الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 100- مسألة: [ضمير الفصل] 1
ذهب الكوفيون إلى أن ما يُفْصَلُ به بين النعت والخبر يسمى عمادًا، وله
موضع من الإعراب، وذهب بعضهم إلى أن حكمه حكم ما قبله، وذهب بعضهم إلى
أن حكمه حكم ما بعده. وذهب البصريون إلى أنه يسمى فصلًا لأنه يَفْصِلُ
بين النعت والخبر إذا كان الخبر مضارعًا لنعت الاسم ليخرج من معنى
النعت كقولك: "زيد هو العاقل" ولا موضع له من الإعراب.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن حكمه حكم ما قبله لأنه
توكيد لما قبله، فتنزل منزلة النفس إذا كان توكيدا، وكما أنك إذا قلت:
"جاءني زيد نفسه" كان نفسه تابعًا لزيد في إعرابه، فكذلك العماد، إذا
قلت: "زيد هو العاقل" يجب أن يكون تابعًا في إعرابه.
وأما من ذهب إلى أن حكمه حكم ما بعده قال: لأنه مع ما بعده كالشيء
الواحد؛ فوجب أن يكون حكمه بمثل حكمه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنه لا موضع له من الإعراب؛ لأنه
إنما دخل لمعنى وهو الفصل بين النعت والخبر، ولهذا سمّي فَصْلًا، كما
تدخل الكاف للخطاب في "ذلك، وتلك" وتثنّى وتجمع ولا حَظَّ لها في
الإعراب و"ما" التي للتوكيد ولا حظّ لها في الإعراب؛ فكذلك ههنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه توكيد لما قبله فتنزل
منزلة النفس في قولهم جاءني زيد نفسه" قلنا: هذا باطل؛ لأن المكنيَّ لا
يكون
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص430" وشرح الرضي على
الكافية "2/ 22" وتصريح الشيخ خالد "1/ 270 وما بعدها" وحاشية الصبان
على الأشموني "1/ 262 بولا ق".
(2/579)
تأكيد للمظهر في شيء من كلامهم، والمصير
إلى ما ليس له نظير في كلامهم لا يجوز أن يُصَار إليه.
وأما قولهم: "إنه مع ما بعده كالشيء الواحد" قلنا: هذا باطل أيضا؛ لأنه
لا تعلُّق له بما بعده؛ لأنه كناية عما قبله، فكيف يكون مع ما بعده
كالشيء الواحد؟ والله أعلم.
(2/580)
101- مسألة: [مراتب المعارف] 1
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المبهم2 -نحو "هذا، وذاك"- أَعْرَفُ من
الاسم العلم -نحو زيد، وعمرو"- وذهب البصريون إلى أن الاسم العلم أعرف
من الاسم المبهم، واختلفوا في مراتب المعارف؛ فذهب سيبويه إلى أن أعرف
المعارف الاسم المضمر؛ لأنه لا يُضْمَرُ إلا وقد عرف؛ ولهذا لا يفتقر
إلى أن يوصف كغيره من المعارف، ثم الاسم العلم؛ لأن الأصل فيه أن يوضع
على شيء لا يقع على غيره من أُمَّتِهِ3، ثم الاسم المبهم؛ لأنه يعرف
بالعين وبالقلب، ثم ما عرف بالألف واللام؛ لأنه يعرف بالقلب فقط، ثم ما
أضيف إلى أحد هذه المعارف؛ لأن تعريفه من غيره، وتعريفه على قدر ما
يضاف إليه.
وذهب أبو بكر بن السراج إلى أن أعرف المعارف: الاسم المبهم، ثم المضمر،
ثم العلم، ثم ما فيه الألف واللام، ثم ما أضيف إلى أحد هذه المعارف،
وذهب أبو سعيد السيرافي إلى أن أعرف المعارف: الاسم العلم، ثم المضمر،
ثم المبهم، ثم ما عُرِّف بالألف واللام، ثم ما أضيف إلى أحد هذه
المعارف.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الاسم المبهم أعرف من
الاسم العلم، وذلك لأن الاسم المبهم يعرف بشيئين: بالعين وبالقلب، وأما
الاسم العلم فلا يعرف إلا بالقلب وحده، وما يعرف بشيئين ينبغي أن يكون
أعرف مما يعرف بشيء واحد.
قالوا: والذي يدل على صحة ذلك أن الاسم العلم يقبل التنكير، ألا ترى
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "1/ 110 بولاق"
وتصريح الشيخ خالد الأزهرى "1/ 112 بولا ق".
2 المراد بالاسم المبهَم ههنا: اسم الإشارة.
3 أمته: المراد به نوعه.
(2/581)
أنك تقول: "مررت بزيد الظريف وزيد آخَرَ،
ومررت بعمرو العاقل وعمرو آخر" وكذلك إذا ثنَّيت الاسم العلم أو جمعته
نكَّرته نحو "زيدان والزيدان، وعمران والعمران، وزيدون، والزيدون،
وعمرون، والعمرون" فتدخل عليه الألف واللام في التثنية والجمع، ولا
تدخلان إلا على النكرة؛ فدلَّ على أنه يقبل التنكير، بخلاف الاسم
المبهم؛ فإنه لا يقبل التنكير؛ لأنك لا تصفه بنكرة في حال من الأحوال،
ولا تنكره في التثنية والجمع فتدخل عليه الألف واللام فتقول:
الهَاذَانِ؛ فدلّ على أنه لا يقبل التنكير، وما لا يقبل التنكير أعرف
مما يقبل التنكير، فتنزل منزلة المضمر، وكما أن المضمر أعرف من الاسم
العلم فكذلك المبهم.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الاسم العلم أعرف من
المبهم لأن الأصل في الاسم العَلَم أن يوضع لشيء بعينه لا يقع على غيره
من أمته، وإذا كان الأصل فيه أن لا يكون له مشارك أشبه ضمير المتكلم،
وكما أن ضمير المتكلم أعرف من المبهم فكذلك ما أشبهه.
والذي أذهب إليه ما ذهب إليه الكوفيون.
وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم: "إن الأصل في الاسم العلم
أن يوضع لشيء بعينه لا يقع على غيره" قلنا: وكذلك الأصل في جميع
المعارف، ولهذا يقال: حدّ المعرفة ما خص الواحد من الجنس، وهذا يشتمل
على جميع المعارف، لا على الاسم العلم دون غيره، على أنَّا نسلم أن
الأصل في الاسم العلم ما ذكرتموه، إلا أنه قد حصل فيه الاشتراك، وزال
عن أصله وَضْعِهِ، ولهذا افتقر إلى الوصف، ولو كان باقيا على الأصل لما
افتقر إلى الوصف؛ لأن الأصل في المعارف أن لا توصف؛ لأن الأصل فيها أن
يقع لشيء بعينه، فلما جاز فيه الوصف دلّ على زوال الأصل، فلا يجوز أن
يحمل على المضمر الذي لا يزول عن الأصل ولا يفتقر إلى الوصف في أنه
أعرف من المبهم، والله أعلم.
(2/582)
مسألة "أي" الموصولة
معربة دائما أو مبنية أحيانا؟
...
102- مسألة: ["أي" الموصولة معربة دائما ومبنيّة أحينا؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "أيهم" إذا كان بمعنى الذي وحذف العائد من الصلة
معرب، نحو قولهم: "لأضربن أيُّهم أفضل"، وذهب البصريون إلى أنه مبنيّ
على الضم، وأجمعوا على أنه إذا ذكر العائد أنه معرب، نحو قولهم:
"لأضربنّ أيهم هو أفضل"، وذهب الخليل بن أحمد إلى أن "أيهم" مرفوع
بالابتداء، و"أفضل" خبره، ويجعل "أيهم" استفهامًا، ويحمله على الحكاية
بعد قول مقدر، والتقدير عنده: لأضربن الذي يقال له أيُّهُم أفضل، قال
الشاعر:
[441]
ولقد أَبِيتُ من الفَتَاةِ بمنزل ... فأَبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُومُ
__________
[441] هذا البيت للأخطل التغلبي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 259 و398"
وابن يعيش في شرح المفصل "ص463" ورضي الدين في باب الموصول من شرح
الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 533" والحرج -بفتح الحاء وكسر
الراء المهملتين- المضيق عليه، والمحروم: الممنوع مما يريده. ومحل
الاستشهاد من هذا البيت قوله "لا حرج ولا محروم" فإن سيبويه رحمه الله
خرج هذه العبارة نقلًا عن شيخه الخليل بن أحمد على أن قوله "لا حرج"
خبر مبتدأ محذوف ليس ضمير المتكلم وجملة المبتدأ المحذوف وخبره في محل
نصب على الحكاية بقول محذوف أيضًا، وتقدير الكلام على هذا: فأبيت
مقولًا في شأني: هو لا حرج ولا محروم، قال سيبويه "1/ 259" "وأما قول
الأخطل:
ولقد أبيت من الفتاة.... البيت
فزعم الخليل أن هذا ليس على إضمار أنا، ولو جاز هذا على إضمار أنا لجاز
"كان عبد الله لا سلم ولا صلح" على إضمار هو، ولكنه -فيما زعم الخليل-
فأبيت بمنزلة الذي يقال له: لا حرج ولا محروم، ويقويه في ذلك قوله:
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "1/ 161 بولا ق"
وتصريح الشيخ خالد "1/ 162" وشرح ابن يعيش على مفصل الزمخشري "ص462 وما
بعدها" وشرح الرضي على الكافية "2/ 53 وما بعدها" ومغني اللبيب لابن
هشام "ص77 بتحقيقنا".
(2/583)
أي: فأَبِيتُ لا يقال لي هذا حَرِجٌ ولا
محروم، وحَذْف القول في كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن يحصى،
وذهب يونس بن حبيب البصري إلى أن "أيهم" مرفوع بالابتداء، و"أفضل"
خبره، ويجعل "أيهم" استفهامًا، ويعلق "لأضربن" عن العمل في "أيهم"
فينزل الفعل المؤثر منزلة أفعال القلوب نحو "علمت أيهم في الدار".
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه معرب منصوب بالفعل
الذي قبله أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله
تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ
عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] بالنصب، وهي قراءة هارون
القارئ ومعاذ الهراء، ورواية عن يعقوب.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن القراءة المشهورة بالضم هي حجة عليكم"
لأنا نقول: هذه القراءة لا حجة لكم فيها، لأن الضمة فيها ضمة إعراب، لا
ضمة بناء، فإن "أيهم" مرفوع لأنه مبتدأ وذلك من وجهين:
__________
= فإنما أراد: كانت كلا ب التي يقال لها: خا مري أم عا مر، وقد زعم
بعضهم أن رفعه على النفي، كأنه قال: فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان
الذي أنا به، وقول الخليل حكا ية لا كان يتكلم به قبل ذل ك، فكأنه حكى
ذلك اللفظ، كما قال:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بني شا ب قرنا ها تصر وتحلب
أي بني من يقال له ذلك. والتفسير الآخر الذي على النفي كأنه أسهل" ا.
هـ كلامه. وقال الأعلم "الشا هد ف يرفع حرج ومحروم، وكان وجه الكلام
نصبهما على الحال، ووجه رفعهما عند الخليل الحمل على الحكاية، والمعنى
فأبيت كالذي يقال: لا حرج ولا محروم، ولا ي جوز رفعه حملا على مبتدأ
مضمر كما لا يجوز كان زيد لا قا ئم ولا قا عد على تقدير لا هو قائم ولا
قعد، لأنه ليس موضع تبعيض وقطع، فلذلك حمله على الحكا ية، كما قال بني
شا ب قرنا ها، ويجوز رفعه على الابتداء وإضما ر الخبر، على معنى فأبيت
لا حرج ولا محروم في المكان الذي أبيت فيه، ثم حذف هذا لعلم السا مع،
وإذا نفي أن يكون مبيته حرج أو محروم فهو غير حرج وغير محروم، لأنه في
ذلك المكان" ا. هـ كلام بحروفه، وقوله "ولا يجوز رفعه حملا على مبتدأ
مضمر" ليس على إطلا قه، بل المرا د أنه لا يجوز رفعه على إضما ر مبتدأ
تقديره: لا أنا حرج ولا محروم، من غير تقدير حكا ية كما هو في مطلع
كلام سيبويه عن الخليل، وكيف لا يكون على تقدير مبتدأ أصلا والحكا ية
إنما تقع في الجمل لا في المفردا ت؟ ولو سلمنا أن الحكا ية بالقول تكن
في المفردا ت فما يكون إعراب لا حرج المرفوع؟ وكيف كان يقول من يحكي
كلامه؟ وقال الصيرافي عن التخريج الثاني الذي ذكره سيبويه وذكره الأعلم
أيضا، وذكر سيبويه أنه أسهل "وهذا التفسير أسهل؛ لأن المحذوف خبر حرج،
وهو ظرف، وحذف الخبر في النفي كثير، كقولنا: لا حول ولا قو ة إلا
بالله، أي لنا" ا. هـ.
(2/584)
أحدهما: أن قوله: {لَنَنْزِعَنَّ} عمل في:
{مِنْ} وما بعدها، واكتفى الفعل بما ذكر معه، كما تقول "قتلت من كل
قبيل، وأكلت من كل طعام" فيكتفي الفعل بما ذكر معه، فكذلك ههنا: عمل
الفعل في الجار والمجرور واكتفى بذلك، ثم ابتدأ فقال: "أيهم أشد" فرفع
"أيهم" بأشد كما رفع "أشد" بأيهم، على ما عرف من مذهبنا.
والوجه الثاني: أن الشيعة معناها الأعوان، وتقدير الآية: لننزعن من كل
قوم شَايَعُوا فتنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيًا، والنظر من دلائل
الاستفهام، وهو مُقَدَّر معه، وأنت لو قلت "لأَنْظرنَّ أيهم أشد" لكان
النظر معلقًا، لأن النظر والمعرفة والعِلْمَ ونحوهن من أفعال القلوب،
وأفعال القلوب يسقط عملهن إذا كان بعدهن استفهام، فدل على أنه مرفوع
لأنه مبتدأ.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما حكاه أبو عُمَرَ الجَرْمِي أنه
قال: خرجت من الخندق -يعني خندق البصرة- حتى صرت إلى مكة، لم أسمع أحدا
يقول "اضرب أيهم أفضل" أي: كلهم ينصبون، وكذلك لم يُرْوَ عن أحد من
العرب "اضرب أيهم أفضل" بالضم، فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه.
والذي يدل على فساد قول مَنْ ذهب إلى أنه مبني على الضم أن المفرد من
المبنيات إذا أضيف أعرب، نحو قبل وبعد، فصارت الإضافة توجب إعراب
الاسم، وأيّ إذا أفردت أعربت، فلو قلنا "إنها إذ أضيفت بنيت" لكان هذا
نقضًا للأصول، وذلك محال..
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها مبنية ههنا على الضم،
وذلك لأن القياس يقتضي أن تكون مبنية في كل حال، لوقوعها موقع حرف
الجزاء والاستفهام والاسم الموصول كما بنيت "مَنْ، وما" لذلك في كل
حالٍ، إلا أنهم أعربوها حملًا على نظيرها، وهو "بَعْض" وعلى نقيضها وهو
"كل"، وذلك على خلاف القياس، فلما دخلها نقص بحذف العائد ضعفت فردّتْ
إلى أصلها من البناء على مقتضى القياس، كما أن "ما" في لغة أهل الحجاز
لما كان القياس يقتضي أن لا تعمل، إذا تقدم خبرها على اسمها أو دخل حرف
الاستثناء بين الاسم والخبر ردّ على ما يقتضيه القياس من بطلان عملها،
فكذلك ههنا: لما كان القياس يقتضي أن تكون مبنية، لما حذف منها العائد
ردّت إلى ما يقتضيه القياس من البناء، يدل عليه أن "أيهم" استعملت
استعمالا لم تستعمل عليه أخواتها من حذف المبتدأ معها، تقول: "اضرب
أيهم أفضل" تريد أيهم هو أفضل، ولو قلت: "اضرب من أفضل، وكل ما أطيب"
تريد من هو أفضل وما هو أطيب لم يجز، فلما
(2/585)
خالفت "أي" أخواتها فيما ذكرناه زال
تمكنها؛ لأن كل شيء خرج عن بابه زال تمكنه، فوجب أن تبنى إذا استعملت
على خلاف ما استعمل عليه أخواتها، كما أن "يا ألله" لما خالفت سائر ما
فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفه، وكذلك "ليس" لما لم تتصرف تصرف الفعل
تركت على هذه الحال، ألا ترى أن أصل "ليس" لَيِس، مثل صَيِدَ البعير،
وصَيِدَ البعير يجوز فيه التخفيف فيقال "صَيْدَ البعير" ويجب في ليس
التخفيف، ولا يجوز أن يؤتى به على الأصل كما جاز أن يؤتى بصيد على
الأصل؛ لأن ليس لم تتصرف تصرف الفعل، بخلاف صيد، ويدل عليه أيضا أنك لو
قلت "صَيِدْتَ يا بعيرُ" لوجب أن ترد الفعل إلى أصله من الكسر، ولو قلت
"لَيِسْتُ" لم يجز ردّه إلى الأصل، كل ذلك لمخالفته الفعل في التصرف
وخروجه عن مشابهة نظائره، فكذلك ههنا: لما خالفت [أيّ] سائر أخواتها
وخرجت عن مشابهة نظائرها وجب بناؤها، وإنما وجب بناؤها على الضم لأنهم
لما حذفوا المبتدأ من صلتها بَنَوْهَا على الضم، لأنه أقوى الحركات.
والذي يدل على صحة هذا التعليل وأنهم إنما بنوها لخلاف1 المبتدأ أنا
أجمعنا على أنهم إذا لم يحذفوا المبتدأ أعربوها ولم يبنوها فقالوا:
"ضربت أيَّهُم هو في الدار" بالنصب، وإنما حسن حذف المبتدأ من صلة
"أيّ" ولم يحسن حذفه مع غيرها من أخواتها لأن "أي" لا تنفك عن الإضافة،
فيصير المضاف إليه عوضًا عن حذف المبتدأ، بخلاف غيرها من أخواتها؛
فلهذا حَسُنَ الحذف مع "أي" دون سائر أخواتها.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقراءة من قرأ {ثُمَّ
لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69]
بالنصب -فهي قراءة شاذة جاءت على لغة شاذة لبعض العرب، ولم يقع الخلاف
في هذه اللغة، ولا في هذه القراءة؛ وإنما وقع الخلاف في اللغة الفصيحة
المشهورة، والقراءة المشهورة التي عليها قَرَأَة الأمصار "أيهم" بالضم،
وهي حجة عليهم.
قولهم: "إن الضمة فيها ضمة إعراب لا الضمة بناء، وإنه مرفوع لأنه مبتدأ
لأن قوله: "لننزعن" عمل في من وما بعدها، واكتفى الفعل بما ذكر معه
كقولهم: قتلت من كل قبيل" قلنا: هذا خلاف الظاهر؛ لأن قوله: "لننزعن"
فعل معتدّ؛ فلا بد أن يكون له مفعول إما مظهر أو مقدر، و"أيّهم" يصلح
أن يكون مفعولًا، وهو ملفوظ به مُظْهَر، فكان أولى من تقدير مفعول
مقدر.
__________
1 كذا، وأظن أصل العبارة "لحذف المبتدأ".
(2/586)
وأما قولهم: "إن تقدير الآية فتنظروا أيهم
أشد" قلنا: وهذا أيضا خلاف الظاهر؛ لأنه ليس في اللفظ ما يدل على تقدير
هذا الفعل، وقوله: "لننزعن" فعل يصلح أن يكون "أيهم" مفعولًا له، فكان
أولى من تقدير فعل لا دليل يدل عليه ولا حاجة إليه.
وأما ما حكي عن أبي عمر الجرمي أنه قال: خرجت من الخندق فلم أسمع أحدا
يقول ضَرَبْتُ أيُّهم أفضل، قلنا: هذا يدل على أنه ما سمع "أيهم"
بالضم، وقد سمعه غيره.
والذي يدل على صحة هذه اللغة ما حكاه أبو عمرو الشيباني عن غسَّان -وهو
أحد من تؤخذ عنه اللغة من العرب -أنه أنشد:
[442]
إذا ما أتيت بني مالك ... فسلّم على أيُّهم أفضل
برفع "أيهم" فدل على أنها لغة منقولة صحيحة لا وجه لإنكارها.
وأما قولهم: "إن المفرد من المبنيّات إذا أضيف أعرب، وأيُّ إذا أفردت
__________
[442] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص463 و490" ورضي
الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/
522" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 119" وفي أوضح المسالك "رقم 50"
والأشموني "رقم 110" وابن عقيل "رقم 33" وشرحه العيني "1/ 346 بهامش
الخزانة" والبيت لغسان بن علة بن مرة بن عباد، ويروى "إذا ما لقيت بني
مالك" ومحل الاستشهاد به قوله "على أيهم أفضل" فإن الرواية في هذه
الكلمة بضم "أيهم" على ما حكاه أبو عمرو الشيباني، ويلزم أن تكون "أي"
في هذه العبارة موصولة بمعنى الذي، ويكون "أفضل" خبرا لمبتدأ محذوف،
وتقدير الكلام فسلم على الذي هو أفضل؛ ولا يجوز أن تكون "أي" استفهامية
مع الضم، لأنه يلزم على هذا محظوران: أحدهما أن يعلق حرف الجر عن العمل
في لفظ المجرور لأن أي الاستفهامية غير مبنية، وهذا مما لا يقوله أحد،
والثاني أن يخرج اسم الاستفهام عن الصدارة، كما لا يجوز أن تكون أي
شرطية، لأن الشرطية لا تبنى على الضم، وهي تستدعي فعل شرط وجوابه، وليس
هنا شيء من ذلك، وإذا لم تصلح "أي" أن تكون استفهامية ولا شرطية تعين
أن تكون موصولة، ولذلك قال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت "وهذا نص في محل
النزاع" ا. هـ. وقد تمحل قوم فقالوا: يجوز أن تكون "أي" في هذا البيت
استفهامية مبتدأ مرفوعا بالضمة الظاهرة، و"أفضل" خبر المبتدأ، وجملة
المبتدأ وخبره في محل نصب مقول لقول محذوف يقع نعتا لمنعوت محذوف، وهذا
المنعوت المحذوف هو المجرور بعلى وتقدير الكلام على هذا الوجه: فسلم
على شخص مقول فيه: أيهم أفضل، وهذا كلام لا يقضى العجب منه، وهذه
المقدرات الكثيرة ما الدليل على حذفها؟ ولو أن ثبوت قواعد اللغة ارتكب
في الوصول إليه مثل هذه التمحلات لما ثبتت قاعدة أصلًا.
(2/587)
أعربت، فلو قلنا إنها إذا أضيفت بنيت لكان
هذا نقضًا للأصول" قلنا: هذا باطل؛ لأن الإضافة إنما تردّ الاسم إلى
حال الإعراب إذا استحق البناء في حال الإفراد، فأما إذا كان الموجب
للبناء في حال الإضافة لم تُردَّ الإضافة ذلك الاسم إلى الإعراب، ألا
ترى أن "لَدُنْ" في جميع لغاتها لما استحقت البناء في حال الإضافة لم
تردّها الإضافة إلى الإعراب؛ فكذلك ههنا، وفي "لدن" ثماني لغات، وهي:
"لَدُنْ، ولَدَنْ، ولَدَا، ولَدُ، ولَدْنَ، ولَدْنِ، ولَدْ، ولُدْ"
وكلها مبنيّة على ما بيّنّا.
وأما ما ذهب إليه الخليل من الحكاية فبعيد في اختيار الكلام، وإنما
يجوز مثله في الشعر، ألا ترى أنه لو جاز أن يقال "اضرب الفاسقُ
الخبيثُ" بالرفع -أي: اضرب الذي يقال له الفاسق الخبيث، ولا خلاف أن
هذا لا يقال بالإجماع.
وأما قول يونس فضعيف؛ لأن تعليق "اضرب" ونحوه من الأفعال لا يجوز لأنه
فعل مؤثر؛ فلا يجوز إلغاؤه، وإنما يجوز أن تعلق أفعال القلوب عن
الاستفهام، وهذا ليس بفعل من أفعال القلوب؛ فكان هذا القول ضعيفًا
جدًّا، والله أعلم.
(2/588)
103- مسألة: [هل تأتي ألفاظ الإشارة أسماء
موصولة؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "هذا" وما أشبهه من أسماء الإشارة يكون بمعنى الذي
والأسماء الموصولة، نحو "هذا قال ذاك زيد" أي: الذي قال ذاك زيد. وذهب
البصريون إلى أنه لا يكون بمعنى الذي، وكذلك سائر أسماء الإشارة لا
تكون بمعنى الأسماء الموصولة.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك في
كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] والتقدير فيه: ثم أنتم الذين
تقتلون أنفسكم، فأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: خبره وتقتلون: صلة هؤلاء، وقال
تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} [النساء: 109] والتقدير فيه: ها أنتم الذين جادلتم عنهم،
فأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: خبره، وجادلتم: صلة هؤلاء، وقال تعالى: {وَمَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] والتقدير فيه: ما التي
بيمينك، فما: مبتدأ، وتلك: خبرة، وبيمينك: صلة تلك، ثم قال ابن
مُفَرِّغ:
[443]
عَدَسْ ما لِعَبَّادٍ عليك إمَارَةٌ ... أَمِنْتِ، وهذا تَحْمِلِينَ
طَلِيقُ
__________
[443] هذا البيت ليزيد بن مفرغ الحميري، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح
المفصل "ص492" ورضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه
البغدادي في الخزانة "2/ 514" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 715" وفي
أوضح المسالك "رقم 55 في باب الموصول، وفي باب الحال" وفي شرح شذور
الذهب "رقم 69" وفي شرح قطر الندى "رقم 33" والأشموني "رقم 104" وابن
الناظم في باب الموصول من شرح الألفية، وشرحه العيني "1/ 442" وعدس:
اسم زجر للبغل ليسرع، قاله الجوهري =
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرحنا المطول على الأشموني "1/ 182 – 185" وشرح
الأشموني بحاشية الصبان "1/ 156 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/
165، 166" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص493" وشرح الرضي على الكافية "2/
55".
(2/589)
يريد: والذي تحملين طَلِيق؛ فدلَّ على أن
أسماء الإشارة تكون بمعنى الأسماء الموصولة.
عَدَسْ: زَجْر البغل، وهو ههنا اسم لبغلة ابن مُفَرِّغ، وعَبَّاد: اسم
وَالي سجستان حينئذ، وكان قد حبسه ثم أطلقه، فركب البغلة وجلس ينشد هذا
البيت. وكان الخليل يزعم أن "عدسا" كان رجلا عنيفًا بالبغال في أيام
سليمان بن داود، فإذا قيل لها "عدس" انْزَعَجَتْ، وهذا ما لا يعرف في
اللغة.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في "هذا"
وما
__________
= وغيره، ومنه قول بيهس بن صريم الجرمي:
ألا ليت شعري هل أقولن لبغلتي: ... عدس، بعد ما طال السفار وكلت
وهو مبني على السكون، وربما أعربه الشاعر إذا اضطر، وكما قال بشر بن
سفيان الراسبي:
فالله بيني وبين كل أخ ... يقول: أجذم، وقائل: عدسا
وربما سموا البغل نفسه عدس، ومنه قول الراجز:
إذا حملت بزتي على عدس ... على التي بين الحمار والفرس
فلا أبالي من غزا ومن جلس
وقوله في بيت الشاهد: "ما لعباد" أراد به عباد بن زياد والي سجستان في
عهد معاوية بن أبي سفيان، وكان يزيد قد هجا عبادًا، ثم أخذه عبيد الله
بن زياد أخو عباد فحبسه وعذبه وردّه إلى أخيه عباد، فلما بلغ معاوية
ذلك أمر بإخلاء سبيله "إمارة" أي حكم وسلطان "طليق" حر لا يد لأحد
عليه؛ لأنه قد أطلق سراحه. ومحل الاستشهاد من البيت قوله "وهذا تحملين
طليق" فإن الكوفيين والفراء ينشدون هذا البيت للاستدلال به على أن
"هذا" اسم موصول بمعنى الذي، وهو مبتدأ، وجملة "تحملين" لا محل لها من
الإعراب صلة الموصول؛ وطليق: خبر المبتدأ، وكأنه قد قال: والذي تحملينه
طليق، قال الفراء: "العرب قد تذهب بذا وهذا إلى معنى الذي؛ فيقولون: من
ذا يقول ذلك، في معنى: من الذي يقول، وقال يزيد بن مفرغ:
عدس ما لعباد.... البيت
كأنه قال: والذي تحملين طليق" ا. هـ كلامه، ولم يمنعهم من اعتبار ذا
موصولة اقتران ها التنبيه بها ولا عدم تقدم ما أو من الاستفهاميتين
عليها، مع أن المثال الذي ذكر الفراء أن العرب تقوله قد تقدم فيه على
ذا من الاستفهامية ولم يقترن بها فيه حرف التنبيه؛ وأنكر البصريون صحة
الاستدلال بهذا البيت على ما ذهب إليه الفراء والكوفيون، ولهم في تخريج
البيت ثلاثة تخريجات؛ الأول أن يكون هذا اسم إشارة مبتدأ، وخبره قوله
طليق، وجملة تحملين في محل نصب حال من الضمير المستتر في طليق، وكأنه
قد قال: وهذا طليق حال كونه محمولا عليك، والثاني: أن يكون هذا اسم
إشارة مبتدأ خبره محذوف وجملة تحملين في محل رفع صفة لذلك الخبر
المحذوف، وطليق خبر ثان، وكأنه قد قال: وهذا رجل تحملينه طليق،
والثالث: أن يكون هذا اسم إشارة مبتدأ، وله نعت هو اسم موصول محذوف
وجملة تحملين لا محل لها صلة، وطليق خبر المبتدأ، وكأنه قد قال: وهذا
الذي تحملينه طليق.
(2/590)
أشبهه من أسماء الإشارة أن تكون دالًّا على
الإشارة، و"الذي" وسائر الأسماء الموصولة ليست في معناها؛ فينبغي أن لا
يحمل عليها، وهذا تمسك بالأصل واستصحاب الحال، وهو من جمل الأدلة
المذكورة، فمن ادَّعى أمرًا وراء ذلك بقي مُرْتَهَنًا بإقامة الدليل،
ولا دليل لهم يدل على ما ادَّعوْهُ.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ
هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] فلا حجة لكم فيه من
ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون "هؤلاء" باقيًا على أصله من كونه اسم إشارة، وليس بمعنى
الذي كما زعتم، ويكون في موضع نصب على الاختصاص، والتقدير فيه "أعني
هؤلاء" كما قال عليه السلام "سلمان منا أهل البيت" فنصب "أهل" على
الاختصاص، والتقدير فيه "أعني أهل البيت" وخبر أنتم: هؤلاء تقتلون1.
والوجه الثاني: أن يكون "هؤلاء" تأكيدا لأنتم، والخبر "تقتلون"، ثم هذا
لا يستقيم على أصلكم، فإن "تقتلون" عندكم في موضع نصب؛ لأنه خبر
التقريب، وخبر التقريب عندكم منصوب، كقولهم: "هذا زيد القائم" بالنصب،
و"هذا زيد قائما" ولو كان صلة لما كان له موضع من الإعراب، وعندنا أنه
يحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال.
والوجه الثالث: أن يكون "هؤلاء" منادى مفردا، والتقدير فيه "ثم أنتم يا
هؤلاء تقتلون" و"تقتلون" هو الخبر، ثم حذف حرف النداء كما قال تعالى:
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] وكما قال تعالى: {يُوسُفُ
أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 46] وحذف حرف النداء كثير في كلامهم.
وهذا الذي ذكرناه هو الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ
هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} [النساء: 109] .
وأما قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] فلا
حجة لهم فيه؛ لأن "تلك" معناها الإشارة وليست بمعنى التي، والتقدير
فيه: أي شيء هذه بيمينك و"تلك" بمعنى هذه كما يكون "ذلك" بمعنى هذا،
قال الله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1، 2] أي: هذا [304]
الكتاب، ثم قال الشاعر وهو خُفَافُ بن نَدْبَةَ:
[444]
أقول له والرُّمْحُ يأَطِرُ مَتْنَهُ: ... تأمَّل خُفافًا؛ إنني أنا
ذَلِكَا
__________
[444] هذا البيت من كلام خفاف بن ندبة السلمي، وخفاف: بزنة غراب،
وندبة: بفتح النون أو =
__________
1 كذا، وأعتقد أن صواب العبارة "وخبر أنتم هو تقتلون" فتنبه.
(2/591)
أي: هذا والجار والمجرور في قوله تعالى:
{بِيَمِينِكَ} في موضع نصب على الحال كأنه قال: أي شيء هذه كائنة
بيمينك.
وأما قول الشاعر:
[443]
.. وهذا تحملين طليق
فلا حجة لهم فيه لأن "تحملين" في موضع الحال، كأنه قال: وهذا محمولًا
طليق، ويحتمل أيضا أن يكون قد حذف الاسم الموصول للضرورة، ويكون
التقدير: وهذا الذي تحملين طليق، وحذف الاسم الموصول يجوز في الضرورة،
قال الشاعر:
445-
لكم مَسٍْجِدَا اللهِ المَزُورَان والحَصَى ... لكم قِبْصُهُ من بين
أَثْرَى وأقتَرَا
__________
= ضمها، وهي أمه، وأبوه عمير بن الحارث بن الشريد السلمي، وخفاف ابن عم
الخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد، وهو يقول هذا البيت وقد قتل مالك بن
حمار سيد بني شمخ بن فزارة، وقبله قوله:
فإن تك خيلي قد أصيب عميدها ... فعمدا على عيني تيممت مالكا
والبيت من شواهد رضي الدين في باب اسم الإشارة من شرح الكافية، وشرحه
البغدادي في الخزانة "2/ 470" وقد أنشده ابن دريد في الاشتقاق "ص309
مصر" وأبو العباس المبرد في الكامل "2/ 285 الخيرية" وابن قتيبة في
الشعراء "ص196 أوروبة" وأراد بالعميد الذي أصيب معاوية بن عمرو بن
الشريد أخا الخنساء، وتيممت: قصدت، ومالك: هو مالك بن حمار سيد بني
شمخ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "أنا ذلكا" أي هذا، والإشارة فيه
قد قصد بها تعظيم المشار إليه، أي أنا ذلك الفارس الذي ملأ سمعك ذكره،
نزل بعد درجته ورفعة محله وعظيم منزلته منزلة بعد المسافة، ولهذا
استعمل مع اسم الإشارة اللام التي للبعد، ومثل هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ
الْكِتَابُ} .
[445] هذا البيت للكميت بن زيد، وقد أنشده ابن منظور "ق ب ص" ومسجدا
الله: أراد بهما مسجد مكة ومسجد المدينة، زادهما الله تعالى شرفًا،
وأراد بالحصى العدد العديد من البشر، كما ورد في قول الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
والسر في ذلك أنهم كانوا يعدون بالحصى، والقبص -بكسر القاف وسكون الباء
وآخره صاد مهملة- أصله مجتمع النمل الكبير الكثير، ثم أطلق على العدد
الكثير من الناس. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "من بين أثرى
وأقترا" فإن هذا الكلام على تقدير اسم موصول قبل أثرى واسم موصول آخر
قبل أقتر، وأصل الكلام من بين من أثرى ومن أقتر، فحذف الموصولين وأبقى
صلتيهما، ولا يكون الكلام على تقدير موصول واحد، لأنه يلزم عليه أن
يكون الذي أثرى هو نفس الذي أقتر أي افتقر وهو لا يريد ذلك، إنما يريد
من بين جميع الناس مثريهم وفقيرهم، ونظير هذا البيت في حذف الموصول
وبقاء صلته قول =
(2/592)
أراد مَنْ أثرى ومن أقتر، فحذف للضرورة،
فكذلك ههنا.
على أنه يجوز عندكم حذف الاسم الموصول في غير ضرورة الشعر؛ ولهذا ذهبتم
إلى أن التقدير في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ}
[النساء: 46] من يحرفون، فحذف "من" وهو الاسم الموصول، وكذلك ذهبتم إلى
أن التقدير في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}
[الجمعة: 5] أي: الذي يحمل أسفارا، وإذا جاز هذا عندكم في القرآن ففي
ضرورة الشعر أولى؛ فلا يكون لهم فيه حجة، والله أعلم.
__________
= حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء؟
التقدير: أمن يهجو رسول الله ومن يمدحه وينصره سواء؟ ولا يجوز أن تجعل
جملة يمدحه وجملة ينصره معطوفتين على جملة يهجو رسول الله؛ لأنه يلزم
عليه أن يكون الذي يهجوه والذي يمدحه واحدا، وهذا غير صحيح، ونظير ذلك
قول الآخر:
ما الذي دأبه احتياط وحزم ... وهواه أطاع يستويان
التقدير: ما الذي دأبه احتياط وحزم والذي أطاع هواه، والقول في لزوم
هذا التقدير كالقول الذي ذكرناه في بيت حسان.
واعلم أن حذف الموصول وإبقاء صلته قد أجازه الكوفيون والأخفش، واتبعهم
ابن مالك في بعض كتبه، واشترط في بعض كتبه لجواز هذا الحذف أن يكون
لموصول المحذوف معطوفًا على موصول آخر، وسائر البصريين لا يقرّون ذلك،
ويجعلون الحذف من ضرورات الشعر.
(2/593)
104- مسألة: [هل يكون للاسم المحلّى بأل
صلة كصلة الموصول؟] 1
ذهب الكوفيين إلى أن الاسم الظاهر إذا كانت فيه الألف واللام وُصِلَ
كما يوصل الذي. وذهب البصريون إلى أنه لا يوصل.
وأما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك في
كلامهم واستعمالهم، قال الشاعر:
[446]
لعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ
بالأَصَائل
__________
[446] هذا البيت من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي أولها قوله:
أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السكن، أم عن عهده بالأوائل؟
"انظر ديوان الهذليين 1/ 139-145" والبيت من شواهد رضي الدين في باب
الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 489" وأنشده
المبرد في الكامل "2/ 57 الخيرية" وأكرم: مضارع أكرم، والأفياء: جمع
فيء -بفتح فسكون- وهو الظل، وقوله "بالأصائل" الأصائل: جمع أصيل، وهو
الوقت الذي قبل غروب الشمس. ومحل الاستشهاد من البيت قوله "لأنت البيت
أكرم أهله" فإن الكوفيين يزعمون أن جملة "أكرم أهله" لا محل لها من
الإعراب صلة للبيت، وعندهم أن الاسم الجامد المحلّى بأل مثل البيت
والدار والفرس مثل الأسماء الموصولة كالتي والذي وفروعهما في الحاجة
إلى الصلة.
ويقول أبو رجاء عفا الله تعالى عنه: كأنهم أرادوا أن يجعلوا الجمل
الواقعة بعد الاسم المحلّى بأل صفة لذلك الاسم، فمنعهم من ذلك أن الجمل
نكرات والمحلّى بأل معرفة، فامتنعوا من جعل الجملة صفة لذلك، ورأوا أن
هذه الجملة من تمام الاسم المحلّى بأل كما أن الجملة التي تقع صلة من
تمام الاسم الموصول، فقالوا: إن هذه الجملة صلة، يريدون أنها من تمام
الاسم المتقدم عليها. أما البصريون فينكرون ذلك ولا يرتضونه لعدة وجوه:
=
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الرضي على الكافية "2/ 35، 36".
(2/594)
فقوله: "لأنت" مبتدأ، و"البيت" خبرهُ
و"أكرم" صلة الخبر الذي هو البيت، وهذا كثير في استعمالهم.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الاسم
الظاهر يدل على معنى مخصوص في نفسه، وليس كالذي؛ لأنه لا يدل على معنى
مخصوص إلا بصلة توضِّحُهُ؛ لأنه مبهم، وإذا لم يكن في معناه1 فلا يجوز
أن يقام مُقَامه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله:
[446]
لعمري لأنت البيت أُكْرِمُ أَهْلَهُ
فلا حجة لهم فيه من وجهين:
أحدهما: أن يكون "البيت" خير المبتدأ الذي هو "أنت" و"أكرم" خبرا آخر،
كما تقول: هذا حلو حامض، فحلو: خبر المبتدأ الذي هو هذا وحامض: خبر
__________
= الأول: أن الاسم المحلّى بأل يدل على معنى خاص في نفسه والاسم
الموصول لا يدل على معنى خاص في نفسه، وإنما يدل على معنى مبهم، وهذا
المعنى المبهم الذي يدل عليه الاسم الموصول يتضح وتظهر حقيقته بواسطة
الصلة، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن الاسم المحلّى بأل محتاجا إلى الصلة
كحاجة الموصول إليها.
والثاني: أن هذا المعنى الذي أرادوه من العبارة المذكورة لا ينحصر
الطريق إليه في جعل الجملة صلة، بل يمكن الوصول إليه من غير الطريق
الذي سلكوه، وقد ذكر العلماء لذلك طريقين: أحدهما أن تجعل "أنت" مبتدأ،
و"البيت" خبرا أول، وجملة "أكرم أهله" في محل رفع خبر ثان، وعلى هذا
تكون "ال" الداخلة على البيت لاستغراق الصفات، كالتي في قولهم: أنت
الرجل، يريدون أنت الجامع لكل صفات الكمال التي في الرجال، وكأن الشاعر
قد قال: أنت البيت الجامع لكل الصفات المحببة في البيوت، ثم أخبر عنه
مرة أخرى بقوله "أكرم أهله" والطريق الثاني: أن يكون قوله البيت خبرا
لأنت، وجملة "أكرم أهله" صفة للبيت، وعلي هذا تكون أل الداخلة على
البيت جنسية، وقد علم أن الاسم المحلى بأل الجنسية قريب من النكرة،
فيجوز أن تكون الجملة بعده صفات له، وذلك نظير ما قالوه في قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأمر ثم أقول لا يعنيني
والوجه الثالث: سلمنا أن الطريق إلى المعنى الذي أرادوه منحصر في جعل
جملة "أكرم أهله" صلة، لكن لا نسلم أن هذه الجملة صلة للبيت، ولم لا
تكون صلة لموصول محذوف يقع صفة للبيت، وأنتم معشر الكوفيين تجيزون حذف
الموصول وبقاء صلته، وكأن الشاعر قد قال: لأنت البيت الذي أكرم
أهله.... إلخ. وفي هذا القدر كفاية.
__________
1 يريد وإذ لم يكن الاسم المحلى بأل في معنى الموصول.
(2/595)
آخر، والمعنى أنه قد جمع الطَّعْمين، ونحوه
قول الشاعر:
[447]
من يَكُ ذا بتٍّ فهذا بتِّي ... مُصَيِّفٌ مُقَيِّظٌ مُشَتِّي
تَخِذْتُهُ من نَعَجَاتٍ سِتِّ ... سُودٍ جِعَادٍ من نِعَاجِ الدّشْتِ
فَبَتِّي: خبر المبتدأ الذي هو هذا، ومصيف: خبر ثان، ومقيظ: خبر ثالث،
ومشتي: خبر رابع، وإذا جاز أن يكون له أَرْبَعَةُ أخبار جاز أن يكون له
خَبَران.
والوجه الثاني: أن يكون "البيت" مبهمًا لا يدل على معهود، و"أكرم" وصفٌ
له؛ فكأنه قال: لأنت بيتٌ أكرم أهله، كما يقال: إني لآمر بالرجل غيرك،
ومثلك، وخير منك، فيكون "غيرك، ومثلك، وخير منك" -وهي نكرات- أوصافًا
للرجل؛ لأنه لما كان مبهما لا يدل على معهود فكأنه قال "إني لآمر برجل
غيرك، ومثلك، وخيرٍ منك" كما قال الشاعر:
[201]
ولقد جنيتك أَكْمُؤا وعَسَاقِلَا ... ولقد نهيتك عن بنات الأَوْبَرِ
__________
[447] هذه أربعة أبيات من الرجز المشطور، وأولها وثانيها من شواهد
سيبويه "1/ 258" ولم يعزهما ولا عزاهما الأعلم إلى قائل معين، وأربعتها
من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص121" واستشهد بأولها وثانيها أيضا
الأشموني "رقم 164" وابن عقيل "رقم 58" وشرحه العيني "1/ 561 بهامش
الخزانة" وتنسب أربعة الأبيات لرؤبة بن العجاج، ولكني لم أجدها في
ديوان رجزه، ووجدتها في الزيادات المحلقة به والأول والثاني والثالث في
اللسان "ب ت ت" من غير عزو، والثالث والرابع فيه "د ش ت" من غير عزو
أيضا. والبت -بفتح الباء وتشديد التاء- هو هنا كساء من صوف، ويقال على
ضرب من الطيالسة يسمى الساج يكون مربعًا غليظًا أخضر، وقوله "مقيظ مصيف
مشتي" يريد أنه يكفيه في الأزمنة الثلاثة، والدشت -بفتح الدال وسكون
الشين- الصحراء. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "هذا بتي مقيظ مصيف
مشتي" حيث أخبر عن المبتدأ الواحد -وهو اسم الإشارة- بأربعة أخبار،
وجعل هذه الأربعة أخبارا لهذا المبتدأ المذكور في الكلام هو مذهب
سيبويه، وكان شيخه الخليل لا يرى ذلك، بل كان يرى أنه إذا ورد ما ظاهره
تعدد الخبر للمبتدأ الواحد نظر، فإن كانت هذه الأخبار مجتمعة تؤدي ما
تؤديه الصفة الواحدة، ولا يجوز حذف بعضها وإبقاء بعضها الآخر نحو أن
تقول: فلان أعسر أيسر، وأن تقول: الرمان حلو حامض، كان الاثنان أو
الأكثر خبرين أو أخبارًا عن المبتدأ الواحد، وإلا يكن الأمر كذلك كان
أحدها خبرا عن المبتدأ المذكور، وقدرت لكل واحد مما عداه مبتدأ آخر،
فتقول: هذا بتي، هو مقيظ، هو مصيف، هو مشتي، ومن العلماء من أجاز تعدد
الخبر للمبتدأ الواحد بشرط أن تكون الأخبار كلها متحدة في الإفراط أو
الجملية، فاعرف هذا، وكن منه على ثبت.
(2/596)
أراد "بنات أوبر" وهي ضَرْبٌ من الكمأة،
وقد جاء هذا النحو في كلامهم وأشعارهم.
ويحتمل أيضا أن يكون التقدير فيه: لأنت البيت الذي أكرم أهله، فحذف
الاسم الموصول للضرورة، على ما بينا قبلُ.
وإذا كان يحتمل هذه الوجوه من الاحتمالات بطل الاحتجاج به؛ فلا يكون
فيه حجة، والله أعلم.
(2/597)
|