الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 86- مسألة: [هل يجوز تقديم اسم مرفوع أو
منصوب في جملة جواب الشرط؟ وما يترتب عليه؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا تقدم الاسم المرفوع في جواب الشرط فإنه لا
يجوز فيه الجزم، ووجب الرفع، نحو "إن تأتِنِي زيدٌ يكرِمُك" واختلفوا
في تقديم المصنوب في جواب الشرط نحو "إن تأتني زيدا أكرم" فأباه أبو
زكرياء يحيى بن زياد الفراء، وأجازه أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي.
وذهب البصريون إلى أن تقديم المرفوع والمنصوب في جواب الشرط كله جائز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجزم،
وذلك لأن جزم جواب الشرط إنما كان لمجاورته فعل الشرط، فإذا فارقه
بتقديم الاسم بطلت المجاورة الموجبة للجزم، فبطل الجزم، وإذا بطل الجزم
وجب فيه الرفع.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز، وذلك لأنه يجب
أن يقدر فيه فعل كما وجب التقدير مع تقديم الاسم على فعل الشرط؛ لأن
حرف الشرط يعمل فيهما، على ما بينا، فكما وجب التقدير مع تقديمه على
فعل الشرط فكذلك مع تقديمه على جواب الشرط، ولا فرق بينهما.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنما قلنا: إنه لا يجوز
فيه الجزم؛ لأن الجزم في جواب الشرط إنما كان لمجاورته فعل الشرط؛ فإذا
فارقه بتقديم الاسم وجب أن يبطل الجزم" قلنا: قد ذكرنا بطلان كون
المجاورة موجبة للجزم في موضعه وبينا فساده بما يغني عن الإعادة.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الرضي على كافية ابن الحاجب "2/ 238"
(2/508)
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه الفراء من
منع جواز تقديم المنصوب قول طُفَيْلٍ الغَنَوِي:
[400]
وللْخَيْلِ أَيَّامٌ؛ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لهَا ... ويعرف لها أيَّامَهَا
الخَيْرَ تُعْقِبِ
فنصب "الخير" بتعقب، وتقديره: تعقب الخير، و"تعقب" مجزوم، وإنما كسرت
الباء لأن القصيدة مجرورة، وإنما كان هذا في المجرورة دون المرفوعة
والمنصوبة لوجهين؛ أحدهما: أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء،
فلما
__________
[400] هذا البيت من قصيدة طويلة لطفيل الغنوي -وهو أحد شعراء قيس
الفحول، وكان يلقب "طفيل الخيل" لكثرة وصفه إياها، كان يلقب "المحبر"
لجودة وصفه -وبعد البيت المستشهد به قوله:
وقد كان حيانا عدوين في الذي ... خلا؛ فعلى من كان في الدهر فارتبي
إلى اليوم لم تحدث إليكم وسيلة ... ولم تجدوها عندنا في التنسب
جزيناهم أمس العظيمة؛ إننا ... متى ما تكن منا الوثيقة نطلب
وإنما روينا لك هذه الأبيات لتعلم أن روي هذه القصيدة مكسور لأن لذلك
مدخلا في بيان الاستشهاد بالبيت، والبيت من شواهد رضي الدين في باب
الجوازم، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 642" وقوله "وللخيل أيام"
مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، وقوله: "من يصطبر لها" من اسم شرط، والفعل بعده
مجزوم به على أنه فعل الشرط، وقوله "ويعرف لها أيامها" الفعل معطوف على
فعل الشرط، ولهذا كان مجزوما، والخير: مفعول مقدم لتعقب، وتعقب الخير،
أي تحدث الخير في عاقبة أمرها، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله
"الخير تعقب" فإنه قوله تعقب فعل مضارع واقع جواب الشرط الذي هو "من"
والدليل على أنه جواب الشرط أنه مكسور للرويّ، ولا يجوز أن يكون هذا
الفعل مرفوعًا ولا أن يكون منصوبًا، لأنهم لا يستسيغون كسر الفعل
المضارع لأجل الروي إلا أن يكون مجزومًا، والسر في هذا يرجع إلى أمرين،
الأول: أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، كل واحد منهما يختص
به قبيل منهما، فالجر يختص به الاسم، والجزم يختص به الفعل، فلما وجب
تحريك الفعل المضارع المجزوم لأجل الرويّ حركوه بالحركة التي يختص بها
نظيره وهي الكسرة، والوجه الثاني: أن الفتحة والضمة يدخلان الفعل
المضارع؛ فلو أنهم حركوا المضارع المجزوم بالفتحة أو الضمة حين تدعوهم
الحاجة إلى تحريكه لالتبس الأمر فلم يعرف أهذه الحركة أصلية أم عارضة
لأجل الروي، ولكن إذا كسروا آخره للرويّ وقد علم أن الكسر لا يدخله
بالأصالة علم من أول وهلة أن هذه الكسرة طارئة وليست أصلية، وهذا ظاهر
إن شاء الله أبلغ الظهور، ومتى عرف أن هذا الفعل المضارع مجزوم وقد
سبقه أداة شرط وفعل الشرط علم أنه جواب الشرط. وأن كلمة "الخير" مفعول
به لهذا الفعل تقدم عليه؛ فدل ذلك على أنه يجوز تقديم الاسم المنصوب
بجواب الشرط مع أن جواب الشرط مجزوم؛ فهذا إيضاح كلام المؤلف في هذا
الموضوع وبيانه بأوضح عبارة، والله سبحانه أعلى وأعلم.
(2/509)
وجب تحريكه حركوه حركَةَ النظير، والثاني:
أن الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل، ولا يدخله الجر، فلو حركوه بالضم أو
الفتح لالتبس حركة الإعراب بحركة البناء، بخلاف الكسر؛ فإنه ليس فيه
لَبْسٌ.
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه الفراء من امتناع جواز تقديم المنصوب
أنا أجمعنا على أن المنصوب فَضْلَهٌ في الجملة، بخلاف المرفوع؛ فينبغي
أن لا يعتدّ بتقديمه كتقديم المرفوع، والله أعلم.
(2/510)
87- مسألة: [القول في تقديم المفعول
بالجزاء على حرف الشرط] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط، نحو
"زيدا إن تضربْ أضربْ" واختلفوا في جواز نصبه بالشرط؛ فأجازه الكسائي،
ولم يجزه الفراء.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن ينصب بالشرط ولا بالجزاء.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز تقديم المنصوب
بالجزاء على حرف الشرط؛ لأن الأصل في الجزاء أن يكون مقدمًا على "إنْ"
كقولك: "أَضْرِبُ إنْ تضرب" وكان ينبغي أن يكون مرفوعًا، إلا أنه لما
أُخِّرَ انجزم بالجوار على ما بينا، وإن كان من حقه أن يكون مرفوعًا.
والذي يدل على ذلك قول الشاعر:
[401]
يا أقرعُ بن حابس يا أقرعُ ... إنك إنْ يُصْرَعْ أخوك تصرعُ
__________
[401] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من شواهد سيبويه "1/ 436" وقد
نسبه إلى جرير بن عبد الله البجلي، وأقر الأعلم هذه النسبة، وهو أيضًا
من شواهد رضي الدين في باب المجموع وباب الجوازم من شرح الكافية، وشرحه
البغدادي في الخزانة "3/ 396 و643" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1207"
وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 807" والأشموني "رقم 1083" وابن عقيل
"رقم 342" وشرحه العيني "4/ 430" وذكره العيني والبغدادي أن الرجز ينسب
إلى عمرو بن خثارم البجلي وأسند العيني ذلك إلى الصاغاني، والأقرع بن
حابس: أحد علماء العرب وحكامهم في زمانه، وكان جرير بن عبد الله البجلي
قد تنافر إليه هو وخالد بن أرطاة الكلبي، ويصرع -بالبناء للمجهول- أراد
يهلك، ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "تصرع" فإن الرواية فيه
بالرفع بدليل البيت السابق عليه، وقد اختلف تخريج العلماء لذلك، فأما
سيبويه رحمه الله تعالى فقد جعل جملة "تصرع"
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "2/ 238"
فإن كلامه في هذه المسألة وكلام المؤلف يخرجان من مشكاة واحدة.
(2/511)
والتقدير فيه: إنك تصرعُ إن يُصْرَعْ أخوك،
ولولا أنه في تقديم التقديم، وإلا لما جاز أن يكون مرفوعًا، ولوجب أن
يكون مجزومًا، وقال زهير:
[402]
وإنْ أتاهُ خليل يوم مسألةٍ ... يقول لا غائبٌ ما لي ولا حَرِمُ
__________
خبرًا لإن المؤكدة، وهو مؤخر لفظا والنية به التقديم على أداة الشرط،
وكأنه قد قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك، وجواب الشرط محذوف لأن هذا دال
عليه ومشير إليه، قال سيبويه: وقد تقول: "إن أتيتني آتيك": أي آتيك إن
أتيتني، قال زهير "وإن أتاه خليل ... البيت 402" ولا يحسن: إن تأتني
آتيك، من قبل أن إن هي العاملة، وقد جاء من الشعر، قال جرير بن عبد
الله البجلي:
إنك إن يصرع أخوك تصرع
أي إنك تصرع إن يصرع أخوك، ومثل ذلك قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب
أي المرء ذيب إن يلق الرشا، قال الأصمعي: هو قديم، أنشدنيه أبو عمرو،
وقال ذو الرمة:
وإني متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر
أي ناظر متى أشرف، فجاز هذا في الشعر، وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه
منجزما" ا. هـ كلامه، وخلاصته أنه إذا كان فعل الشرط ماضيًا جاز رفع
المضارع الواقع جزاء وهذا هو الذي عبر عنه بقوله "وقد تقول: إن أتيتني
آتيك" وإذا كان فعل الشرط مضارعًا مجزومًا لم يجز أن ترفع المضارع
الواقع جوابًا؛ لأن عمل الجازم قد ظهر في فعل الشرط، وهذا هو الذي عبر
عنه بقوله "ولا يحسن: إن تأتني آتيك" لكن إذا وقع مثل هذا في ضرورة
الشعر كان تخريجه على ما ذكر من أن المتأخر دليل الجواب، وليس جوابًا،
وأما أبو العباس المبرد فقد جعل المتأخر هو الجواب وتمحل له بأنه على
تقدير فاء الربط ومبتدأ تقع جملة المضارع خبرا عنه، وتقدير الكلام على
هذا: إنك إن يصرع أخوك فأنت تصرع وجملة المبتدأ والخبر في محل جزم جواب
الشرط، والجملة الشرطية في محل رفع خبر إن، وتقدير البيت الذي أنشده
الأصمعي على كلام المبرد: والمرء عند الرشا إن يلقها فهو ذيب، وتقدير
بيت ذي الرمة على هذا: وإني متى أشرف فأنا ناظر، قال الأعلم في تخريج
بيت الشاهد "الشاهد فيه على مذهبه تقديم تصرع في النية؛ وتضمنه الجواب
في المعنى، والتقدير: إنك تصرع إن يصرع أخوك؛ وهذا من ضرورة الشعر؛ لأن
حرف الشرط قد جزم فحكمه أن يجزم الآخر، وهو عند المبرد على حذف الفاء"
ا. هـ.
402- هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو من شواهد سيبويه
"1/ 436" ومفصل الزمخشري، وشرحه لابن يعيش "ص1206" وابن هشام في مغني
اللبيب "رقم 679" وفي أوضح المسالك "رقم 511" وفي شرح شذور الذهب "رقم
175" والأشموني "رقم 1081" وابن عقيل "رقم 341" وابن الناظم في باب
الجوازم، وشرحه العيني "4/ 429 بهامش الخزانة" والقالي في أماليه "1/
193 ط الدار" وقوله "وإن أتاه خليل" الضمير المنصوب يعود إلى هرم بن
سنان المري، والخليل: الفقير المحتاج؛ وأصله الخلة -بفتح
(2/512)
والتقدير فيه: يقول إن أتاه خليل يوم
مسألة، ولولا أنه في تقدير التقديم، وإلا لما جاز أن يكون مرفوعًا،
وقال الآخر:
[403]
فَلَمَ أَرْقِهِ إِنْ يَنْجُ مِنْهَا، وإِنْ يَمُتْ ... فطعنةُ لا
غُسٍّ ولا بِمُغَمَّرِ
والتقدير فيه: إن ينج فلم أرقه، فقدَّمه في الموضع الذي يستحقه في
الأصل،
__________
= الخاء وتشديد اللام وهو الفقر، ومن أمثال العرب "الخلة تدعو إلى
السلّة" أي الفقر يدعو إلى السرقة، ويوم مسألة: يروى في مكانه "يوم
مسغبة" وقوله "لا غائب مالي" يريد أنه لا يعتذر للمحتاج بأن ماله غائب،
وقوله "ولا حرم" هو بفتح الحاء المهملة وكسر الراء، ومعناه المحروم،
وهو على تقدير مبتدأ، أي ولا أنت محروم؛ ومحل الاستشهاد من هذا البيت
قوله "يقول" فإنه فعل مضارع وقع بعد أداة شرط وفعل شرط ماضٍ؛ وقد جاء
هذا المضارع مرفوعًا؛ فأما سيبويه فيرى أن هذا المضارع ليس هو جواب
الشرط، ولكنه دليل على الجواب، وهو على نية التقديم وإن كان متأخرًا في
اللفظ، فكأنه قال: يقول: لا غائب مالي ولا حرم إن أتاه خليل، وأما أبو
العباس المبرد فيذكر أن هذا المضارع هو نفس الجواب؛ لكنه على تقدير فاء
الربط، وكأن الشاعر قد قال: إن أتاه خليل يوم مسألة فهو يقول لا غائب
مالي ... إلخ؛ وقد وافق أبو العباس ذلك مذهب الكوفيين وأبي زيد؛ وقد
رجحه العلامة موفق الدين بن يعيش؛ قال "فسيبويه يتأوله على إرادة
التقديم، كأن المعنى: يقول إن أتاه خليل، وقد استضعف؛ والجيد أن يكون
على إرادة الفاء، فكأنه قال: فيقول" ا. هـ.
[403] هذا البيت لزهير بن مسعود، وقد أنشده ابن منظور في لسان العرب "غ
س س" وقد أنشده ابن جني في الخصائص "2/ 388" وأبو زيد في النوادر "ص7"
ثاني بيتين، والغس -بضم الغين وتشديد السين المهملة- الضعيف اللئيم من
الرجال، وجمعه أغساس وغساس -بوزن رجال- وغسوس، وقال ابن الأعرابي: هم
الضعفاء في آرائهم وعقولهم، والمغمر -بضم الميم الأولى وتشديد الثانية
مفتوحة- هو الذي لم يجرب الأمور والناس يستجهلونه، ومثله الغمر -بفتح
أوله وثانيه ساكن أو مفتوح أو مكسور، وبضم أوله مع سكون ثانيه- وقال
ابن سيده: هو من لا غناء عنده ولا رأي، وقال ابن الأثير: هو الجاهل
الغرّ الذي لم يجرب الأمور. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "فلم
أرقه أن ينج منها" حيث قدم ما يصلح أن يكون جوابا على أداة الشرط، ألا
ترى أنه لو قال "إن ينج منها فلم أرقه" لصح الكلام، فتقديم الشاعر ما
يصلح أن يكون جوابا يدل على أن هذا هو موضعه من الكلام، فيكون قول زهير
"يقول لا غائب.... إلخ" وقول جرير البجلي "تصرع" متقدما في النية وإن
تأخر في اللفظ، وهذا يؤيد ما ذهب إليه سيبويه رحمه الله من أن الفعل
المتأخر عن أداة الشرط وفعل الشرط إذا كان غير مجزوم فهو على نية
التقديم، من قبل أن هذا هو الموضع الأصلي له، فاعرف ذلك وتنبه له، فأما
البصريون فلا يرون ذلك، ويجعلون المتقدم دليلا على الجواب، وليس هو نفس
الجواب تقدم، لأن الجواب مجزوم بالشرط، وقد تكرر أن عامل الجزم ضعيف،
ومن آثار ضعفه ألا يتقدم معموله عليه.
(2/513)
وإذا ثبت هذا وأنه في تقدير التقديم؛ فوجب
جواز تقديم معموله على حرف الشرط؛ لأن المعمول قد وقع في موقع العامل.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم معمول
الشرط والجزاء على حرف الشرط؛ لأن الشرط بمنزلة الاستفهام، والاستفهام
له صدر الكلام، فكما لا يجوز أن يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله فكذلك
الشرط، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال "زيدًا أَضَرَبْتَ"؟ فكذلك لا يجوز
أن يقال "زيدا إنْ تضرب أضرب".
والذي يدلُّ على ذلك أن بين الاستفهام وبين الشرط من المشابهة ما لا
خفاء به، ألا ترى أنك إذا قلت "أضربت زيدا؟ " كنت طالبا لما لم يستقر
عندك، كما أنك إذا قلت "إن تضرب زيدا أضرب" كان كلامًا معقودًا على
الشك؛ فإذا ثبتت المشابهة بينهما من هذا الوجه؛ فينبغي أن يُحْمَلَ
أحدهما على الآخر؛ فكما لا يجوز أن يتقدم ما بعد الاستفهام عليه؛ فكذلك
الشرط.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الأصل في الجزاء أن
يكون مقدما على الشرط" قلنا: لا نسلم، بل مرتبة الجزاء بعد مرتبة
الشرط؛ لأن الشرط سبب في الجزاء، والجزاء مُسَبِّبُهُ، ومحال أن يكون
المسبب مقدما على السبب، ألا ترى أنك لا تقول "إن أشكرك تُعْطِنِي1"
وأنت تريد إن تعطني أشكرك؛ لاستحالة أن يتقدم المسبب على السبب، وإذا
ثبت أن مرتبة الجزاء أن تكون بعد الشرط وجب أن تكون مرتبة معمولهِ
كذلك؛ لأن المعمول تابع لعامل.
وأما قول الشاعر:
[401]
إنك إن يصرع أخوك تصرع
فلا حجة لهم فيه؛ لأنه إنما نَوَى به التقديم وجعله خبرا لإنَّ لأجل
ضرورة الشعر، وما جاء لضرورة شعر أو إقامة وزن أو قافية فلا حجة فيه.
وأما قول زهير:
[402]
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول......
فلا نسلِّم أنه رفعه لأن النية به التقديم، وإنما رفعه لأن فعل الشرط
ماضٍ، وفعل الشرط إذا كان ماضيًا نحو "إن قمت أقوم" فإنه يجوز أن يبقى
على رفعه؛ لأنه لما لم يظهر الجزم في فعل الشرط تُرِكَ الجواب على أول
أحواله -وهو الرفع
__________
1 لكنه لو قال "أشكرك إن تعطني" كان صحيحًا وأفاد المعنى، وهو موطن
الخلاف، فتأمل.
(2/514)
- وهو وإن كان مرفوعًا في اللفظ فهو مجزوم
في المعنى، كقولك "يغفرُ الله لفلان" لفظه مرفوع ومعناه دعاء مجزوم،
كقولهم: "ليغفرِ اللهُ لفلان".
وأما قول الآخر:
[403]
فلم أَرْقِهِ إن يَنْجُ منها ...
فلا حجة لهم فيه؛ لأن قوله: "فلم أرقه" دليل على جواب الشرط؛ لأن لم
أفعل نفي لفعلت، وفعلت تنوب مناب جواب الشرط المحذوف، كما قال الشاعر:
[404]
يا حَكَمُ الوَارِثَ عن عبد الملك ... أَوْدَيْتُ إن لم تحبُ حَبْوَ
المُعْتَنِكْ
__________
[404] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من أرجوزة لرؤبة بن العجاج
يمدح فيها الحكم بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وأولهما: من شواهد ابن
هشام في مغني اللبيب "رقم 15" وفي شرح قطر الندى "رقم 87" وثانيهما:
وحده من شواهد ابن منظور "ع ن ك - ح ب ا" وابن جني في الخصائص "2/ 389
و321" وبين البيتين في أرجوزة رؤبة عدة أبيات، و"أوديت" أي هلكت،
وتحبو: له معنيان أحدهما: أن يكون بمعنى الحبو الذي هو الزحف، وأصله
مشي الصبي على يديه ورجليه، والآخر: أن يكون بمعنى تمنح وتعطي، تقول:
حباه يحبوه حبوًا، وتريد أنه أعطاه، والمعتنك -على زنة اسم الفاعل-
أصله البعير يكلف أن يصعد في العانك من الرمل، والعانك من الرمل هو ما
انعقد منه، ولا يتأتى الصعود فيه إلا مع جهد ومشقة عظيمين والبعير قد
يحبو فيه ويبطئ في سير ويشرف بصدره ويتلطف حتى يتمكن من صعوده يقول:
إني أهلك إن لم تمنحني من عنايتك وترفقك بي وتلطفك في معالجة شئوني مثل
ما يعطيه البعير من ذلك حين يريد أن يصعد في عانك الرمل. ومحل
الاستشهاد من هذا البيت ههنا قوله "أوديت إن لم تحب" فإن قوله "أوديت"
في هذه العبارة دليل على جواب الشرط المتأخر وهو قوله "إن لم تحب" ولا
يجيز البصريون أن يكون قوله أوديت هو جواب الشرط؛ لأن جواب الشرط معمول
للشرط، والشرط عامل ضعيف ومن آثار ضعف العامل: ألا يعمل محذوفًا، ولا
متأخرًا عن المعمول، بل لا بد أن يكون مذكورًا متقدمًا على معموله، وقد
يجوز حذفه إن قام مقامه شيء، قال ابن جني: "أما قوله:
فلم أرقه إن ينج منها، وإن يمت
فذهب أبو زيد إلى أنه أراد: إن ينج منها فلم أرقه، وقدم الجواب. وهذا
عند كافة أصحابنا غير جائز، والقياس له دافع، وعنه حاجز، وذلك أن جواب
الشرط مجزوم بنفس الشرط، ومحال تقدم المجزوم على جازمة، بل إذا كان
الجار -وهو أقوى من الجازم؛ لأن عوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال
-لا يجوز تقديم ما انجر به عليه كان ألا يجوز تقديم المجزوم على جازمه
أحرى وأجدر، وإذا كان كذلك فقد وجب النظر في البيت، ووجه القول عليه أن
الفاء في قوله فلم أرقه لا يخلو أن تكون معلقة بما قبلها أو زائدة،
وأيهما كان فكأنه قال: لم أرقه إن ينج منها، وقد علم أن لم أفعل نفي
فعلت، وقد أنابوا فعلت
(2/515)
أي: إنْ لم تحبُ أوديتُ، فجعل "أوديت"
المقدَّم دلالة على أوديت المؤخر؛ فكما جاز أن يجعل فعلتُ دليلا على
جواب الشرط المحذوف فكذلك يجوز أن يُجْعَلَ نفيُهَا الذي هو لم أفعل
دليلًا على جوابه؛ لأنهم قد يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على
نظيره، ألا ترى أنهم قالوا "امرأةٌ عدوَّةٌ" كما قالوا: "صديقة"
وقالوا: "مِلْحَفَةٌ جديدةٌ" كما قالوا "عتيقةٌ" وقالوا: "جوعان" كما
قالوا: "شبعان" وقالوا: "علم" كما قالوا: "جهل" ولهذا قال الكسائي في
قول الشاعر:
[405]
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قشيرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أعجبني رِضَاهَا
__________
عن جواب الشرط، وجعلوه دليلًا عليه في قوله:
يا حكم الوارث عن عبد الملك ... أوديت إن لم تحب حبو المعتنك
أي إن لم تحب أوديت، فجعل أوديت المتقدم دليلًا على أوديت هذه
المتأخرة، فكما جاز أن تجعل فعلت دليلًا على جواب الشرط المحذوف كذلك
جعل نفيها الذي هو لم أفعل دليلًا على جوابه" ا. هـ. والنحاة يستشهدون
بهذين البيتين في مسألتين أخريين، أما أولاهما: ففي قوله "يا حكم
الوراث" فإن قوله "الوارث" نعت للمنادى قبله، وهذا النعت مقترن بأل،
ونعت المنادى المفرد إذا كان مقترنًا بأل يجوز رفعه تبعًا للفظ المنادى
ونصبه تبعًا لمحله، فإن المنادى المفرد العلم مبني على الضم في محل
نصب، وأما الثانية: ففي قوله "أوديت" فإن هذا الفعل ماضٍ في اللفظ،
ولكنه مستقبل في المعنى، أي إني أودي وأهلك إن لم تتداركني، واستعمل
الماضي مكان المستقبل تحققًا لوقوعه وثقة منه بأنه كائن لا محالة؛
فكأنه يقول: إن الجود منكم واقع متى أريد وواجب متى طلب.
[405] هذا البيت من كلام القحيف العقيلي يمدح حكيم بن المسيب القشيري،
وهو من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 225" وفي أوضح المسالك "رقم
298" والأشموني "رقم 553" وابن الناظم في باب حروف الجر من شرح
الألفية؛ وشرحه العيني "3/ 282 بهامش الخزانة" ورضي الدين في باب حروف
الجر من شرح الكافية؛ وشرحه البغدادي "4/ 247" وابن جني في الخصائص "2/
311 و389" وأبي زيد في نوادره "ص176" وقشير -بزنة التصغير- هو قشير بن
كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقوله "لعمر الله" أراد الحلف بإقراره
لله تعالى بالخلود والبقاء بعد فناء الخلق، وقال قالوا: عمرك الله،
وعمري الله؛ بنصب عمر على حذف حرف القسم؛ وبنصب لفظ الجلالة على
التعظيم، وعمر: مصدر أضيف لفاعله الذي هو ياء المتكلم أو كاف المخاطب،
ويجوز رفع العمر على أنه مبتدأ حذف خبره وجوبا: أي لعمرك الله قسمي.
ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "رضيت علي" حيث عدَّي رضي بعليّ؛
والأصل في هذا الفعل أن يتعدّى بعن كما في قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] وللعلماء في ذلك ثلاثة
تخرجيات.
الأول: أن الشاعر وضع "على" موضع عن، وزعم من ذهب إلى هذا أن حروف الجر
ينوب بعضها عن بعض؛ ومن أمثلة ذلك قول دوسر بن غسان اليربوعي:
إذا ما امرؤ ولى علي بودّه ... وأدبر لم يصدر بإدباره ودّي
(2/516)
إنه لما كان "رضيتُ ضد سخطتُ، وسخطتُ
تعدَّى بعلى، فكذلك "رضيت" حملًا له على ضده؛ فكذلك ههنا: جعل لم أفعل
دليلًا على جواب الشرط المحذوف؛ حملًا على فَعَلْتُ.
وحذف جواب الشرط كثير في كلامهم إذا كان في الكلام ما يدل على حذفه،
كقولهم: "أنت ظالم إن فعلت كذا" أي: إن فعلت كذا ظلمت، فحذف "ظلمت"
لدلالة قوله: "أنت ظالم" عليه، والشواهد على حذف جواب الشرط في كلامهم
للدلالة عليه أكثر من أن تحصى، والله أعلم.
__________
يريد إذا امرؤ ولّى عني بوده وجفاني ثم رجع إلى الودّ لم يرجع برجوعه
ودي؛ فوضع على موضع عن كما في بيت الشاهد؛ ومن وضع حرف في موضع حرف آخر
قول عنترة في معلقته:
بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم
يريد أنه طويل القامة فإذا لبس ثيابه فكأنها نشرت على شجرة مشرفة
عالية. فوضع في موضع على، ومن ذلك قول أعرابي من طيّئ:
نلوذ في أم لنا ما تغتصب ... من الغمام ترتدي وتنتقب
أراد بالأم جبلًا من جبال طيّئ؛ وما تغتصب: أي أنها منيعة على من
أرادها؛ وقد وضع في موضع الباء في قوله "نلوذ في أم لنا" لأن "لاذ"
يتعدّى بالباء.
التخريج الثاني: أن يضمنوا الفعل المذكور في الكلام معنى فعل آخر
يتعدّى بالحرف المذكور؛ فيضمنوا "رضي" في قول القحيف معنى عطف أو أقبل؛
وكل من عطف وأقبل يتعدّى بعلى، وهكذا.
والتخريج الثالث: أن يحمل الفعل على ضده؛ فيحمل "رضي" في بيت القحيف
على سخط، وسخط يتعدّى بعلى، ويحمل "ولى" في قول الطائي "ولى علي بودّه"
على أقبل، وأقبل ضد ولّى، وهكذا.
وليس كل كلام يمكن تخريجه على كل واحد من هذه التخريجات الثلاثة، بل
يحمل على ما يمكن منها. وفي هذا ما يكفي أو يغني.
(2/517)
88-
مسألة: [القول في "إنِ" الشرطية، هل تقع بمعنى إذْ؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "إن" الشرطية تقع بمعنى إذْ، وذهب البصريون
إلى أنها لا تقع بمعنى إذ.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "إن" قد جاءت
كثيرًا في كتاب الله تعالى وكلام العرب بمعنى إذ، قال الله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}
[البقرة: 23} أي: وإذ كنتم في ريب؛ لأن "إن" الشرطية تفيد الشك،
بخلاف "إذ"؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: "إن قامت القيامة كان
كذا" لما يقتضيه من معنى الشك، ولو قلت "إذ قامت القيامة" أو "إذا
قامت القيامة" كان جائزًا؛ لأن إذ وإذا ليس فيهما معنى الشك، وإذا
ثبت أن "إن" الشرطية فيها معنى الشك؛ فلا يجوز أن تكون ههنا
الشرطية؛ لأنه لا شك أنهم كانوا في شك؛ فدلَّ على أنها بمعنى إذ،
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
[البقرة: 278] أي: إذ كنتم مؤمنين؛ لأنه لا شك في كونهم مؤمنين؛
ولهذا خاطبهم في صدر الآية بالإيمان: {واتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] أي: إذ كنتم مؤمنين، وقال
تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل
عمران: 139] أي: إذ وقال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ
الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] أي: إذ شاء
الله، وجاء في الحديث عن الرسول صلوات الله عليه حين دخل المقابر:
"سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنَّا إنْ
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص26 بتحقيقنا"
وخزانة الأدب للبغدادي "3/ 656 في أثناء شرح الشاهد رقم 699"
وإيضاح القزويني "88-95 بتحقيقنا".
(2/518)
شاء
الله بكم لَاحِقُونَ" أي: إذْ، لأنه لا يجوز الشك في اللحوق بهم، وقال
الشاعر:
[406]
وسمعتَ حَلْفَتَهَا التي حَلَفَتْ ... وإنْ كانَ سَمْعُكَ غير ذِي
وَقْرِ
__________
[406] الحلفة -بفتح الحاء وسكون اللام- واحدة الحلف، وهو القسم؛ تقول
حلف فلان يحلف -من باب ضرب- حلفًا -بفتح فسكون أو بكسر فسكون أو بفتح
فكسر؛ ومحلوفًا أيضًا؛ وهذا أحد المصادر التي جاءت على زنة المفعول مثل
المجلود والمعقول والمعسور والميسور؛ وقالوا "محلوفة بالله ما فعل كذا"
بالنصب: أي يحلف محلوفة بالله ما فعل كذا؛ وقال امرؤ القيس في الحلفة:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا؛ فما إن من حديث ولا صالي
وقال زيد الفوارس الحصين بن ضرار الضبي:
تألّى ابن أوس حلفة ليردّني ... إلى نسوة كأنهن مفائد
والوقر -بفتح الواو وسكون القاف- ثقل في الأذن؛ ويقال: هو أن يذهب
السمع كله؛ قال الله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وقال:
{وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمىً} [فصلت: 44] وقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أن
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: 25] وقال: {وَلَّى
مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ
وَقْراً} [لقمان: 7] ومحل الاستشهاد في هذا البيت هنا قوله "إن كان
سمعك غير وقر" فإن الكوفيين زعموا أن "إن" ههنا بمعنى إذ؛ والكلام
تعليل لقوله "سمعت حلفتها" فإن المراد عندهم: سمعت حلفتها لأن سمعك
سليم غير ذي وقر؛ والذي دعاهم إلى هذا أن الأصل في الشرط أن يكون
مستقبلًا؛ لأن القصد تعليق الجواب عليه، وتعليق الشيء لا يكون على شيء
مضى؛ لأنه حينئذ لا فائدة في تعليق وجود الجواب عليه؛ وإنما يكون
التعليق فيما يأتي من الزمان؛ فلما وجدوا "إن" تدخل على الفعل الماضي
قالوا: إنه لا يراد بها التعليق حينئذ، وإنما يراد بها التعليل؛ وخرجوا
ما أثره المؤلف من الآيات الكريمة ونحوها على هذا؛ واستدلوا بجملة
أبيات منها هذا البيت الذي أنشده المؤلف ههنا؛ ومنها قول الفرزدق؛ وهو
من شواهد الرضي في الجوازم وشواهد المغني:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ... جهارًا؛ ولم تغضب لقتل ابن خازم؟
ومنها قول الآخر:
أتجزع إن بان الخليط المودع ... وحبل الصفا من عزّة المتقطع؟
ومما يؤيدهم أنك تجد "إن" -فيما ذكروه من الآيات الكريمة والأبيات- لم
يذكر بعدها جواب؛ وأن الآيات قد قرئ في كل منها بكسر همزة "إن" وقرئ
بفتحها؛ وكذلك الأبيات التي رووها تروى بكسر الهمز وبفتحها؛ فهذه ثلاثة
أشياء: كون الفعل بعدها ماضيًا، وعدم ذكر جواب؛ ورواية فتح الهمزة.
وكلها يمنع أن تكون "إن" شرطية. وقد تمحل البصريون في كل واحد من هذه
الثلاثة: أما مضي الفعل فزعموا أنه -وإن كان ماضيًا في اللفظ- مستقبل
في المعنى؛ لأنه سبب لما أريد التعليق عليه، أو لأن المراد: إن يتبيّن
كذا، وأما عدم ذكر الجواب فقد ادّعوا أنه محذوف لدلالة الكلام عليه وهو
مراد، وأما فتح الهمزة فقد أنكروا وروده.
(2/519)
أي:
إذْ، والشواهد على هذا النحو أكثر من أن تُحْصَى.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن الأصل في "إنْ" أن
تكون شرطًا، والأصل في "إذ" أن تكون ظرفًا، والأصل في كل حرف أن يكون
دالًّا على ما وضع له في الأصل، فمن تمسك بالأصل فقد تمسك باستصحاب
الحال؛ ومَنْ عَدَلَ عن الأصل بقي مرتَهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليل
لهم يدل على ما ذهبوا إليه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين. أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]
فلا حجة لهم فيه، لأن "إنْ" فيه شرطية، وقولهم: "إنَّ إنْ الشرطية تفيد
معنى الشك" قلنا: وقد تستعملها العرب وإن لم يكن هناك شك، على ما
بيّنّا قبل، ومنه قولهم: "إن كنت إنسانًا فأنت تفعل كذا، وإن كنت ابني
فَأَطِعْنِي" وإن كان لا يشك في أنه إنسان وأنه ابنه، ومعناه أن مَنْ
كان إنسانًا أو ابنًا فهذا حكمه، فخاطبهم الله تعالى على عادة خطابهم
فيما بينهم.
وهذا هو الجواب عن جميع ما استشهدوا به من الآيات، إلا قوله تعالى:
{لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}
[الفتح: 27} فإن الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن [262] يكون الاستثناء وقع على دخولهم آمنين، والتقدير فيه:
لتدخلن المسجد الحرام آمنين إن شاء الله.
والوجه الثاني: أن يكون ذلك على طريق التأديب للعباد ليتأدَّبُوا بذلك،
كما قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً
إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23، 24] .
وهذا هو الجواب عن قوله صلوات الله عليه: "وإنا إن شاء الله بكم
لاحقون" لأنه لما أدَّبه الحق بقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ
إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23،
24] تمسَّك بالأدب، وأحال على المشيئة فقال: "وإنا إن شاء الله بكم
لاحقون".
وعلى هذا أيضًا يحمل قول السلف "أنا مؤمن إن شاء الله تعالى"، ويحتمل
أيضًا وجهين آخرين:
أحدهما: أن يكونوا قالوا ذلك تركًا لتزكية النفس، لا للشك، كما قال
تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [لنجم: 32] وكما قيل لبعض
الحكماء: ما الصدق القبيح؟ فقال: ثَنَاء الرجل على نفسه.
(2/520)
والثاني: أن يكون قولهم: "إن شاء الله" شكًّا في وصف الإيمان، لا في
أصل الإيمان، والشك في وصف الإيمان لا يقدح في أصل الإيمان.
وأما قول الشاعر:
[406]
إن كان سمعك غير ذي وقر
فلا حجة فيه، لأن "إن" فيه حرف شرط، لا بمعنى إذ، واستغنى بما تقدم من
قوله: "وسمعت" عن جواب الشرط، لدلالته عليه، على ما بيّنّا فيما تقدم،
والله أعلم.
(2/521)
|