الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 96- مسألة: [الحروف التي وضع عليها الاسم
في "هو" و"هي"] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم من "هو، وهي" الهاء وحدها.
وذهب البصريون إلى أن الهاء والواو من "هو" والهاء والياء من "هي" هما
الاسم بمجموعهما.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاسم هو الهاء وحدها
دون الواو والياء أن الواو والياء تحذفان في التثنية، نحو "هما" ولو
كانتا أصلًا لما حذفتا.
والذي يدل على ذلك أنهما تحذفان في حالة الإفراد أيضا وتبقى الهاء
وحدها، قال الشاعر، وهو العُجَير السَّلُولِي جاهلي:
[333]
فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قال قائل: ... لمن جَمَلٌ رِخْوُ
المِلَاطِ نَجِيبُ
أراد "بَيْنَا هو" وقال الآخر:
[428]
بَيْنَاهُ في دار صدق قد أقام بها ... حينًا يُعَلّلُنَا وما
نُعَلِّلُهُ
أراد "بَيْنَا هو" وقال الآخر:
[429]
إِذَاهُ سِيمَ الخَسْفَ آلَى بِقَسَمْ ... بالله لا يأخذ إلا ما
احْتَكَمْ
__________
[428] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 12" ولم يعزه، ولا عزاه الأعلم،
وقد رويناه لك في شرح الشاهد 333 السابق في المسألة "رقم 70" وبينا
علته عند سيبويه ومن نحا منحاه، وهو ههنا مرويّ على لسان الكوفيين،
يستدلون به على أن أصل "هو" الهاء وحدها، بدليل سقوطها هذا في هذا
الشاهد وأمثاله، فإن المعروف أن سقوط الحرف من الكلمة دليل على أنه
زائد، وهو كلام غير مستقيم، لأن "هو" ضمير منفصل مستقل بنفسه يجري مجرى
الظاهر، فلا يكون على حرف واحد، ولأن لزوم الحرف وسقوطه إنما يستدل به
في تصريف الكلمات، وقد عرف أن التصريف لا يدخل الضمائر ونحوها من
الأسماء غير المتمكنة.
[429] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن منظور عن الكسائي
"20/ 366" ولم =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص416" وشرح الرضي على
الكافية "2/ 9" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "1/ 118".
(2/557)
أراد "إذا هو" وقال الآخر:
[430]
دارٌ لِسُعْدَى إذْهِ مِنْ هَوَاكَا
__________
= يعزهما إلى قائل معيّن، والرواية عنده في صدر الأول "إذاه سام الخسف"
وتقول: سام فلان فلانا الخسف، إذا أراد إذلاله وظلمه، وقال الأعشى.
إذ سامه خطتي خسف فقال له: ... أعرض على كذا أسمعهما حار
وآلى: حلف، والقسم: اليمين، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "إذاه" فإنه
أراد أن يقول "إذا هو" فلما لم يتيسر له ذلك حذف الواو، والكوفيون
يستدلون بهذا البيت ونحوه على أن أصل "هو" و"هي" الهاء وحدها، وأما
الواو في "هو" والياء في "هي" فحرفان زائدان قصد بهما دعم الهاء،
والبصريون يقولون: إن الواو والياء حرفان وضع كل واحد منهما مع الهاء
ليكون كل من "هو" و"هي" ضميرًا منفصلًا، وإن حذف الواو من "هو" وحذف
الياء من "هي" لا يدل على زيادتها، لأن أقصى ما يدل عليه الحذف أن يكون
لغة من لغات العرب يلجأ إليها من لا يستطيع أن يأتي بالكلمة على أصلها
الذي وضعت عليه عند جمهور العرب، وقد يكون ذلك الذي فعله الشاعر في هذا
البيت ضرورة من ضرورات الشعر، والضرورات لا يستدل بها على أحكام
العربية ولا تبنى عليها قواعد تجعل أسسًا للكلام المتلئب، قال ابن
منظور "قال الكسائي: هو: أصله أن يكون على ثلاثة أحرف مثل أنت، فيقال:
هو فعل كذا -أي بتشديد الواو مفتوحة- وقد ورد في قول الشاعر:
وإن لساني شهدة يشتفي بها ... وهو على من صبه الله علقم
ومن شواهد تشديد الياء من "هي" قول الشاعر:
والنفس ما أمرت بالعنف آبية ... وهي إن أمرت باللطف تأتمر
قال: ومن العرب من يخففه فيقول: هو فعل كذا، أي بإسكان الواو -قال
اللحياني:
وحكى الكسائي عن بني أسد وتميم وقيس: هو فعل ذلك، بإسكان الواو، وأنشد
لعبيد:
وركضك لولا هو لقيت الذي لقوا ... فأصبحت قد جاوزت قومًا أعاديا
قال الكسائي: وبعضهم يلقي الواو من هو إذا كان قبلها ألف ساكنة، فيقول:
حتاه فعل ذلك، وإنماه فعل ذلك، وأنشد أبو خالد الأسدي:
إذاه لم يؤذن له لم ينبس
قال: وأنشدني خشاف:
إذاه سيم الخسف.... البيتين
ثم أنشد الشاهد 333 ثم قال: وقال ابن جني: إنما ذلك لضرورة الشعر،
ولتشبيه الضمير المنفصل بالضمير المتصل في عصاه وفتاه" ا. هـ.
[430] هذا بيت من مشطور الرجز، وقبله:
هل تعرف الدار على تبراكا
وهو من شواهد سيبويه "1/ 9" ورضي الدين في باب المصدر وباب الموصول من
شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "1/ 277 و2/ 399" وابن يعيش
في شرح المفصل "ص417" وابن جني في الخصائص "1/ 89" وتبراك -بكسر التاء
وسكون الباء =
(2/558)
أراد "إذ هي" فحذف الياء؛ فدل على أن الاسم
هو الهاء وحدها، وإنما زادواالواو والياء تكثيرًا للاسم، كراهية أن
يبقى الاسم على حرف واحد، كما زادواالواو في قولهم: "ضربتهُو،
وأكرمتهُو" وإن كانت الهاء وحدها هي الاسم، فكذلك ههنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الواو والياء أصل أنه
ضمير منفصل، والضمير المنفصل لا يجوز أن يبنى على حرف واحد؛ لأنه لا بد
من الابتداء بحرف والوقف على حرف؛ فلو كان الاسم هو الهاء وحدها لكان
يؤدِّي إلى أن يكون الحرف الواحد ساكنًا متحركًا، وذلك محال؛ فوجب أن
لا تكون الهاء وحدها1 هي الاسم.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الواو والياء تحذفان في
التثنية نحوهما" قلنا: إن "هما" ليس بتثنية على حدّ قولك في زيدٍ زيدان
وعمرو عمران، وإنما هما صيغة مرتجلة للتثنية كأنتما، ألا ترى أنه لو
كان تثنية على حدّ قولهم "زيدان، وعمران" لقالوافي تثنية هو "هُوانِ"
وفي تثنية أنت "أنتان" ولكان يجوز أن يدخل عليهما الألف واللام فيقال
"الهُوَان، والأَنْتَانِ" كما يقال:
__________
= الموحدة –اسم موضع بعينه. ومحل الاستشهاد قوله "إذه" فقد ادعى
الكوفيون أن مجيء الهاء وحدها مرادًا بها "هي" يدل على أن الياء في
"هي" زائدة، وأن أصل الكلمة الهاء وحدها، والبصريون يردون ذلك ويأبونه،
وهم في الرد عليهم ينهجون أحد منهجين، الأول أن يقولوا: إن مجيء الهاء
وحدها في مكان "هي" و"هو" ضرورة من الضرورات التي تباح للشاعر إذا
ألجأه قصد إقامة الوزن أو الرويّ، أما في حال السعة والاختيار فلا يجوز
ذلك، وهذا المنحى هو الذي انتحاه شيخ البصريين سيبويه رحمه الله، ومنهم
من حكى في "هو" و"هي" لغات يتكلم بكل واحدة منها قبيلة أو أكثر من
قبائل العرب، وهذا هو المنحى الذي انتحاه الكسائي فيما نقلناه عن ابن
منظور عنه في شرح الشاهد السابق؛ وقد ذهب إلى مثل كلامه ابن يعيش في
شرح المفصل "417" قال: وذهب الكوفيون إلى أن الاسم الهاء وحدها؛
واحتجوالذلك بحذف الياء في نحو قوله.
دار لسعدى إذه من هواكا
وليس في ذلك حجة؛ لأن ذلك من ضرورات الشعر، وفيها ثلاث لغات: هي بتخفيف
الياء وفتحها؛ وهي بتشديد الياء مبالغة في تقوية الاسم ولتصير على
أبنية الظاهر؛ وهي بالإسكان تخفيفًا؛ وينبغي أن يكون الحذف في قوله:
إذه من هواكا
على لغة من أسكن لضعفها؛ إذ المفتوحة قد قويت بالحركة" ا. هـ.
__________
1 في ر "فوجب أن تكون الهاء وحدها هي الاسم" وهو ظاهر الفساد.
(2/559)
الزيدان، والعمران، فلما لم يقولواذلك دلّ
على أنها صيغة مرتجلة للتثنية، وعلى أنه لو كان الأمر كما زعمتم فليس
لكم فيه حجة؛ لأن الحرف الأصلي قد يحذف لعلة عارضة، ألا ترى أن الياء
تحذف في الجمع في نحو قولهم: "قاضُون، ورامُون" والأصل قاضِيُون،
ورامِيُون، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت الضمة عنها؛ فبقيت الياء
ساكنة وواو الجمع ساكنة، فاجتمع ساكنان، وساكنان لا يجتمعان؛ فحذفت
الياء لالتقاء الساكنين وإن كانت أصلية لعلة عارضة، فكذلك ههنا، والعلة
ههنا في إسقاطهما أن الواو التي قبل الميم في التثنية والجمع يجب أن
تكون مضمومة، والضمة في الواو مستثقلة؛ فلذلك سقطت، وإنما وجب أن تكون
مضمومة لأنها لو كسرت لكان ذلك مستثقلًا من وجهين.
أحدهما: لأنه خروج من ضم إلى كسر، وذلك مستثقل، ولهذا ليس في الأسماء
ما هو على وزن فُعِل إلا "دُئِل" اسم دُوَيْبَّة و"رُئِم" اسم للسَّهِ،
وهما في الأصل فعلان نقلا إلى الاسمية، وحكى بعضهم "وُعِلٌ" في
الوَعِل.
والثاني: أن الكسرة تستثقل على الواو أكثر من استثقال الضمة عليها؛
ولهذا تضم لالتقاء الساكنين في نحو قوله: {اشْتَرَواالضَّلالَةَ
بِالْهُدَى} [البقرة: 16] ولا تكسر إلا على وجه بعيد، ولو بقيت الواو
من "هو" كما كانت مفتوحة وقد زيد عليها الميم والألف لَتُوُهِّمَ أنها
حرفان منفصلان؛ فوجب أن تغير الحركة التي كانت مستعملة في الواحد إلى
الضم كما غيرت في "أنتما" ووجب أيضا ذلك في "أنتما" لأنها لو فتحت
وكسرت لجاز أن يتوهم أنها كلمتان منفصلتان، فاجتلبواحركة لم تكن في
الواحد لتدل على أنها كلمة واحدة، وأَجْرُواجميع المضمر في التثنية
والجمع هذا المُجْرَى.
وقيل: إنما ضُمَّتْ التاء في التثنية حملا على الجمع؛ لأنها في التقدير
كأنها وليت الواو في "أنتمو" وإنما حملت التثنية على الجمع ليشتركا في
ذلك كما اشتركا في الضمير في "نحن" وزيدت الميم في التثنية لوجهين:
أحدهما: أن التثنية أكثر من الواحد، وفي المضمرات ما هو على حرف واحد،
فكثر اللفظ كما كثر العدد؛ فلذلك زيد في التثنية حرف، وحمل جميع
المضمرات عليه.
والثاني: أن القافية فيه إذا كانت مطلقة وحرف الرويّ مفتوح وُصِلَ
بالألف، ولهذا يسمى ألف الوصل والصِّلَة، قال الشاعر:
[204]
يا مُرَّ يا بن واقعٍ يا أَنْتَا ... أنت الذي طَلّقْتَ عَامَ جُعْتَا
(2/560)
وقال الآخر:
[431]
أخوك أخو مُكَاشَرَةٍ وضِحْكٍ ... حَيَّاكَ الإلهُ وكيف أَنْتَا
فلو لم يزيدواالميم لالتبس الواحد بالتثنية؛ فزادواالميم كراهية
الالتباس؛ فكانت الميم أولى بالزيادة لأنها من زوائد الأسماء، فلذلك
كانت أولى بالزيادات.
وأما ما أنشدوه من قول الشاعر:
[333]
فبيناه يشري رحله....
[428]
وبيناه في دار صدق....
[429]
وإذاه سيم الخسف....
[430]
ودار لسعدى إذه من هَوَاكَا
فإنما حذفت الواو والياء لضرورة الشعر، كقول الشاعر:
[432]
فَلَسْتَ بِآتِيهِ ولا أستطيعه ... ولك اسقِنِي إن كان ماؤك ذا فَضْلِ
__________
[431] المكاشرة: الضحك حتى تبدو الأسنان، تقول: كشر الرجل يكشر -مثل
جلس يجلس- كشرا، وانكل، وافتر -بتضعيف لامهما- أي تبسم، وقال الشاعر:
وإنّ من الإخوان إخوان كشرة ... وإخوان كيف الحال والبال كله
الكشرة -بوزن العشرة والهجرة- مثل المكاشرة، نظير الهجرة والمهاجرة
والعشرة والمعاشرة. والضحك في بيت الشاهد -بكسر الضاد وسكون الحاء،
وقوله "وحياك الإله" يريد لفظ الجملة، يعني أن أخاك رجل حسن الصحبة
رفيق في معاملة إخوانه يقبل عليهم بوجه طلق وسن ضاحك يحييهم، وقوله
"فكيف أنتا" يريد هل أنت على غرار أخيك؟ وما حالك مع إخوانك؟ ومحل
الاستشهاد من هذا البيت قوله "كيف أنتا" حيث ألحق الألف للضمير المنفصل
الذي لخطاب الواحد المذكر عند الوقف عليه، فلو لم نزد الميم قبل الألف
في الضمير المنفصل الذي لخطاب الاثنين واكتفينا بزيادة الألف فقلنا
"أنتا" لكان يلتبس خطاب الواحد بخطاب الاثنين، فلما قلنا في خطاب
المثنى "أنتما" بزيادة الميم قبل الألف ارتفع اللبس.
[432] هذا البيت من كلمة في وصف ذئب، للنجاشي الحارثي، واسمه قيس بن
عمرو بن مالك، وقد اختار هذه الكلمة الشريف المرتضى في أماليه "2/ 211"
والشريف ابن الشجري في حماسته "ص207 ط الهند" والبيت من شواهد سيبويه
"1/ 9" وابن جني في الخصائص "1/ 310" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم
485" وفي أوضح المسالك "رقم 100" والأشموني "رقم 257" والرضي في باب
الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي "4/ 367" وقبل البيت المستشهد
به قوله:
وماء كلون الغسل قد عاد آجنا ... قليل به الأصوات في بلد محل
وجدت عليه الذئب يعوي كأنه ... خليع خلا من كل مال ومن أهل
=
(2/561)
أراد "ولكِنِ اسقني" فحذف النون لضرورة
الشعر، وكقول الآخر:
[433]
أَصَاحٍ تَرَى برقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ ... كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في
حَبِيِّ مُكَلَّلِ
__________
=
فقلت له: يا ذئب، هل لك في فتى ... يواسي بلا من عليك ولا بخل؟
فقال: هداك الله للرشد! إنما ... دعوت لما لم يأته سبع مثلي
ومحل الاستشهاد في البيت قوله "ولاك اسقني" وأصل العبارة "ولكن اسقني"
فالتقى فيها ساكنان: نون لكن، وسين اسقني، وكان الأصل في التخلص من
هذين الساكنين أن يكسر نون لكن، ولكن الشاعر حذفها هنا للتخلص من
التقاء الساكنين حين اضطر لإقامة الوزن؛ قال الأعلم "حذف النون من لكن
لاجتماع الساكنين ضرورة لإقامة الوزن وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء
الساكنين، شبهها في الحذف بحروف المد واللين إذا سكنت وسكن ما بعدها،
وذلك نحو يغز العدو، ويقض الحق، ويخش الله، ولما استعمل محذوفًا نحو لم
يك ولا أدر" ا. هـ.
[433] هذا البيت هو البيت السبعون من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي
"انظر شرح التبريزي ص69" والبيت من شواهد سيبويه "1/ 335" ولكنه روى
صدره "أحار ترى برقا" وابن جني في الخصائص "1/ 96" ولكنه روى صدره
"أعني على برق أريك وميضه" و"حار" في رواية سيبويه يريد به "حارث" فحذف
الثاء، و"صاح" في رواية المؤلف يريد به "صاحبي" فحذف ياء المتكلم وحذف
آخر المضاف أيضا، وترى: يريد أترى -بهمزة الاستفهام- إلا أنه لما كان
حرف الاستفهام في صورة حرف النداء الذي استعمله وهو الهمزة، وكان حرف
النداء يؤدّي من التنبيه وتحريك المخاطب مثل ما يؤديه حرف الاستفهام
اكتفى بحرف النداء والوميض -بفتح الواو- اللمع، والحبي -بفتح الحاء
وتشديد الياء- وهو السحاب المعترض بالأفق، والمكلل: المتراكب بعضه فوق
بعض، وقوله: "في حبي" متعلق بوميضه. ومحل الاستشهاد في رواية المؤلف
قوله "أصاح" فإن هذه الكلمة مؤلفة من حرف النداء وهو الهمزة ومنادى
مضاف لياء المتكلم وقد رخّمه الشاعر بحذف ياء المتكلم، وحذف حرف من أصل
الكلمة، وأصله صاحبي، ونظيره في ذلك قول الشاعر:
صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في العلاب
وقول الآخر:
صاح شمر، ولا تزال ذاكر المو ... ت؛ فنسيانه ضلال مبين
وجاء على هذا الغرار قول أبي العلاء المعرى:
صاح هذي قبورنا تملا الرحـ ... ـب فأين القبور من عهد عاد؟
يريد هؤلاء الشعراء "يا صاحبي" فحذفواياء المتكلم، ثم استتبعواذلك
الحذف حذف الياء التي هي آخر حروف الكلمة الأصلية، وقد حذفوامع ذلك حرف
النداء وهذا الترخيم شاذ، ولا يكون مثله عند البصريين إلا في ضرورة
الشعر، لما علمت "في المسألة 48" من أنهم لا يجيزون ترخيم الاسم
المضاف، فارجع إلى المسألة التي أحلناك عليها لتعلم حقيقة الأمر.
(2/562)
أراد "صاحبي" فحذف الباء والياء؛ فكذلك
ههنا، وبل أولى، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الواو والياء حرفا علة، والنون من "لكن" والباء من "صاحب"
حرف صحيح، والمعتل أضعف من الصحيح؛ فإذا جاز حذف الأقوى لضرورة الشعر
فحذف الأضعف أولى.
والثاني: أنه قد حذف حرفين للضرورة -وهما الباء والياء من صاحبي- وإذا
جاز حذف حرفين للضرورة فحذف حرف واحد أولى.
وأما قولهم: "إنهم زادواالواو والياء تكثيرًا للاسم، كما زادواالواو في
ضَرَبْتُهُو" قلنا: هذا فاسد؛ لأن "هو" ضمير المرفوع المنفصل، والهاء
في "ضربتهو" ضمير المنصوب المتصل، وقد بينَّا أن ضمير المرفوع المنفصل
لا يجوز أن يكون على حرف واحد، بخلاف ضمير المنصوب المتصل؛ لأن ضمير
المرفوع المنفصل يقوم بنفسه؛ فلا بد من حرف يبتدأ به وحرفٍ يوقف عليه،
بخلاف ضمير المنصوب المتصل؛ لأنه لا يقوم بنفسه، ولا يجب فيه ما وجب في
ضمير المرفوع المنفصل.
والذي يدل على أنها ليست كالواو في "أكْرَمْتُهُو" أنه لا يلزم تسكنيها
كما يلزم تسكينها في "أكرمتهو" ولا يجوز تحريك الواو في "أكرمتهو" كما
يجوز في "هو قائم" ولو كانا بمنزلة [واحدة] لوجب أن يُسَوَّى بينهما في
الحكم، والله أعلم.
__________
= وأما في رواية سيبويه فالاستشهاد به في قوله "أحار" حيث أراد "يا
حارث" فرخم بحذف الثاء، وهو عند سيبويه قليل بالنسبة لترك الترخيم، قال
"واعلم أن الأسماء التي ليس في أواخرها هاء ألا يحذف منها أكثر؛ لأنهم
كرهواأن يخلوابها فيحملواعليها حذف التنوين وحذف حرف لازم للاسم لا
يتغير في الوصل ولا يزول، وإن حذفت فحسن، وليس الحذف لشيء من هذه
الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيرًا في
الشعر وأكثرواالتسمية بها للرجال" ا. هـ. ومن ترخيم حارث -غير بيت
الشاهد- قول مهلهل بن ربيعة:
يا حار لا تجهل على أشياخنا ... إنا ذوو الثورات والأحلام
وقول الآخر:
يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
(2/563)
97- مسألة: [القول في هل يقال "لَوْلَايَ"
و"لَوْلَاكَ"؟ وموضع الضمائر] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الياء والكاف في "لولاي، ولولاك2" في موضع رفع،
وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين. وذهب البصريون إلى أن الياء
والكاف في موضع جرٍّ بلولا. وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أنه لا
يجوز أن يقال "لولاي، ولولاك" ويجب أن يقال "لولا أنا، ولولا أنت"
فيؤتى3 بالضمير المنفصل كما جاء به التنزيل في قوله: {لَوْلا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] ولهذا لم يأتِ في التنزيل إلا
منفصلًا.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الياء والكاف في موضع
رفع لأن الظاهر الذي قام الياء والكاف مقامه رَفْعٌ بها على مذهبنا،
وبالابتداء على مذهبكم؛ فكذلك ما قام مقامه.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "هذا يبطل بعسى؛ فإن عسى تعمل في المظهر الرفع
وفي المكنيِّ النصب" لأنا نقول: الجواب على هذا من ثلاثة أوجه؛ أحدها:
أنا لا نسلم أنها تنصب المكني، وإنما هو في موضع رفع بعسى، فاستعير
للرفع لفظ النصب في عسى، كما استعير لفظ الجر في "لولاي، ولولاك" وإليه
ذهب الأخفش من أصحابكم. والوجه الثاني: أن الكاف في موضع نصب بعسى، وأن
اسمها مضمر فيها، وإليه ذهب أبو العباس المُبَرِّد من أصحابكم. والوجه
الثالث: أنا نسلم4 أنه في موضع نصب، ولكن لأنها حملت على "لعلَّ" فجعل
لها اسم منصوب وخبر مرفوع، وهو ههنا مقدر، وإنما حملت على "لعلَّ"
لأنها في
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص437" وشرح الكافية
للرضي "2/ 18" وشرحنا المطول على شرح الأشموني "3/ 192-199" وشرح
الأشموني بحاشية الصبان "2/ 181".
2 ومثل الكاف التي للمخاطب والياء التي للمتكلم الهاء التي للغائب في
نحو "لولاه".
3 في ر "فيأتي".
4 في مطبوعة أوروبا "والوجه الثالث أنا لا نسلم.... إلخ" وزيادة لا
واضحة.
(2/564)
معناها، ألا ترى أن "عسى" فيها معنى الطمع،
كما أن لعل فيها معنى الطمع، فأمَّا "لولا" فليس في حروف الخفض ما هو
بمعناه فيحمل عليه، فبان الفرق بينهما، ولأنه لو كان المكني في موضع
خفض لكنا نجد اسمًا ظاهرًا مخفوضًا بلولا؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف
يعمل الخفض في المكني دون الظاهر؛ فلو كانت مما يخفض لما كان يخلو أن
يجيء ذلك في بعض المواضع أو في الشعر الذي يأتي بالمستجاز، وفي عدم ذلك
دليل على أنه لا يجوز أن تخفض اسمًا ظاهرًا ولا مضمرًا؛ فدل على أن
الضمير بعد "لولاك" في موضع رفع.
يدل عليه أن المكنيّ كما يستوي لفظه في النصب والخفض نحو "أكرمتك،
ومررت بك" فقد يستوي لفظه أيضا في الرفع والخفض نحو "قمنا، ومر بنا"
فيكون لفظ المكنيّ في الرفع والخفض واحدًا، وإذا كان كذلك جاز أن تكون
الكاف في موضع "أنت" رفعًا.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "لو كان الرفع محمولًا على الجر في لولاك لوجب
أن يُفْصَلَ بين المكنيّ المرفوع والمجرور في المتكلم كما فصل بين لفظ
المكني المنصوب والمجرور في المتكلم نحو: أكرمني، ومرّ بي: لأنّا نقول:
النون في المنصوب لم تدخل لتفصل بين المكني المنصوب والمكني المخفوض،
وإنما دخلت النون في المكني المنصوب لاتصاله بالفعل؛ فلو لم يأتوابهذه
النون لأدّى ذلك إلى أن يكسر الفعل لمكان الياء؛ لأن ياء المتكلم لا
يكون ما قبلها إلا مكسورا؛ والفعل لا يدخله الكسر؛ لأنه إذا لم يدخله
الجر -وهو غير لازم؛ استثقالًا له- فلأن لا يدخله الكسر الذي هو لازم
استثقالًا له كان ذلك من طريق الأولى. وأما المكني المخفوض فلم تدخله
هذه النون لأنه يتصل بالحرف، والحرف لا يلزم أن تدخل عليه هذه النون،
و"لولا" حرف؛ فلهذا المعنى لم تدخل عليه هذه النون.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن المكني في "لولاي،
ولولاك" في موضع جر لأن الياء والكاف لا تكونان علامة مرفوع، والمصير
إلى ما لا نظير له في كلامهم محال؛ ولا يجوز أن يتوهم أنهما في موضع
نصب؛ لأن "لولا" حرف، وليس بفعل له فاعل مرفوع فيكون الضمير في موضع
نصب، وإذا لم يكن في موضع رفع ولا نصب وجب أن يكون في موضع جر.
قالوا: فلا يجوز أن يقال: "إذا زعمتم أن لولا تخفض الياء والكاف فحروف
الخفض لا بد أن تتعلق بفعل فبأي فعل تتعلق؟ " لأنا نقول: قد تكون
الحروف في موضع مبتدأ لا تتعلق بشيء كقولك "بحسبك زيد" ومعناه حسبك،
قال الشاعر:
[100]
بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غني مضرّ
(2/565)
وكقولهم: "هل من أحد عندك" أي هل أحد عندك؟
قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] أي
ما لكم إله غيره، ولهذا كان {غَيْرُهُ} مرفوعًا في قراءة من قرأ
بالرفع؛ فموضعها رفع بالابتداء وإن كانت قد عملت الجر، وكذلك "لولا"
إذا عملت الجر صارت بمنزلة الباء في "بحسبك" ومن في "هل من أحد عندك"
ولا فرق بينهما.
والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون.
وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم: "إن الياء والكاف لا يكونان
علامة مرفوع" قلنا: لا نسلم؛ فإنه قد يجوز أن تدخل علامة الرفع على
الخفض، ألا ترى أنه يجوز أن يقال "ما أنا كأنت" وأنت: من علامات
المرفوع، وهو ههنا في موضع مخفوض، فكذلك ههنا؛ الياء والكاف من علامات
المخفوض، وهما في "لولاي، ولولاك" من علامات المرفوع.
والذي يدل على أن "لولا" ليس بحرف خفض أنه لو كان حرف خفض لكان يجب أن
يتعلق بفعل أو معنى فعل، وليس له ههنا ما يتعلق به.
قولهم: "قد يكون الحرف في موضع مبتدأ لا يتعلق بشيء" قلنا: الأصل في
حروف الخفض أن لا يجوز الابتداء بها، وأن لا تقع في موضع مبتدأ، وإنما
جاز ذلك نادرًا في حرف زائد دخوله كخروجه كقولهم: "بحسبك زيد، وما
جاءني من أحد" لأن الحرف في نية الاطِّراح؛ إذ لا فائدة له، ألا ترى أن
قولك "بحسبك زيد، وحسبك زيد" في معنى واحد، وكذلك قولك "ما جاءني من
أحد، وما جاءني أحد" في المعنى واحد، فأما الحرف إذا جاء لمعنى ولم يكن
زائدًا فلا بد أن يتعلق بفعل أو معنى فعل، ولولا: حرف جاء لمعنى، وليس
بزائد؛ لأنه ليس دخوله كخروجه، ألا ترى أنك لو حذفتها لبطل ذلك المعنى
الذي دخلت من أجله، بخلاف الباء في "بحسبك زيد" ومن في قولك "ما جاءني
من أحد" فبان الفرق بينهما.
ثم لو سلمنا أن الحرف مطلقا إذا وقع في موضع ابتداء لا يتعلق بشيء فلا
نسلم ههنا أن الحرف في موضع ابتداء، وقد بيّنّا فساد ذلك فيما قبل.
وأما إنكار أبي العباس المبرد جوازه فلا وَجْهَ له؛ لأنه قد جاء ذلك
كثيرا في كلامهم، وأشعارهم، قال الشاعر:
[434]
وأنت امرؤ لولاي طِحْتُ كما هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ من قُلَّةِ
النِّيقِ مُنْهَوِي
__________
[434] هذا البيت ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي صاحب الشاهد رقم
111 السابق في =
(2/566)
...........................................................................
__________
= المسألة22 من نفس القصيد التي منها الشاهد المذكور، وهذا البيت من
شواهد سيبويه "1/ 388" وابن يعيش في شرح المفصل "ص437" ورضي الدين في
باب الضمير من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 430"
والمبرد في الكامل "2/ 209" وابن جني في الخصائص "2/ 259" والأشموني
"رقم 525" وابن عقيل "رقم 200" وشرحه العيني "3/ 262 بها مش الخزانة"
وطحت: سقطت وهلكت، ويجوز في الطاء الضم والكسر؛ لأن عين هذا الفعل جاء
بالواو وبالياء وإن كانت الياء أكثر، تقول: طاح يطوح كقال يقول، وطاح
يطيح كباع يبيع، وهوى: سقط من أعلى إلى أسفل، وهو على وِزَان رمى يرمي،
فأما هوي يهوى بمعنى عشق يعشق فوزانه رضي يرضى، والأجرام: جمع جرم،
وجرم كل شيء جثته، والقلة ومثلا القنة -بضم القاف وتشديد ما بعدها-
أعلى الجبل، والنيق -بكسر النون- أرفع موضع في الجبل، والمنهوي:
الساقط. ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "لولاي" حيث وقع الضمير
المتصل الذي أصله أن يكون في محل جر أو محل نصب بعد لولا، ولولا عند
جمهرة النحاة حرف من حروف الابتداء تطلب اسمًا ظاهرًا مرفوعًا كما في
قول الراجز، وهو عامر بن الأكوع رضي الله عنه:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
أو ضميرًا منفصلًا كما في قوله تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا
مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] وقد اختلف النحاة في مثل "لولاي" أهو جائز أم
لا؟ فقال أبو العباس المبرد: هو تعبير غير جائز عربية، فإن وقع في كلما
فهو خطأ، وقال غيره من العلماء: هو جائز لوروده في كلام العرب المحتجّ
بكلامهم، غير أنه ليس بالمنهج المطرد ولا المهيع المستمر، قال أبوسعيد
السيرافي: "ما كان لأبي العباس المبرد أن يسقط الاستشهاد بشعر رجل من
العرب قد روى قصيدته النحويون وغيرهم، ولا أن ينكر ما أجمع الجماعة على
روايته عن العرب" هـ، ويقول أبو رجاء: وما كان لأبي العباس المبرّد أن
ينكر ورود مثل هذا التعبير عن العرب، وهو يروي هذا البيت في الكامل "2/
209 الخيرية" ويروي قبله بيتًا فيه هذا التعبير، وهو قول رجل من
الخوارج لم يعينه، وهو أعشى همدان:
ويوم نجي تلافيته ... ولولاي لاصطلم العسكر
وقد ورد في رجز لرؤبة، وهو قوله:
لولا كما قد خرجت نفساهما
ورؤبة عنده أفصح العرب، وهو ممن لا تنكر فصاحته.
ثم اختلف القائلون بصحة هذا التعبير، ولهم فيه ثلاث مذاهب:
فذهب سيبويه رحمه الله تعالى إلى أن هذه الياء في "لولاي" والكاف في
"لولاك" والهاء في "لولاه" في محل جر بلولا، ولولا حينئذ حرف جر، لا
حرف ابتداء، ولا تتعلق بشيء وعنده أن لولا على وجهين: الوجه الأول تكون
فيه حرف ابتداء وذلك إذا وقع بعدا الاسم الظاهر كما في رجز عامر بن
الأكوع، أو وقع بعدها ضمير رفع منفصل كما في الآية الكريمة التي ترونا،
والوجه الثاني أن تكون حرف جر لا يتعلق بشيء كما في هذا البيت، قال:
"هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم متحولا عن حاله إذا أظهر بعده الاسم.
وذلك =
(2/567)
وقال الآخر:
[435]
أَتُطْمِعُ فِينَا مَنْ أَرَاقَ دِمَاءَنَا ... ولولاك لم يَعْرِضْ
لأحْسَابِنَا حَسَنْ
__________
= لولاك ولولاي، إذا أضمرت فيه الاسم جر، وإذا أظهرت رفع، ولو جاءت
علامة الإضمار على القياس لقلت: لولا أنت، كما قال سبحانه {لَوْلا
أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] ولكنهم جعلوه مضمرا مجرورا،
والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامة مضمر مرفوع، قال
الشاعر:
وكم موطن لولاي.. البيت
وهذا قول الخليل ويونس" ا. هـ كلامه.
والمذهب الثاني: مذهب الأَخْفَش والفَرَّاء، وحاصله أن الياء والكاف
والهاء في محل رفع بالابتداء، ولولا حرف ابتداء على حالها، وليس لها
إلا حال واحدة، ولكن العرب وضعت ضمير الجر في موضع ضمير الرفع، كما
عكسوا فوضعوا ضمير الرفع، في موضع ضمير الجر فقالوا: ما أنا كأنت ولا
أنت كأنا.
والمذهب الثالث: مذهب الكسائي، وتلخيصه أن الاسم المرتفع بعد "لولا"
فاعل بفعل محذوف يدل عليه المقام، وتقدير الكلام: لو لم يكن فعلي، وذلك
لأن "لولا" عنده تختص بالفعل، ولم أجد نصًّا صريحًا عنه يمنع وقوع
الضمير المتصل بعد لولا أو يجيزه، إلا ما ذكره ابن يعيش استنباطًا في
شرح مذهبه حيث يقول "وأما الكسائي فكان يرى ارتفاع الاسم بعد لولا بفعل
مضمر، معناه لو لم يكن فعلي، فعلى هذا ينبغي إذا كنى عنه أن تقول: لولا
أنا، ولولا أنت، لأن الفعل لم يظهر فتتصل به كنايته، فوجب أن يكون
الضمير منفصلا" ا. هـ كلامه بحروفه، وقوله: "فعلى هذا.... إلخ" استنباط
من عنده بحسب الأصول والقواعد، ولعل الكسائي يجيز وضع الضمير المتصل في
مكان المنفصل المرفوع كالأخفش والفراء، والفرق بينهما هو في العامل في
الضمير؛ فالأخفش والفراء يريان أن العامل في الضمير هو الابتداء لأن
لولا عندهما لا تكون إلا حرف ابتداء، والكسائي يرى أن العامل في الضمير
الفعل المقدر؛ لأن لولا حرف يختص بالفعل فلا يقع بعده إلا الفعل لفظًا
أو تقديرًا، وارجع إلى المسألة العاشرة.
[435] ينسب هذا البيت إلى عمرو بن العاص يقوله لمعاوية ابن أبي سفيان
في شأن الحسن بن علي، رضي الله عنهم أجمعين، وقبل البيت قوله:
معاوي إني لم أبايعك فلتة ... وما زال ما أسررت مني كما علن
والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص438" والأشموني "رقم 524"
وابن عقيل "رقم 199" وشرحه العيني "3/ 260 بهامش الخزانة" ومحل
الاستشهاد من هذا البيت قوله "ولولاك" حيث وقع الضمير المتصل الذي حقه
أن يكون في موضع الجر أو موضع النصب بعد لولا؛ ومجيء هذا الاستعمال في
كلام العرب المحتج بكلامهم يرد أولا على أبي العبا س المبرد الذي أنكر
مثل هذا الاستعمال، وللذين يجيزون هذا الاستعمال ثلاثة تخريجات ذكرناها
مفصلة في شرح الشاهد السابق، فارجع إليها إن شئت.
(2/568)
وقال بعض العرب:
[436]
أَوْمَتْ بعينيها من الهَوْدَج ... لولاك هذا العام لم أَحْجُج
وأما مجيء الضمير المنفصل بعده نحو "لولا أنا ولولا أنت" كما قال
تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] فلا خلاف أنه
أكثر في كلامهم وأفصح، وعدم مجيء الضمير المتصل في التنزيل لا يدل على
عدم جوازه، ألا ترى أنه لم يأتِ في التنزيل ترك عمل "ما" في المبتدأ
والخبر نحو "ما زيد قائم، وما عمرو منطلق" وإن كانت لغة جائزة فصيحة،
وهي لغة بني تميم، قال الشاعر:
[437]
رِكَابُ حُسَيْلٍ أَشْهُرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ ... ونَاقَةُ عمرو ما
يُحَلَّ لها رَحْلُ
ثم لم يدل عدم مجيئها في التنزيل على أنها غير جائزة ولا فصيحة؛ فكذلك
ههنا، والله أعلم.
__________
[436] هذا البيت من شواهد الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه "ص438"
ونسبه إلى عمر بن أبي ربيعة، ولا يوجد البيت في أصل ديوانه، ولكنه
موجود في زيادات الديوان أول بيتين "انظر الديوان 487 بتحقيقنا" ومن
شواهد رضي الدين في شرح الكافية في باب الضمير: وشرحه البغدادي في
الخزانة "2/ 429" ونسب قوم بيت الشاهد للعرجي -واسمه عبد الله بن عمر
بن عمرو بن عثمان بن عفان- وهو مثل عمر بن أبي ربيعة أحد شعراء قريش
الغزليين، وأومت: معناه أشارت، وأصله أومأت، فسهل الهمزة بقلبها ألفا
من جنس حركة ما قبلها، ثم حذف هذه الألف للتخلص من التقاء الساكنين
معاملة لها معاملة الألف الأصلية في نحو سعت ونهت وسقت وشفت وأبقت
وأفنت وتغاضت وتراضت، وما أشبه ذلك، والهودج: مركب من مراكب النساء
ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "لولاك" حيث وقع الضمير المتصل الذي
يكون في محل الجر أو النصب بعد لولا، والقول فيه كالقول في الشاهدين
السابقين فلا نطيل الحديث بعد أن فصلنا لك ذلك فيما سبق.
[437] الركاب: الإبل، ولا واحد لها من لفظها، وإنما واحدها راحلة،
وأشهر الصيف: مركب إضافي صدره منصوب على الظرفية، والبدن: جمع بادن،
وهو الكثير اللحم العظيم البدن، ويقال بادن للمذكر والمؤنث، وربما قيل
للمؤنث: بادنة، وكنى بكون ركابه بدنا عن أنها لا تعمل ولا يؤخذ منها
شيء من دم أو لبن، وقابله بقوله "ما يحل لها رحل" أي أنها على سفر
دائمًا، وحسل: اسم رجل وأصله ولد الثعلب، وحسيل: تصغيره. ومحل
الاستشهاد من البيتين قوله: "وما أنت فرع ولا أصل" حيث أهمل "ما"
النافية فلم يرفع بها الاسم وينصب الخبر، وإهمالها لغة تميم، وإعمالها
لغة أهل الحجاز وهي التي وردت في القرآن الكريم في قوله سبحانه: {مَا
هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وقوله: جلت كلمته {مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وقد علمنا أن القرآن الكريم نزل على
الرسول الكريم بلغة قومه وهم أهل الحجاز، فعدم وجود لغة أخرى فيه لا
يدل على ضعف هذه اللغة المتروكة، ولا على أنه لا يجوز التكلم بها، نعم
الأفصح في الاستعمال هو ما جاء في الكتاب العزيز.
(2/569)
98- مسألة: [الضمير في "إياك" وأخواتها] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الكاف والهاء والياء من "إيَّاك، وإيَّاه، وإياي"
هي الضمائر المنصوبة، وأن "إيا" عماد، وإليه ذهب أبو الحسن بن
كَيْسَانَ، وذهب بعضهم إلى أن "إياك" بكماله هو الضمير. وذهب البصريون
إلى أن "إيا" هي الضمير والكاف والهاء والياء حروف لا موضع لها من
الإعراب. وذهب الخليل بن أحمد إلى أن "إيا" اسم مضمر أضيف إلى الكاف
والهاء والياء؛ لأنه لا يفيد معنى بانفراده، ولا يقع معرفة، بخلاف غيره
من المضمرات؛ فخص بالإضافة عوضًا عما مُنِعَه، ولا يعلم اسم مضمر أضيف
غيره. وذهب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إلى أنه اسم مبهم أضيف
للتخصيص، ولا يعلم اسم مبهم أضيف غيره. وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أنه
اسم مظهر خُصَّ بالإضافة إلى سائر المضمرات، وأنها في موضع جر
بالإضافة.
وحكي أيضًا عن الخليل بن أحمد -رحمه الله- أنه مظهر ناب مناب المضمر.
وحكي عن العرب إضافته إلى المظهر في قولهم في المثل "إذا بلغ الرجل
الستين فإيَّاه وإيَّا الشَّوَابُ". والذي عليه الأكثرون من الفريقين
ما حكيناه عنهما أولًا.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن هذه الكاف والهاء
والياء هي الكاف والهاء والياء التي تكون في حال الاتصال؛ لأنه لا فرق
بينهما بوجه ما، إلا أنها لما كانت على حرف واحد وانفصلت عن العامل لم
تقم بنفسها فأتى بإيّا لتعتمد الكاف2 والهاء والياء عليها؛ إذ لا تقوم
بنفسها، فصارت بمنزلة حرف زائد لا يحول بين العامل والمعمول فيه.
والذي يدل على ذلك لحاق التثنية والجمع لما بعد "إيا" ولزومها لفظًا
واحدًا.
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 122" وشرح
الأشموني بحاشية الصبان "1/ 119" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص418 وما
بعدها" وشرح الرضي على الكافية "2/ 12".
2 في ر "لتعتمد الكاف.... إلخ".
(2/570)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما
قلنا إن "إيا" هي الضمير دون الكاف والهاء والياء، وذلك لأنا أجمعنا
على أن أحدهما ضمير منفصل، والضمائر المنفصلة لا يجوز أن تكون على حرف
واحد؛ لأنه لا نظير له في كلامهم؛ فوجب أن تكون "إيا" هي الضمير؛ لأن
لها نظيرا في كلامهم؛ والمصير إلى ما له نظير أولى من المصير إلى ما
ليس له نظير؛ ولهذا المعنى قلنا "إن الكاف والهاء والياء حروف لا موضع
لها من الإعراب"؛ لأنها لو كانت معربة لكان إعرابها الجر بالإضافة؛ ولا
سبيل إلى الإضافة ههنا؛ لأن الأسماء المضمرة لا تضاف إلى ما بعدها؛ لأن
الإضافة تُرادُ للتعريف1، والمضمر في أعلى مراتب التعريف؛ فلا يجوز
إضافته إلى غيره؛ فوجب أن لا يكون لها موضع من الإعراب.
وأما قول من ذهب من البصريين إلى أنه مضمر أضيف لأنه لا يفيد معنى
بانفراده، ولم يقع معرفة فجاز أن يخص بالإضافة -فباطل؛ لأن هذا الضمير
ما وقع إلا معرفة، ولم يقع قَطٌّ نكرة.
والذي يدل على ذلك أن علامات التنكير لا يحسن دخولها عليه، بل فيها
إبهام تبينه هذه الحروف كالتاء في "أنت" فإن الضمير هو "أن" وهو مبهم،
والتاء تبيّنه؛ فإن كانت مفتوحة دلّت على أنه ضمير المذكر، وإن كانت
مكسورة دلّت على أنه ضمير المؤنث، فكذلك ههنا: جُعِلَتْ هذه الأحرف
مبينة لذلك الإبهام مع كونه معرفة لا نكرة، وكما لا يجوز أن يقال إن
"إيا" مضاف إلى التاء؛ فكذلك لا يجوز أن يقال إنَّ "إيا" مضاف إلى
الكاف والهاء والياء وإذا حصلت الفائدة بهذه الأحرف لا على جهة الإضافة
-ولها نظير في كلامهم- كان أولى من جعل الضمير مضافًا إليها ولا نظيرَ
له في كلامهم.
وهذا هو الجواب عن مذهب من ذهب إلى أنه اسم مبهم مضاف؛ لأن المبهم
معرفة، والمعرفة لا تضاف؛ لأنه استغنى بتعريفه في نفسه عن تعريف غيره؛
لأن الكَحَلَ يغني عن الكُحْلِ.
وأما مَنْ ذهب إلى أنه اسم مظهر فباطل؛ لأنه لو كان الأمر على ما زعم
لما كان يقتصر فيه على ضرب واحد من الإعراب وهو النصب، فلما اقتصر فيه
على ضرب واحد من الإعراب وهو النصب دلَّ على أنه اسم مضمر، كما أنه لما
اقتصر بأَنَا وأَنْتَ وهُوَ وما أشبهها على ضرب واحد من الإعراب وهو
الرفع دلَّ على أنها أسماء مضمرة؛ إذ لا يعلم اسم مظهر اقتصر فيه على
ضرب واحد من الإعراب،
__________
1 في ر "تزاد للتعريف".
(2/571)
إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية
نحو "ذاتَ مرة، وبُعَيْدَاتٍ بين" ونوعًا من المصادر نحو "سُبْحَان،
ومَعَاذَ". وليس "إيا" ظرفًا ولا مصدرًا فيلحق بهذه الأسماء.
وأما ما حكي عن الخليل من قولهم: "إذا بَلَغَ الرجل الستِّين فإياه
وإيّا الشَّوَابّ" فالذي ذكره سيبويه في كتابه أنه لم يسمع ذلك من
الخليل، وإنما قال: وحدثني مَنْ لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيًّا
يقول: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وأيّا الشّواب، وهي رواية شاذة لا
يعتد بها، وكأنه لما رأى آخره يتغير كتغير المضاف والمضاف إليه أجراه
مجراه.
ثم هذه الرواية حجّة على من يزعم أنه اسم مظهر خُصّ بالإضافة إلى
المضمرات؛ لأنه أضاف "إيّا" إلى "الشواب" وهو اسم مظهر.
والذي يدلّ على أنه ليس باسم مُظْهَر أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن
يجوز أن يقال: ضربت إياك، كما يقال: ضربت زيدًا؛ فلما لم يجز ذلك دلّ
على أنه ليس باسم مظهر.
فأما قول الشاعر:
[438]
بالباعث الوارث الأموات قد ضَمِنَتْ ... إيّاهُمُ الأرض في دَهْرِ
الدَّهَارِيرِ
__________
[438] هذا البيت للفرزدق همام بن غالب، من قصيدة له يمدح فيها يزيد بن
عبد الملك بن مروان "الديوان ص262-267" وليس لأمية بن أبي الصلت كما
قال ابن جني، وقبل البيت المستشهد به قوله:
يا خير حيّ وقت نعل له قدما ... وميت بعد رسل الله مقبور
إني حلفت، ولم أحلف على فند، ... فناء بيت من الساعين معمور
في أكبر الحج حاف غير منتعل ... من حالف محرم بالحج مصبور
والبيت من شواهد الأشموني "رقم 47" وابن عقيل "رقم 15" وأوضح المسالك
"رقم 23" وابن جني في الخصائص "1/ 307 و2/ 195" ورضي الدين في باب
الضمير من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 409" وابن
الناظم في باب الضمير من شرح الألفية، وشرحه العيني "1/ 274 بهامش
الخزانة" ومحل الاستشهاد من البيت قوله: "ضمنت إياهم الأرض" حيث جاء
بالضمير منفصلا مع أنه في موضع يمكن الإتيان به متصلا فيقال: "ضمنتهم
الأرض" والذي صنعه الشاعر في بيت الشاهد مما لا يجوز إلا في ضرورة
الشعر، ومثل هذا البيت قول الشاعر، وينسبونه إلى طرفة بن العبد البكري،
ولكنه غير موجود في ديوانه:
أصرمت حبل الوصل؟ بل صرموا ... يا صا ح، بل قطع الوصال هم
وبين هذا البيت والبيت المستشهد به فرق من جهتين: الجهة الأولى أن
الضمير في هذا =
(2/572)
وقول الآخر:
[439]
إليك حتى بلغت إيَّاكَا
وقول الآخر:
[440]
كأنَّا يوم قُرَّى إنما نَقْتُلُ إِيَّانَا
__________
= البيت ضمير رفع منفصل وفي البيت المستشهد به ضمير نصب منفصل، والجهة
الثانية أنه قد فصل بين الضمير وعامله في البيت المنسوب إلى طرفة واتصل
الضمير بعامله من البيت المستشهد به، وهذا مما يزيد في قبح الضرورة،
فاعرف ذلك.
[439] هذا بيت من الرجز المشطور، وقبله قوله:
أتتك عنس تقطع الأراكا
والبيت من شواهد سيبويه "1/ 383" ونسبه الأعلم إلى حميد الأرقط، ومن
شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص424" وتعرض البغدادي لشرحه أثناء شرح
الشاهد 385 من شواهد الكافية، وهو الشاهد الآتي، وممن استشهد به ابن
جني في الخصائص "1/ 307 و2/ 194" والعنس -بفتح فسكون- الناقة الشديدة
القوية على السير، وقوله: "تقطع الأراك" أراد تقطع الأرضين التي هي
منابت الأراك، والأراك -بوزن السحاب- العود الذي يساك به. ومحل
الاستشهاد بالبيت قوله: "بلغت إياك" حيث جاء بالضمير المنفصل في المكان
الذي يكون فيه الضمير المتصل، وكان من حق العربية عليه أن يقول "حتى
بلغتك" وكان الزجاج يذهب إلى أن "إياك" في هذا البيت ليس مفعولا لبلغت،
ولكنه توكيد لضمير متصل محذوف يقع مفعولا لبلغت، وأصل الكلام على هذه
"بلغتك إياك" وهو تخلص من ضرورة بالوقوع في ضرورة أخرى؛ لأن حذف المؤكد
وبقاء التوكيد مما لا يجوز؛ لأنه يفوت الغرض الذي سيق إليه الكلام.
[440] قد اختلف العلماء في نسبة هذا البيت، فنسبه سيبويه "1/ 383" إلى
بعض اللصوص ولم يعين اسمه، ورواه في "1/ 271" وقال قبل إنشاده "وحدثني
أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت" ونسبه
ابن جني في الخصائص "2/ 194" لأبي بجيلة، ونسبه ابن الشجري في أماليه
"1/ 32 ط مصر" إلى ذي الإصبع العدواني، والبيت بعد ذلك من شواهد رضي
الدين في باب الضمير من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في خزانة الأدب
"2/ 406" والزمخشري في المفصل ونسبه -كما في كتاب سيبويه- إلى بعض
اللصوص، وابن يعيش في شرحه "ص423" ونسبه إلى ذي الإصبع العدواني، وقرّى
-بضم القاف وتشديد الراء مفتوحة- موضع في بلاد بني الحارث بن كعب،
وقوله: "نقتل إيانا" شبه فيه أعداءهم الذين أوقعوا فيهم القتل بأنفسهم
في السيادة والحسن، يدلك على هذا قوله بعد بيت الشاهد:
قتلنا منهم كل ... فتى أبيض حسانا
يرى يرفل في برديـ ... ـن من أبراد نجرانا
ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "نقتل إيانا" وقد أراد المؤلف
بإيراد هذا الشاهد هنا أن يقول: إنه وضع الضمير المنفصل المنصوب في
موضع الضمير المتصل المنصوب، =
(2/573)
فهو من ضرورة الشعر التي لا يجوز استعمالها
في اختيار الكلام.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الكاف والهاء والياء
ههنا هي التي تكون في حالة الاتصال" قلنا: لا نسلم؛ فإنها وإن كانت
مثلها في اللفظ إلا أنها تخالفها؛ لأن الكاف والهاء والياء ههنا حروف
وهناك أسماء، وصار هذا كالتاء في "أنت" فإنها في اللفظ مثل التاء في
"قمت" وإن كانت التاء في "أنت" حرفا والتاء في "قمت" اسما، وكما لا
يجوز أن يقال إن التاء في "أنت" اسم؛ لأنها مثل التاء في "قمت" فكذلك
ههنا [و] كما أن الاسم المضمر في "أنت" أنْ وحدها والتاء لمجرد الخطاب
وليست عمادًا للتاء؛ فكذلك "إيّا" هي الاسم المضمر وحدها، وليست عمادًا
للكاف والهاء والياء.
ثم لو كان الأمر كما زعموا لكان ذلك يؤدي إلى أن يعمد الشيء بما هو
أكثر منه، وأن يكون الأكثر عمادا للأقل وتبعا له، وهذا لا نظير له في
كلامهم.
والذي يدل على أن هذه الكاف والهاء والياء ليست هي التي تكون في حالة
الاتصال أن هذه الأحرف ههنا ضمائر منفصله، وتلك ضمائر متصلة، والضمائر
المنفصلة ينبغي أن يكون لفظها مخالفا للفظ الضمائر المتصلة، كما أن لفظ
المضمرات المرفوعة المنفصلة مخالف للفظ الضمائر المرفوعة المتصلة، وليس
شيء منها معمودًا، فكذلك ههنا.
__________
= وكان عليه على هذا -أن يقول "إنما نقتلنا" ولكنه لو قال "إنما
نقتلنا" لكان خطأ؛ لأنه لا يجوز أن يكون فاعل الفعل ومفعوله ضميرين
لشيء واحد، لا تقول "ضربتني" ولا "ضربتك" بتاء المخاطب، ولا "زيد ضربه"
على أن يكون في ضرب ضمير مستتر يعود إلى زيد، وتكون الهاء أيضا عائدة
إلى زيد، وإذا أريد هذا المعنى جيء بلفظ النفس فجعل مفعولًا به، فيقال
"ضربت نفسي" و"أكرمت نفسي" و"ضربت نفسك" و"أكرمت نفسك" و"زيد أكرم
نفسه" ويستثنى من هذه القاعدة أفعال القلوب وفعلان آخران -وهما عدم
وفقد- تقول "ظننتني، وخلتني، وعدمتني، وفقدتني"، فلو أراد الشاعر أن
يأتي بالكلام على الطريق المستعمل في كلام العرب كان يقول: "إنما نقتل
أنفسنا" قال الأعلم "وفصل الضمير من الفعل ضرورة، وكان الوجه نقتلنا،
والأصل في هذا أن يستغنى فيه بالنفس فيقال: نقتل أنفسنا، فوضع إيّانا،
موضع ذلك" ا. هـ. وأحسن مما قال الأعلم قول ابن يعيش "الشاهد فيه وضع
إيانا موضع الضمير المتصل، إلا أنه أسهل من قول حميد الأرقط:
حتى بلغت إياك
وذلك لأنه لا يمكنه أن يأتي بالمتصل فيقول نقتلنا لأنه يتعدى فعله إلى
ضميره المتصل، فكان حقه أن يقول: نقتل أنفسنا، لأن المنفصل والنفس
يشتركان في الانفصال ويقعان بمعنى، فلما كان المتصل لا يمكن وقوعه هنا
لما ذكرناه، وكان النفس والمنفصل مترادفين استعمل أحدهما في موضع
الآخر" ا. هـ.
(2/574)
وأما استدلالهم على أن "إيا" عماد بلحاق
التثنية والجمع لما بعدها فيبطل بأنت؛ فإنا أجمعنا على أن الضمير منه
"أن" والتثنية والجمع يلحقان ما بعده وهو التاء، ولا خلاف أن "أن" ليست
عمادا للتاء، وأن التاء ليست هي الضمير، فكذلك ههنا؛ وهذا لأن الحروف
إذا زيدت للدلالة على الأشخاص جاز أن تلحقها علامة التثنية والجمع؛
لأنها لما كانت دلالة على المخاطب والغائب والمتكلم لم يكن بُدٌّ من
لحاق علامة التثنية والجمع بها.
على أنا نقول: إن "إياكما، وإياكم" ليس بتثنية لمفرد ولا جمع على حد
التثنية والجمع، وإنما "إياكما" صيغة مرتجلة للتثنية، و"إياكم" صيغة
مرتجلة للجمع، وكذلك "أنتما، وأنتم" ليس بتثنية ولا جمع على حد التثنية
والجمع، وإنما "أنتما" صيغة مرتجلة للتثنية، و"أنتم" صيغة مرتجلة
للجمع، وكذلك حكم كل اسم مضمر واسم إشارة واسم صِلَةٍ. وسنبين هذا في
اسم الصلة مستقصى إن شاء الله تعالى.
وأما مَنْ ذَهَبَ إلى أنه بكماله المضمر فليس بصحيح، وذلك لأن الكاف في
"إياك" بمنزلة التاء في "أنت".
والذي يدل على ذلك أن الكاف في إياك" تفيد الخطاب، كما أن التاء في
"أنت" تفيد الخطاب، وأن فتحة الكاف تفيد المذكر، كما أن فتحة التاء في
"أنت" تفيد خطاب المذكر، وأن كسرة الكاف تفيد خطاب المؤنث، كما أن كسرة
التاء تفيد خطاب المؤنث، فكما أن التاء ليست من المضمر الذي هو "أن" في
"أنت" وإنما هي لمجرد الخطاب، ولا موضع لها من الإعراب؛ فكذلك الكاف
ليست من المضمر الذي هو "إيا" في "إياك" وإنما هي لمجرد الخطاب، ولا
موضع لها من الإعراب، وإذا لم تكن الكاف في "إياك" من المضمر كما لم
تكن التاء في "أنت" من المضمر، واستحال أن يقال إنَّ "أنت" بكماله هو
المضمر؛ فكذلك يستحيل أن يقال إن "إياك" بكماله هو المضمر، والله أعلم.
(2/575)
99- مسألة: [المسألة الزنبورية] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال "كنت أظن أن العقرب أشد لَسْعَةً من
الزُّنْبُورِ فإذا هو إياها". وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال:
"فإذا هو إياها". ويجب أن يقال: "فإذا هو هي".
أما الكوفيون فاحتجوا بالحكاية المشهورة بين الكسائي وسيبويه، وذلك أنه
لما قدم سيبويه على البرامكة، فطلب أن يجمع بينه وبين الكسائي
للمناظرة؛ حضر سيبويه في مجلس يحيى بن خالد وعنده وَلَدَاهُ جعفر
والفضل ومن حضر بحضورهم من الأكابر، فأقبل خلف الأحمر على سيبويه قبل
حضور الكسائي، فسأله عن مسألة، فأجابه سيبويه، فقال له الأحمر: أخطأت،
ثم سأله عن ثانية فأجابه فيها، فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة،
فأجابه فيها، فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سُوءُ أدب، قال
الفراء: فأقبلت عليه وقلت: إن في هذا الرجل عجلة وحدّة، ولكن ما تقول
في من قال "هؤلاء أبُونَ، ومررت بَأبينَ" كيف تقول على مثال ذلك من
"وأيت" و"أويت" فقدَّر فأخطأ، فقلت: أعِدِ النظر، فقدّر فأخطأ، فقلت:
أعِدِ النظر، فقدّر فأخطأ، ثلا ث مرات يجيب ولا يصيب. فلما كثر ذلك
عليه قال: لا أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال: فحضر الكسائي
فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ فقال: بل تسألني أنت، فأقبل
عليه الكسائي فقال: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور
فإذا هو هي، أو فإذا هو إيَّاهَا؛ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز
النصب؟ فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسألة من هذا النحو نحو
"خرجت فإذا عبد الله القائم، والقائم" فقال سيبويه في ذلك بالرفع دون
النصب، فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، والعرب ترفع ذلك كله
وتنصبه، فدفع
__________
1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص88-92" فقد فصل
المسألة وخرج المثال موضع الخلاف تخريجا دقيقا.
(2/576)
ذلك سيبويه، ولم يجز فيه النصب، فقال له
يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟
فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب؛ ووفدت عليك من
كل صُقْع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المِصْرضين، وسمع أهل
الكوفة والبصرة منهم؛ فيحضرون ويسألون، فقال له يحيى وجعفر: قد أنصفت،
وأمر بإحضارهم، فدخلوا وفيهم أبو فَقْعَس وأبو زياد وأبو الجراح وأبو
ثَرْوَان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فوافقوا
الكسائي، وقالوا بقوله، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع، وأقبل
الكسائي على يحيى: وقال أصلح الله الوزير! إنه وَفَدَ عليك من بلده
مؤملًا، فإن رأيت أن لا ترده خائبًا، فأمل له بعشرة آلاف درهم، فخرج
وتوجه نحو فارس، وأقام هناك، ولم يعد إلى البصرة.
فوجه الدليل من هذه الحكاية أن العرب وافقت الكسائي، وتكلمت بمذهبنا،
وقد حكى أبو زيد الأنصارى عن العرب "قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من
الزنبور فإذا هو إياها" مثل مذهبنا؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما من جهة القياس فقالوا: إنما قلنا ذلك لأن "إذا" إذا كانت للمفاجأة
كانت ظرف مكان، والظرف يرفع ما بعده، وتعمل في الخبر عمل وَجَدْتُ؛
لأنها بمعنى وجدت.
وقد قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: إن "هو" في قولهم "فإذا هو
إياها" عماد، ونصبت "إذا لأنها بمعنى وَجَدْتُ على ما قدمناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز إلا الرفع لأن
"هو" مرفوع بالابتداء، ولا بد للمبتدأ من خبر، وليس ههنا ما يصلح أن
يكون خبرا عنه، إلا ما وقع الخلاف فيه، فوجب أن يكون مرفوعا، ولا يجوز
أن يكون منصوبا بوجه ما؛ فوجب أن يقال "فإذا هو هي" فهو: راجع إلى
الزنبور لأنه مذكر، وهي: راجع إلى العقرب لأنه مؤنث.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما رووه عن العرب من قولهم: "فإذا
هو إياها" فمن الشاذ الذي لا يُعْبَأ به كالجزم بلن والنصب بلم وما
أشبه ذلك من الشواذ التي تخرج عن القياس، على أنه قد روي أنهم أُعْطُوا
على متابعة الكسائي جُعْلًا؛ فلا يكون في قولهم حجة لتطرق التهمة في
الموافقة.
وأما قولهم: "إن إذا إذا كانت للمفاجأة كانت بمنزلة وَجَدْتُ" فباطل؛
لأنها إن كانت بمنزلة وجدت في العمل فوجب أن يرفع بها فاعل وينصب بها
مفعولان كقولهم "وجدت زيدًا قائمًا" فترفع الفاعل وتنصب المفعولين، وإن
قالوا إنها بمعنى
(2/577)
وجدت، ولا تعمل عملها كما أن قولهم:
"حَسْبُكَ زيدٌ" بمعنى الأمر وهو اسم وليس بفعل، وكقولهم: "أحسن بزيد"
لفظه لفظ الأمر وهو بمعنى التعجب، وكقولهم: "رحم الله فلانا" لفظه لفظ
الخبر وهو في المعنى دعاء، وكقوله تعالى في قراءة من قرأ بالرفع: {لا
تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] لفظه لفظ الخبر والمراد
به النهي، وكقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]
أي: انْتَهُوا، لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر، وكقوله تعالى:
{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] لفظه لفظ الأمر
والمراد به الخبر، وكقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أي: ليرضعن، لفظه لفظ الخبر والمراد به
الأمر، إلى غير ذلك من الأماكن التي لا تحصى كثرة، فكذلك نقول نحن
ههنا: "إذا" بمعنى وجدت وهي في اللفظ ظرف مكان، وظرف المكان يجب رفع
المعرفتين بعده، فوجب أن يقال "فإذا هو هي".
وإن قالوا "إنها تعمل عمل الظرف وعَمَلَ وجدت؛ فترفع الأول لأنها ظرف
وتنصب الثاني على أنها فعل ينصب مفعولين" فباطل؛ لأنهم إن أعملوها عمل
الظرف بقي المنصوب بلا ناصب، وإن أعملوها عمل الفعل لزمهم وجود فاعل
ومفعولين، وليس لهم إلى إيجاد ذلك سبيل.
وأما قول أبي العباس ثعلب "إن هو في قولهم فإذا هو إياها عماد" فباطل
عند الكوفيين والبصريين؛ لأن العماد عند الكوفيين -الذي يسميه البصريون
الفَصْلَ- يجوز حذفه من الكلام، ولا يختلّ معنى الكلام بحذفه، ألا ترى
أنك لو حذفت العماد الذي هو الفصل من قولك "كان زيد هو القائم" فقلت
"كان زيد القائم" لم يختل معنى الكلام بحذفه؛ وكان الكلام صحيحًا،
وكذلك سائر الأماكن التي يقع فيها العماد الذي هو الفصل يجوز إثباته
وحذفه، ولو حذفته ههنا من قولهم: "فإذا هو إياها" لاختلَّ معنى الكلام
وبطلت فائدته؛ لأنه يصير "فإذا إياها" وهذا لا معنى له ولا فائدة فيه؛
فبطل ما ذهبوا إليه. والله أعلم.
(2/578)
|