الكتاب لسيبويه

بابٌ جرى مجرى الفاعل الذى يتعداه فعلُه
إلى مفعولَيْنِ فى اللفظ لا في المعنى
وذلك قولك:
يا سارق الليل أهل الدار

(1/175)


" و " تقول على هذا الحد: سرقت الليل أهلَ الدار، فتجْرِى الليلةَ على الفعل فى سَعَةِ الكلام، كما قال: صِيدَ عليه يومان، ووُلِدَ له ستّون عاماً. فاللفظُ يَجرى على قوله: هذا مُعْطِى زيدٍ درهَماً، والمعنى إنّما هو فى الليلة، وصِيدَ عليه فى اليومين، غيرَ أنّهم أَوقعوا الفعلَ عليه لسَعة الكلام.
وكذلك لو قلت: هذا مُخْرجُ اليومِ الدرهمَ وصائدُ اليومِ الوحشَ.
ومثلُ ما أُجْرِىَ مُجرى هذا فى سَعة الكلام والاستخفافِ قوله عزّ وجلّ: " بل مكر الليل والنهار ". فالليلُ والنهار لا يَمكُرانِ، ولكنّ المكرَ فيهما.
فإِنْ نوّنتَ فقلت: يا سارقاً الليلةَ أهلَ الدار، كان حدُّ الكلام أن يكونَ أهلُ الدار على سارقٍ منصوبا، ويَكون الليلةُ ظرفاً، لأنّ هذا موضعُ انفصالٍ. وإن شئت أجريته على الفعل على سَعة الكلام.
ولا يجوز: يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار إلاّ فى شعرٍ، كراهيةَ أن يفصلوا

(1/176)


بين الجارّ والمجرور. فإِذا كان منوَّنا فهو بمنزلة الفعل الناصبِ، تكون الأسماءُ فيه منفصلة. قال الشاعر، وهو الشَّمَّاخ:
رُبَّ ابنِ عَمَّ لسُلَيمَى مُشْمَعِلّْ ... طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ
" هذا على: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار ". وقال الأخطل:
وكرار خلف المحجرين وجواده ... إذا لم يُحامِ دونَ أُنثَى حَليلها
فإِنْ قلت: كرّارٍ وطبّاخٍ، صار بمنزلة طبختُ وكررت، تُجرِيها مجرى السَّارق حين نوّنتَ، على سعة الكلام.

(1/177)


وقال " رجل من بنى عامر ":
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعَامِراً ... قليلٍ سِوىَ الطَّعْنِ النَّهالِ نَوافِلُهْ
" وكما قال: ثَمانِىَ حِجَجٍ حَجَجْتُهنّ بيت اللهِ ".
ومما جاء فى الشعر قد فُصِلَ بينه وبين المجرور قول عمرو بن قَمِيئَةَ.
لمّا رأت ساتسدما اسْتَعْبَرَت ... لله درُّ اليومَ مَنْ لاَمَهَا
وقال أبو حَيَّةَ النُّمَيْرىُّ:

(1/178)


كما خط الكتاب بكف يوماً ... يهودي يقارب أو يُزيلُ
وهذا لا يكون فيه إلاّ هذا، لأنَّه ليس فى معنى فِعلٍ ولا اسمِ الفاعلِ الذى جرى مَجرى الفعل.
وممّا جاء مفصولا بينه وبين المجرور قولُ الأعشى:
ولا نقاتل بالعص ... ي ولا نرامي بالحجاره
إلا علالة أو بدا ... هة قارحٍ نَهْدِ الجُزارَهْ
وقال ذو الرمّة:
كأَنَّ أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج

(1/179)


فهذا قبيحٌ.
ويجوز فى الشعر على هذا: مررتُ بخيرِ وأَفضلِ مَن ثَمَّ.
وقالت دُرْناَ بنت عَبعَبَةَ، من بني قيس بن ثعلبة:
هما أَخَوَا فى الحَرْبِ مَنْ لا أَخاَ له ... إذا خافَ يوماً نَبْوةً فدَعاهما
وقال الفرزدق:
يا من رأى عارضاً أسر به ... بَيْنَ ذِراعَىْ وجَبْهِة الأَسَدِ
وأما قوله عزّ وجلّ: " فبما نقضهم ميثاقهم " فإِنَّما جاء لأنه ليس

(1/180)


ل " مَا " معنىً سِوى ما كان قبل أن تجيء إلا التوكيد، فمن ثم جاء ذلك، إذْ لم تُرِدْ به أكثرَ من هذا، وكانا حرفينِ أحدُهما فى الآخَر عاملٌ. ولو كان اسماً أو ظرفا أو فعلاً لم يجزْ.
وأمّا قوله: أُدْخِلَ فُوهُ الحَجَرَ، فهذا جرى على سَعة الكلام " والجيِّد أُدخل فاه الحجر "، وكما قال: أَدخلتُ فى رأسى القَلَنْسُوَةَ " والجيّد أَدخلتُ فى القَلنسوة رأسى ". وليس مثلَ اليوم والليلة لأنهما ظرفان، فهو مخالف له فى هذا، مُوافِقٌ " له " فى السعة. قال الشاعر:
تَرى الثَّورَ فيها مُدخِلَ الظل رأْسَهُ ... وسائرُه بادٍ إلى الشمس أَجْمَعُ
فوجه الكلام فيه هذا، كراهيةَ الانفصال.
وإذا لم يكن فى الجرَّ فحدُّ الكلام أن يكون الناصبُ مبدوءاً به.

هذا بابٌ صار الفاعِلُ فيه بمنزلة
الّذى فَعَلَ فى المعنى، وما يَعْمَلُ فيه
وذلك قولك: هذا الضاربُ زيداً، فصار فى معنى " هذا " الّذى ضرَبَ

(1/181)


زيداً، وعَمِلَ عَمَله، لأنّ الألفَ واللام مَنَعَتا الإِضافة وصارتا بمنزلة التنوين. وكذلك: هذا الضاربُ الرّجلَ، وهو وجهُ الكلام.
وقد قال قومٌ من العرب تُرضىَ عربيَّتُهم: هذا الضاربُ الرجلِ، شبّهوه بالحَسَنِ الوجهِ، وإن كان ليس مثلَه فى المعنى ولا فى أَحواله إلاّ أنّه اسمٌ، وقد يَجُرُّ كما يجر وَيَنْصِبُ أيضاً كما يَنْصِبُ، وسيبيَّن ذلك فى بابه " إن شاء الله ".
وقد يشبهون الشيء بالشيء وليس مثلَه فى جميع أحواله، وسترى ذلك فى كلامهم كثيراً. وقال المَرّار الأسدىّ:
أَنا ابنُ التارِكِ البَكْرِىَّ بشْرٍ ... عليه الطَّيْرُ تَرْقُبُه وقوعا
سمعناه ممن يرويه عن العبر، وأَجرى بشرا على مجرى المجرور، لأنَّه جعله بمنزلة ما يُكَفُّ منه التنوينُ.
ومثل ذلك فى الإِجراء على ما قبله: هو الضاربُ زيداً والرَّجُلَ، لا يكون فيه إلاّ النصبُ، لأنَّه عَمِلَ فيهما عمل المنَّون، ولا يكون: هو الضاربُ عمروٍ كما لا يكون: هو الحسنُ وجهٍ. ومن قال: هذا الضاربُ الرجلِ، قال: هو الضاربُ الرجلِ وعبدِ الله.

(1/182)


ومن ذلك إِنشادُ بعض العرب قول الأعشى:
الواهب المائه الهجان وعبدها ... عوذا تزجى بينها أطفالها
وإذا ثنيت أو جمعت فأثبت النون قلت: هذان الضاربان زيدا وهؤلاء الضاربون الرجل، لا يكون فيه غير هذا، لأن النون ثابتة.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ". وقال ابن مُقْبِلٍ:

(1/183)


يا عَيْنِ بَكَّى حُنَيفْاً رأَسَ حيِّهِمِ ... الكاسرينَ القَنَا فى عَوْرَةِ الدُّبُرِ
فإِنْ كففتَ النون جررت وصار الاسم داخلاً في الجار، " و " بدلاً من النُّون، لأنَّ النون لا تعاقِبُ الألفَ واللامَ ولم تَدخل على الاسم بعد أن ثبتتْ فيه الألفُ واللام؛ لأنَّهْ لا يكون واحداً معروفا ثم يثنّى؛ فالتنوينُ قبلَ الألف واللام، لأنَّ المعرفة بعد النكرة، فالنّونُ مكفوفةٌ والمعنى معنى ثبات النون، كما كان ذلك فى الاسم الذى جرى مجرى الفعل المضارع، وذلك قولك: هما الضارب زيدٍ، والضاربِوُ عمروٍ.
وقال الفرزدق:

(1/184)


أُسَيَّدُ ذو خُرَيَّطَةٍ نَهاراً ... مِنَ المُتَلَقَّطِى قَرَدِ القمام
وقال رجل من بني ضبة:
الفراجي بابِ الأميرِ المُبْهَمِ
وقال رجل من الأنصار:

(1/185)


الحافِظُو عَوْرَةَ العشيرةِ لا ... يَأتِيهِمُ من وَرائنا نَطَفُ
لم يَحذف النون للإِضافة، ولا ليُعاقِبَ الاسمُ النّونَ، ولكن حذفوها كما حذفوها من الّلذَينِ والّذينَ حيثُ طال الكلامُ وكان الاسمُ الأوّل مُنتهاه الاسمُ الآخِرُ. وقال الأَخطل:
أَبَنِى كُلَيْبٍ إنّ عَمَّىَّ الَّلذَا ... سَلَبَا المُلوكَ وفَكَّكَا الأَغْلاَلاَ
لأن معناه " معنى " الذينَ فعلوا وهو مع المفعول بمنزلة اسم مُفْرَدٍ لم يَعْمَلْ في شيء، كما أنّ الذينَ فعلوا مع صلته بمنزلة اسم.
وقال أَشهَبُ بن رُمَيلةَ:

(1/186)


وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القول كلُّ القومِ يا أُمَّ خالِدِ
وإذا قلت: هم الضاربوك وهما الضارباك، فالوجه فيه الجرّ، لأنَّك إذا كففتَ النونَ من هذه الأسماءِ في المظر كان الوجهُ الجرَّ، إلاَّ فى قول من قال: " الحافظو عورةَ العشيرة ".
ولا يكون فى قولهم: هم ضاربوك، أن تكون الكف فى موضع النصب، لأنَّك لو كففتَ النون فى الإِظهار لم يكن إلاَّ جرًّا، ولا يجوز في الإظهار: هم ضاربوا زيداً، لأنَّها ليست فى معنى الذى، " لأنها " ليست فيها الألفُ واللام كما كانت فى الذى.
واعلم أنَّ حذفَ النون والتنوينِ لازمٌ مع علامة المضمرَ غيرِ المنفصل، لأنّه لا يُتكلّم به مفرَداً حتّى يكون متّصِلا بفعلٍ قبله أو باسم فيه ضمير، فصار كأنّه النونُ والتنوينُ فى الاسم، لأنَّهما لا يكونان إلاَّ زَوائَد ولا يكونانِ إلاّ فى أَواخر الحرُوف. والمظهَرُ وإن كان يعاقِبُ النُّونَ والتنوينَ فإِنَّه ليس كعلامة المضمَرِ المتَّصلِ؛ لأنه اسمٌ يَنفصِل ويُبْتَدَأُ، وليس كعلامة الإِضمار لأنها فى اللفظ كالنون

(1/187)


والتنوين، فهى أَقربَ إليها من المظهرَ، اجتَمع فيها هذا والمعاقبةُ.
وقد جاء فى الشَّعر، وزعموا أنّه مصنوع:
هُمُ القائلونَ الخيرَ والآمِرونه ... إذا ما خَشُوا من مُحدثِ الأمْرِ مُعْظَمَا
وقال:
ولم يَرْتِفقْ والناس مُحْتَضِرونُه ... جميعاً وأَيْدِى المعتفين رواهقه

(1/188)


بابٌ من المصادر جَرَى مَجرى الفعل المضارِع
فى عمله ومعناه
وذلك قولك: عَجِبتُ مِن ضَرْبٍ زيدا، " فمعناه أَنّه يَضرب زيدا. وتقول: عجبتُ مِن ضَرْبٍ زيداً " بكرٌ، ومن ضَرْبٍ زيدٌ عمراً، إذا كان هو الفاعل، كأنّه قال: عجبتُ من أنّه يَضرب زيدٌ عمراً، ويَضرب عمراً زيدٌ.
وإنَّما خالَف هذا الاسمَ الذى جرى مَجرى الفعل المضارعِ فى أَنَّ فيه فاعِلاً ومفعولا، لأنّك إذا قلت: هذا ضارِبٌ فقد جئت بالفاعل وذكرتَه، وإذا قلت: عجبتُ من ضربٍ فإِنَّك لم تذكر الفاعلَ، فالمصدرُ ليس بالفاعل وإن كان فيه دليلٌ على الفاعل، " فلذلك احتجتَ فيه إلى فاعل ومفعول ولم تحتج حين قلت: هذا ضاربٌ زيدا إلى فاعل ظاهر، لأنَّ المضمر فى ضارب هو الفاعل ".
فمما جاء من هذا قولُه عزّ وجلّ: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة ". وقال:
فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد صاروا لنا كالموارد
وقال:
أخذت بسجلهم فنفحت فيه ... محافطة لهن إخا الذمام

(1/189)


وقال:
يضرب بالسيوف رؤوس قَوْمٍ ... أَزَلْنا هامَهنّ عَنِ المَقِيلِ
وإنْ شئت حذفتَ التنوينَ كما حذفت فى الفاعل، وكان المعنى على حاله، إلاَّ أنك تَجرُّ الذى يلى المصدرَ، فاعلا كان أو مفعولاً، لأنَّه اسمٌ قد كففتَ عنه التنوين، كما فعلت ذلك بفاعِلٍ، ويصير المجرورُ بدلاً من التنوين معاقباً له. وذلك قولك: عَجبِتُ من ضَرْبِه زيداً، إن كان فاعلا؛ ومن ضَرْبِه زيدٌ، إن كان المُضَمْرَ مفعولا.
وتقول: عجبت من كِسْوَةٍ زيدٍ أبوه، وعجبت من كِسُوةِ زيدٍ أباه، إذا حذفت التنوين.
وممَّا جاء لا ينَّون قولُ لبيد:
عَهْدِى بها الحَىَّ الجميعَ وفيهِمُ ... قبلَ التفرُّقِ مَيْسِرٌ ونِدامُ

(1/190)


ومنه قولهم: " سَمْعُ أُذُنِى زيداً يقولُ ذاك ". قال رؤبة:
ورَأْى عَيْنَىَّ الفَتَى أَخاكا ... يُعْطِى الجَزِيلَ فعليكَ ذاكا
وتقول: عجبتُ من ضربِ زيدٍ وعمروٍ، إذا أشركتَ بينهما كما فعلت ذلك في الفاعل. ومن قال هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً قال: عجبتُ له من ضَرْبِ زيدٍ وعمراً، كأنَّه أَضْمَرَ: ويَضرب عَمراً، " أو وضَرَبَ عمراً ". قال رؤبة:
قد كنتُ دايَنْتُ بها حسَّانَا ... مخافةَ الإِفلاسِ واللَّيَّانَا

(1/191)


يحسِنُ بَيْعَ الأصلِ والِقيانَا
وتقول: عجبتُ من الضَّرْبِ زيداً، كما قلتَ: عجبتُ من الضارِبِ زيدا، يَكون الألفُ واللام بمنزلة التنوين. وقال الشاعر:
ضعيفُ النَّكايَةِ أَعْدَاءَه ... يَخالُ الفِرارَ يُراخِى الأَجلْ
وقال المرّار " الأسدىّ ":

(1/192)


لقد عَلِمَتْ أُولَى المُغِيرَةِ أنّنى ... لحقت فلم أَنْكُِلْ عن الضْربِ مِسْمَعَا
ومن قال: هذا الضاربُ الرَّجُلِ لم يقل: عجبتُ له من الضَّربِ الرجلِ؛ لأنّ الضَّاربَ الرجلِ مشبَّهٌ بالحَسَنِ الوجهِ، لأنه وصفٌ للاسم كما أن الحَسَنَ وَصْفٌ، وليس هو بحدَّ الكلامِ مع ذلك.
وقد ينبغى فى قياس من قال: الضَّاربُ الرَّجلِ أن يقولَ: الضاربُ أََخى الرجلِ، كما يقول: الحَسَنُ الأخِ والحسنُ وجهِ الأخِ. وكان الخليل يَراه.
وإن شئت قلت: هذا ضَرْبُ عبدِ الله، كما تقول: هذا ضارب عبدِ الله، فيما انَقطع من الأفعال.
وتقول: عجبتُ من ضَرْبِ اليومِ زيداً، كما قال:
يا سارق الليل أهل الدار

(1/193)


وليس مثلَ:
لله دَرُّ اليَوْمَ مَنْ لامَها
لأنَّهم لم يجعلوه فعلا أو فَعَلَ شيئاً فى اليوم، إنما هو بمنزلة: لله بِلادُك.
ويجوز: عجبتُ له من ضَرْبِ أخيه، يكون المصدرُ مضافاً فَعَلَ أو لم يَفْعَلْ، ويكونُ منوناً وليس بمنزلة ضارب.

باب الصفة المشبَّهة بالفاعل فيما عَمِلتْ فيه
ولم تقوم أن تَعمل عَمَلَ الفاعل لأنّها ليست فى معنى الفِعل المضارِع، فإِنَّما شُبَّهَتْ بالفاعل فيما عَملتْ فيه. وما تَعْمَلُ فيه معلومٌ، إنَّما تَعمل فيما كان من سببها مُعَرَّفا بالألف واللام أو نكرةً، لا تُجاوِز هذا؛ لأنَّه ليس بفعلٍ ولا اسم هو فى معناه.
والإضافةُ فيه أحسنُ وأكثر، لأنَّه ليس كما جرى مجرى الفعل ولا فى معناه، فكان أحسنَ عندهم أن يَتباعدَ منه فى اللفظ، كما أنَّه ليس مثلَه فى المعنى وفى قوّته فى الأشياء. والتنوينُ عربىٌّ جيّدٌ. ومع هذا إنهم

(1/194)


لو تركوا التنوينَ أو النونَ لم يكن أَبداً إلاّ نكرةً على حاله منوَّنا. فلما كان تركُ التنوين فيه والنون لا يُجاوَزُ به معنى النون والتنوين، كان تركُهما أخفَّ عليهم، فهذا يقوَّى " أَنَّ " الإِضافة " أَحسنُ "، مع التفسير الأوَّلِ.
فالمضافُ قولك: هذا حَسَنُ الوجهِ، وهذه حَسَنَةُ الوجهِ. فالصَّفةُ تَقَعُ على الاسم الأوَّل ثم توصِلُها إلى الوجه وإلى كلّ شيء من سببه على ما ذكرتُ لك، كما تقول: هذا ضاربُ الرجلِ، وهذه ضاربةُ الرجلِ؛ إلاَّ أنَّ الحُسن فى المعنى للوجه والضَّربُ ههنا للأوَّل.
ومن ذلك قولهم: هو أَحْمَرُ بَيْنِ العينينِ، وهو جيَّدُ وجهِ الدار.
وممّا جاء منَّونا قول زُهَيْر:
أَهْوَى لها أَسْفَعُ الخَدَّيْنِ مُطَّرِقٌ ... رِيشَ القَوَادِمِ لم تُنصَبْ له الشبك

(1/195)


وقال العجّاج:
مُحْتَبِكٌ ضَخْمٌ شئوُنَ الرَّأْسِ
وقال أيضاً النابغة:
ونَأْخُذْ بعدَه بِذِنابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرَ ليس له سَنامُ
وهو فى الشعر كثير.
واعلم أنّ كينونة الألف واللام فى الاسم الآخِرِ أكثرُ وأحسنُ من أن لا تكون فيه الألفُ واللام، لأنَّ الأوَّل فى الألف واللام وفى غيرِهما ههنا على حالةٍ واحدةٍ، وليس كالفاعل، فكان إدخالُهما أَحسنَ وأَكثرَ، كما كان تركُ التنوين أكثرَ، وكان الألفُ واللام أَولَى لأنَّ معناه حَسَنٌ وجهُه. فكما لا يكون

(1/196)


هذا إلاّ معرفةً اختاروا فى ذلك المعرفةَ. والأُخرى عربيّةٌ، كما أنَّ التنوين " والنون " عربىٌّ مطَّرِدٌ.
فمن ذلك قوله: " " هو " حديثُ عَهْدٍ بالوَجَعِ ". وقال عَمرو بن شأسٍ:
أَلِكْنْى إلى قومى السَّلامَ رِسالةً ... بآيَةِ ما كانوا ضِعافاً ولا عزلاً
ولا سيئي زِىًّ إذا ما تَلَبّسوا ... إلى حاجةٍ يوماً مخيسة بُزْلاَ
وقال حُميدٌ الأرقطُ:
لاحِقُ بَطْنِ بِقَراً سمين

(1/197)


ومما جاء منوناً قول أبى زُبَيْدٍ " يَصِفُ الأسدَ ":
كأَنّ أَثوابَ نَقّادٍ قُدِرْنَ له ... يَعْلُو بِخَمْلتِها كَهْبَاءَ هُدَّابَا
وقال أيضاً:
هَيْفاءُ مُقْبِلةً عَجْزاءُ مُدْبِرةً ... مَحْطوطةٌ جُدِلتْ، شَنْباءُ أَنْياباَ
وقال عيد بن زيد:
من حبيب أو أخي ثقة ... أو عَدُوًّ شاحطٍ دارَا

(1/198)


وقد جاء فى الشعر حسنةُ وَجْهِها، شَبّهوه بحسنة الوجه، وذلك رديء " لأنّه بالهاء معرفة كما كان بالألف واللام، وهو من سبب الأوّل كما أنه من سببه بالألف واللام ". قال الشمّاخ:
أَمِنْ دِمْنَتَيْنِ عرس الركب فيهما ... بحقل الرُّخامَى قد عَفا طَللاَهما
أَقامتْ على رَبْعَيهما جارَتَا صَفاً ... كُمَيْتَا الأَعالِى جَوْنَتَا مُصطَلاهما
واعلم أنه ليس فى العربية مضافٌ يَدخل عليه الألفُ واللام غيرُ المضاف

(1/199)


إلى المعرفة فى هذا الباب، وذلك قولك: هذا الحَسَنُ الوجهِ، أدخلوا الألفَ واللام على حسنِ الوجهِ، لأنه مضافٌ إلى معرفة لا يكون بها معرفةً أبداً، فاحتاجَ إلى ذلك حيث مُنعَ ما يكون فى مثله البتَّةَ، ولا يُجاوَزُ به معنى التنوين. فأَمَّا النكرة فلا يكون فيها إلاّ الحَسَنُ وجهاً، تكون الألفُ واللام بدلاً من التنوين، لأنَّك لو قلت: حديثُ عهد، أو كريمُ أبٍ، لم تخلل بالأول في شيء فتُحتَمَل له الألفُ واللام، لأنَّه على ما ينبغى أن يكون عليه. قال رؤبة:
الحَزْنُ باباً والعقورُ كَلْبَا

(1/200)


وزعم أبو الخَطّاب أنه سمع قوما من العرب يُنشدون هذا البيت للحارث ابن ظالم:
فما قومى بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشُّعْرَى رِقابا
فإنَّما أُدخلت الألفُ واللام فى الحسن ثم أعملته، كما قال: الضاربُ زيدا.
وعلى هذا الوجه تقول: هو الحسنُ الوجهَ، وهي عربية جيدة. قال الشاعر:
فما قولي بثعلبةَ بن سعدٍ ... ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرَّقابا
وقد يجوز فى هذا أن تقول: هو الحَسَنُ الوجهِ، على " قوله ": هو الضَّاربُ الرَّجلِ. فالجرُّ فى هذا الباب من وجهين: " من الباب الذى هو له وهو الإِضافة، ومن إعمال الفعل ثم يُستخَفُّ فيضاف ".
فإِذا ثنَّيتَ أو جمعت فأَثبتَّ النون فليس إلاّ النصبُ، وذلك قولهم: هم الطّيبون الأَخبارَ، وهما الحسنانِ الوجه. ومن ذلك قوله تعالى: " قُلْ هلْ نُنَبَّئُكُمْ بالأخسرين أعمالاً ".

(1/201)


وقالتْ خِرْنِقُ، " من بنى قيس ":
لا يَبْعَدَنْ قومى الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النّازِلون بكلّ مُعْتَرَكٍ ... والطّيبونَ مَعاقِدَ الأَزْرِ
فإِنْ كففتَ النونَ جررتَ، كان المعمولُ فيه نكرةً أو فيه ألفٌ ولام، كما قلت: هؤلاء الضارِبُو زيدٍ، وذلك قولهم: هم الطَّيّبو أََخبارٍ. وإن شئتَ نصبتَ على قوله: الحافِظُو عَوْرَةَ العشيرة وتقول فيما لا يقع إلاَّ منوَّنا عملاً فى نكرةٍ " وإنما وقع منونَّا " لأنّه فُصِلَ فيه بين العامل والمعمول فالفصلُ لازمٌ له أبداً مظهَراً أو مضمراَ، وذلك قولك: هو خير منك أباً، و " هو " أحسنُ منك وجهاً. ولا يكون المعمول فيه إلا من

(1/202)


سببه. وإن شئت قلت: هو خيرٌ عَمَلا وأنت تَنْوِى " منك ". وإن شئت أَخّرت الفصَل فى اللفظ وأصلُه التقديم، لأنه لا يَمنعه تأخيره عمله مقدماً، كما قال: ضرب زيد عمروٌ، فعمروٌ مؤخَّر فى اللَّفظ مبدوءٌ به فى المعنى، وهذا مبدوءٌ به فى أنه يُثبِت التنوينَ ثم يُعْمِلُ. ولا يَعْمَلُ إلاَّ فى نكرة، كما أنَّه لا يكون إلاَّ نكرة، ولا يَقوَى قوَّة الصفة المشبَّهة، فأَلزم فيه وفيما يَعْمَلُ فيه وجهاً واحدا. ويعمل فى الجمع كقولهم: هو خيرٌ منك أعمالاً. فإِن أضفتَ فقلت: " هذا " أوّلُ رَجُلٍ، اجتَمع فيه لزومُ النكرة وأَنْ يُلفَظ بواحدٍ " وهو يريد الجمع "؛ وذلك لأنه أراد أن يقول: أوّلُ الرَّجالِ، فحذف استخفافاً واختصارا، كما قالوا: كلُّ رجلٍ، يريدون كلَّ الرجال. فكما استَخفُّوا بحذف الألف واللام استخفّوا بترك بناء الجمِيع واستغنوا عن الألف واللام، وعن قولهم: خيرُ الرجال وأوَّلُ الرجال.
ومثلُ ذلك فى ترك الألف واللام وبناءِ الجميع، قولهم: عِشْرُونَ درهماً، إنما أرادوا عِشرينَ من الدَّراهم، فاختَصروا واستَخفّوا. ولم يَكن دُخولُ الألف واللام يغَّير العشرين عن نكرته، فاستخفوا بتركما لم يُحتَجْ إليه.
ولم تَقْوَ هذه الأحرفُ قوَّةَ الصفة المشبَّهة. ألاَ ترى أنك تؤنَّثها وتذكَّرها وتَجمعها كالفاعل، تقول: مررت برجلٍ حَسَنِ الوجهِ أبوه، " كما تقول: مررت برجلٍ حسنٍ أبوه، وهو " مثل قولك: مررت برجلٍ ضاربٍ

(1/203)


أبوه. فإِن جئت بخيرٍ منك، أو عشرينَ، رفعتَ، لأنّها مُلْحَقَةٌ بالأسماء " لا تَعمل عملَ الفعل "، فلم تقو قوة المشبهة، كما لم تَقْوَ المشبَّهةُ قوَّةَ ما جرى مجرى الفعل.
وتقول: هو خيرُ رَجُلٍ فى النَّاس وأَفْرَهُ عبدٍ فى الناس؛ لأن الفارِهَ هو العبد، ولم تُلْقِ أَفْرَهَ ولا خيراً على غيره ثم تَختصُّ شيئاً، فالمعنى مختلف. وليس هُنا فصلٌ ولم يَلزم إلاَّ تركُ التنوين، كما أنَّ عشرين وخيراً منك لم يَلزم فيه إلاّ التنوينُ. ولم يُدْخِلوا الألفَ واللام، كما لم يُدخِلوه فى الأوّل، وتفسيرُه تفسيرُ الأوّلُ. وإنَّما أرادوا: أَفْرَهَ العَبيدِ وخيرَ الأعمالِ.
وإنَّما أَثبتوا الألفَ واللام فى قولهم: أفضلُ الناس، لأنَّ الأولَ قد يصير به معرفةً، فأثبتوا الألف واللام وبناء الجميع ولم ينَّونْ، وفرَقوا بترك النون والتنوين بين معنيين.
وقد جاء من الفعل ما قد أُنفذ إلى مفعولٍ ولم يَقْوَ قوّةَ غيره مما قد تَعدّى إلى مفعولٍ، وذلك قولك: امتَلأَتُ ماءً وتفقَّأْتُ شَحْماً، ولا تقول: امتلأتُه

(1/204)


ولا تفقَّأتُه. ولا يَعمل فى غيره من المَعارف، ولا يقدَّم المفعولُ فيه فتقولَ: ماءً امتَلأْتُ، كما لا يُقَدَّمُ المفعولُ فيه فى الصفةّ المشبَّهةِ، ولا فى هذه الأسماء، لأنها ليست كالفاعل. وذلك لأنَّه فعلٌ لا يتَعدّى إلى مفعول، وإنَّما هو بمنزلة الانفعال، لا يتعدَّى إلى مفعول، نحو كسرته فانكسر، ودفعته فاندفع. فهذا النحو إنما يكون فى نفسه ولا يقع على شيء، فصار امتلأت من هذا الضرب، كأَنك قلت: ملأنى فامتلأت. ومثله: دحرجته فتدحرج. وإنما أصلُه امتَلأت من الماء، وتفقَّأتُ من الشَّحم، فحُذف هذا استخفافاً، وكان الفعلُ أَجدرَ أن يَتعدّى إنْ كان هذا ينفُذ، وهو - فى أنّهم ضعَفَّوه - مثله.
وتقول: هو أشجعُ الناس رجلاً، وهما خيرٌ الناس إثنينِ. فالمجرورُ هُنا بمنزلة التنوين، وانتَصب الرجلُ والاثنانِ، كما انتَصب الوجهُ فى قولك: هو أحسنُ منه وجهاً. ولا يكون إلاّ نكرةً. والرجلُ هو الاسم المبتدأُ والاثنان كذلك. إنَّما معناه هو خيرُ رجُلٍ فى الناس، وهما خيرُ اثنين

(1/205)


فى الناس. وإن شئت لم تَجعله الأوّلَ. فتقول: هو أكثرُ الناس مالاً.
وممّا أُجْرِىَ هذا المُجرى أسماء العدد: تقول فيما كان لأَدنى العِدّة بالإِضافة إلى ما يُبْنَى لجمع أَدنى العدد، إلى أدنى العُقود، وتُدْخِل فى المضاف إليه الألف واللام، لأنَّه يكون الأوّلُ به معرفةً. وذلك قولك: ثلاثة أبواب وأربعة أنفس وأربعة أثواب. وكذلك تقول: فيما بينك وبين العَشَرَة؛ وإذا أَدخلتَ الألفَ واللام قلت: خمسة الأثواب، وستة الجمال. فلا يكون هذا أبداً إلا غيرَ منوَّن يَلزمه أمرٌ واحدٌ، لما ذكرتُ لك. فإِذا زدتَ على العشَرَة شيئاً من أَسماء أدنى العدد فإِنّه يُجعَل مع الأوّل اسماً واحداً استخفافاً، ويكونُ فى موضع " اسمٍ " منَّونٍ. وذلك قولك: أَحَدَ عَشَرَ درهماً، واثناَ عَشَرَ درهماً، وإحْدَى عشر جاريةً. فعلى هذا يُجرَى من الواحد إلى التسعة. فإِذا ضاعفتَ أَدنى العُقود كان له اسمٌ من لفظه ولا يثنَّى العَقدُ. ويُجْرَى ذلك الاسمُ مُجرى الواحدِ الذى لحقتْه الزيَّادةُ للجمع كما لحقتْه الزيادةُ للتثنية ويكون حرفُ الإِعراب الواوَ والياء وبعدهما النونُ؛ وذلك قولك: عِشْرُونَ درهماً. فإِن أردتَ أنْ تثلَّثَ أدنى العُقود كان له اسمٌ من لفظ الثلاثة يَجرى مجرى الاسم الذى كان للتثنية،

(1/206)


وذلك قولك: ثَلاثونَ عبداً. وكذلك إلى أن تتسَّعَه، وتكونُ النونُ لازمةً له، كما كان تركُ التنوين لازماً للثلاثة إلى العشرة. وإنَّما فعلوا هذا بهذه الأسماءِ وأَلزموها وجهاً واحدا لأنها ليست كالصفة فى معنى الفعل، ولا التى شُبَّهَتْ بها، فلم تقوى تلك القوّةَ، ولم يَجُز حين جاوزتَ أدنى العُقود فيما تُبَيَّنُ به من أىَّ صِنْفٍ العددُ إلاّ أنْ يكون لفظُه واحدا، ولا تكون فيه الألفُ واللام، لما ذكرتُ لك.
وكذلك هو إلى التسعين فيما يَعمْلُ فيه ويبيَّن به من أىَ صِنفٍ العددُ. فإِذا بلغت العدد " الذى يليه " تركتَ التنوينَ والنونَ وأَضفتَ، وجعلت الذى يَعْمَلُ فيه ويبَّين به العددُ من أي صنف هو واحداً، كما فعلت فيما نوَّنت فيه، إلاّ أنَّك تُدْخِلُ فيه الألف واللام، لأن الأوَّل يكون به معرفةً ولا يكونُ المنَّونُ به معرفةً. وذلك قولك: مِائَةُ درهمٍ ومِائَةُ الدرهمِ. وذلك إنْ ضاعفتَه قلتَ: مِائَتا درهمٍ ومائتا الدينارِ.
وكذلك العَقْدُ الذى بعده، واحداً كان أو مثنَّى، وذلك قولك: ألْفُ درهمٍ وأَلْفاَ درهمٍ.

(1/207)


وقد جاء فى الشَّعر بعضُ هذا منوَّنا. قال الربيع بن ضبع الفزاري:
عاشَ الفَتَى مِائَتَيْنِ عاماً ... فقد أَوْدَى المَسَرَّةُ والفناء
وقال:
أَنعَتُ عِيراً من حَمِيرِ خَنْزَرَهْ ... فى كلَّ عِيرٍ مِائتانِ كَمَرَةْ

(1/208)


وأما ثلثُمائةٍ إلى تسعِمائةٍ فكان ينبغى أن تكون في القياس مئين أو مِئاتٍ، ولكنَّهم شبّهوه بعشرينَ وأَحَدَ عَشَرَ، حيث جعلوا ما يبيَّنُ به العددُ واحداً، لأنَّه اسمٌ لعددٍ كما أَنّ عشرينَ اسمٌ لعددٍ. وليس بمستنكَرٍ فى كلامهم أنْ يكون اللفظُ واحداً والمعنى جميعٌ، حتَّى قال بعضُهم في الشعر " من ذلك " مالا يُسْتَعْمَلُ فى الكلام. وقال عَلقَمةُ بن عَبَدةَ:
بها جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها ... فَبيِضٌ وأَما جِلْدُها فصَلِيبُ
وقال:
لا تُنكِرُوا القَتْلَ وقد سُبينا ... فى حَلقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجِينَا

(1/209)


فاختُصّ " التثليث " بهذا الباب إلى تسعمائة.
كما أن لدن فى غُدْوَةً حالٌ ليست فى غيرها تُنْصَبُ بها، كأَنّه أَلحقَ التنوينَ فى لغة من قال: لَدُ. وذلك قولك: " من " لَدُنْ غُدْوَةٌ. وقال بعضهم: لَداً غدوةٌ كأنه أَسكن الدالَ ثم فتحها، كما قال: اضرب زيداً، ففتح الباء لمَّا جاء بالنون الخفيفة. والجرُّ فى غُدْوَةٍ هو الوجهُ والقياس. وتكونُ النون في نفس الحرف بمنزلة نونِ مِنْ وعَنْ؛ فقد يشذ الشيء من كلامهم عن نظائره، ويستخفون الشيء في موضع " و " لا يستخفونه في غيره. وذلك قولهم: ماشعرت به شِعْرَةً، ولَيْتَ شِعْرِى. ويقولون: العَمْرُ والعُمْرُ، لا يقولون فى اليمين إلاّ بالفتح، يقولون كُلُّهم: لَعَمْرُك. وسترى أَشباهَ هذا أيضاً فى كلامهم إنْ شاء الله.
ومما جاء فى الشَّعر على لفظ الواحد يراد به الجميعُ:
كُلُوا فى بَعْضِ بَطنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإِنّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
ومثل ذلك " فى الكلام " قوله تبارك وتعالى: " فإن طبن لكم عن شيء مِنْهُ نَفْساً "، وقَرِرْنَا به عَيْناً، وإن شئت قلت: أَعْيُناً وأَنفُساً،

(1/210)


كما قلت: ثلثمائةٍ وثلاثِ مِئينَ ومِئاتٍ، ولم يُدْخِلوا الألفَ واللام، كما لم يُدْخلوا فى امتلأت ماءً.

باب استعمال الفعل فى اللَّفظ لا فى المعنى
لاتَّساعِهم فى الكلام، والإيجاز والاختصار فمن ذلك أَنْ تقولَ على قول السائل: كَمْ صِيدَ عليه؟ وكَمْ غيرُ ظَرْفٍ لما ذكرت لك من الاتّساع والإِيجاز، فتقول: صِيدَ عليه يومانِ. وإنَّما المعنى صِيدَ عليه الوحشُ فى يومينِ، ولكنّه اتَّسع واختَصر. ولذلك أيضاً وَضَعَ السائلُ كَم غيرَ ظرفٍ.
ومن ذلك أن تقول: كم وُلِدَ له؟ فيقول: ستّون عاما. فالمعنى ولد له الأولاد ولد له الوَلَدُ سِتّينَ عاماً، ولكنَّه اتَّسع وأَوْجَزَ.
ومن ذلك أن تقول: كَمْ سِيرَ عليه؛ وكم غَيرُ ظرفٍ، فيقول: يومُ الجُمُعةِ ويومان. فكم هاهنا بمنزلة قوله: ما صِيدَ عليه، وما وُلدَ له من الدَّهر والأَيَّامِ؟ فليس كم ظرفاً كما أنّ " ما " ليس بظرف.

(1/211)


ومن ذلك أن يقول: كم ضرِبَ به؟ فنقول: ضُربَ به ضربتان، وضُرِبَ به ضَرْبٌ كثيرٌ.
ومما جاء على اتّساع الكلام والاختصارِ قوله تعالى جدّه: " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " إنّما يريد: أهلَ القرية، فاختصر، وعمل الفعل في القرية كم كان عاملاً في الأهل لو كان هاهنا.
ومثله: " بل مكر الليل والنهار "، وإنّما المعنى: بل مكر كم فى الليل والنهار. وقال عزّ وجلّ: " ولكن البر من آمن بالله "، وإنّما هو: ولكنّ البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخِر.
ومثله فى الاتّساع " قولُه عزّ وجلّ ": " وَمَثَلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً "، وإنَّما شُبّهوا بالمنعوق به. وإنَّما المعنى: مَثَلُكم ومَثَلُ الذين كفروا كمثل الناعِق والمنعوقِ به الذى لاُ يَسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإِيجاز لعلم المخاطَب بالمعنى.

(1/212)


ومثل ذلك " من كلامهم ": بنو فلانٍ يَطَؤُهم الطريقُ، يريد: يَطَؤُهم أهلُ الطريق. وقالوا: صِدْنَا قَنَوَيْنِ، وإنّما يريد صدنا بقَنَوَيْنِ، أو صِدنا وحَش قنوينِ، وإنَّما قنَوَانِ اسمُ أرضٍ.
ومثُله في السعة: أنت أكرم على من أَضربَك، وأنت أَنكدُ من أَن تَتْرُكَه. إنّما يريد: أنت أَكرمُ علَّى من صاحب الضَّربِ، وأنت أَنكدُ من صاحب تَرْكِه؛ لأنَّ قولك: أَنْ أضربك وأن تتركه، هو الضَّرْبُ والتَّرْكُ، لأنّ أَن اسمٌ، وتتركَه " وأَضربكَ " من صلته، كما تقول: يَسوءُنى أَنْ أَضربك، أى يَسوءُنىٍ ضَرْبُك، وليس يريد: أنت أَكرمُ علَّى من الضرب، ولكن أَكرَمُ علىَّ من صاحب الضربِ.
وقال الجعدىّ:

(1/213)


كأنّ عَذِيرهَم بجُنوبِ سِلَّى ... نَعامٌ قاقَ فى بَلَدٍ قِفارِ
العَذير: الصوت. ومن ذلك قولُ عامرِ بن الطُّفيل:
فَلأَبَغِيَنّكُمُ قَناً وعُوارِضاً ... وَلأُقْبِلنَّ الخيل لابة ضرغد
إنما يريد: عذير نعام. وقَناً وعُوارض، يريد بقَناً وعُوارض، ولكنّه حَذَفَ وأَوصَلَ الفعلَ.
" ومن ذلك قول ساعدة:
لدن بهز الكفيعسل مَتنُه ... فيه كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
يريد: فى الطريق ".
ومن ذلك قولهم: أكلتُ أرضِ كذا وكذا وأكلتُ بلدةَ كذا وكذا، إنما أراد أصاب من خيرها وأكلَ من ذلك وشرب. وهذا الكلام كثير، منه

(1/214)


ما مضى، وهو أكثر من أحصيَه. ومنه ما ستراه أيضاً فيما يستقبَل إن شاء الله.
ومنه قولُهم: " هذهِ الظُّهْرُ أو العَصرُ أو المغرب "، إنّما يريد صلاةَ هذا الوقت. و " اجتمع القَيْظُ "، يريد: اجتَمع الناسُ فى القيظ. وقال الحُطَيئة:
وشرُّ المَنَايا مَيَّتٌ بين أَهلِه ... كهُلْكِ الفَتَى قد أَسْلَمَ الحَىَّ حاضِرُهْ
يريد: مَنيّةُ مَيَّتٍ.
وقال النابغةُ الجعدىّ:
وكيف تُواصِلُ مَنْ أصبحت ... خلالته كأبي مرحب

(1/215)


يريد: كخلالة أبي مرحب.

باب وُقوع الأسماء ظُروفا

وتصحيح اللفظ على المعنى
فمن ذلك قولك: متى يُسارُ عليه؟ وهو يجعله ظرفاً. فيقولُ: اليومَ أو غداً، أو بعد غدٍ أو يومَ الجمعة. وتقول: متى سِيرَ عليه؟ فيقول: أَمْسِ أَوْ أَوّلَ من أَمسِ، فيكونُ ظرفاً، على أنه كان السير في ساعة دونَ سائر ساعات اليوم، أو حين دون سائر أحيانِ اليوم. ويكونُ أيضاً على أنه يكون السَّيرُ فى اليوم كلَّه، لأنَّك قد تقول: سِيرَ عليه فى اليوم ويُسارُ عليه فى يوم الجمعة، والسَّيرُ كان فيه كلَّه.
وقد تقول: سِيرَ عليه اليومُ، فترفعُ وأنت تعنى فى بعضِه، كما تقول فى سعة الكلام: الليلةُ الهلالُ، وإنَّما الهلالُ فى بعض الليلة، وإنَّما أراد الليلةُ ليلةُ الهلالِ، ولكنه اتَّسع وأَوجز. وكذلك أيضاً هذا كلُّه، " كأنّه قال: سِيرَ عليه سَيْرُ اليوم. والرفعُ فى جميع هذا عربىّ كثير فى جميع لغات العرب، على ما ذكرتُ لك من سعة الكلام والإِيجاز، يكونُ على كَمْ غيرَ ظرف وعلى مَتَى غيرَ ظرف ". كأَنّه قال: أىُّ الأَحيان سيرَ عليه أو يُسارُ عليه.
وممَّا لا يكون العملُ فيه من الظروف إلاَّ متّصِلا فى الظّرف كلَّه، قولك: سير عليه الليلَ والنهارَ، والدَّهرَ، والأَبدَ. وهذا جوابٌ لقوله: كم سير عليه؟ إذا جعلَه ظرفا، لأنه يريد: فى كَمْ سِيرَ عليه. فتقول مجيباً له: الليلَ ولنهار " والدهر " والأبد، علة معنى فى الليل والنهار وفى الأبد.
ويدلُّك على أنه لا يكون أن يجعل العمل فيه فى يومٍ دونَ الأيّام

(1/216)


وفى ساعة دون الساعات، أنَّك لا تقول: لقيتُه الدهرَ " والأبدَ، وأنت تريد يوماً منه، ولا لقيته الليل وأنت تريد لقاءهفي ساعةٍ دون الساعات، وكذلك النَّهارُ، إلاّ أن تريد سير عليه الدهرَ أَجمعَ والليلَ " كلَّه، على التكثير. وإنْ لم تَجعله ظرفاً فهو عربىٌّ كثيرٌ فى كلامهم. وإنَّما جاء هذا على جوابِ كَمْ، لأنَّه جَعَله على عدّة الأيَّام واللَّيالى، فجرى على جواب ما هو للعدد، كأنه قال: سِيرَ عليه عدّةُ الأيّام، أو عدّةُ الليالى.
ومن ذلك، " مما يكون متّصِلا "، قولك: سِيرَ عليه يومَيْنِ، " أو ثلاثةَ أيامٍ، لأنَّه عددٌ. ألا ترى أنَّه لا يجوز أن تجعله ظرفاً وتجعلَ اللقاءَ فى أحدهما دون الآخَر. ولو قلت: سِير عليه المؤمنين "، وأنت تعنى أنّ السيرَ كان فى أحدهما، ولم يجز. هذا على أن تَجعل كَمْ ظرفا وغير ظرف.
وأمّا متى فإِنَّما تريد " بها " أن يوُقِّتَ لك وقتا ولا تريد بها عدداً، فإِنما الجوابُ " فيه ": اليومَ أو يومَ كذا، أو شهرَ كذا أو سنَة كذا، أو الآنَ، أو حينَئذٍ وأَشباهُ هذا.
ومما أُجرِى مجرى " الأبد " والدَّهر واللَّيل والنهار: المحرَّمُ وصَفَرٌ " وجُمادَى "، وسائرُ أََسماء الشُّهور إلى ذى الحجة؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعِدّة أيّام، كأنّهم قالوا: سيرَ عليه الثلاثون يوماً. ولو قلت: شهرُ رمضانَ أو شهر ذي الحجة لكان بمنزلة يوم الجمعة والبارحةِ والليلةِ،

(1/217)


ولصار جوابَ مَتَى. وجميعُ ما ذكرت لك مما يكون على مَتى، يكون مجرًى على كَمْ ظرفا وغيرَ ظرف.
وبعضُ ما يكون فى كَمْ لا يكون فى مَتَى، نحوُ اللَّيلَ " والنَّهارَ " والدَّهرَ؛ لأنَّ كَمْ " هو " الأوّلُ فجُعلَ الأخِرُ تَبَعاً له. ولا يكون الدَّهرُ واللَّيل والنهار إلا على العِدّة، جوابا لكَمْ.
وتقول: سيرَ عليه الليلُ، تعنى ليلَ ليلتك، وتَجرى على الأصل. كما تقول فى الدهر: سيرَ عليه الدَّهرُ، وإنما تعنى بعضَ الدهر، ولكنَّه يكثَّر. كما يقول الرجلُ: جاءنى أهلُ الدنيا، وعسى أن لا يكونَ جاءه إلا خمسة، فاستَكثرهم.
وكذلك شَهْرَا ربيعٍ، حين ثنّيتَ جاء على العدد عندهم، لا يجوز أن تقول: يَضرب شَهْرَى ربيعٍ، وأنت تريد فى أحدهما، كما لا يجوز لك فى اليومينِ وأَشباهِهما. فليس لك فى هذه الأشياءِ إلاّ أَنْ تُجْرِيَهَا على ما أَجروها، ولا يجوز لك أن تريد بالحرف إلا ما أرادوا.

(1/218)


وتقول: ذهبتُ الشتاءَ ويضربُ الشتاء. وسمعنا العربَ الفصحاءَ يقولون: انطلقتُ الصَّيفَ، أَجروه على جواب مَتَى، لأنَّه أَراد أن يقول فى ذلك الوقتِ، ولم يُرِد العددَ وجوابَ كَم.
وقال ابن الرِّقاع:
فقُصِرْنَ الشتَّاءَ بعدُ عليه ... وَهوَ للذَّوْدِ أَنْ يُقَسَّمْنَ جارُ
فهذا يكون على مَتَى ويكون على كَمْ، ظرفينِ وغيرَ ظرفينِ.
واعلم أنّ الظُّروف من الأَماكنِ مثل الظروف من اللَّيالى والأَيَّام، فى الاختصار وسعة الكلام.
فمن ذلك أن يقول: كَمْ سيرَ عليه من الأرض؟ فتقول: فرسخان أو ميلان أو بريدان، كما قالت: يومانِ. وكذلك لو قال: كَمْ صِيدَ عليه من الأرض؟ يجرى " على " هذا المجرى. وإن شئتَ نَصبت وجعلت كَمْ ظرفا، كما فعلت ذلك فى اليومينِ، " فلا يكون ظرفا وغيرَ ظرف إلاّ على كَمْ، لأنّه عددٌ كما كان ذلك فى اليومينِ ".
ونظيرُ مَتَى من الأَماكن: " أَيْنَ ". ولا يكون أَيْنَ إلاَّ للأَماكن، كما

(1/219)


لا يكون مَتَى إلاّ للأَيام والليالى. فإِن قلت: أَيْنَ سيرَ عليه؟ قال: سِير عليه مكانُ كذا وكذا، وسيرَ عليه المكان الذى تَعلم، فهو بمنزلة قوله: يومُ كذا وكذا، واليومُ الذى تَعلم. فأَجْرِ " كَمْ " فى الأَماكن مُجراها فى الأيّام والليالى، وأَجْر أَيْنَ فى الأَماكن مجرى مَتَى فى الأيّام.
ويقال: أين سير عليه؟ فتقول: خَلْفَ دارك وفوقَ دارك. فإِنْ لم تَجعله ظرفا وجعلتَه على سعة الكلام رفعته على " أَنّ " كَمْ غيرُ ظرف، وعلى " أنّ " أين غيرُ ظرف، كما فعلت ذلك فى مَتَى.
وتقول سير عليه ليلٌ طويلٌ وسير عليه نهارٌ طويل، وإن لم تَذكر الصفةَ وأردتَ هذا المعنى رَفعتَ، إلاّ أنَّ الصفة تبيَّن بها معنى الرفع وتُوَضَّحُه، وإن شئت نصبت على نصبِ اللّيل والنهار ورمضانَ.
وتقول: سير عليه يومٌ فترفُعه على حدّ قولك: يومانِ " وتَنصبهُ عليه ". وإن شئت قلت: سير عليه يوم أتانا فيه فلان، كأنّه قال: متى سير عليه؟ فيقول: يوماً كنتَ فيه عندنا. فهذا يحسن فيه على مَتَى، ويصير بمنزلة يومَ كذا وكذا؛ لأنك قد وقته وعرفته بشيء.
وتقول: سير عليه غُدْوَةُ يا فَتى وبُكْرةُ، فترفع على مثل ما رفعتَ ما ذكرنا. والنصبُ فيه على ذلك، لأنك قد تُجريه وإن لم يتَصرَّف مُجْرَى يومِ الجمعةِ، تقول: مَوْعِدُك غُدْوةُ أو بُكْرةُ فترفع على مثل ما رفعتَ ما ذكرنا، والنصبُ فيه على ذلك.
وتقول: ما لقيتُه مذْ غدوةُ أو بكرُة، وكذلك: غداُة أَمْسِ وصبَاحُ

(1/220)


يوم الجمعة والعشّيةُ وعشيّة يوم الجمعة ومَساءُ ليلة الجمعة. وتقول: سير عليه حِينَئِذٍ ويَوْمَئِذٍ، والنصب على ما ذكرت لك.
وكذلك: نِصفُ النَّهار، لأنك قد تقول فى هذا: بعد نصفِ النهار، وموعدُك نصفُ النهار.
وكذلك، سَواءُ النَّهار، لأنّك تقول: هذا سواءُ النهارِ، إذا أردت وسطه، كما تقول: هذا نصفُ النهار.
وأما سَراةُ اليوم فبمنزلة أوّل اليوم.
وتقول: سير عليه ضَحْوَةٌ من الضَّحَوات، إذا لم تَعْنِ ضَحْوةَ يومِك، لأنَّها بمنزلة قولك: ساعة من الّساعات. وكذلك قولك: سير عليه عَتَمَة من الليل، لأنك تقول: أتانا بعد ما ذهبتْ عَتَمَةٌ من الليل.
وتقول: قد مُضِىَ لذلك ضَحْوَةٌ وضحوةً، والنصب فيه وجهُه على ما مَضَى.
وتقول فى الأماكن: سِيرَ عليه ذاتُ اليَمينِ وذاتُ الشَّمالِ، لأنك تقول: دارهُ ذاتُ اليمين وذاتُ الشمال. والنصب على ما ذكرت لك.
وتقول: سير عليه أَيْمُنٌ وأَشمُلٌ، وسير عليه اليَمينُ والشَّمالُ، لأنه يَتَمكن. تقول: على اليمين وعلى الشمالُ، ودارك اليمين ودارك الشمال. وقال أبو النجم:
يأتي لها من أَيْمُنٍ وأشمل

(1/221)


وإن شئت جعلته ظرفاً كما قال عمرو بن كُلْثُومٍ:
وكانَ الكَأْسُ مَجْراها اليَميناَ
ومثل ذاتَ اليمين وذاتَ الشَّمال: شَرْقىُّ الدار وغَرْبىُّ الدارِ، تجعلُه ظرفا وغيرَ ظرف. قال جرير:
هبت جنوبا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التى شَرْقِىَّ حَوْرَاناَ
وقال بعضُهم: دارهُ شَرقىُّ المسجدِ.
ومثلُ: مجراها اليَميناَ. قوله: البُقولُ يمينَها وشِمالَها.

هذا باب
ما يكون فيه المصدرُ حِيناً لسعة الكلام
والاختصار
وذلك قولك: مَتَى سير عليه؟ فيقول الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلانس، وصَلاةَ العَصْر. فإِنَّما هو: زَمَنَ مَقْدمِ الحاجَّ، وحينَ خُفوقِ النجم، ولكنَّه على سعة الكلام والاختصار.

(1/222)


وإن قال: كَمْ سيرَ عليه، فكذلك.
وإن رفعته أجمع كان عربياً كثيراص. وينتصب على أن تَجعل كَمْ ظَرْفا. وليس هذا فى سعة الكلام والاختصار بأَبعدَ من: صيد عليه يومان، وولد له ستون عاما.
وتقول: سير عليه فرسخانِ يومَيْنِ، لأنَّك شغلت الفعلَ بالفرسخَيْنِ، فصار كقولك: سير عليه بَعيرُك يومَيْنِ. وإن شئت قلت: سير عليه فرسخَيْنِ يومانِ، أيُّهما رفعتَه صار الآخَرُ ظرفا. وإن شئت نصبته على الفعل فى سعة الكلام لا على الظَّرف، كما جاز: يا ضارِبَ اليوم زيدا، أوْ يا سائرَ اليومِ فرسخَينِ.
وتقول: صِيدَ عليه يومَ الجُمُعةِ غُدوةُ يا فتى، وإن شئتَ جعلته ظرفاً؛ لأنّك كأنَّك قلت: السَّيْرُ فى يوم الجُمُعة فى هذه الساعة. وإن شئت قلت: سير عليه الجُمُعَةِ غُدوةَ، كما تقول: سيرَ عليه يومُ الجُمُعة صَباحاً، أى سيرَ عليه يومُ الجمعة فى هذه الساعة. وإنَّما المعنى كان ابتداءُ السَّير فى هذه الساعة.
ومثلُ ذلك: ما لقِيتُه مُذْ يومِ الجمعة صَباحاً، أى فى هذه الساعة، وإنّما معناه أنَّه فى هذه الساعة وقَعَ الَّلقاءُ، كما كان ذلك فى: سِيرَ عليه يومُ الجمعة غدوةَ.
وتقول: سيرَ عليه يومُ الجمعة غدوةُ، تجعل غدوةُ بَدَلا من اليوم، كما تقول: ضُرِبَ القومُ بعضُهم.

(1/223)


وتقول: إذا كان غد فأتى، وإذا كان يومُ الجمعة فالْقَنى؛ فالفعل لغدٍ واليوم، كقولك: إذا غد فأتى. وإن شئت قلت: إذا كان غداً فأتى، وهى لغة بنى تميم، والمعنى أَنّه لقى رجلا فقال له: إذا كان ما نحن عليه من السَّلامة أو كان ما نحن عليه من البلاء في غد فأتى، ولكنَّهم أَضمروا استخفافاً، لكثرةِ كانَ فى كلامهم، لأنَّه الأصلُ لما مَضى وما سَيَقَعُ. وحذفوا كما قالوا: حِينَئِذٍ الآنَ، وإنّما يريد: حينئذٍ واسْمَعْ إلىَّ الآنَ، فحَذَفَ واسمعْ، كما قال: تالله ما رأيت كاليوم زجلاً، أى كرجلٍ أَراه اليومَ رَجُلاً.
وإنَّما أضمرُوا ما كان يقَع مُظهَرا استخفافاً، ولأن المخاطَب يعلم ما يعنى، فجرى بمنزلة المثل، كما تقول: لا عليكَ، وقد عَرَفَ المخاطبُ ما تعنى، أَنّه لا بأْسَ عليك، ولا ضَرَّ عليك، ولكنَّه حُذِف لكثرة هذا فى كلامهم. ولا يكون هذا في غير عليك.
وقد تقول: إذا كان غَداً فأْتِنى، كأنّه ذكر أمراً إمَّا خُصومًة وإمّا صُلحاً، فقال: إذا كان غداً فأْتِنى.
فهذا جائزٌ فى كلّ فِعْلٍ، لأنَّك إنما أَضمرتَ بعد ما ذكرتَ مظهَراً، والأوَّلُ محذوفٌ منه لفظُ المظهَر، وأضمروا استخفافاً.
فإِن قلت: إذا كان الليلَ فأتِنى، لم يَجُزْ ذلك، لأنَّ الليل لا يكون

(1/224)


ظرفاً إلاَّ أَنْ تَعْنِىَ الَّليلَ كلَّه على ما ذكرت لك من التكثير؛ فإِن وجَّهتَه على إضمار شيء قد ذكرتَ على ذلك الحدّ جاز، وكذلك: أخوات الليل.
ومما لا يسن فيه إلاّ النصبُ قولهم: سير عليه سَحَرَ، لا يكون فيه إلاّ أن يكون ظرفاً، لأنَّهم إنما يتكلّمون به فى الرفع والنصب والجرّ، بالألف واللام، يقولون: هذا السَّحَرُ، وبأَعلى السَّحرِ، وإنّ السَّحَرَ خيرٌ لك من أوّل الليل. إلاّ أن تَجعله نكرةً فتقولَ: سير عليه سَحَرٌ من الأسحار، لأنَه يَتمكّن فى الموضع. وكذاتحقيره إذا عنيت سَحَرَ ليلتِكَ، تقول: سيرَ عليه سُحَيْراً. ومثله: سير عليه ضُحىً، إذا عنيتَ ضُحَى يومِك، لأنَّهما لا يَتمكّنان من الجرّ فى هذا المعنى، لا تقول: موعدُك ضُحىً ولا عند ضُحىً ولا موعدُك سُحَيْرٌ، إلاَّ أن تنصبَ.
ومثل ذلك: صِيدَ عليه صَباحا، ومَساءً، وعشيّةً، وعِشاءً، إذا أردت عِشاء يومِك ومَساءَ ليلتك؛ لأنَّهم لم يَستعملوه على هذا المعنى إلاَّ ظرفا. ولو قلت: موعدُك مساءٌ، أو أتانا عند عشاءٍ، لم يحسُن.
ومثل ذلك: سير عليه ذاتَ مرةٍ، نصبٌ، لا يجوز إلاّ هذا. ألاَ ترى أنَّك لا تقول: إنَّ ذاتَ مرّةٍ كان موعدَهم، ولا تقولُ: إنَّما لك ذاتُ مرّةٍ، كما تقول: إنَّما لك يومٌ.
وكذلك: إنَّما يُسارُ عليه بُعَيْداتِ بَيْنٍ، لأنَّه بمنزلة ذاتِ مرّةٍ.

(1/225)


ومثل ذلك: سير عليه بَكَراً. ألا تَرى أنه لايجوز: موعدك بكراً، ولا مُذْ بَكَرٌ. فالبَكَرُ لا يَتمكّن فى يومك، كما لم يتمكن مرّة وبُعَيداتِ بَينٍ.
وكذلك: ضَحْوَةٌ فى يومك الذى أنت فيه، يجرى مجرى عشيّةِ يومِك الذى أنت فيه. وكذلك: سير " عليه " عَتَمةً، إذاأردت عتمةَ ليلتِك، كما تقول: صبَاحا ومساءً وبَكَراً.
وكذلك: سير عليه ذاتَ يومٍ، وسِيرَ عليه ذات ليلةٍ، بمنزلة ذاتَ مرةٍ.
وكذلك: سير عليه ليلاً ونهارا، إذا أردت ليلَ ليلِتك ونهارَ نهارِك، لأنَّه إنما يُجْرَى على قولك: سير عليه بََصراً، وسير عليه ظَلاما، إلاّ أن تريدَ " معنى " سير عليه ليلُ طويلُ ونهارُ طويلُ، فهو على ذلك الحدّ غيرُ متمكنَّ، وفى هذا الحال متمكنُ، كما أنَّ السَّحَرَ بالألف واللام متصرفُ في المواصع التى ذكرتُ، وبغَيْرِ الألف واللام غيرُ متمكَّن فيها.
وذو صباحٍ بمنزلة ذاتَ مرةٍ. تقول: سير عليه ذا صباحٍ، أَخبرَنا بذلك يونسُ عن العرب، إلا أنّه قد جاء فى لغةٍ لخَثْعَم مفارقا لذاتِ مرةٍ وذاتِ ليلةٍ. وأَمّا الجيّدةُ العربيّة فأن تكون بمنزلتها.
وقال رجل من خَثعَمٍ:

(1/226)


عزمت على إقامة ذي صباح ... لشيء مّا يسوَّدُ مَنْ يَسُودُ
فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفعُ.
وجميع ما ذكرنا من غير المتمكَّن إذا ابتدأتَ اسماً لم يجز أن تبنيَه عليه وترفعَ إلاَّ أَن تجعلَه ظرفا، وذلك قولك: موعدُك سُحَيراً، وموعدُك صباحا. ومثل ذلك: إنّه لَيُسارُ عليه صباحَ مَساءَ، إنما معناه صَبَاحاً ومَساءً، وليس يريد بقوله صباحا ومساءً صباحا واحداً ومساءً واحداً، ولكنه يريد صباحَ أَيّامه ومساءَها. فليس يجوز هذه الأسماءُ التى لم تتمكّنْ من المصادر التى وُضِعَتْ للحِين وغيرِها من الأسماء أن تُجْرَى مُجرى يوم الجمعة وخُفوقِ النجم ونحوِهما.
ومما يُختار فيه أن يكون ظرفاً ويقبُحُ أن يكون غيرَ ظرف، صفةُ الأحيان، تقول: سير عليه طويلاً، وسير عليه حديثا، وسير عليه كثيراً، وسير عليه قليلا، وسير عليه قديما. وإنّما نُصِبَ صفةُ الأَحيان على الظرف ولم يجز الرفعُ لأنَّ الصفَّة لا تقع مَواقِعَ الاسم، كما أنَّه لا يكون إلاّ حالا قولُه: أَلاَ ماءَ ولو بارداً، لأنه لو قال: ولو أتانى باردٌ، كان قبيحا. ولو قلت: آتيك بجيدٍ، كان قبيحا حتَّى تقولَ: بدِرْْهَمٍ جيّدٍ، وتقولَ: آتيك به جيّداً. فكما

(1/227)


لا تَقوى الصَّفةُ فى هذا إلاَّ حالاً أو تجري على اسم، كذلك هذه الصفة لا تجوز إلاَّ ظرفا أو تَجرِىَ على اسم. فإِنْ قلت: دهرٌ طويل، أي شيء كثيرٌ أو قليلٌ، حَسُنَ.
وقد يَحْسُنُ أن تقول: سير عليه قَريبٌ؛ لأَنك تقول: لقيتُه مُذْ قَريبٌ. والنصب عربىّ جيّد كثير.
وربَّما جرت الصفةُ فى كلامهم مجرى الاسم، فإِذا كان كذلك حَسُنَ. فمن ذلك: الأَبرقُ والأبطحُ وأَشباهُهما، ومن ذلك ملىٌ من النهار واللَّيل، تقول: سير عليه ملىٌ، والنصبُ فيه كالنصب فى قريبٍ.
ومما يبيَّن لك أنَّ الصفة لا يَقْوَى فيها إلاّ هذا، أنَّ سائلا لو سأَلَك فقال: هل سير عليه؟ لقلت: نَعَمْ سير عليه شديدا، وسير عليه حسناً. فالنصبُ فى هذا على أنَّه حال. وهو وجهُ الكلام، لأنَّه وصفُ السَّيْرِ. ولا يكون فيه الرفعُ لأنَّه لا يقع موقعَ ما كان اسماً. ولم يكن ظرفاً، لأنه ليس بحينٍ يقع فيه الأمرُ. إلاَّ أن تقول: سِيرَ عليه سَيْرٌ حسنٌ، أو سيرَ عليه سَيْرٌ شديدٌ. فإِن قلت: سيرَ عليه طويلٌ من الدهر وشديدٌ من السير، فأطلت الكلام ووصفتَ، كان أَحسنَ وأَقوى وجاز، ولا يَبلغ فى الحُسْن الأسماءَ. وإنَّما جاز حين وصفتَ وأَطلتَ، لأنَّه ضارَعَ الأسماءَ، لأنَّ الموصوفةَ فى الأصل هى الأسماءُ.

هذا باب ما يكون من المَصادر مفعولا
فيرتَفعُ كما يَنتصب إذا شغلت الفعل به، ويَنتصب إذا شغلتَ الفعل بغيره.

(1/228)


وإنما يجيء ذلك على أَن تبيَّنَ أَىَّ فعلٍ فعلتَ أو توكيدا.
فمن ذلك قولك على قول السائلِ: أََىَّ سَير سيرَ عليه؟ فتقول: سِيرَ عليه سَيْرٌ شديدٌ، وضُرِبَ به ضربٌ ضعيفٌ. فأَجريتَه مفعولا، والفعلُ له.
فإِن قلت: ضُرِبَ به ضَرْباً ضعيفاً، فقد شغلتَ الفعلَ بغيره عنه. ومثله: سير عليه سيراً شديداً. وكذلك إن أردتَ هذا المعنى ولم تَذْكر الصفَّة، تقول: سير عليه سيرٌ وضُرِبَ به ضربٌ، كأَنَّك قلت: سير عليه ضربٌ من السير، أو سير عليه شيء من السير.
وكذلك جميع المصادر تَرتفعُ على أفعالها إذا لم تشغَل الفعلَ بغيرها.
وتقول: سيرَ عليه أَيُّما سَيرٍ سَيْراً شديدا، كأَنك قلت: سير عليه بَعيرُك سَيرا شديدا.
وتقول: سيرَ عليه سَيرَتانِ أيَّما سَيرٍ، كأنك قلت: سير عليه بعيرُك أيَّما سيرٍ، فجرى مجرى ضرب زيد أيما ضرب، وضرب عمرو ضرباً شديدا.
وتقول على قول السائل: كَمْ ضَربةً ضرب به، وليس في هذا إضمار شيء سوى كَمْ والمفعولُ كَمْ، فتقول: ضُرِبَ به ضربتانِ، وسير عليه سَيْرتانِ، لأنه أراد أن يبيَّن له العدّةَ، فجرى على سعة الكلام والاختصار، وإنْ كانت الضربتانِ

(1/229)


لا تُضْربَان، وإنما المعنى: كَمْ ضُرِبَ الذى وقع به الضَّربَ من ضربةٍ، فأَجابه على هذا المعنى، ولكنه اتَّسع واختَصر.
وكذلك هذه المصادرُ التى عَمِلتْ فيها أَفعالُها إنما يُسألُ عن هذا المعنى، وكلنه يَتّسِعُ ويَخْزِلُ الذى يقع به الفعلُ اختصاراً واتّساعا. وقد عُلم أنَّ الضرب لا يُضرَبُ.
ومن ذلك: سير عليه خَرْجتانِ، وصِيدَ عليه مرّتانِ. وليس ذلك بأَبعدَ من قولك: وُلِدَ له ستّون عاماً.
وسمعتُ من أَثِقُ به من العرب يقول: بُسِطَ عليه مرّتانِ، وإنَّما يريد: بُسِطَ عليه العذابُ مرتّين.
وتقول: سير عليه طَورانِ: طَوْرٌ كذا وطَوْرٌ كذا، والنصبُ ضعيف جداً إذا ثنّيتَ كقولك: طورٌ كذا وطورٌ كذا. وقد يكون في هذا النصبُ إذا أَضمرتَ.
وقد تقول: سير عليه مرّتينِ، تجعله على الدَّهر، أىْ ظرفا. وتقول: سير عليه طَوْرَيْنِ، وتقول: ضُرِبَ به ضربتَيْنِ، أى قَدْرَ ضربتينِ من الساعات، كما تقول: سير عليه تَرْويحتَيْنِ. فهذا على الأحيان.
ومثل ذلك: انتُظر به نَحْرَ جَزُورَيْنِ، إنَّما جعله على الساعات، كما قال: مَقْدَمَ الحاجّ وخفُوقَ النجم، فكذلك جَعَلَه ظرفا. وقد يجوز فيه الرفع إذا شغلتَ به الفعل.
وإن جعلتَ المرّتينِ، وما أشبههما مثل السّيَر رفعتَ ونصبت إذا أضمرت.

(1/230)


ومما يجيء توكيداً ويُنْصَبُ قوله: سيرَ عليه سَيْراً، وانطُلِقَ به انطلاقا، وضُرِبَ به ضَربْا، فيُنْصَبُ على وجهينِ: أحدهُما على أنّه حال، على حدّ قولك: ذُهِبَ به مَشْياً وقُتِلَ به صَبْراً. وإن وصفتَه على هذا الحدّ كان نصباً، تقول: سيرَ به سيرا عَنيفاً، كما تقول: ذُهِبَ به مَشْياً عَنيفاً.
وإن شئت نصبتَه على إضمار فعلٍ آخرَ، ويكون بدلا من اللفظ بالفعل فتقول: سِير عليه سيراً وضُرب به ضَربا، كأنّك قلت بعد ما قلت: سِير عليه وضُرب به: يَسيرونَ سَيْرا ويَضربون ضَربا، ويَنطلقون انطلاقا، ولكنَّه صار المصدر بدلاً من اللفظ بالفعل، نحو يَضربون ويَنطلقون، وجرى على قوله: إنَّما أنت سَيْراً سَيْراً، وعلى قوله: الحَذَرَ الحذَرَ. وإنْ أنت قلت على هذا المعنى: سير عليه وضُرب به الضَّربَ جاز، على قوله: الحَذَرَ الحَذَرَ، وعلى ما جاء فيه الألفُ واللام نحوُ العِرَاك وكان بدلاً من اللفظ بالفعل، وهو عربىّ جيدَّ حسن.
ومثله: سِير عليه سيرَ البَريِد، وإن وصفتَ على هذه الحال لم يغيره الوصفُ كما لم يغيَّر الوصفُ ما كان حالاً.
ولا يجوز أن تُدْخِلَ الألفَ واللام فى السَّير إذا كان حالاً، كما لم يجز أن تقول: ذُهِبَ به المَشْىَ العَنيفَ وأنت تريد أن تجعله حالاً. قال الرَّاعى:

(1/231)


نَظَّارةً حِينَ تَعْلُو الشَّمسُ راكبَها ... طَرحاً بعَيْنَىْ لياحٍ فيه تَحْديدُ
فأَكّد بقوله طَرْحاً وشَدّد، لأنَّه يَعلم المخاطَبُ حين قال: نَظَّارةً أنها تطَرح.
وإن شئت قلت: سيرَ عليه السَّيرُ، كما قلت: سيرَ عليه سَيرٌ شديدٌ. وإنْ وصفتَه كان أقوى وأَبيَنَ، كما كان ذلك فى قوله: سيرَ عليه ليلٌ طويلٌ ونهارٌ طويلٌ.
وجميعُ ما يكون بدلاً من اللفظ بالفعل لا يكون إلاّ على فِعلٍ قد عَمِل فى الاسم، لأنك لا تَلْفِظُ بالفعل فارِغاً، فمن ثمَّ لم يكن فيه الرفعُ فى كلامهم، لأنَّه إنما يَعمَلُ فيه ما هو بمنزلة اللفظ به إلاَّ أنَّه صار كأَنه فِعْلٌ قد لُفِظَ به، فأَوْلَى ما عَمِلَ فيه ما هو بمنزلة اللفظ به.
ومما يسبق فيه الرفع لأنَّه يراد به أن يكون فى موضع غير المصدر قوله: قد خِيفَ منه خوفٌ، وقد قيل فى ذلك قول. إنَّما يريد: قد

(1/232)


خيف منه أمر أو شيء، وقد قيل فى ذلك خيرٌ أو شرٌ. ومثل هذا فى المعنى كان منه كونٌ، أى كان من ذلك أمرٌ. وإنْ حملتَه عليه السَّيرَ والضربَ فى التوكيد، حالاً وقع فيه الفعلُ، أو بدلاً من اللفظ بالفعل، نصبتَ.
وإن كان المَفْعَلُ مصدراً أُجرى مُجَرى ما ذكرنا من الضَّرب والسيرِ وسائرِ المَصادر التى ذكرنا؛ وذلك قولك: إنّ فى ألفِ درهمٍ لمَضرَبا، أى إن فيها لضرباً؛ فإِذا قلت: ضُرِبَ به ضَرباً، قلت: ضُرِبَ به مَضْربا، وإن رفعتَ رفعتَ.
ومثل ذلك: سُرَّحَ به مُسَرَّحاً، أى تسريحا. فالمُسَرَّحُ والتسريح بمنزلة الضَّرب والمَضرَب. قال جرير:
أَلَمْ تَعْلَم مُسَرَّحِىَ القَوافى ... فلا عِيًّا بهنّ ولا اجتلابَا
أى تسريحى القوافى.
وكذلك تَجرى المَعْصِيَةُ مجرى العِصيانِ، والمَوجِدة بمنزلة المصدر لو كان

(1/233)


الوَجْْدُ يُتكلم به.
قال الشاعر، وهو أبن أَحمرَ:
تَداركْنَ حيًّا من نُمَيْرِ بنِ عامرٍ ... أُسارَى تُسامُ الذُّلَّ قَتْلاً ومَحْرَبَا
فإِنْ قلت: ذُهِبَ به مذهبٌ، أو سُلِكَ به مَسْلَكٌ، رفعتَ لأنَّ المَفْعَلَ ههنا ليس بمنزلة الذَّهابِ والسُّلوكِ، وإنما هو الوجه الذى يُسْلَكُ فيه والمكانُ الذى يُذْهَبُ إليه، وإنَّما هو بمنزلة قولك: ذُهِبَ به السُّوقُ وسُلِكَ به الطريقُ.
وكذلك المَفعَل إذا كان حيناً، نحوُ قولهم: أتت الناقة على مضربها، أى على زمان ضرِابِها. وكذلك مَبعَثُ الجُيوش، تقول: سيرَ عليه مَبعَثُ الجيوش، ومَضْرِبُ الشَّوْلِ. قال حُمَيْدُ بن ثور:

(1/234)


وما هى إلاّ فى إزارٍ وعلقةٍ ... مُغارَ ابنِ هَمّامٍ على حَىَّ خَثْعَماً
فصَيَّرَ مُغاراً وقتاً، وهو ظرفٌ.

هذا باب ما لا يَعْمَلُ فيه ما قبله من الفعل
الذى يتعدى إلى المفعول ولا غيره
لأنه كلامٌ قد عَمِلَ بعضه فى بعض، فلا يكون إلاّ مبتدأَ لا يَعمل فيه شيء قبله، لأنَّ ألف الاستفهام تَمنعُه من ذلك.

(1/235)


وهو قولك: قد علمتُ أَعبْدُ الله ثَمَّ أم زيدٌ، وقد عرفتُ أَبو مَنْ زيدٌ، وقد عرفت أيُّهم أبوه، وأَمَا ترى أَىُّ برقٍ ها هنا. فهذا فى موضع مفعول، كما أنَّك إذا قلت: عبد الله هلرأيته، فهذا الكلامُ فى موضع المبنىّ على المبتدإ الذى يَعمَلُ فيه فيَرفعُه.
ومثل ذلك: لَيْتَ شِعْرِى أَعبدُ الله ثَمَّ أم زيدٌ، وليتَ شِعرى هل رأيتَه، فهذا فى موضع خَبَرِ ليتَ. فإِنَّما أَدخلتَ هذه الأشياءَ على قولك: أَزيدٌ ثَمَّ أم عمرو وأيُّهم أبوك، لِمَا احتَجتَ إليه من المعانى. وسنَذكر ذلك فى باب التسوية.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا "، وقوله تعالى: " فلينظر أيها أزكى طعاما ".
ومن ذلك: قد علمتُ لَعبدُ الله خيرٌ منك. فهذه اللامُ تمنَعُ العملَ، كما تمنعُ ألفُ الاستفهامِ، لأنَّها إنَّما هى لامُ الابتداء، وإنما أَدخلتَ عليه علمتُ لتُؤكَّدَ وتجعلَه يقيناً قد علمتَه، ولا تُحيلَ على علم غيرك. كما أنَّك إذا قلت: قد علمتُ أَزيدٌ ثَمَّ أم عمروٌ، أردتَ أن تُخبِرَ أنّك قد علمت أَيُّهما ثَمَّ، وأردتَ أن تسوَّىَ عِلْمَ المخاطَب فيهما كما استَوى علمُك فى المسألة حين قلت: أزيد ثم

(1/236)


أم عمرو. ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " وَلَقَدْ عَلِمُوا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ".
ولو لم تَستفهم ولم تُدْخِلْ لام الابتداء لأعملت عملت كما تُعْمِل عرفتُ ورأيتُ، وذلك قولك: قد عملت زيداً خيرا منك، كما قال تعالى جدُّه: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " وكما قال جلَّ ثناؤه: " لا تعلمونهم الله يعلمهم " كقولك: لا تَعرِفونهم اللهُ يَعرِفُهم. وقال سبحانه: " والله يعلم المفسد من الصالح ".
وتقول: قد عرفتُ زيداً أبُو مَنْ هو، وعلمتُ عمراً أَأَبوك هو أم أبو غيرِك، فأَعملتَ الفعلَ فى الاسم الأوّل لأنَّه ليس بالمُدْخَلِ عليه حرفُ الاستفهام، كما أنّك إذا قلت: عبدُ الله أَأَبوك هو أم أبو غيرِك، أو زيدٌ أبو مَنْ هو، فالعاملُ فى هذا الابتداءُ ثم استفهمتَ بعده.
ومما يُقَوَّى النصبَ قولك: قد عَلمتُه أبو مَنْ هو، وقد عَرفتُك أىُّ رجلٍ أنت. وتقول: قد دَرَيْتُ عبدَ الله أبو من هو، كما قلت ذلك فى علمتُ. ولم يؤخَذْ ذلك إلاّ من العرب. ومن ذلك: قد ظننتُ زيداً أبو من هو.
وإن شئت قلت: قد علمتُ زيدٌ أبو من هو، كما تقول ذاك فيما لا يَتعدّى إلى مفعولٍ، وذلك قولك: اذْهَبْ فانظرْ زيدٌ أبو من هو،

(1/237)


ولا تقول: نظرتُ زيدا. واذْهَبْ فسَلْ زيدٌ أبو من هو، وإنَّما المعنى: اذهبْ فسَلْ عن زيدٍ، ولو قلت: اسأَلْ زيدا، على هذا الحدّ لم يجز.
ومثل ذلك: دَرَيْتُ فى أكثرِ كلامهم؛ لأنَّ أكثرهم يقول: ما دريتُ به، مثلَ: ما شعرتُ به.
ومثل ذلك: ليتَ شِعْرِى زيدٌ أَعندَك هو أم عند عمرو.
ولا بُدّ منْ هُوَ لأنَّ حرف الاستفهام لا يَستغنى بما قبله، إنما يَستغنى بما بعده، فإِنَّما جئت بالفعل قبل مبتدإٍ قد وُضِعَ الاستفهامُ فى موضع المبنىَّ عليه الذى يَرفعُه، فأدخلتَه عليه كما أدخلتَه على قولك: قد عرفتُ لَزَيْدٌ خيرٌ منك.
وإنَّما جاز هذا فيه مع الاستفهام لأنَّه فى المعنى مستفهَم عنه، كما جاز لك أن تقول: إن زيداً فيها وعمرو. ومثله: " أن الله بريء مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ". فابتدأ لأنَّ معنى الحديث حين قال: إن زيداً منطلق: زيد منطلق، ولكنّه أَكَّدَ بإِنّ، كما أَكَّدَ فأَظهرَ زيداً وأَضمره.
والرفعُ قولُ يونُسَ.
فإِن قلت: قد عرفتُ أبو من زيدٌ لم يجز إلاَّ الرفعُ، لأنك بدأتَ بما

(1/238)


لا يكون إلاّ استفهاما وابتدأتَه ثم بنيتَ عليه، فهو بمنزلة قولك: قد علمتُ أَأَبوك زيدٌ أم أبو عمرو.
فإِن قلت: قد عرفتُ أَبَا مَن زيدٌ مَكْنِىٌّ، انتَصب على مَكْنِيّ، كأَنَّك قلت: أَبَا مَنْ زيدٌ مَكنىٌّ، ثم أدخلتَ عَرفتُ عليها. ومثله قولك: قد علمتُ أَأَباَ زيد تُكْنىّ أم أبا عمرو، ثم أدخلت عليه علمت كما أدخلته حين لم يكن ما بعده إلاَّ مبتدأْ، فلا يَنتصب إلاّ بهذا الفعل الآخِر، كما لم يكن فى الأوّل إلاّ مبتدأ.
وإذا قلت: قد عرفتُ زيداً أبو من هو، قلت: قد عرفتُ زيداً أبا من هو مَكنىٌّ. ومَن رفع زيد ثَمَّةَ رَفَعَ زيداً ها هنا. ونَصَبَ الآخِرَ كما نصبَه حين قال: قد عرفتُ أَبا مَنْ أنت مَكنىٌّ، وكأنه قال: زيد أبا من هو مكنى. ثم أَدخل الفعل عليه، وكأنّه قال: زيدٌ أَأَباَ بشرٍ يُكْنَى أم أبا عمرو ثم أَدخل الفعل عليه، وعَمِلَ الفعلُ الآخِرُ حين كان بعد ألف الاستفهام.
وتقول: قد عرفت زيدا أَبُو أَيَّهم يُكْنَى به، وعلمتُ بِشراً أَيُّهم يُكْنَى به، تَرفعه كما تَرفع أَيُّهم ضربتَه.
وتقول: أَرَأَيتَكَ زيداً أبو مَنْ هو، وأَرَأَيْتَكَ عمراً أَعندك هو أم عند فلان، لا يَحسن فيه إلاَّ النصبُ فى زيد. ألاَ ترى أنَّك لو قلت: أرأيتَ أبو من أنت، أو أرأيت أزيدٌ ثَمَّ أم فلانٌ، لم يَحسن، لأنّ فيه معنى أَخْبِرْنى عن زيد، وهو الفعل الذي لا يَسْتَغْنِى السكوتُ على مفعوله الأوّل، فدخولُ هذا المعنى فيه لم

(1/239)


يَجعله بمنزلة أَخبْرنى فى الاستغناء، فعلى هذا أُجْرِىَ وصار الاستفهامُ فى موضع المفعول الثانى.
وتقول: قد عرفتُ أَىَّ يومٍ الجُمَعةُ، فَتنصب على أنَّه ظرفٌ، لا على عرفتُ. وإنْ لم تَجعله ظرفا رفعتَ.
وبعضُ العرب يقول: لقد علمتُ أىَّ حينٍ عُقْبَتى، وبعضهم يقول: لقد عملت أىُّ حين عُقْبَتِى. وأمّا قوله:
حتّى كأَنْ لم يكنْ إلاّ تَذَكُّرُهُ ... والدهرُ أَيَّتَمَا حالٍ دهارير

(1/240)


فإِنَّما هو بمنزلة قولك: والدهرُ دَهاريرُ كلَّ حالٍ وكلَّ مرّة، أى فى كلّ حال وفى كلّ مرَّة، فانتَصب لأنه ظرف، كما تقول: القتالُ كلَّ مرّة، وكلَّ أحوالِ الدَّهر.

باب من الفعل سمى الفعل فيه بأسماء
لم تؤخَذْ من أَمثلة الفعل الحادث
وموضعُها من الكلام الأَمرُ والنَّهْىُ، فمنها ما يَتعدّى المأمور إلى مأمور به، ومنها ما لا يَتعدّى المأمورَ، ومنها ما يَتعدَّى المَنهىَّ إلى منهي عنه، ومنها ما لا يَتعدَّى المَنهىَّ.
أَمّا ما يتَعدّى فقولك: رُوْيْدَ زيداً، فإنما هو اسم لقولك: أَرْوِدْ زيدا. ومنها هَلُمَّ زيدا، إنَّما تريد هاتِ زيدا. ومنها قول العرب: حَيَّهَلَ الثَّريدَ. وزعم أبو الخَطّاب أنَّ بعض العرب يقول: حَيَّهَلَ الصَّلاَة، فهذا اسمُ ائتِ الصلاةَ، أى ائتوا الثريدَ وأْتوا الصَّلاةَ.
ومنه قوله:
تَراكِها من إبلٍ تَراكِها

(1/241)


فهذا اسم لقوله لهُ: اتُركْها. وقال:
مَناعِها من إبلٍ مَناعِها
وهذا اسم لقوله لهُ: امنعها.
وأما ما لا يَتعدّى المأمورَ ولا المَنهىَّ إلى مأمورٍ به ولا إلى منهىٍ عنه، فنحوُ قولك: مَهْ مَه، وصَهْ صه، وآهٍ وإيهٍ، وما أَشبه ذلك.
واعلم أنَّ هذه الحروف التى هى أَسماءٌ للفعل لا تَظهرُ فيها علامةُ المضمر، وذلك أنّها أََسماءٌ، وليست على الأَمثلة التى أُخِذَتْ من الفعل الحادث فيما مضى وفيما يُستقبل وفى يومِك، ولكنَّ المأمور والمنهىّ مضمرانِ في النية. وإنما كان من أصلُ هذا فى الأمر والنهى وكانا أَوْلَى به، لأنهما لا يكونانِ إلاّ بِفعل، فكان الموضعُ الذى لا يكون إلاَّ فعِلاً أَغلبَ عليه.
وهى أَسماءُ الفعل، وأُجريت مُجرى ما فيه الألفُ واللام، نحو: النَّجاءَ، لئلاّ يخالِفَ لفظُ ما بعدها لفظَ ما بعد الأمر والنهى. ولم تَصَرَّف تَصَرُّفَ

(1/242)


المصادر، لأنَّها ليست بمصادرَ، وإنَّما سُمّى بها الأمرُ والنهى، فَعمِلَتْ عملَهما ولم تجاوِزْ، فهى تقوم مقام فِعْلِهما.