الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 93- مسألة: [المحذوف من التاءين المبدوء
بهما المضارع] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا اجتمع في أول المضارع تاءان: تاء المضارعة
وتاء أصلية -نحو "تَتَنَاوَلُ، وتَتَلَوَّنُ"- فإن المحذوف منها تاء
المضارعة دون الأصلية، نحو "تَنَاولُ، وتَلَوَّنُ".
وذهب البصريون إلى أن المحذوف منهما التاء الأصلية، دون تاء المضارعة.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه لما اجتمع في أول
هذا الفعل حرفان متحركان من جنس واحد -وهما التاء المزيدة للمضارعة
والتاء الأصلية- استثقلوا اجتماعهما؛ فوجب أن تحذف إحداهما؛ فلا يخلو:
إما أن تحذف الزائدة، أو الأصلية، فكان حذف الزائدة أولى من الأصلية؛
لأن الزائد أضعف من الأصلي، والأصلي أقوى من الزائد؛ فلما وجب حذف
أحدهما كان حذف الأضعف أولى من حذف الأقوى.
وأما البصريون فقالوا: إنما قلنا إن حذف الأصلية أولى من الزائدة؛ لأن
الزائدة دخلت لمعنى وهو المضارعة، والأصلية ما دخلت لمعنى؛ فلما وجب
حذف إحداهما كان حذف ما لم يدخل لمعنى أولى.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الزائد أضعف من الأصلي
فكان حذفه أولى" قلنا: لا نسلم هذا مطلقًا؛ فإن الزائد على ضربين: زائد
جاء لمعنى، وزائد لم يجئ لمعنى، فأما الزائد الذي جاء لمعنى فلا نسلم
فيه أن الأصلي أقوى منه، وأما الزائد الذي ما جاء لمعنى فمسلَّم أنه
أقوى؛ ولكن لا نسلم أنه قد وجد ههنا، وهذا لأن التاء ههنا جاءت لمعنى
المضارعة؛ فقد جاءت لمعنى، وإذا كانت قد جاءت لمعنى فيجب أن تكون
تَبْقِيَتُهَا أولى؛ لأن في
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 294 بولاق"
وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 499 بولاق"
(2/534)
حذفها إسقاطا لذلك المعنى الذي جاءت من
أجله، وذلك خلاف الحكمة.
والذي يدلّ على صحة هذا ثبوت التنوين في المنقوص والمقصور وحذف حرف
العلة منهما لالتقاء الساكنين وإن كان أصليًا فيهما، ألا ترى أنك تقول
في المنقوص "هذا قاضٍ، ومررت بقاضٍ" والأصل فيه "هذا قاضيٌ، ومرت
بقاضيٍ" إلا أنهم لما حذفوا الضمة والكسرة استثقالا لهما على الياء
بقيت الياء ساكنة والتنوين ساكنًا فحذفوا الياء لالتقاء الساكنين
وأبقوا التنوين؛ لأن الياء ما جاءت لمعنى، والتنوين جاء لمعنى؛ فكان
تبقيته أولى، فكذلك أيضًا تقول في المقصور "هذه رحًا وعصًا" والأصل فيه
"رحيٌ وعَصَوٌ" فلما تحركت الياء والواو انفتح ما قبلهما قلبوهما
ألفًا1 لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين
وبقي التنوين بعدها؛ لأن الألف ما جاءت لمعنى، والتنوين جاء لمعنى؛
فكان تبقيته أولى، فكذلك ههنا، ولهذا كان الواجب في تصغير منطلق
ومغتسل: مطيلق ومغيسل، وكذلك التكسير نحو: مَطَالق ومَغَاسل بإثبات
الميم وحذف النون من منطلق والتاء من مغتسل؛ لأن الميم جاءت لمعنى -وهو
الدلالة على اسم الفاعل- والنون والتاء ما جاءتا لمعنى؛ فكان حذفهما
أولى من حذف الميم؛ لأنها جاءت لمعنى، وكذلك القياس في كل حرفين اجتمعا
فوجب حذف أحدهما؛ فإن حذف ما لم يجئ لمعنى أولى من حذف ما جاء لمعنى،
والسر فيه هو2 أن الحرف الذي جاء لمعنى قد تَنَزَّلَ في الدلالة على
معنى بمنزلة سائر الكلمة التي تدل بجميع حروفها على معنى، بخلاف الحرف
الذي لم يجئ لمعنى؛ فإنه ليس فيه دلالة على معنى في نفسه البتة، فكما
يمتنع أن تحذف الكلمة بأسرها لشيء لا معنى له في نفسه؛ فكذلك ههنا:
يمتنع أن يحذف الحرف الذي جاء لمعنى لأجل حرف لم يجئ لمعنى، فدل على أن
حذف التاء الأصلية أولى من الزائدة على ما بيّنّا، والله أعلم.
__________
1 في ر "قلبوها ألفا" وليس بذاك.
2 في ر "وهو أن.... إلخ" والظاهر أن الواو من "وهو" زائدة.
(2/535)
94- مسألة: [هل تدخل نون التوكيد الخفيفة
على فعل الاثنين وفعل جماعة النسوة؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إدخال نون التوكيد الخفيفة على فعل الاثنين
وجماعة النسوة، نحو "افْعَلَانْ وافْعَلْنَانْ" بالنون الخفيفة، وإليه
ذهب يونس بن حبيب البصري.
وذهب البصريون إلى انه لا يجوز إدخالها في هذين الموضعين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز ذلك لوجهين:
أحدهما: أن هذه النون الخفيفة مخففة من الثقيلة، وأجمعنا على أن النون
الثقيلة تدخل في هذين الموضعين؛ فكذلك النون الخفيفة.
والوجه الثاني: أن هذه النون إنما دخلت في القسم والأمر والنهي
والاستفهام والشرط بإمَّا لتوكيد الفعل المستقل، فكما يجوز إدخالها
للتوكيد على كل فعل مستقبل وقع في هذه المواضع فكذلك فيما وقع الخلاف
فيه، قُصَارَى ما يُقَدَّر أن يقال: إنه يؤدي إلى اجتماع الساكنين
الألف والنون، وقد جاء ذلك في كلام العرب؛ لأن الألف فيها فرط مد،
والمد يقوم مقام الحركة، وقد قرأ نافع، وهو أحد أئمة القراء {إِنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162] بسكون الياء من
{وَمَحْيَايَ} فجمع بين الساكنين وهما الألف والياء، فكذلك ههنا، وقد
حكي عن بعض العرب أنه قال "التقت حلقتا البطان" بإثبات الألف مع لام
التعريف، وقد حكي عن بعض العرب أيضًا أنه قال "له ثُلُثَا المالِ"
بإثبات الألف، فجمع بينها وبين لام التعريف وهما ساكنان لما في الألف
من إفراط المد، ولذلك أيضًا يجوز تخفيف الهمزة المتحركة إذا كان قبلها
ألف نحو هَبَاءة، والهمزة المخففة ساكنة.
والذي يدل على صحة مذهبنا قراءة ابن عامر "ولا تتعبان" بنون
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 189" وتصريح
الشيخ خالد "2/ 261".
(2/536)
التوكيد الخفيفة، والمراد به موسى وهارون،
فدل على ما قلناه.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنما يجتمع حرفان ساكنان في الوصل، إذا كان
الثاني منهما مدغما في مثله، نحو "دابَّة، وتُمُودَّ، وأُصَيْمّ" لأنا
نقول: إن هذا النحو قد يلحقه ما يوجب له الإدغام، نحو قولنك "اضربا
نُّعْمَانَ، واضربانِّي" فالنون الأولى في قولك "اضربا نعمان" نون
التوكيد الخفيفة، والنون الثانية نون "نعمان" وكذلك النون الأولى في
"اضربانّي" نون التوكيد المخففة، والنون الثانية التي تصحب ضمير
المتكلم1؛ فينبغي أن تجيزوا هذا الإدغام؛ لأن الألف تقع وبعدها نونٌ
مشددة، كقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] في قراءة من قرأ بالتشديد، فلما لم تجيزوا ذلك
دلَّ على فساد ما ذهبتم إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز دخول نون
التوكيد الخفيفة في هذين الموضعين، وذلك لأن نون الاثنين التي للإعراب
تسقط؛ لأن نون التوكيد إذا دخلت على الفعل المعرب أكدت فيه الفعلية
فردَّته إلى أصله وهو البناء، فإذا سقطت النون بقيت الألف؛ فلو أدخل
عليها نون التوكيد الخفيفة لم يَخْل: إما أن تحذف الألف أو تكسر النون،
أو تُقَرَّ ساكنة، بطل أن تحذف الألف؛ لأنه بحذفها يلتبس فعل الاثنين
بالواحد، وبطل أن تكسر النون؛ لأنه لا يعلم هل هي نون الإعراب أو نون
التوكيد، وبطل أن تُقَرَّ ساكنة؛ لأنه يؤدي إلى أن يجمع بين ساكنين
مظهرين في الإدراج، وذلك لا يجوز؛ لأنه إنما يكون ذلك في كلامهم إذا
كان الثاني منهما مدغما، نحو "دابّة، وضالّة، وتمودّ الثوب، ومُدَيْقّ،
وأصيمّ" وما أشبه ذلك؛ فبطل إدخال هذه النون في فعل الاثنين.
وكذلك أيضًا يبطل إدخالها في فعل جماعة النسوة، وذلك لأنك إذا ألحقته
إياها لم يَخْلُ: إما أن تبين النونين مظهرتين، أو تدغم إحداهما في
الأخرى، أو تلحق الألف فتقول: "يفعلنان" بطل أن تبين النونين مظهرتين؛
لأنه يؤدي إلى اجتماع المثلين، وذلك لا يجوز، وبطل أن تدغم إحداهما في
الأخرى؛ لأن لام الفعل ساكنة، والمدغم كذلك؛ فيلتقي ساكنان، وساكنان لا
يجتمعان؛ فيؤدي إلى تحريك اللام مع ضمير الفاعل من غير فائدة، وذلك لا
يجوز، وكان أيضًا يؤدي إلى اللبس؛ لأنه لا يخلو: إما أن تحرك اللام
بالفتح، أو الضم، أو الكسر؛ فإن حركتها بالفتح التبس بفعل الواحد إذا
لحقته النون الشديدة، نحو "تضربنَّ يا رجل" وإن حركتها بالضم التبس
بفعل الجمع، نحو "تضربُنَّ يا رجال" وإنّ حركتها
__________
1 هي النون التي سموها نون الوقاية.
(2/537)
بالكسر التبس بفعل المرأة المخاطبة، نحو
"تضربنَّ يا امرأة" فبطل تحريك اللام، وبطل أن تلحق الألف؛ لأنه لا
يخلو: إما أن تكسر النون لالتقاء الساكنين، أو تترك ساكنة مع الألف،
بطل أن تكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنها تجري مجرى نون الإعراب، وذلك لا
يجوز، وبطل أن تترك ساكنة مع الألف؛ لأنه يجتمع ساكنان على غير حَدِّه؛
لأنه لم ينقل ذلك عن أحد من العرب، ولا نظير له في كلامهم، وذلك لا
يجوز؛ فإذا ثبت هذا فلسنا بمضطرين إلى إدخالها على صورة لم تنقل عن أحد
من العرب وتخرج بها عن منهاج كلامهم.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن النون الخفيفة مخففة من
الثقيلة" قلنا: لا نسلم، بل كل واحد منهما أصل في نفسه، غير مأخوذ من
صاحبة؛ فالنون الشديدة والخفيفة، وإن اشتركا في التأكيد فهما متغايران
في الحقيقة، وكلتاهما لتأكيد الفعل، وإخراجه عن الحال، وإخلاصه
للاستقبال، والثقيلة آكد في هذا المعنى من الخفيفة.
والذي يدل على أن الخفيفة ليست مخففة من الثقيلة أن الخفيفة تتغير في
الوقف، ويوقف عليها بالألف، قال الله تعالى: {لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] وقال تعالى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا
مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] أجمع القرَّاء على أن الوقف في هذين
الموضعين {لَنَسْفَعًا} ، {َلِيَكُونًا} بالألف لا غير.
وقال الشاعر:
[409]
يَحْسِبُهُ الجاهل ما لم يعلما ... شيخًا على كرسيّه معمَّمًا
__________
[409] هذان بيتان من مشطور الرجز لأبي الصمعاء مساور بن هند العبسي،
وهما من شواهد سيبويه "2/ 152" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1241" ورضي
الدين في باب نون التوكيد من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة
"4/ 569" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 474" وابن عقيل "رقم 317" وقد
زعم الأعلم أن هذين البيتين في وصف جبل قد عمه الخصب ونما فيه النبات
فجعله الراجز كشيخ مزمل في ثيابه معمم بعمامته، وأنه خص الشيخ لوقاره
في جلسته وحاجته للاستكثار من الثياب. وليس هذا الكلام بشيء، بل
البيتان في وصف وطب لبن قد علته رغوة اللبن وتكورت فوقه فأشبهت العمامة
بدليل أن قبل البيتين قوله:
وقد حلبن حيث كانت قيما ... مثنى الوطاب، والوطاب الزمما
وقمعا يكسى ثماما قشعما
قيما: هو -بضم القاف وتشديد الياء- جمع قائمة، والقياس أن يقال: قوم
-بالواو- لأن عين هذه الكلمة واو، ومثنى الوطاب: أي المتكرر منه،
والوطاب: جمع وطب وهو سقاء اللبن خاصة، والزمم: جمع زام، وهو المملوء،
والقمع -بكسر القاف وفتح الميم- هو =
(2/538)
فقال "يَعْلَمَا" بالألف، ولا يجوز أن يكون
ههنا بالنون؛ لمكان قوله "مُعَمَّمَا" بالألف، لأن النون لا تكون وصلا
مع الألف في لغة من يجعلها وصلا، ولا رويًّا مع الميم إلا في الإكفاء،
وهو عيب من عيوب الشعر، ولو جاز أن تقع رويّا معها لما جاز ههنا؛ لأن
النون مقيدة، والميم مطلقة، فإن أتى بتنوين الإطلاق على لغة بعض العرب
فقال "معمما" بالتنوين جاز أن يقول "يَعْلَمَنْ" بالنون؛ لأنهم يجعلون
في القافية مكان الألف والواو والياء تنوينا، ولا فرق عنده في ذلك بين
أن تكون هذه الأحرف أصلية أو منقلبة أو زائدة، في اسم أو فعل، كما قال
الشاعر:
[410]
أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذلَ والعتابَنْ ... وقولي: إنْ أَصَبْتُ لقد
أَصَابَنْ
__________
= شيء يوضع في فم السّقاء ويصبّ اللبن فيه مخافة أن يقع على الأرض،
والثمال -بضم الثاء- ههنا الرغو، ويحسبه: أي الوطب الذي علاه الثمال،
وما في قوله "ما لم يعلما" مصدرية ظرفية: أي مدة عدم علمه، ومحل
الاستشهاد من هذا البيت قوله "يعلما" والعلماء يستشهدون بهذه الكلمة
لشيئين: أولهما أن نون التوكيد تنقلب ألفًا في الوقف، ألا ترى الراجز
قد جاء بهذه الكلمة في آخر البيت بالألف لأن آخر البيت محل الوقف؟
والثاني أن الفعل المضارع المنفي بلم تدخل عليه نون التوكيد تشبيهًا
للم بلا الناهية، وسيبويه يرى أن ذلك لا يكون إلا في الضرورة، قال
الأعلم "الشاهد فيه دخول النون في قوله لم يعلمن، وليس المضارع بعد لم
من مواضع نون التوكيد، ضرورة" ا. هـ بتوضيح يسير.
[410] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي، وهو من شواهد سيبويه
"1/ 298/ و299" وابن جني في الخصائص "2/ 96" وفي شرح تصريف المازني "1/
244" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 567" وفي أوضح المسالك "رقم 1"
والأشموني "رقم 4" وابن عقيل "رقم 1" وشرحه العيني "1/ 91 بهامش
الخزانة" ورضي الدين في أوائل شرح الكافية وشرحه البغدادي في الخزانة
"1/ 34" ومفصل الزمخشري وشرحه لابن يعيش "ص1231" وأقلي: فعل أمر من
الإقلال، وهو في الأصل جعل الشيء قليلا، وقد يطلق على ترك الشيء بتة،
وهو المراد ههنا، واللوم: العذل والتوبيخ، وعاذل: مرخم عاذلة، وهو اسم
فاعل مؤنث من العذل وهو اللوم والتعنيف، والعتاب: هو مخاطبة الإدلال
ومذاكرة الغضب، والمراد ههنا اللوم في تسخط، وأصبت: يروى بضم التاء على
أنها ضمير المتكلم، ويروى بكسرها على أنها ضمير المخاطبة المؤنثة. ومحل
الاستشهاد من هذا البيت قوله "العتابن" و"أصابن" حيث لحق التنوين هاتين
الكلمتين، وههنا أشياء لا بد أن ننبّهك إليها، الأول: أن هذا التنوين
يسمى تنوين الترنّم، وهو غير مختص بالأسماء، بل يدخل الاسم والفعل
والحرف، ويدخل من الأسماء المتمكن وغير المتمكن والمقرون بأل وغير
المقرون بها، ولو كان مختصًّا بالأسماء لما دخل غير الأسماء المتمكنة
المجردة من أل، والثاني: أن هذا ضرب من ضروب إنشاد القوافي، قال سيبويه
في باب وجوه القوافي في الإنشاد: "وأما ناس كثير من تميم فإنهم يبدلون
مكان المدة النون فيما ينون وما =
(2/539)
وكما قال الشاعر:
[411]
وقد كنت من سلمى سنين ثمانيًا ... على صِيرِ أمرٍ ما يُمِرُّ وما
يَحْلُنْ
وكما قال الشاعر:
[412]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدَّخُول فَحَوْمَلِ
__________
= لم ينون، لما لم يريدوا الترنم أبدلوا مكان المدة نونًا، ولفظوا
بتمام البناء وما هو منه، كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد" ا. هـ
الثالث: أنهم سموا هذا التنوين تنوين الترنم، مع أنه في الواقع تنوين
المقصود منه ترك الترنم كما سمعت في عبارة سيبويه، وقد قال العلماء: إن
هذه التسمية على تقدير مضاف، أي تنوين قطع الترنّم، أو ما أشبه ذلك.
[411] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني "الديوان ص96" وهو
البيت الثاني من قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى، وقد كاد لا يسلو ... وأقفر عن سلمى التعانيق فالثقل
وصحا القلب: أفاق من سكرة حبه، وأراد قلبه، يقول: أفاق قلبي من حب سلمى
وبعدها عنه، وقد كاد لا يفيق لشدة تعلقه بها، وأقفر: خلا، والتعانيق:
أرض، والثقل يروى بالفاء، وبالقاف، ويروى "الثجل" بالجيم وقد ورد في
معجم البلدان بالثلاثة، واستشهد بهذا البيت، والثقل: موضع في شق
العالية، وصير الأمر -بكسر الصاد- منتهاه وصيرورته، تقول: أنا من حاجتي
على صير أمر، وعلى صيرورة وعلى صمات -بضم أوله- وعلى ثبار -بكسر أوله-
إذا كنت على شرف منها، وقوله "ما يمر" أي ما يكون مرًا فأيأس منه
وأتخلى عنه، ويحلو: أي ما يكون حلوًا فأرجوه وأتمنى تمامه. ومحل
الاستشهاد بهذا البيت قوله "وما يحلن" حيث ألحق هذه الكلمة تنوين
الترنم، أي تنوين قطع الترنم على ما علمت في شرح الشاهد السابق، وهذه
الكلمة فعل مضارع، فدل ذلك على أن هذا الضرب من التنوين غير مختص
بالأسماء كما بيناه لك آنفا، والمنشد قد حذف حرف المد وجاء بدله
بالتنوين، ونريد أن ننبهك ههنا إلى أن حرف المد الذي حذفه المنشد من
كلمة "يحلو" وأتى بدله بالتنوين، هو من أصول هذه الكلمة لأنه لام
الفعل، أما في "أصابن" وفي "العتابن" في بيت جرير السابق فحرف المد
الذي يأتي المنشد بدله بالتنوين حرف زائد على أصول الكلمة وإنما يأتي
المنشد بحرف المد أيضًا إذا قصد الترنم، واستمع إلى سيبويه يقول "أما
إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو ما ينون وما لا ينون،
لأنهم أرادوا مد الصوت" ا. هـ، ونظير هذا البيت إنشادهم بيت رؤبة:
داينت أروى والديون تقضن ... فمطلت بعضًا وأدت بعضن
بالنون في "يقضن" حذف الألف "تقضى" وهي لام.
[412] هذا البيت هو مطلع قصيدة امرئ القيس بن حجر الكندي المعلقة "شرح
المعلقات العشر للتبريزي ص1" وهو من شواهد سيبويه "2/ 298" وابن هشام
في مغني اللبيب "رقم 269" وفي أوضح المسالك "رقم 413" وفي شرح قطر
الندى "رقم 24" والأشموني "رقم 819" وابن الناظم في باب عطف النسق،
وشرحه العيني "4/ 130" ورضي الدين في باب =
(2/540)
بتنوين الرويّ، وإنما يفعلون ذلك إذا
أرادوا ترك الترنم؛ لأن التنوين ليس فيه من الامتداد ما في الألف
والواو والياء؛ فإثبات النون في "يعلمن" في القافية على هذه اللغة لا
يدل على أنه لا يجب أن يوقف عليها بالألف في سائر الكلام، وقال الشاعر:
[413]
وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْرَبَنَّهَا ... ولا تَعْبُدِ الشيطان،
واللهَ فاعبدا
__________
= الحروف العاطفة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 397"
وقف: فعل أمر من الوقوف، والألف المتصلة به تحتمل وجهين: الأول أن تكون
ضمير المثنى المخاطب، والثاني أن تكون منقلبة عن نون التوكيد، والأصل
"قفن" ثم أبدل النون ألفا للوقف، ثم عامل الكلمة في الوصل معاملتها في
الوقف، ونبك: مضارع من البكاء مجزوم في جواب الأمر، والسقط -مثلث السين
والقاف ساكنة- ما تساقط من الرمل، واللوى -بكسر أوله مقصورًا- المكان
الذي يسترق فيه الرمل فيخرج منه إلى الجدد، والدخول وحومل: موضعان وكان
الأصمعي يعيب امرأ القيس في قوله "بين الدخول فحومل" ويقول: كان ينبغي
أن يجيء بواو العطف فيقول "بين الدخول وحومل" لأن كلمة بين لا تضاف إلا
إلى متعدد، سواء أكان بلفظ واحد كأن يكون المضاف إليه مثنى أو مجموعًا
نحو أن تقول: جلست بين الرجلين الكريمين، أو تقول: جلست بين العلماء،
أم كان تعدده بالعطف وذلك لا يكون إلا بالواو، وقد اعتذر العلماء عن
امرئ القيس بأن غرضه بين أماكن الدخول فأماكن حومل، فهو من باب التعدد
بلفظ واحد. ومحل الاستشهاد بهذا البيت ههنا قوله "ومنزلن" وقوله
"فحوملن" حيث ألحق المنشد النون في الكلمتين، والقول فيهما كالقول في
البيتين السابقين.
[413] ما أنشده المؤلف عجز بيت للأعشى ميمون، ويروى صدره:
وذا النصب المنسوك لا تنسكنه
وهذا البيت والبيت العشرون من قصيدته التي كان قد أعدّها ليمدح به
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدته قريش "الديوان 101 – 103"
والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1239" وابن هشام في مغني
اللبيب "رقم 616" وفي أوضح المسالك "رقم 477" وفي شرح قطر الندى "رقم
149" والأشموني "رقم 969" وكلا هؤلاء رووا صدره:
وإياك والميتات لا تقربنها
وهو تلفيق بيت واحد من بيتين من أبيات القصيدة، وقد شرحه العيني "4/
340 بهاشم الخزانة" وبين انفصال الشطرين، ويروى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... بعاقبة، والله ربك فاعبدا
والفاء في قوله "فاعبدا" تحتمل ثلاثة أوجه: الأول أن تكون زائدة،
والثاني أن تكون واقعة في جواب أما مقدرة، وكأن قد قال: وأما الله ربك
فاعبد، والوجه الثالث أن تكون عاطفة، والمعطوف عليه محذوف، وكأنه قد
قال: تنبه فاعبد الله ربك ومحل الاستشهاد بهذا البيت ههنا قوله:
"فاعبدا" فإن أصل هذه الكلمة "فاعبدن" بنون توكيد خفيفة، فلما أراد أن
يقف =
(2/541)
والشواهد على هذا النحو كثيرة جدا؛ فلو
كانت هذه النون مخففة من الثقيلة لما كانت تتغير في الوقف، ألا ترى أن
نون "إن" و"لكن" المخففتين من إنَّ ولكنَّ الثقيلتين؛ لما كانتا
مخففتين من الثقيلتين لم تتغيرا في الوقف عما كانتا عليه في الوصل؛
فلما تغيرت النون الخفيفة في الوقف دلَّ على أنها ليست مخففة من
الثقيلة، يدل عليه أن النون الخفيفة تحذف في الوقف إذا كان ما قبلها
مضموما أو مكسورا، تقول في الوصل "هل تَضْرِبُنْ زيدا، وهل تَضْرِبِنْ
عمرًا" فإن وقفت قلت "هل تضربون، وهل تضربِيِنْ" فتردُّ نون الرفع التي
كنت حذفتها للبناء؛ لزوال ما كنت حذفت من أجله، ولو كانت مثل نون "إنْ،
ولكنْ" المخففتين من الثقيلتين لما جاز أن تحذف، يدل عليه1 أنَّ النون
الخفيفة إذا لقيها ساكن حذفت، تقول في "اضْرِبَنْ يا هذا" إذا وصلتها:
اضْرِبَ القَوْمَ2، فتحذف النون ولا تحركها لالتقاء الساكنين، ولو كانت
مخففة من الثقيلة مثل "إنْ، ولكنْ" لما كان يجوز أن تحذف؛ فدلَّ على
أنها ليست مخففة من الثقيلة وأنها بمنزلة التنوين، وإنما وجب حذفها
ههنا، بخلاف التنوين؛ لأن نون التوكيد تدخل على الفعل والتنوين يدخل
على الاسم، والاسم أصل للفعل، والفعل فرع عليه؛ فجعل ما يدخل على الاسم
الذي هو الأصل أقوى مما يدخل على الفعل الذي هو الفرع؛ فلهذا المعنى
حذفت النون لالتقاء الساكنين ولم يحذف التنوين، على أنه قد قرأ بعض
أئمة القراء: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فحذفت التنوين
من {أَحَدٌ} لالتقاء الساكنين، وقرأ أيضًا بعض القراء {وَلا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ} [يّ-س: 40] فحذف التنوين من {سَابِقُ} لالتقاء
الساكنين، لا للإضافة، ولهذا نصب {النَّهَارِ} ؛ لأنه
__________
= عليها أبدلها ألفًا، قال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت "قال لا
تقربنّها بالنون الشديدة في النهي، وقال والله فاعبدا، فأتى بالنون
الخفيفة مع الأمر، ثم وقف فأبدل منها الألف" ا. هـ، ومثل هذا البيت قول
الأعشى ميمون صاحب الشاهد الذي نحن بصدد شرحه:
وصل على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد المثرين، والله فاحمدا
وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
وقمير بدا لخمس وعشريـ ... ـن له قالت الفتان: قوما
والاستشهاد بهذا البيت في قوله "قوما" فإن هذه الألف لا يجوز أن تكون
ألف الاثنين، لأن الحديث عن واحد، فوجب أن تكون منقلبة عن نون التوكيد
الخفيفة للوقف.
__________
1 في ر "يدل عليه وهو أن النون" وواضح أن كلمة "وهو" مقحمة، وقد نبهنا
إلى مثل ذلك فيما مضى.
2 ونظيره قول الشاعر، وقد أنشدناه في شرح الشاهد رقم 373 الذي سبق
قريبًا في المسألة 77، وهو:
لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
(2/542)
مفعول "سابق"، وقال الشاعر:
[414]
فَأَلْفَيْتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذاكر اللهَ إلا قليلًا
__________
[414] ينسب هذا البيت لأبي الأسود الدؤلي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 85"
وابن جني في الخصائص "1/ 311" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه
"ص1235" ورضي الدين في باب التنوين من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في
الخزانة "4/ 554" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 808" وابن الشجري في
أماليه "1/ 346" والزمخشري في تفسير سورة آل عمران من الكشاف "1/ 152
بولاق" وألفيته: أي وجدته، وانظر شرح الشاهد 374 السابق في المسألة 78،
ومستعتب: أي طالب العتبى، وهي الرضا، والاستشهاد بالبيت يستدعي أن نقدم
لك بين يدي بيانه بحثا في ذكر المواضع التي يحذف فيها التنوين من الاسم
وجوبًا، فنقول: إنما يحذف التنوين من الاسم وجوبا في ثمانية مواضع؛
الأول: بسبب الإضافة، نحو قولك: زيد ضارب بكر، والثاني: بسبب شبه
الإضافة نحو قولك: لا مال لزيد عندك، إذا لم تقدر هذه اللام مقحمة، فإن
قدرتها مقحمة كان حذف التنوين بسب إضافة مال إلى زيد، فيكون من النوع
الأول: والثالث: بسبب اقتران الاسم بأن نحو الضارب والرجل والغلام،
والرابع: بسبب وجود علتين يقتضيان المنع من الصرف نحو فاطمة وأحمد
وضوارب، والخامس: بسبب اتصال الضمير بعامله نحو ضاربك وصاحبك، إذا قدرت
الضمير في محل نصب على المفعولية، فإن جعلته في محل جر بالإضافة كان من
النوع الأول، والسادس: بسبب البناء، وذلك في النداء واسم لا نحو يا رجل
لمعين ولا رجل عندك، والسابع: بسبب كون الاسم علما موصوفا بابن مضاف
إلى علم نحو يا زيد بن عمرو، والثامن: بسبب الوقف في غير المنصوب، أما
في المنصوب فإن التنوين يقلب ألفا في المشهور من لغة العرب، وربيعة
تعامل المنصوب معاملة غيره. إذا عرفت هذا فاعلم أن محل الاستشهاد بهذا
البيت قوله "ولا ذاكر الله" والرواية فيه بنصب لفظ الجلالة على
التعظيم، وهو معمول لذاكر، وكان من حق العربية عليه أن ينون "ذاكر"
لكنه حذف التنوين لضرورة الشعر، وقد كان يمكنه أن يضيف "ذاكر" إلى لفظ
الجلالة؛ فيكون حذف التنوين حينئذ واجبًا، لا ضرورة، لكنه آثر أن يرتكب
الضرورة على حذفه للإضافة لقصد حصول التماثل بين المتعاطفين في
التنكير، قال سيبويه "وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد هذا البيت لأبي
الأسود الدؤلي:
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله ... البيت
لم يحذف التنوين استخفافا ليعاقب المجرور، ولكنه حذفه لالتقاء الساكنين
كما قال رمى القوم، وهذا اضطرار، وهو مشبه بذلك الذي ذكرت لك" ا. هـ.
وقال الأعلم "الشاهد فيه حذف التنوين من ذاكر لالتقاء الساكنين ونصب ما
بعده، وإن كان الوجه إضافته، وفي حذف تنوينه لالتقاء الساكنين وجهان:
أحدهما أن يشبه بحذف النون الخفيفة إذا لقيها ساكن كقولك: اضرب الرجل،
تريد اضربن، والوجه الثاني: أن يشبه بما حذف تنوينه من الأسماء الأعلام
إذا وصف بابن مضاف إلى علم كقولك: رأيت زيد بن عمرو، وأحسن ما يكون حذف
التنوين للضرورة في مثل قولك: هذا زيد الطويل؛ لأن النعت والمنعوت
كالشيء الواحد، فيشبه بالمضاف والمضاف إليه" ا. هـ.
(2/543)
أراد "ذاكر الله" فحذف التنوين لالتقاء
الساكنين، لا للإضافة، ولهذا نصب "الله" بذاكر، وقال الآخر:
[415]
تُذْهِلُ الشيخ عن بنيه، وتُبْدِي ... عن خِدَامِ العَقِيلَةُ
العَذْرَاءُ
أراد "عن خدام" فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، لا للإضافة، ولهذا رفع
"العقيلَةُ" لأنها فاعل "تُبْدِي". وقال الآخر:
[416]
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مُغْبَرٌّ قبيحُ
__________
[415] هذا البيت من كلام عبيد الله بن قيس الرقيات، وقبله قوله:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1236" وقد أنشد ابن منظور
البيتين "خ د م" من غير عزو، وأنشدهما ابن الشجري في أماليه "1/ 345"
وعزاهما إليه، وتبدي: تظهر، وعدّاه بعن في قوله: "وتبدي عن خدم" لأنه
ضمنه معنى تكشف، كما جاء في قول امرئ القيس في المعلقة:
تصدّ وتبدي عن أسيل، وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل
والخدام -بكسر الخاء- جمع خدمة، وهي الخلخال، وربما سميت الساق نفسها
خدمة؛ لكونها موضع الخدمة. والعقيلة: الكريمة المخدرة من النساء،
والعذراء: البكر، وجملة "تذهل الشيخ" في محل رفع صفة لغارة، والرابط في
هذه الجملة بين الموصوف والصفة الضمير المستتر في "تذهل" فإنه يعود إلى
غارة، وجملة "وتبدي عن خدام" في محل رفع بالعطف على الجملة السابقة،
ورابط هذه الجملة بالموصوف محذوف، وأصل الكلام: وتبدي العقيلة العذراء
لها -أي لهذه الغارة، أي لأجلها- عن خدام، أي ترفع المرأة الكريمة من
شدة هذه الغارة ثوبها طالبة الهرب فيبدو خلخالها، ومحل الاستشهاد من
هذا البيت قوله "خدام" فقد كان من حق العربية عليه أن ينوّن هذه الكلمة
لأنها ليست في موضع من المواضع الثمانية التي أحصيناها لك في شرح
الشاهد السابق، ولكنه حذف هذا التنوين للضرورة على نحو ما ذكرناه لك في
شرح الشاهد السابق، ومن العلماء من يذكر أن الشاعر قد حذف التنوين من
هذه الكلمة لأنه قدر إضافتها إلى ضمير العقيلة العذراء، وأصل الكلام
على هذا: وتبدي عن خدامها العقيلة العذراء، فحذف الضمير وهو ينويه،
فلذلك أبقى التنوين محذوفا، قال ابن منظور "وخدام ههنا في نية خدامها"
ا. هـ. ومن العلماء من يروي هذا البيت على وجه آخر ليس فيه شاهد، وهو:
كيف نومي على الفراش، ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه، وتبدي ... عن براها العقيلة العذراء
[416] يعزى هذان البيتان إلى آدم أبي البشر، وقد أنشدهما ابن الشجري في
أماليه "1/ 346" وذكر أنه يقولها بعد أن قتل ابنه قابيل أخاه هابيل،
ويروى صدر الثاني "تغير كل ذي حسن وطيب" والبشاشة: طلاقة الوجه. ومحل
الاستشهاد من البيت قوله "بشاشة" واعلم أولًا أن من العلماء من يروي
هذه الكلمة برفع "بشاشة" من غير تنوين ويضيفها إلى الوجه، فيكون آخر
البيت الثاني مجرورًا وآخر البيت الأول مرفوعًا، ويكون في هذين البيتين
=
(2/544)
تغيَّرَ كلُّ ذي طَعْمٍ ولونٍ ... وقَلَّ
بَشَاشَةَ الوجهُ المَلِيحُ
أراد "قل بشاشة" بالتنوين؛ فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، لا للإضافة،
ولهذا رفع "الوجه" لأنه فاعل "قل" ويروى هذا الشعر لآدم عليه السلام،
وقال الآخر:
[417]
حَيْدَةُ خالي ولَقِيطٌ وعلي ... وحاتم الطائيُّ وهَّابُ المِئِي
يراد "حاتم" بالتنوين؛ فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وقال الآخر:
[418]
عمروُ الذي هَشَم الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورجالُ مَكَّةَ
مُسْنِتُونَ عِجَافُ
__________
= الإقواء، وهو تغير حركة حرف الروي، ومنهم من يروي بنصب "بشاشة" من
غير تنوين، ويرفع "الوجه" على أنه فاعل قل، ويرفع "المليح" على أنه صفة
للفاعل، وعلى هذا يسلم البيتان من الإقواء، ولكن يقع في ثانيهما ضرورة
حذف التنوين من الاسم الذي هو بشاشة لغير سبب من الأسباب الثمانية التي
ذكرناها في شرح الشاهد 414 وقد قرئ في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] برفع ذائقة من غير تنوين ونصب
الموت على أنه مفعول به لذائقة، وحذف التنوين على هذا للتخلص من التقاء
الساكنين كما في بيت الشاهد والبيتين قبله. وحكى أبو سعيد السيرافي
قال: "حضرت مجلس أبي بكر بن دريد، ولم أكن قبل ذلك رأيته، فجلست في ذيل
المجلس، فأنشده أحد الحاضرين بيتين يعزيان إلى آدم عليه السلام قالهما
لما قتل ابنه قابيل هابيل وهما" تغيرت البلاد.... البيتين" فقال أبو
بكر: هذا شعر قد قيل في صدر الدنيا وجاء فيه الإقواء، فقلت: إن له
وجهًا يخرجه من الإقواء، فقال: ما هو؟ قلت: نصب بشاشة، وحذف التنوين
منها لالتقاء الساكنين لا للإضافة، فتكون بهذا التقدير نكرة منتصبة على
التمييز، ثم رفع الوجه وصفته بإسناد قل إليه، فقال لي: ارتفع، فرفعني
حتى أقعدني إلى جنبه".
[417] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما لامرأة من بني عقيل تفخر
بأخوالها من اليمن كذا قال أبو زيد في النوادر "ص91" وهما من شواهد رضي
الدين في باب العدد وباب الجمع وباب التنوين من شرح الكافية، وشرحه
البغدادي في الخزانة "3/ 304" وقد أنشدهما ابن منظور "م أى" وأبو زيد
في نوادره "ص91" وابن جني في الخصائص "1/ 311" وحيدة، ولقيط، وعلي:
أعلام أشخاص، و"حاتم الطائي" مضرب المثل في الجود والكرم. ومحل
الاستشهاد من هذا الشاهد قوله "وحاتم الطائي" حيث حذف التنوين من حاتم
لالتقاء الساكنين، لا لسبب من الأسباب الثمانية التي بيناها لك في شرح
الشاهد 414، وهذا الحذف ههنا للضرورة، وكان الأصل أن يحرك التنوين
فتنشأ نون يكسرها على ما هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، ولكنه
لم يفعل ذلك وحذف التنوين رأسا، وقد سمعت في عبارة الأعلم الشنتمري
التي أثرناها لك في شرح الشاهد 414 أن الحذف في "وحاتم الطائي" أخف
الضرورات لكون الطائي صفة لحاتم، والصفة مع موصوفها كالكلمة الواحدة،
وفي البيت شاهد آخر، وذلك في قوله "المئي" حيث حذف النون، وأصله
"المئين" لأنها أخت التنوين.
[418] هذا البيت لمطرود بن كعب الخزاعي، من كلمة له يمدح فيها هاشم بن
عبد مناف والد =
(2/545)
وقال الآخر:
[419]
حُمَيْدُ الذي أمَجٌ دَارُهُ ... أَخُو الخَمْرِ ذو الشَّيْبَةِ
الأصْلَعُ
__________
= عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هاشم يسمى عمرًا،
فسموه هاشما لأنه كان يهشم الثريد لقومه ويطعمهم في المجاعات، وقد روى
هذا البيت ابن دريد في الاشتقاق "ص13" ونسبه لمطرود بن كعب الخزاعي،
ورواه ابن منظور "هـ ش م" ونسبه إلى ابنه هاشم ولم يسمها، ثم قال:
"وقال ابن برى: الشعر لابن الزبعرى". وأنشده أبو العباس المبرد في
الكامل "1/ 148" ولم يعزه إلى قائل معين، وأبو زيد في نوادره "ص167".
قال أبو رجاء: والسر في هذا الاضطراب أن لمطرود بن كعب الخزاعي كلمة
على هذا الروي، ولابن الزبعرى كلمة أخرى على الروي نفسه، فأما كلمة
مطرود بن كعب الخزاعي فرواها السيد المرتضى في أماليه "2/ 268" وأما
أبيات بن الزبعرى فرواها ابن هشام في السيرة، وابن أبي الحديد في شرح
نهج البلاغة، وروى السيد المرتضى منها بيتين أولهما بيت الشاهد، ومما
كان من دواعي الاضطراب أن عجز هذا البيت وقع في الشعرين جميعا: شعر
مطرود بن كعب الخزاعي، وشعر ابن الزبعرى.
والاستشهاد بهذا البيت في قوله "عمرو" حيث حذف التنوين منه لغير سبب من
الأسباب الثمانية التي فصلناها في شرح الشاهد 414"، وإنما حذفه للتخلص
من التقاء الساكنين: التنوين، وسكون اللام في "الذي" وليس هذا هو طريق
التخلص من التقاء الساكنين الذي اعتاد العرب أن يسلكوه، إنما طريقهم أن
يحركوا التنوين فتنشأ نون مكسورة، فلما لم يسلك الشاعر طريقهم المعتاد
بل حذف التنوين رأسا كان ذلك ارتكابًا للضرورة التي يرتكبها الشاعر حين
يلجئه إليه ملجئ من إقامة الوزن ونحوه.
[419] أنشد ابن منظور هذا البيت "أم ج" عن أبي العباس المبرد "الكامل
1/ 148 الخيرية"، ولم يعزه، وابن الشجري في أماليه "1/ 345" وأبو زيد
في نوادره "ص117" وأنشده ياقوت في معجم البلدان "أمج" ثاني ثلاثة
أبيات، وقال قبل إنشاده: "أمج بالجيم، وفتح أوله وثانيه، والأمج في
اللغة: العطش، من أعراض المدينة، منها حميد الأمجي، دخل على عمر بن عبد
العزيز، وهو القائل:
شربت المدام فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أسمع
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ... البيت
علاه المشيب على حبها ... وكان كريمًا، فلم ينزع
ومن هنا تعلم أن في بيت الشاهد الإقواء، وهو كما قلنا في شرح الشاهد
رقم 416 اختلاف حركة الروي في آخر البيت، فإن حركة الروي في "الأصلع"
الضمة، وحركته في بقية الأبيات الكسرة، إلا أن يكون الرواة يروون
"الأصلع" بالجر للجوار، لأن كلمة "الشيبة" قبله مجرورة بإضافة "ذو"
إليها، وانظر الشواهد 389-391 السابقة في المسألة رقم 84. ومحل
الاستشهاد بهذا البيت ههنا قوله "حميد" حيث حذف التنوين من هذه الكلمة
لغير سبب من الأسباب الثمانية التي ذكرناها في شرح الشاهد رقم 414 وكان
الأصل أن يحرك هذا التنوين حتى تنشأ نون مكسورة على ما هو الأصل في
التخلص من =
(2/546)
وقال الآخر:
[420]
لَتَجِدَنِّي بالأمير بَرًّا ... وبالقَنَاة مِدْعَسًا مِكَرَّا
إذا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا
أرد" غطيف" بالتنوين، إلا أنه حذفه لالتقاء الساكنين، كما حذفت نون
التوكيد لالتقاء الساكنين.
والذي يدل على أن نون التوكيد في الفعل بمنزلة التنوين في الاسم أنه
إذا انفتح ما قبلها أُبْدِلَتْ منها في الوقف ألفًا، وإذا انضم ما
قبلها أو انكسر حذفتها، كما تُبْدِلُ من التنوين في النصب إذا وقفت
ألفًا، نحو "رأيت زيدا" وتحذفه في الرفع والجر وتقف بالسكون نحو "هذا
زيد، ومررت بزيد" فدلّ على ما قلناه.
وأما قولهم: "إن هذه النون دخلت لتأكيد الفعل المستقبل؛ فكما جاز
إدخالها في كلّ فعلٍ؛ فكذلك فيما وقع فيه الخلاف" قلنا: إنما جاز هناك
لمجيئه في النقل، وصحته في القياس، وأما ما وقع فيه الخلاف فلم يأتِ في
النقل عن أحد من العرب، ولا يصحُّ في القياس؛ لأنه لا نظير له في
كلامهم.
وأما قولهم: "إن الألف فيها زيادة مدّ" قلنا: إلا أنه على كل حال لا
يخفُّ كل الخفة، ولا يَعْرَى عن الثقل، هذا مع عدم نظيره في النقل
وضعفه في القياس؛ لأن الألف لم تخرج عن كونها ساكنة، وإذا كانت ساكنة
فلا يجوز أن يقع بعدها ساكن إلا مدغما، نحو "دابّة وشابّة" لأن الحرف
المدغم بحرفين: الأول ساكن، والثاني متحرك، إلا أنه لما نَبَا اللسان
عنهما نَبْوَةً واحدة، وصارا بمنزلة حرف واحد وفيهما حركة قد رفع المدّ
في الألف كأنه لم يجتمع ساكنان.
__________
= التقاء الساكنين اللذين هما سكون التنوين وسكون لام الذي لأن بينهما
ألف وصل ولا اعتداد بها في الدرج، لكنه حذف التنوين رأسًا في هذا
الموضع للتخلص من التقاء هذين الساكنين، وهذا الحذف من الضرورات التي
لا تقع إلا في الشعر.
[420] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور، وقد أنشد ثلاثتها ابن الشجري
في أماليه "1/ 345" وابن منظور "د ع س" وأنشد أولها وثانيها "د ع ص"
ولم يعزها في المرتين، وأنشدها أبو زيد في النوادر "91" مع بيتين
سابقين من غير عزو، وتقول: رجل مدعس، ومدعص -وهو بالصاد أشهر- ومداعس
بضم الميم هنا: أي طعان، وتقول: دعصه بالرمح يدعصه دعصا -من مثال فتح-
إذا طعنه به، وقد يمسى الرمح مدعصًا؛ لأنه آلة الدعص، وجمعه مداعص
-بفتح الميم- ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "غطيف" حيث حذف التنوين
لغير واحد من الأسباب الثمانية السابقة بيانها، بل للتخلص من التقاء
الساكنين، وهو ضرورة، والقول فيه كالقول في الشواهد السابقة.
(2/547)
وأما قولهم: "إنه قد جاء في غير المدغم،
كقوله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162]
فنقول: وجه هذه القراءة أنه نوى الوقف فحذف الفتح، وإلا فلا وجه لهذه
القراءة في حال الوصل، إلا أن يجري الوصلُ مجرى الوقف. وذلك إنما يجوز
في حالة الضرورة.
وأما ما حكي عن بعض العرب من قوله "التقتْ حَلْقَتَا البطان" وقول
الآخر "ثلثا المال" فغير معروف، والمعروف عن العرب حذف الألف من "حلقتا
البطان، وثلثا المال" وما أشبههما؛ لالتقاء الساكنين، وإن صحّ ما
حكيتموه عن أحد من العرب فهو من الشاذ النادر الذي لا يقاس عليه، ولا
يعتد به لقلته.
وأما قولهم: "إنه يجوز تخفيف الهمزة في نحو هَبَاءة، والهمزة المخففة
ساكنة" قلنا: لا نسلم أنها ساكنة، بل هي متحركة، وسنبين فساد ذلك
مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما قراءة ابن عمار: "وَلَا تَتََّبِعَانِ" بالنون الخفيفة فهي قراءة
تفرد بها، وباقي القراءة على خلافها، والنون فيها للإعراب علامة الرفع؛
لأن "لا" محمول على النفي، لا على النهي، والواو في "ولا" واو الحال،
والتقدير: فاستقيما غير متبعين، كما قال الشاعر:
[421]
بِأَيْدِي رِجَالٍ لم يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ ... ولم تَكْثُرِ
القَتْلَى بِهَا حين سُلّتِ
__________
[421] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 592" وابن يعيش
في شرح المفصل "ص248" وأنشده ابن منظور "ش ي م" وعزاه إلى الفرزدق، وقد
وجدته في ديوان الفرزدق "ص139" بيتًا مفردًا، وأنشده ابن رشيق في
العمدة "2/ 178 بتحقيقنا" وعزاه إلى سليمان بن قنة في رثاء الحسين بن
علي رضي الله عنهما وذكر آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
"ويروى للفرزدق" وروى صدره:
أولئك قوم لم يشيموا سيوفهم
ورواه أبو العباس المبرد في الكامل "1/ 180 الخيرية" ولم يشيموا
سيوفهم: أي لم يغمدوها، أي لم يعيدوها إلى قربها، وقال قوم: المراد لم
يسلوها، أي لم يخرجوها من أغمادها، فهو على هذا من الأضداد. ومحل
الاستشهاد من هذا البيت ههنا قوله "ولم تكثر القتلى" فإن جماعة من
العلماء -منهم ابن يعيش وابن هشام- ذهبوا إلى أن الواو في قوله "ولم
تكثر.... إلخ" هي واو الحال، قال ابن هشام "ولو قدرت للعطف لانقلب
المدح ذمًّا" ا. هـ، وهذا مبني على أن معنى "لم يشيموا سيوفهم" لم
يعيدوها إلى أغمادها، يريد أنهم لم يعيدوها إلى أغمادها في حال عدم
كثرة القتلى، أي انتفت إعادتهم السيوف إلى الأغماد في حال عدم كثرة
القتلى؛ فيكون الثابت لهم إدخال السيوف في أغمادها حال كثرة القتلى،
وهذا مدح أي مدح، وهو مبنيّ على جعل الواو للحال، فأما إن جعلت الواو
للعطف. =
(2/548)
أي: لم يَشِيمُوا سيوفَهم غيرَ كاثرة بها
القتلى، والمعنى لم يشيموا سيوفهم1 إلا في تلك الحالة، وإذا كان محمولا
على النفي لا على النهى لم يكن لكم فيه حجة.
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه لا يجتمع ساكنان في الوصل إلا
إذا كان الثاني منهما مدغما.
قولهم: "إن هذا النحو قد يلحقه ما يوجب له الإدغام، نحو: اضْربَا
نُّعْمَانَ واضْرِبَانِّي، فينبغي أن تجيزوا هذا للإدغام" قلنا: هذا لا
يستقيم؛ لأنا نكون قد رَدَدْنَا النونَ الخفيفة مع لزوم حذفها في حال
الوصل والوقف إذا لم يتبعه كلام، وذلك خطأ. ثم كيف ترده وأنت لو جمعت
هذه النون إلى نون ثانية لاعتلت وأدغمت وحذفت في قول بعض العرب؟ فإذا
كُفُوا مؤنتها لم تكن ليردوها إلى ما يستثقلون، ولو جوزنا هذا في
"اضربا نُّعْمَان" ونحوه لوجب إجازته في قولك "اضْرِبَانَ أباكما" في
قول من لم يهمز؛ لأن هذا الموضع لم يمتنع فيه الساكن من التحريك،
فتردها إذا وثقت بالتحريك كما رددتها حيث وثقت في الإدغام، وكما لا
يجوز أن ترد في هذا وما أشبهه لأنك جئت به إلى شيء قد لزمه الحذف فكذلك
ههنا، ولو وجب2 إجازته في غير ذلك من الأسماء التي لا نون في أولها؛
ليكون
__________
= والمفروض أن معنى لم يشيموا لم يغمدوا فإن المعنى حينئذ انتفت
إعادتهم السيوف إلى أغمادها وانتفت أيضًا كثرة القتلى، يعني أن الثابت
لهم شيآن: عدم إغماد السيوف، وعدم كثرة القتلى، وهذا ذم شنيع، ولا شك
أنه ليس مراد الشاعر، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الواو في قوله
"ولم تكثر القتلى" يجوز أن تكون للعطف، وصححوا المعنى على ما أراد
الشاعر بأحد وجهين: الأول أن معنى "لم يشيموا سيوفهم" لم يسلّوها: أي
لم يخرجوها من أغمادها. وهذا وجه نقله مع الوجه الأول ابن رشيق في
العمدة؛ قال بعد إنشاد البيت: "أراد لم يغمدوا سيوفهم إلا بعد أن كثرت
به القتلى؛ كما تقول: لم أضربك ولم تجن عليّ إلا بعد أن جنيت عليّ،
وقال آخرون: أراد لم يسلوا سيوفهم إلا وقد كثرت بها القتلى؛ كما تقول:
لم ألقك ولم أحسن إليك إلا وقد أحسنت إليك؛ والقولان جميعا صحيحان؛
لأنه من الأضداد" ا. هـ. والحاصل أنك إذا فسرت لم يشيموا سيوفهم" بلم
يغمدوها تعين أن تكون الواو للحال، وإن فسرت "يشيموا سيوفهم" بلم
يسلوها جاز أن تكون الواو للعطف وجاز أن تكون للحال؛ والوجه الثاني من
الوجهين: أن مراد الشاعر بقوله "ولم تكثر القتلى" أنهم لم يكثروا من
القتل؛ لأنهم لا يقتلون كل من قدروا عليه، وإلا لأفنوا أعداءهم إفناء،
وإنما يقتلون أكفاءهم في الشجاعة والإقدام على المكاره، وذلك قليل في
أعدائهم.
__________
1 لعل كلمة "إلا" لا لزوم لها.
2 كذا، وأظن أصل الكلام "ولوجب إجازته".
(2/549)
الحكم فيها واحدًا، وذلك لا يجوز؛ لأن حمل
المدغم على غير المدغم في الامتناع أولى من حمل غير المدغم على المدغم
في الجواز، وذلك لأن غير المدغم أعمُّ استعمالًا وأكثر وقوعًا، والمدغم
أقل استعمالًا وأندر وقوعًا، فلما وجب أن يحمل أحدهما على الآخر كان
حمل الأقل الأندر على الأعمّ الأكثر أولى من حمل الأعمّ الأكثر على
الأقلّ الأندر، والله أعلم.
(2/550)
95- مسألة: [الحروف التي وضع الاسم عليها
في "ذا" و"الذي"] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم في "ذا، والذي" الذال وحدها، وما زيد عليها
تكثير لهما. وذهب البصريون إلى أن الذال وحدها ليست هي الاسم فيهما،
واختلفوا في "ذا": فذهب الأخفش ومن تابعه من البصريين إلى أن أصله:
ذَيُّ -بتشديد الياء- إلا أنهم حذفواالياء الثانية فبقي "ذَيْ"
فأبدلوامن الياء ألفًا لئلا يلتحق بكي؛ فإذا الألف منه منقلبة عن ياء،
بدليل جواز الإمالة؛ فإنه قد حكي عنهم أنهم قالوا في ذا: "ذا"
بالإمالة، فإذا ثبت أنها منقلبة عن ياء لم يجز أن تكون اللام المحذوفة
واوًا؛ لأن لهم مثل "حَيِيتُ" وليس لهم مثل "حَيَوْتُ" وذهب بعضهم إلى
أن الأصل في ذا "ذَوَي" بفتح الواو؛ لأن باب "شَوَيْت" أكثر من باب
"حَيِيتُ" فحذفت اللام تأكيدا للإبهام، وقلبت الواو ألفًا لتحركها
وانفتاح ما قبلها، وأما "الذي" فأجمعواعلى أن الأصل فيه "لَذِي" نحو:
عَمِي وشَجِي.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاسم هو الذال وحدها
أن الألف والياء فيهما يحذفان في التثنية نحو "قام ذَانِ، ورأيت
ذَيْنِ، ومررت بذَيْنِ، وقام اللَّذَانِ، ورأيت اللَّذَيْنِ، ومررت
باللَّذَيْنِ" ولو كان كما زعمتم أنهما أصلان لكانا لا يحذفان، ولوجب
أن يقال في التثنية "الذِيَان" كما يقال العَمِيَانِ، والشَّجِيَانِ،
و"الَّذِيُونَ" كما يقال: العميين، والشجيين، وأن تقلب الألف في تثنية
"ذا" ولا تحذف، فلما حذفت الياء والألف في تثنية "الذي، وذا" دلّ على
أنهما زائدان لا أصلان، وأن ما زيد عليهما تكثير لهما كراهية أن يبقى
كل وحد منهما على حرف واحد، وحركواالذال لالتقاء الساكنين -وهما الذال
والألف في ذا،
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص444 و456" وشرح
الأشموني مع حاشية الصبان "1/ 137 و146" وتصريح الشيخ خالد "1/ 150
و156 بولاق" وشرح الرضي على الكافية "2/ 28/ و37" ولسان العرب لابن
منظور "20/ 111 و330 و335" وشرحنا المطول على شرح الأشموني "1/ 194"
وأسرار العربية للمؤلف "ص150".
(2/551)
والذال والياء في الذي -وفتحواالذال في
"ذا" لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا، وكسروها من "الذي" لأن
الكسرة من جنس الياء، فكسرواما قبل الياء توكيدا لها، وزادوااللام
الثانية مفتوحة من "الذي" على اللام الأولى ليسلم سكون اللام الأولى؛
لأن الألف واللام لا تدخل على ساكن إلا احتيج إلى تحريك اللام لالتقاء
الساكنين، كقولهم: "الانتظار، والانكسار" فلو لم تدخل اللام الثانية
لأدّى إلى تحريك اللام الأولى؛ لأنها ساكنة والذال بعدها ساكنة؛
فزادوااللام الثانية لتبقى اللام الأولى على أصلها في السكون ولا تكسر
لالتقاء الساكنين.
والذي يدل على أن الذال أصلها السكون قول الشاعر:
[422]
اللَّذْ بأسفله صحراءُ واسعةٌ ... واللَّذْ بأعلاه سيل مدَّه الجرُفُ
وقول الآخر:
[423]
فلم أَرَ بيتًا كان أحسنَ بهجةً ... من اللَّذْ لَهُ من آلِ عَزَّةَ
عامرُ
وقول الآخر:
[424]
لن تنفعي ذا حاجة ويَنْفَعَكْ ... وتجعلين اللَّذْ مَعِي في اللَّذْ
مَعَك
__________
[422] أنشد المؤلف هذا البيت شاهدًا للكوفيين على أن أصل ذال الذي،
السكون، ونظيره في "التي" قول الأقيش بن ذهيل العكلي:
وأمنحه اللت لا يغيب مثلها ... إذا كان نيران الشتاء نوائما
وقول الآخر: وأنشده ابن الشَّجَرِي في أماليه عن الفَرَّاء، وأنشده رضي
الدين في شرح الكافية:
فقل للت تلومك: إن نفسي ... أراها لا تعوذ بالتميم
والتّميم: جمع تميمة، وهي المعاذة، ولكن ما وجه دلالة ذلك على أن الأصل
هو السكون، خصوصًا إذا راعيت أنه قد جاء مع هذه الشواهد شواهد أخرى
بكسر الذال؟ وسيذكر المؤلف هذا الاعتراض وينشد شواهد أخرى تدل للغات
أخر في "الذي" وسنتكلم عليها هناك إن شاء الله.
[423] العامر: المقيم في الدار، كأنه سمي بذلك لأنه يعمرها. وقد أنشد
المؤلف هذا البيت على لسان الكوفيين يستدلون به على أن أصل ذال "الذي"
ساكنة؛ لأنها قد جاءت في قول الشاعر "من اللذ" ساكنة، والقول فيه
كالقول في الشاهد السابق فإن أقصى ما يدل عليه مجيئها ساكنة في هذا
البيت ونحوه أن يكون سكونها مع حذف الياء لغة من لغات العرب قد جاءت في
هذه الكلمة، وسنتكلم على ذلك مع الشواهد الأخرى التي جاءت على لغات أخر
في هذه الكلمة.
[424] الاستشهاد من هذا البيت في قوله "اللذ معي في اللذ معك" حيث وردت
كلمة "اللذ" ساكنة الذال في الموضعين، والكلام فيهما كالكلام في
نظائرهما من الشواهد السابقة.
(2/552)
وقوله الآخر:
[425]
فَظَلْتُ في شَرٍّ من اللَّذْ كِيدَا ... كاللَّذْ تَزَبَّى زُبْيَةً
فَاصْطِيدَا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز أن تكون الذال
وحدها فيهما هو الاسم، وذلك لأن "ذا، والذي" كل واحد منهما كلمة منفصلة
عن غيرها؛ فلا يجوز أن يُبْنَى على حرف واحد؛ لأنه لا بد من الابتداء
بحرف والوقوف على حرف؛ فلو كان الاسم هو الذال وحدها لكان يؤدي إلى أن
يكون الحرف الواحد ساكنًا متحركًا، وذلك محال؛ فوجب أن يكون الاسم في
"ذا" الذال والألف معًا، والاسم في "الذي" لذي؛ لأن له نظيرًا في
كلامهم، نحو شَجِي وعَمِي، وهو أقل الأصول التي تبنى عليها الأسماء،
وما نقص عن ذلك من الأسماء التي أَوْغَلَتْ في شبه الحروف فعلى خلاف
الأصل، ولا يمكن إلحاق "ذا، والذي" بها، ألا ترى أن "ذا" كاسم مظهر
يكون وصفا وموصوفا؟ فكونه وصفا نحو قوله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
هَذَا} [يوسف: 93] وكونه موصوفًا نحو قوله تعالى: {مَالِ هَذَا
الْكِتَابِ} [الكهف: 49] وكذلك لا يمكن إلحاق "الذي" بها بأن يحكم
بزيادة اللام الثانية كاللام التي تزاد للتعريف؛ لأن زيادة اللام ليس
بقياس مطرد، وإنما يحكم بزيادتها في كلمات يسيرة نحو "زَيْدَلٍ،
وعَبْدَلٍ، وأُولالِكَ"؛ [280] لقيام الدليل على ذلك، كقولك في معناها:
زيد، وعبد، وأولاك، ولم يوجد ههنا: فبقينا فيه على الأصل.
والذي يدل على أن الألف في "ذا" والياء في "الذي" أصليَّتَان قولهم في
تصغير ذا "ذَيَّا" وأصله: ذَيَيَّا، بثلاث ياءات: ياءان من أصل الكلمة
وياء للتصغير؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، واستثقلوا اجتماع
ثلاث ياءات؛ فحذفوا
__________
[425] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما لرجل من هذيل، وقد أنشدهما
ابن منظور "20/ 343" عن الفراء من غير عزو، وقد أنشد ثانيهما رضي الدين
في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 497"
وأنشد ثانيهما أيضا ابن يعيش في شرح المفصل "ص457" وتزبّى: اتخذ زبية،
والزّبية -بضم الزاي وسكون الباء- حفرة بعيدة الغور تصنع لاصطياد
السبع، إذا وقع فيها لم يستطع الخروج منها، وفي أمثال العرب: بلغ السيل
الزبى، يقولونه إذا بلغ الأمر منتهاه، وإنما تتخذ الزبية في الجبال
لأنها موطن الأسود، ويروى "الربا" بالراء مهملة، وهو جمع ربوة، وهي ما
ارتفع وعلا من الأرض. وكيد: فعل ماضٍ مبني للمجهول من الكيد يقول: لقد
ظللت في شر من الذي كدت في حقه، فكنت كمن حفر حفرة ليصطاد فيها فإذا هو
واقع فيها. ومحل الاستشهاد من هذين البيتين قوله "في شر من اللذ" وقوله
"كاللذ تزبّى" حيث وردت كلمة "اللذ" في الموضعين محذوفة الياء ساكنة
الذال، والكلام فيها كالكلام فيما سبق من الشواهد.
(2/553)
الأولى، وكان حذفها أولى؛ لأن الثانية دخلت
لمعنى وهو التصغير، والثالثة لو حذفت لوقعت ياء التصغير قبل الألف،
والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا؛ فكانت تتحرك، وياء التصغير لا
تكون إلا ساكنة، ووزنه "فَيْلى"؛ لذهاب العين منه؛ وفي تصغير الذي
"اللَّذيّا" ولولا أنهما أصليتان، وإلا لما انقلبت الألف في "ذا" ياء
وأدغمت في ياء التصغير، ولما ثبتت الياء في "الذي" في التصغير؛ لأن
التصغير يردّ الأشياء إلى أصولها.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إن هذا يبطل بما إذا سميتم رجلًا بهل وبل ثم
صغرتموه؛ فإنكم تزيدون فيه في التصغير ما لم يكن فيه قبل ذلك" لأنا
نقول: إذا سمينا بهل وبل وما أشبه ذلك فقد نقلناه من الحرفية إلى
الاسمية، فإذا صغرناه صغرناه على أنه اسم؛ فوجب أن نزيد عليه حرفا
توجبه الاسمية، بخلاف تصغير "الذي، وذا" لأنا إنما نصغرهما1 على
معناهما الذي وُضِعا له؛ فبان الفرق بينهما.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الألف والياء يحذفان في
التثنية في نحو ذان واللذان، فدلّ على زيادتهما" قلنا: ذان واللذان ليس
ذلك تثنية على حد قولهم: "زيد وزيدان، وعمرو وعمران" وإنما ذلك صيغة
مرتَجَلة للتثنية، كما أن "هؤلاء" صيغة مرتجلة للجمع.
والذي يدل على ذلك أنه لو كان ذلك تثنية على حدّ قولهم "زيد وزيدان،
وعمرو وعمران" لوجب أن يجوز عليه دخول الألف واللام كما يقال: الزيدان،
والعمران، فلما لم يجز عليهما دخول الألف واللام فيقال الْذَان
واللَّذَان2 دلّ على أنه صيغة مرتجلة للتثنية في أول أحواله بمنزلة
"كِلا" وكذلك حكم كل اسم لا يقبل التنكير. وإنما لم يجز تثنيتهما على
حد قولهم: "زيد وزيدان، وعمرو وعمران" لأن التثنية ترد الاسم المعرفة
إلى التنكير، والأسماء الموصولة وأسماء الإشارة والأسماء المضمرة لا
تقبل التنكير، إلا أنهم لما قصدواتثنيتهما عاملوها ببعض ما يكون في
التثنية الحقيقية؛ فأدخلواعليها حرف التثنية، فوجود حرف التثنية في
اللفظ بمنزلة تاء التأنيث في "غرفة، وقربة" فكما أن التأنيث في "غرفة
وقربة" لفظي لا معنوي؛ فكذلك ههنا: التثنية لفظية لا معنوية.
وقولهم: "لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن لا تحذف الألف والياء
من ذا والذي كما لا تحذف الياء من عمي وشجي" قلنا: هذا باطل، وذلك من
وجهين:
__________
1 في ر "لأنا إنما تصغيرهما على معناهما" تحريف.
2 الأول تثنية "ذا" والثاني تثنية "الذي" مقرونين بأل.
(2/554)
أحدهما: أن تثنية عمي وشجي على حدّ تثنية
زيدان وعمران، بخلاف "ذا، والذي" على ما بينّا.
والثاني: أن ياء شجي وعمي يدخلها النصب، نحو "رأيت عميًا وشجيًا" بخلاف
الياء في "الذي" فإنها لا يدخلها النصب، بل يلزمها السكون أبدًا؛ فبان
الفرق بينهما.
وأما قولهم: "إن الاسم هو الذال وحدها وما زيد عليها تكثير لهما" قلنا:
لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن يقتصر في "الذي" على زيادة حرف واحد،
كما زدتم في "ذا" فأما زيادة أربعة أحرف فهذا ما لا نظير له في كلامهم،
على أنَّا قد بيّنَّا فساد كونها زائدة.
وأما قولهم: "الدليل على أن الأصل فيهما السكون نحو قول الشاعر:
[425]
فَظَلْتُ في شَرٍّ مِنَ اللَّذْ كِيدَا ... كاللَّذْ تَزَبَّى زُبْيَةً
فَاصْطِيدَا
قلنا: لو جاز أن يستدل بهذه اللغة على أن الأصل فيها السكون لجاز لآخر
أن يستدل على أن الأصل فيها الحركة باللغات الأخر؛ فإن فيها أَرْبَعَ
لُغَاتٍ: إحداها "الذي" بياء ساكنة وهي أفصح اللغات، والثانية "الذي"
بياء مشددة كما قال الشاعر:
[426]
وليس المال فاعلمه بمالٍ ... من الأقوام، إلا للَّذِيِّ
يريد به العلاءَ ويَمْتَهِنْهُ ... لأقرب أَقْرَبِيهِ وللقَصِيِّ
__________
[426] هذان البيتان أنشدهما ابن منظور "ل ذ ي" من غير عزو، وهما من
شواهد رضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وقد شرحهما البغدادي
في الخزانة "2/ 497" وقد رواهما ابن الشَّجَرِي في المجلس الرابع
والسبعين من أماليه، ويروى "ينال به العلاء" ويروى "ويصطفيه" ومعناه
يختاره، ويمتهنه في رواية المؤلف بمعنى يهينه، وهو مجزوم بلام أمر
مقدرة -أي وليمتهنه- للضرورة، وقوله "لأقرب" متعلق بيصطفيه أو بيمتهنه،
والقصيّ: البعيد، يقول: ليس المال على وجه الحقيقة بمملوك لأحد من
الناس إلا لرجل يريد به أن يبلغ أعلى درجات الرفعة وعلو القدر ويختاره
ليعطي منه القريب والبعيد من غير تفرقة. ومحل الاستشهاد من البيتين
قوله "للذي" حيث وردت هذه الكلمة بذال مكسورة وياء مشددة مكسورة، وكسر
هذه الياء كسرة بناء وليست الكسرة التي تقتضيها اللام في الاسم المعرب،
وذلك لأن الموصولات كلها مبنية لشبهها بالحرف شبهًا افتقاريًّا، وتشديد
الياء في "الذي" وفي "التي" لغة من لغات العرب، وقد مضت لغة أخرى في
الشواهد 422-425 وستأتيك لغة أخرى في الشاهد 427 فإذا ضممت هذه اللغات
إلى اللغة الأصلية -هي ثبوت الياء ساكنة- كانت أربع لغات، والمؤلف بصدد
تعدادها.
(2/555)
والثالثة "اللَّذِ" بكسر الذال من غير ياء،
كما قال الشاعر:
[427]
اللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكَانَتْ بَرَّا ... أو جَبَلًا أصمَّ
مُشْمَخِرًّا
والرابعة "اللذ" بسكون الذال، وبل أولى؛ فإن "اللذ" بسكون الذال أقل في
الاستعمال من "الذي" وغيرها من اللغات، فإذا لم يعتبر الأكثر في
الاستعمال فأولى أن لا يعتبر الأقل، والله أعلم.
__________
[427] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد رضي الدين في باب
الموصول من شرح الكافية، وقد شرحهما البغدادي في الخزانة "2/ 498"
ويروى البيتان هكذا.
والذ لو شاء لكنت صخرا ... أو جبلا أشم مشمخرا
وقد قال قوم من العلماء: إن الضمير المستتر في "لكانت" في رواية المؤلف
عائد على الدنيا، وإن البرّ في هذه الرواية بفتح الباء ضد البحر،
والمعنى: هو الذي لو شاء أن تكون الدنيا كلها برًا لكانت برًّا ولو شاء
أن تكون كلها جبلا لكانت جبلا، والأصم بالصاد، ويروى "أشم" والأشم:
العالي المرتفع، والمشمخر: البالغ في الغاية في الارتفاع، أو الراسخ.
ومحل الاستشهاد من هذين البيتين قوله "اللذ" فقد وردت الرواية فيه بكسر
الذال مع حذف الياء ووزن البيت لا يستقيم إلا بتحرك الذال، ولم ينقل
أنها تحرك بغير الكسر، فدل ذلك على أن من العرب من ينطق بهذه الكلمة
على هذا الوجه، ونظير ذلك في "التي" قول الشاعر:
شغفت بك اللت تيمتك؛ فمثل ما ... بك ما بها من لوعة وغرام
قال ابن منظور في "ل ذ ي": "الذي" اسم مبهم، وهو مبني معرفة، ولا يتم
إلا بصلة، وأصله لذي، فأدخل عليه الألف واللام، ولا يجوز أن ينزعا منه،
وقال ابن سيده: الذي من الأسماء الموصولة ليتوصل بها إلى وصف المعارف
بالجمل، وفيه لغات: الذي، والذ -بكسر الذال- والذ -بإسكان الذال- والذي
-بتشديد الياء- ثم أنشد البيتين رقم 426 ا. هـ، وقال كلاما نظير هذا عن
التي في "ل ت ي" وقال ابن يعيش: "أما الذي فيقع على كل مذكر من العقلاء
وغيرهم، وفيها أربع لغات، قالوا: الذي -بياء ساكنة- وهو الأصل فيها،
واللذ -بكسر الذال من غير ياء- كأنهم حذفواالياء تخفيفا إذ كانت الكسرة
قبلها تدل عليها، فعلواذلك كما قالوا: يا غلام ويا صاحب -بالكسرة-
بالكسرة اجتزاء بها عن الياءِ، الثالثة: الذ -بسكون الذال- ومجازه أنهم
لما حذفواالياء اجتزاء بالكسرة منها أسكنواالذال للوقف ثم أجرواالوصل
مجرى الوقف، وهو من قبيل الضرورة، وعند الكوفيين قياس لكثرته، الرابعة:
الذي -بتشديد الياء، للمبالغة في الصفة، كما قالوا: أحمري، وأصفري،
وكما قال:
والدهر بالإنسان دواري
وليس منسوبا" ا. هـ، وإذا ثبت بالنقل الصحيح أن في هذه الكلمة عدة لغات
وأن العرب قد تكلموابها كلها لم تكن إحدى هذه اللغات بأن تكون أصلًا
وغيرها فرعًا عنها بأولى مما عداها.
(2/556)
|