الكتاب لسيبويه بابٌ معنى الواو فيه كمعناها فى الباب
الأوّلِ
إلاّ أنّها تَعْطِفُ الاسمَ هنا على ما لا يكونُ ما بعده إلاَّ رفّعا
على كلّ حال.
وذلك قولك: أنت وشأنُك، وكلُّ رجل وضَيْعتُه، وما أنت وعبدُ الله وكيف
أنت وقَصْعةٌ من ثَريدٍ، وما شأنُك وشأنُ زيد. وقال " المخبل ":
يا زبرقان أَخا بنى خَلَفٍ ... ما أنتَ وَيْبَ أبيك والفَخْرُ
وقال جَميل:
وأنت امرؤٌ من أهل نَجْدٍ وأهلُنا ... تَهامٍ فما النَّجْدىُّ
والمتغوَّرُ
(1/299)
وقال:
وكنتَ هناك أنتَ كريمَ قيسِ ... فما القَيْسىُّ بعدَك والفِخارُ
وإنَّما فُرق بين هذا وبين الباب الأوّل لأنَّه اسمٌ، والأوّلُ فعلٌ
فأُعمل، كأَنّك قلت فى الأوّل: ما صنعتَ أخاك، وهذا مُحالٌ، ولكنْ
أردتُ أن أمثَّلَ لك.
ولو قلتَ: ما صنعتَ مع أخيك وما زلتُ بعبد الله، لكان مع أخيك وبعبدِ
الله فى موضع نصبٍ. ولو قلت: أنتَ وشأنُك كنتَ كأَنّك قلت: أنتَ وشأنُك
مَقرونانِ، وكلُّ امرئٍ وضيَعْته مقرونانِ؛ لأنَّ الواو في معنى مع
عنا، يَعمل فيما بعدها ما عَمِلَ فيما قبلها من الابتداء والمبتدإ.
ومثله: أنتَ أَعلَمُ ومالُكَ، فإِنَّما أردتَ: أنت أَعلمُ مع مِالك.
وأنتَ أعلم وعبد الله، أي أنت علم مع عبد الله. وإن شئت كان على الوجه
الآخَر، كأنك قلت: أنت وعبد الله أعلم من غيركما. فإن قلت: أنت أعلم
وعبد الله فى الوجه الآخَر فإِنَّها أيضاً تعمل فيما بعدها الابتداء،
كما أعملت فى ما صنعتَ وأخاك، " صنعتَ ". فعلى أَىَّ الوجَهْينِ
وجَّهتَه صار على المبتدإ،
(1/300)
لأنّ الواو فى المعنيينِ جميعاً يَعمل فيما
بعدها ما عَمل فى الاسم الذى تَعطفه عليه.
وكذلك: ما أنتَ وعبدُ الله، وكيف أنتَ وعبدُ الله، كأَنك قلت: ما أنت
وما عبدُ الله، وأنت تريد أن تحقَّر أمره أو ترفع أمره.
و" كذلك ": كيف أنت وعبدُ الله، وأنت تريد أن تَسأل عن شأنهما، لأنك
إنَّما تَعطف بالواو إذا أردت معنى مَعَ على كَيْفَ، وكيف بمنزلة
الابتداء، كأَنك قلت: وكيف عبدُ الله، فعملت كما عَمِلَ الابتداءُ
لأنَّها ليستْ بفعِل، ولأنَّ ما بعدها لا يكون إلاَّ رفعا. يدّلك على
ذلك قول الشاعر، " وهو زيادٌ الأَعجمُ، ويقال غيرهُ ":
تكلَّفُنِى سَوِيقَ الكَرْمِ جَرمٌ ... وما جَرْمٌ وما ذاك السَّويقُ
(1/301)
ألاَ ترى أنه يريد معنى مَعَ، والاسمُ
يَعمل فيه ما.
ومثلُ ذلك قول العرب: إنَّك مَا وخَيْرا، تريد: إنّك مع خَيْرٍ. وقال،
وهو لأبى عنترة العبسىّ:
فَمنْ يَكُ سائِلاً عنّى فإِنّى ... وجِرْوَةَ لا تَرودُ ولا تُعارُ
فهذا كلُّه يَنتصب انتصابَ إنّى وزيداً منطلقان، ومعناهن مع، لأن إني
ها هنا بمنزلة الابتداءِ ليست بِفعلٍ ولا اسمٍ بمنزلة الفِعل.
وكيف أنت وزيدٌ، وأنت وشأنُك، مثالُهما واحد، لأن الابتداء وكيف وما
وأنت، يَعْمَلْنَ فيما كان معناه مَعَ بالرفعَ فيحسن، ويُحْمَلُ على "
المبتدإ كما يُحْمَلُ على " الابتداءِ. ألا ترى أنّك تقول: ما أنت وما
زيدٌ فيَحسنُ، ولو قلت: ما صنعتَ وما زيدٌ، لم يَحسن ولم يستقِمْ إذا
أردتَ معنى ما صنعتَ وزيداً، ولم يكن لِتَعملَ ما أنت وكيف أنت، عَمَلَ
صنعتَ، وليستا بفعل، ولم
(1/302)
نَرَهم أعملوا شيئاً من هذا كذا. فإِذا
نصبتَ فكأَنّك قلت: ما صنعتَ زيداً مثلَ ضربتَ زيداً ورأيت. ولم نَرَ
شيئاً من هذا ليس بِفعل فُعل به هذا فتُجريَهُ مُجرى الفعل.
وزعموا أنَّ ناسا يقولون: كيف أنت وزيداً، وما أنت وزيدا. وهو قليل فى
كلام العرب، ولم يحملوا الكلام على ما ولا كيف، ولكنهم حملوه على
الفِعل، على شيء لو ظَهَرَ حتَّى يَلفظوا به لم يَنقُضْ ما أرادوا من
المعنى حين حملوا الكلام على ما وكيف، كأَنه قال: كيف تكون وقصعةً من
ثريد، وما كنتَ وزيداً؛ لأنَّ كنتَ وتكونُ يقعان ها هنا كثيرا ولا
يَنقضانِ ما تريد من معنى الحديث. فمَضى صدرُ الكلام وكأَنّه قد تَكلم
بها " وإن كان لم يَلفظ بها، لوقوعها ههنا كثيرا ". ومن ثَمَّ أنشد
بعضهم:
فما أنا والسَّيرَ فى مَتلَفٍ ... يبَرَّحُ بالذّكَرِ الضّابِطِ
(1/303)
لأنهم يقولون: " ما كنتَ " هنا كثيرا ولا
يَنْقُضُ هذا المعنى. وفى " كيف " معنى يكون، فجرى " ما أنَت " مجرى "
ما كنتَ "، كما أنّ كيف على معنى يكون.
وإذا قال: أنتَ وشأنُك فإِنما أَجرى كلامَه على ما هو فيه الآن، لا
يريد كان ولا يكونُ. وإن كان حَمَلَه على هذا ودعاه إليه شيء قد كان
بلغَه فإِنَّما ابتدأَ وحمله على ما هو فيه الآن، وجرى على ما يُبْنَى
على المبتدإ. ولذلك لم يستعمِلوا ههنا الفعلَ مِنْ كان ويكونُ، لِما
أرادوا من الإِجراءِ على ما ذكرتُ لك.
وزعم أبو الخَطاّب أنَّه سمع بعضَ العرب الموثوقِ بهم يُنْشِدُ " هذا
البيت نصبا ":
أَتوعِدُنى بقَوْمِك يا ابن حجل ... أشابات يخالون العبادا
بما جمت من حضن وعمرو ... وما حضن وعمرو والجيادا
(1/304)
وزعموا أنالراعي كان يُنْشِدُ هذا البيت
نصباً:
أَزْمانَ قومِى والجماعةَ كالذى ... مَنَعَ الرَّحالةَ أَنْ تَميلَ
مَمِيلاَ
كأَنّه قال: أَزْمانَ كان قومى والجماعةَ، فحملوه على كان. أنّها تقعُ
فى هذا الموضع كثيراً، ولا تَنقض ما أرادوا من المعنى حين يَحملون
الكلام على ما يَرفع، فكأَنّه إذا قال: أزمانَ قومى، كان معناه: أزمانَ
كانوا قومى والجماعة كالذى، وما كان حضَن وعمرو والجيادا. ولو لم يقل:
أزمان كن قومى لكان معناه إذا قال: أزمان قومى، أزمان كان قومى؛ لأنه
أمرٌ قد مضى.
وأَمّا أنت وشأَنُك، وكلُّ امرئٍ وضيعَتُه، وأنت أعلم وربك، وأشبه ذلك،
فكلُّه رَفعٌ لا يكون فيه النصبُ، لأنَّك إنّما تريد أن تُخْبِرَ
بالحال التى فيها المحدَّثُ عنه فى حال حديثك، فقلتَ: أنت الآنَ كذلك،
ولم ترد أن تَجعل ذلك فيما مضى ولا فيما يُستقبل، وليس موضعاً يُستعمل
فيه الفعلُ.
(1/305)
وأَمّا الاستفهامُ فإنَّهم أجازوا فيه
النَّصب، لأنهم يَستعملون الفعلَ فى ذلك الموضع كثيراً، يقولون: ما
كنتَ؟ وكيف تكون؟ إذا أرادوا معنى مَعَ ومن ثَمَّ قالوا: أَزْمانَ قومى
والجماعةَ، لأنَّه موضع يَدخل فيه الفعلُ كثيراً، يقولون: أَزْمانَ كان
وحينَ كان.
وهذا مشبّه بقول صرمة الأنصاري:
بداء لى أنى لست مدرك ما مضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كانَ جائيَا
فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرا.
ومثله " قول الأَخْوص ":
مَشائيمُ ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غُرابُها
فحملوه على ليسوا بمُصلحِين، ولستُ بمدركٍ.
ومثلُه لعامرِ بن جُوَيْنٍ الطائىّ:
(1/306)
فلم أَرَ مِثلَها خُبَاسةَ واحدٍ ...
ونَهُنَهْتُ نفسى بعدَ ما كِدتُ أَفْعَلَهْ
فحملوه على أَنْ، لأنّ الشعراءَ قد يَستعملون أَنْ ههنا مضطَّرين
كثيراً.
بابٌ منه يُضمِرون فيه الفِعْلَ لقبح الكلام
إذا حُمل آخِرُه على أوّله
وذلك قولك: مالك وزيدا، وما شأُنُك وعمراً. فإِنَّما حدُّ الكلام ههنا:
ما شأنك وشأن عمرو. فإن حملت الكلام على الكاف المضمرة فهو قبيح، وإن
حملتَه على الشأنِ لم يجزْ لأنّ الشأنَ ليس يَلتبس بعبدِ الله، إنّما
يَلتبس به الرجُل المضمَرُ فى الشأْنِ. فلما كان ذلك قبيحاً حملوه على
الفعل، فقالوا: ما شأْنُك وزيدا، أى ما شأْنُك وتناولُك زيدا. قال
المسْكينُ الدارمىُّ:
(1/307)
فما لكَ والتلدُّدَ حَوْلَ نَجْدٍ ... وقد
غَصَّتْ تِهامةُ بالرَّجالِ
وقال:
وما لكُم والفَرْطَ لا تقربوه ... وقد خِلْتُه أَدْنَى مَرَدٍّ لعاقِلِ
ويدلّك أيضاً على قبحه إذا حمل على الشأنِ، أنّك إذا قلت: ما شأنُك وما
عبدُ الله، لم يكن كحُسْنِ ما جَرْمٌ وما ذاك السَّوِيقً، لأنك تُوهِمُ
أنّ الشأنَ هو الذى يَلتبس بزيد، " وإنّما يَلتبس شأنُ الرجل بشأن زيد
". ومن أراد ذلك فهو ملغز تارك لكلام الناس الذي يَسبق إلى أفْئِدتِهم.
(1/308)
فإِذا أَظهر الاسمَ فقال: ما شأنُ عبدِ
الله وأخيه يَشْتِمُه فليس إلاّ الجرُّ، لأنه قد حسن أن تَحْمِلَ
الكلام على عبد الله، لأنّ المظهَر المجرورَ يُحملُ عليه المجرورُ.
وسمعنا بعد العرب يقول: ما شأن عبد الله والعبر يشتمها. وسمعنا أيضاً
من العرب الموثوق بهم مَنْ يقول: ما شأَنُ قيس والبُرَّ تَسْرِقُه.
لمّا أظهروا الاسمَ حسُن عندهم أن يَحملوا عليه الكلامَ الآخِرَ.
فإِذا أضمرتَ فكأَنّك قلتَ: ما شأنُك وملابسةٌ زيداً، أو وملابستُك
زيدا، فكان أن يكون زيدٌ على فِعْلٍ وتكونَ الملابسةُ على الشأن، لأن
الشأن معه ملابسةٌ له، أحسنَ من أن يُجْرُوا المظهَرَ على المضمَرِ.
فإن أظهرتَ " الاسمَ فى الجرّ " عَمِلَ عَمَلَ كَيْفَ فى الرفع.
ومَنْ قال: ما أنت وزيداً، قال: ما شأنُ عبدِ الله وزيدا. كأَنه قال:
ما كان شأنُ عبدِ الله وزيدا، وحمله على كانَ لأنّ كان تقع ههنا.
والرفعُ أجودُ وأكثر " فى: ما أنت وزيدٌ "، والجر فى قولك: ما شأنُ
عبدِ الله وزيدٍ، أحسنُ وأجودُ، كأَنه قال: ما شأنُ عبدِ الله وشأنُ
زيدٍ ومَن
(1/309)
نصب فى: ما أنت وزيداً أيضاً قال: ما لزيدٍ
وأخاه، كأَنه قال: ما لزيدٍ وأخاه، كأنّه قال: ما كانَ شأنُ زيدٍ
وأخاه؛ لأنه يَقع فى هذا المعنى ههنا، فكأَنّه قد كان تكلَّم به.
ومن ثَمَّ قالوا: حسبُك وزيداً؛ لمّا كان فيه معنى كَفاك، وقبح أن
يَحملوه على المضمَر، نَوَوُا الفعل، كأَنّه قال: حسبُك ويُحْسِبُ أخاك
درهمٌ.
وكذلك: كَفْيُك، " وقَدكَ، وقَطْكَ ".
وأمّا وَيْلاً له وأخاه، وويْلَه وأباه، فانتَصب على معنى الفعلِ الذى
نصبهَ، كأنك قلت: ألزمه الله ويله وأباه، فانتصب على معنى الفعل الذى
نصبه، فلمّا كان كذلك - وإن كان لا يَظْهَرُ - حَمَلَه على المعنى.
وإن قلتَ: ويلٌ له وأَباه نصبتَ لأنّ فيه ذلك المعنى، كما أنّ حسبُك
يرتفع بالابتداءِ وفيه معنى كفاك. وهو نحو مررتُ به وأبَاه، وإن كان
أَقْوَى، لأنَّك ذكرتَ الفعلَ، كأَنك قلت: ولقيتُ أباه.
وأما هذا لك وأباك، فقبيح " أن تنصبالأب "، لأنه لم يذكر فعلاً ولا
حرفاً في معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل.
(1/310)
باب ما يُنْصَبُ من المصادر
على إضمارِ الفعل غير المستعمل وإظهاره
وذلك قولك: سَقياً وَرْعياً، ونحو قولك: خَيْبةً، ودَفراً، وجَدْعاً
وعَقْراً، وبؤُساً، وأُفَّةً وتُفَّةً، وبُعْداً وسُحْقاً. ومن ذلك
قولك: تَعْساً وتَبًّا، وجُوعاً " وجُوساً ". ونحوُ قول ابن مَيّادةَ:
تَفاقَدَ قومى إذ يَبيعون مُهجِتى ... بجارِيةٍَ بَهْراً لهمْ بعدها
بَهْرَا
أى تبًّا.
" وقال:
ثمَّ قالوا تُحِبُّها قلتُ بَهْراً ... عَدَدَ النَّجْمِ والحَصَى
والتُّرابِ
(1/311)
كأَنه قال: جَهْداً، أى جَهْدى ذلك ".
وإنما يَنتصب هذا وما أشبهه إذا ذُكر مذكورٌ فدعوتَ له أو عليه، على
إضمار الفعل، كأَنّك قلت: سَقاك الله سَقياً، ورَعاك " الله " رعياً،
وخيبك الله خيبة. فكل هذا وأشباهه على هذا يَنتصب.
وإنَّما اختُزل الفعلُ ها هنا لأنَّهم جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل،
كما جُعل الحَذَرَ بدلا من احذرْ. وكذلك هذا كأَنَّه بدلٌ من سَقاك
اللهُ ورَعاك " اللهُ "، ومِن خَيَّبَك الله.
وما جاء منه لا يَظهر له فِعلٌ فهو على هذا المثال نصب، كأنك جعلت
بهراً بدلاً من بَهَرَك اللهُ، فهذا تمثيلٌ ولا يُتكلَّم به.
وممَّا يدلّك أيضاً على أنَّه على الفعلِ نُصب، أنّك لم تَذكر شيئاً من
هذه المصادر لتَبنَى عليه كلاما كما يبنى على عبد الله إذا ابتدأتَه،
وأَنّك لم تجعله مبنيَّا على اسمٍ مضمَر فى نِيّتك، ولكنه على دُعائِك
له أو عليه.
وأمّا ذكرُهم " لك " بعد سَقْياً فإنّما هو ليبيَّنوا المعنَّى
بالدعاءِ. وربَّما تركوه استغناءً، إذا عَرَفَ الدّاعِى أنّه قد عُلم
مَنْ يَعنى. وربَّما جاء به على
(1/312)
العلم توكيداً، فهذا بمنزلة قولك: " بِكَ "
بعد قولك: مَرْحَباً، يَجريانِ مَجْرًى واحداً فيما وصفتُ لك.
وقد رَفعتِ الشعراءُ بعضَ هذا فجعلوه مبتدأ وجعلوا ما بعده مبنيّا
عليه.
قال أبو زُبَيْدٍ:
أَقامَ وأَقْوى ذاتَ يومٍ وخَيْبَةٌ ... لأول من يَلْقَى وشَرٌّ
مُيسَّرُ
وهذا شبيهٌ رفعه ببيتٍ سمعناه ممَّن يوثق بعربيته، يَرويه لقومه، قال:
عَذِيُركَ من مَوْلًى إذا نِمْتَ لم يَنَمْ ... يقولُ الخَنَا أو
تَعْتَرِيكَ زَنابِرُه
فلم يَحمل الكلام على اذعرين، ولكنّه قال: إنَّما عُذرُك أيّاى من
مولّى هذا أمره.
(1/313)
ومثله قول الشاعر:
أَهاجَيْتُمُ حَسّانَ عند ذَكائِه ... فَغَىٌّ لأَولادِ الحِماسِ
طَويلُ
وفيه المعنى الذى يكونُ فى المنصوب، كما أنّ قولَك: رحمةُ اللهِ عليه،
فيه معنى الدّعاءِ، كأنّه قال: رَحِمهُ اللهُ.
هذا باب
ما جرى من الأسماءِ مجرى المَصادِرِ
التى يُدْعَى بها
وذلك قولك: تُرْباً، وجَنْدَلاً، وما أِشبه هذا. فإِن أدخلت " لك "
فقلت: ترباً لك. فإن تفسيراً ههنا كتفسيرها فى الباب الأوّل، كأَنه
قال: أَلْزَمك اللهُ وأَطعَمك اللهُ تُرباً وجندلاً، وما أشبه " من
الفعل "، واختزل
(1/314)
الفعلُ ها هنا لأنَّهم جعلوه بدلاً من
قولك: تَرِبَتْ يداك " وجُنْدِلتَ ".
وقد رَفَعَه بعض العرب فجعله مبتدأَ مبنيًّا عليه ما بعده، قال الشاعر:
لقد أَلَبَ الواشون أَلْباً لبَيْنهِمْ ... فتُرْبٌ لأَفواهِ الوُشاةِ
وجَنْدَلُ
وفيه ذلك المعنى الذى فى المنصوب كما كان ذلك فى الأوّل. ومن ذلك قول
العرب: فَاهَا لفيكَ، وإنما تريد: فا الدَّاهيِة كأَنه قال: تُرْباً
لفيك فصار بدلا من اللفظ بالفعل وأََضمر له كما أَضمر للتُرْب
والجندلِ، فصار بدلا من اللفظ بقوله: دهاك اللهُ. وقال أبو سِدْرةَ "
الهُجَمى ":
تَحسَّبَ هَوَّاسٌ، وأَقْبَلَ، أَنّنى ... بها مُفْتَدٍ من واحدٍ لا
أُغامِرُهْ
(1/315)
فقلتُ له: فاها لفيكَ فإنّها ... قَلوصُ
امْرِئٍ قارِيكَ ما أنت حاذِرُه
ويدلُّك على أنه يريد به الداهية قوله، وهو عامر ابن الأحوص:
وداهية من دواهي المنو ... ن تَرْهَبُها الناسُ لا فَالَها
فجعل للداهية فَماً، حدثنا بذلك من يوثق به.
وهذا باب
ما أُجرى مُجرى المَصادر المَدْعُوَّ بها
من الصفات
وذلك قولك: هَنِيئاً مَرِياً " كأَنّك قلت: ثَبَتَ لك هَنيئاً مَريئاً،
وهَنأَه
(1/316)
ذلك هَنيئاً ". وإنَّما نصبتَه لأنّه ذَكر
" لك " خيراً أًصابه رجلٌ فقلتَ: هنيئاً مريئاً، كأَنّك قلت: ثَبَتَ
ذَلك له هنيئاً مريئاً أو هنأه ذلك هنيئاً، فاختُزِلَ الفعلُ، لأنه صار
بدلاً من اللفظ بقولك: هَنَأَك.
ويدلُّك على أنَّه على إضمار هنأَك ذلك هنيئاً، قولُ الشاعر، وهو
الأخطل:
إلى إمامٍ تُغادِينا فَواضِلُه ... أَظْفَرَهَ اللهُ فَلْيَهْنِئْ له
الظَّفَرُ
كأَنّه إذا قال: هنيئاً له الظَّفرُ، فقد قال: ليَهْنِئْ له الظفرُ،
وإذا قال: ليهنِئْ له الظَّفرُ، فقد قال: هنيئاً له الظَّفرُ، فكلُّ
واحد منهما بدلٌ من صاحبه، فلذلك اختَزَلَوا الفعلَ هنا، كما اختزلوه
فى قولهم: الحَذَرَ. فالظفرُ والهنئ عَمِلَ فيهما الفعلُ، والظَّفرُ
بمنزلة الاسم فى قوله: هَنأهُ ذلك حين مُثّل. وكذلك قول الشاعر:
(1/317)
هَنيئاً لأَربابِ البُيوتِ بُيوتهم ...
وللعَزَب المِسْكينِ ما يتلمس
باب ما جرى من المَصادر المضافِة مَجرى
المصادر المُفرَدَةِ المَدْعُوَّ بها
وإنَّما أُضيفت ليكونَ المضافُ فيها بمنزلته فى اللام إذا قلت: سَقْياً
لك، لتبيَّن من تَعنى.
وذلك: وَيْلَكَ، ووَيْحَكَ، ووَيْسَكَ، ووَيْبَكَ. ولا يجوز: سَقْيَكَ،
إنما تجرىي ذا كما أَجرت العربُ.
ومثلُ ذلك: عَددتُك وكِلْتُك " ووزنُتك "، ولا تقول: وهَبْتُك، لأنَّهم
لم يُعَدّوه. ولكنْ: وهبتُ لك.
وهذا حرفٌ لا يُتكلَّم به مفرَدا إلاّ أن يكون على وَيْلَك، وهو قولك:
وَيْلَك وعَوْلَك، ولا يجوز: عَوْلَك.
هذا باب
ما يَنتصب على إضمار الفِعل المتروكِ إظهارُه
من المَصادر فى غير الدُّعاء
من ذلك قولك: حَمْداً وشُكْراً لا كُفْراً وعَجَبا، وأَفْعَلُ ذلك
وكَرامةً
(1/318)
ومَسَرَّةً ونُعْمَةَ عَيْنٍ، وحُبّاً
ونَعامَ عَيْنٍ، ولا أَفْعَلُ ذاك ولا كَيْداً ولا هَمًّا، ولأََفعلنّ
ذاك ورَغْماً وهواناً.
فإنّما يَنتصب هذا على إضمار الفعل، كأَنك قلت: أَحْمَدُ الله حمدا
وأشك الله شُكْرا، وكأَنَّك قلت: أَعْجَبُ عَجَبا، وأُكْرِمُك كَرامةً،
وأَسُرُّك مَسَرّةً، ولا أَكادُ كَيْدا ولا أَهُمُّ هَمّاً، وأُرْغِمُك
رَغْماً.
وإنّما اختُزِلَ الفعلُ ههنا لأنَّهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل،
كما فعلوا ذلك فى باب الدُّعاء. كأَنّ قولك: حَمْداً فى موضع أَحْمَدُ
الله، وقولك: عَجَباً منه فى موضع أَعْجَبُ منه، وقولَه: ولا كَيْداً
فى موضع ولا أَكادُ ولا أَهُمُّ.
وقد جاء بعضُ هذا رفعاً يُبتدأُ ثمّ يُبنَى عليه. وزعم يونسُ أنّ رؤبة
ابن العّجاجِ كان يُنْشِدُ هذا البيتَ رفعاً، وهو لبعض مذحج، " وهو هني
ابن أَحمرَ الكِنانى ":
عَجَبٌ لِتلْكَ قَضِيّةً وإقامتى ... فيكمْ على تلك القضِيّة أَعْجَبُ
وسمعنا بعضَ العرب الموثوقَ به، يقال له: كيف أَصبحتَ؟ فيقولُ: حمدُ
اللهِ وثناءٌ عليه، كأَنَّه يَحمله على مضمَرٍ فى نيّته هو المظهَرُ،
كأَنّه يقول: أمري
(1/319)
" وشأنى " حمدُ الله وثناءٌ عليه. ولو
نَصَبَ لكان الذى فى نفسه الفعلَ، ولم يكن مبتدأ لبيني عليه ولا ليكون
مبنياً على شيء هو ما أَظْهَرَ.
وهذا مثلُ بيتٍ سمعناه من بعض العرب الموثوق به يَرويه:
فقالت حَنانٌ ما أَتى بك ههنا ... أَذَو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحىِّ
عارِفُ
لم تُرِدْ حِنَّ، ولكنها قالت: أمرنُا حَنانٌ، أو ما يصيبنا حنانٌ. وفى
هذا المعنى كلّه معنى النصب.
ومثلُه فى أنَّه على الابتداء وليس علِى فعلٍ قولُه عزّ وجلَّ: " قالوا
معذرة إلى ربكم ". لم يريدُوا أن يَعتذروا اعتذاراً مستأنَفاً من أمرٍ
لِيمُوا عليه، ولكنَّهم قيل لهم: " لِمَ تَعِظُونَ " قَوْماً "؟ قالوا:
مَوْعِظتُنا مَعْذِرَةٌ إلَى رَبَّكُم.
ولو قال رجلٌ لرجلٍ: معذرةً إلى الله وإليك من كذا وكذا، يريد
اعتذاراً، لنصب.
(1/320)
ومثل ذلك قولُ الشاعر:
يَشْكو إلىَّ جَمَلِى طُولَ السُّرَى ... صَبرٌ جَميل فكِلانا
مُبْتَلَى
والنصبُ أكثر وأجود؛ لأنه يأمره. ومَثَلُ الرفع " فصبر جميل والله
المستعان "، كأنه يقول: الأمرُ صبرٌ جميلٌ.
والذى يُرْفَعُ عليه حَنانٌ وصبرٌ وما أشبه ذلك لا يُستعمل إظهارُه،
وتركُ إظهاره كتركِ إظهارِ ما يُنْصَبُ فيه.
ومثلُه قول بعض العرب: مَنْ أنتَ زيدٌ، أى من أنت كلامُك زيدٌ، فتركوا
إظهارَ الرافع كترك إظهار الناصب، ولأنَّ فيه ذلك المعنى وكان بدلاً من
اللفظ بالفعل، وسترى مثلَه إن شاء الله.
(1/321)
هذا بابٌ أيضاً من المصادر يَنتصب
بإضمار الفعل المتروك إظهارُه
ولكنَّها مصادرُ وُضعَتْ موضعاً واحدا لا تَتصرَّفُ فى الكلام تصرُّفَ
ما ذكرنا من المصادر. وتصرُّفُها أنّها تَقَعُ فى موضع الجرَّ والرفع
وتدخلُها الألفُ واللام.
وذلك قولك: سُبْحانَ اللهِ، ومَعاذَ اللهِ ورَيْحانَه، وعَمْرَك الله
إلاّ فعلتَ " وقِعدَك الله إلاَّ فعلتَ "، كأَنّه حيث قال: سُبْحانَ
اللهِ قال: تسبيحاً، وحيث قال: وريحانَه قال: واستِرْزاقاً؛ لأنَّ معنى
الرَّيْحانِ الرَّزْقُ. فَنصَبَ هذا على أُسَبَّحُ الله تسبيحا،
وأَستْرزِقُُ الله استرزاقا؛ فهذا بمنزلة سبحانَ اللهِ وريْحانَه،
وخُزِلَ الفعلُ ههنا لأنَّه بدلٌ من اللفظ بقوله: سبحك وأَسترزقُك.
وكأَنّه حيث قال: معاذَ اللهِ، قال: عِياذاً باللهِ. وعياذاً انتَصب
على أَعوذُ باللهِ عياذا، ولكنهم لم يُظْهرِوُا الفعل ههنا كما لم
يُظهر فى الذى قبله.
وكأَنّه حيث قال: عَمْرَك الله وقعِدْك الله. قال: عَمّرتُك الله
بمنزلة نَشدتُك الله، فصارت عَمْرَك الله منصوبةً بعمَّرتُك الله،
كأَنك قلتَ: عمّرتُك عَمرا، ونشدتك نَشْداً، ولكنَّهم خَزلوا الفعل
لأنَّهم جعلوه بدلاً من اللفظ به.
(1/322)
قال الشاعر:
عمرتك الله إذا ما ذَكْرتِ لنا ... هل كنتِ جارتَنا أَيّامَ ذى سَلَمِ
فقِعْدَك الله يَجرى هذا المجرى وإن لم يكن له فِعْل. وكأَنّ قوله:
عَمْرَك الله وقِعْدَك الله بمنزلة نَشْدَك الله وإن لم يُتكلَّم
بنَشْدَك الله، ولكن زعم الخليل رحمه الله أنّ هذا تمثيلٌ يمثَّل به.
قال الشاعر، ابن أحمرَ:
عَمَّرتُكَ الله الجَليلَ فإِنّنى ... أَلْوِى عليكَ لَوَ أنّ لُبَّكَ
يَهْتَدِى
والمصدرُ النَّشدانُ والنَّشدَةُ.
(1/323)
وهذا ذكرُ معنى " سُبحانَ "، وإنَّما ذُكر
ليبيَّن لك وجهُ نصبِه وما أِشبهه.
زعم أبو الخَطّاب أنّ سُبْحانَ اللهِ كقولك: بَرَاءَةَ اللهِ من
السُّوءِ، كأَنَّه يقول: " أبرَّئُ " براءةَ الله من السُّوء. وزعم
أنَّ مثلَه قولُ الشاعر، وهو الأعشى:
أقول لما جاءَنى فَخْرُه ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخِرِ
أى براءةً منه.
وأمّا تركُ التنوين فى سُبْحانَ فإِنما تُرك صرفُهُ لأنه صار عندهم
معرفةً، وانتصابُه كانتصاب الحمدَ لله.
وزعم أبو الخَطّاب أَنّ مثَلَه قولُك للرجل: سَلاماً، تريد تسلُّماً
منك، كما قلت: براءَةً منك، تريد: لا ألتبس بشيء من أمرك. وزعم أنّ أبا
ربيعةَ كان
(1/324)
يقول: إذا لقيتَ فلانا فُقْل " له "
سَلاماً. فزعم أنه سأَله ففَسَّرَه له بمعنى براءةً منك. وزعم أنّ هذه
الآية: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " بمنزلة ذلك، لأنّ الايَةَ
فيما زَعم مكّيّةٌ، ولم يؤمَرِ المسلمون يومئذ أن يسلَّموا على
المشركين، ولكنّه على قولك: " براءة منكم " وتسلُّما، لا خيرَ بيننا
وبينكم ولا شرَّ.
وزعم أنّ قولَ الشاعر، وهو أُميّةُ بن أبى الصَّلْت:
سَلامَك ربَّنا فى كلّ فَجرٍ ... بَرِيئاً ما تَغَنَّثُكَ الذُّمومُ
على قوله: براءتَك ربَّنا من كلّ سوء.
فكلُّ هذا يَنتصب انتصاب حَمداً وشُكْراً، إلاّ أنَّ هذا يَتصرّف وذاك
لا يَتصرّف.
ونظير سُبْحانَ الله فى البناء من المصادر والمجرى لا فى المعنى "
غُفْرانَ "؛ لأنّ بعض العرب يقول: غُفْرانَك لا كُفْرانَك، يريد
استغفاراً لا كُفْراً.
ومثل هذا
(1/325)
قوله جلّ ثناؤه: " ويقولون حجرا محجورا، أى
حراماً محرماً، يريدبه البراءةَ من الأمر ويبعَّدُ عن نفسه أمراً،
فكانه قال: أُحَرَّمُ ذلك حَراماً محرَّما.
ومثل ذلك أن يقول الرجلُ للرجل: أتَفعل كذا وكذا؟ فيقولُ: حِجراً، أى
سِتْرا وبراءةً من هذا. فهذا يَنتصب على إضمار الفعل، ولم يُرِدْ أن
يَجعله مبتدأ خبره بعده ولا مبنيًّا على اسم مضمَرٍ.
واعلم أنَّ من العرب من يَرفع سلاما إذا أراد معنى المبارأةِ، كما
رفعوا حَنانٌ. سمعنا بعضَ العرب يقول " لرجل ": لا تكونن مني " في شيء
" إلاَّ سلامٌ بسَلامٍ، أى أمرى وأمرُك المبارأةُ والمتاركةُ. وتركوا
لفظ ما يَرفعُ كما تركوا فيه لفظَ ما يَنصب، لأنَّ فيه ذلك المعنى،
ولأنَّه بمنزلة لفظِك بالفعل.
وقد جاء سُبْحانَ منوَّنا مفرَداً فى الشعر، قال الشاعرُ، وهو أمية ابن
أبى الصلت:
سُبحانَه ثم سُبْحاناً يَعودُ له ... وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُودِىُّ
والجُمُدُ
(1/326)
شبّهه بقولهم: حِجْراً وسَلاما.
وأمّا سُبّوُحاً قُدُّوساً رَبَّ الملائكةِ والرُّوحِ، فليس بمنزلة
سُبحانَ اللهِ؛ لأنّ السُّبّوحَ والقُدّوسَ اسمٌ، ولكنَّه على قوله:
أَذْكرُ سُبُّوحاً قُدّوساً. وذاك أنَّه خَطَرَ على باله أو ذكره ذاكر
فقال: سبوحاً، أى ذكرتَ سُبّوحاً، كما تقولُ: أهلَ ذاك، إذا سمعتَ
الرجلَ ذَكَرَ الرجلَ بثناءٍ أو يذم، كأَنّه قال: ذكرتَ أهلَ ذاك؛
لأنَّه حيث جرى ذكرُ الرجل " فى منطقة " صار عنده بمنزلة قوله: أَذكُرُ
فلانا، أو ذكرتَ فلانا. كما أنَّه حيثُ أَنْشَدَ ثم قال: صادِقاً، صار
الإِنشادُ عنده بمنزلة قاَلَ، ثم قال: صادِقاً وأهلَ ذاك، فحملَه على
الفعل متابِعاً للقائل والذاكرِ. فكذلك: سُبُّوحاً قُدّوسا، كأَنَّ
نفسهَ " صارت " بمنزلة الرجل الذاكر والمنشِدِ حيث خطر على باله
الذكرُ، ثم قال: سبُّوحا قُدّوسا، أى ذكرتَ سُبُّوحا، متابِعاً لها
فيما ذكَرت وخطَر على بالها.
وخَزَلوا الفعلَ لأنَّ هذا الكلام صار عندهم بدلا من سبَّحت، كما كان
مَرْحبا بدلا من رَحُبَت بلادُك وأَهِلَتْ.
ومن العرب من يَرفع فيقولُ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ " رَبَّ الملائكة
والرُّوح "، كما قال: أهلُ ذاك وصادقٌ واللهِ. وكلُّ هذا على ما سمعنا
العربَ تَتكلَّم به رفعا ونصباً.
ومثلُ ذلك: خَيْرُ ما رُدَّ فى أهلٍ ومالٍ، " وخَيْرَ ما رُدَّ فى أهلٍ
ومالٍ " أُجرى مُجرى خيرَ مقدمٍ وخيرُ مقدمٍ.
(1/327)
ومما يَنتصب فيه المصدرُ على إضمار الفعلِ
المتروك إظهارُه، ولكنَّه فى معنى التعجُّبِ، قولُك: كَرَماً وصَلَفاً،
كأَنَّه قال: أَلْزَمَك اللهُ وأَدامَ لك كَرَماً وأُلْزِمْتَ صَلَفاً،
ولكنهم خَزَلُوا الفعلَ ههنا كما خزلوه فى الأوّل، لأنَّه صار بدلا من
قولك: أَكرِمْ به وأَصْلِفْ به، كما انتَصب مَرْحَباً. وقلتَ " لَكَ "،
كما قلت " بِكَ " بعد مَرْحَباً، لتبيّن من تَعنى، فصار بدلاً فى اللفظ
من رَحُبَتْ " بلادُك.
وسمعتُ أَعرابيا وهو أبو مُرْهِبٍ، يقول: كَرَماً وطُولَ أنف، أي أكرم
بك وأطول بأنفك ".
بابٌ يُختار فيه أن تكون المصادرُ مبتدأة
مبنياً عليها ما بعدها وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات وذلك قولك:
الحمدُ لله، والعَجَبُ لك، والوَيلُ لك، والتُّرابُ لك، والخَيْبةُ لك.
وإنّما استحبّوا الرفعَ فيه لأنَّه صار معرفةً وهو خَبَرٌ فقَوىَ فى
الابتداء، بمنزلة عبد الله والرجل الذي تَعلم، لأنَّ الابتداءَ إنَّما
هو خَبَرٌ، وأَحسنْه إذا اجتمع نكرة ومعرفة أن يبتدئ بالأعرف؛ وهو أصل
الكلام.
(1/328)
ولو قلت: رجلٌ ذاهبٌ لم يَحسن حتَّى تعرفه
بشيء فتقولَ: راكبٌ من بنى فلان سائرٌ. وتَبيعُ الدارَ فتقولُ: حدٌّ
منها كذا وحدٌّ منها كذا، فأصلُ الابتداء للمعرفةِ. فلما أدخلتَ فيه
الألف واللام وكان خبراً حَسُنَ الابتداءُ، وضَعُفَ الابتداءُ بالنكرة
إلاَّ أن يكون فيه معنى المنصوب.
وليس كلُّ حرف يُصْنَعُ به ذاك، كما أنّه ليس كلُّ حرفٍ يَدخل فيه
الألفُ واللام من هذا الباب. لو قلت: السَّقْىُ لك والرَّعْىُ لك، لم
يجز.
واعلم أنَّ الحمدُ لله وإن ابتدأتَه ففيه معنى المنصوب، وهو بدل من
اللفظ بقولك: أَحمَدُ الله.
وأما قوله: شيء ما جاءَ بك، فإِنه يَحسُن وإن لم يكن على فعل مضمَرٍ،
لأنّ فِيهِ معنى ما جاء بك إلا شيء. ومثلُه مَثَلٌ للعرب: " شرٌّ
أهَرَّ ذا ناب ".
وقد ابتُدئَ فى الكلام على غير ذا المعنى وعلى غير ما فيه معنى
المنصوبِ وليس بالأصل، قالوا فى مَثَلٍ: " أَمْتٌ فى الحجر لا فيكَ ".
ومن العرب من يَنصب بالألف واللام، من ذلك قولك: الحمدَ لله، فينصبها
عامَّةُ بنى تميم وناسٌ من العرب كثير.
(1/329)
وسمعِنا العرب الموثوقَ بهم يقولون: التُّرابَ لك والعَجَب لك. فتفسيرُ
نصبِ هذا كتفسيره حيث كان نكرةً، كأَنّك قلت: حمداً وعجباً، ثم جئت
بلَكَ لتبيَّن مَنْ تَعنى، ولم تَجعله مبنيًّا عليه فتبَتدئَهُ. |