89- مسألة: [القول في "إن" الواقعة بعد
"ما" أَنَافِيَةٌ مؤكدة أم زائدة؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "إن" إذا وقعت بعد "ما" نحو "ما إنْ زيد قائم"
فإنها بمعنى ما. وذهب البصريون إلى أنها زائدة.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "إن" تكون بمعنى
"ما" وقد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله وكلام العرب، قال الله تعالى:
{إِنِ الكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أي: ما الكافرون
إلا في غرور، وقال تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15]
أي: ما أنتم، وقال تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}
[إبراهيم: 10] أي: ما أنتم، وقال تعالى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11] أي: ما نحن، وقال تعالى: {بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ، إِنْ، كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:
93] أي: ما كنتم مؤمنين، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ
وَلَدٌ} [الزخرف: 81] أي: ما كان للرحمن ولد، إلى غير ذلك؛ فإذا ثبت
أنها تكون بمعنى "ما" جاز أن يجمع بينها وبين "ما" لتأكيد النفي،
كالجمع بين إنَّ واللام لتوكيد الإثبات.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها ههنا زائدة أن
دخولها كخروجها؛ فإنه لا فرق في المعنى بين قول القول القائل "ما إنْ
زيدٌ قائم" وبين "ما زيد قائمًا" فلما كان خروجها كدخولها تنزلت منزلة
"من" بعد النفي، كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
[لأعراف: 59] أي ما لكم إله غيره، وكما قال الشاعر:
[159]
.... وما بالرَّبْعِ من أحد
أي أحد، وأشبهت "ما" إذا وقعت زائدة، قال الله تعالى: {فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]
__________
1 انظر في هذه المسألة: توضيح الشيخ خالد الأزهري "1/ 236 بولاق" وشرح
ابن يعيش على المفصل "ص1182" وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب "2/
357".
(2/522)
أي: فبرحمة، وقال تعالى: {عمَّا قَلِيلٍ}
[المؤمنون: 40] أي: عن قليل، وقال تعالى: {فبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] أي: فبنقضهم، و"ما" زائدة، فكذلك ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنها تكون بمعنى ما" قلنا:
نسلم أنها تكون بمعنى "ما" في موضع ما، فأما ما احتجوا به فأكثره نقول
بموجبه؛ إذ لا نمنع1 أن تقع في بعض المواضع بمعنى ما.
وأما ما احتجوا به من قوله تعالى: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93] فلا نسلم أن
"إن" ههنا بمعنى ما، وإنما هي ههنا شرطية، وجوابه مقدر، والتقدير فيه:
إن كنتم مؤمنين فأي إيمان يأمر بعبادة عجل من دون الله تعالى؟ وكذلك
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
العَابِدِينَ} [الزخرف: 81] لا نسلم أيضًا أنها ههنا بمعنى ما، وإنما
هي شرطية، وجوابه فأنا أول العابدين: أي الآنفين، من قولهم: "عبِدَ
الرجلُ يَعْبُدُ عبدًا فهو عَبْدٌ وعَابِدٌ" إذا أَنِفَ، وجاء في كلام
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه "عَبِدْتُ فَصَمَتُّ" أي
أَنِفْتُ فَسَكَتُّ، وقال الشاعر:
[407]
أولئك قومي إِنْ هَجَوْنِي هَجَوتُهُمْ ... وأعبد إِنْ تُهْجَى تميمٌ
بِدَارِمِ
__________
[407] أنشد ابن منظور هذا البيت "ع ب د" ونسبه إلى الفرزدق، وقد بحثت
في ديوان الفرزدق فلم أجده، وإن كان معنى البيت يتكرر كثيرا في كلام
الفرزدق، كقوله لجرير:
ولست وإن فقأت عينيك واجدًا ... أبا لك -إذ عد المساعي- كدارم
وكقوله في العديل بن الفرخ العجلي:
عجبت لعجل إذ تهجى عبيدها ... كما آل يربوع هجوا آل دارم
وكقوله، وهو أقرب لبيت الشاهد:
وليس بعدل أن سببت مقاعسًا ... بآبائي الشم الكرام الخضارم
ولكن عدلا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم
وتقول "عبد فلان على فلان يعبد عبدا فهو عبد من مثال فرح يفرح فرحًا
فهو فرح" وعابد أيضًا: إذا غضب وأنف، وقد عدّى الفرزدق هذا الفعل بنفسه
من غير حرف الجر في قوله:
علام يعبدني قومي وقد كثرت ... فهيم أباعر ما شاءوا وعبدان؟
والاستشهاد بالبيت ههنا في قول "وأعبد" فإنه فعل مضارع ماضيه "عبد" من
باب فرح، ومعناه أنف وغضب، وقال ابن أحمر يصف الغواص:
فأرسل نفسه عبدا عليها ... وكان بنفسه أربًا ضنينا
__________
1 في ر "إذ لا يمنع أن يقع".
(2/523)
أي: آنَفُ، ومعنى الآية أنَّا أَوَّلُ
الآنفين أن يقال لله ولد، وقيل: أول العابدين، أي: أول من عبد الله
وحده، وقيل: المعنى كما أني لست أول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد،
كما يقال: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، يريد أنك لست بكاتب ولا أنا حاسب،
على أنا نقول: ولم قلتم إنها إذا كانت في موضع ما بمعنى "ما" ينبغي أن
تكون ههنا؟
قولهم: "جمع بينها وبين ما لتوكيد النفي كما جمع بين إنَّ واللام
لتوكيد الإثبات" قلنا: لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يصير الكلام
إيجابًا؛ لأن النفي
__________
= قيل معنى قوله "عبدًا" أي أنفًا، يقول: أنف أن تفوته الدرة. قال ابن
منظور: "وفي التنزيل {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا
أَوَّلُ العَابِدِينَ} [الزخرف: 81] ويقرأ "العبدين" قال الليث: العبد
-بالتحريك- الأنف والغضب والحمية من قول يستحيا منه ويستنكف، ومن قرأ
"العبدين" فهو مقصور، من عبد يعبد فهو عبد، وقال الأزهري: هذه آية
مشكلة، وأنا ذاكر أقوال السلف فيها، ثم أتبعها بالذي قال أهل اللغة،
وأخبر بأصحها عندي، أما القول الذي قاله الليث في قراءة "العبدين" فهو
قول أبي عبيدة، على أني ما علمت أحدًا قرأ "فأنا أول العبدين" ولو قرئ
مقصورًا كان ما قاله أبو عبيدة محتملًا وإذ لم يقرأ به قارئ مشهور لم
نعبأ به، والقول الثاني: ما روي عن ابن عيينة أنه سئل عن هذه الآية،
فقال: معناه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، يقول: فكما أنني لست
أول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد، وقال السدي: قال الله لمحمد: قل إن
كان -على الشرط- للرحمن ولد كما تقولون لكنت أول من يطيعه ويعبده: وقال
الحسن وقتادة: إن كان للرحمن ولد، على معنى ما كان، فأنا أول العابدين:
أي أول من عبد الله من هذه الأمة، وقال الكسائي "إن كان" أي ما كان
للرحمن ولد "فأنا أول العابدين" أي الآنفين، رجل عابد وعبد وآنف وأنف،
أي الغضاب الآنفين من هذا القول، وقال: فأنا أول الجاحدين لما تقولون،
ويقال: أنا أول من تعبده على الوحدانية مخالفة لكم، وقال ابن الأنباري
"إن كان للرحمن ولد" ما كان للرحمن ولد، والوقف على ولد، ثم ابتدئ
"فأنا أول العابدين" له على أنه لا ولد له، قال الأزهري: قد ذكرت
الأقوال، وفيه قول أحسن من جميع ما قالوا، وأسوغ في اللغة وأبعد من
الاستكراه، وأسرع إلى الفهم، روي عن مجاهد أنه قال: "إن كان لله ولد في
قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم فيما تقولون". قال الأزهري:
وهذا واضح، ومما يزيده وضوحًا أن الله عز وجل قال لنبيه: {قُلْ} يا
محمد {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} في زعمكم "فأنا أول العابدين"
إله الخلق أجمعين الذي لم يلد ولم يولد، وأول الموحدين للرب الخاضعين
المطيعين له وحده؛ لأن من عبد الله تعالى واعترف بأنه معبود وحده لا
شريك له فقد دفع أن يكون له ولد في دعواكم، والله عز وجل واحد لا شريك
له وهو معبودي الذي لا ولد له ولا والد، قال الأزهري: وإلى هذا ذهب
إبراهيم بن السري وجماعة من ذوي المعرفة، وهو الذي لا يجوز عندي غيره"
ا. هـ كلامه.
(2/524)
إذا دخل على النفي صار إيجابًا؛ لأن نفي
النفي إيجاب1، وعلى هذا يخرج توكيد الإثبات فإنه لا يغير المعنى؛ لأن
إثبات الإثبات لا يصير نفيًا، بخلاف النفي؛ فإنه يصير إيجابًا، فبان
الفرق بينهما، والله أعلم.
__________
1 هذه مغالطة ظاهرة، لا يجوز أن تأخذ بها، ولا أن تجدها صحيحة في الرد
على ما ذهب إليه الكوفيون، وذلك لأن النفي إذا دخل على النفي لا يكون
الكلام إيجابًا على الإطلاق، وبيان هذا أن النفي الداخل على النفي يكون
على أحد وجهين: الأول: أن يكون المراد به نفي النفي الأول، وحينئذ يكون
الكلام إثباتا وإيجابا؛ لأن نفي النفي إيجاب، والوجه الثاني: أن يكون
المراد بالنفي الثاني تأكيد النفي الأول، وحينئذ يكون الكلام نفيًا
مؤكدا، ولا يكون إثباتا أصلا، وذلك وارد في التوكيد اللفظي فإنه إعادة
اللفظ الأول بنفسه أو بمرادفه. مثل قول جميل:
لا، لا أبوح بحب بثنة إنها ... أخذت علي مواثقا وعهودا
ثم إن المؤلف رحمه الله في المسألة الثالثة والثلاثين أبطل قول
الكوفيين بأن الصفة الصالحة لأن تكون خبرا إذا كان معها ظرف مكرّر وجب
نصب هذه الصفة حتى يكون أحد الظرفين خبرا والآخر حالا، إذ لو جوزنا
فيها الرفع لكانت هي الخبر، ويكون الظرفان حالين؛ فلا تكون في أحد
الظرفين فائدة جديدة، وحمل الكلام على إفادة فائدة جديدة أولى، فأبطل
هذا الكلام بقوله "هذا فاسد؛ وذلك لأنه وإن كانت الأولى تفيد ما أفادته
الثانية إلا أن ذلك لا يدل على بطلان فائدة الثانية؛ لأن من مذاهب
العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره.... إلخ" فما الذي حدث ههنا حتى ذهل عن أن
من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره بلفظه أو بمرادفه؟
(2/525)
90- مسألة: [القول في معنى "إنْ" ومعنى
اللام بعدها] 1
ذهب الكوفيون إلى أنَّ "إِنْ" إذا جاءت بعدها اللام تكون بمعنى "ما"
واللام بمعنى "إلا". وذهب البصريون إلى أنها مخفّفة من الثقيلة، واللام
بعدها لام التأكيد.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك كثيرًا
في كتاب الله وكلام العرب، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء:
76] أي: وما كادوا إلا يستفزونك، وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الذِينَ
كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 51] أي: وما كادوا
إلا يزلقونك، وقال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ
عِنْدَنَا} [الصافات: 167-168] أي: وما كانوا إلا يقولون، وقال تعالى:
{إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108] أي: ما كان
وعد ربنا إلا مفعولًا، ثم قال الشاعر:
[408]
شلَّت يمينُك إن قَتَلْت لمُسْلِمَا ... كُتِبَتْ عليك عُقُوَبةُ
المُتَعَمِّدِ
__________
[408] هذا البيت من كلام عاتكة بنت زيد العدوية، ترثي فيه زوجها الزبير
بن العوام الذي قلته ابن جرموز وهو منصرف من وقعة الجمل، والبيت من
شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1128" ورضي الدين في باب الحروف
المشبهة بالفعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 348"
وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 22" وفي أوضح المسالك "رقم 147"
والأشموني "رقم 279" وابن عقيل "رقم 104" وابن الناظم في باب إن
وأخواتها من شرح الألفية، وشرحه العيني "2/ 278 بهامش الخزانة" وشلت:
يبست، وأصل الفعل شلل -من باب فرح- وقوله "كتبت عليك" يروى في مكانه
"حلت عليك" ويروى أيضًا "وجبت عليك" ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله
"إن قتلت لمسلما" فإن =
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص232 وما بعدها" وشرح
الأشموني مع حاشية الصبان "1/ 267 وما بعدها" وتصريح الشيخ خالد
الأزهري "1/ 279 وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1129"
(2/526)
أي: ما قتلت إلا مسلمًا، وهو في كلامهم
أكثر من أن يحصى.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها مخففة من الثقيلة
لأنا وجدنا لها في كلام العرب نظيرًا، وأنا أجمعنا على أنه يجوز تخفيف
"إنَّ" وإن اختلفنا في بطلان عملها مع التخفيف، وقلنا: إن اللام لام
التأكيد؛ لأن لها أيضًا نظيرا في كلام العرب، وكون اللام للتأكيد في
كلامهم مما لا ينكر لكثرته فحكمنا على اللام بما لا نظير في كلامهم،
فأما كون اللام بمعنى "إلا" فهو شيء ليس له نظير في كلامهم، والمصير
إلى ما له نظير في كلامهم أولى من المصير إلى ما ليس له نظير.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بالآيات وما أنشدوه على
أن "إنْ" بمعنى "ما" واللام بمعنى "إلا" فلا حجة لهم في شيء من ذلك؛
لأنه كله محمول على ما ذهبنا [إليه] من أن "إنْ" مخففة من الثقيلة،
واللام لام التأكيد، والذي يدل على ذلك أنَّ "إنْ" التي بمعنى ما لا
تجيء اللام معها، كما قال الله تعالى: {إِنِ الكَافِرُونَ إِلَّا فِي
غُرُورٍ} [الملك: 20] وكما قال الله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَكْذِبُونَ} [ي-س: 15] وكما قال الله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا
إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4] إلى غير ذلك من المواضع، ولم تجئ مع
شيء منها اللام.
فأما قولهم: "إن اللام في {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} و {لَيُزْلِقُونَكَ} و
{لَيَقُولَنَّ} و {لَمَفْعُولًا} إلى غير ذلك من المواضع بمنزلة إلا في
هذه المواضع" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه لو جاز أن يقال "إن اللام تستعمل
بمعنى إلا" لكان ينبغي أن يجوز "جاءني القوم لَزَيْدًا" بمعنى إلا
زيدًا، فلما لم يجز ذلك دلَّ على فساد ما ذهبتم
__________
= الكوفيين ذهبوا إلى أنَّ إنْ في هذه العبارة نافية بمعنى ما، واللام
التي في قوله "لمسلما" استثنائية بمعنى إلا، وكأن الشاعر قد قال: ما
قتلت إلا مسلما، وتجد في كلام بعض النحاة -منهم الرضي والزمخشري وابن
هشام- ما يفيد أن الكوفيين يستدلون بهذا البيت على أنه يجوز أن يقع بعد
إن المخففة من الثقيلة الفعل الماضي غير الناسخ، وهو كلام غير مبني على
التحقيق، والتحقيق أن جمهور الكوفيين لا يقولون بأن إن تكون مخففة من
الثقيلة أصلًا، والكسائي يقول: إذا وليها جملة اسمية جاز أن تكون مخففة
من الثقيلة، وإذا وليها فعل فهي نافية واللام بعدها بمعنى إلا، فإن في
هذا البيت نافية عند الكوفيين كلهم أجمعين؛ لأن الوالي لها فعل، وقد
تنبه لهذا الشيخ خالد فأنكر كلام ابن هشام، وأما البصريون فيرون "إن"
في هذا البيت مخففة من الثقيلة، واللام التي بعدها لام فارقة بين
الكلام المنفي والكلام المثبت المؤكد، نعني أنها تدخل الكلام في حال
إهمال إن المخففة لتكون فارقة بينها وبين إن النافية، وهم يختلفون في
هذه اللام: أهي لام الابتداء التي تدخل لتفيد الكلام زيادة توكيد أم هي
لام أخرى؟ وليس هذا موضع الإفاضة في هذا الموضوع.
(2/527)
إليه، وإنما جاءت هذه اللام مع "إن"
المخففة من الثقيلة لأن "إن" المخففة في اللفظ بمنزلة التي يراد بها
النفي، فلما كان ذلك يؤدّي إلى اللّبس جيء بها للفرق بينهما؛ فما جاء
للفرق وإزالة اللّبس جعلتموه سببًا للّبس وإزالة الفرق، وهذا غاية
الجور عن الصواب والحق، والله أعلم.
(2/528)
91- مسألة: [هل يجازى بكيف؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "كيف" يجازى بها كما يجازى بمتى ما وأينما وما
أشبههما من كلمات المجازاة. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يجازى
بها.
أما الكوفيين فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز المجازاة بها
لأنها مشابهة لكلمات المجازاة في الاستفهام، ألا ترى أن "كيف" سؤال عن
الحال كما أن "أين" سؤال عن المكان، و"متى" سؤال عن الزمان، إلى غير
ذلك من كلمات المجازاة، ولأن معناها كمعنى كلمات المجازاة، ألا ترى أن
معنى "كيفما تكن أكن": في أي حال تكن أكن، وكما أن معنى "أينما تكن
أكن": في أي مكان تكن أكن، ومعنى "متى ما تكن أكن": في أي وقت تكن أكن،
ولهذا قال الخليل بن أحمد: مخرجها مخرج الجزاء، وإن لم يقل إنها من
حروف الجزاء، فلما شابهت "كيف" ما يجازى به في الاستفهام ومعنى
المجازاة وجب أن يجازى بها كما يجازى بغيرها من كلمات المجازاة.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنما لم يجز المجازاة بها لأنها لا تتحقق
بها؛ لأنك إذا قلت "كيف تكن أكن" فقد ضمنت له أن تكون على أحواله كلها
وذلك متعذر؛ لأنا نقول: هذا يلزمكم في تجويزكم "كيف تكون أكون"؟ لأن
ظاهر هذا يقتضي ما منعتموه؛ فكان ينبغي أن لا يجوز، فلما أجزتموه دلَّ
على فساد ما ذهبتم إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز المجازاة بها
لثلاثة أوجه:
أحدها: أنها نقصت عن سائر أخواتها؛ لأن جوابها لا يكون إلا نكرة لأنها
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغنى اللبيب لابن هشام "ص205 بتحقيقنا" وشرح
الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 11".
(2/529)
سؤال عن الحال، والحال لا يكون إلا نكرة،
وسائر أخواتها تارة تجاب بالمعرفة وتارة تجاب بالنكرة، فلما قصرت عن
أحد الأمرين ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة.
والوجه الثاني: إنما لم يجز المجازاة بها لأنها لا يجوز الإخبار عنها،
ولا يعود إليها ضمير، كما يكون ذلك في مَنْ وما وأي ومهما، فلما قصرت
في ذلك عن نظائرها ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة.
والوجه الثالث: أن الأصل في الجزاء أن يكون بالحرف، إلا أن يضطر إلى
استعمال الأسماء، ولا ضرورة ههنا تلجئ إلى المجازاة بها؛ فينبغي أن لا
يجازى بها؛ لأنا وجدنا أيًّا تغني عنها، ألا ترى أن القائل إذا قال "في
أي حال تكن أكن" فهو في المعنى بمنزلة "كيف تكن أكن". غير أن هذا الوجه
عندي ضعيف لأن "أيا" كما تتضمن الأحوال تتضمن الزمان، والمكان، وغير
ذلك؛ فكان ينبغي أن يستغنى بها عن متى ما وأينما وغيرهما من كلمات
المجازاة؛ فلما لم يستغنوا بها عنها دلَّ على ضعف هذا التعليل.
والتعويل في الدلالة على أنه يجوز أن يجازى بها الوجهان الأولان.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنها أشبهت كلمات المجازاة
في الاستفهام، وإن معناها كمعنى كلمات المجازاة" قلنا: لا نسلم أن
معناها كمعنى كلمات المجازاة، وذلك لأنه لا تتحقق المجازاة بها، ألا
ترى أنك إذا قلت "كيف تكن أكن" كان معناها: على أي حال تكون أكون، فقد
ضَمِنْتَ له أن تكون على أحواله وصفاته كلها، وأحوال الشخص كثيرة يتعذر
أن يكون المجازي عليها كلها؛ لأنه يتعذر أن يتفق شيآن في جميع
أحوالهما، بل ربما كان كثير من الأحوال لا يدخل تحت الإمكان كالصّحة
والسّقم والقوة والضعف إلى غير ذلك؛ فإن أحدهما لو كان سقيما والآخر
صحيحا أو ضعيفا والآخر قويا لما كان يمكن السقيم أن يجعل نفسه صحيحا
ولا الضعيف أن يجعل نفسه قويا، فأما متى ما وأينما فإنه تتحقق المجازاة
بهما، ألا ترى أنك إذا قلت "أينما تكن أكن" فقد ضمنت له متى كان في بعض
الأماكن أن تكون أيضًا في ذلك المكان، ولا يتعذر، وكذلك إذا قلت "متى
تذهب أذهب" ضمنت له في أي زمان ذهب أن تذهب معه، وهذا أيضًا غير متعذر،
بخلاف كيف؛ فإنه يتعذر أن يكون المجازى على جميع أحوال المجازي وصفاتها
كلها لكثرتها وتنوعها، فبان الفرق.
(2/530)
وأما قولهم: "إن هذا يلزمكم في تجويزكم كيف
تكون أكون بالرفع؛ لأن ظاهر هذا يقتضي ما منعتموه" قلنا: الفرق بينهما
أنا إذا رفعنا الفعل بعد كيف فإنما نقدر أن هذا الكلام قد خرج على حال
عَلِمَهَا المجازي؛ فانصرف اللفظ إليها؛ فلذلك صح الكلام، ولم يمكن هذا
التقدير في الجزم بها على المجازاة لأن الأصل في الجزاء أن لا يكون
معلوما؛ لأن الأصل في الجزاء أن يكون بإن، وأنت إذا قلت "إن قمتُ قمتَ"
فوقت القيام غير معلوم، فلما كان الأصل في الجزاء أن يكون غير معلوم
بطل أن تقدر كيف في الجزاء واقعة على حال معلومة لأنها تخرج من الإبهام
وتباين أصل كلمات الجزاء؛ فلذلك لم يجز الجزم بها على تقدير حالٍ
معلومةٍ، والله أعلم.
(2/531)
92- مسألة: [السين مقتطعة من سوف أو أصل
برأسه] 1
ذهب الكوفيون إلى أن السين التي تدخل على الفعل المستقبل نحو سأفعل
أصلُها سوف. وذهب البصريون إلى أنها أصلٌ بنفسها.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "سوف" كَثُرَ
استعمالها في كلامهم وجَرْيُها على ألسنتهم، وهم أبدا يحذفون لكثرة
الاستعمال، كقولهم: "لا أدْرِ، ولم أَبَلْ، ولم يَكُ، وخُذْ، وكُلْ"
وأشباه ذلك، والأصل لا أدري، ولم أبال، ولم يكن، واأخذ، واأكل، فحذفوا
في هذه المواضع وما أشبهها لكثرة الاستعمال، فكذلك ههنا: لما كثر
استعمال "سوف" في كلامهم حذفوا منها الواو والفاء تخفيفا.
والذي يدل على ذلك أنه قد صح عن العرب أنهم قالوا في سوف أفعل "سو
أفعل" فحذفوا الفاء، ومنهم من قال "سف أفعل" فحذف الواو، وإذا جاز أن
يحذف الواو تارة والفاء أخرى لكثرة الاستعمال جاز أن يجمع بينهما في
الحذف مع تطرق الحذف إليهما في اللغتين لكثرة الاستعمال.
والذي يدل على ذلك أن السين تدل على ما تدل عليه سوف من الاستقبال،
فلما شابهتها في اللفظ والمعنى دلَّ على أنها مأخوذة منها، وفرع عليها.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في كل حرف
يدل على معنى أن لا يدخله الحذف، وأن يكون أصلًا في نفسه، والسين حرف
يدل على معنى؛ فينبغي أن يكون أصلًا في نفسه، لا مأخوذًا من غيره.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن سوف لما كثر استعمالها
في كلامهم حذفوا الواو والفاء لكثرة الاستعمال" قلنا: هذا فاسد؛ فإن
الحذف
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص138 بتحقيقنا" وشرح
ابن يعيش على المفصل "ص1199"
(2/532)
لكثرة الاستعمال ليس بقياس ليجعل أصلًا
لمحل الخلاف1، وعلى أن الحذف لو وجد كثيرًا في غير الحرف من الاسم
والفعل فقلَّما يوجد في الحرف، وإن وجد الحذف في الحرف في بعض المواضع
فهو على خلاف القياس؛ فلا يجعل أصلا يقاس عليه.
وأما ما رووه عن العرب من قولهم فسوف أفعل "سو أفعل" و"سَفَ أفعل"
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن هذه رواية تفرَّد بها بعض الكوفيين؛ فلا يكون فيها
حجة.
والثاني: إن صحت هذه الرواية عن العرب فهو من الشاذ الذي لا يُعْبَأْ
به؛ لقلته.
والثالث: أن حذف الفاء والواو على خلاف القياس، فلا ينبغي أن يجمع
بينهما في الحذف؛ لأن ذلك يؤدّي إلى ما لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس
في كلامهم حرف حذف جميع حروفه طلبا للخفة على خلاف القياس حتى لم يبقَ
منه إلا حرف واحد، والمصير إلى ما لا نظير له في كلامهم مردود.
وأما قولهم: إن السين تدل على الاستقبال كما أن سوف تدل على الاستقبال"
قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن يستويا في
الدلالة على الاستقبال على حدّ واحد، ولا شك أن سوف أشدّ تراخيا في
الاستقبال من السين، فلما اختلفا في الدلالة دلَّ على أن كل واحد منهما
حرف مستقل بنفسه، غير مأخوذ من صاحبه، والله أعلم.
__________
1 ليس هنا قياس، لأنه قد ورد عن العرب "سوف أفعل" و"سو أفعل" بحذف
الفاء، و"سف أفعل" بحذف الواو، وأجمعنا على أن الثاني والثالث مقتطعان
من الأول؛ وورد عن العرب أيضًا "سأفعل" فقلنا: وهذا أيضًا مقتطع من
الأول؛ فالمدار على الورود عن العرب، فأين القياس؟
(2/533)