الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

75- مسألة: [عامل النصب في الفعل المضارع بعد واو المعية] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الفعل المضارع في نحو قولك: "لا تأكل السمك وتَشْرَبَ اللبن" منصوب على الصرف. وذهب البصريون إلى أنه منصوب بتقدير أن، وذهب أبو عُمَرَ الجَرْمِيُّ من البصريين إلى أن الواو هي الناصبة بنفسها؛ لأنها خرجت عن باب العطف.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إنه منصوب على الصرف، وذلك لأن الثاني مخالف للأول، ألا ترى أنه لا يحسن تكرير العامل فيه، فلا يقال: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن، وأن المراد بقولهم: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" بجزم الأول وبنصب الثاني النهي عن أكل السمك وشرب اللبن مجتمعين، لا منفردين، فلو طَعِمَ كل واحد منهما منفردا لما كان مرتكبًا للنهي، ولو كان في نية تكرير العامل لوجب الجزم في الفعلين جميعًا، فكان يقال: "لا تأكل السمك وتشربِ اللبن" فيكون المراد هو النهي عن أكل السمك وشرب اللبن منفردين ومجتمعين، فلو طَعِمَ كل واحد منهما منفردا عن الآخر أو معه لكان مرتكبا للنهي؛ لأن الثاني موافق للأول في النهي، لا مخالف له، بخلاف ما وقع الخلاف فيه؛ فإن الثاني مخالف للأول، فلما كان الثاني مخالفًا للأول ومصروفا عنه صارت مخالفته للأول وصرفه عنه ناصبًا له، وصار هذا كما قلنا في الظروف، نحو "زيدٌ عندك" وفي المفعول معه، نحو "لو تُرِكَ زيدٌ والأسد لأكلَهُ" فكما كان الخلاف يوجب النصب هناك، فكذلك ههنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إنه منصوب بتقدير "أن" وذلك لأن الأصل في الواو أن تكون حرف عطف، والأصل في حروف العطف أن لا تعمل؛ لأنها لا تختص؛ لأنها تدخل تارة على الاسم وتارة على الفعل على ما بيّنّا
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 258 و260" وشرح المفصل لابن يعيش "ص929" وشرح الرضي على الكافية "2/ 223 وما بعدها".

(2/452)


في غير موضع، وإنما لما قصدوا أن يكون الثاني في غير حكم الأول وحُوِّل المعنى حول إلى الاسم، فاستحال أن يضم الفعل إلى الاسم، فوجب تقدير "أن"؛ لأنها مع الفعل بمنزلة الاسم، وهي الأصل في عوامل النصب في الفعل.
وأما ما ذهب إليه أبو عمر الجَرْمِي أنها عاملة لأنها خرجت عن باب العطف فباطل؛ لأنه لو كانت هي العاملة كما زعم لجاز أن تدخل عليها الفاء والواو للعطف، وفي امتناعه من ذلك دليل على بطلان ما ذهب إليه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الثاني مخالف للأول فصارت مخالفته له وصرفه عنه موجبًا له النصب" قلنا: قد بينا في غير مسألة أن الخلاف لا يصلح أن يكون موجبًا للنصب، بل ما ذكرتموه هو الموجب لتقدير "أن" لا أن العامل هو نفس الخلاف والصرف، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: إن زيدا في قولك: "أكرمت زيدًا" لم ينتصب بالفعل، وإنما انتصب بكونه مفعولًا، وذلك محال؛ لأن كونه مفعولًا يوجب أن يكون أكرمت عاملًا فيه النصب، فكذلك ههنا: الذي أوجب نصب الفعل ههنا بتقدير "أن" هو امتناعه من أن يدخل في حكم الأول، كما أن الذي أوجب نصب زيد في قولك "أكرمت زيدا" وقوع الفعل عليه؛ فدلّ على ما قلناه، والله أعلم.

(2/453)


76- مسألة: [عامل النصب في الفعل المضارع بعد فاء السببية] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الفعل المضارع الواقع بعد الفاء في جواب الستة الأشياء -التي هي الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض- ينتصب بالخلاف، وذهب البصريون إلى أنه ينتصب بإضمار أن، وذهب أبو عمر الجرمي إلى أنه ينتصب بالفاء نفسها؛ لأنها خرجت عن باب العطف، وإليه ذهب بعض الكوفيين، والكلام في هذه المسألة على طريق الإجمال كالكلام في المسألة التي قبلها، فأما الكلام على سبيل التفصيل فنقول:
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الجواب مخالف لما قبله؛ لأن ما قبله أمر أو نهي أو استفهام أو نفي أو تمنٍ أو عرض، ألا ترى أنك إذا قلت: "إيتنا فنكرمك" لم يكن الجواب أمرًا، فإذا قلت "لا تنقطع عنا فَنَجْفُوكَ" لم يكن الجواب نهيًا، وإذا قلت "ما تأتينا فتحدثنا" لم يكن الجواب نفيا، وإذا قلت: "أين بيتك فأزورك" لم يكن الجواب استفهاما، وإذا قلت: "ليت لي بعيرا فأحج عليه" لم يكن الجواب تمنيا، وإذا قلت: "ألا تنزل فتصيب خيرا" لم يكن الجواب عرضا، فلما لم يكن الجواب شيئا من هذه الأشياء كان مخالفا لما قبله وإذا كان مخالفا لما قبله وجب أن يكون منصوبًا على الخلاف على ما بينا.
وأما البصريون فقالوا: إنما قلنا: إن "هـ" منصوب بتقدير "أن" وذلك لأن الأصل في الفاء أن يكون حرف عطف، والأصل في حروف العطف أن لا تعمل؛ لأنها تدخل تارة على الأسماء وتارة على الأفعال، على ما بينا فيما تقدم؛ فوجب أن لا تعمل، فلما قصدوا أن يكون الثاني في غير حكم الأول وحوِّل المعنى حوِّل إلى الاسم، فاستحال أن يضم الفعل إلى الاسم، فوجب تقدير "أن"؛ لأنها مع الفعل
__________
1 انظر في هذه المسألة شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 258" وما ذكرناه من المراجع في المسألة السابقة.

(2/454)


بمنزلة الاسم، وهي الأصل في عوامل النصب في الفعل على ما بيَّنا قبل، وجاز أن تعمل "أن" الخفيفة مع الحذف دون أنّ الشديدة، وإن كانت الشديدة أقوى من الخفيفة؛ لأن الشديدة من عوامل الأسماء، والخفيفة من عوامل الأفعال، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال؛ لأن الفاء ههنا صارت دالة عليها، فصارت في حكم ما لم يحذف، وكذلك الواو وأو ولام كي ولام الجحود وحتى، وصارت دالة عليه، فجاز إعمالها مع الحذف، بخلاف "أن" الشديدة فإنه ليس في اللفظ ما يدل على حذفها، فبان الفرق بينهما.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إن الجواب لما كان مخالفا لما قبله وجب أن يكون منصوبًا على الخلاف" قلنا: قد أجبنا عن هذا في غير موضع فيما مضى؛ فلا نعيده ههنا.
وأما من ذهب إلى أنها هي العاملة لأنها خرجت عن بابها؛ قلنا: لا نسلم، فإنها لو كانت هي الناصبة بنفسها، وأنها قد خرجت عن بابها لكان ينبغي أن يجوز دخول حرف العطف عليها، نحو "ايتني وفأكرمك وفأعطيك" وفي امتناع دخول حرف العطف عليها دليل على أن الناصب غيرها، ألا ترى أن واو القسم لما خرجت عن بابها جاز دخول حرف العطف عليها، نحو "فوالله لأفعلن، ووالله لأذهبن" لأن الحرف إنما يمتنع دخوله على حرف مثله إذا كانا بمعنى واحد، فلما امتنع دخول حرف العطف ههنا على الفاء دلَّ أنها باقية على حكم الأصل، فلا يجوز أن يدخل عليها حرف العطف، والله أعلم.

(2/455)


77- مسألة [هل تعمل "أن" المصدرية محذوفة من غير بَدَلٍ؟] 1
ذهب الكوفيين إلى أنَّ "أن" الخفيفة تعمل في الفعل المضارع النصب مع الحذف من غير بدل.
وذهب البصريون إلى أنها لا تعمل مع الحذف من غير بدل.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز إعمالها مع الحذف قراءة عبد الله بن مسعود {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة: 83] فنصب "لا تَعْبُدُواَ" بأن مقدرة؛ لأن التقدير فيه: أن لا تعبدوا إلا الله، فحذف "أن" وأعملها مع الحذف، فدل على أنها تعمل النصب مع الحذف، وقال طرفة:
[368]
أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى ... وأن أشهد اللَّذَّات هل أنت مُخْلِدِي
__________
[368] هذا البيت من معلقة طرفة بن العبد البكري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 452" وابن منظور "أن ن" وابن يعيش في شرح المفصل "ص169" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 626" وابن عقيل "رقم 333" وشرحه العيني "4/ 402 بهامش الخزانة" وأنشده رضي الدين وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 57 و3/ 594" والزاجري: أي الذي يكفني ويمنعني؛ والوغى -بوزن الفتى مقصورًا- الحرب، يقول: أنا لست خالدًا، ولا بدَّ أن يأتيني الموت يومًا، فليس مما يقتضيه العقل أن أقعد عن شهود الحرب ومنازلة الأقران مخافة أن أموت. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "أحضر الوغى" وهذا الفعل يروى بروايتين، الأولى: برفع "أحضر" وقد رواه سيبويه على هذا الوجه، ورواه ابن هشام في المغني ليستشهد به على رواية الرفع، وهذه الرواية هي الأصل عند الفريقين، فإن الأصل أن يرتفع المضارع ما لم يسبقه ناصب ولا جازم، والرواية الأخرى بنصب "أحضر" على أنه فعل مضارع منصوب بأن المصدرية محذوفة، قال الأعلم "وقد يجوز النصب بإضمار أن ضرورة، وهو مذهب الكوفيين" ا. هـ.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن عقيل "2/ 283" بتحقيقنا" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 265-266" وتصريح الشيخ خالد "2/ 309-310".

(2/456)


فنصب "أحضر" لأن التقدير فيه: أن أحضر، فحذفها وأعملها على الحذف. والدليل على صحة هذا التقدير أنه عطف عليه قوله "وأن أشهد اللذات" فدل على أنها تنصب مع الحذف. وقال عامر بن الطُّفَيلِ:
[369]
فلم أَرَ مثلها خُبَاسَةَ وَاجِدٍ ... ونَهْنَهْتُ نفسي بعد ما كِدْتُ أَفْعَلَهْ
__________
[369] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 155" ونسبه لعامر بن جوين الطائي، وأقر هذه النسبة الأعلم الشنتمري، واستشهد به ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 895" ولم يعزه، والأشموني "رقم 237" وأنشده ابن منظور "خ ب س" وقال قبل إنشاده "قال عمر بن جوين وامرؤ القيس" هكذا محرفًا، وروى أبو الفرج الأصفهاني عجز هذا البيت لعامر بن جوين الطائي وهو مع بيت سابق عليه بروايته هكذا:
فكم للسعيد من هجان مؤبلة ... تسير صحاحا ذات قيد ومرسلة
أردت بها فتكا فلم أرتمض له ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
وقد استشهد بالبيت ابن الناظم في نواصب المضارع، وشرحه العيني "4/ 401" والخباسة -بضم الخاء وفتح الباء مخففة- الغنيمة، وتقول: خبس فلان الشيء يخبسه -من مثال نصر- واختبسه، وتخبسه: أي أخذه وغنمه. ونهنهت نفسي: كففتها وزجرتها، وقال أبو جندب الهذلي.
فنهنهت أولي القوم عنهم بضربة ... تنفس عنها كل حشيان مجحر
والاستشهاد بهذا البيت في قوله "كدت أفعله" وكل العلماء متفقون على أن الرواية بنصب اللام في "أفعله" ولكنهم يختلفون في التخريج، فأما سيبويه فيرى أن الفعل المضارع هنا منصوب بأن المصدرية محذوفة مع أنه يقول: إن الأصل تجرد المضارع الذي يقع خبرًا لكاد من أن المصدرية، فقد ركب ضرورة على ضرورة، قال: "حمله على أن؛ لأن الشعراء قد يستعملون أن هنا مضطرين كثيرًا" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه نصب أفعله بإضمار أن ضرورة، ودخول أن على كاد لا يستعمل في الكلام، فإذا اضطر الشاعر أدخلها عليها تشبيهًا لها بعسى، لاشتراكهما في معنى المقاربة، فلما أدخلوها بعد كاد في الشعر ضرورة توهمها هذا الشاعر مستعملة، ثم حذفها ضرورة، هذا تقدير سيبويه، وقد خولف فيه؛ لأن أن مع ما بعدها اسم فلا يجوز حذفها، وحمل المراد بالفعل على إرادة النون الخفيفة وحذفها ضرورة، والتقدير عنده: بعد ما كدت أفعلنه، وهذا التقدير أيضًا بعيد، لتضمنه ضرورتين: إدخال النون في الواجب، ثم حذفها، فقول سيبويه أولى، لأن أن قد أتت في الأشعار محذوفة كثيرا" ا. هـ. وترجيحه مقالة سيبويه مع اشتماله على ضرورة مركبة على ضرروة أخرى من أعجب العجب، وقال ابن هشام في مغني اللبيب: "حذف أن الناصبة: هو مطرد في مواضع معروفة، وشاذ في غيرها، نحو: خذ اللص قبل يأخذك، ومرة يحفرها، ولا بدّ من تتبعها، أي قبل أن يأخذك، وأن يحفرها، ولا بدّ من أن تتبعها، وقال به سيبويه في قوله:
ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
وقال المُبَرّد: الأصل أفعلها، ثم حذفت الألف ونقلت حركة الهاء لما قبلها، وهذا أولى =

(2/457)


فنصب "أفعله" لأن التقدير فيه: أن أفعله؛ فدلّ على أنها تعمل مع الحذف، وهذا على أصلكم ألزم؛ لأنكم تزعمون أنها تعمل مع الحذف بعد الفاء في جواب الأمر والنهي والنفي [والاستفهام] والتمني والعرض، وكذلك بعد الواو واللام وأو وحتى فكذلك ههنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها لا يجوز إعمالها مع الحذف أنها حرف نصب من عوامل الأفعال، وعوامل الأفعال ضعيفة؛ فينبغي أن لا تعمل مع الحذف من غير بدل.
والذي يدل على ذلك أنَّ "أنَّ" المشددة التي تنصب الأسماء لا تعمل مع الحذف، وإذا كانت "أَنَّ" المشددة لا تعمل مع الحذف فأنِ الخفيفة أولى أن لا تعمل، وذلك لوجهين.
أحدهما: أن "أن" المشددة من عوامل الأسماء، و"أن" الخفيفة من عوامل الأفعال، وعومل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال، وإذا كانت أن المشددة لا تعمل مع الحذف وهي الأقوى فأن لا تعمل "أن" الخفيفة مع الحذف وهي الأضعف كان ذلك من طريق الأولى.
والثاني: أن "أن" الخفيفة إنما عملت النصب لأنها أشبهت "أنّ" المشددة، وإذا كان الأصل المشبه به لا ينصب مع الحذف، فالفرع المشبه أولى أن لا ينصب مع الحذف؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الفرع أقوى من الأصل وذلك لا يجوز.
والذي يدل على ضعف عمل "أن" الخفيفة أنه من العرب من لا يعملها
__________
= من قول سيبويه؛ لأنه أضمر أن في موضع حقها ألا تدخل فيه صريحًا وهو خبر كاد، واعتد بها مع ذلك بإبقاء عملها" ا. هـ كلامه.
ويتخلص من هذين الكلامين كلام الأعلم وكلام ابن هشام أن في قول الشاعر: "بعد ما كدت أفعله" ثلاثة تخريجات:
التخريج الأول: تخريج سيبويه، وحاصله أن الفتحة على لام "أفعله" فتحة إعراب، وأن الفعل المنصوب بأن المصدرية محذوفة، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
التخريج الثاني: التخريج الذي حكاه الأعلم ولم يبين القائل به، وحاصله أن الفتحة التي على لام "أفعله" فتحة بناء، وأن الفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المحذوفة تخفيفًا، وقد ذكر المؤلف هذا التخريج.
التخريج الثالث: تخريج أبي العباس المبرد، وحاصله أن الفتحة التي على لام "أفعله" لا هي فتحة الإعراب ولا هي فتحة البناء، ولكنها فتحة منقولة من الحرف الذي بعدها والفعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة العارضة بسبب النقل.

(2/458)


مظهرة ويرفع ما بعدها تشبيهًا لها بما؛ لأنها تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر كما أن "ما" تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر، ألا ترى أنك تقول "يعجبني أن تفعل" فيكون التقدير: يعجبني فعلك، كما تقول "يعجبني ما تفعل فيكون التقدير: يعجبني فعلك، فلما أشبهتها من هذا الوجه شُبِّهَتْ بها في ترك العمل، وقد روى ابن مجاهد أنه قرئ "لمن أراد أن يتم الرضاعة" بالرفع، وقال الشاعر:
[370]
يا صاحبي فَدَتْ نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لَاقَيْتُمَا رَشَدَا
__________
[370] قد استشهد بثالث هذه الأبيات ابن يعيش في شرح المفصل "ص925" وابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 278" ورضي الدين في شرح الكافية "2/ 217" وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 559" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 35" وفي أوضح المسالك "رقم 493" والأشموني "رقم 1011" وشرحه العيني "4/ 380 بهامش الخزانة" وقال البغدادي "وهذه الأبيات الثلاثة قلما خلا عنها كتاب نحو، ومع كثرة الاستعمال لم يعزها أحد إلى شاعر" وأنشد العيني وابن جني ثاني هذه الأبيات هكذا:
إن تقضيا حاجة لي خفّ محملها ... تستوجبا سنة عندي بها ويدا
ومحل الاستشهاد بهذه الأبيات قوله "أن تقرآن" وقد اختلف العلماء في تخريج هذه الكلمة؛ فذهب قوم منهم الزمخشري وابن يعيش وتبعهما شراح الألفية -إلى أن "أن" هذه هي المصدرية التي تختص بالدخول على الفعل المضارع، والتي ينصب بها عامة العرب، ولكنها أهملت في هذا البيت ونحوه حملًا على "ما" المصدرية أختها، لاشتراكهما في معنى المصدرية وفي أن كل واحدة منهما تسبك ما بعدها بمصدر، وادّعى جماعة منهم ابن يعيش- أن إهمال "أن" المصدرية لغة لجماعة من العرب، قال: "على أن من العرب من يلغي عمل أن تشبيهًا بما، وعلى هذا قرأ بعضهم "لمن أراد أن يتم الرضاعة" بالرفع "ا. هـ. وذهب جماعة منهم أبو علي الفارسي وابن جني إلى أن "أن" ههنا مخففة من الثقيلة، وليست هي المصدرية المختصة بالفعل المضارع، وكان من حق العربية على الشاعر أن يفصل بين "أن" والفعل بالسين أو بسوف أو بقد، كما في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] وقوله: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] ولكنه ترك الفصل حين اضطر لإقامة الوزن، قال ابن جني في شرح التصريف "1/ 278" "سألت أبا علي عن ثبات النون في تقرآن بعد أن، فقال: أن مخففة من الثقيلة، وأولاها الفعل بلا فصل للضرورة، فهذا أيضًا من الشاذ عن القياس والاستعمال جميعا" ا. هـ. وجعل ابن هشام القول بأن "أن" هي المخففة من الثقيلة قول الكوفيين، والقول بأنها المصدرية أهملت حملًا على قول البصريين، قال في مغني اللبيب "ص30 بتحقيقنا" "وقد يرفع الفعل بعد أن، كقراءة ابن محصين "لمن أراد أن يتم الرضاعة" وقول الشاعر:
أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وألا تشعرا أحدا
وزعم الكوفيون أن أن هذه هي المخففة من الثقيلة شذ اتصالها بالفعل، والصواب قول البصريين إنها أن الناصبة أهملت حملًا على ما أختها المصدرية" ا. هـ.

(2/459)


أن تَحْمِلَا حاجةً لِي خَفّ مَحْمِلُهَا ... تصنعا نعمةً عندي بها وَيَدَا
أن تَقْرَآنِ على أسماء ويَحْكُمَا ... مني السلام، وأن لا تُشْعِرا أحدا
فقال "أن تقرآن" فلم يعملها تشببها لها بما، على ما بيّنّا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قراءة من قرآ: {لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه} [هود: 26]
فهي قراءة شاذة، وليس لهم فيها حجة؛ لأن: {تَعْبُدُوا} مجزوم بلا؛ لأن المراد بها النهي، وعلامة الجزم والنصب في الخمسة الأمثلة التي هذا أحدها واحدةٌ.
أما قول طرفة:
[368]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
الرواية عندنا على الرفع، وهي الرواية الصحيحة، وأما من رواه بالنصب؛ فلعله رواه على ما يقتضيه القياس عنده من إعمال "أن" مع الحذف، فلا يكون فيه حجة، ولئن صحت الرواية بالنصب؛ فهو محمول على أنه توهَّم أنه أتى بأن، فنصب على طريق الغلط، كما قال الأحوص اليَرْبُوعِي:
[117]
مشائيمُ ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غُرَابُها
فجر قوله "ناعب" توهما أنه قال "ليسوا بمصلحين" فعطف عليه بالجر، وإن كان منصوبًا كما قال صِرْمَةُ الأنصاري:
[115]
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيًا
فجر "سابق" توهما أنه قال "لست بمدرك ما مضى" فعطف عليه بالجر وإن كان منصوبًا، وهذا لأن العربي قد يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضربٌ من الغلط فيعدل عن قياس كلامه وينحرف عن سَنَنِ أصوله، وذلك مما لا يجوز القياس عليه.
وأما قول الآخر:
[369]
... بعد ما كدت أفعله
فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه نصب "أفعله" على طريق الغلط على ما بيناه فيما تقدم، كأنه توهم أنه قال "كدت أن أفعله" لأنهم قد يستعملونها مع كاد في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر:
[371]
قد كاد من طول البِلَى أن يَمْصَحَا
__________
[371] هذا بيت من الرجز المشطور، وقبله:
ربع عفاه الدهر طولا فانمحى
وقد أنشده سيبويه "1/ 478" ونسبه إلى رؤبة بن العجاج، وأقره على هذه النسبة الأعلم =

(2/460)


فأما في اختيار الكلام فلا يستعمل مع "كاد" ولذلك لم يأتِ في قرآن ولا كلام فصيح. قال الله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117] وكذلك
__________
= الشنتمري، وأنشده أيضًا ابن يعيش فيشرح المفصل "ص1033" ونسبه لرؤبة أيضًا، وأنشده رضي الدين في باب أفعال المقاربة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 90" وذكر أنه لم يعثر عليه في ديوان رؤبة، وأنشده جماعة من شراح الألفية، وشرحه العيني "2/ 215 بهامش الخزانة" والربع: المنزل حيث كان، ويروى "رسم" وهو ما بقي لاصقًا بالأرض من آثار الديار، وعفا: يكون لازمًا بمعنى درس، تقول: عفا المنزل يعفو، أي درس، ومنه قول لببيد بن ربيعة العامري في مطلع معلقته:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها ورجامها
ويكون عفا متعديا كما في البيت الذي قبل بيت الشاهد، ومعناه محا آثاره، وانمحى: مطاوع "محاه يمحوه" ويروى "فامحى" بتشديد الميم، على أنه قلب النون ميمًا ثم أدغم الميم في الميم، ومحل الاستشهاد في البيت قوله: "كاد أن يمصحا" حيث اقترن المضارع الواقع خبرًا لكاد بأن المصدرية، ومذهب سيبويه أن المستعمل في الكلام إسقاط أن، وأن ذكر أن معها مما يجيء في الشعر للضرورة تشبيهًا لكاد بعسى، كما أن المستعمل في الكلام ذكر أن في خبر عسى، وأنها قد تسقط مع عسى تشبيهًا لعسى بكاد.
وأقول: قد وقع اقتران الفعل الواقع خبرا لكاد بأن في الحديث، وفي جملة من الشعر العربي، فمن ذلك ما ورد في صحيح البخاري في شأن أمية بن أبي الصلت "كاد أن يسلم" ويروى: "كاد الفقر أن يكون كفرًا" وفي حديث عمر بن الخطاب "ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب" وفي حديث جبير بن مطعم "كاد قلبي أن يطير" وأما الشعر فمنه بيت الشاهد، ومنه قول ذي الرمة:
وجدت فؤادي كاد أن يستخفه ... رجيع الهوى من بعض ما يتذكر
ومنه قول محمد بن مناذر، وهو من شواهد الأشموني:
كادت النفس أن تفيظ عليه ... إذا غدا حشو ريطة وبرود
ومنه قول الآخر، وهو من شواهد الأشموني أيضًا:
أبيتم قبول السلم منا؛ فكدتم ... لدى الحرب أن تغنوا السيوف عن السل
ومنه ما أنشده ابن الأعرابي:
يكاد لولا سيره أن يملصا
ومنه ما أنشده هو وغيره:
حتى تراه وبه إكداره ... يكاد أن ينطحه إمجاره
لو لم ينفس كربه هراره
ومنه ما أنشده أبو زيد في صفة كلب:
يرتم أنف الأرض في ذهابه ... يكاد أن ينسل من إهابه

(2/461)


سائر ما في القرآن من هذا النحو؛ فأما الحديث1 "كاد الفقر أن يكون كفرًا" فإن صح فزيادة "أن" من كلام الراوي، لا من كلامه عليه السلام؛ لأنه صلوات الله عليه أفصح من نطق بالضاد.
والوجه الثاني: أن يكون أراد بقوله "بَعْدَ ما كدت أَفْعَلَهْ" بعد ما كدت أفعلها، يعني الخَصْلَةَ. فحذف الألف وألقى فتحة الهاء على ما قبلها، وهذا التأويل في هذا البيت حكاه أبو عثمان عن أبي محمد التوزي عن الفراء من أصحابكم، كما حكي أن بعض العرب قتل رجلًا يقال له مَرْقَمَةُ وقد كلفه وآخر أن يبتلعا جُرْدَانَ الحمار2 فامتنعا فَقَتَلَ مَرْقَمةَ، فقال الآخر "طَاحَ مَرْقَمَةْ" فقال له القاتل: "وأنت إن لم تَلْقَمَهْ" يريد: تَلقمُهَا، فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الميم، وكما قال الشاعر:
[372]
فإني قد رأيت بدار قومي ... نوائبَ كنت في لَخْمٍ أَخَافَهْ
يريد: "أخافُها" فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الفاء، وهي لغة لخم، وحكى أصحابكم "نحن جئنَاكَ به" أي جئناك بِهَا، فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الباء، فكذلك ههنا.
والوجه الأول أَوْجَهُ الوجهين، لأنه يحتمل أن يكون التقدير في قوله:
__________
[372] النوائب: جمع نائبة، وأصلها اسم الفاعل من "نابه ينوبه" إذا نزل به وعرض له، ثم أطلقوا النائبة على ما ينزل بالمرء من الحوادث والمصائب والمهمات، وفي حديث خيبر "قسمها نصفين: نصفًا لنوائبه وحاجاته، ونصفًا بين المسلمين" ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "أخافه" بفتح الفاء وسكون الهاء فإن أصل هذه الكلمة "أخافها" بضم الفاء وبضمير المؤنثة العائد إلى "نوائب" فأراد الشاعر الوقف بنقل الحركة، فحذف الألف، ثم ألقى حركة الهاء على الفاء بعد أن أسقط حركة الفاء الأصلية، على مثل ما ذكرناه في شرح المثل السابق.
__________
1 في ر "فأما من الحديث" وظاهر أن لفظ "من" مقحم.
2 ارجع إلى مجمع الأمثال للميداني "المثل رقم 568 بتحقيقنا "أبخل من ما در" فقد روى القصة وخرج الكلمة التي خرجه المؤلف. ونظيره ما حكوه من قولهم "بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامة ذات أكرمكم الله به" بفتح الباء في "به" الثانية وسكون الهاء "وانظر أوضح المسالك في الكلام على ذو الموصولة" وقد روى هذه العبارة الفراء ينسبها لأعرابي من طيئ، وتخريج "به" الثانية أن أصلها "بها" بباء الجر المكسورة وضمير المؤنثة الغائبة العائد إلى الكرامة، وقد ألقى حركة الهاء -وهي الفتحة- على باء الجر بعد سلب حركة الباء، ثم حذف ألف "ها" ووقف بالسكون.

(2/462)


"وأنت إن لم تلقمه" تَلْقَمَنْهُ -بنون التأكيد الخفيفة- فحذفها وبقيت الميم مفتوحة، كما قال الشاعر:
[373]
اضرِبَ عنك الهُمُوم طَارِقَهَا ... ضربك بالسوط قَوْنَسَ الفَرَسِ
__________
[373] هذا البيت من شواهد مغني اللبيب "رقم 900 بتحقيقنا" وابن جني في الخصائص "1/ 126" وقد أنشده ابن منظور "ق ن س" ونقل عن ابن بري أن البيت لطرفة بن العبد البكري، وقد رواه أبو زيد في نوادره "13" وقال قبل إنشاده "قال أبو حاتم: أنشدني الأخفش بيتا مصنوعا لطرفة" وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص1242" وابن الناظم في باب نوني التوكيد من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 337" بهامش الخزانة" و"اضرب" يقع في موضعه "اصرف" والأول أدق وأوفق ببقية البيت، وطارقها: اسم الفاعل من "طرق يطرق" إذا أتى ليلا، وقونس الفرس -بفتح القاف والنون وسكون الواو وآخره سين مهملة- هو العظم الناتئ بين أذني الفرس، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "اضرب عنك" فإن الرواية فيه بفتح الباء، وقد خرج العلماء هذه الرواية على أن أصل الكلام "اضربن عنك" بنون توكيد خفيفة ساكنة، وفعل الأمر يبنى مع نوني التوكيد على الفتح، ثم حذف الشاعر نون التوكيد وهو ينويها، فلذلك أبقى الفعل على ما كان عليه وهو مقرون بها؛ لتكون هذه الفتحة مشيرة إلى النون المحذوفة ودالة عليها، وهذا شاذ؛ لأن نون التوكيد الخفيفة إنما تحذف إذا وليها ساكن كما في قول الأضبط بن قريع السعدي:
لا تهين الفقر علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
فإنه أراد "لا تهين الفقير" بنونين: أولاهما: لام الكلمة، والثانية: نون التوكيد الخفيفة، فحذف نون التوكيد لأن التالي لها ساكن وهو لام "الفقير" ويدل على حذف النون ههنا الفتحة التي على لام الكلمة والياء التي هي عين الكلمة؛ إذ لو لم يكن على تقدير النون لحذف هذه الياء، لأن الأجوف المجزوم تحذف عينه للتخلص من التقاء الساكنين: سكون هذه العين المعتلة، وسكون اللام للجازم.
ونظير بيت الشاهد في حذف نون التوكيد الخفيفة مع أنه ليس بعدها ساكن قول الشاعر، وأنشده الجاحظ في البيان "2/ 187" والحيوان "7/ 84" على وجه لا شاهد فيه:
خلافا لقولي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم خالف تذكرا
محل الشاهد قوله "خالف" فإن الرواية في هذه الكلمة بفتح آخره، وتخريجها أن الأصل "خالفن" بنون التوكيد الخفيفة، فحذف النون وهو ينويها، ورواية الجاحظ "خالف فتذكرا" ومثله قول الآخر وأنشده أبو علي الفارسي:
إن ابن أحوص مغرور فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلا قصر
الشاهد في قوله "فبلغه" فإن أصله "فبلغنه "بنون ساكنة بعد الغين، فحذف النون. ومثله قول الآخر:
يا راكبا بلغ إخواننا ... من كان من كندة أو وائل
الاستشهاد بقوله "بلغ" فإن الأصل "بلغن" فحذف النون وأبقى الغين على فتحتها ونظيره قوله الآخر وأنشده أبو زيد في نوادره "ص13" وابن جني في الخصائص "3/ 94": =

(2/463)


والتقدير "اضْرِبَنْ عنك الهموم" فحذف النون وبقيت الباء مفتوحة، فكذلك ههنا.
وأما قولهم "إنها تعمل عندكم مع الحذف بعد الفاء والواو وأو واللام وحتى" قلنا: إنما جاز ذلك؛ لأن هذه الأحرف دالة عليها، فتنزلت منزلة ما لم يحذف، فعلمت مع الحذف، بخلاف ههنا، فإنه ليس ههنا حرف يدل عليها؛ فلم يعمل مع الحذف، والله أعلم.
__________
=
في أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر
الاستشهاد بقوله: "لم يقدر" فإن الرواية بفتح الفعل المضارع على تقدير أنه مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المقدرة، وأصله "يقدرن" فحذفت النون وأبقى المضارع مفتوح الآخر للإشارة إليها.

(2/464)


78- مسألة: [هل يجوز أن تأتي "كي" حرف جر؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "كي" لا تكون إلا حرف نصب، ولا يجوز أن تكون حرف خفض.
وذهب البصريون إلى أنها يجوز أن تكون حرف جر.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إن "كي" لا يجوز أن تكون حرف خفض؛ لأن "كي" من عوامل الأفعال، وما كان من عوامل الأفعال لا يجوز أن يكون حرف خفض؛ لأنه من عوامل الأسماء، وعوامل الأفعال لا يجوز أن تكون من عوامل الأسماء.
والذي يدل على أنها لا تكون حرف خفض دخول اللام عليها كقولك: "جئتك لكي تفعل هذا" لأن اللام على أصلكم حرف خفض، وحرف الخفض لا يدخل على حرف الخفض، وأما قول الشاعر:
[374]
فلا والله ما يُلْفَى لما بي ... ولا لِلِمَا بِهِمْ أبدًا دواء
__________
[374] هذا البيت من كلمة لمسلم بن معبد الوالبي يقولها في ابن عمه عمارة بن عبيد الوالى، والبيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 302" وفي اوضح المسالك "قم 407" والأشموني "رقم 812" وابن جني في سر الصناعة "رقم 215 في 1/ 283" ورضي الدين في باب التوكيد من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 364 بولاق" كما شرحه العيني "4/ 102" ويلفي: مضارع مبني للمجهول ماضيه المبني للمعلوم الفي، ومعناه وجد؛ وفي القرآن الكريم: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} [يوسف: 25] وفيه:
{إِنَّهُمْ الفَوْا آبَاءَهُمْ ضَإلينَ} [الصافات: 69] وقوله "ما بي" أي الذي استقر بي، وأراد به ما في نفسه من الهم والحزن الكدر =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "2/ 179 و3/ 236" وشرح ابن عقيل على الألفية "2/ 3 بتحقيقنا" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 3 و291" وشرحنا المطول على شرح الأشموني "3 – 188" ومغني اللبيب لابن هشام "ص182 وما بعدها".

(2/465)


فمن الشاذ الذي لا يُعَرَّج عليه ولا يؤخذ به بالإجماع.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "الدليل على أنها حرف جر أنها تدخل على ما الاستفهامية كما يدخل عليها حرف الجر؛ فيقال: كَيْمَه، كما يقال: لِمَهْ" لأنا نقول: مَهْ من كَيْمَهْ ليس لكي فيه عمل، وليس في موضع خفض، وإنما هو في موضع نصب؛ لأنها تقال عند ذكر كلام لم يُفْهَم؛ يقول القائل: أقوم كي تقوم، فيسمعه المخاطب ولم يفهم "تقوم" فيقول: كَيْمَهْ؟ يريد كي ماذا، والتقدير: كي ماذا تفعل، ثم حذف، فَمَهْ: في موضع نصب، وليس لكي فيه عمل.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها تكون حرف جر دخولها على الاسم الذي هو "ما" الاستفهامية كدخول اللام وغيرها من حروف الجر عليها، وحذف الألف منها، فإنهم يقولون "كيمه" كما يقولون "لمه".
والدليل على أنها في موضع جر أن الألف من "ما" الاستفهامية لا يحذف إلا إذا كانت في موضع جر واتصل بها الحرف الجار، كقولهم: لِمَ، وبِمَ، وفِيمَ، عَمّ، قال الله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وقال تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وقال تعالى: {فِيمَ أنتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] وقال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] فأما إذا اتصل بماذا فلا يجوز حذف الألف منها وإن اتصل بها حرف الجر، فلا يجوز أن يقال في لماذا وبماذا وفيماذا وعمّاذا: لم ذا، وبم ذا، وفيم ذا، وعمّ ذا؛ لأن ما صارت مع ذا كالشيء الواحد، فلم يحذف منها الألف، وكذلك إذا وقعت في صدر الكلام لا يجوز أن يحذف الألف منها؛ كقولهم: ما تريد، وما تصنع، ولا يجوز أن يقال: مَ تريد، ومَ تصنع، فلما حذف الألف منها في قولهم "كيمه" كما يحذف مع حرف الجر دلَّ على أنها حرف جر،
__________
= مما يفعل به قومه، وأراد بقوله: "ما بهم" ما في أنفسهم من الحسيكة والغل والحقد والحسد، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "للما بهم" حيث أكد الشاعر اللام الجارة -وهي حرف غير جوابي- توكيدًا لفظيًّا فأعادها بنفس لفظها الأول من غير أن يفصل بين المؤكد والتوكيد، وتوكيد الحروف غير الجوابية من غير فصل بين المؤكد والتوكيد في نفسه شاذ، وهو في هذا الموطن من هذا البيت بالغ الغاية في الشذوذ، بسبب كون المؤكد والتوكيد على حرف واحد، وكل النحاة يروون البيت على الوجه الذي رواه للمؤلف عليه، ويستدلون به لما قلنا، ولكن ابن الأعرابي روى البيت في وجه آخر، وهو:
فلا والله لا يلفى لما بي ... وما بهم من البلوى دواء
وعلى هذا يخلو البيت من الشذوذ ومن الشاهد على ما جاء به المؤلف من أجله، فاعرف ذلك.

(2/466)


وإنما حذفت مع حرف الجر لأنها صارت مع حرف الجر بمنزلة كلمة واحدة، فحذفت الألف منها للتخفيف، ودخلها هاء السكت صيانة للحركة عن الحذف، فصار: كيمه، ولمه، وبمه، وفيمه، وعمه، وقد يجوز أن يكونوا أبدلوا الهاء من الألف في "ما" كما أبدلوها من الألف في أنا فقالوا "أَنَهْ" وفي حيهلا فقالوا "حيهله" وقول الكوفيين "إن مَهْ في موضع نصب "فسنبين فساده في الجواب إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن كي من عوامل الأفعال؛ فلا يجوز أن تكون من عوامل الأسماء" قلنا: هذا الحرف من عوامل الأفعال في كل الأحوال، أو في بعض الأحوال؟ فإن قلتم في كل الأحوال فلا نسلم، وإن قلتم في بعض الأحوال فنسلم، وهذا لأن كي على ضربين؛ أحدهما: ان تكون حرف نصب من عوامل الأفعال كما ذكرتم، وذلك إذا دخلت عليها اللام كقولك "جئتك لكي تكرمني" كما قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] فكي ههنا هي الناصبة بنفسها من غير تقدير أن، ولا يجوز أن تكون ههنا حرف جر؛ لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، وهذا لا إشكال فيه، والثاني، أن تكون حرف جر كاللام نحو "جئتك كي تكرمني" فهذه كي حرف جر بمنزلة اللام، والفعل بعدها منصوب بتقدير "أنْ" كما هو منصوب بعد اللام بتقدير "أنْ" وحذفت فيها طلبًا للتخفيف.
والذي يدل على أنها بمنزلة اللام أنها في معنى اللام، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك "جئتك كي تكرمني" وبين قولك "جئتك لتكرمني" وإذا كانا بمعنى واحد فلا معنى لترك الظاهر لشيء لم يقم عليه دليل؛ فدل على أنها تكون حرف جر كما تكون حرف نصب، فإذا ذهبت بها مذهب حرف الجر لم تتوهم فيه غيره، وإذا ذهبت بها مذهب حرف النصب لم تتوهم فيه غيره؛ فهي وإن كانت حرفًا واحدًا فقد نزلت منزلة حرفين، وصار هذا كما قلتم في "حتى" فإنها تنصب الفعل في حالٍٍ من غير تقدير ناصب، وتخفض الاسم في حالٍ من غير تقدير خافض، على الصحيح المشهور من مذهبكم، ولم يمنع كونها ناصبة للفعل أن تكون خافضة للاسم، فكذلك ههنا، وكذلك أيضًا "حتى" تكون خافضة وتكون عاطفة، وكذلك قلتم إن "إلَّا" تكون ناصبة وتكون عاطفة، وكذلك "حاشى" و"خلا" تكونان ناصبين وخافضين، واللفظ فيها كلها واحد، والعمل مختلف، فكذلك ههنا.
وأما قولهم: "إن مَهْ في موضع نصب" قلنا: هذا باطل؛ لأنها لو كانت ما في موضع نصب لكان ينبغي أن لا يحذف الألف من ما؛ لأنها لا يحذف

(2/467)


الألف منها إلا إذا كانت في موضع جر، بخلاف ما إذا كانت في موضع نصب أو رفع؛ فإنه لا يجوز أن يحذف الألف منها، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول "مَ تفعل" في قولك: ما تفعل، و"مَ عندك" في قولك: ما عندك، فلما حذفت الألف ههنا دلَّ على أنها ليست مع موضع نصب، وإنما هي في موضع جر.
ثم هذا الحذف في موضع الجر إنما يكون في ما الاستفهامية، دون ما الموصولة، الا في قولهم "ادْعُ بِمَ شئت" أي: بالذي شئت؛ فإن العرب تحذف الألف من ما الموصولة ههنا خاصة؛ كما تحذفها منها إذا أردت بها الاستفهامية.
وقولهم "إنها تقال عند ذكر كلام لم يفهم إلى آخر ما قرروا" قلنا: فكان يجب أن يجوز أن يقال: أن مَهْ، ولن مَهْ، وإذن مَهْ، كما يقال "كيمه" إذا لم يفهم السامع ما بعد هذه الأحرف من الفعل؛ لأنه إنما يسأل عن مصدر، والمصدر في الأفعال بعد هذه الأحرف التي هي أن ولن وإذن وبعد كي واحد، فلما لم يقل ذلك واختصت به كي دونها دلَّ على بطلان ما ذهبوا إليه، والله أعلم.

(2/468)


79- مسألة: [القول في ناصب المضارع بعد لام التعليل] 1
ذهب الكوفيون إلى أن لام "كي" هي الناصبة للفعل من غير تقدير "أن" نحو "جئتك لتكرمني". وذهب البصريون إلى أن الناصب للفعل "أن" مقدرة بعدها، والتقدير: جئتك لأن تكرمني.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها هي الناصبة لأنها قامت مقام كي، ولهذا تشتمل على معنى كي، وكما أن كي تنصب الفعل فكذلك ما قام مقامه.
ومنهم من تمسك بأن قال: إنما نصبت الفعل لأنها تفيد معنى الشرط، فأشبهت "إن" المخففة الشرطية، إلا أنَّ "إنْ" لما كانت أمَّ الجزاء أرادوا أن يفرقوا بينهما، فجزموا بإن، ونصبوا باللام؛ للفرق بينهما، ولم يكن للرفع مدخل في واحد من هذين المعنيين؛ لأنه يبطل مذهب الشرط؛ لأن الفعل المضارع إنما ارتفع لخلوّه من حرف الشرط وغيره من العوامل الجازمة والناصبة.
ولا يجوز أيضًا أن يقال "هلَّا نصبوا بإن وجزموا باللام وكان الفرق واقعًا" لأنا نقول: إنَّ إنْ لما كانت أمّ الجزاء كانت أولى باستحقاق الجزم، لأنها تفتقر إلى فعل الجزاء كما تفتقر إلى فعل الشرط فيطول الكلام، والجزم حذف، والحذف تخفيف، ومع طول الكلام يناسب الحذف والتخفيف، بخلاف اللام، فبان الفرق بينهما.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إنها لام الخفض التي تعمل في الأسماء" لأنا نقول: لو جاز أن يقال إن هذه اللام الداخلة على الفعل هي اللام الخافضة والفعل بعدها ينتصب بتقدير "أن" لجاز أن يقال "أمرت بتكرم" على تقدير: أمرت بأن
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص210 بتحقيقنا" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 247" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 307" وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1188 و1229".

(2/469)


تكرم، فلما لم يجز ذلك بالإجماع دلَّ على فساده، على أنَّا وإن سلمنا أنها من عوامل الأسماء إلا أنها عامل من عوامل الأفعال في بعض أحوالها، والدليل على هذا أنها تجزم الأفعال في غير هاتين الحالين، في الأمر والدعاء، نحو "ليقم زيد، وليغفر الله لعمرو" فكما جاز أن تعمل في بعض أحوالها في المستقبل جزمًا جاز أيضًا أن تعمل في بعض أحوالها فيه نصبًا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الناصب للفعل "أن" المقدرة دون اللام، وذلك لأن اللام1 من عوامل الأسماء، وعوامل الأسماء لا يجوز أن تكون عوامل الأفعال؛ فوجب أن يكون الفعل منصوبًا بتقدير "أن". وإنما وجب تقدير "أن" دون غيرها لأن "أن" يكون مع الفعل بمنزلة المصدر الذي يحسن أن يدخل عليه حرف الجر، وهي أمّ الباب، فكان تقديرها أولى من غيرها؛ ولهذا إن شئت أظهرتها بعد اللام، وإن شئت أضمرتها، كما يجوز إظهار الفعل وإضماره بعد "إن" في قولهم "إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر" وإنما حذفت ههنا بعد اللام وكذلك بعد الواو والفاء تخفيفًا، والحذف للتخفيف كثير في كلامهم؛ ولهذا يذهبون إلى أنه حذفت لام الأمر وتاء المخاطب في أمر المَوَاجَهِ طلبًا للتخفيف، وقد حكى هشام بن معاوية عن الكسائي أنه حكى عن العرب "لا بُدَّ مِنْ يَتْبَعَهَا" أي: لا بد مِنْ أن يتبعها؛ فحذف "أن" فكذلك ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما قلنا إنها هي الناصبة؛ لأنها قامت مقام كي، وكي تنصب، فكذلك ما قام مقامها" قلنا: لا نسلم أن كي تنصب بنفسها على الإطلاق، وإنما تنصب تارة بتقدير "أن" لأنها حرف جر، وتارة تنصب بنفسها، وليس حملها على إحدى الحالين أولى من الأخرى، بل حملها عليها في الحالة التي تنصب الفعل فيه بتقدير "أن" أولى من حملها عليها في الحالة التي تنصب الفعل بنفسها؛ لأنها في تلك الحالة التي تنصب الفعل بتقدير "أن" حرف جر كما أن اللام حرف جر، وفي الحالة التي تنصب الفعل بنفسها حرف نصب، وحمل حرف الجر على حرف الجر أولى من حمل حرف الجر على حرف النصب، فكما أن "كي" في هذه الحالة تنصب الفعل بتقدير "أن" فكذلك اللام ينبغي أن تنصبه بتقدير أن.
وقولهم "إنها تشتمل على معنى كي" قلنا: كما أنها تشتمل على معنى كي، إذا كانت ناصبة، فكذلك تشتمل على معنى كي إذا كانت جارة؛ فإنه لا فرق بين
__________
1 في ر "عاملة من عوامل الأفعال" وليس بذاك.

(2/470)


كي الناصبة وكي الجارة في المعنى؛ على أن كونها في معنى كي الناصبة لا يخرجها عن كونها حرف جر، فإنه قد يتفق الحرفان في المعنى وإن اختلفا في العمل، ألا ترى أن اللام في قولك جئت لأكرمك" بمعنى كي في قولك "جئت كي أكرمك، ولكي أكرمك" وإن كانت اللام حرف جر، وكي حرف نصب، ولم تخرج بذلك عن كونها حرف جر، فكذلك ههنا.
فإن قلتم: إن اللام ههنا دخلت على الاسم الذي هو مصدر؛ فلم تخرج عن كونها حرف جر.
قلنا: وكذلك اللام ههنا دخلت على الاسم الذي هو مصدر؛ لأن "أن" المقدرة مع الفعل في تقدير المصدر؛ فقد دخلت على الاسم، ولا فرق بينهما.
وأما قولهم "إنها تفيد معنى الشرط فأشبهت إن المخففة الشرطية" قلنا: لا نسلم أنها تفيد الشرط، وإنما تفيد التعليل، ثم لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن تحمل عليها في الجزم؛ فيجزم باللام كما يجزم بإن؛ لأجل المشابهة التي بينهما.
قولهم "إنَّ إنْ لما كانت أمّ الجزاء أرادوا أن يفرقوا بينهما" قلنا: فهلَّا رفعوا؟ قولهم "إنَّ الرفع يبطل مذهب الشرط" قلنا: فكان ينبغي أن لا ينصب أيضًا؛ لأن النصب أيضًا يبطل مذهب الشرط!
وقولهم "إن الفعل المضارع يرتفع لخلوه من حرف الشرط وغيره من العوامل الناصبة والجازمة" قلنا: قد بينا فساد ما ذهبوا إليه من ارتفاع الفعل المضارع بتعرِّيه من العوامل الناصبة والجازمة في موضعه بما يُغْنِي عن الإعادة.
وأما قولهم "إنها لو كانت لام الجر لجاز أن يقال: أمرت بتكرم، على معنى أمر بأن تكرم" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأن حروف الجر لا تتساوى؛ فإن اللام لها مزية على غيرها؛ لأنها تدخل على المصادر التي هي أغراض الفاعلين، وهي شاملة يحسن أن يسأل بها عن كل فعل فيقال: لم فعلت؟ لأن لكل فاعل غرضًا في فعله، وباللام يخبر عنه ويسأل عنه؛ وكي وحتى في ذلك المعنى، ألا ترى أنك تقول: مدحت الأمير ليعطيني، وحتى يعطيني؛ فجاز أن تقدر بعدها "أنْ" وليست الباء كذلك؛ فلا يجوز أن تقدر.
وقولهم "إنا نسلم أنها من عوامل الأسماء؛ إلا أنها من عوامل الأفعال في بعض أحوالها، بدليل أنها تجزم الأفعال في قولهم: ليقم زيد" قلنا: إذا سلمتم أنها من عوامل الأسماء بطل أن تكون من عوامل الأفعال؛ لأن العامل إنما كان عاملًا لاختصاصه، فإذا بطل الاختصاص بطل العمل.

(2/471)


وقولهم "إنها تجزم الفعل" قلنا: لا نسلم أن هذه اللام هي اللام الجازمة، فإن لام الجر غير1 لام الأمر، والدليل على ذلك أن لام الجر لا تقع مبتدأة، بل لا بد أن تتعلق بفعل أو معنى فعل، نحو "جئتك لتقوم" وما أشبه ذلك، وأما لام الأمر فيجوز الابتداء بها من غير أن تتعلق بشيء قبلها، ألا ترى أنك تقول: "ليقم زيد، وليذهب عمرو" فلا تتعلق اللام بفعل ولا معنى فعل، فبان الفرق بينهما، والله أعلم.
__________
1 في ر "فإن لام الجزم غير لام الأمر" وليس بشيء، بل هو خطأ لأنهما شيء واحد.

(2/472)