الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

83- مسألة: [هل تنصب "حتى" الفعل المضارع بنفسها؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن حتى تكون حرف نصب ينصب الفعل من غير تقدير أن، نحو قولك "أطع الله حتى يدخلَك الجنة، واذكر الله حتى تطلعَ الشمس" وتكون حرف خفض من غير تقدير خافض، نحو قولك "مَطَلْتُهُ حتى الشتاء، وسَوَّفْتُهُ حتى الصيف". وذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي إلى أن الاسم يخفض بعدها بإلى مضمرة أو مظهرة. وذهب البصريون إلى أنها في كلا الموضعين حرف جر، والفعل بعدها منصوب بتقدير "أن" والاسم بعدها مجرور بها.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها تنصب الفعل بنفسها لأنها لا تخلو: إما أن تكون بمعنى كي كقولك: "أطع الله حتى يدخلك الجنة" أي: كي يدخلك الجنة، وإما أن تكون بمعنى إلى أن كقولك: "اذكر الله حتى تطلع الشمس" أي: إلى أن تطلع الشمس، فإن كانت بمعنى كي فقد قامت مقام كي، وكي تنصب، فكذلك ما قام مقامها، وإن كانت بمعنى إلى أن فقد قامت مقام أن، وأن تنصب، فكذلك ما قام مقامها، وصار هذا بمنزلة واو القسم؛ فإنها لما قامت مقام الباء عملت عملها، وكذلك واو رب لما قامت مقامها عملت عملها، فكذلك ههنا. وقلنا "إنها تخفض الاسم بنفسها" لأنها قامت مقام إلى، وإلى تخفض ما بعدها، فكذلك ما قام مقامها.
وأما الكسائي فقال: إنما قلت إنها تخفض بإلى مضمرة أو مظهرة لأن التقدير في قولك "ضربت القوم حتى زيد" حتى انتهى ضربي إلى زيد، ثم حذف انتهى ضربي إلى" تخفيفا، فوجب أن تكون إلى هي العاملة.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الناصب للفعل "أن" المقدرة دون حتى أنَّا أجمعنا على أن حتى من عوامل الأسماء، وإذا كانت من عوامل
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 252" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص927 و937" وشرح الكافية للرضي "2/ 224 وما بعدها".

(2/489)


الأسماء فلا يجوز أن تجعل من عوامل الأفعال؛ لأن عوامل الأسماء لا تكون عوامل الأفعال، كما أن عوامل الأفعال لا تكون عوامل الأسماء، وإذا ثبت أنه لا يجوز أن تكون عواملُ الأسماء عواملَ الأفعال، فوجب أن يكون الفعل منصوبًا بتقدير "أن" وإنما وجب تقديرها دون غيرها لأنها مع الفعل بمنزلة المصدر الذي يدخل عليه حرف الجر، وهي أم الحروف الناصبة للفعل؛ فلهذا كان تقديرها أولى من غيرها.
والذي يدل على أن الفعل بعد حتى منصوب بتقدير "أن" لا بها نفسها قول الشاعر:
[388]
دَاوَيْتُ عين أبي الدَّهِيقِ بِمَطْلِهِ ... حتى المصيف ويَغْلُوَ القِعْدَانُ
فالمصيف: مجرور بحتى، ويغلو: عطف عليه، فلو كانت حتى هي الناصبة لوجب أن لا يجيء الفعل ههنا منصوبًا بعد مجيء الجر؛ لأن حتى لا تكون في موضع واحد جارة وناصبة، والمعطوف يجب أن يكون على إعراب المعطوف
__________
[388] أبو الدهيق: كنية رجل، ومطله: مصدر مطله يمطله من باب نصر إذا سوَّف في قضاء حاجته ولم يفِ له، والمصيف: زمان الصيف، ويغلو: مضارع "إلا البعير في سيره غلوا" إذا ارتفع في سيره فجاوز حسن السير، والقعدان بكسر القاف وسكون العين المهملة جمع قعود، وهو من الإبل الذي يقتعده الراعي في كل حاجة، يتخذه للركوب ولحم الزاد والمتاع. ويقال: القعود من الإبل هو البكر حين يركب ت أي يمكن ظهره من الركوب وأدني ذلك أن يأتي عليه سنتان، يقال للذكر: قعود، وللأنثي قلوص، إلى أن يثنيا، ثم يقال لذكر جمل وللأنثي ناقة، ومحل الاستشاهد من هذا البيت قوله "ويغلو" فإنه فعل مضارع منصوب، وقد سبقه اسم مجرور بحتي لأنها لو كانت هي الناصبة للفعل المضارع لكانت قد عملت الجر في الاسم والنصب في الفعل، ولا نظير لذلك في العربية، ولكانت الواو قد عطفت مضارعا منصوبًا على اسم مجرور وذلك مما لا يجوز، وقد ذهب البصريون إلى أن هذا المضارع منصوب بأن المصدرية محذوفة، والتقدير: أن يغلو القعدان، وأن هذه مع الفعل في تأويل مصدر مجرور معطوف على الاسم المجرور بحتي، وكأنه قال: حتى المصيف وغلو القعدان. قال أبو رجاء: ثم يقال بعد ذلك أن المعروف أن أن المصدرية تقدر بعد حرف من حروف العطف، وهذا هو مذهب البصريين، فأين هذا الحرف الذي ستقدر أن بعده؟ وذلك لأن حتى المذكورة قد عملت الجر في الاسم الذي بعدها، والذي يخطر لي أنه لتكملة كلام البصريين الذي ذكره المؤلف لا بد من تقدير "حتى" أخرى بعد الواو تكون أن المصدرية وما عملت فيه في تأويل مصدر مجرور بها، وتكون الواو قد عطفت حتى ومجرورها على حتى المذكورة ومجرورها، وكأنه قد قال: حتى المصيف وحتي يغلو القعدان؛ فتأمل في ذلك.

(2/490)


عليه؛ فإذا لم يكن قبل "يغلو" فعل منصوب وكان قبله اسم مجرور علمت أن ما بعد الواو يجب أن يكون مجرورًا، وإذا وجب الجر بعد الواو وجب أن يكون "يغلو" منصوبًا بتقدير أنْ؛ لأنَّ أنْ مع الفعل بمنزلة الاسم على ما بيّنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنها إذا كانت بمعنى كي فقد قامت مقام كي، وكي تنصب، فكذلك ما قام مقامها" فالكلام على فساده كالكلام في مسألة لام كي؛ فلا نعيده ههنا.
وأما قولهم: إنها إذا كانت بمعنى "إلى أن" فقد قامت مقام أنْ، وأنْ تنصب، فكذلك ما قام مقامها" قلنا: هذا فاسد، لأنه يجوز عندكم ظهور أن بعد حتى، ولو كانت بدلا عنها لما جاز ظهورها بعدها؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين البدل والمبدل، ألا ترى أن واو القسم لما كانت بدلا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما؛ فلا يقال: "بوالله لأفعلن" وكذلك التاء في القسم لما كانت بدلا عن الواو لا يقال: "تَوَالله لأقومن" لما كان يؤدي إليه من الجمع بين البدل والمبدل؟ وأما واو رب فلا نسلم أنها قامت مقامها، ولا أنها عاملة، وإنما هذا شيء تدعونه على أصلكم، وقد بيّنّا فساده في موضوعه بما يغني عن الإعادة.
وأما ما ذهب إليه الكسائي من أن الخفض بإلى مضمرة أو مظهرة فظاهر الفساد؛ لبعده في التقدير، وإبطال معنى "حتى". وذلك لأن موضع حتى في الأسماء أن يكون الاسم الذي بعدها من جنس ما قبله، وإنما حتى اختصَّته من بين الجنس، لأنه يستبعد منه الفعل أكثر من استبعاده من سائر الجنس، كقولك: قاتل زيد السباع حتى الأسد" لأن قتاله الأسد أبعد من قتاله لغيره، وكقولك "استجرأ على الأمير جنده حتى الضعيفُ الذي لا سلاح معه" لأن استجراء الضعيف الذي لا سلاح معه أبعد من استجراء غيره؛ فلو قلنا إن التقدير فيه: حتى انتهى استجراؤهم إلى الضعيف الذي لا سلاح معه؛ لأدّى ذلك إلى زيادة كثيرة، وكانت "إلى" في صلة "انتهى" لا في صلة "حتى" وذلك خروج عن المتناولات القريبة من غير برهان ولا قرينة، وذلك لا يجوز، وإذا قلنا: إنه مجرور بحتى؛ لم يخرج عن قياس العربية والمتناولات القريبة؛ لأن حتى قد يليها المجرور في حالٍ وغير المجرور في حالٍ، ولا نظائر مما يجر في حال، ولا يجر في حال، نحو "مُذْ، ومُنْذُ" و"حَاشَا، وخلا" في الاستثناء، وإذا ظهر الجر بعدها ولم يدل دليل على إضمار حرف جر -على أن حروف الجر لا تعمل مع الحذف- دلَّ على أنها هي الجارة.
والذي يدل على أنها هي الجارة قولهم: "حَتَّام، وحَتَّامَهْ" كقولهم: "إلامَ،

(2/491)


وإلامَهْ" والأصل فيها: حتى ما، وما للاستفهام، فلو لم يكن حتى حرف جر، وإلا لما جاز حذف الألف من "ما" لأن ما لا يحذف ألفها إلا أن يدخل عليها حرف جر، على ما بينا في "كيمه، وفيمه، وبمه، ولمه، وعمَّه" وما أشبه ذلك؛ فدل على أنها هي الجارة.
والذي يدل على أنه لا يجوز أن تكون إلى مقدرة بعد حتى أن حتى تقوم مقام إلى، ألا ترى أنك تقول "أَقِمْ حتى يقدم زيد، وسِرْ حتى تطلع الشمس" فيصلح أن تقيم مقامها "إلى" فتقول "أقم إلى أن يقدم زيد، وسر إلى أن تطلع الشمس" فتقوم "إلى" مقام حتى، فإذا كانت تقوم مقامها فينبغي أن لا يجمع بينهما؛ لأن إحداهما تغني عن الأخرى.
والذي يدلُّ على أن "حتى" في موضع إلى في هذا الموضع أنك تقول: أقم إلى قدومِ زيد، وأقم حتى قدومِ عمرو. وإنما ظهرت "أن" بعد إلى، ولم تظهر بعد حتى لأن إلى تلزم الاسم، وحتى لا تلزم الاسم، فألزموا إلى أنْ لتظهر اسميةُ ما دخلت عليه، وقوةُ لزومها الجرَّ، وكذلك أيضًا يحسن ظهور "أنْ" بعد لام كي، ولم يحسن بعد حتى وكي؛ لأن اللام تلزم الاسم، بخلاف حتّى وكي، والله أعلم.

(2/492)


84- مسألة: [عامل الجزم في جواب الشرط] 1
ذهب الكوفيون إلى أن جواب الشرط مجزوم على الجِوَارِ، واختلف البصريون؛ فذهب الأكثرون إلى أن العامل فيهما حرف الشرط، وذهب آخرون إلى أن حرف الشرط وفعل الشرط يعملان فيه، وذهب آخرون إلى أن حرف الشرط يعمل في فعل الشرط، وفعل الشرط يعمل في جواب الشرط، وذهب أبو عثمان المازني إلى أنه مبنيّ على الوَقْفِ.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مجزوم على الجوار لأن جواب الشرط مجاور لفعل الشرط، لازم له، لا يكاد ينفكُّ عنه، فلما كان منه بهذه المنزلة في الجوار حمل عليه في الجزم، فكان مجزوما على الجوار، والحمل على الجوار كثير، قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] وجه الدليل أنه قال: {وَالْمُشْرِكِينَ} بالخفض على الجوار، وإن كان معطوفا على {الَّذِينَ} فهو مرفوع لأنه اسم "يكن"، وقال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بالخفض على الجوار، وهي قراءة أبي عمرو، وابن كثير، وحمزة، ويحيى عن عاصم، وأبي جعفر، وخلف، وكان ينبغي أن يكون منصوبًا؛ لأنه معطوف على قوله: {فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُم} [المائدة: 6] كما في القراءة الأخرى، وهي قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، ولو كان معطوفًا على قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ} لكان ينبغي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة، وهو مخالف لإجماع أئمة الأمة من السلف والخلف، إلا فيما لا يعد خلافًا، ثم قال زهير:
[389]
لَعِبَ الرِّيَاحُ بها وغَيَّرَهَا ... بَعْدِي سَوَافِي المُورِ والقَطْرِ
__________
[389] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو البيت التالى للشاهد رقم 232 =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 13" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 313" وشرح الرضي على الكافية "2/ 236 وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص947 وما بعدها".

(2/493)


فخفض "القطر" على الجوار، وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعًا؛ لأنه معطوف
__________
= الذي تقدم في المسألة 54 "وانظر الديوان 86-87" ورواية الأعلم "لعب الزمان بها.... إلخ" والسوافي: جمع سافية، وتطلق على الريح التي تسفي التراب، ويقال أيضًا على التراب الذي تسفيه الرياح، أي تذروه وتطيره وتهيجه، والمور -بضم الميم- هو التراب، والقطر -بفتح القاف وسكون الطاء- هو المطر، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "والقطر" فإنه مجرور بدليل أن رويّ هذه القصيدة مجرور، فيسبق إلى الوهم أنه معطوف على "المور" لأنه هو المجرور بإضافة سوافي إليه، ولو عطف على المور للزم أن يكون معمولًا لسوافي؛ لأن العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه، ويلزم أن يكون تقدير الكلام: سوافي المور وسوافي القطر، ومراد الشاعر أن الذي غير هذه الديار شيئان: أحدهما: الرياح التي تسفي عليها التراب، وثانيهما: المطر، وهذا المعنى لا يتأدى إلا بأن يكون "القطر" معطوفا على سوافي مع أنه ليس للمطر سوافين فيكون مرفوعًا في التقدير، وجره لمجاورته المجرور، فتقول: القطر معطوف على سواف، والمعطوف على المرفوع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة. والجر على الجوار واقع في العربية في بابي العطف والنعت -وزاد قوم في باب التوكيد أيضًا- فأما باب العطف فمنه هذا البيت، ومنه قول الآخر:
كم قد تمششت من قصّ وإنفحة ... جاءت إليك بذاك الأضؤن السود
تقول: تمششت العظم؛ إذا مصصت أطرافه، والقصّ -بفتح القاف- عظام الصدر، أو رأس الصدر، والإنفحة -بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الفاء- كرش الحمل أو الجدي إذا كان لم يأكل، فإذا أكل فهو كرش، فقول الشاعر "وإنفحة" لا يجوز أن يكون معطوفا على "قص" لأنه لو كان معطوفا على قص لكان قوله تمششت عاملًا فيه، وقد علمت أن التمشش خاص بمص العظم، والإنفحة ليست عظمًا، فوجب أن يكون قوله "إنفحة" مفعولًا به لفعل محذوف، وتقدير الكلام: كم تمششت من عظم وأكلت إنفحة، ويكون إنفحة منصوبًا بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة.
وأما الجر إلى الجوار في باب النعت فمن شواهده قولهم "هذا جحر ضب خرب" -بجر خرب مع أنه نعت لجحر المرفوع؛ فخرب مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة، ونظيره قول امرئ القيس في معلقته:
كان ثبيرًا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل
ثبير: اسم جبل، شبهه بكبير قوم مزمل في بجاد، فمزمل: نعت لكبير المرفوع على أنه خبر كأن، والرواية بجر مزمل بدليل رويّ القصيدة كلها، فهو مرفوع تبعًا لموصوفه وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة.
ونظيره قول دريد بن الصمة:
فجئت إليه والرياح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد
فدافعت عنه الخيل حتى تبددت ... وحتى علاني حالك اللون أسود
فأسود صفه لحالك اللون، وأسود مجرور بدليل الرويّ، وحالك اللون: مرفوع لأنه فاعل =

(2/494)


على "سَوَافِي" ولا يكون معطوفًا على "المُورِ" وهو الغُبَار؛ لأنه ليس للقطر سوافٍ كالمور 251- حتى يعطفه عليه، وقال الآخر:
[390]
كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعيُنِهَا ... قُطْنًا بِمُسْتَحْصِدِ الأوتار مَحْلُوجِ
فخفض "محلوج" على الجوار، وكان ينبغي أن يقول "محلوجًا"؛ لكونه وصلًا لقوله "قطنًا" ولكنه خفضه على الجوار، وقال الآخر:
[391]
كأنَّ نَسْجَ العَنْكَبُوتِ المُرْمَلِ
__________
= علاني، ولكنه جرّ أسود لكونه بجوار اللون المجرور بالإضافة.
وأما الجر للمجاورة في باب التوكيد فقد ورد منه قول الشاعر، وهو من شواهد ابن هشام في الشذور.
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
فإن قوله "كلهم" توكيد لذوي الواقع مفعولًا به لبلغ، وقد وردت الرواية بجر كل، وقد علمت أن التوكيد يتبع المؤكد في إعرابه؛ فكان حق العربية أن ينصب كلا، ولكنه لما وقع مجاورا للزوجات المجرور بالإضافة جره، فهذا الجر بسبب مجاورة الاسم المجرور.
والنحاة يذكرون أن الجر بسبب مجاورة الاسم المجرور سواء أكان في النعت أم في العطف -شاذ، وهو في باب التوكيد أشد شذوذًا، لأنهم مختلفون في مجيئه في هذا الباب، وفي اعتباره فيه.
[390] القطن -بضم القاف وسكون الطاء- معروف، و"مستحصد الأوتار" من إضافة الصفة للموصوف، أي الأوتار المستحصدة، وتقول: هذا حبل أحصد -كأحمر- وحصد -كفرح- ومحصد -كمكرم- ومستحصد -بكسر الصاد- إذا كان قد أحكم فتله وصنعته، وهذا اللفظ يقال في كل ما أحكمت صناعته من الحبال والأوتار والدروع، وقالوا "هذا رجل محصد الرأي" أي سديد الرأي محكمه، على التشبيه، وقالوا: "هذا رأي مستحصد" أي محكم وثيق، وهو في هذا بفتح الصاد، وقال لبيد:
وخصم كنادي الجن أسقطت شأوهم ... بمستحصد ذي مرة وضروع
يريد برأي سديد وثيق محكم، ومحلوج: اسم المفعول من قولهم "حلج القطن يحلجه -من مثال ضرب ونصر" إذا ندفه، وقطن حليج ومحلوج: مندوف، أي قد استخرج منه الحب، وصانع ذلك هو الحلاج كالعطار والقصاب، وصناعته الحلاجة كالعطارة والقصابة، والمحلج والمحلجة والمحلاج: الخشبة أو الحجر الذي يندف عليه، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "محلوج" فإن الرواية فيه بالجر مع أنه نعت لقوله "قطنا المنصوب على أنه مفعول به لقوله "ضربت" وذلك لأن هذه الكسرة ليست الحركة التي اقتضاها العامل، وإنما هي كسرة المجاورة، فهو منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة.
[391] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من شواهد سيبويه "1/ 217" وشواهد ابن جني في الخصائص "3/ 221" وقد نسبه سيبويه إلى العجاج، وأقر الأعلم هذه النسبة، وقد =

(2/495)


فخفض "المُرْمَلِ" على الجوار، وكان ينبغي أن يقول: "المرملا" لكونه وَصْفًا
__________
= كرر البغدادي ذكره في شرح الشاهد رقم 349 من الخزانة "2/ 321" وبعد هذا البيت قوله:
على ذرى قلامه المهدل ... سبوب كتان بأيدي الغزل
المرمل -بوزن اسم المفعول- أي المنسوج، والقلام -بضم القاف وتشديد اللام- ضرب من النبت، والمهدّل أي المسترسل، والسبوب: الشقق أي قطع الكتان. شبه نسيج العنكبوت على ما نبت من القلام حول المنهل بشقق من الكتان بأيدي الغازلات ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "المرمل" فإنه مجرور بدليل روي الأبيات التي ذكرناها لك مما يليه، وهو صفة لنسج العنكبوت المنصوب لكونه اسم كأن، ومتى كان من المقرر الذي لا يحتمل التردد أن النعت يجب أن يطابق منعوته في حركة إعرابه كان من المسلم به أن هذه الكسرة التي في "المرمل" ليست هي الحركة التي اقتضاها العامل؛ لأن العامل يتقضي فتحة، فهو إذًا منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة، قال الأعلم "الشاهد فيه جر المرمل على العنكبوت نعتًا لها في اللفظ لقرب جوارها منه، وكان الخليل رحمه الله لا يجيز مثل هذا حتى يكون المتجاوران مستويين في التعريف والتنكير، والتأنيث والتذكير، والإفراد والتثنية والجمع، كقولهم: هذا جحر ضب خرب، وجحرًا ضبين خربين، وجحرة ضباب خربة، وسيبويه يجيز الحمل على الجوار وإن اختلف المتجاوران، إذا لم يشكل المعنى، كقولك: هذان جحرا ضب خربين، وهذا جحر ضبين خرب، واحتج ببيت العجاج هذا، لأنه حمل المرمل وهو مذكر على العنكبوت وهي مؤنثة، والمرمل من وصف الغزل في الحقيقة" ا. هـ، قال أبو رجاء: وقد قال قوم: إنه ليس في هذا البيت رد على الخليل، لأن العنكبوت تذكر وتؤنث، فيجوز أن يكون هنا مذكرًا، فلا يصلح البيت ردًّا عليه، ومثله مما ذكروه في سبيل الرد على الخليل قول الحطيئة، وأنشده ابن جني "3/ 220" والرضي لذلك، وشرحه البغدادي "2/ 321".
فإياكم وحية بطن وادٍ ... هموز الناب ليس لكم بسي
وحية البطن وادٍ: أراد نفسه، يريد أنه يحمي ناحيته ويذود عما يحميه فيجب عليهم أن يتقوه ويحذروا صولته، وهموز الناب: مأخوذ من الهمز وهو الضغط والغمز، وليس لكم بسي: أي ليست مثلكم ولا مستوية معكم، بل فوقكم وأعلى منكم، والاستشهاد به عندهم في قوله: "هموز الناب" فإن الرواية في هذه الكلمة بجر "هموز" مع أنها نعت للحية المنصوب على التحذير، وقد جرَّ الشاعر هذه الكلمة لأنها في مجاورة كلمة مجرورة وهي قوله: "وادٍ" والهموز مؤنثة لكونها صفة للحية والوادي مذكر، فدلَّ على أنه لا يلزم في الجرّ للمجاورة أن يكون المتجاوران متساويين في التذكير والتأنيث، كما ذهب إليه الخليل بن أحمد، بل يجوز مع تخالفهما في التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، وفي الإفراد والتثنية والجمع، على ما قررناه لك من قبل، قال ابن جني "جر هموز لمجاورته الواد مع اختلاف المضاف والمضاف إليه تذكيرًا وتأنيثًا، فإن =

(2/496)


للنسج، لا للعنكبوت، ومن ذلك قولهم: "جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ" فخفضوا خربًا على الجوار، وكان ينبغي أن يكون مرفوعًا؛ لكونه في الحقيقة صفة للجحر، لا للضّبّ، فكذلك ههنا: جواب الشرط كان ينبغي أن يكون مرفوعًا، إلا أنه جزم للجوار، ولهذا إذا حلت بينه وبين فعل الشرط بالفاء أو بإذا رجع إلى الرفع، وقال الله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً ولا رَهَقاً} [الج-ن: 13] وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] .
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو حرف الشرط وذلك لأن حرف الشرط يقتضي جواب الشرط كما يقتضي فعل الشرط، وكما وجب أن يعمل في فعل الشرط فكذلك يجب أن يعمل في جواب الشرط.
وأما من ذهب إلى أن حرف الشرط وفعل الشرط يعملان في جواب الشرط فقال: إنما قلنا ذلك لأن حرف الشرط وفعل الشرط يقتضيان جواب الشرط؛ فلا ينفك أحدهما عن صاحبه، فلما اقتضياه معًا وجب أن يعملا فيه معًا؛ كما قلنا في الابتداء والمبتدأ أنهما يعملان في الخبر، فكذلك ههنا، غير أن هذا القول وإن اعتمد عليه كثير من البصريين فلا ينفك من ضعفٍ، وذلك لأن فعل الشرط فعل، والأصل في الفعل أن لا يعمل في الفعل، وإذ لم يكن للفعل تأثير في أن يعمل في الفعل، و"إنْ" له تأثير في العمل في الفعل؛ فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له.
والتحقيق فيه عندي أن يقال: إنَّ "إن" هو العامل في جواب الشرط بواسطة فعل الشرط؛ لأنه لا ينفك عنه؛ فحرف الشرط يعمل في جواب الشرط عند وجود فعل الشرط، لا به، كما أن النار تسخن الماء بواسطة القدر والحطب؛ فالتسخين إنما حصل عند وجودهما، لا بهما؛ لأن التسخين إنما حصل بالنار
__________
= حية مؤنث وما بعدها مذكر" ا. هـ، وفي هذه الكلام شيآن: الأول: أنه جعل خلاف الخليل وسيبويه في المضاف والمضاف إليه، والأعلم يجعله في المتجاورين اللذين هما المضاف إليه وما جر لمجاورته إياه، ويمكن في كلام سيبويه أن يحمل على كل واحد من هذين، لكني أستبعد أن يكون الخلاف بينهما في مساواة المضاف والمضاف إليه فيما ذكرنا، بل ينبغي أن يكون الخلاف بينهما في المتجاورين على ما فهمه الأعلم، والثاني: أن هذا البيت مثل بيت العجاج؛ لأن الحية يقال على الذكر وعلى الأنثى، والعرب تقول: حيّة ذكر، فيجوز أن يقال: إنه عنى هنا الحية الذكر، والبطن مذكر، فقد اتفق المضاف والمضاف إليه على كلام ابن جني، ويجوز أن يقال: إن هموز مذكر لكونه وصفًا للحية الذكر، والوادي مذكر، فاتفق المتجاوران تذكيرًا وتأنيثًا على ما هو كلام الأعلم، فاعرف هذا وتنبه له.

(2/497)


وحدها فكذلك ههنا؛ إنْ هو العامل في جواب الشرط عند وجود فعل الشرط لا أنه عامل1 معه.
وأما من ذهب إلى أن حرف الشرط يعمل في فعل الشرط، وفعل الشرط يعمل في جواب الشرط، فقال: لأن حرف الشرط حرف جزم، والحروف الجازمة ضعيفة فلا تعمل في شيئين، فوجب أن يكون فعل الشرط هو العامل.
وهذا القول ضعيف أيضًا؛ لأنه يؤدي إلى إعمال الفعل في الفعل. وقولهم: "الحروف الجازمة ضعيفة فلا تعمل في شيئين" باطل؛ لما بينا من وجه مناسبته للعمل في الشرط وجوابه لاقتضائه لهما، بخلاف غيره من الحروف الجازمة؛ فإنها لما اقتضت فعلًا واحدًا عملت في شيء واحد، وحرف الشرط لما اقتضى شيئين وجب أن يعمل في شيئين قياسًا على سائر العوامل.
فأما من ذهب إلى أنه مبني على الوقف فقال: لأن الفعل المضارع إنما أعرب بوقوعه موقع الاسم، وجواب الشرط لا يقع موقع الاسم؛ لأنه ليس من مواضعه؛ فوجب أن يكون مبنيًّا على أصله، فكذلك فعل الشرط2.
وهذا القول ليس بمعتدّ به عند البصريين؛ لظهور فساده؛ لأنه لو كان الأمر على ما زعمتم لكان ينبغي أن لا يكون الفعل معربا بعد أن وكي وإذن، وكذلك أيضًا بعد لم ولما ولام الأمر ولا في النهي؛ لأن الاسم لا يقع بعد هذه الأحرف؛ فكان ينبغي أن يكون الفعل بعدها مبنيا؛ لأنه لم يقع موقع الاسم؛ فلما انعقد الإجماع في هذه المواضع على أنه معرب، وأنه منصوب بدخول النواصب ومجزوم بدخول الجوازم؛ دلَّ على فساد ما ذهب إليه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] فلا حجة لهم فيه؛ لأن قوله: {وَالْمُشْرِكِينَ} ليس معطوفًا على {الَّذِينَ كَفَرُوا} وإنما هو معطوف على قوله: {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} فدخله الجر لأنه معطوف على مجرور، لا على الجوار.
وأما قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأنه على قراءة من قرأ بالجر ليس معطوفا على قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وإنما هو معطوف على قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ} على أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل، وقال أبو زيد
__________
1 في ر "إلا أنه عامل معه" ولا يستقيم مع ما قرره.
2 الظاهر أن عبارة "فكذلك فعل الشرط" مقحمة إذ لا مؤدى لها.

(2/498)


الأنصاري: المسح خفيف الغسل، وكان أبو زيد الأنصاري من الثقات الأثبات في نقل اللغة، وهو من مشايخ سيبويه، وكان سيبويه إذا قال "سمعت الثقة" يريد أبا زيد الأنصاري.
والذي يدل على ذلك قوله: "تمسحت للصلاة" أي توضأت، والوضوء يشتمل على ممسوح ومغسول، والسر في ذلك أن المتوضئ لا يقنع بصب الماء على الأعضاء حتى يمسحها مع الغسل؛ فلذلك سمي الغسل مسحًا، فالرأس والرجل ممسوحان، إلا أن المسح في الرجل المراد به الغسل لبيان السنة، ولولا ذلك لكان محتملًا، والذي يدل على أن المراد به الغسل ورود التحديد في قوله: {إِلَى الكَعْبَيْنِ} والتحديد إنما جاء في المغسول لا في الممسوح، وقال قوله: الأرجل معطوفة على الرأس في الظاهر، لا في المعنى، وقد يعطف الشيء على الشيء والمعنى فيهما مختلف، قال الشاعر:
[392]
إذا ما الغانيات بَرَزْنَ يومًا ... وزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
فعطف العيون على الحواجب وإن كانت العيون لا تُزَجَّجَ، وقال الآخر:
[334]
تراه كأن الله يَجْدَعُ أَنْفَهُ ... وعينيه إِنْ مولاه ثَابَ له وَفْرُ
__________
[392] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 587" وفي أوضح المسالك "رقم 259" وفي شرح شذور الذهب "رقم 116" وابن جني في الخصائص "2/ 432" وابن عقيل "رقم 299" والأشموني "رقم 442" والرضي، وشرحه البغدادي "3/ 91 و4/ 173" والبيت من كلام الراعي النميري، واسمه عبيد بن حصين، وبرزن ظهرن، تقول "برز فلان يبرز بروزا -على مثال قعد يقعد قعودا" إذا ظهر، وزجّجن أي دققن، وتقول: رجل أزجّ، وامرأة زجّاء؛ إذا كان كل منهما قد دقق حاجبيه ورققهما في طول، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "والعيونا" فإن ظاهر الأمر أن هذه الكلمة معطوفة على الحواجب" مع أن العامل في المعطوف عليه لا يصح أن يتسلط على المعطوف؛ لأن العيون لا تزجج، وإنما تكحل، مثلًا، ومن أجل هذا لم يرتض المحققون والأثبات من العلماء أن تكون هذه الواو قد عطفت كلمة العيون على كلمة الحواجب مع بقاء معنى كلمة زججن على معناها الأصلي الذي ذكرناه، بل ذهبوا إلى أحد طريقين: الأول: أن يكون قوله "العيونا" مفعولًا به لفعل محذوف يناسبه، وكأنه قال: زججن الحواجب وكحلن العيونا، وتكون الواو قد عطفت جملة على جملة، والطريق الثاني: أن تتوسع في كلمة "زججن" فتجعل المراد بها حسّنّ أو جملن أو ما أشبه ذلك مما يصح أن يتسلط على المعطوف والمعطوف عليه جميعًا، وعلى هذا تكون الواو قد عطفت مفردا على مفرد، وقد بينا لك ذلك بيانا وافيا في الكلام على الشاهد رقم 334 الذي سبق في المسألة 70 ومن هنا تعلم أن قول المؤلف إنهم عطفوا الثاني على الأول في مثل هذا البيت كلام مبني على الظاهر، ولا شيء فيه من التحقيق.

(2/499)


فعطف عينيه على أنفه، وإن كانت العينان لا توصفان بالجدع؛ وقال لبيد:
[393]
فَعَلَا فروع الأَيْهُقَانِ وأَطْفَلَتْ ... بالجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا ونَعَامُهَا
فعطف نعامها على ظباؤها، والنعام لا تُطْفِلُ، وإنما تَبِيضُ، وقال الآخر:
[394]
يالليت بَعْلَكِ في الوَغَى ... متقلّدًا سيفًا ورُمْحًا
__________
[393] هذا هو البيت السادس من معلقة لبيد بن ربيعة العامري "انظر شرح التبريزي على المعلقات العشر ص127 ط السلفية" وهو من شواهد ابن جني في الخصائص "2/ 432" ويروى "فغلا فروع الأيهقان" بالغين معجمة ورفع فروع الأيهقان، ويروى "فاعتم نور الأيهقان" ومن روى "فعلا" بالعين مهملة رفع فروع الأيهقان أو نصبه، فأما من روى "فغلا" بغين معجمة فرفع فروع الأيهقان، ومعناه عنده ارتفع وزاد، من قولهم "غلا السعر" إذا ارتفع، وقولهم "غلا الصبي يغلو" إذا شب، والمعنى كذلك عند من روى "فاعتم نور الأيهقان" وعند من روى "فعلا فروع الأيهقان" بالعين المهملة مع رفع الفروع، فأما من روى بنصب الفروع فقد جعل في علا ضميرا مستترا يعود إلى السيل، والمعنى أن السيل قد ارتفع حتى علا فروع الأيهقان وجاوزها، والرفع أجود معنى، لأن الغرض وصف هذه الأرض بالنماء والخصب وأن ما فيها قد عاش ونما، ولأنه المناسب لما بعده، وأطفلت: أي صارت ذات طفل أي ولد، والفروع: الأعالي، واحدها فرع، والجلهتان: جانبا الوادي، وموطن الاستشهاد من هذا البيت قوله "وأطفلت ظباؤها ونعامها" فإن ظاهره أن قوله: "نعامها" معطوف على قوله: "ظباؤها" فيكون الفعل الذي عمل في المعطوف عليه هو العامل في المعطوف وأهل العربية لا يقولون "أطفلت النعامة" وإنما يقولون في هذا المعنى أفرخ النعام أو باض النعام؛ ولهذا يرى أهل التحقيق من النحاة أن العامل في "نعامها" محذوف، والتقدير: أطفلت ظباؤها وأفرخت نعامها، أو أطفلت ظباؤها وباضت نعامها، وعلى هذا تكون الواو قد عطفت جملة "وأفرخت نعامها" على جملة "أطفلت ظباؤها" أو يكون الشاعر قد توسع في معنى "أطفلت" فصيره كقولك "أنتجت" وما يؤدي مؤداه، وحينئذ يصح تسلطه على كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه، ويرد على المؤلف ما أوردناه عليه في شرح الشاهد السابق، ونظير ذلك أيضًا قول لبيد في المعلقة نفسها:
بطليح أسفار تركن بقية ... منها فأحنق صلبها وسنامها
الطليح: الناقة التي أعيت وتعبت، وأحنق، أي ضمر، والاستشهاد به في قوله: "أحنق صلبها وسنامها" فإن ظاهره أن قوله "سنامها" معطوف على قوله "صلبها" فيكون قوله "أحنق" مسلطا عليهما جميعا، وقد قال نقلة اللغة: إنه يقال: "أحنق صلب الناقة" أي ضمر وهزل، ولا يقال "أحنق سنام الناقة" وإنما يقال: ذهب سنامها فيئول بأحد التأويلين السابقين، ومن العلماء من أجاز أن تقول "أحنق السنام" وأغلب ظني أنه إنما أجازه على تضمين أحنق معنى دق أو فني أو ذهب أو ما أشبه ذلك.
394- هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص224" وكامل المبرد "1/ 196 و218 الخيرية، رغبة الآمل 3/ 234" وخصائص ابن جني "2/ 431" وأنشده ابن منظور

(2/500)


فعطف "رمحًا" على "سيفًا" وإن كان الرمح لا يتقلّد، وقال الآخر:
[395]
علفتها تبنًا وماء باردًا ... حتى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
__________
"ق ل د" وصحة الرواية "يا ليت زوجك قد غدا" وهو -كما قال الأخفش- من كلام عبد الله بن الزبعرى، ومحل الاستشهاد منه قوله "متقلدًا سيفا ورمحا" فإن ظاهره أن قوله "رمحًا" معطوف على قوله "سيفا" فيكون قوله "متقلدا" مسلطًا وعاملًا في المعطوف والمعطوف عليه جميعا، وقد قال علماء اللغة: إنه يقال: تقلد فلان سيفه، ولا يقال: تقلد رمحه، وإنما يقال: حمل رمحه، وقالوا "المقلد" -بضم الميم وفتح القاف وتشديد اللام مفتوحة- لموضع نجاد السيف من كتف الرجل، والكلام في هذا كالكلام الذي ذكرناه في الشواهد السابقة: إما أن يكون "رمحا" مفعولا لمحذوف، أي متقلدا سيفا ومعتقلا رمحا، وإما أن يكون متقلدا" قد ضمن معنى يصح تسلطيه على المعطوف والمعطوف عليه جميعا كحامل، قال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت "يريد متقلدًا سيفًا ومعتقلًا رمحًا؛ لتعذر حمله على ما قبله، لأنه لا يقال: تقلّدت الرمح" ا. هـ.
[395] هذا البيت أنشده ابن منظور "ق ل د" وهو من شواهد ابن جني في الخصائص "2/ 431" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 258" وفي شرح شذور الذهب "رقم 115" وابن عقيل "رقم 165" والأشموني "رقم 441" وابن الناظم في باب المفعول معه من شرح الألفية، وشرحه العيني "3/ 101 بهامش الخزانة" والسيد المرتضي في أماليه "2/ 259 ط الحلبي" وتقول: علفت الدابة أعلفها -من باب ضرب- تريد أطعمتها، والتبن -بكسر التاء وسكون الباء- هو قصب الزرع بعد أن يداس، وهمالة: صيغة مبالغة من قولهم: هملت عين فلان؛ إذا أرسلت دمعها إرسالًا، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "وماء" فإن ظاهره أنه معطوف بالواو على قوله "تبنًا" ولو كان معطوفا على التبن لكان الواجب أن يتسلط على المعطوف الفعل العامل في المعطوف عليه وهو قوله علفتها، ولكنك تعلم أنه يقال: علفت الدابة تبنا، ولا يقال: علفتها ماء. ولكن يقال: سقيتها ماء، ومن أجل هذا وجب واحد من أمرين: الأول: أن يكون قوله "ماء" مفعولا به لفعل محذوف -والتقدير: وسقيتها ماء- وتكون جملة الفعل المحذوف ومعمولاته معطوفة على جملة علفتها تبنًا، والأمر الثاني: أن تضمن علفتها معنى فعل يصح أن تسلطه على المعطوف والمعطوف عليه جميعًا مثل أنلتها أو قدمت لها أو ما أشبه هذين، ونظير هذا البيت والأبيات السابقة قول طرفة بن العبد البكري.
أعمرو بن هند ما ترى رأي صرمة ... لها سبب ترعى به الماء والشجر
والاستشهاد بهذا البيت في قوله "ترعى به الماء والشجر" فإن ظاهره غير صحيح لأنه يقال: رعت الماشية الشجر، ولا يقال: رعت الماء، وإنما يقال: شربت الماء، ومن أجل هذا يجب أن تقدر فعلا يعمل في الماء؛ وكأنه قد قال: لها سبب تشرب به الماء وترعى الشجر، وإما أن تضمن ترعى معنى فعل يصح تسلطه على المعطوف والمعطوف عليه جميعا مثل تتناول، وفي بيت طرفة هذا لطيفة، وحاصلها أن الذي منع من صحة تسلط العامل المذكور فيه هو المعطوف عليه، وفي كل الأبيات السابقة كان المانع هو المعطوف، فتأمل.

(2/501)


فعطف ماء على تبنًا، وإن كان الماء لا يعلف، وقال الآخر:
[396]
شرَّاب أَلْبَان وتمر وأَقِطْ
فعطف تمرا على ألبان، وإن كان التمر لا يشرب، فكذلك عطف الأرجل على الرءوس وإن كانت لا تُمْسَحُ.
وأما قول زهير:
[254]
" ... سَوَافِي المُورِ والقَطْرِ
فلا حجة لهم فيه؛ لأنه معطوف على المور وهو الغبار، وقولهم: "لا يكون معطوفا على المور لأنه ليس للقطر سواف" قلنا: يجوز أن يكون قد سمى ما تسفيه الريح منه وقت نزوله سوافي كما يسمى ما تسفيه الريح من الغبار سوافي.
وأما قوله الآخر:
[391]
كأن نسج العنكبوت المُرْمَلِ
فنقول الرواية "المرمل" بكسر الميم، فيكون من وصف العنكبوت لا النسج،
__________
[396] هذا بيت من الرجز المشطور، وقد أنشده أبو العباس المبرد في الكامل "1/ 196 و218 الخيرية، رغبة الآمل 3/ 234" من غير عزو، ولم يتعرض له الأخفش بشيء، والألبان: جمع لبن، وهو معروف، والتمر: معروف أيضًا، والأقط -بفتح الهمزة وكسر القاف وآخره طاء مهملة- وهو طعام يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل، وقد يقال: أقط فلان القوم يأقطهم -من مثال ضرب يضرب- إذا أطعمهم الأقط، كما يقال "لبنهم" أي أطعمهم اللبن، و"لبأهم" أي أطعمهم اللبأ، وحكى اللحياني: أتيت بني فلان فخبزوا وأقطوا وحاسوا، أي أطعموني الخبز والأقط والحيس، هكذا حكاه اللحياني من غير أن تعدى هذه الأفعال. ومحل الشاهد في هذا البيت قوله "وتمر" فإن ظاهره أن هذه الكلمة معطوفة بالواو على قوله "ألبان" فيكون قوله "شراب" مسلطا على المعطوف والمعطوف عليه، لكن كل من التمر والأقط مطعوم مأكول، لا مشروب، كما هو واضح، ولهذا خرجه العلماء على أحد وجهين: الأول: أن تقدر عاملا للتمر يكون معطوفا على شراب، والتقدير على هذا: شراب ألبان وطعام تمر وأقط، والثاني: أن تتوسع في شراب فتضمنه معنى كلمة أخرى يصح أن تتسلط على المعطوف والمعطوف عليه جميعًا، والتقدير على هذا: متناول ألبان وتمر وأقط، وهذا واضح إن شاء الله.
ومن شواهد هذه المسألة ما أنشده ابن جني "الخصائص 2/ 432" والمرتضى "الأمالي 2/ 259" من قول الراجز:
تسمع للأحشاء منه صردًا ... وفي اليدين جسأة وبددا
الجسأة -بالضم- الصلابة واليبس، والبدد: التفرق، وكل من الصلابة والتفرق لا يسمع، فوجب أن تقدر لهما فعلًا، وكأنه قال: وترى في اليدين جسأة وبددا، أو تضمن قوله تسمع معنى فعل يصح أن يتسلط على كل من الصرد والصلابة والتفرق، وكأنه قال: تحس منه.

(2/502)


وإن كانت الرواية التي ذكرتم صحيحة وأنه مجرور على الجوار، إلا أنه لا حجة فيه؛ لأن الحمل على الجوار من الشاذ الذي لا يعرج عليه.
وكذلك قوله:
[390]
قُطْنًا بمُسْتَحْصِدِ الأوتار مَحْلُوجِ
وقولهم: "جحر ضبّ خرب" محمول على الشذوذ الذي يقتصر فيه على السماع لقلته، ولا يقاس عليه؛ لأنه ليس كل ما حكي عنهم يقاس عليه، ألا ترى أن اللحياني حكى أن من العرب من يجزم بلن وينصب بلم، إلى غير ذلك من الشواذ التي لا يلتفت إليها ولا يقاس عليها، فكذلك ههنا، والله أعلم.

(2/503)


85- مسألة: [عامل الرفع في الاسم المرفوع بعد "إن" الشرطية] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا تقدم الاسم المرفوع بعد "إن" الشرطية نحو قولك "إنْ زيدٌ أتاني آتِهِ" فإنه يرتفع بما عاد إليه من الفعل من غير تقدير فعل.
وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بتقدير فعل، والتقدير فيه: إن أتاني زيد، والفعل المظهر تفسر لذلك الفعل المقدر.
وحكي عن أبي الحسن الأخفش أنه يرتفع بالابتداء.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا تقديم المرفوع مع "إن" خاصة وعملها في فعل الشرط مع الفصل لأنها الأصل في باب الجزاء؛ فلقوتها جاز تقديم المرفوع معها، وقلنا إنه يرتفع بالعائد لأن المكني المرفوع في الفعل هو الاسم الأول؛ فيبنغي أن يكون مرفوعًا به، كما قالوا: "جاءني الظريف زيد" وإذا كان مرفوعًا به لم يفتقر إلى تقدير فعل.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يرتفع بتقدير فعل لأنه لا يجوز أن يُفْصَل بين حرف الجزم وبين الفعل باسم لم يعمل فيه ذلك الفعل، ولا يجوز أن يكون الفعل ههنا عاملا فيه؛ لأنه لا يجوز تقديم ما يرتفع بالفعل عليه، فلو لم يقدر ما يرفعه لبقي الاسم مرفوعًا بلا رافع، وذلك لا يجوز؛ فدلَّ على أن الاسم يرتفع بتقدير فعل، وأن الفعل المظهر الذي بعد الاسم يدل على ذلك المقدر.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنما جوزنا تقديم المرفوع مع "إنْ" خاصة لقوتها لأنها الأصل في باب الجزاء دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازى بها" قلنا: نسلم أن "إنْ" هي الأصل في باب الجزاء، ولكن
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "2/ 61" وشرحنا الكبير على شرح الأشموني "2/ 239 وما بعدها" وكتاب سيبويه "1/ 67 وما يليها" ومفصل الزمخشري "1/ 149 بتحقيقنا" وشرح الرضي على الكافية "2/ 237" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1213".

(2/504)


هذا لا يدل على جواز تقديم الاسم المرفوع بالفعل عليه؛ لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما يرتفع بالفعل عليه، وذلك لا يجوز؛ لأنه لا نظير له في كلامهم، فوجب أن يكون مرفوعًا بتقدير فعل، ويكون الفعل الظاهر مفسرًا له، بلى لما كانت "إن" هي الأصل اختصت بجواز تقديم المرفوع1 بتقدير فعل مع الفعل الماضي خاصة، دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازى بها؛ لأنها هي الأصل، وتلك الأسماء والظروف فرع عليها، والأصل يتصرف ما لا يتصرف الفرع، ألا ترى أن همزة الاستفهام لما كانت هي الأصل في حروف الاستفهام جاز فيها ما لم يجز في غيرها من حروف الاستفهام؟ فكذلك ههنا.
وأما قول عدي:
[397]
فمتي وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عليه كأس الساقي
وقال الآخر:
[398]
صعدة نابتة في حائرٍ ... أينما تُمَيِّلْهَا تَمِلْ
__________
[397] هذا البيت من كلام عدي بن زيد العبادي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 458" وابن يعيش "ص1214" ورضي الدين في باب الاشتغال وباب الجوازم من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 456 و3/ 639" والواغل -بالغين المعجمة- وهو الرجل يدخل على الشرب من غير أن يدعوه، يقال: وغل يغل -من مثال وعد يعد- وغلا فهو واغل وهو أيضًا وغل -بسكون الغين- والذي يدخل على القوم وهم يأكلون من غير أن يدعوه أحد يقال له: وارش، أو طفيلي، وينبهم: أي ينزل بهم، ويروى في مكانه "يزرهم" ويروى أيضًا "يجبهم" و"تعطف" مضارع مبني للمجهول، والكأس: وعاء الخمر، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "متى واغل ينبهم" فإن الشاعر فصل بالاسم المرفوع بين أداة الشرط وفعل الشرط، وقد خرجه النحاة على أن هذا الاسم المرفوع فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعد، وتقدر الكلام: متى ينبهم واغل ينبهم، قال الأعلم "الشاهد فيه تقديم الاسم على الفعل في متى، مع جزمها له، ضرورة، وارتفاع الاسم بعدها بإضمار فعل يفسره الظاهر، لأن الشرط لا يكون إلا بالفعل" ا. هـ. وفي عبارته هذه مؤاخذة؛ لأنه -وقد جعل الاسم المرفوع بعد أداة الشرط معمولا لفعل محذوف يلي أداة الشرط- لا يكون الاسم المرفوع متقدمًا، بل هو -على هذا- واقع في موقعه، فتنبه لهذا.
[398] هذا البيت من كلام كعب بن جعيل بن قمير -بضم أولهما على زنة التصغير- ابن عجرة، أحد بني تغلب بن وائل، وهو شاعر إسلامي كان في عهد معاوية بن أبي سفيان
__________
1 محصل هذا الكلام أن إن الشرطية تختص من بين سائر أدوات الشرط بجواز وقوع اسم مرفوع بعدها، بشرط أن يكون الفعل التالي للاسم المرفوع ماضيا، وارتفاع هذا الاسم بفعل مقدر عند البصريين أصحاب هذا الكلام، وليس مقدما على عامله كما يقول الكوفيون.

(2/505)


وقول الآخر:
[399]
فمن نحن نُؤْمِنْهُ يَبِتْ وهو آمِنٌ ... ومَنْ لا نُجِرْه يُمْسِ مِنَّا مُفَزَّعَا
فهو ضعيف لا يجوز في الكلام؛ لأنه قدر الفعل بعد متى وأينما ومَنْ، وهي
__________
والبيت من شواهد سيبويه "1/ 458" وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1214" وشواهد رضي الدين في باب الاشتغال وباب الجوازم من شرح الكافية وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 457" وشواهد ابن عقيل "رقم 336" والأشموني "رقم 1066" وابن الناظم في باب الجوازم، وشرحه العيني "4/ 434" وقبل هذا البيت مما يبين معناه قوله:
وضجيع قد تعللت به ... طيب أردانه غير تفل
والصعدة -فتح فسكون- القناة التي تنبت مستوية، والحائر: المكان الذي يكون وسطه منخفضا وحروفه مرتفعه عالية، وإنما جعل الصعدة في هذا المكان لأنه يكون أنعم لها وأسد لنبتتها، شبه امرأة بقناة مستوية لدنة قد نبتت في مكان مطمئن الوسط مرتفع الجوانب والريح تعبث بها وهي تميل مع الريح، وموطن الاستشهاد من هذا البيت قوله "أينما الريح تميلها" حيث وقع اسم مرفوع بعد أداة الشرط، ووقع بعد هذا الاسم المرفوع فعل مضارع مجزوم ضرورة، وقد خرج النحاة ذلك على أن الاسم المرفوع فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل المتأخر، وهذا الفعل المحذوف هو فعل الشرط، وقد دعاهم إلى هذا أنهم يرون أدوات الشرط تختص بالأفعال، ولا يجوز أن تليها الأسماء المرفوعة على الابتداء، فإن وليها اسم مرفوع فإن كانت الأداة "إن" والفعل المتأخر ماضيًا جاز ذلك، ثم اختلفوا في رافع هذا الاسم الخلاف الذي ذكره المؤلف، وإن كانت الأداة غير "إن" أو كان الفعل غير ماضٍ لم يكن ذلك جائزًا إلا أن يضطر إليه شاعر، وحينئذ يكون ارتفاعه على ما ذكرنا. قال سيبويه "واعلم أن قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا، إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره، كما كان في قولك: إن زيدا رأيته يكن ذلك؛ لأن إن لا تبتدأ بعدها الأسماء ثم يبنى عليها" ا. هـ.
[399] هذا البيت من كلام هشام المري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 458" ورضي الدين في باب الجوازم من شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "3/ 640" وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 652" ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "فمن نحن نؤمنه" حيث وقع الضمير المنفصل المرفوع بعد أداة الشرط وبعده فعل مضارع مجزوم، فيظن من لا علم عنده أن هذا المضارع المجزوم قد عملت فيه أداة الشرط المذكورة، ولكن النحاة البصريين لا يرون ذلك، ويجعلون الضمير المنفصل فاعلا بفعل محذوف يفسره هذا الفعل المذكور بعده، وتقدير الكلام: فمن نؤمنه نؤمنه، فلما حذف فعل الشرط الذي هو الفعل الأول من هذين الفعلين وفيه ضمير مستتر واجب الاستتار تقديره نحن برز هذا الضمير فصار الكلام: فمن نحن نؤمنه، فهذا الضمير البارز المنفصل المرفوع هو الضمير الذي كان مستترًا في الفعل المحذوف، وهذا الفعل المذكور جيء به تفسيرًا وبيانًا لذلك الفعل المحذوف، فاعرف هذا، وكن منه على ثبت.

(2/506)


فرع على إنْ، ولأنه فعل مضارع يظهر فيه عمل حرفِ الجزمِ، وذلك ضعيف في إنْ في الكلام، فإنما يجوز في الشعر، وإذا كان ذلك ضعيفًا في إن وهي الأصل ففيما هو فرع عليه أولى، ولو كان فعلًا ماضيًا لكان في هذه المواضع أسهل؛ إذ كان ذلك جائزا في إنْ في الكلام دون غيرها، وهذا كله شيء يختص بالشعر، ولا يجوز في الكلام.
وأما قولهم: "إنه يرتفع بالعائد؛ لأن المَكْنِيَّ المرفوعَ في الفعل هو الاسم الأول فينبغي أن يكون مرفوعًا به كما قالوا: جاءني الظريف زيد" قلنا: هذا باطل؛ لأن ارتفاع زيد في "جاءني الظريفُ زيدٌ" إنما كان على البدل من الظريف، وجاز أن يكون بدلا لتأخر البدل عن المبدل منه، فأما ههنا فلا يجوز أن يكون بدلا؛ لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه، وقد بينا بطلان الرفع بالعائد في موضعه بما يغني عن الإعادة ههنا.
وأما ما ذهب إليه أبو الحسن الأخفش من أنه يرتفع بالابتداء ففاسد؛ وذلك لأن حرف الشرط يقتضي الفعل ويختصّ به دون غيره، ولهذا كان عاملًا فيه، وإذا كان مقتضيًا للفعل ولا بد له منه بطل تقدير الابتداء؛ لأن الابتداء إنما يرتفع به الاسم في موضع لا يجب فيه تقدير الفعل؛ لأن حقيقة الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية المظهرة أو المقدرة، وإذا وجب تقدير الفعل استحال وجود الابتداء الذي يرفع الاسم.
وبهذا يبطل قول من ذهب من الكوفيين وغيرهم إلى أن الاسم بعد "إذا" مرفوع لأنه مبتدأ إما بالترافع أو بالابتداء في نحو قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] لأن "إذا" فيها معنى الشرط، والشرط يقتضي الفعل؛ فلا يجوز أن يحمل على غيره، والله أعلم.

(2/507)