الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 80- مسألة [هل يجوز إظهار "أن" المصدرية
بعد "لكي" وبعد حتى؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إظهار "أن" بعد "كي" نحو "جئت لكي أن أكرمك"
فتنصب "أكرمك" بكي، "وأن" توكيد لها، ولا عمل لها. وذهب بعضهم إلى أن
العامل في قولك "جئت لكي أن أكرمك" اللام، وكي وأن توكيدان لها، وكذلك
أيضًا يجوز إظهار "أن" بعد حتى.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إظهار "أن" بعد شيء من ذلك بحال.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز إظهار "أن" بعدها
النقل والقياس.
أما من جهة النقل فقد قال الشاعر:
[375]
أردت لِكَيْمَا أن تَطِيرَ بِقِرْبَتِي ... فتتركها شَنًّا بِبَيْدَاءَ
بَلْقَعِ
__________
[375] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص928" وابن هشام في
مغني اللبيب "رقم 306" وفي أوضح المسالك "رقم 492" والأشموني "رقم 999"
ورضي الدين في نواصب المضارع من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في
الخزانة "3/ 585" كما شرحه العيني "4/ 404 بهامش الخزانة" و"ما" في
قوله: "لكيما" زائدة بالإجماع، وتطير: تسير سيرا سريعا، ومعنى تتركها
تخليها، وعلى هذا يكون قوله بعد ذلك "شنا" حالًا من الضمير المستتر في
تتركها، ويجوز أن يكون تتركها بمعنى تصيرها، وعلى هذا الوجه يكون قوله
بعد ذلك "شنا" مفعولًا ثانيًا لتتركها، وشنا: أي يابسة متخرقة،
والبيداء: الصحراء التي يبيد سالكها، أي يهلك، والبلقع: الخالية.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرحنا المطول على شرح الأشموني "3/ 184" وشرح
الأشموني بحاشية الصبان "2/ 18 و3/ 251 وما بعدها" ومغني اللبيب لابن
هشام "ص124 و182" وشرح الرضي على الكافية "2/ 222 و223" وشرح ابن يعيش
على المفصل "ص928".
(2/473)
وأما من جهة القياس فلأَنَّ "أنْ" جاءت
للتوكيد، والتوكيد من كلام العرب؛ فدخلت "أن" توكيدًا لها، لاتفاقهما
في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ كما قال الشاعر:
[376]
قد يَكْسِبُ المالَ الهِدَانُ الجافي ... بغير لا عَصْفِ ولا
اصْطِرَافِ
__________
= ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "لكيما أن" حيث أظهر الشاعر "أن"
المصدرية بعد كي، وفي هذه العبارة ثلاثة مذاهب للنحاة:
المذهب الأول: مذهب جمهور الكوفيين، وتلخيصه أن "كي" في جميع
استعمالاتها حرف مصدري ناصب للفعل المضارع بنفسه مثل أن المصدرية
الناصبة للمضارع، فإن جاءت "أن" بعدها كما في هذا البيت فأن إما زائدة،
وإما بدل من كي، وإما توكيد لكي، لأنهما بمعنى واحد، ونختار أنها
توكيد، وإن جاءت اللام بعدها كما في قول الشاعر:
كي لتقضيني رقية ما ... وعدتني غير مختلس
وكما في بعض الروايات في الشاهد رقم "346" الذي سبق قريبًا تكون اللام
زائدة، وإن دخلت على "ما" الاستفهامية نحو قولك "كيمه" كانت كي أيضًا
مصدرية، والمضارع المنصوب منها محذوف، وما الاستفهامية مفعول به
للمضارع المحذوف، فإذا قال لك قائل "أزورك غدا" فقلت له "كيمه" فكأنك
قلت: كي أفعل ماذا؟
المذهب الثاني: مذهب الكسائي، وحاصله أن كي في جميع استعمالاتها حرف
جر، دالٍ على التعليل، وانتصاب المضارع بعدها بأن المصدرية مقدرة، فإن
تقدمت عليها اللام الدالة على التعليل نحو قوله تعالى: {لِكَيْلا
تَأْسَوْا} فكي بدل من اللام أو توكيد لها ومعناهما واحد، وإن تأخرت
اللام كما في البيت الذي أنشدناه والشاهد رقم "346" السابق، فاللام
حينئذ بدل من كي أو توكيد لها.
المذهب الثالث: مذهب جمهور البصريين، وحاصله أن "كي" تأتي على ثلاثة
أوجه:
الأول: أن تكون اسمًا مختصرًا من كيف، والثاني: أن تكون حرف جر دال على
التعليل مثل اللام فتدخل على ما الاستفهامية وعلى ما المصدرية،
والثالث: أن تكون حرفًا مصدريًا مثل أن المصدرية في المعنى والعمل،
ولتفصيل مواضع كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مكان غير هذا الموضع.
ومثل البيت المستشهد به قول جميل بن معمر العذري، وهو من شواهد الرضي
وابن هشام في المغني:
فقالت: أكل الناس أصبحت مانحًا ... لسانك كيما أن تغر وتخدعا؟
ومثله أيضًا قول الآخر، وأنشده أبو ثروان:
أردت لكيما أن ترى لي عثرة ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل؟
[376] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ص ر ف - ع
ص ف" ونسبهما في المرتين إلى العجاج، وقد روى البغدادي "3/ 586"
ثانيهما عن الفراء ونسبه إلى رؤبة، ورواهما ابن منظور "هـ د ن" باختلاف
يسير هكذا:
قد يجمع المال الهدان الجافي ... من غير ما عقل ولا اصطراف
ونسبهما إلى رؤبة. والهدان -بكسر الهاء- الأحمق الوخم الثقيل في الحرب،
والجافي: =
(2/474)
فأكد "غير" بلا؛ لاتفاقهما في المعنى،
ولهذا قلنا: إن العمل لكي، وأن لا عمل لها؛ لأنها دخلت توكيدا لها،
وكذلك أيضًا قلنا: إن العمل للام في قولك "جئت لكي أن أكرمك" لأن كي
وأن تأكيدان للام، ولا يبعد في كلامهم مثل ذلك؛ فقد قالوا: لا إن ما
رأيتُ مثل زيد، فجمعوا بين ثلاثة أحرف من حروف الجحد للمبالغة في
التوكيد، فكذلك ههنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إظهار "أنْ" بعد "لكي" لا يخلو: إما
أن تكون لأنها قد كانت مقدرة فجاز إظهارها بعد الإضمار، وإما أن تكون
مزيدة ابتداء من غير أن تكون قد كانت مقدرة، بطل أن يقال "إنها قد كانت
مقدرة" لأن "لكي" تعمل بنفسها، ولا تعمل بتقدير "أن" ولو كانت تعمل
بتقدير "أن" لكان ينبغي إذا ظهرت "أن" أن يكون العمل لأن دونها، فلما
أضيف العمل إليها دلَّ على أنها العامل بنفسها، لا بتقدير أن، وبطل أن
يقال أنها تكون مزيدة ابتداء؛ لأن ذلك ليس بمقيس فيفتقر إلى توقيف عن
العرب، ولم يثبت عنهم في ذلك شيء، فوجب أن لا يجوز ذلك.
ومنهم من تمسك بأن قالوا: إنما لم يجز إظهار "أن" بعد كي وحتى؛ لأن كي
وحتى صارتا بدلًا من اللفظ بأن، كما صارت "ما" بدلًا عن الفعل في
قولهم: أما أنت منطلقا انطلقت معك، والتقدير فيه: أن كنت منطلقا انطلقت
معك، فحذف الفعل وجعلت "ما" عوضا عنه، وكما لا يجوز أن يظهر الفعل بعد
"ما" لئلا يجمع بين البدل والمبدل؛ فكذلك ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما البيت الذي أنشدوه فلا حجة لهم فيه
من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذا البيت غير معروف، ولا يعرف قائله، فلا يكون فيه حجة1.
__________
= الغليظ والعصف ومثله الاعتصاف: الطلب والحيلة، تقول: عصف فلان يعصف
عصفا -من مثال ضرب يضرب ضربا- واعتصف، تريد أنه كسب وطلب واحتال وكد،
وتقول: اصطرف فلان في طلب الكسب، إذا تصرف وكان ذا حيلة. وقد أنشد
المؤلف هذا البيت على لسان الكوفيين ليقرر أن الكلمتين إذا كان معناهما
واحدًا جاز أن تؤكد إحداهما بالأخرى كما أكد الراجز "غير" بلا في هذا
الرجز أو كما تقع أن المصدرية بعد كي المصدرية فتكون أن توكيدًا لكي،
وهذا ظاهر بعد أن ذكرنا مذهبهم مفصلًا في شرح الشاهد السابق.
__________
1 لا نرى لك أن تقر هذا -لا في هذا الموضع ولا في غيره، ولا على لسان
الكوفيين ولا البصريين- فكم من الشواهد التي يستدل بها هؤلاء وهؤلاء
وهي غير منسوبة ولا لها سوابق أو لواحق، وفي كتاب سيبويه وحده خمسون
بيتًا لم يعثر لها العلماء بعد الجهد والعناء الشديدين على نسبة لقائل
معين.
(2/475)
والوجه الثاني: أن يكون قد أظهر "أن" بعد
"كي" لضرورة الشعر؛ وما يأتي للضرورة لا يأتي في اختيار الكلام.
والوجه الثالث: أن يكون الشاعر أبدل "أن" من "كيما" لأنهما بمعنى واحد،
كما يبدل الفعل من الفعل إذا كان في معناه؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ
القِيَامَةِ} [الفرقان: 69] فـ "يضاعف" بدل من "يلق" وقال الشاعر:
[377]
متى تأتنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلًا ونارًا
تَأَجَّجَا
[378]
إن يَغْدِرُوا أو يَجْبُنُوا ... أو يَبْخَلُوا لا يَحْفِلُوا
__________
[377] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 446" ولم ينسبه إلى قائل معين،
ولا نسبه الأعلم. وقد استشهد به الأشموني "رقم 860" وانظر شرح الشاهد
رقم 701 في خزانة الأدب "3/ 66" وانظر أيضًا شرح الشاهد "رقم 30" في
شرح قطر الندى لابن هشام. وتلمم: مضارع مجزوم من الإلمام وهو الزيارة.
وتأججا: مأخوذ من التأجج وهو التوقّد والالتهاب، وهذه الكلمة تحتمل
وجهين: الأول: أن تكون فعلًا ماضيًا، والألف في آخرها على هذا الوجه
-يحتمل أن تكون ضمير الاثنين- وهما الحطب الجزل والنار -ويحتمل أن تكون
الألف حرف الإطلاق، ويكون في الفعل ضمير مستتر يعود على النار أو على
الحطب الجزل، فإذا أعدته على الحطب الجزل كان الأمر ظاهرًا، فإذا أعدته
على النار احتجت إلى أن تسأل: كيف أعاد ضمير المذكر على النار وهي
مؤنثة؟ ويجاب عن هذا بأنه لما كان تأنيث النار مجازيا استباح الشاعر
لنفسه أن يؤنث الفعل المسند إليه. والوجه الثاني: أن يكون "تأججا"
فعلًا مضارعا، وأصله تتأجج، فحذف إحدى التاءين، وعلى هذا الوجه يجب أن
تعتبر هذه الألف منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة للوقف، والأصل
"تتأججن". ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "تأتنا تلمم بنا" فإن قوله
"تلمم" بدل من قوله: "تأتنا" واسمع إلى سيبويه، قال: "وسألت الخليل عن
قوله "متى تأتنا تلمم بنا.... البيت" قال: تلمم بدل من الفعل الأول،
ونظيره في الأسماء: مررت برجل عبد الله، فأراد أن يفسر الإتيان
بالإلمام كما فسر الاسم الأول بالاسم الآخر" ا. هـ. وقال الأعلم
"الشاهد في جزم تلمم لأنه بدل من قوله تأتنا وتفسير له؛ لأن الإلمام
إتيان، ولو أمكنه رفعه على تقدير الحال لجاز" ا. هـ.
[378] هذان البيتان من شواهد سيبويه أيضًا "1/ 446" وقد نسبهما لبعض
بني أسد، ولم يزد الأعلم في نسبتهما على ذلك. وقوله "لا يحفلوا" من قول
العرب: ما حفل فلان بكذا، يعنون أنه ما بالى به ولا أكثرت له، والمرجل:
اسم المفعول من الترجيل وهو مشط الشعر وتليينه بالدهن ونحوه، ومحل
الاستشهاد من هذا البيت قوله "لا يحفلوا يغدوا عليك" فإن الفعل الثاني
-وهو يغدوا- مجزوم لأنه بدل من الفعل الأول -وهو "لا يحفلوا"- وتفسير
له. قال سيبويه "ومثل ذلك أيضًا قوله أنشدنيهما الأصمعي عن أبي عمرو
لبعض بني أسد =
(2/476)
يغدوا عليك مُرَجَّلِـ ... ـين كأنهم لم
يفعلوا
فيغدوا: بدل من قوله: "لا يحفلوا" فكذلك ههنا، وعلى كل حال فهو قليل في
الاستعمال.
وأما قولهم "إن التأكيد من كلام العرب؛ فدخلت أنْ للتأكيد" قلنا: إنما
جاز التوكيد فيما وقع عليه الإجماع؛ لأنه قد جاء عن العرب كثيرًا
متواترًا شائعًا، بخلاف ما وقع الخلاف فيه؛ فإنه لم يأتِ عنهم فيه إلا
شاذًّا نادرًا لا يُعَرَّج عليه، ولم يثبت ذلك الشاذ النادر أيضًا
عنهم؛ فوجب أن لا يكون جائزًا، والله أعلم.
__________
ــ
= "إن يبخلوا أو يجبنوا.... البيتين" فقوله يغدوا على البدل من قوله لا
يحفلوا كما هو؛ لأن غدوهم مرجلين دليل على أنهم لم يحفلوا بقبيح ما
أتوه؛ فهو تفسير له وتبيين" ا. هـ.
(2/477)
81- مسألة: [هل يجوز مجيء "كَمَا" بمعنى
"كَيْمَا" وينصب بعدها المضارع؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "كما" تأتي بمعنى كيما، وينصبون بها ما بعدها، ولا
يمنعون جواز الرفع، واستحسنه أبو العباس المبرد من البصريين.
وذهب البصريون إلى أن "كما" لا تأتي بمعنى "كيما" ولا يجوز نصب ما
بعدها بها.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن "كما" تكون بمعنى
"كيما" وأن الفعل يُنْصَب بها أنه قد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم، قال
الشاعر وهو صخر الغَيِّ:
[379]
جاءت كبيرٌ كما أخفِّرَهَا ... والقوم صيدٌ كأنهم رَمِدُوا
__________
[379] هذا هو البيت السادس عشر من قصيدة لصخر الغي بن عبد الله الهذلي
"ديوان الهذليين 2/ 57" وكان صخر الغي قد قتل جارًا لبني خناعة من بني
سعد بن هذيل من بني الرمداء من مزينة، فحرض أبو المثلم قومه على صخر
ليطلبوا بدم المزني، فبلغ ذلك صخرًا، فقال في ذلك هذه القصيدة، وأخفرها
-بتضعيف الفاء- أي أمنعها وأجيرها وأؤمنها، تقول "خفر الرجل الرجل،
وخفر به، وعليه، وخفره تخفيرًا" إذا أجاره ومنعه وأمنه وكان له خفيرًا،
وقال أبو جندب الهذلي:
ولكنني جمر الغضى من ورائه ... يخفرني سيفي إذا لم أخفر
والصيد -بكسر الصاد- جمع أصيد، وهو الوصف من الصيد -بفتح الصاد والياء
جميعًا، وهو داء يأخذ الإبل في رءوسها فترفع رءوسها وتسمو بها، فإذا
كان ذلك في الرجل كان من كبر وطماحة. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله
"كما أخفرها" فإن الكوفيين ذهبوا إلى أن "كما" بمعنى كيما وهي مؤلفة من
كي الناصبة للمضارع وما الزائدة، ويجوز أن تكف "ما" الزائدة كي عن عمل
النصب فيرتفع المضارع بعدها، ويجوز ألا تكفها فينتصب المضارع بكي كما
في هذا البيت، وقد ذهب إلى هذا المذهب أبو علي الفارسي؛ فزعم أن =
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب "ص176-177" وشرح الأشموني مع حاشية
الصبان "3/ 237" وشرح الرضي على الكافية "2/ 223".
(2/478)
أراد "كيما أُخفرها" ولهذا المعنى انتصب
"أخفرها" وقال الآخر:
[380]
وطَرْفَكَ إما جئتنا فاصْرِفَنَّهُ ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
أراد "كيما يحسبوا" وقال الآخر:
[381]
لا تظلموا الناس كما لا تُظْلَمُوا
__________
= "كما" أصلها "كيما" فحذفت الياء للتخفيف، وقال ابن مالك: "كما" مؤلفة
من الكاف الجارة ومعناها التعليل، ومن ما الكافة، ونصب المضارع بعد
"كما" بالكاف الدالة على التعليل حملًا لها على "كي" لأن معناها
كمعناها، وهما رأيان متقاربان، غير أن رأي أبي علي الفارسي أدق؛ فإن
كون الكاف ناصبة لكونها بمعنى كي بعيد، ومما يبعده أن الكاف من عوامل
الأسماء فكيف تكون من عوامل الأفعال؟
[380] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 295" والأشموني
"رقم 1002" وهو من شواهد شرح الألفية، وقد شرحه العيني "4/ 407 بهامش
الخزانة" وهو البيت التاسع والخمسون من رائية عمر بن أبي ربيعة الطويلة
"د84-95 بتحقيقنا" وذكر العلامة الأمير في حواشيه على مغني اللبيب أنه
وجد البيت في قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة. والطرف -بفتح
فسكون- أراد به العين، وإما: مركبة من أن الشرطية، وما المؤكدة،
واصرفنه: أراد حوله إلى جهة أخرى غير جهتنا، ومحل الاستشهاد بالبيت هنا
قوله "كما يحسبوا" فإن الكوفيين ذهبوا إلى أن "كما" مثل "كيما" ويجوز
أن ينصب الفعل المضارع بعدها على تقدير أن "ما" زائدة غير كافة، ويجوز
أن يرفع بعدها على تقدير أن ما زائدة كافة، وقد جاء هذا البيت بالنصب
على الوجه الأول. وقد زعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمى "نزهة
الأديب" أن أبا علي الفارسي حرف هذا البيت، وأن الصواب روايته على هذا
الوجه:
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا ... لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
ويقول أبو رجاء: إن الرواية في ديوان عمر بن أبي ربيعة على ما قال أبو
محمد الأسود، ومع هذا لا أرى لك أن تقبل الطعن في أبي علي الفارسي بأنه
صحف البيت ليستشهد به؛ فإن الروايات تكثر في الشعر العربي، وكل راوٍ
يعتمد إحدى الروايات ويعول عليها، وقد أسمعناك كلاما مثل كلام أبي محمد
في روايات وردت في كتاب سيبويه وقال العلماء بصدد ذلك: إن سيبويه غير
متهم فيما يرويه بعد أن يسمعه من أفواه العرب، وإنه لا بد أن يكون قد
سمع الرواية التي حكاها في كتابه، والشواهد في هذه المسألة كثيرة، وقد
ذكر المؤلف منها جملة فما يدعوا أبا علي إلى أن يحرّف بيتًا ليستشهد به
وفي غيره من الشعر الثابت مندوحة؟ بل إن رواية أبي محمد الأسود وهي
رواية ديوان عمر تؤيد المذهب الذي رآه أبو علي الفارسي الذي خلاصته أن
أصل "كما" هو كيما، فقد أنبأتك غير مرة أن البيت إذا روي بروايتين أو
أكثر ووضعت في إحدى الروايتين كلمة في مكان كلمة في الروية الأخرى دلَّ
ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد، لأن الراوي العارف بالعربية لا يضع
الكلمة مكان الكلمة إلا وهو على ثقة من أن معناهما واحد، لأنه يريد أن
يؤدي المعنى الذي فهمه من الكلام، فاعرف ذلك وكن منه على ثبت.
[381] هذا البيت من شواهد رضي الدين في باب نواصب المضارع في شرح
الكافية، وشرحه =
(2/479)
أراد "كيما لا تظلموا" وقال عَدِيّ بن زيد
العِبَادِيُّ:
[382]
اسْمَعْ حديثا كَمَا يوما تُحَدِّثَهُ ... عن ظهر غيب إذا ما سائلٌ
سَأَلَا
__________
= البغدادي في الخزانة "3/ 591 و4/ 286" وهو من أرجوزة لرؤبة بن
العجاج.
ومحل الاستشهاد منه قوله "كما لا تظلموا" فإنه دليل على صحة ما ذهب
إليه الكوفيون من أن "كما" يجوز أن ينتصب الفعل المضارع بعدها على أن
أصلها كيما فحذفت الياء تخفيفًا، ألست ترى قوله "لا تظلموا" منصوبًا
بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة؛ إذ هو فعل مضارع اتصلت به واو
الجماعة، وقد وافق أبو العباس المبرد على هذا المذهب ورآه اقتناعًا منه
بما ورد من الشواهد الدالة على صحته، وأما البصريون فإنهم امتنعوا من
إقرار ذلك، وذهبوا مذاهب في هذه العبارة، فمنهم من أنكر الشواهد أو زعم
أن روايتها على غير ما ذكر الكوفيون، وقد سمعت في شرح الشاهد السابق
رواية تخرجه عن الاستشهاد به، وقالوا في البيت الذي نحن بصدد شرحه: إن
الرواية فيه.
لا تظم الناس كما لاتظم
بالفعل المضارع المسند إلى ضمير الواحد المخاطب، وهو مرفوع بالضمة
الظاهرة، وعليه تكون الكاف للتشبيه أو للتعليل، وما: كافة لهذه الكاف
عن الاختصاص بالأسماء وعمل الجر الذي هو الأصل فيها، أو ما: مصدرية،
وهي مع الفعل الذي بعدها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، وكأنه قال: لا
تظلم الناس لعدم ظلمك، ومنهم من سلم الرواية التي رواها الكوفيون، وزعم
أن الناصب في هذه العبارة هو "ما" التي دخلت الكاف عليها، وما هذه
مصدرية، والأصل أنها لا تعمل، لكن العرب شبهت ما بأن المصدرية فنصبت
بما كما نصبت بأن، وشبهت أن المصدرية بما المصدرية فأهملت أن كما أهملت
ما، وانظر الشاهد رقم 370 السابق، وهذا كله جدل ولجاج في الخصومة،
والذي ذهب إليه الكوفيون أقرب من جميع ما قالوه.
هذا، وقد روى سيبويه بيت الشاهد على وجه آخر "1/ 459" وهو:
لا تشتم الناس كما لا تشتم
بالإسناد إلى ضمير الواحد المخاطب، وكذلك أنشده رضي الدين في باب حروف
الجر من شرح الكافية، وشرحه البغدادي، "4/ 286" وكذلك أنشده الأشموني
في نواصب المضارع "رقم 1003" وسيذكر المؤلف هذه الرواية في الرد على
كلام الكوفيين.
[382] أنشد ابن منظور "ك ى ا" هذا البيت ونسبه إلى عدي كما قال المؤلف،
قال: "كي: حرف من حروف المعاني ينصب الأفعال بمنزلة أن، ومعناه العلة
لوقوع الشيء، كقولك: جئت كي تكرمني، وقال في التهذيب: تنصب الفعل
الغابر، تقول: أدبه كي يرتدع، قال ابن سيده: وقد تدخل عليه اللام، وفي
التنزيل العزيز: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:
23] وقال لبيد
لكيلا يكون السندري نديدبي
وربما حذفوا كي اكتفاء باللام وتوصلًا بما ولا، فيقال: تحرر كيلا تقع،
وخرج كيما يصلي، قال الله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [حشر: 7] وفي كيما لغة أخرى حذف الياء من لفظه
كما قال عدي:
اسمع حديثا كما يوما تحدثه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
=
(2/480)
وقال الآخر:
[383]
يُقَلِّبُ عَيْنَيْهِ كما لأَخَافَهُ ... تَشَاوَسْ رويدًا إنني مَنْ
تأَمَّلُ
__________
=أراد كما يوما تحدثه، وكي، وكيلا، وكيم، وكما: تعمل في الألفاظ
المستقبلة عمل أن ولن حتى إذا وقعت في فعل لم يجب" ا. هـ كلامه بحروفه،
وضبط المضارع ضبط قلم في بيت عدي بالرفع، والخطب سهل؛ فإن الذي يستدل
بهذا البيت لا يقول: إن النصب واجب كما قررناه في شرح الشواهد السابقة،
فيحتمل أن في البيت روايتين: الرفع، والنصب، وقد نص -فيما نقله عن ابن
سيده- على أن "كما" تعمل في الفعل المضارع عمل أن ولن، وإن كان المؤلف
قد أنكر رواية النصب، وزعم أن الرواة اتفقوا على أن الرواية في هذا
البيت بالرفع، وعلى ما رواه الكوفيون في هذا البيت بنصب "تحدثه" يستدل
بهذا البيت على شيئين: الأول: أنه يجوز نصب الفعل المضارع بعد "كما"
وتخريج ذلك على أن الأصل "كيما" فحذفت الياء تخفيفا، وما: زائدة غير
كافة، والثاني: أنه لا يضر الفصل بين "كما" والفعل المضارع بالظرف،
وهذا ظاهر إن شاء.
[383] يقال "فلان يتشاوس في نظره" إذا نظر نظرة ذي نخوة وكبر، وقال أبو
عمرو: هو أن ينظر بمؤخر عينه ويميل وجهه في شق العين التي ينظر بها،
ويكون ذلك خلقة ويكون من الكبر والتيه والغضب. ورويدًا: أصله تصغير
الإرواد تصغير الترخيم -يعني بحذف حروف الزيادة كلها وهي الهمزة التي
في أوله والألف التي بعد الواو، ثم إدخال ياء التصغير على حروفه
الأصلية وهي الراء والواو والدال- وقد قالوا: أرود فلان في سيره
إروادا، يريدون أنه تمهل في سيره وترفق، وسيبويه يرى أن "رويدا" إنما
يستعمل استعمال المصادر التي تنوب عن الأفعال، تقول "رويد عليا" أي
أملهه، وتكون اسم فعل، تقول "رويدك" أي أمهل، ويرى أيضًا أنه قد يقع
صفة فتقول: "سار سيرا رويدا" وأنك قد تذكر المصدر الموصوف كما في هذا
المثال، وقد تحذفه فتقول: "سار رويدا" قال "1/ 123" "هذا باب متصرف
رويد، تقول: رويد زيدًا، وإنما تريد أرود زيدا، قال الهذلي:
رويد عليا، جد ما ثدي أمّهم ... إلينا، ولكن بغضهم متماين
وسمعنا من العرب من يقول: والله لو أردت الدراهم لأعطيتك رويد ما
الشعر، يريد أرود الشعر، كقول القائل: لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع
الشعر، فقد تبين لك أن رويد في موضع الفعل، ويكون رويدا أيضًا صفة
كقولك: سار سيرا رويدا، ويقولون أيضًا: ساروا رويدا، فيحذفون السير
ويجعلونه حالًا به وصف كلامه، واجتزاء بما في صدر حديثه من قوله ساروا
عن ذكر السير، ومن ذلك قول العرب، ضعه رويدًا أي وضعًا رويدًا، ومن ذلك
قولك للرجل تراه يعالج شيئًا: رويدًا، إنما تريد علاجا رويدا، فهذا على
وجه الحال، إلا أن يظهر الموصوف فيكون على الحال وعلى غير الحال "ا. هـ
كلامه بحروفه وعلى هذا يكون قول الشاعر في البيت المستشهد به "رويدا"
حالًا من الضمير الواجب الاستتار في قوله "تشاوس" وقوله "إنني من تأمل"
أي أنا ذلك الذي تتأمله وتنظر إليه، ومتى عرفتني عرفت أنه ليس لك أن
تنظر لي نظر الكبر والغضب، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "كما
لأخافه" حيث زعم الكوفيون أن الفعل المضارع الذي هو أخافه منصوب =
(2/481)
أراد "كيما أخافه" إلا أنه أدخل اللام
توكيدًا، ولهذا المعنى كان الفعل منصوبًا فهذه الأشياء كلها تدل على
صحة ما ذهبنا اليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز النصب بها؛
لأن الكاف في "كما" كاف التشبيه أدخلت عليها "ما" وجُعِلَا بمنزلة حرف
واحد كما أدخلت على رب وجُعِلَا بمنزلة حرف واحد، ويليها الفعل كربما،
وكما أنهم لا ينصبون الفعل بعد ربما فكذلك ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما البيت الأول فلا حجة لهم فيه؛ لأنه
روي "كما أَخَفِّرُهَا" بالرفع؛ لأن المعنى جاءت كما أَجِيئُهَا، وكذلك
رواه الفرَّاء من أصحابكم، واختار الرَّفْعَ في هذا البيت، وهو الرواية
الصحيحة.
وأما البيت الثاني فلا حجة فيه أيضًا؛ لأن الرواية:
[380]
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
وأما البيت الثالث فلا حجة فيه أيضًا؛ لأن الرواية فيه بالتوحيد:
[381]
لا تَظْلِمِ الناس كما لا تُظْلَمُ
كالرواية الأخرى:
381-
لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ
وأما البيت الرابع فليس فيه حجة أيضًا؛ لأن الرواة اتفقوا على أن
الرواية "كما يوما تحدثُهُ" بالرفع كقول أبي النجم:
[384]
قلت لشيبان: ادْنُ من لِقَائِهِ ... كما تُغَدِّي القوم من شِوَائِهِ
__________
= بكما التي هي في الأصل كيما. ونقول: إن هذا البيت لا يصلح لاستدلال
الكوفيين أصلًا، وذلك من عدة وجوه: الأول: ما ادّعاه المؤلف من أن
الرواية على غير هذا الوجه وأنها "لكيما أخافه" وإن كنا لا نقر المؤلف
على هذا، والثاني: أنه بعد تسليم صحة روايتهم يكون النصب باللام في
قوله "لأخافه" لأنها لام التعليل وهي عندهم ناصبة بنفسها، أو بأن
المضمرة بعد لام التعليل على ما هو مذهب البصريين، والقول بزيادة هذه
اللام لا دليل عليه، والوجه الثالث: أنهم -أي الكوفيين- يقولون: إن كي
لا تكون إلا مصدرية مثل أن، فمجيء اللام بعدها في مثل هذا الشاهد ينقض
هذه المقالة؛ لأننا لو جعلنا اللام توكيدا لكي لم يصح لاختلاف معناهما
حينئذ، إذ إن كي مصدرية واللام للتعليل، ولو جعلنا اللام بدلا من كي
كانت كما في حكم الساقط من الكلام لأن المبدل منه على نية الطرح من
الكلام، ويكون العمل للبدل الذي هو اللام، فيتعين عندهم أن تعتبر
زائدة، وهذا ما لم يقم عليه دليل.
[384] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد سيبويه "1/ 460" وقد
نسبهما إلى أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وقد أقر الأعلم هذه
النسبة، قال سيبويه "1/ 459": =
(2/482)
وكقول الآخر:
[385]
أنِخْ فاصْطَبِغْ قُرْصًا إذا اعتادك الهَوَى ... بِزَيْتٍ كما
يَكْفِيكَ فَقْدَ الحَبَائِبِ
__________
= "سألت الخليل عن قول العرب: انتظرني كما آتيك، وارقبني كما ألحقك،
فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرف واحد، وصيرت للفعل كما صيرت ربما
للفعل، والمعنى لعلي آتيك، فمن ثم لم ينصبوا به كما لم ينصبوا بربما،
قال رؤبة:
لا تشتم الناس كما لا تشتم
وقال أبو النجم:
قلت لشيبان: ادن من لقائه ... كما تغدي الناس من شوائه
وقال الأعلم: "الشاهد في قوله كما تغدي، حيث وقع بالفعل بعد كما لأنها
كاف التشبيه وصلت بما وهيئت لوقوع الفعل بعدها كما فعل بربما، ومعناها
لعلّ، ومن النحويين من يجعلها بمعنى كي ويجيز النصب بها وهو مذهب
الكوفيين" ا. هـ كلامه. وشيبان: اسم ابن الشاعر، وضمير الغيبة في قوله
"لقائه" وقوله "شوائه" يعود إلى ظليم، يأمر الشاعر ابنه شيبان بأن يتبع
هذا الظليم ويدنو منه لعله يصيده فيشوي لحمه ويطعم الناس من هذا
الشواء.
[385] أنخ: فعل أمر من الإناخة، تقول "أناخ فلان بعيره ينيخه إناخة"
تريد أنه أبركه، واصطبغ: فعل أمر من الاصطباغ، وأصله الصبغ -بكسر الصاد
وسكون الباء- وهو ما يصطبغ به من الإدام، ومثله الصباغ -بكسر الصاد-
أيضًا ومنه قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}
[المؤمنون: 20] يعني بالصبغ دهن الزيتون، وقال الزجاج: أراد بالصبغ
الزيتون، قال الأزهري: وهذا أجود القولين؛ لأنه قد ذكر الدهن قبله،
وتقول: صبغ فلان اللقمة يصبغها صبغا -من مثال نصر- إذا دهنها وغمسها،
وكل ما غمس فقد صبغ، والقرص -بضم القاف وسكون الراء- أراد به الرغيف من
الخبز وقد يقال "قرصة" بالتاء -إذا كانت صغيرة، وترك التاء أكثر،
والاستشهاد بهذا البيت في قوله "كما يكفيك" حيث ورد الفعل المضارع
مرفوعًا بضمة مقدرة على الياء بعد كما، وغرض المؤلف أن يرد بهذا الشاهد
على الكوفيين القائلين بجواز نصب الفعل المضارع بعد كما، لكن هذا
الشاهد ومائة شاهد آخر مثله لا يكفي في الرد على ما ذهب إليه الكوفيون،
وذلك لأن الكوفيين لا يقولون: إنه يجب أن ينتصب الفعل المضارع بعد كما،
وإنما يقولون: إذا وقع الفعل المضارع بعد كما جاز فيه وجهان: أحدهما
النصب والآخر الرفع، وقد أتو بشواهد جاء فيها النصب، والذي يرد مذهبهم
ألا يكون ثمت شاهد قد جاء بالنصب، وقد حاول المؤلف أن يرد شواهد النصب،
ولكنه لم يستقم له الرد؛ لأن الرواة الثقات قد أثبوتها، فاعرف ذلك، ولا
تكن أسير التقليد.
(2/483)
ولم يروه أحد "كما يوما تحدثه" بالنصب إلا
المفضّل الضّبي وحده، فإنه كان يرويه منصوبًا، وإجماعُ الرواة من
نحويّي البصرة والكوفة على خلافه، والمخالف له أقْوَمُ منه بعلم
العربية.
وأما البيت الخامس ففيه تكلف يقبح، والأظهر فيه:
[383]
يُقَلِّبُ عينيه لكَيْمَا أَخَافَهُ
على أنه لو صحَّ ما رَوَوْهُ من هذه الأبيات على مقتضى مذهبهم فلا يخرج
ذلك عن حدّ الشذوذ والقلّة، فلا يكون فيه حجة، والله أعلم.
(2/484)
82- مسألة: [هل تنصب لام الجحود بنفسها؟
وهل يتقدم معمول منصوبها عليها؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن لام الجَحْدِ هي الناصبة بنفسها، ويجوز إظهار
"أن" بعدها للتوكيد، نحو: "ما كان زيد لأن يدخل دارك، وما كان عمرو
لأن يأكل طعامك" ويجوز تقديم مفعول الفعل المنصوب بلام الجحد
عليها، نحو "ما كان زيد دارك ليدخل، وما كان عمرو طعامك ليأكل".
وذهب البصريون إلى أن الناصب للفعل "أن" مقدرة بعدها، ولا يجوز
إظهارها، ولا يجوز تقديم مفعول الفعل المنصوب بلام الجحد عليها.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها هي العاملة
بنفسها وجواز إظهار "أن" بعدها ما قدمناه في مسألة لام كي.
وأما الدليل على جواز تقديم المنصوب على الفعل المنصوب لام الجحد؛
فما قال الشاعر:
[386]
لقد عَذَلَتْنِي أُمُّ عمرو، ولم أكن ... مَقَالَتَهَا ما كنتُ
حيّا لأَسْمَعَا
__________
[386] هذا البيت من شواهد شرح ابن يعيش على المفصل "ص936" وروى
صدره "لقد وعدتني أم عمرو" ورضي الدين في نواصب المضارع من شرح
الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 622" وقال "ولم أقف على
تتمته ولا على قائله" ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "مقالتها"
فقد وردت الرواية بنصب هذه الكلمة، وقد اتفق الفريقان الكوفيون
والبصريون على ثبوت الرواية، ولكنهم اختلفوا في تخريجها، فقال
الكوفيون: مقالتها مفعول به تقدم على عامله وهو الفعل المضارع
المقترن بلام الجحود الذي هو قوله "لأسمعا" وجوزوا أن يتقدم معمول
المضارع المنصوب بلام الجحود على اللام، وقال البصريون: لا يجوز أن
يتقدم معمول المضارع المقرون بلام الجحود عليه، وزعموا أن قول
الشاعر "مقالتها" مفعول به لفعل مضارع محذوف يدل عليه هذا الفعل
المذكور، =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لابن يعيش "ص936" وشرح الرضي
على الكافية "2/ 233".
(2/485)
أراد "ولم أكن لأسمع مقالتها" وقدم منصوبَ
لأسمع عليه، وفيه لام الجحود، فدلَّ على جوازه، وفيه أيضًا دليل
على صحة ما ذهبنا إليه من أن لام الجحود هي العاملة بنفسها من غير1
تقدير "أن" إذ لو كانت أنْ ههنا مُقَدَّرَة لكانت مع الفعل بمنزلة
المصدر، وما كان في صلة المصدر لا يتقدم عليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الناصب "أن"
المقدرة بعدها ما قَدَّمْناه في مسألة لام كي.
وأما الدليل على أنه لا يجوز إظهار "أن" بعدها فمن وجهين؛ أحدهما:
أن قولهم: "ما كان زيد ليدخل، وما كان عمرو ليأكل" جواب فعل ليس
تقديره تقدير اسم، ولا لفظه لفظ اسم؛ لأنه جواب لقول قائل "زيد سوف
يدخل، وعمرو سوف يأكل" فلو قلنا "ما كان زيد لأن يدخل، وما كان
عمرو لأن يأكل" بإظهار أن لكنا جعلنا مقابل سوف يدخل وسوف يأكل
اسمًا؛ لأن أنْ مع الفعل بمنزلة المصدر وهو اسم؛ فلذلك2 لم يجز
إظهارها كما لا يجوز إظهار الفعل في قولك "إياك
__________
= وأصل الكلام: ولم أكن أسمع مقالتها، ثم يبين هذا الفعل المحذوف
الذي أضمره بقوله "لأسمعا" والسر في هذا الخلاف أن الكوفيين
يقولون: الناصب للمضارع هو اللام التي للجحود، والبصريون يقولون:
الناصب له هو أن المصدرية مضمرة بعد اللام، والمضارع صلة لأن
المصدرية، ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول، ولكن هذه القاعدة
منقوضة من أساسها، وإن كان قد ارتضاها الجمهور من الفريقين؛ فقد
تقدم معمول الصلة على الموصول في قول العجاج:
ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا
فإن قوله "بالعصا" متعلق بقوله "أجلدا" وهو معمول لأن المصدرية،
ونظيره قول ربيعة بن مقروم الضبي:
هلا سألت وخبر قوم عندهم ... وشفاء غيك خابرا أن تسألي
فإن قوله "خابرا" مفعول به تقدم على عامله وهو قوله "تسألي"
المنصوب بأن المصدرية، وقد اضطر النحاة لتتم لهم قاعدتهم أن
يقولوا: إن "خابرا" منصوب بفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور، وإن
قول العجاج "بالعصا" متعلق بفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور
بعده. ومثل هذين البيتين قول الآخر وسيأتي قريبا في كلام المؤلف
"ص596":
وإني امرؤ من عصبة خندفية ... أبت للأعادي أن تذل رقابها
وسنعود إلى هذه المسألة مرة أخرى، غير أنا نبادر فنقرر أنا لا نرى
مع كثرة الشواهد التي تثبت في مسألة من المسائل أن نعرض عن الشواهد
ثم نتمسك بالتعليل؛ لأن هذا عدول عن النص إلى القياس، وذلك لا
يجوز، فاعرف هذا، ولا تغفل عنه.
__________
1 في ر "عن غير" وليس بشيء.
2 في ر "فكذلك لم يجز".
(2/486)
وزيدًا" والوجه الثاني: أن التقدير عندهم:
ما كان زيد مُقَدِّرًا لأن يدخل أو نحو ذلك من التقدير الذي يوجب
المستقبل من الفعل، و"أنْ" توجب الاستقبال، فاستغنى بما تضمن
الكلام من تقدير الاستقبال عن ذكر "أنْ".
ومنهم من قال: إنما لم يجز إظهار "أن" بعدها لأنها صارت بدلا من
اللفظ بها؛ لأنك إذا قلت "ما كان زيد ليدخل" كان نفيًا لسيدخل، كما
لو أظهرت "أن" فقلت "ما كان زيد لأن يدخل" فلما صارت بدلا منها كما
أن ألف الاستفهام بدل من واو القسم في قولهم: "أللهِ لأقومنَّ" لم
يجز إظهارها؛ إذا كانت اللام بدلا منها فكأنها مظهرة.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قول الشاعر:
[386]
..... ولم أكن ... مقالتها ما كنت حيا لأسمعا
فلا حجّة لهم فيه؛ لأن "مقالتها" منصوب بفعل مقدر، كأنه قال: ولم
أكن لأسمع مقالتها، لا بقوله "لأسْمَعَا" كما قال الشاعر:
[387]
وإني امرؤ عن عصبة خِنْدِفِيّةِ ... أَبَتْ للأَعَادِي أنْ تَدِيخَ
رِقَابُها
__________
[387] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "936" وابن جني
في شرح تصريف المازني "1/ 130" ولم يعزواه، والعصبة: الجماعة من
الناس، وخندفية -بكسر الخاء والدال بينهما نون ساكنة- منسوبة إلى
خندف، وهي امرأة إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأصل اسمها
ليلى بنت حلوان -ويقال: لها بنت عمران بن الحاف بن قضاعة- لقبت
خندف في قصة مشهورة، وأصل الخندفة الإسراع في السير، تقول "خندف
الرجل خندفة -من مثال دحرج دحرجة" إذا أسرع، وقالوا: "خندف الرجل"
إذا انتسب إلى خندف، وقال رؤبة:
إني إذا ما خندف المسمى
وظُلِمَ رجلٌ فنادى: يا لخندف، فخرج إليه الزبير بن العوام ومعه
سيفه وهو يقول: أخندف إليك أيها المخندف، يريد أسرع إلى نصرتك أيها
المعتزي إلى خندف، وتديخ بالدال المهملة، وبالذال المعجمة أيضًا،
أي تذل وتخضع، ويروى "أن تذل رقابها" والاستشهاد بالبيت في قوله
"أبت للأعادي أن تديخ رقابها" فإن ظاهره أن الجار والمجرور -وهو
قوله "للأعادي"- متعلق بقوله "تديخ" المتأخر عنه المعمول لأن
المصدرية، فيكون معمول صلة أن المصدرية قد تقدم على أن، ولما كان
جمهور النحاة قد اتفقوا على أن معمول صلة أن المصدرية لا يجوز أن
يتقدم عليها فإنهم جعلوا الجار والمجرور متعلقًا بفعل محذوف يقدر
قبله ويكون المذكور تفسيرا وبيانا لذلك المحذوف، وأصل الكلام: أبت
أن تديخ رقابها للأعادي، أن تديخ رقابها، فحذف أن المصدرية وصلتها
وهو ينويهما، ثم دلَّ على هذا الذي حذفه بذكر أن المصدرية وصلتها،
قال ابن يعيش "وقال الكوفيون: لام الجحد هي العاملة بنفسها،
وأجازوا تقديم المفعول على الفعل المنتصب بعد اللام، نحو قولك: ما
=
(2/487)
فاللام في قوله "للأعادي" لا تكون من صلة
"أن تَدِيخَ" بل من صلة فعل مُقَدَّرٍ قبله، وتقديره "أبت أن تديخ"
وجعل هذا المُظْهَر تفسيرًا لذلك المقدر، وهذا النحو في كلامهم
أكثر من أن يحصى، والله أعلم.
__________
= كنت زيدًا لأضرب، وأنشدوا "لقد وعدتني أم عمرو ... البيت السابق"
ولا دليل في ذلك؛ لأنا نقول: إنه منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: ولم
أكن لأسمع مقالتها، ثم بين ما أضمر بقوله لأسمعا، كما في قوله "أبت
للأعادي أن تذل رقابها" التقدير: أبت أن تذل رقابها للأعادي، ثم
كرر الفعل بيانا للمضمر، فاعرفه" ا. هـ كلامه. ويقول أبو رجاء: لقد
أصل النحاة قاعدة أن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول، واستنبطوا
لهذه القاعدة علة حاصلها أن الصلة تكملة وتمام للموصول، وهما في
قوة الكلمة الواحدة، وأن المعمول من تكملة العامل، وتقديم المعمول
كتقديم عجز الكلمة على صدرها، ولما كان تقديم عجز الكلمة على صدرها
غير جائز كان تقديم ما هو بمنزلة عجز الكلمة على ما هو بمنزلة
صدرها غير جائز أيضًا، فيكون تقديم معمول الصلة على الموصول غير
جائز، وفاتهم أن النص مقدم على القياس وعلى التعليل، وأن تقدير شيء
وفي الكلام ما يغني عنه مما لا يصح ارتكابه ولا اللجوء إليه، ثم
إنهم يقولون دائما: إن الجار والمجرور يتوسع فيهما ما لا يتوسع في
غيرهما، فهلا اعتذروا عن تقدم معمول الفعل المعمول لأن المصدرية في
هذا البيت بأن هذا المعمول جار ومجرور، وأن الجار والمجرور يتوسع
فيهما ما لا يتوسع في غيرهما، ولكننا نعتقد أن البصريين لما رأوا
معمول الفعل المنصوب بعد لام الجحود في البيت السابق "الشاهد رقم
386" مفعولا صريحا وليس جارا ومجرورًا، وأن حجة الكوفيين قائمة به،
لما رأوا ذلك تغاضوا عن كون المعمول في هذا البيت جارا ومجرورًا
وساقوا الكلام مساقًا واحدًا، فتنبه لذلك، وأجل فيه نظرك، والله
يتولاك بعصمته وتأييده.
(2/488)
|