الكتاب لسيبويه

هذا بابٌ من النكرة
يَجرى مجرى ما فيه الألفُ واللام من المصادر والأسماء
وذلك قولك: سلامٌ عليك ولَبَّيْك، وخيرٌ بين يديك، ووَيْلٌ لك، ووَيْحٌ لك، ووَيْسٌ لك، ووَيلةٌ لك، وعَوْلةٌ لك، وخيْرٌ له، وشرٌّ له، و " لعنة الله على الظالمين ".
فهذه الحروف كلها مبتدأ مبنىٌّ عليها ما بعدها، والمعنى فيهنَّ أنّك ابتدأ شيئاً قد ثَبَتَ عندك، ولَسْتَ فى حال حديثك تعمل في إثباتها وتزجيتها، وفيها ذلك المعنى، كما أنّ حسبُك فيها معنى النهى، وكما أنّ رحمةُ الله عليه فيه معنى رَحِمَه اللهُ. فهذا المعنى فيها، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذا ذكرته كنتَ فى حال ذكرك إيّاها تَعملُ فى إثباتها وتزجيتها، كما أنَّهم لم يجعلوا سَقْياً ورعيا بمنزلة هذه الحروف، فإنما تجريها كما أجرت العرب، وتضعها في المواضع التى وُضعن فيها، ولا تُدْخِلَنَّ فيها ما لم يُدخِلوا من الحروف. ألا أترى أنَّك لو قلت: طَعاماً لك وشَراباً لك ومالاً لك، تريد معنى سَقْياً، أو معنى المرفوعِ الذى فيه معنى الدعاءِ لم يجز، لأنَّه لم يُستعمَل هذا الكلامُ كما استُعمل ما قبله. فهذا يدلك ويبصرك أنه ينبغي لك أن تجري هذا الحروفَ كما أجرتِ

(1/330)


العربُ وأَنْ تَعْنِىَ ما عَنَوْا " بها ". فكما لم يجز أن يكون كلُّ حرف بمنزلة المنصوب الذى أنت فى حال ذكرك أياه تَعملُ فى إثباته وتزجيته، ولم يجز لك أن تَجعل المنصوبَ بمنزلة المرفوع. إلاّ أنَّ العرب ربَّما أجرتِ الحروفَ على الوجهينِ.
ومَثَلُ الرفع: " طُوبَى لَهُمْ وَحُسنُ مآبٍ "، يدلُّك على رفعها رفع حسن مآب. وأمَّا قوله تعالى جدُّه: " ويل يومئذ للمكذبين " و " ويل للمطففين "، فإِنّه لا ينبغى أن تقول إنّه دعاءٌ ههنا، لأنّ الكلام بذلك قبيح، واللفظ " به " قبيحٌ، ولكنّ العبادَ إنَّما كُلَّموا بكلامهم، وجاء القرآنُ على لغتهم وعلى ما يَعنون، فكأَنَّه واللهُ أعلمُ قيل لهم: وَيلٌ لِلْمُطَفَّفِينَ، ووَيْلُ " يَوْمَئِذٍ " لِلمُكَذَّبِينَ، أى هؤلاءِ ممن وجب هذا القولُ لهم، لأنَّ هذا الكلامَ إنّما يقال لصاحب الشر والهلكلة، فقيل: هؤلاء ممن دخل فى الشرّ والهلكة ووجَبَ لهم هذا.
ومِثل ذلك " قوله تعالى ": " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ". فالعلمُ قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهَبَا أنتما فى رَجائكما وطَمَعِكما ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثرُ من ذا ما لم يَعْلَما.

(1/331)


ومثله: " قاتلهم الله "، فإِنما أُجرى هذا على كلام العباد وبه أُنزل القرآنُ.
وتقول: وَيلٌ له وَيْلٌ طويلٌ، فإِنْ شئت جعلته بدلاً من المبتدإ الأوّل، وإن شئت جعلته صفةً له، وإن شئت قلت: وَيلٌ لك وَيْلاً طويلا، تجعلُ الويلَ الاخِرَ غيرَ مبدول ولا موصوف به، ولكنَّك تَجعله دائماً، أى ثَبَتَ لك الويلُ دائما.
ومن هذا الباب: فِداءٌ لك أبى وأمّى، وحِمى لك أبى، ووِقاءُ لك أمّى.
ولا تقول: عَولةٌ لك إلاَّ أن يكون قبلها وَيْلةٌ لك، ولا تقول: عَوْلٌ لك حتَّى تقول: وَيْلٌ لك؛ لأنّ ذا يتبع ذا، كما أنّ يَنُوءُك يَتْبَعُ يَسُوءُك ولا يكون ينوءُك مبتدأ.

(1/332)


واعلم أن بعض العرب يقول: وَيْلاً له وويلةً له، وعولةً لك، ويجريها مجرى خَيْبَةً. من ذلك قول الشاعر، وهو جرير:
كَسَا اللؤم تيماً خضرة في جولدها ... فَوْيلاً لتيمٍ من سرَابِيلها الخُضْرِ
ويقول الرجل: يا وَيْلاهُ! فيقولُ الآخَر: وَيْلاً كَيْلاً! كأَنّه يقول: لك ما دعوتَ به وَيْلاً كَيْلاً. يدلك على ذلك قولهم إذا قال يا ويلاه: نعم ويلا كيلاً، أي كذلك أمرك، أو لك الويل ويلا كيلا. وهذا مشبَّة بقوله: ويل له وَيْلاً كَيْلاً. وربَّما قالوا: يا ويلاً كيلاً، وإن شاء جعله على قوله: جَدْعاً وعقراً.

(1/333)


بابٌ منه استَكرهه النحويّون، وهو قبيح
فوضعوا الكلامَ فيه على غير ما وضعت العرب وذلك قولك: وَيحٌ له وتَبٌّ، وتبًّا لك ووَيْحاً. فجعلوا التَّبَّ بمنزلة الوَيْحِ، وجعلوا ويحٌ بمنزلة التَّبَّ، فوضعوا كلَّ واحد منهما على غير الموضع الذي وَضَعَتْه العربُ.
ولا بُدَّ لوَيْحٍ مع قبحها من أن تُحْمَلَ على تب، لأنها إذا ابتدأت لم يجزْ حتى يُبْنَى عليها كلامٌ، وإذا حملتها على النصب كنت تبنيها على شيء مع قُبْحِها. فإِذا قلتَ: وَيحٌ له ثم ألحقتَها التبَّ فإِنّ النصبَ فيه أحسنُ؛ لأن تبًّا إذا نصبتَها فهى مستَغنيةٌ عن لَك، فإِنمَّا قَطعتَها من أوّلِ الكلام كأَنك قلتَ: وتبًّا لك، فأجريتَها على ما أجرتْها العربُ.
فأمْا النَّحويّون فيجعلونها بمنزلة وَيْحٍ. ولا تُشبههُا لأنَّ تبًّا تَستغنى عن لَكَ ولا تَستغنى وَيْحٌ عنها، فإِذا قلتَ: تبًّا له ووَيْحٌ له فالرفعُ ليس فيه كلامٌ، ولا يَختلف النحويّون فى نصبِ التبّ إذا قلت: وَيحٌ له وتبّا له. فهذا يدلّك على أنَّ النصبَ فى تبّ فيما ذكرنا أحسنُ، لأنّ " له " لم يَعمْلْ فى التبَّ.

(1/334)


هذا بابُ ما ينتصب فيه المصدرُ
كان فيه الألفُ واللام أو لم يكن فيه على إضمارِ الفعلِ المتروكِ إظهارُه، لأنه يَصيرُ فى الإِخبارِ والاستفهامِ بدلا من اللفظ بالفعل، كما كان الحَذَرَ بدلا من احْذَرْ فى الأمر وذلك قولك: ما أنت إلاّ سَيراً، وإلاَّ سَيراً سَيْراً، وما أنت إلاّ الضَّربَ الضربَ، وما أنت إلاّ قَتْلا قَتْلا، وما أنت ألاّ سَيرَ البَريِد " سيرَ البريِد ". فكأَنه قال فى هذا كلَّه: ما أنت إلاّ تَفْعَلُ فعلاً، وما أنت إلاّ تَفعَلُ الفعلَ، ولكنَّهم حذفوا الفعل لما ذكرتُ لك.
وصار فى الاستفهام والخَبَرِ بمنزلته فى الأمرِ والنهى لأنَّ الفعلَ يقع ههنا كما يقع فيهما، وإن كان الأمرُ والنهىُ أقوى، لأنَّهما لا يكونان بغير فعلٍ، فلم يَمتنع المصدرُ ههنا " أن يَنتصب "، لأنَّ العمل يقع ههنا مع المصدر فى الاستفهام " والخبرِ، كما يقع فى الأمر والنهى، والآخِرُ غيرُ الأوّل كما كان ذلك فى الأمر والنهى، إذا قلت: ضَرْباً فالضربُ غيرُ المأمور ".
وتقول: زيدٌ سيراً سيراً، وإن زيداً سيرا سيرا، وكذلك فى لَيْتَ ولَعَلَّ ولكنّ وكأَنّ وما أشبه ذلك، " وكذلك إن قلت: أنت الدَّهرَ سَيْرا سَيْرا "، وكان عبدُ الله الدَّهرَ سَيْراً سيرا، وأنت مُذُ اليومِ سَيرا سيراً.

(1/335)


واعلم أنَّ السيرَ إذا كنتَ تخبر عنه فى هذا الباب فإنَّما تُخْبِرُ بسَيْرٍ متّصِلٍ بعض ببعضٍ فى أىَّ الأحوال كان. وأمَّا قولك: إنما أنت سيرٌ فإِنما جعلتَه خبراً لأنتَ ولم تضمِرُ فِعْلا. وسنبيَّن لك وجهَه إن شاء الله.
ومن ذلك قولك: ما أنت إلاّ شُرْبَ الإِبل، وما أنت إلاّ ضربَ الناس، وما أنت إلاّ ضرباً الناسَ. وأمّا شربَ الإِبلِ فلا ينوَّنُ لأنك لم تشبّهه بشرب الإِبل، وأنَّ الشربَ ليس بفعلٍ يَقع منك على الإِبل.
ونظيرُ ما انتَصب قولُ الله عزّ وجلّ فى كتابه: " فإما منا بعد وإما فداء "، إنّما انتصب على: فإمّا تَمنّون منًّا وإمّا تُفادون فداءً، ولكنَّهم حذفوا الفعلَ لما ذكرتُ لك.
ومثله قول " الشاعر، وهو " جرير:
أَلَمْ تَعْلَم مُسَرَّحِىَ القَوافِى ... فلا عِيًّا بهنّ ولا اجتلابا
كانّه نَفَى قولَه: فِعيًّا بهنّ واجتلابا، أى فأَنا أَعْيَا بهنّ وأَجتلِبُهن اجتلابًا، ولكنه نَفَى هذا حين قال: " فلا ".
ومثُله قولك: أَلم تَعلم يا فلانُ مَسِيرى فإِتعاباً وطَرداً. فإِنَّما ذَكَرَ مُسرَّحَه وذكر مَسيره، وهما عَمَلانِ، فجعل المسيرَ إتعابا وجعل المسرح لا عي فيه، وجعله فعلاً متَّصِلا إذا سار وإذا سَرَّحَ.
وإِنْ شئتَ رفعت هذا كلَّه فجعلتَ الآخِرَ هو الأوّلَ، فجاز على سعة الكلام. من ذلك قولُ الخنساء:

(1/336)


تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتَّى إذا ادَّكرتْ ... فإِنَّما هى إقبالٌ وإدبارُ
فجعلها الإِقبالَ والإِدبارَ، فجاز على سعة الكلام، كقولك: نهارُك صائمٌ وليلك قائمٌ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو متمَّم بن نُويرْة:
لَعَمْرى وما دَهْرِى بتَأْبينِ هالِكٍ ... ولا جَزَعٍ مما أصابَ فأَوْجَعَا
جَعَلَ دهرَه الجَزَعَ. والنصبُ جائزٌ على قوله: فلا عيًّا بهنّ ولا اجتلابَا. وإنّما أراد: وما دهرى دهرُ جزَعٍ، ولكنَّه جاز على سعة الكلام، واستخفوا واختصوا كما فُعل ذلك فيما مضى.

(1/337)


وأمّا ما يَنتصب فى الاستفهام من هذا الباب فقولُك: أَقِياماً يا فلانُ والناسُ قعودٌ، وأََجُلوساً والناسُ يعدُون، لا يريد أن يُخبرِ أنه يَجلس ولا أنَّه قد جلس وانقضى جلوسُه، ولكنه يُخبرِ أنَّه فى تلك الحال فى جُلوسٍ وفى قيامٍ.
وقال الراجز، وهو العّجاج:
أَطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِىُّ
وإنّما أراد: أَتَطْرَبُ، أى أنت فى حال طَرَبٍ؟ ولم يُرِد أن يُخبِر عما مضى ولا عما يُستقبَل.
ومن ذلك قول بعض العرب: " أَغُدّةً كغُدّة البعير ومَوْتاً فى بيتِ سَلُولِيَّةٍ "، كأَنه إنما أراد: أَأَغَدُّ غُدّةً كغُدّة البعير وأَموتُ موتا فى بيتِ سَلوليّةٍ. وهو بمنزلة أَطَرَباً، وتفسيره كتفسيره.

(1/338)


وقال جريرٌ:
أَعَبْداً حَلَّ فى شُعَبَى غَرِيباً ... ألؤماً لا أبا لك واغترابا
يقول: أَتَلؤُم لُؤْمًا وأَتَغترب اغترابا، وحَذَفَ الفعلين فى هذا الباب، لأنَّهم جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل، وهو كثيرٌ فى كلام العرب.
" وأما عبداً فيكون على ضربينِ: إن شئت على النداء، وإن شئت على قوله: أَتَفتخر عبداً، ثم حذف الفعل ".
وكذلك إن أخبرتَ ولم تَستفهم، تقول: سَيْراً سيراً، عنيتَ نفسَك أو غيرَك، وذلك أنَّك رأيت رجلاً فى حال سيرٍ أو كنت في حال سير، أو ذكر رجل يسير أو ذُكرتَ أنت بِسيرٍ، وجَرى كلامٌ يَحسن بناءُ هذا عليه كما حسن فى الاستفهام. لأنَّك إنما تقول: أَطَرَبًا وأَسَيْراً، إذا رأيتَ ذلك من الحال أو ظننتَه فيه.
وعلى هذا يجرى هذا البابُ إذا كان خبراً أو استفهاما، إذا رأيتَ رجلا فى حال سيرٍ أو ظننتَه فيه، فأَثبتَّ ذلك له.
وكذلك " أنت " فى الاستفهام، إّذا قلتَ: أَأَنت سيراً. ومعنى هذا الباب أنَّه فِعْلٌ متّصِلٌ فى حال ذكرِك إيّاه استفهمتَ أو أَخبرتَ، وأَنّك فى حال ذكِرك شيئاً من هذا الباب تَعْمَلُ فى تثبيِته لك أو لغيرك.

(1/339)


ومثل ما تَنصبه فى هذا الباب وأنت تَعنى نفسَك قولُ الشاعرِ:
سَماعَ اللهِ والعُلمَاءِ أَنَّى ... أَعوذ بحَقْوِ خالِكَ يا ابنَ عَمْرِو
وذلك أنه جعل نفسَه فى حالِ مَنْ يُسْمِعُ، فصار بمنزلة من رآه فى حال سيْرٍ فقال: إسَماعا الله، بمنزلة قولك: ما أنت إلاَّ ضربًا الناسَ، وإلاّ ضَربَ الناسِ، إذا حذفتَ التنوينَ تخفيفا.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء
التى أُخذت من الأفعالِ انتصابَ الفعل، استفهمتَ أو لم تَستفهم وذلك قولك: أَقائماً وقد قَعَدَ الناسُ، وأَقاعِداً وقد سار الرَّكْبُ. وكذلك إن أردتَ هذا المعنى ولم تَستفهم، تقول: قاعِداً عَلِمَ اللهُ وقد سار الركبُ، وقائماً قد عَلِمَ اللهُ وقد قَعَدَ الناسُ.
وذلك أنّه رأى رجلاً فى حال قيامٍ أو حال قُعودٍ، فأراد أن ينبَّهه، فكأَنّه لَفَظَ بقوله: أتقومُ قائما وأَتَقُعد قاعدا، ولكنَّه حذف استغناءً بما يرى من الحال، وصار

(1/340)


الاسمُ بدلاً من اللفظ بالفعل، فجرى مجرى المصدر فى هذا الموضع.
ومثل ذلك: عائذاً بالله من شرّها، كأَنَّه رأى شيئاً يُتَّقَى فصار عند نفسه فى حال استعاذةٍ، حتَّى صار بمنزلة الذى رآه فى حال قيامٍ وقُعودٍ، لأنه يَرَى نفسَه فى تلك الحال، فقال: عائذاً " بالله "، كأَنّه قال: أعوذ بالله عائذاً بالله، ولكنَّه حذف الفعل لأنَّه بدلٌ من قوله: أَعوذُ بالله، فصار هذا يَجرى ها هنا مجرى عِياذاً بالله. ومنهم من يقول: عائذٌ بالله من شرّ فلان.
وإذا ذكرتَ شيئاً من هذا الباب فالفعل متّصِلٌ فى حال ذكرِك وأنت تَعمل فى تثبيته لك أو لغيرك فى حال ذكرِك إيّاه، كما كنتَ فى باب حمداً وسَقياً وما أشبهه، إذا ذكرتَ شيئاً منه فى حال تزجيةٍ وإثباتٍ، وأَجريتَ عائذا " بالله " فى الإِضمارِ والبدل مجرى المصدر، كما كان هَنيئاً بمنزلة المصدر فيما ذكرتُ لك.
وقال الشاعر، وهو عبد الله بن الحارث السَّهمىُّ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1/341)


ألحق عذابك بالقوم الذي طَغَوْا ... وعائذَا بك أَنْ يَعْلُوا فيُطْغونِى
فكأَنه قال: وعياذاً بك.
ومثله قوله:
أراك جمعتَ مسألة وحرصاً ... وعند الحق زحاراً أنانا
كأنه قال: " تزحر " زحيراً و " تئن " أَنينا، " ثم وضعه مكان هذا، أى أنت عند الحقّ هكذا ".

(1/342)


هذا باب
ما جرى من الأسماء التى لم تؤخذ من الفعل
مجرى الأسماء التى أُخذت من الفعل
وذلك قولك: أَتمَيميًّا مرّة وقَيْسِيًّا أُخْرَى.
وإنَّما هذا أنَّك رأيتَ رجلاً في حال تلون وتنقل، فقلت: أتميماً مرّةً وقيسيًّا أُخْرَى، كأنك قلت: أتحول تميمياً مرة وقيسياً أخرى. فأنت فى هذه الحال تعمل في تثبين هذا له، وهو عندك فى تلك الحال في تلوم وتنقُّلٍ، وليس يَسأله مسترشِداً عن أمرٍ هو جاهلٌ به ليفهَّمَه إيّاه ويُخبِرَه عنه، ولكنه وبَّخه بذلك.
وحدّثنا بعضُ العرب، أنّ رجلاً من بنى أَسَدٍ قال يومَ جَبَلَةَ واستَقبله بَعِيرٌ أَعْوَرُ فتَطَيَّرَ " منه "، فقال: يا بنى أسد، أَعْوَرَ وذا نابٍ! فلْم يرد أن يَسترشدهم ليُخبِروه عن عَوَرِه وصحّته، ولكنه نَبَّهَهم، كأَنه قال: أَتَستقبلون أَعْوَرَ وذا ناب! فالاستقبالُ فى حال تنبيهه إيّاهم كان واقعاً، كما كان التلوُّنُ والتنقَّلُ عندك ثابتينِ فى الحال الأول، وأراد أن يثبت لهم الأعور ليحذوره.
ومثل ذلك قول الشاعر:

(1/343)


أَفى السَّلْمِ أَعْيَاراً جَفَاءً وغِلْظَةً ... وفى الحَرْبِ أَشباهَ الإِماءِ العَوارِكِ
أى تَنقَّلُون، وتَلوَّنُونَ مّرةً كذا ومرّةً كذا. وقال:
أَفى الوَلائِمِ أَولاداً لواحِدةٍ ... وفى الِعيادةِ أَولاداً لعَلاَّتِ
وأما قول الشاعر:
أَعبْداً حَلَّ فى شُعَبَى غَريباً

(1/344)


فيكون على وجهين: على النداء، على أنَّه رآه في حال افتخار وإجتراءٍ، فقال: أَعبداً، أى أَتَفْخَرُ عبدا، كما قال: أَتميميًّا " مرّةً ".
وإنَ أَخبرتَ فى هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضاً كما نصب فى حال الخبر الاسمَ الذى أُخذ من الفعل، وذلك قولك: تمَيميًّا قد عَلِمَ اللهُ مرة وقيسيًا أُخرى. فلم ترد أن تخبر القوم بأمر قد جهلوه، ولكنك أردت أن تشتمه بذلك، فصار بدلاً من اللفظ بقولك: أتتم مرّةً وتَتَقَيَّسُ أخرى، وأَتَمضون وقد استَقبلكم هذا، وتَنَقَّلُون وتَلَوَّنُون، فصار هذا كهذا، كما كان تُرْباً وجَنْدَلاً بدلاً من اللفظ بتَرِبتَ وجَنْدَلْتَ لو تُكُلَّمَ بِهما.
ولو مثَّلت ما نصبتَ عليه الأعيارَ والأعورَ فى البدل من اللفظ لقلت: أتعيرون مرة، وأتعورون إذا أوضحتَ معناه، لأنَّك إنما تُجريه مجرى ما له فِعْلٌ من لفظه، وقد يجرى مجرى الفعل ويَعمل عملَه، ولكنَّه كان أحسنَ أن توضَّحه بما يُتكلّم به إذا كان لا يغيَّر معنى الحديث. وكذلك هذا النحوُ ولكنه يُتْرَكُ استغناءً بما يَحسُن من الفعل الذى لا يَنقض المعنى.

(1/345)


وأما قوله جَلَّ وعزّ: " بلى قادرين "، فهو على الفعل الذى أُظهر، كأَنّه قال: بَلَى نَجمعُها قادرينَ. حدّثنا بذلك يونسُ.
وأما قوله، وهو الفرزدق:
على حَلْفةٍ لا أَشْتِمُ الدَّهْرَ مسلماً ... ولا خارجاً من في وزر كَلامِ
فإِنَّما أراد: ولا يَخرج فيما أَستقبلُ، كأَنّه قال: ولا يَخرج خُروجاً. ألا تراه ذكر " عاهدتُ " فى البيت الذى قبله فقال:
أَلمْ تَرَنِى عاهدتُ ربىَّ وإنَّنى ... لبَيْنَ رِتاجٍ قائماً ومَقامِ
ولو حمله على أنَّه نَفَى شيئاً هو فيه ولم يرد أن يَحمله على عاهدتُ جاز. وإلى هذا الوجه كانَ يَذْهَبُ عيسى فيما نُرَى، لأنَّه لم يكن يَحمله على عاهدتُ.
فإِذا قلتَ: ما أنت إلاّ قائمٌ وقاعدٌ، وأنت تَميمىٌّ مرّةً وقيسىٌّ أخرى، وإنّى عائذ بالله، ارتَفع. ولو قال: هو أَعْوَرُ وذو نابٍ، لَرَفَعَ. هذا كلُّه ليس فيه إلاَّ الرفعُ، لأنّه مبنىّ على الاسم الأوّل، والآخِرُ هو الأوّل فجرى عليه.

(1/346)


وزعم يونس أن من العرب من يقول: عائذ بالله، يريد: أنا عائذ بالله، كأَنه أمرٌ قد وقع، بمنزلة الحمدُ لله وما أِشبهه.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ رجلاً لو قال: أَتميمىٌّ، يريد: " أنتَ " ويُضمِرها لأَصاب.
وإنما كان النصبُ ها هنا الوجهَ لأنَّه موضع يكون الاسم فيه عاقباً للّفظِ بالفعل، فاختير فيه كما يختار فيما مضى من المصادر التى فى غير الأسماءِ. والرفُع جيّدٌ لأنَّه المحدَّثُ عنه والمستفهَمُ. ولو قال: أَعوَرُ وذو نابٍ، كان مصيبا.
وزعم يونس أنّهم يقولون: عائذٌ بالله. فإِن أَظهر هذا المضمرَ لم يكن إلاّ الرفعُ، إذ جاز الرفعُ وأنت تُضْمِرُ، وجاز لك أن تحمل عليه المصدَر، وهو غيرُه، فى قوله: أنت سر سَيْرٌ فلم يجز حيث أَظْهَرَ الاسم عندهم إلا الرفع، كما أنّه لو أَظْهَرَ الفعلَ الذى هو بدلٌ منه لم يكن إلاّ نصباً.

(1/347)


فكما لم يجزْ فى الإِضمار أن تُضْمِرَ بعد الرفع ناصباً كذلك لم تضمر بعد الإِظهار، وصار المبتدأُ والفعلُ يَعمل كلُّ واحد منهما على " حِدةٍ فى هذا الباب، لا يدخل واحد على " صاحبه.

باب ما يجيء من المصادر مُثَنًّى منتصِبا
على إضمارِ الفعل المتروكِ إظهارُه وذلك قولك: حَنانَيْكَ، كأَنه قال: تحنُّنًا بعد تحنّنِ، " كأَنّه يَسترحمه ليَرحمه "، ولكنَّهم حذفوا الفعل لأنَّه صار بدلاً منه.
ولا يكونُ هذا مثنًّى إلاّ فى حالِ إضافةٍ، كما لم يَكن سُبْحانَ اللهِ ومَعاذَ اللهِ إلا مضافاً. فحنانيك لا يتصرف، كما لا يَتصرّفْ سُبحانَ الله وما أِشبه ذلك. قال الشاعر، وهو طَرَفة بن العبد:
أَبا مُنْذرٍ أَفْنَيْتَ فأسْتْبَقِ بَعْضَنا ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشرَّ أَهْوَنُ من بَعْضِ
وزعم الخليل رحمه الله أنّ معنى التثنية أنّه أراد تحنُّنا بعد تحنّنٍ، كأنه قال:

(1/348)


كلّما كنتُ فى رحمةٍ وخيرٍ منك فلا يَنْقَطِعَنَّ وَليَكُنْ موصولا بآخرَ من رحمتك.
ومثلُ ذلك: لَبَّيْك وسَعْدَيْك، وسمعنا من العرب من يقول: سبحانَ اللهِ وحَنانَيْهِ، كأَنّه قال: سبحانَ اللهِ واسترحاماً، كما قال: سبحانَ اللهِ ورَيْحانَه، يريد: واسترزاقَه.
وأمّا قولك: لَبَّيْك وسَعْدَيْك فانتَصب " هذا " كما انتَصب سبحانَ اللهِ، وهو أيضاً بمنزلة قولك إذا أخبرتَ: سَمْعاً وطاعةً. إلاَّ أنّ لَبَّيْك لا يتصرّف، كما أنَّ سبحانَ اللهِ وعَمْرَك الله وقِعْدَك الله لا يتصرّف.
ومن العرب من يقول: سَمْعٌ وطاعةٌ، أى أَمْرى سَمْعٌ وطاعةٌ، بمنزلة:
فقالت حَنانٌ ما أتى بك هاهنا
وكما قال: سَلامٌ.
والذى يَرتفع عليه حَنانٌ وسمع وطاعة غيرُ مستعمَل، كما أنّ الذى يَنتصب عليه لَبَّيْك وسبحانَ اللهِ غير مستعمَل.
وإذا قال: سَمْعاً وطاعةً فهو فى تزجيِة السَّمعِ والطاعةِ، كما قال: حَمْداً وشُكْراً، على هذا التفسير.
ومثل ذلك: حَذارَيْكَ، كأَنَّه قال: لِيكنْ منك حَذَرٌ بعد حَذَرٍ، كما

(1/349)


أنَّه أراد بقوله لَبَّيْك وسَعْدَيْك: إِجابةً بعد إجابةٍ، كأنّه قال: كلَّما أَجبتُك فى أمرٍ فأنا فى " الأمر " الآخَر مجيبٌ، وكأَنّ هذه التثنية أشد توكيداً.
ومثله إذا أنَّه قد يكون حالاً وقع عليه الفعلُ، قول الشاعر، وهو عبدُ بنى الحَسْحاسِ:
إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى ليس للبُرْدِ لابِسُ
أى مداوَلَتك، ومداوَلةً " لك ". وإن شاء كان حالاً. ومثله أيضاً:
ضَرْباً هذاذيك وطعناً وخضاً

(1/350)


ومعنى " تثنية " دَوالَيْكَ أَنَّه فِعْلٌ من اثنينِ، لأنّى إذا داولتُ فمن كلَّ واحدٍ منَّا فعل. وكذلك هذاذيك، كأنه يقلو: هذًّا بعد هذٍّ من كلَّ وجهٍ. وإن شاء حَمَلَه على أنّ الفعلَ وَقَعَ هذًّا بعد هذا، " فَنَصَبَه " على الحال.
وزعم يونس أنّ لَبَّيْك اسمٌ واحدٌ ولكنَّه جاء على " هذا " اللفظ فى الإِضافة، كقولك: عَلَيْكَ.
وزعم الخليل أنَّها تثنيةٌ بمنزلة حَوالَيْكَ، لأنَّا سمعناهم يقولون: حَنانٌ. وبعضُ العرب يقول: " لَبَّ " فيُجريه مُجرى أَمْسِ وغاقِ، ولكنّ موضعَه نصبٌ. وحَوالَيْكَ بمنزلة حَناَنَيْكَ.
ولستَ تحتاج فى هذا الباب إلى أن تُفْرِدَ، لأنَّك إذا أَظهرت الاسمَ تَبَيَّن أنه ليس بمنزلة عَلَيْكَ وإِلَيْكَ؛ لأنك " لا " تقول: لَبَّى زيدٍ وسَعْدَى زيدٍ.
وقد قالوا: حَوالَكَ " فأَفردوا "، كما قالوا: حَنانٌ. قال الراجز:
أَهَدَمُوا بيتك لا أبا لكا ... وحسبوا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدألى حوالكا

(1/351)


وقال:
دَعَوْتُ لِما نابَنْى مِسْوَراً ... فَلَبَّى فَلبَّىْ يَدَىْ مِسْوَرِ
فلو كان بمنزلة عَلَى لقال: فَلَبَّى يَدَىْ مسور، لأنّك تقول: عَلَى زيدٍ، وإذا أظهرت الاسم.

باب ذكر معنى لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ وما اشتُقّا منه
وإنما ذُكر ليبيَّن لك وجهُ نصبِه، كما ذُكر معنى سُبْحانَ الله.

(1/352)


حدّثنا أبو الخَطّاب أنّه يقال للرجل المداوِمِ على الشيء لا يفارِقه ولا يُقلِعُ عنه: قد أَلَبَّ فلانٌ على كذا وكذا. ويقال: قد أَسْعَدَ فلانٌ فلاناً على أمره وساعَدَه، فالإِلبابُ والمساعَدةُ دنو ومتابعة: إذا ألب على الشيء فهو لا يفارِقُه، وإذا أَسعده فقد تابَعَه. فكأَنّه إذا قال الرجلُ للرجل: يا فلانُ، فقال: لَبَّيك وسَعْدَيْك، فقد قال له: قُرْباً منك ومتابعة لك. فهذا تمثيل وإن كان لا يُستعمل فى الكلام، كما كان بَراءةَ الله تمثيلاً لسبحانَ اللهِ ولم يُستعمل.
وكذلك إذا قال: لَبَّيْك وسَعْدَيْك، يعنى بذلك الله عزّ وجلّ، فكأَنّه قال: أَىْ رب لا أنأى عنك في شيء تأمُرنى به. فإِذا فعَل ذلك فقد تقَرَّب إلى الله بَهواه.
وأمَّا قوله: وسَعْدَيْك فكأَنّه يقول: أنا متابعٌ أمرَك وأوْلياءَك، غيرُ مُخالِفٍ. فإِذا فعل ذلك فقد تابَعَ وطاوع وأطاع.
وإنّما حملَنا على تفسير لَبَّيْك وسَعْدَيْك لنوضِحَ به وجه نصبِهما؛ لأنَّهما ليسا بمنزلة سَقياً وحَمْداً وما أِشبه هذا. ألا ترى أنك تقول للسائل عن تفسير سَقيًا وحَمْداً: إنَّما هو سَقاك اللهُ سَقْيًا وأَحمدُ الله حَمْداً، وتقول: حَمْداً بدلٌ من أَحمدُ الله، وسَقيًا بدلٌ من سَقاك اللهُ. ولا تقدر أن تقولَ: أُلِبُّك لَبًّا وأُسْعِدك سَعْداً، ولا تقولُ: سَعْداً بدلٌ من أُسعِد، ولا لَبًّا بدلٌ من أُلِبُّ. فلمّا لم يَكُنْ ذاك فيه التمس له شيء من غير لفظه معناه كبراءةَ اللهِ، حين ذكرناها لنبيَّن معنى سُبْحانَ اللهِ. فالتَمستُ " ذلك " لَلبَّيْك وسَعْدَيْك واللفظ الذى أشتُقّا منه، إذ لم يكونا فيه بمنزلة الحَمْدِ والسَّقْى فى فعِلهما، ولا يَتصرَّفان تصرُّفَهما.

(1/353)


فمعناهما القربُ والمتابَعة، فمثّلتُ بهما النصبَ فى لبَّيك وسَعْدَيك، كما مثَّلتُ ببراءةَ النصبَ فى سُبْحانَ الله.
ومثل ذلك تمثيلُك: أُفَّةً وتُفَّةً، إذا سُئِلتَ عنهما، بقولك: أنتنًا لأنّ معناهما وحدَّهما واحد، مثلَ تمثيلك بَهْراً بتَبًّا، ودَفْراً بنتناً.
وأما قولهم: سبح ولبى وأفف، فإنهما أراد أن يُخبِرك أنَّه قد لَفظَ بسُبْحانَ اللهِ وبَلبَّيْك وبأُفَّ، فصار هذا بمنزلة قوله: قد دَعْدَعَ وقد بَأْبَأَ، إّذا سمعتَه يَلفظ بدَعْ وبقوله: بأَبِى. ويدلّك على ذلك قولهم: هَلَّلَ، إذا قال: لا إلهَ إلاّ اللهُ.
وإنَّما ذكرتُ هَلَّلَ وما أِشبهها لتقول قد لُفِظَ بهذا. ولو كان هذا بمنزلة كلّمتُه من الكلام، لكان سُبحانَ " اللهِ " ولَبَّ وسَعْدَ مصادرَ مستعمَلةً متصرَّفةً فى الجر والرَّفع والنصب والألف واللامِ، ولكن سَبَّحْتُ وَلبَّيْتُ، بمنزلة هَلَّلْتُ ودَعْدَعْتُ، إذا قال: دَعْ، ولا إله إلاّ الله.

(1/354)


باب ما يَنتصب فيه المصدرُ المشبَّهُ به
على إضمار الفعل المتروك إظهاره وذلك قولك: مررتُ به فإِذا له صَوْتٌ صَوْتَ حِمار، ومررتُ به فإِذا له صُراخٌ صُراخَ الثَّكْلَى.
" و " قال الشاعر، وهو النابغة الذُّبْيانّى:
مَقْذوفةٍ بدَخيسِ النَّحْضِ بازِلُها ... له صَريفٌ صَريفَ القَعْو بالمَسَدِ
وقال:
لها بَعْدَ إسنْادِ الكَليمِ وهَدْئِه ... ورَنَّةِ مَنْ يبكَى إذا كان باكِيَا
هَديرٌ هَديرَ الثَّورِ يَنفض رأسَه ... يَذُبُّ برَوْقَيه الكِلابَ الضَّواريَا

(1/355)


فإنَّما انتَصب هذا لأنَّك مررتَ به فى حال تصويتٍ، ولم ترد أن تَجعل الآخِرَ صفةً للأوّل ولا بدلاً منه. ولكنَّك لمَّا قلتَ: له صوتٌ، عُلم أنه قد كان ثَمَّ عَمَلٌ، فصار قولُك: له صوتٌ بمنزلة قولك: فإِذا هو يصوَّتُ، فحملتَ الثانَى على المعنى.
وهذا شبيهٌ فى النصب لا فى المعنى بقوله تبارك وتعالى: " وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً "، لأنّه حين قال: " جاعلُ الليلِ "، فقد عَلِمَ القارئُ أنّه على معنى جَعَلَ، " فصار كأَنه قال: وَجَعَلَ اللّيلَ سَكَنًا "، وحَمَلَ الثانىَ على المعنى. فكذلك " له " صوتٌ، فكأَنّه قال: فإِذا هو يصوَّتُ، " فَحَمَلَه على المعنى فنَصَبَهُ، كأَنّه توهَّم بعد قوله له صوتٌ: يُصوَّتُ " صوتَ الحمار أو يُبْديه، أو يُخْرِجُه صوتَ حمار، ولكنّه حذف هذا لأنه صار " له صوتٌ " بدلاً منه.
فإِذا قلت: مررتُ به " فإِذا هو " يصوَّتُ صوتَ الحمار فعلى الفعل غير حال. فإِن قلت: صوتَ حمارٍ " فألقيتَ الألفَ واللامَ " فعلى إضمارك فعلاً بعد الفعل المظهَر سوى الفعل المظهر، وتَجعل صوتَ حِمارٍ مثالاً عليه يُخرج الصوتُ أو حالاً، كما أردتَ ذلك حين قلتَ: فإِذا له صوتٌ. وإن شئتَ

(1/356)


أوصلتَ إليه يصوّت، فجعلته العامَل فيه، كقولك: يَذهب ذَهابا.
ومثل ذلك: مررتُ به فإِذا له دَفْعٌ دَفعَك الضعيفَ. ومثل ذلك أيضاً: مررتُ به فإذا له دَقٌ دَقَّك بالمِنحازِ حبَّ الفُلْفُلِ.
ويدّلك " على أنّك " إذا قلت: " فإِذا " له صوتٌ صوتَ حَمارٍ، فقد أَضمرت فعلاً بعد " له صوتٌ "، وصوتَ حمارٍ انتَصب على أنه مثالٌ أو حالٌ يَخرج عليه الفعلُ أنّك إذا أَظهرتَ الفعلَ الذى لا يكون المصدرُ بدلا منه احتجتَ إلى فعلٍ آخَرَ تُضمِره. فمن ذلك قول الشاعر:
إذا رأتني سقط أَبْصَارُهَا ... دَأْبَ بِكارٍ شايَحتْ بِكارُهَا

(1/357)


ويكون على غير الحال، " وإن شئت بفعل مضمرٍ، كأَنّك قلت: تَدْأَبُ، فيكونُ أيضاً مفعولاً وحالاً، كما يكون غير حال ".
فما لا يكون حالا ويكون على الفعل، قولُ الشاعر، وهو رؤبة:
لَوَّحَها من بَعْدِ بُدْنٍ وسَنَقْ ... تَضميرَك السابقَ يُطْوَى للسَّبَقْ
" وإن شئت كان على: أَضمرها، وإن شئت كان على: لَوَّحَها؛ لأنّ تلويحه تضمير ".

(1/358)


ومثله قوله، وهو العجّاج:
ناجٍ طَواهُ الأَيْنُ مما وجفا ... طي اللَّيالى زُلَفاً فزُلَفَا
سَماوةَ الهِلالِ حتى احقَوْقَفَا
وقد يجوز أن تُضمِر فعِلاً آخَر كما أَضمرتَ بعد " له صوتٌ "، يدلُّك على ذلك أنَّك لو أَظهرتَ فعلاً لا يجوز أن يكون المصدرُ مفعولاً عليه صار بمنزلة: له صوتٌ، وذلك قولُه، وهو أبو كَبيرٍ الهذلى:
ما إنْ يَمَسُّ الأرضَ إلاّ مَنْكِبٌ ... منه وحرف الساق، طي المحمل

(1/359)


صار " ما إنْ يَمَسُّ الأرضَ " بمنزلة له طَىٌّ، لأنَّه إذا ذَكر ذا عُرف أنه طَيّانُ.
وقد يَدخل فى صوتَ حمار: إنَّما أنت شُرْبَ الإِبِلِ " إذا " مُثّل " بقوله ": إنَّما أنت شُرْباً. فما كان معرفةً كان مفعولا ولم يكن حالا، وشركته النكرة. وإن شئتَ جعلتَه حالاً عليه وقع الأمر، وهو تشبيهه للأوّل، يدلُّك على ذلك أنَّك لو أَدخلتَ " مِثْلَ " ههنا كان حسنا وكان نصباً، فإِذا أَخرجتَ " مِثْلَ " قام المصدرُ النكرةُ مقامَ مِثْلٍ، لأنه مِثْله نكرةٌ، فدخولُ مِثْلٍ يَدُّلك على أنه تشبيه. فإِذا قلتَ: فإِذا هو يصوتُ صَوْتَ حِمارٍ، فإِنْ شئت نصبتَ على أنَّه مثالٌ وقع عليه الصوتُ، وإن شئت نصبتَ على ما فسَّرنا وكان غير حال، وكأَنَّ هذا جوابٌ لقوله: على أَىّ حالٍ وكيفَ ومِثلُه. وكأَنَّه قيل له: كيف وقع الأمرُ، أو جعل المخاطَبَ بمنزلة مَن قال ذلك، فأراد أن يبيَّن كيف وقع الأمرُ وعلى أىّ مثالٍ، فانتصَب وهو مَوْقُوعٌ فيه وعليه، وعَمل فيه ما قبله وهو الفعلُ.
وإذا كان معرفةً لم يكن حالاً وكان على فعلٍ مظهَرٍ إنْ جاز أن يَعمل فيه، أو على مضمَرٍ إنْ لم يجز المظهَرُ، كما يَنتصب " طَىَّ المِحْمَلِ " على غيرِ " يِمَسُّ ".

(1/360)


وإنْ شئت قلت: له صَوْتٌ صوتُ حِمارٍ، وله صوتٌ خُوارُ ثَوْرٍ، وذلك إذا جعلته صفةً للصوت ولم ترد فعلاً ولا إضماره.
وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة لنكرة كما لا يكون حالا. وسترى هذا مبيناً فى بابه إن شاء الله.
وزعم الخليل أنه يجز له صوتٌ صوتُ الحمار على الصفة لأنّه تشبيه، فمن ثم جاز أن توصف النكرة به.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن يقول الرجلُ: هذا رَجُلٌ أخو زيدٍ، إذا أردتَ أن تشبَّهه بأخى زيد. وهذا قبيح ضعيف لا يجوز إلاّ فى موضع الاضطرار، ولو جاز هذا لقلتَ: هذا قصيرٌ الطويلُ، تريد: مثلُ الطويلِ. فلم يجز هذا كما قبح أن تكون " المعرفة " حالاً للنكرة إلاّ فى الشعر. وهو فى الصَّفة أقبحُ، لأنك تَنقض ما تَكلّمتَ به، فلم يُجامِعه فى الحال، كما فارَقَه فى الصفة. وسيبَّين لك فى بابه إن شاء الله تعالى.

هذا باب يختار فيه الرفع
وذلك قولك: له عِلْمٌ عِلْمُ الفُقَهاءِ، وله رَأَىٌ رأىُ الأُصَلاءِ. وإنَّما كان الرفعُ فى هذا الوجهَ لأنَّ هذه خِصالٌ تَذكرها فى الرجل، كالحلم والعلم والفضل، ولم ترد أن تُخبِر بأنك مررت برجل فى حال تعلُّمٍ ولا تفهُّمٍ، ولكنّك

(1/361)


أردت أن تَذكر الرجل بفضلٍ فيه، وأَنْ تَجعل ذلك خَصلةً قد استَكملها، كقولك: له حَسَبٌ حَسَبُ الصالحينَ؛ لأَنَّ هذه الأشياءَ وما يُشْبِهها صارت تَحليةً عند الناس وعلاماتٍ. وعلى هذا الوجهِ رُفع الصوتُ.
وإن شئت نصبتَ فقلت: له عِلْمٌ علمَ الفقهاءِ، كأَنَّك مررت به فى حال تعلُّمٍ وتفقُّهِ، وكأَنّه لم يَستكمل أن يقال: له عالِمٌ.
وإنما فُرق بين هذا وبين الصَّوت لأنّ الصوت عِلاجٌ، وأنّ العِلْم صار عندهم بمنزلة اليَدِ والرَّجلِ. ويدلُّك على ذلك قولهم: له شَرَفٌ، وله ديِنٌ، وله فَهَمٌ. ولو أرادوا أنّه يُدْخِلُ نفسَه فى الدَّينِ ولم يَستكمل أن يقال: له دِينٌ، لقالوا: يَتديَّنُ وليس بذلك، ويَتشرَّفُ وليس له شَرَفٌ، ويَتفهَّمُ وليس له فَهَمٌ. فلمّا كان هذا اللفظُ للّذين لم يَستكملوا ما كان غيَر علاجٍ، بَعُدَ النصبُ فى قولهم: له عِلْمٌ علمُ الفقهاءِ.
وإذا قال: له صوتٌ صوتَ حمارٍ، فإِنَّما أَخبر أنَّه مرّ به وهو يصوَّت صوتَ حمارٍ.
وإذا قال: له علمٌ علمُ الفقهاءِ، فهو يُخبِر عمَّا قد استقرّ فيه قبل رؤيته وقبل سَمْعِه منه، أو رَآه يَتعلَّم فاستدَلّ بحُسْن تعلُّمهِ على ما عنده من العلم، ولم يردْ أن يُخبِر أَنَّه إنما بدأَ فى عِلاج العلم في حال ليقه إيّاه، لأنَّ هذا ليس مما يُثْنَى به، وإنَّما الثناءَ فى هذا الموضع أن يُخبِر بما استَقرّ فيه، ولا يُخبِر أنّ أَمْثَلَ شيء كان منه التعلُّمُ فى حال لقائِه.

(1/362)


هذا باب
ما يختار فيه الرفعُ إذا ذكرتَ المصدرَ
الذى يكون علاجا وذلك إذا كان الآخِرُ هو الأوّل.
وذلك نحو قولك: له صوتٌ صوتٌ حَسَنٌ؛ لأنّك إنما أردت الوصف، كأَنّك قلت: له صوتٌ حسن، وإنَّما ذكرتَ الصَّوت توكيداً ولم تُردْ أنْ تَحمله على الفعل، لمّا كان صفةً، وكان الآخرُ هو الأوّلَ، كما قلتَ: ما أنتَ إلاَّ قائمٌ وقاعدٌ، حملتَ الآخِرَ على أنتَ لمّا كان الآخِرُ هو الأوّلَ.
ومثل ذلك: له صوتٌ أَيُّمَا صوتٍ، وله صوتٌ مِثلُ صوتِ الحمارِ لأنّ أيًّا والمِثلَ صفةً أبدا. وإذا قُلتَ: أيُّما صوتٍ، فكأَنّك قلت: له صوتٌ حَسَنٌ جدّا، وهذا صَوتٌ شبيهٌ بذلك. فأَىٌّ ومِثْلٌ هما الأولُ.
فالرفعُ فى هذا أحسنُ، لأنَّك ذكرت اسماً يَحسن أن يكون هذا الكلامُ منه يحمل عليه، كقولك: هذا رجلٌ مِثْلُك، وهذا رجلٌ حَسَنٌ، وهذا رجلٌ أَيُّما رجلٍ.
وأمّا: له صوتٌ صوتُ حمارٍ، فقد علمت أن صوت حمار ليس بالصوت الأول، وإنما " جاز " رفعه على سَعة الكلام، كما جاز لك أن تقول: ما أنت إلاّ سَيْرٌ.

(1/363)


فكأَنَّ الّذين يقولون: صوتَ حمارٍ اختاروا هذا، كما اختاروا: ما أنت إلاَّ سيراً، إذْ لم يكن الآخر هو الأول، فحملوه على فِعلِه كراهةَ أن يَجعلوه من الاسم الذى ليس به، كما كرهوا أن يقولوا: ما أنت إلاّ سَيْرٌ إذا لم يكن الآخِرُ هو الأوّلَ. فحملوه على فعله، فصار له صوتٌ صوتَ حمارٍ يَنتصب على فعلٍ مضمَرٍ كانتصاب " تَضميرَك السَّابقَ " على الفعل المضمَر.
وإنْ قلت: له صوتٌ أَيَّما صوتٍ، أو مِثْلَ صوتِ الحمار، أو له صوتٌ صوتاً حَسَنًا، جاز. زعم ذلك الخليلُ رحمه الله. ويقوَّى ذلك أنّ يونس وعيسى جميعاً زعما أنَّ رؤبةَ كان يُنشِد هذا البيت نصباً:
فيها ازْدِهافٌ أَيَّما ازدِهافِ
يحمله على الفعل الذى يَنصب صوتَ حمار، لأنَّ ذلك الفعلَ لو ظَهَرَ نَصَبَ ما كان صفةً وما كان غيرَ صفة، لأنَّه ليس باسمٍ تُحْمَلُ عليه الصفاتُ. ألاَ ترى أنَّه لو قال: مِثلَ تضميرِك، أو مِثْلَ دأْبِ بِكارٍ، نَصَبَ. فلمَّا أَضمروه فيما يكون غيرَ الأوَّل أَضمروه أيضاً فيما يكون هو الأوّل، كأَنّه قال: تَزْدهف أَيَّما ازدهافٍ، ولكنَّه حذفه، لأنَّ له ازدهافٌ قد صار بدلاً من الفعل.

(1/364)


هذا باب ما الرفع فيه الوجه
وذلك قولك؛: هذا صَوْتٌ صوتُ حمارٍ، لأنَّك لم تَذكر فاعِلا، ولأنّ الآخِرَ هو الأوّلُ حيث قلت: " هذا ". فالصوت هذا، ثمّ قلت: هو صوتُ حمارٍ، لأنّك سمعت نُهاقاً. فلا شَكَّ فى رفعِه. وإن شبَّهتَ أيضاً فهو رفعٌ لأنّك لم تَذكر فاعِلا يَفعله، وإنَّما ابتدأتَه كما تبتدئ الأسماء، فقلتَ: هذا، ثم بنيتَ عليه شيئاً هو هو، فصار كقوله: هذا رَجُلٌ رَجُلٌ حَرْبٍ.
وإذا قلتَ: له صوتٌ، فالذى فى اللام هو الفاعِلُ وليس الآخِرُ به، فلمّا بنيتَ أوّلَ الكلام كبناء الأسماِء كان آخِرُه أَنْ يُجْعَلَ كالأسماءِ أحسنَ وأجودَ، فصار كقولك: هذا رَأْسُ رأس حِمارٍ، وهذا رَجُلٌ أَخو حَرْبٍ، إذا أردتَ الشَّبهَ.
ومن ذلك: عليه نَوْحٌ نَوْحُ الحَمامِ، على غير صفة، لأنّ الهاءَ التى فى علْيِه ليست بفاعل، كما أنَّك إذا قلت: فيها رَجُلٌ، فالهاءُ ليست بفاعل فَعَلَ بالرَّجُلِ شيئاً، فلمَّا جاء على مثال الأسماءِ كان الرفعُ الوجهَ.

(1/365)


وإن قلت: لهنَّ نَوْحٌ نَوْحَ الحَمامِ، فالنصبُ لأن الهاءَ هى الفاعلُة. يدلّك على " ذلك " أنّ الرفَعَ فى هذا وفى عليه أحسنُ، لأنَّك إذا قلت: هذا أو عليه، فأنتَ لا تريد أن تقول مررتُ بهذه الأسماء تَفعل فِعلاً، ولكنك جعلت " عليه " موضعا للنَّوْح و " هذا " مبنى عليه نفسِه. ولو نصبتَ كَان وجهاً؛ لأنَّه إذا قال: هذا صوتٌ أو هذا نَوْحٌ أو عليه نوحٌ، فقد عُلم أنّ مع النَّوح والصوتِ فاعلْينِ، فحمله على المعنى، كما قال:
ليُبْكَ يَزيدُ ضارعٌ لخُصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ ممّا تُطِيحُ الطَّوائحُ

هذا باب لا يكون فيه إلا الرفع
وذلك قولك: له يدُ الثورِ، وله رأْسٌ رأسُ الحمارِ؛ لأنَّ هذا اسم ولا يتوهم على الرَّجُلِ أنّه يَصنع يداً ولا رِجْلاً، وليس بِفعل.
هذا بابٌ لا يكون فيه إلاّ الرفعُ
وذلك قولك: صَوْتُه صوتُ حمارٍ، وتلويحُه تضميرُك السابقَ، وَوَجْدى بها وَجْدُ الثَّكْلَى؛ لأنَّ هذا ابتداءٌ، فالذى يُبْنَى على الابتداءِ بمنزلة الابتداءِ. ألا ترى أنَّك تقول: زيدٌ أخوك، فارتفاعُه كارتفاع زيد أبدا، فلمَّا ابتدأَه وكان محتاجاً إلى ما بعده لم يُجْعَلْ بدلاً من اللفظ بيُصَوَّتُ، وصار كالأسماء. قال الشاعر " وهو مزاحِمٌ العُقيلىّ ":

(1/366)


وَجْدِى بها وَجْدُ المضِلَّ بَعيرَه ... بنَخْلَةَ لم تَعْطِفْ عليه العَواطِفُ
وكذلك لو قلت: مررتُ به فصوتُه صوتُ حمارٍ. فإِن قال: فإِذا صوتُه، يريد الوجَه الذى يُسكَتُ عليه، دخله نصبٌ، لأنّه يُضْمِرُ بعدُ ما يَستغنى عنه.