألا ترى أنك تقول "يذهب" فيصلح للحال والاستقبال، فاختص
بعد شياعه، كما أن الاسم يختص بعد شياعه، كما تقول "رجل" فإذا قلت "سوف
يذهب" اختص بالاستقبال، فاختص بعد شياعه، كما أن الاسم يختص بعد شياعه،
كما تقول "رجل" فيصلح لجميع الرجال، فإذا قلت "الرجل" اختص بعد شياعه،
فلما اختص هذا الفعل بعد شياعه كما أن الاسم يختص بعد شياعه فقد شابهه
من هذا الوجه، والوجه الثاني: أنه تدخل عليه لام الابتداء تقول: "إن
زيدا ليقوم" كما تقول "إن زيدا لقائم" فلما دخلت عليه لام الابتداء كما
تدخل على الاسم دلَّ على مشابهة بينهما، ألا ترى أنه لا يجوز أن تدخل
هذه اللام على الفعل الماضي ولا على فعل الأمر! ألا ترى أنك لا تقول:
"إن زيدا لقام" ولا "إن زيدا لاضْرِبْ عمرًا" وما أشبه ذلك؛ لعدم
المشابهة بينهما وبين الاسم.
والوجه الثالث: أنه يجري على اسم الفاعل في حركته وسكونه، ألا ترى أن
قولك "يضرب" على وزن "ضارب" في حركته وسكونه، فلما أشبه هذا الفعل
الاسم من هذه الأوجه وجب أن يكون معربًا كما أن الاسم معرب.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم: "إنما أعربت لأنها دخلها
المعاني
__________
1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص126" وشرح ابن يعيش على
المفصل "ص922" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "1/ 64 و3/ 234 بولاق"
وتوضيح الشيخ خالد الأزهري "1/ 66 و2/ 289".
2 العلة في إعراب المضارع عند البصريين هي مشابهته للاسم، وهذه الوجوه
التي ذكرها المؤلف هي بعض وجوه مشابهة الفعل المضارع للاسم.
(2/446)
المختلفة والأوقات الطويلة قلنا: قولكم
يدخلها المعاني المختلفة يبطل بالحروف؛ فإنها تدخلها المعاني المختلفة،
ألا ترى أن "ألا" تصلح للاستفهام والعرض والتمني، و"مِنْ" تجيء لمعانٍ
مختلفة من ابتداء الغاية والتبعيض والتبيين والزيادة للتوكيد، إلى غير
ذلك من الحروف، ولا خلاف بين النحويين أنه لا يعرب منها شيء وقولكم
"والأوقات الطويلة" تبطل بالفعل الماضي؛ فإنه كان ينبغي أن يكون
معربًا؛ لأنه أطول من المستقبل؛ لأن المستقبل يصير ماضيًا، والماضي لا
يصير مستقبلًا، فإذا كان الماضي الذي هو الأطول مبنيًّا؛ فكيف [يجوز
أن] يكون المستقبل الذي هو دونه معربًا؟ فلو كان طول الزمان يوجب
الإعراب لوجب أن يكون الماضي معربًا، فلما لم يعرب دلَّ على أن هذا
تعليل ليس عليه تعويل، والله أعلم.
(2/447)
74- مسألة: [القول في رفع الفعل المضارع] 1
اختلف مذهب الكوفيين في رفع الفعل المضارع نحو "يقوم زيد، ويذهب عمرو"
فذهب الأكثرون إلى أنه يرتفع لتعريه من العوامل الناصبة والجازمة، وذهب
الكسائي إلى أنه يرتفع بالزائد في أوله، وذهب البصريون إلى أنه يرتفع
لقيامه مقام الاسم.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن هذا الفعل تدخل
عليه النواصب والجوازم، فالنواصب نحو: أن، ولن، وإذن، وكي، وما أشبه
ذلك، والجوازم نحو: لم، ولما، ولام الأمر، ولا في النهي، وإن في الشرط،
وما أشبه ذلك، فإذا دخلت عليه هذه النواصب دخله النصب، نحو "أريد أن
تقوم، ولن يقوم، وإذن أكرمك، وكي تفعل ذلك"، وما أشبه ذلك، وإذا دخلت
عليه هذه الجوازم دخله الجزم، نحو "لم يقم زيد، ولما يذهب عمرو،
ولينطلق بكر، ولا يفعل بشر، وإن تفعل أفعل" وما أشبه ذلك، وإذا لم
تدخله هذه النواصب أو الجوازم يكون رفعًا، فعلمنا أن بدخولها دخل النصب
أو الجزم، وبسقوطها عنه دخله الرفع.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنه مرفوع لقيامه مقام الاسم" لأنه لو كان
مرفوعًا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن ينصب إذا كان الاسم منصوبًا
كقولك: "كان زيد يقوم" لأنه قد حلّ محلّ الاسم إذا كان منصوبًا وهو
"قائمًا" ثم كيف يأتيه الرفع لقيامه مقام الاسم والاسم يكون مرفوعًا
ومنصوبًا ومخفوضًا؟ ولو كان كذلك لوجب أن يعرب بإعراب الاسم في الرفع
والنصب والخفض، يدل عليه2 أنا وجدنا نصبه وجزمه بناصب وجازم لا يدخلان
على الاسم؛ فعلمنا أنه يرتفع من
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 234 بولاق"
وتوضيح الشيخ خالد الأزهري "2/ 289 بولاق".
2 في ر "يدل عليه وهو أنا وجدنا" وكلمة "وهو" مقحمة.
(2/448)
حيث لا يرتفع الاسم مثل الحالين في النصب
والجزم، فدلَّ على ما قلنا.
والذي يدل على أنه لا يرتفع لقيامه مقام الاسم أنه لو كان مرفوعًا
لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في قولهم "كاد زيد يقوم"
لأنه لا يجوز أن يقال: كاد زيد قائمًا، فلما وجب رفعه بالإجماع دلَّ
على صحة ما قلناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مرفوع لقيامه مقام
الاسم، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن قيامه مقام الاسم عامل معنوي؛ فأشبه الابتداء، والابتداء
يوجب الرفع، فكذلك ما أشبهه.
والوجه الثاني: أنه بقيامه مقام الاسم قد وقع في أقوى أحواله، فلما وقع
في أقوى أحواله وجب أن يعطى أقوى الإعراب، وأقوى الإعراب الرفع؛ فلهذا
كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم.
ولا يلزم على كلامنا الفعل الماضي؛ فإنه يقوم مقام الاسم، ومع هذا فلا
يجوز أن يكون مرفوعًا؛ لأنه إنما لم يكن قيام الفعل الماضي مقام الاسم
موجبًا لرفعه، وذلك لأن الفعل الماضي ما استحق أن يكون معربًا بنوع ما
من الإعراب؛ فصار قيامه مقام الاسم بمنزلة عدمه في وجوب الرفع؛ لأن
الرفع نوع من الإعراب، وإذا لم يكن يستحق أن يعرب بشيء من الإعراب
استحال أن يكون مرفوعًا؛ لأنه نوع منه، بخلاف الفعل المضارع؛ فإنه
استحق جملة الإعراب بالمشابهة التي بيناها، فكان قيامه مقام الاسم
موجبا له الرفعَ؛ وصار هذا بمنزلة السيف؛ فإنه يقطع في محل يقبل القطع،
ولا يقطع في محل لا يقبل القطع، فعدم القطع في محل لا يقبل القطع لا
يدل على أنه ليس بقاطع، فكذلك ههنا: عدم الرفع في الفعل الماضي مع
قيامه مقام الاسم لا يدل على أن قيام الفعل المضارع مقام الاسم ليس
بموجب للرفع، وهذا واضح لا إشكال فيه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه يرتفع بتعرِّيه من
العوامل الناصبة والجازمة" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأنه يؤدي إلى أن يكون
الرفع قبل النصب والجزم، ولا خلاف بين النحويين أن الرفع قبل النصب
والجزم؛ وذلك لأن الرفع صفة الفاعل، والنصب صفة المفعول، وكما أن
الفاعل قبل المفعول؛ فكذلك ينبغي أن يكون الرفع قبل النصب، وإذا كان
الرفع قبل النصب فلأن يكون قبل الجزم كان ذلك من طريق الأولى، فلما
أدّى قولهم إلى خلاف الإجماع وجب أن يكون فاسدًا.
(2/449)
قولهم "لو كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم
لكان ينبغي أن يكون منصوبًا إذا كان الاسم منصوبًا -إلى آخر ما ذكروه"
قلنا: إنما لم يكن منصوبًا ومجرورًا إذا قام مقام اسم منصوب أو مجرور؛
لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال؛ وهذا فعل؛ فلهذا لم يكن عامل
الاسم عاملًا فيه.
وأما قولهم "وجدنا نصبه وجزمه بناصب وجازم لا يدخلان على الاسم، فعلمنا
أنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم" قلنا: وكذلك نقول؛ فإنه يرتفع من حيث
لا يرتفع الاسم؛ لأن ارتفاعه لقيامه مقام الاسم، والقيام مقام الاسم
ليس بعامل للرفع في الاسم.
وأما قول الكسائي "إنه يرتفع بالزائد في أوله" فهو قول فاسد من وجوه:
أحدها: أنه كان ينبغي أن لا تدخل عليه عوامل النصب والجزم؛ لأن عوامل
النصب والجزم لا تدخل على العوامل.
والوجه الثاني: أنه لو كان الأمر على ما زعم لكان ينبغي أن لا ينتصب
بدخول النواصب، ولا ينجزم بدخول الجوازم؛ لوجود الزائد أبدًا في أوله،
فلما انتصب بدخول النواصب وانجزم بدخول الجوازم دلَّ على فساد ما ذهب
إليه.
والوجه الثالث: إن هذه الزوائد بعض الفعل، لا تنفصل منه في لفظ، بل هي
من تمام معناه، فلو قلنا: "إنها هي العاملة" لأدى ذلك إلى أن يعمل
الشيء في نفسه، وذلك محال، ويخرج على هذا "أن" المصدرية فإنها تعمل في
الفعل المستقبل وهي معه في تقدير المصدر؛ لأنها قائمة بنفسها ومنفصله
عن الفعل، وكل واحد منهما ينفصل عن صاحبه، فبان الفرق بينهما.
وأما قولهم: "إنه لو كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا
يرتفع في قولهم: كاد زيد يقوم؛ لأنه لا يجوز أن يقال كاد زيد قائما"
قلنا: هذا فاسد؛ لأن الأصل أن يقال: كاد زيد قائمًا، ولذلك ردَّه
الشاعر إلى الأصل لضرورة الشعر في قوله:
[367]
فَأُبْتُ إلى فهمٍ وما كدت آئِبًا ... وكم مثلها فارقْتُها وهي
تَصْفِرُ
__________
[367] هذا البيت من كلام تأبط شرا، واسمه ثابت بن جابر بن سفيان،
الفهمي وهو تاسع تسعة أبيات اختارها أبو تمام حبيب ابن أوس الطائي في
ديوان الحماسة "انظر شرح التبريزي 1/ 75 بتحقيقنا وشرح المرزوقي
ص74-84" والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص923 و1021"
والأشموني "رقم 231" وأوضح المسالك "رقم 118" وابن عقيل "رقم 85" وابن
الناظم في باب أفعال المقاربة من شرح الألفية، وشرحه العيني "2/ 165
بهامش الخزانة" ورضي الدين في باب الفعل المضارع من شرح الكافية، وشرحه
=
(2/450)
إلا أنه لما كانت "كاد" موضوعة للتقريب من
الحال واسم الفاعل ليس دلالته على الحال بأولى من دلالته على الماضي
عدلوا عنه إلى "يفعل" لأنه أدلُّ على مقتضى كاد، ورفعوه مراعاة للأصل؛
فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.
__________
= البغدادي في الخزانة "3/ 540" وكان بنو لحيان -وهم حي من هذيل- وقد
وجدوا تأبط شرا يشتار عسلا فوق جبل، فأخذوا عليه طريقه، فلما أحس ذلك
منهم وكره أن يقع في أسرهم انطلق إلى مكان بعيد ثم صب ما معه من العسل
على الصخر وانزلق عليه حتى انتهى إلى الأرض ثم أسلم قدميه للريح فنجا،
وفهم -بفتح فسكون- قبيلة تأبط شرًا، وهم بنو فهم بن عمرو بن قيس عيلان
"وما كدت آئبا" رواية الحماسة "وما كنت آئبا" ولا شاهد فيها لما نحن
فيه الآن، وآئب: اسم الفاعل من آب يئوب أوبا ومآبا: أي رجع، وتصفر:
تتأسف وتتحزن على أنها لم تستطع أن تنال مني. وموضع الاستشهاد بهذا
البيت هنا هو قوله "وما كدت أئبا" حيث جاء الشاعر بخبر "كاد" اسما
مفردا منصوبًا، والأصل في أفعال المقاربة ني كون خبرها جملة فعلية
فعلها مضارع، قال ابن جني "استعمل الشاعر الاسم الذي هو الأصل المرفوض
الاستعمال موضع الفعل الذي هو فرع، وذلك أن قولك كدت أقوم أصله كدت
قائما، ولذلك ارتفع المضارع -أي لوقوعه موقع الاسم- فأخرجه الشاعر على
أصله المرفوض، كما يضطر الشاعر إلى مراجعة الأصول المهجورة عن مستعمل
الفروع، نحو صرف ما لا ينصرف، وإظهار التضعيف، وتصحيحه المعتل، وما جرى
مجرى ذلك" ا. هـ كلامه.
ونظير هذا البيت قول الشاعر، وهومن شواهد ابن يعيش "ص924" و"232" ومغني
اللبيب "250" وشرحه العيني "2/ 161":
أكثرت في العذل ملحا دائما ... لا تكثرن إني عسيت صائما
(2/451)
|