الكتاب لسيبويه هذا باب متصرَّف رُوَيْد
تقول: رُوَيدَ زيدا، وإنَّما تريد أَرْوِدْ زيدا.
قال الهُذَلىّ:
رُوَيْدَ عَلِيَّا جُدَّ ما ثَدْىُ أُمَّهِمْ ... إلينا ولكنْ
بُغْضُهُمْ مُتَمايِنُ
وسمعنا من العرب من يقول: واللهِ لو أردتَ الدَّراهمَ لأعطيتُك
رُوَيْدَ ما الشّعْرَ. يريد: أَرْوِدِ الشعر، كقول القائل: لو أردتَ
الدراهمَ لأَعطيتُك فدَع الشَّعَر.
فقد تَبَيَّنَ لك أنّ رُوَيْدَ فى موضع الفِعْلِ.
ويكونُ رُوَيْدَ أيضاً صفًة، كقولك: سارُوا سَيْراً رُوَيْداً. ويقولون
(1/243)
أيضاً: ساروا رُوَيداً، فَيحذفون السَّيرَ
ويجعلونه حالاً به وَصَفَ كلامَه، واجتزأ بما فى صدر حديثه من قول
ساروا، عن ذكر السَّير.
ومن ذلك قول العرب: ضَعْهُ رُوَيداً، أى وَضعاً رُوَيْداً. ومن ذلك
قولك للرجل تراه يُعالجِ شيئاً: رُوَيْداً، إنَّما تريد: عِلاجاً
رُوَيْداً. فهذا على وجه الحال إلاَّ أَنْ يَظْهَرَ الموصوفُ فيكونَ
على الحال وعلى غير الحال.
واعلم أن رُوَيْداً تَلحقها الكافُ وهى فى موضع افعل، وذلك كقولك:
رويدك زيداً، ورويد كم زيدا. وهذه الكاف التى لحقت رويداً إنّما لحقت
لتُبيَّنَ المخاطَبَ المخصوصَ، لأنّ رُوَيْدَ تقع للواحد والجميع،
والذَّكر والأُنثى، فإِنَّما أَدخل الكافَ حين خاف الْتباسَ مَنْ يَعنى
بمن لا يعنى، وإنَّما حذفَها فى الأوَّل استغناء بعلم المخاطبَ أنّه لا
يَعنى غيرَه.
فلَحاقُ الكاف كقولك: يا فلانُ، للرَّجُل حتَّى يُقْبِلَ عليك. وتركُها
كقولك للرجل: أنت تَفعلُ، إذا كان مُقْبِلا عليك بوجهه مُنْصِتاً لك.
فتركتَ يا فلانُ حين قلت: أنت تَفعَلُ؛ استغناءً بإِقبالِه عليك. وقد
تقول أيضاً: رُوَيْدَكَ، لمن لا يُخاف أن يَلتبسَ بسِواه، توكيداً، كما
تقول للمقبِلِ عليك المُنْصِت لك: أنتَ تَفعلُ ذاك يا فلانُ، توكيداً.
وذا بمنزلة قول العرب: هاءَ وهاءَك وهأْْ وهأْك، وبمنزلة قولك:
حَيَّهَلَ وحيهلك، وكقولهم: النجاءك. فهذه الكاف لم تجيء علماً
للمأمورين والمنبهين المضمَرينَ، ولو كانت عَلَماً للمضمَرينَ لكانت
خطأُ، لأنّ المضمرينَ ها هنا فاعِلون، وعلامة المضمرينَ
(1/244)
الفاعلينَ الواوُ كقولك: افْعَلُوا.
وإنَّما جاءت هذه الكافُ توكيداً وتخصيصا، ولو كانت اسماً لكان
النَّجاءَك مُحالا، لأنَّه لا يُضاف الاسمُ الذى فيه الألف واللام.
وينبغى لمن زعم أنَّهنّ أسماءٌ أَنْ يزعُمَ أنّ كافَ ذاك اسمٌ، فإِذا
قال ذلك لم يكن له بدٌّ من أنْ يزعُمَ أنّها مجرورة أو منصوبة، فإن
كانت منصوبةً انبغى له أن يقول: ذاك نفسَك زيدٌ، إذا أراد الكاف،
وينبغى له أن يقول: إن كانت مجرورة ذاك نفسِك زيدٌ، وينبغى له أن يقول:
إنّ تاءَ أنتَ اسمٌ؛ وإنَّما تاء أنتَ بمنزلة الكاف.
وممّا يدلّك على أنَّه ليس باسمٍ قولُ العرب: أَرَأَيْتَكَ فلاناً ما
حالُه، فالتاءُ علامة المضمر المخاطَب المرفوع، ولو لم تُلحِق الكافَ
كنتَ مستغنياً كاستغنائك حين كان المخاطَبُ مقبِلاً عليك عن قولك: يا
زيدُ، ولحَاقُ الكاف كقولك: يا زيدُ، لمَنْ لو لم تَقُلْ له يا زيدُ
استغنيتَ. فإِنَّما جاءت الكاف فى أَرأيتَ والندَّاءُ فى هذا الموضع
توكيداً. وما يجيء فى الكلام توكيداً لو طُرِحَ كان مُسْتَغنى عنه،
كثير.
وحدّثنا من لا نَتَهِمُ أنه سمع من العرب من يقول: رُوَيْدَ نفسِه،
جعَله مصدراً كقوله: " فضرب الرقاب ". وكقوله:
(1/245)
عَذِيرَ الحىَّ
ونظيرُ الكاف فى رُوَيْدَ فى المعنى لا في اللفظ لك التي تجيء بعد
هَلُمَّ، فى قولك: هَلُمَّ لك، فالكاف ههنا اسمٌ مجرورٌ باللام،
والمعنى فى التوكيد والاختصاص بمنزلة الكاف التى فى رُوَيْدَ وأشباهها
كأَنه قال: هَلُمَّ، ثم قال: إرادتى بهذا لك، فهو بمنزلة سَقياً لك.
وإنْ شئت قلت: هَلُمَّ لى، بمنزلة هاتِ لى، وهَلُمَّ ذاك لك، بمنزلة
أَدْنِ ذاك منك.
وتقول فيما يكون معطوفاً على الاسم المضمَرِ فى النّية وما يكون صفة له
فى النّية، كما تقول فى المظَهر.
أَمّا المعطوف فكقولك: رُوَيْدَكُمْ أنتم وعبدُ الله، كأَنّك قلت:
افعلوا أنتم وعبدُ الله، لأنَّ المضمر فى النيّة مرفوع، فهو يَجرى مجرى
المضمر الذى يبيّن
(1/246)
علامتُه فى الفعل. فإِن قلت: رُوَيْدَكم
وعبدُ الله، فهو أيضاً رفعٌ وفيه قُبْحٌ، لأنَّك لو قلت: اذهبْ وعبدُ
الله كان فيه قُبحٌ، فإِذا قلت: اذهبْ أنت وعبدُ الله، حسُنَ. ومثل ذلك
فى القرآن: " فاَذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقٌَاتِلاَ "، و " اسكن أنت
وزوجك الجنة ".
وتقول: رُوَيْدَكُمْ أنتم أَنْفُسُكم، فيحسنُ الكلام، كأَنك قلت:
افعلوا أنتم أَنفسُكم. فإِن قلت: رويَدَكم أنفسُكم، رفعتَ وفيها قبحٌ،
لأنَّ قولك: افعلوا أنفسُكم فيها قبحٌ، فإذا قلت: أنتم أنفسُكم حَسُنَ
الكلام.
وتقول: رُوَيْدَكُمْ أجمعون، ورُوَيْدَكُمْ أنتم أَجمعونَ، كلٌّ حَسَنٌ
لأنَّه يَحسن فى المضمر الذى له علامةٌ فى الفعل. ألا ترى أنك تقول:
قُومُوا أَجمعونَ، وقوموا أنتم أجمعونَ.
(1/247)
وكذلك: رُوَيْدَ إذا لم تُلْحِقْ فيها
الكافَ، تجري هذا المجرى. وكذلك الحروف التي هي أسماءٌ للفعل جميعاً،
تَجرى هذا المجرى، لحقتها الكافُ أو لم تَلحقها، إلاّ أنَّ هَلُمَّ إذا
لحقتْها لك، فإِنْ شئت حملتَ أجمعين ونفسَك على الكاف المجرورة، فتقول:
هَلُمَّ لكم أجمعين وهَلُمَّ لكم أنفسِكم. ولا يجوز أن تَعْطِفَ على
الكاف المجرورة الاسمَ، لأنَّك لا تَعْطِفُ المُظْهَرَ على المضمر
المجرور. ألا ترى أنّه يجوز لك أن تقول: هذا لك نفسِك ولكم أجمعين، ولا
يجوز أن تقول: هذا لك وأَخيك. وإن شئت حملت المعطوف والصفة على المضمر
المرفوع فى النيّة، فتقولُ: هَلُمَّ لك أنتَ وأَخوك، وهَلُمَّ لكم
أجمعونَ. كأَنَّك قلت: تَعالَوْا أنتم أجمعون، وتَعالَ أنت وأخوك. فإِن
لم تُلْحِقْ لك جرت مجرى رويد.
هذا باب من
الفِعلِ سُمّى الفعلُ فيه بأَسماءٍ مضافةٍ
ليستْ من أمثلة الفِعل الحادثِ، ولكنها بمنزلة الأسماء المفردة التى
كانتْ للفعل، نحو رُوَيْدَ وحَيَّهَلَ، ومجراهنّ واحد وموضعَّهنّ من
الكلام الأمرُ والنهىُ إذا كانت للمخاطب المأمور والمنهىّ.
وإنما استوت هي ورويد وما أشبه رويد كما استوى المفرد والمضاف إذا كانا
اسمين، نحو عبد الله وزيد، مجراهما في العربية سواء.
ومنها ما يتعدى المأمور إلى مأمور به، ومنها ما يتعدى المنهى إلى
المنهى عنه، ومنها ما لا يتعدى المأمور ولا المنهى.
(1/248)
فأما ما يَتعدّى المأمورَ إلى مأمورٍَ به
فهو قولُك: عَلَيْكَ زيداً، ودُونَكَ زيداً، وعِنْدَكَ زيداً،
تَأْمُرُه به. حدّثنا بذلك أبو الخطّاب.
وأمّا ما تَعدّى المنهىَّ إلى منهىّ عنه فقولك: حَذَرَك زيداً،
وحَذارِكَ زيداً، سمعناهما من العرب.
وأما ما لا يَتعدّى المأمورَ ولا المنهىَّ فقولك: مكانَك وبَعدَك، إذا
قلت: تأَخَّرْ أو حذَّرتَه شيئاً خَلفَه. كذلك عِنْدَكَ، إذا كنتَ
تُحَذَّرُه من بين يديْه شيئاً أو تأمره أن يَتَقدّمَ. وكذلك فَرَطَك
إذا كنت تحذره من بين يديه شيئا أو تأمره أن يَتقدّم. ومثلها أَمامك
إذا كنت تحذَّره أو تُبصَّرهُ شيئاً. وإليك إذا قلت: تَنَحَّ. ووَراءَك
إذا قلت: افطُنْ لما خلفك.
وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقال له: إلَيْكَ،
(1/249)
فيقول: إِلىَّ. كأَنه قيل له: تَنَحَّ.
فقال: أَتَنَحَّى. ولا يقال إذا قيل لأحدهم: دونك: دونى ولا علىَّ. هذا
النحو إنّما سمعناه فى هذا الحرف وحدَه، وليس لها قوّةُ الفعل فتقاسَ.
واعلم أنَّ هذه الأسماءَ المضافة بمنزلة الأسماء المفرَدة فى العطف
والصفاتِ، وفيما قَبُحَ فيها وحَسُنَ، لأنَّ الفاعل المأمور والفاعل
المنهىّ فى هذا الباب مضمرانِ فى النيّة.
ولا يجوز أن تقول: رُوَيْدَهُ زيداً ودوُنَهُ عمراً وأنت تريد غيرَ
المخاطَب، لأنَّه ليس بفعلٍ ولا يَتصرَّف تصرُّفَه. وحدَّثنى من سمعه
أن يعضهم قال: عليه رجلاً لَيْسَنِى. وهذا قليلٌ شبّهوه بالفعل.
وقد يجوز أن تقول: عليكم أَنْفُسِكم، وأجمعينَ، فتحملَه على المضمر
المجرور الذى ذكرتَه للمخاطب، كما حملتَه على لك حين ذكرتَها بعد
هَلُمَّ، ولم تَحمل على المضمر الفاعلِ فى النيّة، فجاز ذلك.
ويدلّك على أنَّك إذا قلت: عَليْكَ فقد أَضمرت فاعلاً فى النيّة،
وإِنَّما الكافُ للمخاطبة، قولُك: عَلَىَّ زيدا، وإنَّما أدخلتَ الياءَ
على مِثْل قولك للمأمور: أَوْلِنِى زيداً. فلو قلت: أنت نفسُك لم يكن
إلاّ رفعا، ولو قال: أنا نفسى لم يكن إلا جراً. ألا ترى أنَّ الياءَ
والكاف إنما جاءتا لتَفصِلا بين المأمور والأمر فى المخاطبة. وإذِا
قال: عليك زيداً فكأَنَّه قال له: ائْتِ
(1/250)
زيدا. ألا ترى أنَّ للمأمور اسمينِ: اسماً
للمخاطبة مجرورا، واسمَه الفاعلَ المضمر فى النيّة، كما كان له اسمٌ
مضمَر فى النيّة حين قلت: علىَّ. فإِذا قلت: عليك فله اسمان: مجرورٌ
ومرفوعٌ. ولا يَحسن أن تقول: عليك وأحيك، كما لا يحسن أنْ تقول:
هَلُمَّ لك وأخيك.
وكذلك: حَذَرَكَ، يدلّك على أنّ حَذَرَكَ بمنزلة عليك، قولك: تحذيرى
زيداً، إذا أردتَ حَذَّرْنى زيدا. فالمصدرُ وغيره فى هذا الباب سواءٌ.
ومن جعل رُوَيْداً مصدراً، قال: رُوَيْدَكَ نفسِك، إذا أراد أن يَحمل
نفسَك على الكاف، كما قال: عليك نفسِك حين حَمَلَ الكلامَ على الكاف.
وهى مثلُ: حَذَرَكَ سواءٌ، إذا جعلتَه مصدراً؛ لأنّ الحَذَرَ مصدرٌ وهو
مضافٌ إلى الكاف. فإِن حملتَ نفسَك على الكاف جررتَ، وإِن حملتَه على
المضمر فى النيّة رفعتَ. وكذلك: رُوَيْدَكُمْ، إِذا أردت الكاف تقول:
رُوَيْدَكُم أَجمعينَ.
وأَمّا قولُ العرب: رُوَيْدَكَ نفسَك، فإِنَّهم يَجعلون النفسَ بمنزلة
عبد الله إذا أمرت به، كأَنَّك قلت: رُوَيْدَكَ عبدَ الله، إذا أردت:
أَرْوِدْ عبدَ الله.
وأَمّا حيهلك وهاءَكَ وأخَواتُها، فليس فيها إلاّ ما ذكرنا، لأنهن لم
(1/251)
يُجْعَلْنَ مَصادرَ.
واعلمْ أنَّ ناسا من العرب يَجعلون هَلُم بمنزلة الأمثلة التى أُخِذَتْ
من الفعل، يقولون: هلمَّ وهَلُمَّى وهَلُمَّا وهَلُمُّوا.
واعلم أنَّك لا تقول: دُونى، كما قلت: عَلَىَّ، لأنه ليس كل فعل يجيء
بمنزلة أَوْلِنى قد تَعدّى إلى مفعولينِ، فإِنَّما عَلَىّ بمنزلة
أَوْلِنى، ودُونَكَ بمنزلة خُذْ. لا تقول: آخِذْنِى درهماً ولا خُذْنِى
درهماً.
واعلمْ أنَّه لا يجوز لك أن تقول: علَيهِ زيدا، تريد به الأمرَ، كما
أردت ذلك فى الفعل حين قلت: لِيَضربْ زيداً، لأنّ علَيهِ ليس من الفعل،
وكذلك حَذَرَهُ زيداً قبيحةٌ، لأنَّها ليست من أمثلة الفعل. فإِنَّما
جاء تَحذيرى زيداً لأنَّ المصدر يتَصرّف مع الفعل، فيصيرُ حَذَرَك فى
موضع احْذَرْ، وتَحذيرى فى موضع حَذَّرنى؛ فالمصدرُ أبداً فى موضعِ
فِعْلِه. ودُونَك لم يؤْخَذ من فعلٍ، ولا عندك يُنتَهَى فيها حيث
انتهتِ العربُ.
واعلم أنَّه يَقبح: زيداً عَلَيْكَ، وزيداً حَذَرَكَ، لأنّه ليس من
أمثلة الفعل، فقَبُحَ أن يَجرى ما ليس من الأمثلة مجراها، إلاّ أنْ
تقول: زيداً،
(1/252)
فتنصبَ بإِضمارك الفعلَ ثم تَذكُر عليك بعد
ذلك، فليس يَقْوَى هذا قوّةَ الفعل، لأنَّه ليس بِفعل، ولا يتَصرف
تصرّفَ الفاعل الذى فى معنى يَفْعَلُ.
هذا باب
ما جرى من الأمر والنهى على إضمار الفِعل
المستعمَلِ إظهارُه إذا عَلِمْت أنّ الرجل مُسْتَغْن عن لَفْظِكَ
بالفِعل
وذلك قولك: زيداً، وعمراً، ورأسَه. وذلك أنَّك رأيت رجلا يَضْرِبُ أو
يَشْتِمُ أو يَقتل، فاكتفيتَ بما هو فيه من عمله أن تَلفظَ له بعمله
فقلت: زيداً، أى أَوْقِعْ عملَك بزيدٍ. أو رأيتَ رجلاً يقول: أَضْرِبُ
شَّر الناسِ، فقلتَ: زيداً. أو رأيتَ رجلا يحدَّثُ حديثا فقَطَعَهُ
فقلتَ: حديثَك. أو قَدِمَ رجلٌ من سفرٍ فقلت: حديثَك. استغنيتَ عن
الفعل بعلمه أنّه مستخبرٌ، فعلى هذا يجوز هذا وما أَشبهه.
وأَمَّا النَّهْى فإِنَّه التحذيرُ، كقولك: الأَسَدَ الأَسَدَ،
والجِدارَ الجِدارَ، والصبىَّ الصبىَّ، وإنّما نهيتَه أن يَقرَبَ
الجِدارَ المَخوفَ المائِلَ، أو يَقربَ الأَسدَ، أو يوطئ الصبىَّ. وإن
شاء أَظْهَرَ فى هذه
(1/253)
الأشياء ما أَضْمر من الفعل، فقال: اضربْ
زيدا، واشتمْ عمرا، ولا توطِئ الصبىَّ، واحذَر الجدار، ولا تَقرب
الأسدَ. ومنه أيضاً قوله: الطريق الطريقَ، إنْ شاء قال: خَلَّ الطريقَ،
أو تَنَحَّ عن الطريق. قال جرير:
خَلَّ الطريقَ لمن يَبْنِى المَنارَ به ... وابرُزْ بِبَرْزَةَ حيث
اضطَرَّكَ القَدَرُ
ولا يجوز أن تُضْمِرَ تَنَحَّ عن الطريق، لأنّ الجارّ لا يُضْمَرُ،
وذلك أنَّ المجرورَ داخلٌ فى الجارّ غيرُ مُنفَصِلٍ، فصار كأنه شيء من
الاسم لأنه مُعْاقِبٌ للتنوين، ولكنَّك إن أضمرتَ أضمرتَ ما هو فى
معناه ممّا يَصِلُ بغير حرفِ إضافةٍ، كما فعلتَ فيما مضى.
واعلم أنّه لا يجوز أن تقول: زيدٌ، وأنت تريدُ أن تقول: لِيُضْرَبْ
زيدٌ، أو لِيَضْرِبْ زيدٌ إذا كان فاعلا، ولا زيداً، وأنت تريد ليَضرب
عمرو زيداً. ولا يجوز: زيدٌ عمرا، إذا كنتَ لا تُخاطِبُ زيداً، إذا
أردتَ لِيَضْرِب زيدٌ عمراً وأنت تخاطِبُنى، فإِنَّما تريد أَنْ
أُبْلِغَه أنا عنك أنك قد أمرته أن يضرب عمراً، وزيدٌ وعمروٌ غائبانِ،
فلا يكون أن تُضْمِرَ فِعْلَ الغائبِ. وكذلك لا يجوز زيدا، وأنت تريد
أن أُبْلِغَه أنا عنك أن يَضْرِبَ زيداً؛ لأنك إذا أضمرتَ فعل الغائب
(1/254)
ظنَّ السامعُ الشاهدُ إذا قلت: زيداً أنك
تأْمُرُه هو بزيد، فكرهوا الالتباس هنا ككراهيتهم فيما لم يؤخذْ من
الفعل نحوُ قولك: عَليكَ، أن يقولوا عليه زيداً، لئلاَّ يشبَّهَ ما لم
يؤخَذْ من أمثلة الفعل بالفعل. وكرهوا هذا فى الالتباس وضَعُفَ حيث لم
يُخاطبِ المأمورَ، كما كُرِهَ وضَعُفَ أن يشبَّهَ عَلَيْكَ ورُوَيْدَ
بالفعل.
وهذه حُجَجٌ سُمِعَتْ من العرب وممّن يوثق به، يَزْعُمُ أنه سَمِعَها
من العرب. من ذلك قولُ العرب فى مَثَلٍ من أمثالهم: " اللَّهُمَّ
ضَبُعاً وذِئباً " إذا كان يدعو بذلك على غم رجُل. وإذا سألتَهم ما
يَعْنُون قالوا: اللهُمَّ اجْمَعْ أو اجعلْ فيها ضَبُعاً وذئبا.
وكلُّهم يفسَّرُ ما يَنْوِى. وإنَّما سَهُلَ تفسيرُه عندهم لأنَّ
المضمَر قد استُعمل فى هذا الموضعِ عندهم بإِظهارٍ.
حدّثنا أبو الخطّاب أنَّه سمع بعض العرب وقيل له: لِمَ أَفسدتم مكانَكم
هذا؟ فقال: الصبيان بأَبى. كأَنَّه حَذِرَ أن يُلامَ فقال: لُمِ
الصبيانَ.
وحدَّثنا من يوثَق به أن بعض العرب قيل له: أَمَا بمكانِ كذا وكذا
(1/255)
وجد؟ وهو موضعٌ يُمسِكُ الماءَ. فقال:
بَلَى، وِجَاذاً. أى فأَعْرِفُ بها وجاذا. ومن ذلك قول الشاعر، وهو
المسكين:
أخاك أَخاكَ إنّ مَنْ لا أخَا له ... كسَاعٍ إلى الهَيْجَا بغَيْرِ
سِلاح
كأَنّه يريد: الزَمْ أخاك.
ومن ذلك قولُك: زيداً وعمرا، كأَنّك تريد: اضربّ زيداً وعمرا، كما
قلتَ: زيداً وعمرا رأيتُ.
ومنه قول العرب: " أَمرَ مُبْكِياتِك لا أمر مضحكاتك "، و " الظباء على
الْبَقَر ". يقول: عليك أَمْرَ مبكياتِك، وخَلَّ الظَّباءَ على
البَقَرِ.
(1/256)
هذا باب
ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره
فى غير الأمر والنهى
وذلك قولك، إذا رأيتَ رجلاً متوجَّها وِجْهَةَ الحاجّ، قاصدا في هيئة
الحاجّ، فقلت: مَكّةَ ورَبَّ الكعبة. حيث زَكِنتَ أنَّه يريد مكّةَ،
كانَّك قلت: يريد مكّةَ واللهِ.
ويجوز أن تقول: مكّةَ واللهِ، على قولك: أَرادَ مكّةَ واللهِ، كأَنّك
أخبرتَ بهذه الصفِّة عنه أنّه كان فيها أمسِ، فقلتَ: مكة والله، أي
أراد مكة إذ ذاك.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: " بل ملة إبراهيم حنيفا "، أى بل نَتَّبعُ
ملّةَ إبراهيم حنيفا، كأَنه قيل لهم: اتَّبِعوا، حين قِيل لهم: "
كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى ".
أو رأيتَ رجلاً يسدَّدُ سَهْماً قِبَلَ القِرطاسِ فقلتَ: القِرطاسَ
واللهِ، أى يُصيبُ القِرطاسَ. وإذا سمعتَ وَقْعَ السَّهم فى القرطاس
قلت: القرطاسَ واللهِ، أى أَصاب القرطاسَ.
ولو رأيت ناساً يَنظرون الهِلالَ وأنت منهم بَعيدٌ فكبَّروا لقلتَ:
الهلالَ وربَّ الكعبةِ، أى أَبَصروا الهلالَ. أو رأيتَ ضَرْباً فقلت
على وجهِ التَّفَاؤُلِ: عبدَ الله، أى يَقَعُ بعبدِ الله أو بعبدِ الله
يكونُ.
ومثل ذلك أن ترىرجلاً يريد أن يوقِعَ فِعْلا، أو رأيتَه فى حالِ رجلٍ
قد أَوْقَعَ فعلا، أو أُخبرتَ عنه بفعلٍ، فتقول: زيداً. تريد: اضربْ
زيداً، أو أَتَضربُ زيداً.
(1/257)
ومنه أن ترى الرجل أن تُخبَرَ عنه أنّه قد
أَتى أمراً قد فَعَله فتقول: أَكلَّ هذا بُخلاً، أى أَتَفْعَلُ كلَّ
هذا بُخْلاً. وإنْ شئت رفعتَه فلم تحمله على الفعل، ولكنّك تجعله
مبتدأً.
وإنما أضمرت الفعل ها هنا وأنت مخاطب لأنَّ المخاطَب المُخبَرَ لستَ
تجعلُ له فعلا آخَرَ يعمل فى المُخْبَرِ عنه. وأنت فى الأمر للغائب قد
جعلتَ له فعلا آخَرَ يعمل، كأَنّك قلت: قُلْ له لِيَضربْ زيداً، أو قل
له: اضربْ زيداً، أو مُرْهُ أن يَضْرِبَ زيداً، فضَعُفَ عندهم مع ما
يَدخل من اللَّبس فى أمرٍ واحدٍ أَنْ يُضْمَرَ فيه فِعْلانِ لشيئينِ.
هذا باب
ما يُضْمَرُ فيه الفعلُ المستعمَل إظهارُه بعد حرفٍ
وذلك قولك: " الناسُ مَجزيُّونَ بأَعمالهم إنْ خيراً فخيرٌ وإن شراً
فشرٌ "، و " المرء مقتولٌ بما قَتَلَ به إنْ خِنْجَراً فخنجرٌ وإن
سيفاً فسيفٌ ".
وإن شئتَ أَظهرتَ الفعلَ فقلت: إن كان خِنجَرا فخنجرٌ وإن كان شرّا
فشرٌ. ومن العرب من يقول: إنْ خِنجرا فخِنْجَراً، وإنْ خيرا فخيراً وإن
شرّا فشرّا، كأَنه قال: إن كان الذى عَمل خَيرا جُزىَ خيرا، وإن كان
شرّا جزىَ شرًّا. وإنْ كان الذى قَتَلَ به خنجرا كانَ الذى يُقْتلُ به
خنجرا.
والرفعُ أكثرُ وأحسن فى الآخِر؛ لأنَّك إذا أدخلتَ الفاء فى جواب
الجزاء استأنفتَ ما بعدها وحَسَنَ أن تقع بعدها الأسماءُ.
(1/258)
وإنّما أجازوا النصبَ حيث كان النصبُ فيما
هو جوابُه، لأنه يُجْزَمُ كما يُجْزَمُ، ولأنَّه لا يَستقيم واحدٌ
منهما إلاّ بالآخَر، فشبّهوا الجواب بخبر الابتداء وإن لم يكن مثلَه فى
كلّ حالةٍ، كما يشبهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله ولا قريباً منه.
وقد ذكرنا ذلك فيما مضى، وسنذكره أيضاً إن شاء الله.
وإذا أضمرتَ فأن تُضْمِرَ الناصبَ أحسَنُ، لأنك إذا أضمرتَ الرافع
أضمرتَ لهُ أيضاً خبراً، أو شيئاً يكون فى موضع خبره. فكلَّما كَثُرَ
الإِضمارُ كان أضعفَ.
وإنْ أضمرتَ الرافع كما أضمرتَ الناصبَ فهو عربىٌّ حسن، وذلك قولك: إن
خيرٌ فخيرٌ، وإنْ خِنْجرٌ فخِنجَر، كأَنه قال: إنْ كان معه خنجر حيث
قَتَلَ فالذى يُقْتَلُ به خِنجرٌ، وإن كان فى أعمالِهم خيرٌ فالذى
يُجْزَوْنَ به خيرٌ. ويجوز أن تجعل إنْ كان خيرٌ على: إنْ وَقَعَ خيرٌ،
كأَنه قال: إن كان خيرٌ فالذى يُجْزَوْنَ به خيرٌ.
وزعَم يونسُ أنَّ العرب تُنْشِدُ هذا البيتَ لهُدْبَةَ بن خَشْرَمٍ:
فإِنْ تَكُ فى أموالِنا لا نَضِق بها ... ذراعاً، وإن صبر فنصبر لصبر
(1/259)
والنصبُ فيه جيّدٌ بالغٌ على التفسير
الأوّلِ، والرفعُ على قوله: وإن وقع صَبْرٌ أو إن كان فينا صبرٌ فإنّا
نَصبرُ. وأمّا قول الشاعر، لنُعمانَ بنِ المُنْذِر:
قد قيل ذلك إنْ حَقَّا وإنْ كَذِباً ... فما اعتذارُك من شيءٍ إذا قبلا
فالنصبُ فيه على التفسير الأوّلِ، والرفعُ يجوز على قوله إنْ كان فيه
حقٌّ وإن كان فيه باطِلٌ، كما جاز ذلك فى: إن كان في أَعمالهم خيرٌ.
ويجوز أيضاً على قوله: إنْ وقع حقٌّ وإن وقع كذبٌ.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: " وَإنْ كَانَ ذُو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ ".
ومثل ذلك قولُ العرب فى مَثَلٍ مِن أمثالهم: " إن لا حظية
(1/260)
فلا إليهٌَّ " أى إن لا تكن له فى الناس
حظية فإني غير أليةٍ، كأنها قالت في المعنى: إن كنت ممن لا يحظى عنده
فإِنى غيرُ أَلِيَّةٍ. ولو عنتْ بالحظيّة نفسَها لم يكنْ إلاّ نصبا إذا
جعلتَ الحظّيةَ على التفسير الأوّل.
ومثلُ ذلك: قد مررتُ برجلٍ إن طويلاً وإنْ قَصيرا، وامرر بِأيُّهم
أَفْضَلُ إنْ زيداً وإنْ عمراً، وقد مررتُ برجل قبلُ إن زيداً وإنْ
عمراً لا يكون فى هذا إلاّ النصبُ، لأنَّه لا يجوز أن تحملَ الطويلَ
والقصيرَ على غير الأوّل، ولا زيداً ولا عمراً. وأمّا إنْ حقٌّ وإنْ
كَذِبٌ فقد تستطيع أن لا تَحملَه على الأوّل، فتقولَ: إنْ كان فيه حقٌّ
أو كان فيه كَذِبٌ، أو إنْ وَقَعَ حقٌّ أو باطلٌ. ولا يستقيم فى ذا أن
تريد غيرَ الأوّل إذا ذكرتَه، ولا تستطيعُ أن تقولَ: إنْ كان فيه طويلٌ
أو كان فيه زيدٌ، ولا يجوز على إن وقع.
وقال ليلى الأَخْيَلِيّةُ:
لا تَقَرَبَنَّ الدَّهْرَ آل مطرفٍ ... إنْ ظالماً أَبَداً وإنْ
مظلومَا
(1/261)
وقال ابن همّامٍ السَّلولىّ:
وأحضرتُ عُذْرِى، عليه السهو ... د، إن عاذِراً لى وإن تارِكا
فنَصبَهَ لأنَّه عنى الأميرَ المخاطَبَ. ولو قال: إِنْ عاذرٌ لى وإنْ
تاركٌ، يريد: إِنْ كان لى فى الناس عاذرٌ أو غيرُ عاذرٍ، جاز.
وقال النابغة الذُّبيانى:
حَدِبَتْ علىّ بُطونُ ضِنَّةَ كلُّها ... إِنْ ظالماً فيهمْ وإِنْ
مظلومَا
ومن ذلك أيضاً قولك: مررتُ برجل صالحٍ، وإن لا صالحاً فطالحٌ. ومن
العرب من يقول: إِن لا صالحاً فطالحاً، كأَنه يقول: إن لا يكنْ صالحاً
فقد مررتُ به أو لقيتُه طالحاُ.
وزعم يونسُ أنّ من العرب من يقول: إن لا صالحٍ فطالحٍ، على: إن لا أكنْ
مررتُ بصالحٍ فبطالحٍ وهذا قبيح ضعيف، لأنّك تُضمِر بعد إن لا فعلا
آخَرَ فيه حذف غيرَ الذى تضمِر بعد إن لا فى قولك: إن لا يكن
(1/262)
صالحاً فطالحٌ. ولا يجوز أن يضمَر الجارُّ،
ولكنّهم لمّا ذكروه فى أوّلِ كلامهم شبّهوه بغيره من الفعل. وكان هذا
عندهم أَقْوَى إِذا أُضمرتْ رُبَّ ونحوُها فى قولهم:
وبلدةٍ ليس بها أَنيسُ
ومن ثَمَّ قال يونسُ: امرر على أيهم أفضل إن زيداً وإنْ عمروٍ. يعنى:
إِنْ مررتَ بزيد أو مررت بعمرو.
واعلم أنه لا ينتصب شيء بعد إنْ ولا يَرتَفِعُ إلاَّ بفعلٍ؛ لأن إنْ من
الحروف التى يُبْنَى عليها الفعلُ، وهى إن المجازاةِ، وليست من الحروف
التى يُبْتَدَأُ بعدها الأسماء ليُبْنَى عليها الأسماءُ. فإِنّما أراد
بقوله: إن زيد وإن عمرو، إن مررت بزيد أو مررت بعمرو، فجرى الكلامُ على
فعلٍ آخَرَ، وانجرَّ الاسمُ بالباء لأنَّه لا يَصِلُ إليه الفعلُ إلاَّ
بالباءِ، كما أنّه حِين نَصَبَه كان مَحْمُولا على كان أخر لا على
الفعل الأوّل. ومَنْ رَأَى الجرَّ فى هذا قال: مررتُ برجلٍ
(1/263)
إن زيد وإن عمرو، يريد: إنْ كنتُ مررتُ
بزيدٍ أو كنتُ مررتُ بعمرو.
ولو قلتَ: عندَنا أيُّهم أَفْضَلُ أو عندَنا رجل، ثم قلتَ: إنْ زيداً
وإن عمراً، كان نصبهُ على كان، وإن رفعتَه رفعتَه على كان، كأَنّك قلت:
إنْ كان عندنا زيدٌ أو كان عندنا عمروٌ. ولا يكونُ رفعُه على عندَنا،
من قِبَلِ أنّ عندنا ليس بفعلٍ، ولا يجوز بعد إن عندنا أن تبنى الأسماء
على الأسماء، ولا الأسماء تبنى على عندنا، كما لم يجزُ لك أن تَبْنى
بَعْدَ إن الأسماءَ على الأسماءِ.
واعلم أنّه لا يجوز لك أن تقول: عَبْدَ الله المقتولَ، وأنت تريد: كنْ
عبدَ الله المقتولَ، لأنه ليس فعلاً يصل من شيء إلى شيء، ولأنّك لستَ
تشير له إلى أحدٍ.
ومن ذلك قول العرب:
من بد شَوْلاً فإِلى إتْلائها
(1/264)
نَصَبَ لأنَّه أراد زمانا. والشَّوْلُ لا
يكون زماناً ولا مكاناً فيجوز فيها وكقولك: مِنْ لَدُ صلاةِ العصر إلى
وقتِ كذا، وكقولك: من لد حائط إلى مكانِ كذا، فلمَّا أراد الزمانَ
حَمَلَ الشول على شيء يَحسُن أن يكون زماناً إذا عَمِلَ فى الشَّوْل،
ولم يَحسنْ إلاَّ ذا كما لم يَحسن ابتداءُ الأسماءِ بعد إِنْ حَتّى
أضمرتَ ما يَحسن أن يكون بعدها عاملا فى الأسماء. فكذلك هذا، كأَنك
قلت: من لَدُ أَنْ كانتْ شَوْلاً فإِلى إتلائها.
وقد جرَّه قومٌ على سَعة الكلام وجعلوه بمنزلة المصدر حين جعلوه على
الحين، وإنَّما يريد حينَ كذا وكذا، وإن لم يكن فى قوّة المصادر لأنه
لا يتصرّفُ تصرّفَها.
واعلم أنَّه ليس كلُّ حرف يَظْهَرُ بعده الفعلُ يُحْذفُ فيه الفعلُ،
ولكنّك تُضمِر بعد ما أَضمرتْ فيه العربُ من الحروف والمَواضِعِ،
وتُظهِرُ ما أظهروا،
(1/265)
وتُجْرِى هذه الأشياءَ التى هى على ما
يَستخفون بمنزلة ما يَحذفون من نفس الكلام ومما هو في الكلام على ما
أَجرَوْا، فليس كل حرفٍ يحذف منه شيء ويُثْبَتُ فيه، نحوُ: يَكُ
ويَكُنْ، ولم أُبَلْ وأُبالِ، لم يَحملهم ذاك على أن يَفعلوه بِمثله،
ولا يحملهم إذا كانوا يُثْبِتون فيقولون: في مر أومر، أن يقولوا: فى
خُذْ أُوخُذْ، وفى كُلْ أوكل.
فقف على هذه الأشياء حيث وقَفوا ثم فسَّرْ.
وأمّا قول الشَّاعر:
لَقد كَذَبَتكَ نفسُك فاكذبَنْها ... فإِنْ جَزَعاً وإنْ إِجْمالَ
صَبْرِ
فهذا على إما، وليس على إنِ الجزاءِ، كقولك: إنْ حقّا وإنْ كِذبا.
(1/266)
فهذا على إمّا محمولٌ. ألا ترى أنَّك
تُدْخِلُ الفاءَ، ولو كانتْ على إنِ الجزاءِ، وقد استَقبلتَ الكلام،
لاحتجتَ إلى الجواب. فليس قولُه: فإِنْ جزعاً كقوله: إن حقّا وإن كذبا،
ولكنّه على قوله تعالى: " فإما منا بعد وإما فداء ".
ولو قلت: فإِنْ جزعٌ وإن إِجمالُ صَبرِ، كان جائزا، كأَنك قلت: فإِمّا
أَمْرِى جزعٌ وإمّا إِجمالُ صبرٍ، لأنَّك لو صحّحتَها فقلتَ: إمّا جاز
ذلك فيها. ولا يجوز طَرْحُ ما مِنْ إمّا إلاَّ فى الشعر. قال النَّمِرُ
بن تَوْلَبٍ:
سَقَتْه الرَّواعِدُ مِنْ صيفٍ ... وإنْ مِنْ خريفٍ فَلنْ يَعدَما
وإنَّما يريد: وإمَّا من خريفٍ. ومَنْ أجز ذلك فى الكلام دَخَلَ عليه
(1/267)
أن يقول: مررت برجل إن صالحٍ أن طالحٍ،
يريد إمَّا. وإن أراد إِنِ الجزاءِ فهو جائزٌ، لأنه يضمر فيها الفعل،
وإما يجري ما بعدها ههنا على الابتداء وعلى الكلام الأوّل، ألا ترى
أنَّك تقول: قد كان ذلك صلاحا أو فسادا. ولو قلت: قد كان ذلك إنْ صلاحا
وإنْ فسادا كان النصبُ على كَانَ أُخْرَى، ويجوز الرفعُ على ما ذكرنا.
ومما ينَتصب على إضمار الفِعل المستْعَمِل إظهارُه، قولك: هَلاَّ خيراً
من ذلك، وأَلا خيراً من ذلك، أو غيرَ ذلك. كأَنك قلت: أَلا تَفعلُ
خيراً من ذلك، أو أَلا تَفعلُ غيرَ ذلك، وهلا تأتي خيراً من ذلك.
ورِّبما عَرَضتَ هذا على نفسك فكنتَ فيه كالمخاطب، كقولك: هَلاَّ
أًفْعَلُ، وأَلاَّ أَفعلُ.
وإن شئتَ رفعتَه؛ فقد سمعنا رَفْعَ بعضِه من العرب، وممن سمعه من
العرب. فجاز إضمارُ ما يَرْفَعُ كما جاز إضمارُ ما يَنْصِبُ.
ومن ذلك قولك: أوَ فَرَقاَ خَيْراً من حبٍ، أى أوَ أَفْرَقُك فَرَقاً
(1/268)
خيراً من حبٍ. وإنما حَمَله على الفِعل
لأنّه سُئل عن فعلِه فأجابه على الفعل الذي هو عليه. ولو رفع جاز، كأنه
قال: أوَ أًمْرِى فَرَقٌ خيرٌ من حُبّ.
وإنما انتَصب هذا النحوُ على أنَّه يكون الرجل في فعل فيريد أن ينقله
أو ينتقِل هو إلى فِعْلِ آخَرَ. فمن ثَمّ نَصَبَ أوَ فَرَقاً؛ لأنه
أجابَ على أفَرَقكَ وتَرَكَ الحُبَّ.
ومما يَنتصب على إضمار الفِعل المستعمَلِ إظهارُه قولك: أَلاَ طَعامَ
ولو تَمْراً، كأَنك قلت: ولو كان تَمْراً، وأْتِنى بدابّة ولو حِماراً.
وإن شئت قلت: أَلاَ طَعامَ ولو تمرٌ، كأَنّك قلت: ولو يكون عندنا تمرٌ،
ولو سقط إلينا تمرٌ.
وأحسنُ ما يُضْمَرُ منه أحسنُه فى الإِظهار. ولو قلت: ولو حمارٍ، فجررت
كان بمنزلة فى إنْ. ومثلُه قول بعضهم إذا قلتَ: جئتُك بدرهمٍ: فهَلاَّ
دينارٍ. وهو بمنزلة إنْ فى هذا الموضع يُبْنَى عليها الأَفعالُ والرفع
قبيح فى: فَهلاَّ دينارٌ، وفى: ولو حِمارٌ؛ لأنَّك لو لم تحمله على
إضمارِ يكون ففِعلُ المخاطب أولى به. والرفعُ فى هذا وفى: ولو حمارٌ،
بعيد، كأََنه يقول: ولو يكون مما يأتينى به حمارٌ.
ولو بمنزلة إنْ، لا يكون بعدها إلاّ الأَفعالُ؛ فإِن سقط بعدها اسمٌ
ففيه فِعلٌ مضمَرٌ فى هذا الموضع تُبْنَى عليه الأَسماءُ. فلو قلت:
أَلاَ ماءَ ولو بارداً،
(1/269)
لم يحسن إلاَّ النصبُ، لأنّ بارداً صفةٌ.
ولو قلت: ائتِنى بباردٍ كان قبيحا، ولو قلت: ائتِنى بتمرٍ كان حسنا،
ألا ترى كيف قَبُحَ أن يَضَعَ الصَّفةَ موضعَ الاسم.
ومن ذلك قولُ العرب: ادْفَع الشرَّ ولو إصْبَعاً، كأَنه قال: ولو
دفعتَه إصبعاً، ولو كان إصبعا. ولا يحسن أن تحملَه على ما يَرْفَعُ
لأنكّ إن لم تَحمله على إضمارِ يكون ففعلُ المخاطب المذكور أولى وأقرب،
فالرفعُ فى هذا وفى ائتنى بدابّة ولو حمار، بعيد، كأنه يقول: ولو يكون
مما تأتينى به حمارٌ، ولو يكون مما تَدفع به إصبعٌ.
ومما يَنتصب على إضمار الفعل المستعمَل إظهارُه، أن ترى الرجلَ قد
قَدِمَ من سفرٍ فتقولَ: خَيْرَ مَقْدَمٍ. أو يقولَ الرجلُ: رأيتُ فيما
يرى النائمُ كذا وكذا، فتقول: خيراً وما شر، وخيراً لنا وشرًّا
لعدوّنا. وإن شئت قلت: خيرُ مَقْدَمٍ، وخيرٌ لنا وشرٌّ لعدوّنا.
أمّا النَّصبُ فكأَنَّه بناه على قوله قَدِمْتُ، فقال: قَدِمْتَ خيرَ
مَقْدَمٍ، وإن لم يُسَمَعْ منه هذا اللفظُ، فإنَّ قدومَه ورؤيتَه إيّاه
بمنزلة قوله: قدمتُ. وكذلك إن قيل: قَدِم فلانٌ، وكذلك إذا قال: رأيتُ
فيما يرى النائم كذا وكذا، فتقول: خيراً لنا وشرّا لعدوّنا. فإِذا نصبَ
فعلى الفعل.
وأمّا الرفع فعلى أنه مبتدأ أو مبنيٌ على مبتدأ ولم يرد أن يحمله
(1/270)
على الفعل، ولكنَّهُ قال: هذا خيرُ
مَقْدَمٍ، وهذا خيرٌ لنا وشرٌّ لعدوّنا، وهذا خيرٌ وما سَرَّ. ومن ثَمّ
قالُوا: مصاحَبٌ مُعانٌ، ومبرورٌ مأجورٌ، كأنه قال: أنت مصاحَبٌ، وأنت
مبرور.
فإِذا رفعتَ هذه الأشياءَ فالذى فى نفسك ما أظهرتَ، وإذا نصبت فالذى فى
نفسك غيرُ ما أظهرتَ، وهو الفعل والذى أظهرت الاسمُ.
وأما قولهم: راشداً مهدياّ، فإِنهم أضمروا اذْهَبْ راشدا مهديّا. وإن
شئتَ رفعتَ كما رفعت مصاحَبٌ مُعانٌ، ولكنه كَثُرَ النصبُ فى كلامهم،
لأنَّ راشدا مهديّا بمنزلة ما صار بدلاً من اللفظ بالفعل، كأَنه لَفَظَ
برشدت وهديت. وسترى بيان ذلك إن شاء الله. ومثله: هنيئاً مَرِيئاً.
وإن شئت نصبت فقلت: مبروراً مأجورا، ومصاحَبا مُعانا. حدّثنا بذلك عن
العرب عيسى ويونس وغيرُهما، كأَنَّه قال: رجعتَ مبروراً، واذهبْ
مصاحَبا.
ومما يَنتصب أيضاً على إضمار الفعل المستعمَل إظهارُه، قول العرب:
حَدَّث فلانٌ بكذا وكذا، فتقولُ: صادقاً والله. أو أَنشدك شِعرا فتقول:
صادقا والله، أى قالَه صادقا. لأنَّك إذا أَنشدك فكأَنَّه قد قال كذا.
(1/271)
ومن ذلك أيضاً أن ترى رجلاً قد أوْقَعَ
أمراً أو تعرَّض لِه فتقول: متعرَّضاً لعنن لم تعنه، أى دنا من هذا
الأمر متعرَّضاً لعَنَن لم يَعنِه. وتَرَكَ ذكرَ الفعل لما يَرى من
الحال.
ومثله: بَيْعَ المَلَطَى لا عهدَ ولا عقَدَ، وذلك إنْ كنتَ فى حال
مساومةٍ وحالِ بيعٍ، فتَدَعُ أُبايِعُك استغناءً لما فيه من الحال.
ومثله:
مَواعيدَ عرقوبٍ أخاه بَيثْرِبِ
كأَنه قال: واعَدْتَنى مَواعيدَ عرقوبٍ أخاه، ولكنه ترك واعدتَنى
استغناءً بما هو فيه من ذكر الخُلْفِ، واكتفاءً بعلم من يعنى بما كان
بينهما قبل ذلك.
(1/272)
ومن العرب من يقول: مُتَعَرَّضٌ، ومنهم من
يقول: صادقٌ واللهِ. وكلٌّ عربىٌّ.
ومثله: غَضَبَ الخيلِ على اللُّجُم، كأَنه قال: غضِبتَ، أو رآه غَضبانَ
فقال: غَضَبَ الخيلِ، فكأَنَّه بمنزلة قوله: غَضِبتَ غضبَ الخيلِ على
اللَّجم. ومن العرب من يَرفع فيقول: غَضَبُ الخيل على اللُّجم، فرفعَه
كما رفع بعضُهم: الظَّباءُ على البقر.
ومثله أن تسمع الرجل ذكر رجلاً فتقول: أَهلَ ذاك وأهلهَ، أى ذكرتَ
أهلَه، لأنك فى ذكره، تحمله على المعنى. وإن شاء رَفَعَ على هو. ونصبُه
وتفسيرُه تفسيرُ خَيْرَ مَقْدَمٍ.
هذا باب
ما يَنْتصب على إضمار الفعل المتروك إظهارُه
استغناءً عنه
وسأمثَّله لك مظهَرا لتَعلم ما أرادوا، إن شاء الله تعالى.
هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير وذلك قولك إذا كنتَ تحذر: إياك.
كأنك قلت: إياك بح، وإيّاك باعِدْ، وإيّاك اتّقِ، وما أشبه ذا. ومن ذلك
أن تقول: نفسَك يا فلانُ، أى اتّقِ نفسَك، إلاَّ أنّ هذا لا يجوز فيه
إظهارُ ما أضمرتَ، ولكن ذكرتُه لأمثل لك ما لا يُظهَر إضمارُه.
ومن ذلك أيضاً قولك: إيّاك والأسدَ، وإيّاىَ والشَّر، كأَنّه قال:
(1/273)
إيّاك فأتّقِيَنَّ والأسدَ، وكأَنه قال:
إيّاىَ لأَتّقِيَنَّ والشَّر. فإِيَّاك مُتَّقىً والأسدُ والشرُ
مُتَّقَيانِ، فكلاهما مفعول ومفعول منه.
ومثله: إيّاىَ وأَن يَحذف أحدُكم الأرنَبَ. ومثله: إياك، وإياه،
وإيّاىَ، وإيّاه، كأَنه قال: إيّاك باعِدْ، وإيّاه، أو نَحَّ.
وزعم أنَّ بعضهم يقال له: إيّاك، فيقولُ: إيّاىَ، كأَنه قال: إيّاى
أَحْفَظُ وأَحْذَرُ.
وحذفوا الفعلَ من إيّاك لكثرة استعمالهم إيّاه فى الكلام، فصار بدلاً
من الفعل، وحذفوا كحذفهم: حينئذٍ الآن، فكأَنّه قال: احذرِ الأسدَ،
ولكن لا بدّ من الواو لأنَّه اسمٌ مضموم إلى آخَرَ.
ومن ذلك: رأسَه والحائطَ، كأَنّه قال: خَلَّ أو دَعْ رأسَه والحائط،
فالرأس مفعول والحائط مفهول معه، فانتصبا جميعاً.
ومن ذلك قولهم: شأنك والحج، كأنه قال: عليك شأنَك مع الحجّ. ومن ذلك:
امْرَأَ ونفسَه، كأَنّه قال: دَعَ امرَأً مع نفسه، فصارت الواو في معنى
مع كما صارتْ فى معنى مَعَ فى قولهم: ما صنعتَ وأخاك. وإنْ شئت
(1/274)
لم يكن فيه ذلك المعنى، فهو عربىٌّ جيّد،
كأَنه قال: عليك رأٍَسك وعليك الحائطَ، وكأنه قال: دَعِ امرأ ودع
نفسَه؛ فليس يَنْقُضُ هذا ما أردتَ فى معنى مَعَ من الحديث.
ومثل ذلك: أَهْلَكَ والليلَ، كأَنّه قال: بادِرْ أهلَك قبل الليل،
وإنَّما المعنى أن يحذَّره أن يُدرِكه الليلُ. والليلُ محذَّرٌ منه،
كما كان الأسدُ محتفَظا منه.
ومن ذلك قولهم: مازِ رأسَك والسيفَ، كما تقول: رأسَك والحائطَ وهو
يحذَّره، كأَنّه قال: اتقِ رأسَك والحائطَ.
وإنّما حذفوا الفعلَ فى هذه الأشياءِ حين ثَنَّوْا لكثرتها فى كلامهم،
واستغناءً بما يرون من الحال، ولما جرى من الذكر، وصار المفعولُ
الأوّلُ بدلاً من اللفظ بالفعل، حين صار عندهم مثلَ: إيّاك ولم يكن
مثلَ: إيَّاك لو أَفردتَه، لأنه لم يَكثْر فى كلامهم كَثْرَةَ إيّاك،
فشُبَّهتْ بإِيّاك حيث طال الكلامُ وكان كثيرا فى الكلام.
فلو قلت: نفسَك، أو رأسَك، أو الجِدارَ، كان إظهارُ الفعل جائزاً نحو
قولك: اتّقِ رأسَك، واحفظْ نفسك، واتّقِ الجدارَ. فلمّا ثنّيتَ صار
بمنزلة إيّاك، وإيّاك بدلٌ من اللفظ بالفعل، كما كانت المصادرُ كذلك،
نحوَ: الحَذَرَ الحَذَرَ.
ومما جُعل بدلاً من اللفظ بالفعل قولهم: الحَذَرَ الحَذَرَ، والنَّجاءَ
النَّجاءَ، وضَرْباً ضَرْباً. فإِنَّما انتَصب هذا على الْزَمِ
الحَذَرَ، وعليك النجاءَ،
(1/275)
ولكنّهم حذفوا لأنَّه صار بمنزلة افْعَل.
ودخولُ الزم وعليك على افعَلْ مُحالٌ.
ومن ثمّ قالوا، وهو لعمرو بن مَعْد يِكَرِبَ:
أُرِيدُ حِبَاءَه ويرُيدُ قَتلى ... عَذِيرَك من خَليِلك من مُرادِ
وقال الكُمَيت:
نَعاءٍ جُذاماً غيرَ موتٍ ولا قَتْلِ ... ولكن فِراقاً للدَّعائم
والأصلِ
(1/276)
وقال ذو الإِصبعَ العَدْوانىّ:
عَذيرَ الحىَّ من عدوا ... ن كانوا حيّةَ الأرضِ
فلم يجز إظهارُ الفعل وقَبُحَ، كما كان ذلك مُحالا.
هذا باب
ما يكون مَعطوفا فى هذا الباب
على الفاعل المضمَرِ
فى النيّةِ ويكونُ معطوفا على المفعول، وما يكون صفةَ المرفوعِ
المضمَرِ فى النيّة ويكونُ على المفعول وذلك قولك: إيّاك أنتَ نفسُك
أَنْ تَفْعَلَ، وإيّاك نفسَك أَنْ تفعلَ. فإِن عنيت الفاعِلَ المضمَرَ
فى النيّة قلت: إِيّاك أنت نفسُك، كأَنّك قلت: إيّاك نَحَّ أنت نفسُك،
وحملتَه على الاسم المضمَرِ فى نَحَّ. فإِنْ قلتَ: إيّاك نفسُك تريد
الاسَم المضمَرَ الفاعل فهو قبيح، وهو على قُبْحِه رَفْعٌ، ويدلُّك على
قبحه أَنّك لو قلت: اذهبْ نفسُك، كان قبيحاً حتَّى تقولَ: أنتَ نفسُك.
فمن ثَمّ
(1/277)
كان نصباً، لأنَّك إذا وصفتَ بنفسِك
المضمَر المنصوبَ بغير أنتَ جاز، تقول: رأيتُك نفسَك ولا تقول: انطلقتَ
نفسُك. وإذا عطفتَ قلت: إيّاك وزيداً والأَسَدَ، وكذلك: رأسَك
ورِجْلَيْك والضرْبَ. وإنّما أمرتَه أن يتَّقِيَهما جميعاً والضَّربَ.
وإن حملت الثانىَ على الاسم المرفوع المضمر فهو قبيحٌ، لأنَّك لو قلت:
اذهَبْ وزيدٌ كان قبيحا، حتَّى تقول: اذهبْ أنت وزيدٌ. فإِن قلتَ إيّاك
أنت وزيدٌ فأنت بالخيار، إن شئت قلتَ ذاك أنت وزيدٌ جاز، فإِن قلت:
رأيتك قلت ذاك وزيداً فالنصبُ أحسنُ، لأنَّ المنصوب يُعْطَفُ على
المنصوب المضمَر، ولا يُعْطَفُ على المرفوع المضمَر إلاَّ فى الشعر،
وذلك قبيح.
أنشدنا يونس لجرير:
إيّاك أنت وعبدَ المسيحِ ... أَنْ تَقْرَبَا قبلة المسجد
(1/278)
أَنشدَناه منصوبا، وزعم أنّ العرب كذا
تُنشِده.
واعلم أنَّه لا يجوز أن تقول: إيّاك زيداً، كما أنّه لا يجوز أن تقول:
رأسَك الجِدارَ، حتّى تقولَ: من الجدار أو والجدارَ. وكذلك أنْ
تَفْعَلَ، إذا أردتَ إيّاك والفعلَ. فإِذا قلت: إيّاك أن تفعلَ، تريد
إياك أعظ مخافة أن تفعل، أومن أَجْلِ أَن تفعلَ جاز، لأنَّك لا تريد أن
تَضُمَّه إلى الاسم الأوّل، كأَنَّك قلت: إيّاك نَحَّ لمكان كذا وكذا.
ولو قلت: إيّاك الأسدَ، تريد من الأسد، لم يجز كما جاز فى أََنْ، إلاَّ
أَنّهم زعموا أنّ ابنَ أبى إسحاقَ أجاز هذا البيت في شعر:
إيّاك إيّاك المِرَاءَ فإِنّه ... إلى الشَرّ دعاءٌ وللشّرّ جالِبُ
كأَنّه قال: إيّاك، ثم أَضْمَرَ بعد إيّاك فعلاً آخرَ، فقال: اتّقِ
المِِرَاءَ.
وقال الخليل: لو أنّ رجلاً قال: إيّاك نفسِك لم أُعَنَّفْه، لأنَّ هذه
الكاف مجرورة.
وحدَّثنى من لا أَتهِمُ عن الخليل أنه سمع أَعرابياً يقول: إذا بلغ
الرجلُ السَّتّينَ فإِيّاه وإِيّا الشَّوابَّ.
(1/279)
هذا بابٌ يُحْذَفُ منه الفعل لكثرته فى
كلامهم
حتى صار بمنزلة المَثَل وذلك قولك: " هذا ولا زَعَماتِك ". أى: ولا
أَتَوَهَّمُ زَعَماتِك. ومن ذلك قول الشاعر، وهو ذو الرُّمّة، وذكر
الديار والمنازل:
ديار مية إذا مَىٌّ مُساعِفةٌ ... ولا يَرى مثلَها عُجْمٌ ولا عَرَبُ
كأَنه قال: أذْكُرُ ديارَ مَيّة. ولكنّه لا يذكر أذكر لكثرة ذلك فى
كلامهم، واستعمالهم إيّاه، ولَما كان فيه من ذكر الدَّيار قبل ذلك، ولم
يَذكر: ولا أتوهَّمُ زعماتِك لكثرة استعمالهم إيَّاه، ولاستدلاله مما
يَرَى من حاله أنَّه يَنْهاه عن زَعْمه.
ومن ذلك قول العرب: " كِلَيْهما وتمراً "، فذا مَثَلٌ قد كَثُرَ
(1/280)
فى كلامهم واستعمل، وتُرك ذكرُ الفعل لِما
كان قبل ذلك من الكلام، كأَنّه قال: أََعْطِنى كِلَيْهما وتَمْراً.
ومن ذلك قولهم: " كلَّ شيء ولا هذا " و " كل شيء ولا شتيمة حر "، أي
ائت كل شيء ولا تَرتكِبْ شتيمةَ حُرٍّ، فحذف لكثرة استعمالهم إيّاه،
فأُجرى مُجرى: ولا زَعَماتِك. ومن العرب من يقول: " كِلاهما وتمراً "،
كأَنه قال: كلاهما لي ثابتان وزدني تمراً. و " كل شيء ولا شتيمة حر ".
كأنه قال: كل شيء أَمَمٌ ولا شتيمةَ حُرٍّ، وتَرك ذكرَ الفعل بعد لا،
لما ذكرتُ لك، ولأنه يَستدلٌ بقوله: كل شيء، أنَّه يَنهاه.
ومن العرب من يرفع الديارَ، كأَنَّه يقول: تلك ديارُ فلانة.
وقال الشاعر:
اعتادَ قَلْبَك مِنْ سَلْمَى عَوائدُه ... وهاج أَهواءَك المكنونةَ
الطَّلَلُ
رَبعٌ قَواءٌ أَذاعَ المُعْصِراتُ به ... وكلُّ حَيرانَ سارٍ ماؤُه
خَضِلُ
(1/281)
كأَنه قال: وذاك رَبْعٌ، أو هو رَبعٌ، "
رَفَعَه على ذا وما أشبهَه، سمعناه ممّن يرويه عن العرب ".
ومثله " لعمر بن أبي ربيعةَ ":
هل تَعْرِفُ اليومَ رَسْمَ الدّارِ والطَّلَلاَ ... كما عرفتَ بجَفْنِ
الصَّيقَلِ الخِلَلاَ
دارٌ لَمَروةَ إذْ أهْلِى وأهلُهُمُ ... بالكانِسّيِة نَرعَى اللَّهْوَ
والغَزَلاَ
فإِذا رفعتَ فالذى فى نفسك ما أظهرتَ، وإذا نصبت فالذى فى نفسك غيرُ ما
أظهرتَ.
ومما يَنتصب فى هذا الباب على إضمار الفعل المتروك إظهارُه: " انتهوا
خيرا لكم "، و " وَراءَك أَوْسَعَ لك "، وحَسْبُك خيراً لك، إذا كنتَ
تأمر. ومن ذلك قول " الشاعر، وهو " ابن أبى ربيعةَ:
(1/282)
فَواعِدِيه سَرْحَتَىْ مالِكٍ ... أَوِ
الرُّبَا بينهما أَسهَلاَ
وإنَّما نصبتَ خيراً لك وأَوسَعَ لك، لأنَّك حين قلت: " انْتَه " فأنت
تريد أن تخْرِجَه من أَمْرٍ وتُدخِلَه فى آخرَ.
وقال الخليل: كأَنَّك تحملُه على ذلك المعنى، كأَنّك قلت: انْتَهِ
وادخَّلْ فيما هو خيرٌ لك، فنصبتَه لأنَّك قد عرفتَ أنّك إذا قلت له:
انْتَهِ، أنَّك تحمله على أمرٍ آخَرَ، فلذلك انتَصب، وحذَفوا الفعل
لكثرة استعمالِهم إيَّاه فى الكلام، ولعلم المخاطَب أَنّه محمولٌ على
أمرٍ حين قال له: انتَهِ، فصار بدلاً من
(1/283)
قوله: ائت خيراً " لك "، وادْخُلْ فيما هو
خير لك.
ونظير ذلك من الكلام قوله: انْتَهِ يا فلانُ أَمْراً قاصِداً. فإنما
قلت: انته وائت أمراً قاصدا، إلاَّ أنَّ هذا يجوز لك فيه إظهارُ الفعل،
فإِنَّما ذكرتُ لك ذا لامثَّلَ لك الأوّلَ به، لأنَّه قد كَثُرَ فى
كلامهم حتّى صار بمنزلة المَثلِ، فَحُذِفَ كحذفهم: ما أريت كاليومِ
رَجُلا.
ومثل ذلك قول القُطامِىّ:
فكَرَّتْ تَبْتَغِيه فوافقتْه ... على دَمِهِ ومَصْرَعِه السَّباعَا
(1/284)
ومثله قوله، " وهو ابن الرقيات ":
لن تراها ولو تأمَّلتَ إلاّ ... ولها فى مَفارقِ الرَّأسِ طِيبَا
وإنَّما نَصَبَ هذا لأنه حين قال وافقتْه " و " قال: لن تراها، فقد
عُلِم أنّ الطَّيبَ والسَّباع قد دخلا فى الرُّؤْيِة والموافَقَةِ،
وأنَّهما قد اشتَملا على ما بعدَهما فى المعنى.
ومثل ذلك قول ابن قميئة:
تذكر أَرْضاً بها أهلُها ... أَخْوَالَها فيها وأََعْمامَها
(1/285)
لأنّ الأخوال والأَعمامَ قد دخلوا فى
التذكُّرِ.
ومثل ذلك فيما زعم الخليل:
إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوُرقُ هَيَّجَنى ... ولو تغرَّبتُ عنها أُمَّ
عَمّارِ
قال الخليل رحمه الله: لمّا قال هَيّجنى عُرف أنّه قد كان ثَمَّ
تَذَكُّرٌ لتَذكرةِ الحمام وتَهْيِيِجه، فأَلْقَى ذلك الذى قد عُرف منه
على أمّ عمّارٍ، كأَنه قال: هيَّجنى فذكَّرنى أمَّ عمّار.
ومثل ذلك أيضاً قول الخليل رحمه الله، وهو قول أبى عمرو: ألا رَجُلَ
إمّا زيداً وإمّا عمرا، لأنّه حين قال: أَلاَ رجلَ، فهو مُتَمَنٍّ
شيئاً يَسألُه ويريده، فكأَنه قال: اللهمَّ اجعلْه زيداً أو عمراً، أو
وفَّقْ لى زيدا أو عمرا.
وإن شاء أظهر فيه وفى جميع هذا الذى مُثّل به، وإن شاء اكتَفى فلم يذكر
الفعلَ؛ لأنه قد عُرِف أنه مُتَمَنٍ سائلٌ شيئاً وطالبُه.
ومثل ذلك قول الشاعر، " وهو عبد بنى عبس ":
(1/286)
قد سالَمَ الحيّاتُ منه القَدَمَا ...
الأُفْعُوانَ والشُّجاعَ الشجعما
وذات قرنين ضموزاً ضرزما
فإِنَّما نصب الأُفعُوانَ والشُّجاعَ لأنّه قد عُلم أنَّ القدم ههنا
مسالِمةٌ كما أنها مسالَمَة، فَحمَل الكلامَ على أنّها مسالِمة.
ومثلُ هذا البيت إنشادُ بعضِهم، لأَوس بن حَجَر:
تُواهِقُ رجلاها يداها ورَأْسُهُ ... لها قَتَبٌ خَلفَ الحقيبة رادِفُ
(1/287)
وإنشاد بعضهم للحارق بن نهيك:
ليبك يزيد ضارع لخصومةومختبط مما تطيح الطوائح لما قال: ليبك يزيدُ،
كان فيه معنى ليَبْكِ يزيدَ، كما كان فى القَدَمِ أنَّها مسالِمة،
كأَنه قال: لِيَبْكِهِ ضارعٌ.
ومن ذلك قول عبد العزيز " الكلابىّ ":
وَجَدْنا الصَّالحينَ لهم جزاءٌ ... وجَنّاتٍ وعَيناً سلسيلا
لأنّ الوِجْدانَ مشتمِلٌ فى المعنى على الجزاء، فَحَمَلَ الآخِرَ على
المعنى. ولو نَصب الجزاءََ كما نَصب السَّباعَ لجاز. وقال:
(1/288)
أَسْقَى الإِلهُ عُدُواتِ الوادى ...
وجَوْفَة كلَّ مُلِثٍّ غادِى
كلُّ أَجَشَّ حالِكِ السَّوادِ
كأَنه قال: سقاها كلُّ أجشَّ، كما حُمل ضارعٌ لخصومة على ليبك يزيد،
لأنه فيه معنى سقاها كلُّ أجشَّ.
ولا يجوز أن تقول: يَنتهِى خيراً له، ولا أَأَنتهِى خيراً لي؛ لأنك إذا
نهيت فأنت تزيجه إلا أمر، وإذا أَخبرتَ أو استفهمت فأنت لست تريد شيئاً
من ذلك، إنما تعلم خبراً أو تَسترشِدُ مُخْبِراً، وليس بمنزلة وافقته
على دمِه ومَصرعِه السَّباعا؛ لأنّ السَّباعَ داخل فى معنى وافقته،
كأَنه قال: وافقتِ السَّباعَ على مصرعِه، " والخيرُ والشرُّ لا يكون
محمولاً على يَنتهى وشبهِه، لا تستطيع أن تقول: انَتهيتُ خيراً، كما
تقول: قد أصبتُ خيرا ".
وقد يجوز أن تقول: أَلاَ رَجُلَ إمّا زيدٌ وإمّا عمرو، كأَنه قيل له:
من هذا المتمنَّى؟ فقال: زيدٌ أو عمروٌ.
(1/289)
ومثلُ: ليُبْكَ يزيدُ قراءة بعضهِم: "
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم "، رَفَع الشُّركاءَ
على " مثل " ما رُفع عليه ضارِعٌ.
هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل
المتروك إظهارُه فى غير الأمر والنَّهى
وذلك قولك: أخذته بدرهم فصاعِداً، وأخذتُه بدرهم فزائدا. حذفوا الفعَل
لكثرة استعمالهم إيّاه، ولأنَّهم أمِنوا أن يكونَ على الباء، لو قلتَ:
أخذتُه بصاعد كان قبيحا، لأنه صفة ولا تكون في موضع الاسم، كأنه قال:
اخذته بدرهم فزاد الثمنُ صاعداً، أو فذهَبَ صاعِداً.
ولا يجوز أن تقول: وصاعدٍ، لأنَّك لا تريد أن تُخْبِرَ أنّ الدرهم مع
صاعدٍ ثمنٌ لشيء، كقولك: بدرهمٍ وزيادةٍ، ولكنَّك أخبرت بأَدنى الثمن
فجلته
(1/290)
أولاً، ثم قروت شيئاً بعد شيء لأَثمانٍ
شتَّى. فالواوُ لم تُرِدْ فيها هذا المعنى، ولم تلزم الواو الشيئين
أَنْ يكون أحدُهما بعد الآخَر. ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو،
لم يكن في هذا دليل أنك مررت بعمرو بعد زيد. وصاعد بدل من زاد ويزيد.
وثم بمنزلة الفاءِ، تقول: ثُمَّ صاعداً، إلاّ أَنَّ الفاءَ أكثرُ فى
كلامهم.
ومما يَنتصب فى غير الأمر والنهى على الفعل المتروك إظهارُه قولك: يا
عبد الله، والنَّداءُ كلُّه. وأَمّا يا زيدُ فله عِلَّةٌ ستراها فى باب
النَّداء إن شاء الله تعالى، حذفوا الفعلَ لكثرة استعمالهم هذا فى
الكلام، وصار يَا بدلا من اللَّفظ بالفعل، كأَنه قال: يَا، أُريدُ عبدَ
الله، فحذَف أُريدُ وصارت يا بدلاً منها، لأنّك إذا قلت: يا فلانُ، علم
أنك تريده.
ومما يدلك على أنّه يَنتصب على الفعل وأنّ يا صارت بدلا من اللفظ
بالفعل، قولُ العرب: يا إيّاك، إنما قلتَ: يا إيّاك أَعْنى، ولكنَّهم
حذفوا الفعلَ وصار يا وأَيَا وأَىْ بَدَلاً من اللفظ بالفعِل.
وزعم الخليل رحمه الله أنّه سمعَ بعضَ العرب يقول: يا أنت. فزعَم أنهم
جعلوه موضعَ المفرد. وإن شئت قلت: يا فكان بمنزلة يا زيد، ثم تقول:
إياك. أى إيَّاكَ أعنى. هذا قول الخليل رحمه الله فى الوجهين.
(1/291)
ومن ذلك قول العرب: مَنْ أنتَ زيداً، فزعم
يونسُ أنّه على قوله: مَنْ أنت تَذكُر زيداً، ولكنه كثر فى كلامهم
واستُعمل واستغنوا عن إظهارِه، فإِنّه قد عُلم أنَّ زيداً ليس خبراً "
ولا مبتدأ "، ولا مبنياًّ على مبتدإ، فلا بدَّ من أنْ يكونَ على الفعل،
كأَنه قال: مَنْ أنتَ، معرَّفاً ذا الاسمَ، ولم يحمل زيداً على مَنْ
ولا أنت. ولا يكون مَنْ أنتَ زيداً إلاَّ جوابا، كأَنَّه لمّا قال: أنا
زيدٌ، قال: فَمَنْ أنتَ ذاكِراً زيداً.
وبعضُهم يَرفع، وذلك قليل، كأَنه قال: مَنْ أنت كلامُك أو ذكرُك زيدٌ.
وإنَّما قَلَّ الرفعُ لأن إعمالَهم الفعلَ أحسنُ من أن يكون خبراً
لمصدرٍ ليس له، ولكنه يجوز على سعة الكلام، وصار كالمثل الجارى، حتّى
إنهم لَيسْألون الرجل عن غيره فيقولون للمسؤول: مَنْ أنتَ زيدا، كأَنّه
يكِلّمُ الذى قال: أنا زيدٌ، أى أنت عندى بمنزلة الذى قال: أنا زيدٌ،
فقيل له: من أنت زيداً، كما تقول للرجل: " أَطِرَّى إنّكِ ناعلةٌ
واجمعى ". أى أنتَ عندى بمنزلة التى يقال لها هذا.
(1/292)
سمعنا رجُلا منهم يَذكر رجلا، فقال لرجل
ساكتٍ لم يَذكْر ذلك الرجلَ: مَنْ أنتَ فلاناً.
ومن ذلك قول العرب: أَمّا أنتَ منطلقاً انطلقت معك، وأَمّا زيدٌ ذاهباً
ذهبتُ معه.
وقال الشاعر، وهو عباس بن مِرداسٍ:
أَبا خُراشَةَ أَمَّا أنتَ ذا نَفَرِ ... فإِنّ قومِىَ لم تَأْكُلْهُمُ
الضَّبُعُ
فإِنَّما هى " أَنْ " ضُمَّت إليها " ما " وهى ما التوكيِد، ولزمتْ
كراهيةَ أن يُجحفِوا بها لتكون عوضاً من ذَهابِ الفعل، كما كانت الهاءُ
والألفُ عوضا
(1/293)
فى الزَّنادقة واليَمانِى من الياء.
ومثل أَنْ فى لزوم " ما " قولُهم إمَّا لاَ، فألزموها ما عوضاً. وهذا
أَحْرَى أن يُلزموا فيه إذْ كانوا يقولون: آثِراً ما، فيُلزِمُون ما،
شبّهوها بما يَلزم من النُّونات فى لأفعلنَّ، واللامِ فى إن كان
لَيَفعلُ، وإن كان ليس مثلَه، وإنَّما هو شاذٌ كنحوِ ما شُبّه بما ليس
مثلَه، فلمّا كان قبيحّا عندهم أن يذكروا الاسمَ بعد أَنْ ويَبتدئوه
بعدها كقُبْحِ كَىْ عبدُ الله يقولَ ذاك، حملوه على الفعلِ حتَّى صار
كأَنّهم قالوا: إذ صرتَ منطلقا فأنا أَنطلِقُ " معك "، لأنَّها فى معنى
إذْ فى هذا الموضع وإذ في معناها أيضاً في هذا الموضع، إلاّ أنّ إذ، لا
يُحذَفُ معها الفعل.
و" أما " لا يُذْْكَرُ بعدها الفعلُ المضمَرُ، لأنَّه من المضمَرِ
المتروكِ إظهارُه، حتَّى صار ساقطاً بمنزلة تركِهم ذلك فى النداء وفى
مَنْ أنت زيداً. فإن أظهرتَ الفعلَ قلت: إمَّا كنتَ منطلقاً انطلقتُ،
إنّما تريد: إنْ كنتَ منطلقا انطلقتُ، فحذفُ الفعل لا يجوز ههنا كما لم
يجز ثَمَّ إظهارُه؛ لأنَّ أمّا كثرتْ في كلامهم واستعملت حتَّى صارت
كالمثل المستعمَل.
وليس كلُّ حرفٍ هكذا، كما أنَّه ليس كلُّ حرف بمنزلة لم أُبَلْ ولم
يَكُ، ولكنهم حذفوا هذا لكثرته وللاستخفاف، فكذلك حذفوا الفعل من
أَمّا.
ومثل ذلك قولهم: إمّا لاَ، فكأَنَّه يقول: افْعَلْ هذا إنْ كنتَ لا
تَفْعَلْ
(1/294)
غيرَه، ولكنهم حذفوا " ذا " لكثرة
استعمالهم إيّاه وتصرفُّهم حتى استغَنوا عنه بهذا.
ومن ذلك قولهم: مَرْحَباً، وأَهلاً، وإن تأتِنى فأَهْلَ اللَّيل
والنهارِ.
وزعم الخليل رحمه الله حين مثّله، إنّه بمنزلة رَجُلٍ رأيتَه قد سدَّد
سهمه فقلتَ: القِرطاسَ، أى أَصَبتَ القرطاسَ، أى أنت عندى ممن
سيُصِيبُه. وإن أَثْبتَ سهمَه قلت: القرطاسَ، أى قد استَحقَّ وقوعَه
بالقرطاس. فإنَّما رأَيتَ رجلاً قاصدا إلى مكانٍ أو طالبا أمرّا فقلتَ:
مَرْحَباً وأَهْلاً، أى أدركتَ ذلك وأُصبتَ، فحذفوا الفعلَ لكثرة
استعمالهم إيّاه، وكأَنّه صار بدلاً من رَحُبَتْ بلادُك وأَهِلَتْ، كما
كان الحَذَرَ بَدَلا من احْذَرْ. ويقول الرادُّ: وبكَ وأَهْلاً
وسَهْلاً، وبك أَهْلاً. فإذا قال: وبك وأهلاً، فكأَنّه قد لَفَظَ
بمرحباً بك وأهلا. وإذا قال: وبك أهلا فهو يقول: ولك الأَهْلُ إذا كان
عندك الرُّحْبُ والسعةُ. فإِذا رددتَ فإِنَّما تقول: أنت عندى ممّن
يقال له هذا لو جئَتنى. وإنَّما جئتَ ببك لنبين مَن تَعنى بعد ما قلتَ:
مرحبّا، كما قلتَ: لك، بعد سَقْياً. ومنهم من يَرفع فيجَعل ما
يُضمِرُهُ هو ما أَظْهَرَ. وقال طفيل الغنوي:
(1/295)
وبالسهب ميمون القبة قولُه ... لمُلتمِسِ
المعروفِ: أَهْلٌ ومَرْحَبُ
أى هذا أهلٌ ومرحبٌ. وقال أبو الأسود:
إذا جئتُ واباً له قال: مَرْحَباً ... أَلا مَرْحَبٌ واديكَ غير
مَضِيقِ
فاعرفْ فيما ذكرتُ لك أنّ الفِعْلَ يَجرى فى الأسماءِ على ثلاثة
مَجارٍ: فِعْلٌ مُظْهَرٌ لا يَحسن إضمارُه، وفِعْلٌ مُضْمَرٌ مستعمَلٌ
إظهارُه، وفِعْلٌ مُضمَرٌ متروكٌ إظهارُه.
فأَمّا الفعل الذى لا يَحسن إضمارُه فإنّه أَنْ تَنْتَهِىَ إلى رجل لم
يكن فى ذِكْرِ ضَرْبٍ ولم يَخطُرِْ بباله، فتقول: زيدا. فلا بدَّ له من
أن تقول له:
(1/296)
اضربْ زيدا، وتقولَ له: قد ضربتَ زيدا. أو
يكون موضعاً يقبح أن يعرى من الفعل نحو أَنْ وقَدْ وما أَشبه ذلك.
وأمّا الموضعُ الذى يُضْمَرُ فيه وإظهارُه مستعمَلٌ، فنحوُ قولك:
زيداً، لرجلٍ فى ذِكْرِ ضَرْبٍ، تريد: اضرب زيداً.
وأما الموضع الذي لا يستعمَل فيه الفعلُ المتروكُ إظهاره فمِن الباب
الذى ذُكِرَ فيه إيّاك إلى الباب الذى آخِرُه ذكرُ مرحباً وأهلاً.
وسترى ذلك فيما يستقبل إن شاء الله.
باب ما يَظْهَرُ فيه الفعلُ ويَنتصب فيه الاسمُ
لأنَّه مفعولٌ معه ومفعولٌ به، كما انَتصب نَفْسَه فى قولك: امرأَ
ونفسَه. وذلك قولك: ما صَنَعْتَ وأَباك، ولو تُركت النَّاقةُ
وفَصِيلَها لَرَضِعَها، إنَّما أردتَ: ما صنعتَ مع أَبيك، ولو تُركت
الناقةُ مع فصيِلها. فالفصيلُ مفعولٌ معه، والأَبُ كذلك، والواوُ لم
تغيَّر المعنى، ولكنَّها تُعْملُ فى الاسم ما قبلها.
(1/297)
ومثل ذلك: ما زلت وزيداً " حتى فَعلَ "، أى
ما زلتُ بزيد حتى فعل، فهو مفعول به. وما زلت أَسِيرُ والنَّيلَ، أى مع
النّيِل، واستَوَى الماء والخَشَبَةَ، أى بالخَشَبَةِ. وجاء البَرْدُ
والطَّيالِسَةَ، أى مع الطَّيالسةِ. وقال:
فكُُونُوا أنتُمُ وبنى أَبيكم ... مكان الكُلْيَتَيْنِ مِنَ الطَّحالِ
وقال:
وكان وإيّاها كحران لم يفق ... عن الماء إذا لاقاهُ حتّى تقدَّدَا
ويدّلك على أنَّ الاسم ليس على الفعل فى صنعتَ، أنّك لو قلتَ: اقْعُدْ
وأخوك كان قبيحاً حتَّى تقول: أنتَ، لأنه قبيحٌ أَنْ تَعطف على المرفوع
المُضْمَرِ. فإِذا قلت: ما صنعتَ أنتَ، ولو تُركتْ هى، فأنت بالخيار إن
شئت حملتَ الآخِر على ما حملتَ عليه الأوّلَ، وإن شئت حملته على المعنى
الأول.
(1/298)
|